image_print

ما لا يسعك جهله في الإسلام!

مرت أيام دوحة شهر رمضان الفضيل، وسلسل الله -تهوينًا علينا- أعداءنا من الشياطين، وانبثقت من قلوبنا الصدئة أحاسيسُ كنّا قد نسَيناها، وفُتحت على ألبابنا رحماتٌ طالما تمنّيناها، واصطفّ واحدنا قبالة نفسه أعزلَ إلّا ممّا كان قد اكتنزه من سلاح التقوى في أمس الذاهب.

قرعت فكرة كتابة هذا المقال القصير عما لا يسع الإنسان المسلم جهلة في الإسلام رتاج ذهني، وأعجبني قرعها لِما ألفيتها تفيض به من فائدةٍ قد تُعين المُستعين، وتُوطّئ للمسترشد فهم ما لا يسعه جهله عن غرض وجوده الذي يقدّمه هذا الدين، والله يهيّئ لنا من أمرنا رشدًا، ويمدّنا بجنود التوفيق والتمكين، اللهمّ آمين.

دينك دينك.. أدرك مقصده عظيم!

أمّا وقد صرنا إلى هذا الزمن المتعرّي أوّله أمام ألحاظ آخره، وانبثّ فيه كلّ كاتبٍ يريد ابتكار فكرٍ جديدٍ، أو برهنةَ قديمٍ وتقديمه للناس على أنّه صائبٌ مُفيد، وزخرت بكتب الجهّال المكتبات، وامتلأت المواقع بكلام الخطل والافتراءات، وسيقت نظريّات الغربيّين إلى بلداننا، تارةً بكلام المستشرقين معروفي الغاية، ومرّةً بلسان عربٍ مستغرقين في الغواية؛ فلقد وجدتُ أنّ عددًا من الشبّان المُسلمين، والشابات المسلمات لا يعرفون مقصد دينهم، ولا يُدركون بسيط روايته، وما هي حبكةُ قصّته، وأساسه، وركنه الذي عليه يدلّ، وإيّاهُ يُبيّنُ بين دفتيّ القرآن العظيم.

الإله الواحد

يُخبرنا الله تعالى بالكلام العربيّ المُبين الكاشف الذي لا يستبهم على القارئ؛ أنّهُ واحدٌ فردٌ صمدٌ ليس له كفءٌ ولا نظيرٌ ولا نِدٌّ، فيقول في سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصمَدُ * لَمْ يَلِدْ * وَلَمْ يولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-6]؛ ليُبطلَ به دعاوى المُحرّفينَ الذينَ ادَّعَوا لهُ ولدًا، وغيرهم ممّن زعمَ وجودَ عديدِ آلهةٍ، وليعلّم من لم يكن يعلم، ولمّا ينزلق في مزالق هذه الدعاوي المُهلكةِ حقيقةَ الفردانيّة، وصراحةَ الوحدانيّة.

أعلمُ أنّ هذا لا يعزب عن قلب مسلمٍ ولا مسلمةٍ، ولكنّهُ ممّا لا بدّ أن نستهلّ به الكلام، ما دُمنا قد أزمعنا تبيين ما لا يسعُ جهله عن الإسلام.

الإنسان والشيطان

أمّا أنا وأنتَ وهيَ، فبشرٌ من مادّةٍ هي البدن، وروحٍ مغيّبةِ الكُنهِ لحكمةِ حكيمٍ خالقٍ، نخرجُ إلى النورِ من أرحامٍ حانيةٍ، ونكبرُ في الجسم والفهم مع تطاول الأيّام، وتساوق السنوات. وإنّ لنا في الأرض غريمًا يرانا ولا نراه، ينشد إضلالنا، وهدفه أن نلقى في السعير المتضرّم عذابنا، وهو الشيطان الرجيم.

وأمّا هذا الشيطان فلقد كان عابدًا زاهدًا كما رُوِينا، ثمّ خلق الله آدم، وهو غرّة نوعِنا، ثمّ علّمه الأسماء كلّها فحاز بها مجدًا من الله ورفعةً في الجنان، وإذ أمر الله الملائكة بالسجود لخلقه الجديد، كان إبليس حاضرًا فأبى الطاعة استكبارًا واستعلاءً على أمر الله؛ لظنّه أنّهُ خيرٌ من هذا المخلوق الذي هو أبونا آدم، عليه السلام. فما كان جزاؤه إلّا اللعنُ والطردُ من ملكوتِ السماء، إلى أرضٍ هي كلّها شقاءٌ. وقبل أن يُنزل إليها سارع لتضليل أبينا آدم، وأمّنا حوّاء بأن أزلّهما عن الطاعة، وأوقعهما في المعصية.

يقول تعالى في سورة البقرة: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ} [البقرة: 24].

فإذا كنتُ قد عرفتَ حقيقة أصلك، ثمّ أدركتَ مبتغى الشيطان منك، وتيقّنت -لقول الله في القرآن- من صريح العداوة؛ فلا بدّ أن تعاديَ عدوّك، وتبحث عن سبيل انتصارك عليه، وهذا يجري فيّ وفيك مجرى الطبع والغريزة، وعليهما فطرنا الله جلّ جلاله. فكيف يكون انتصارنا عليه؟

العبادة

إنّ من حظّي وحظّك السعيدَين أنّنا خُلقنا على يد ربٍّ رحيمٍ، لا يخيب فيه الأمل، ولا يضيع به الرجاء، إذا سألته أجابك، وإذا أطعته أثابك. وقد خطّ الله لي ولكَ خطّةً واضحةً أسماها في كتابه الحكيم “الصراط المستقيم”، وهو الدرب الذي ارتضاه للناس أن يأتوه منه، وهذه اغرسها في قلبك غرسًا مُحكمًا؛ كي لا تجد نفسك مضلّلًا عن دربه، شاطًّا عن طريقه، إثر دعوات بعض الجُهّال والمُغرضين، المُدّعين بأنّ الدروب إلى الله كثيرة، وأنّ كلّ هذه الدروب نهايتها البلوغ. ويقول سبحانه في سورة يس: {وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 61].

فإنّ العبادة أمرٌ من الله العظيم، وسبيلٌ لبلوغ مرضاته، وسلوك صراطه، والفوز بجنانه، ومجانبة عذابه، وفي التزامها الثواب العظيم، وفي تركها الإثم المُهلك؛ وهذه أخرى تُبطل ما يحاول البعض ترويجه إفكًا أنّ الصلاة ليست واجبةً، والحجاب ليس ضرورةً، فقالوا زورًا: “الإيمان في القلب”، فمن كان على رشدٍ فهم أنّ كلامَ الله شيءٌ، وكلامَ الناس شيءٌ دونه؛ إذ هم دونه وبعضٌ من خلقه. وفي العبادة تفصيلٌ طويلٌ ليس هذا مقامه، ولكن أُحيلك إلى كتاب شيخنا (عليّ الطنطاويّ) رحمه الله، واسمه: “تعريفٌ عامٌّ بدين الإسلام”؛ فيه بيّن العبادات بحُلّةٍ بهيّةٍ مفهومةٍ، وعرضها بإيجازٍ لا ينقص من مضمونها.

الرسل والأنبياء

ولأنّه أراد للناسِ الهدايةَ، ودعاهم إلى حياضها الآمنة؛ فقد أرسل في كلّ أمّةٍ رسولًا من بني آدم، يختاره ويصطفيه وفق حكمته وعلمه، وهو العليم الحكيم. ولقد اختتم هذه السلسلة الشريفة من الرسل والأنبياء بمحمّدٍ -صلّى الله عليه وسلّم-، وجعله ناسخًا لما جاء به من كان قبله، من الرسل القيّمين، والأنبياء المُباركين. ويقول -سبحانه- في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ} [النساء: 170]  فصار علينا لزامًا واجبًا، إن كنّا نعقلُ، ونبتغي الرشادَ أن نتّبع هذا الرسول، ولا سبيل لاتّباعه إلّا بمعرفة خبره، وإماطة اللثام عن معروف سيرته، ولسعادتنا فقد انبرى لهذا العمل العظيم الكثير من العلماء والأدباء، فسيرته -صلّى الله عليه وسلّم- تملؤ الأنحاء والأرجاء، فعليكَ بها فهمًا وإدراكًا، وبه اتّباعًا واقتداءً؛ لأنّك سمعت واضح أمر الله بالإيمان به، والسير في سبيله وطريقه.

الابتلاء

كم من مرّةً شهدنا على هذه المواقع، وعلى شاشات التلفاز المسيّسة التي تبتغي غسل وعيي ووعيك، وتوجيهي وإيّاك كما يُريد دافع الفاتورة، أو الجالس على العرش، كلامًا يُساس على وجهٍ باطلٍ يعرض مصائب بعض الملتزمين، وما يظهر للعين كأنّه سوء حالٍ، أو عدم قَبولٍ من الله تعالى. فأبشّرك أنّ هذا الإله الخالق قد أنبأ بأنّه يبتلينا في حياتنا الدنيا، وأقرّ ذلك في مواضع مختلفة من كتابه العزيز، فقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]

فهذا كلامٌ بيّن فيه إخبارٌ لا يحتمل التأويل، وهو قضاءٌ لا يدفعه دافعٌ، وإنّما بيّنه الله من قبل وقوعه رحمةً منه، وكرمًا من لدنه، ورُوينا في الحديث الصحيح عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟، قَالَ: (الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ). وهذا ردٌّ شافٍ للعقل، مبرئٌ من الشكّ، مُعربٌ عن حقيقة الابتلاء، ومبيّنًا -كما رأيتَ في الحديث- علّة حلوله، وهي تزكية عباد الله من ذنوبهم وسوء أعمالهم، فيكون الابتلاء دواءً يصيب العبدَ فيشفيه من أمراض قلبه، وموجبات عقوبته، فنعمّا هو.

الموت والبعث والحساب

ينتشر اليوم بين عموم الناس مقالةٌ مُحدثةٌ غريبةٌ، تقول إنّ موت الإنسان هو نهاية أمره، ومدى وجوده، يتحلّل بعدها جسمه في جَدَثهِ فيرجع إلى عدمٍ لا تُعرفُ بدايته. وهذه المقالة وإن لم تنطقها الألسن في الشرق فقد نطقت بها الجوارح والعادات الطارئة، إذ صار الفساد نمطًا للعيش، وأمسى الاحتيال حذاقةً وحُسن تدبيرٍ، وتغيّرت دلالات الأفعال، ونُحِلَ لها ما لا يعبّر عنها من الألفاظ، وهي نظريّةُ المُلحدين الكـ.ـافـ.ـرين، الذين استفحل أمرهم في الغرب؛ فأمروا بكلّ منكرٍ، ونهوا عن كلّ معروفٍ، إلّا ذاك الذي يخدمُ مصلحتهم، ويُغني خزينتهم.

والحقيقةُ ما كلّمنا به الله في إمامه المُبين، أنّ المُسلمَ يوقن بحلول الأجل، وتجربة الموت، والمكوث في البرزخ، (وهو مكانٌ بين الدنيا والآخرة يُحبسُ فيه حتّى يأذن الله للناس بالانبعاث للحساب)، ثُمّ يُبعث من مرقده، ويوقَف أمام ربّه فيرى أعماله عملًا عملًا، حتّى يقضيَ الله في شأنه، فإمّا جنان باقية، وإمّا جهنّم حامية. واحذر أن تُنكر شيئًا في الثانية فيحبط عملك، واعلم -يقينًا- أنّ الشكّ يُحيط بكَ، والشُبُهات تُقذف عليكَ، فالزم القرآن تعرف خبرك، واجلس إلى حديث النبيّ تجد ما فيه نفعك، واحرص على كثير الدعاء أن ينير الله قلبك، ويهديك دربك، وهو السميع المُجيب.

ثنائية الكوارث والأفكار.. ما مدى الارتباط بينهما؟

إذا نظرنا إلى مساحة التاريخ الإنساني؛ سنجد عددًا كبير من الكوارث الكبرى التي راح ضحيتها عشرات الآلاف بل أحيانًا ملايين من البشر، وتُمثِّل هذه الحوادث -سواء كانت على إثر كوارث طبيعية، أو بما كسبت أيدي الناس- علامات استفهام عند المعاصرين لها أو الأجيال اللاحقة، تحاول الوصول إلى تفسير لتلك الحوادث، وعند كل كارثة نجد عددًا لا بأس به من التفسيرات التي تريد حمل الكارثة على محملٍ بعينه، ولكن المُلفت للانتباه حقًا لا يتمثل في علامات الاستفهام تلك التي يتداولها عموم الناس، ولكنها تلك الأفكار التي انبثقت خلال الكوارث وعلى إثرها تغيَّر وجه العالم بأسره، أو تلك الكوارث التي كانت مآلًا لبعض الأفكار.

سنتناول بإذن الله في هذا المقال نماذج لتلك الكوارث ونحللها، حتى نتمكن من فهم هذه الثنائية التي تُعيننا بحول الله على توجيه المسار الفكري المعاصر توجيهًا صحيحًا بعد الكارثة المتمثلة في زلزال سوريّة وتركيا.

زلزال لشبونة ١٧٥٥م

في اليوم الأول من نوفمبر عام ١٧٥٥م، الموافق لعيد القديسين، وقعت سلسلة من الزلازل الشديدة في مدينة لشبونة، عاصمة إمبراطورية البرتغال في القرن الثامن عشر، وتسببت تلك الزلازل في أضرارٍ جسيمة، ودمرت المباني العامة والمنازل، واندلعت على إثرها الحرائق وراح ضحيتها نحو ٦٠ ألف شخص. [زلزال لشبونة-مجلة المنار]، وتضاربت التفاسير حول سبب هذا الزلزال ما بين سخط الإله والسؤال عن: أين الإله؟ وغير ذلك.

بحلول هذه الكارثة وجدت الأفكار التي كانت تتكون منذ بداية القرن الثامن عشر المعروف بعصر التنوير في متسلسلة التاريخ الأوروبي طريقها الذي ينحدر بها سريعًا نحو الهاوية الإنسانية دون أن يشعر أرباب تلك الأفكار.

لقد كان ڤولتير -على سبيل المثال- أحد أبرز مفكري وأدباء عصره، حيث وصفه فيكتور هوجو بقوله “إن اسم ڤولتير يصف القرن كله، فإذا كان لإيطاليا نهضة، ولألمانيا إصلاح، فإن لفرنسا ڤولتير”، وقد كان لفكره وأدبه الباع الأكبر -بالطبع مع رفاقه التنويريين مثل جان جاك روسو وغيره- في رصف بقية توجه الطريق الفكري الأوروبي، وقد كانت معظم آرائه الجدلية تدور حول مشكلة الشر، ويتبيّن هذا من كتابه الصادر عام ١٧١٣م الذي ناقش فيه الإشكال، بالإضافة إلى نقد التراث وإعادة النظر إلى التاريخ بنظرة عقلانية بعيدًا عن الأساطير، وكذا نقد الدين، ومركزية العقل.

استفزّ زلزال لشبونة ڤولتير ليُعيد النظر مرة أخرى إلى ماهية الشر، حيث اعتبر أنّ طبيعة الإنسان ليست شريرة، ولكنه قد ينحرف عن الطبيعة البشرية بحلول الكوارث كما حصل في لشبونة، وهو ما عبّر عنه فولتير عندما حل الزلزال بلشبونة عام ١٧٥٥م في قصيدته التي ندد من خلالها بالشرور الموجودة في العالم وندد كذلك بالتفسيرات التي قُدمت لهذا الزلزال خاصة تفسير رجال الدين وتفسير جان جاك روسو القائلة بأن مصدر الشرور في العالم هي أفعال البشر الطاغية.

ومن الواضح أنّ النزعة التشاؤمية ازدادت عنده، وهذا ما عبّر عنه في روايته “كنديد” ١٧٥٩م التي سخر فيها من الفلسفة التفاؤلية، وقد التقط رونالد سترومبرج هذا التغيُّر حيث قال “يبدو لنا أنّ ڤولتير عندما تقدمت به السن بدّل اتجاه عقله، إذ اتخذ مسارًا أشد كآبة وظلامًا، وهذا أمر طبيعي عززه موت محظيّته، وفتور صداقته مع فريدريك الكبير، وحرب السبعة أعوام، والزلزال الرهيب الذي ضرب مدينة لشبونة عام ١٧٥٥م”.

هذه التركيبة الفولتيرية -بالإضافة إلى رفاقه التنويريين- أدت إلى اندلاع الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩م، والتي كانت من أهم إنجازاتها كما يقول د. إبراهيم شاهين أنها نقلت مركز القوة من الكنيسة إلى الدولة، حيث إنّها بحسب تزفيتان تودوروف “المنعطف الكبير الذي يعتبر مسئولًا أكثر من أي منعطف آخر عن تشكيل هُويتنا التي نحن فيها الآن”، وتمخّض منها القرن التاسع عشر الذي كان مفككًا على إثرها، بخلاف تماسكية القرن الثامن عشر، ليستمر الانحدار بظهور نظرية داروِن التي حيونت الإنسان، وكان تأثيرها مركزيًا لدرجة أن جيمس بيرك وصفها بأنها “أحدثت دويًّا في العالم يشبه دويّ انفجار القنبلة”، ليظهر بعده نيتشه الذي كان نتيجة طبيعية لهذا الانحدار، حيث إنه أنكر المطْلَقات والأخلاق والمعنى، ليعيش بجلاء الحيوانية الداروينية، مما دفع د. عبد الوهاب المسيري للقول: “لحظة ظهور نيتشه هي لحظة تاريخية حاسمة في تاريخ الحضارة الغربية، نيتشه أعلن الفضيحة كاملة”.

أتى من بعد ذلك ماركس الذي -بحسب سترومبرج- ربط بين النظريات ووضعها، وقد تنبأ ميشيل فوكو بمآل هذه الأفكار حيث قال “الإنسان سوف يندثر مثل وجه من الرمل مرسوم على حد البحر”. وهكذا يمكن أن نرى بجلاء كيف ساهمت هذه الكارثة الطبيعية في تطور المتسلسلة الفكرية إلى هذا الحد.

 هيروشيما – السادس من أغسطس عام ١٩٤٥م.

أما الآن فيتجلى الشِق الثاني، وهو الكوارث التي كانت مآلًا لأفكار، حيث تتجلى في تلك الكارثة المروِّعة ما أنتجته قيم الحداثة من كوارث ومصائب، وهو نِتاج طبيعي لتلك الأفكار، “لقد ابتلعت هذه الحضارة في مشهدها المعاصر طُعْمَ الداروينية بوعي أو بغير وعي، فأضحى مبدأ الصراع مبدأ فاعلاً، وصار قانون بقاء الأصلح أمرًا حاكمًا، وأصبح الموت هو محرك التقدم والتطور؛ فإما أن تفترس غيرك، أو تكون الفريسة، وهو أمر وثقه تشارلز داروين  نفسه في مذكرات رحلته الشهيرة على «البيجل»، فقال ملخّصًا تاريخ الغرب: أينما خطا الأوروبيون فإن الموت يطارد سكان البلد الأصليين”[رواية هيروشيما]، وامتد التأثير الدارويني في التعبئة ضد اليابانيين، حيث كان الأميرال وليم بل هلسي -قائد قوات جنوب المحيط الهادي- يَحْثُ جنوده على قتل اليابانيين، ناعتًا إياهم بالقرود الصفر، وقد كان الناس يتساءلون فعلاً: هل يُعَدُّ اليابانيون من البشر؟!

كتبت مجلة التايم: “الياباني العادي جاهل ولا يمكن التفاوض معه، قد يكون إنسانًا، لكن لا شيء يدل على ذلك”.

وقد التقط الصحفي البريطاني إيرني بايل -الذي اشتهر بتغطية شؤون الحرب بعد انتقاله من أوروبا إلى المحيط الهادي- هذه النظرية القائمة التي كانت تسيطر على العقل الأمريكي في ذلك الحين، وكتب: “كنا نشعر في أوروبا أن أعداءنا مع وحشيتهم ودمويتهم لا يزالون بشرًا، ولكن هنا كانت الانطباعات عن اليابانيين مختلفة، فقد كان يُنظر إليهم باعتبارهم شيئًا أَحَطَّ من الإنسان، ومثيرًا للتقزز والاشمئزاز، تماما كشعور البعض تجاه الصراصير والفئران”. [رواية هيروشيما].

وبعد إلقاء القنابل، وارتكاب الجريمة؛ تجلّت النزعة النيتشوية الماركسية اللاأخلاقية، فسحقوا كل الاعتبارات الآدمية وكل المعاني القيمية، حيث إنهم اعتبروا أنّهم حصلوا على فرصة سانحة لدراسة تأثير الإشعاع على الناس الناتج عن القنابل الذرية المُجرَبة لأول مرة، فقد كان اليابانيون مجرد فئران تجارب، حيث قام أحد العلماء المسؤولين عن هذه الدراسة برفع دماغ كان قد استخرج من جثة ياباني للتو ليعلن بكل برود “بالأمس كانت الأرانب، واليوم اليابانيون”[رواية هيروشيما].

سنلاحظ أنّ هذا الإجرام المروّع وتلك الكارثة نتيجة مباشرة للأفكار كما أسلفنا، وفي ذات الوقت انبثقت أفكار وفلسفات جديدة مرة أخرى عن هذه الكارثة، فبعد الصدمة التي وقعت بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت الدنيوية والمنطقية وأصبحت اللغة مصدر كبير للتفلسف، وجنحت النزعة الفردانية، ثم انبثقت مرحلة ما بعد الحداثة منذ ثورة الطلاب عام ١٩٦٠م.

زلزال سوريا – تركيا السادس من فبراير عام ٢٠٢٣م.

تباينت التفاسير -كما العادة- حول هذا الزلزال المروّع الذي وقع مؤخرًا، وهذا الخِضَم التفسيري متوقَع وطبيعي جدًا في مرحلة الصدمة التي لا زلنا فيها، وخِطاب التثبيت ودحض الشبهات وتعزيز المعاني الكبرى للحياة مثل معنى الابتلاء وغيره مهم جدًا في هذه المرحلة -مرحلة الصدمة-، ولكن ما يجب التنبه له هو مرحلة ما بعد الصدمة، وهذه المرحلة أشد خطورة في تشكيل المرحلة المقبلة، إذ إنّه لا مفرّ من نشوء أفكار منبثقة عن هذه الكارثة، وهذه الأفكار تتبلور _ غالبًا _ في مرحلة ما بعد الصدمة، أو تتأخر قليلًا لتظهر في مرحلة المُعايشة، لذا نلاحظ في زلزال لشبونة أنه رغم كثرة التفاسير التي انبثقت خلال مرحلة الصدمة، إلا أنّ التفسير الذي طغى هو تفسير ڤولتير، والذي أصّر على إعادة إنتاجه في روايته بعد الكارثة بأربع سنوات، وبالطبع ثمة عوامل أخرى في التصوّر الكلي في متسلسلة التاريخ الأوروبي، ولكن ڤولتير أخذ بزمام الأفكار حينها.

لذا على المصلحين والمشتغلين في الساحة الآن استباق الأحداث، وأخذ خطوة إلى الأمام، لضمان توجيه هذه الشذرات الفكرية -التي حتمًا ستتضخم عاجلًا أو آجلًا- إلى المسار الصحيح التي يجب أن تسير فيه، فلو كان زلزال لشبونة سببًا في جنوح النزعة الإلحادية، فإننا بمُكنتنا أن نجعل هذا الزلزال سببًا في إحياء الروح النهضوية.

والحق أنني أرى مقومات هذه الصحوة متواجدة في الساحة الآن، ويجب اقتناص هذه الفرصة وعدم تفويتها، لأنها -بهذه الحيثيات- من الصعب أن تتكرر.

ويتحقق هذا عن طريق التقاط المعاني الكلية الكبرى التي تجلّت في مرحلة الصدمة، بعيدًا عن التفسيرات الجزئية، والتي تمثلت بشكل أساسي في نقطتين رئيسيتين:

١- حضور روح الأمة، وتبلوُّر مفهوم الجسد الواحد.

٢- رسوخ العقيدة في ساحة البلاء.

وإذا تأملنا هاتين النقطتين؛ سنجد أنهما يمثلان جناحي النهضة الإسلامية الصحيحة، فأخذ زمام الأمور بالتركيز عليهما والاستمرار في الترويج لهما بشتى الوسائل؛ سيُحرِّك السيل الفكري نحو هذه القضية، والساحة الآن في حالة جيدة من الاستعداد للتلقي لوجود عوامل عدة بإمكانها احتضان هذا التوجه -لا يسع المقام لذكرها-.

ما مسؤوليتنا تجاه الثغور المنبثقة عن الكارثة؟

لمّا استشهد عدد كبير من حفظة القرآن الكريم في معركة اليمامة؛ تنبّه المُلهَم المُحدَّث عمر بن الخطاب لهذا الخطب، وأدرك أن ثمة ضرورة تُحتّم جمع القرآن الكريم خوفًا من ضياع بعضه، فأشار ذلك على الصديق، وبعد مداولة المسألة؛ شرح الله صدر الصديق لها ومنَّ سبحانه وتعالى على الأمة بجمع القرآن الكريم.

وقد انبثقت هذه الفكرة عند الفاروق بناءً على نازلةٍ ألمّت بالأمة حينها لم تَعرِض لها من قبل، فلجأوا رضوان الله عليهم للقيام بشيء جديد لم يقع في عهد النبوة، ولكنهم أدركوا _بالقرائن الواقعة_ أنّ هذا الأمر لازمٌ عليهم، وصدّ الخطر الذي يلوح في الأفق من ضياع بعض القرآن بسبب فَقْد القرّاء أصبح أمرًا لا بد من إيجاد حلًّ له.

وإني أرى وجوب تكرار ذات المشهد عند كل نازلةٍ تنزل بالأمة ويروح فيها الآلاف من أبنائها، أرى أنها نوازل يجب على العاملين من ذوي البصيرة أن يتنبهوا للثغور التي تُشَق على إثرها، وأنّ المسئولية التي كانت موزعة على هؤلاء الآلاف انتقل حِملها إلينا بقضائهم نَحْبَهم، فيجب أن يتضاعف الشعور بالمسئولية والعمل تِباعًا، وألّا نسمح لكفة الأمة أن تختل عند النوازل والمصائب.

لعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمرًا، ويُهيأ لهذه الأمة من أمرها رَشَدًا.


مصادر للاستزادة:

١- سلسلة تاريخ الفكر الأوروبي الحديث – الأستاذ أحمد يوسف السيد

https://youtube.com/playlist?list=PLZmiPrHYOIsQMpwdg-LEUnb7c1LDxkQv5

٢- التراث والتنوير في فلسفة ڤولتير – مريم بن عطا الله – بحث ماستر.

٣- رواية هيروشيما – جون هيرسي – ترجمة وتقديم الشيخ عبد الله العجيري.

٤- مقال زلزال لشبونة – المنار

https://www.manar.com/page-46848.html

كيف يُصنَع الإنسان على عين الله؟

قدر الله عز وجل للمخلوقات أقدارها، ووضع لها رزقها في عالم الغيب قبل أن تولد، وعلم كل ما يحيط بها قبل أن تُخلَق، ومنحهم القدرة على الهداية والغواية، فجعلهم مخيرين باختيار الطريق الأمثل ليصلوا لتلك الأقدار، وليصلوا لتلك الأرزاق، كما وضع لهم شرعًا ومنهاجًا، وبيّن لهم الطريق الأمثل، وأمرهم بالسير عليه، فإن هم فعلوا ذلك، فكأنهم صنعوا أنفسهم كما أراد الله وأمر، وهم في ذلك مخيّرون لا مسيّرون، فإما أن يختاروا ما يرضي الله، وإما أن يختاروا طرقًا أخرى، وهم على طرفي الأمر لن ينالوا إلا ما علمه الله لهم.

التفضيل والتكريم وحمل الأمانة

من فضل الله على البشر أن كرّمهم على سائر المخلوقات، وقدر لهم أن يستعمروا هذه الأرض، وأنه وضع لهم منهاجًا ليسيروا عليه، يكونون به أسياد هذه الأرض، فينالوا رضى الله بذلك، ولأنها أمانة ثقيلة، فقد حملت للإنسان بما أعطاه الله من القدرة على إعمال العقل، وإذكاء الروح، وقد قبلها الإنسان، فحريٌّ بنا أن نستكمل طريقنا ونحن ندرك عِظم هذه الأمانة وثقلها وضروراتها ومحظوراتها، فنؤديها كما أمرنا ربنا، ولا نحيد عنها، فنكون كمن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

إن الإنسان من أقوى مخلوقات الله في هذا الوجود، وهذا القوة لا بد لها من ميزان يضبطها، وهو حسن الصلة بالله تعالى، وقد كرّمه الله منذ نشأته، بأن جعل الملائكة تسجد -في امتحان إلهي لها- لأبي البشر، آدم عليه السلام، إلا أن طغيان الجهل بين بعض الناس، وما سوّله الشيطان وأتباعه، دفع كثيرًا منهم ليستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فتركوا ما يمنحهم رضى ربهم وذهبوا إلى طرق توهن أرواحهم وتُسخِط ربهم عليهم، فتراهم -بالرغم من ذلك- يبحثون عن قوة بديلة يعبدونها، سواء كانت مادية أو معنوية، فالإنسان بحاجة لانتماء وأمان نفسي، ومن لم يجد أمانه في عبادة الله، تراه يتوهم أمانه في عبادة المال أو الذات أو الأفكار المنحرفة.. إلخ.

البعد عن الله.. بين الظاهر والباطن

قد يتوهم كثيرون أن البعد عن الله ذو مقاييس ظاهرية فقط، إلا أن الأمر يتعدى ذلك إلى البعد الباطني أيضًا، فالبعد الظاهريّ نراه في عبادة ما دون الله والولاء له والسمع والطاعة لذلك المعبود مما خلقه الله أو اخترعه البشر من الآلهة أو الأسماء التي سمّوها، كعبادة الشيطان أو عبادة البقر أو الشمس أو الكواكب أو مختلف الأصنام أو حتى عبادة الإلحاد، وهذا كله من جحود الإنسان لربه، وجحوده ضرورة الخضوع لمن بيده أمره كله.

كيف يستسيغ الإنسان أن يعبد غير الله في أرضه وتحت سمائه وسمعه الكريم وبصره العظيم، {ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون} [النحل: 73]

أما البعد الباطنيّ فله أنواع وأبعاد كثيرة، مثل أن يعبد الإنسان الله في جوارحه، فيؤدي بعض شعائر الإسلام، ويقر بأن الله هو الخالق، لكنه في كثير من أحواله يسير في طرق أخرى غير طريق الله.

مثل هؤلاء ترى ظاهرهم مع الله وباطنهم مع هواهم، مع المال أو السلطان أو الأبناء أو اتباع الشهوات، وحين يتبع الإنسان ما يتراءى له من الشهوات فإنه ينحدر بها بمستواه إلى ما دون المستوى الذي أراده الله له، ويصبح بمنزلة الأنعام أو أضل، { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] وقوله تعالى:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 43، 44]

والخشية الحقيقية، أنه عندما يسلك الإنسان هذا المسلك، فإنه يبعِد قلبه عن تلقي نور الوحي، ويستغرق في طريق الضلالة، فلا يفتح قلبه للهداية، وهكذا يزيد يومًا بعد يوم في غيه وطغيانه، ويزيد الله في امتحانه بأن يزيد له في طريق الباطل.

التربية بالابتلاء والفتن

طرق التربية العملية كثيرة، ولعلها أكثر تأثيرًا في الناس ودفعًا للفهم من المقولات النظرية، فالناس حين يرون التجربة أمامهم عمليا أو يمرون بها تتغيّر دواخلهم أكثر من تلقّيهم لها بالكلام النظري.

من هنا فإن الصناعة على عين الله تتحقق بالعملي أكثر من النظري، وهي من أهم النعم التي ينعم الله بها على عبده، فما أجلّ أن يربي الله عز وجل عبده الذي يحبه بالابتلاء والاختبار والعسر بعد اليسر، وعرضه على الفتن ليعلم حقيقة إيمانه، ثم ينعم عليه بأن يكون معه في هديه وتثبيته وإنزال نعم المعاني عليه كل وقت وحي، ثم يدبر له فيصرف عنه الشر الذي حسبه خيرًا، ويرزقه الخير الذي حسبه شرا، ويأخذه من أحضان الغفلة إلى معيته وكنفه عزوجل.

وقد تجد نفسك -أيها الإنسان- تتساءل لمَ الدرب موحشٌ؟

لا يحزِنك خلوّ الطريق من الرفاق، فإن الغالبية لا تسير في طلبه، وانظر إلى الأنبياء من قبل، سلكوا طرقهم مع أعداد قليلة من المؤمنين، نوح عليه السلام حين ظلمه قومه، وموسى عليه السلام حين خرج من بلدته خائفًا يترقب، ويوسف عليه السلام حين فُتِن بالكثير من الامتحانات، ومحمد ﷺ حين ظل يدعو الله العدد من السنين ومن يستجيب له قلة بين قومهم.

لتصبح عبدًا ربانيًّا

الصناعة والتربية وجهان لعملة واحدة كلمتان مترادفتان وهما أهم ما يكوّن الإنسان في هذه الحياة، أما ترى أن هناك كثيرًا ممن يمتلك علمًا بلا أخلاق، وآخرين ممن يمتلك فهمًا بلا تربية، أترى أحدهم ينتفع بعلمه عند ربه؟ لقد باعوا قصور الأخرة بأكوام قش الدنيا.

عن عبدة بن أبي لبابة، عن ابن عمر قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي، وقال: اعبد الله كأنك تراه، وكن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل”

أما الإنسان إن صحت صح تربيته في الله، وصُنِع على عينه كما قال لنبيه موسى {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] فإن آنذاك سيصح فهمه لحقيقة الأمور كلها، سواء ما كان من متاع الدنيا الزائل أو منزل الآخرة الباقي، وهكذا يغدو الإنسان عبدًا ربانيًّا.

العقل والوجدان في القرآن صنوان لا يفترقان.. وقفات مع النظرية

من أبرز ما يستميلني في نظم النص القرآني وسبْكه أنه نسيجٌ فريد متكامل من الخطاب الحسّي الوجداني والخطاب العقلي، يتعاضدان وينجدلان في سياق واحد دون أن يتفرّد أحدهما عن الآخر، ولا ينفكّ هذا الأسلوب عن إدهاشك بما يحمل في طيّاته ومكامن خباياه من معانٍ نفيسةٍ درّيّة، كلّما غُصْتَ في أعماقه تبدّت لك معانٍ أخرى تؤكد المعنى الظاهر وتعزّزه وتجلوه. على خلاف أسلوب المناطقة الرياضيين والمتكلّمين واللاهوتيين الجافّ الذي يُلقي المعنى مجرّدًا جافًّا يخاطب الذهن وحده، فلا طريقة تصويرية ولا خيالٌ ولا ظلالٌ تُحيي المعنى الساكن البارد، ليلج إلى النفس من كل منافذها ويؤثّر فيها، ويستجيش الوجدان في حين مخاطبته للعقل، لتستحيل المعارف الذهنية المجرّدة واقعًا حركيًّا في كيان المرء ونشاطه، ينبض بالحياة الحقيقية التي يعيشها الإنسان بكلّه لا بذهنه فحسب. وهنا نلحظ عناية القرآن واهتمامه بالقيمة الإبستمولوجية لوظيفة الحواسّ والقلب في تأسيس المعرفة.

بين القلب والعقل   

هناك تلازم وعلاقة طردية بين مفهومي العقل والقلب، وقد قامت الفلسفة اليونانية بتجريد العقل عن القلب والحس حين عرّفته بكونه جوهرًا قائمًا بذاته، فلا يستقيم في أثناء الحديث عن المعقول والمعاني العقلية والمنظومة العقلية عامة أن يُتطرّق إلى ذكر القلب في نفس السياق، فذلك ينفي عنه صفة القيام بذاته، مخصِّصين بهذا الاستقلال العقلَ بوظيفة ذهنية بحتة، والقلب بوظيفة وجدانية بحتة[1]، وداخلين في صيرورة تفكيكية لذات الإنسان ومكوناته المجتمعة والمتعاضدة والتي من خلالها جميعا تُكتسب المعارف وتتراكم الخبرات.

وقد تأثر كثير من علماء المسلمين وفقهائهم وفلاسفتهم بالمنقول اليوناني في هذا الجانب وساروا على خطاهم، ومنعهم الاستيراد الاعتباطي لرؤى الغرب وسردية الفصل بين العقل والقلب من إدراك مختلف الآفات التي تعتور المعرفة العقلية لاتصالها بالقلب المتقلّب وأحواله، يقول طه عبد الرحمن: “في المعنى اللغوي للقلب إشارةٌ إلى قابليّته للتغير، إذ الفعل منه، أي (قلَبَ) يراد منه، في قولنا: (قلب الأمر)، أنه غيّره إلى عكسه، وهذا منتهى التغيير؛ فيكون في إسناد العقل للقلب إرادة صريحة لنسبة قابلية التغير إليه، هذه القابلية التي لا تفتأ تؤكدها وقائع تقلّب المعرفة الإنسانية، نظرية كانت أو عملية”[2].

ويقول البهيّ الخولي في سياق حديثه عن الحداثيين الذين أُشرِبوا في قلوبهم روح المادية المدنية فحالتْ بينهم وبين حسن الفهم والتصور لحقائق الدين وتلقّي مخرجاته بالإيجاب: “إن هؤلاء في حالة ركود روحي، طغى عليهم تيار مدنية المادة، فغمر مواهبهم الربانية، فأصابها بخدر أو جمود، وهيهات أن تصل إلى إقناعهم بمكان الإسلام كعقيدة ونظام، مهما أوتيت جدلا وعلما، ما دمت تخاطب هذه الحاسة المعطلة فيهم؛ فتراهم يستمعون إليك وهم لا يفقهون، وينظرون إليك وهم لا يبصرون، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوك يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25] ولسنا نقصد أنهم لا يفهمون لأن عقولهم متبلدة، بل هم لا يفهمون لأن قلوبهم -وهي مركز الملكات الإلهية- معطلة عن الفهم بما شغلها وألهاها.”[3]

فانظر أخي القارئ كيف أسفر لنا القرآن الكريم في الآية السابقة -وفي غيرها- عن الوشيجة المعرفية بين العقل والقلب والعلاقة الوطيدة بينهما، وكيف جعل أول مصادر تلقي المعرفة وقبولها هو القلب السليم المنفتح للحق، فيتفاعل معها وبها ويشاركه العقل في التفاعل والتأثر والتمحيص، فلا تتأتى أنوار الهداية والعلم والبيّنة إلا لقلب معافًى من أسقام تورث منتَجًا فكريا سقيما مثلها.

 وإنه لعجب عجاب أن يقرأ المسلم في كتاب ربه آيات كثيرة لا تحصى كلها تنيط عمل العقل بعمل القلب، ثم هو يفصل بينهما ويحدد لكل منهما مجاله الذي يعمل فيه، فيجعل القلب محلّ العواطف والمشاعر والانفعالات، والعقل محل الفقه والمعارف والمحاكمات، متناسيا بذلك قول ربّنا المُحكَم: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ [الحج: 46].

لقد أعطى القرآن الكريم للعقل فضاءه الذي يعمل فيه حين تلقّيه المعارف والحقائق وإدراكها، فيبحث عن عللها ومقاصدها وغاياتها ومقتضياتها العملية والنفسية، في حين أنه قضى على هذا العقل في بعض الأمور والأحداث بأن يدركها ويسلّم بها فقط، دون الخوض في تفاصيل هي خارج الإدراك البشري، ولا يمكن للكينونة الإنسانية المحدودة بالزمان والمكان، والمحكومة بالقصور والضعف والجهل أن تستوعبها.

كيف تكمل العقيدة جانب العقل والوجدان؟    

الله خالق هذا الإنسان وبارئه قد أودع فطرته الارتياح للغيب المجهول كما الأنس بالواقع المعلوم، والعقيدة التي توازن بين هذا الجانب وذاك لهي أكمل وأشمل عقيدة وأكثرها واقعية، وهي مطابقة للفطرة الإنسانية وملبّية لحاجاتها وأشواقها وتطلّعاتها. ويحفظ هذا التوازن[4] العقلَ من التخبّط في التيه والظلمات، والوقوع في الغلوّ والانحرافات التي شهدناها على مرّ تاريخ الفكر الغربي الحديث عامة، وعصر التنوير خاصة بمفكّريه وفلاسفته “الذين اعتقدوا بأن فجرًا جديدًا بدأ يشرق على الجنس البشري، وأن نوره هو «الحس السليم» والحقيقة البسيطة الواضحة”.[5] فتارةً يقدّسون العقل إلى حدّ التأليه ويتخذونه مركزًا ويجعلونه الأداة الوحيدة للتوصّل إلى الحقائق في النصف الأول من القرن الثامن عشر، وفي نصفه الثاني انقلبوا على أعقابهم ووجهّوا نقدًا للعقل من قبل ديفيد هيوم وكانط وغيرهم، وكذلك مع نشوء المذهب الرومانتيكي الذي كان “بادئ ذي بدء، ردة فعل مضادة لعصر التنوير، إذ جاء مناهضًا للعقلانية والمادية والميكانيكية والكلاسيكية، ولجميع المكونات الرئيسية لعصر التنوير. وكانت نقطة الضعف في عصر التنوير تتمثّل في إهمال هذا العصر للخيال، وفي استقطابه للعالم الخارجي، وفي افتقاره لكل شيء باطني أو عميق الجمالية، وتجاهل سر الوجود ورعبه، وكل ذلك رغبة منه في جعل كل شيء مفهومًا وواضحًا”.[6]

لإدراك أهمية ازدواجية الخطاب بين العقل والوجدان ومركزيته في المنهج القرآني ودوره الفاعل المحوري؛ فلنرجع إلى بدايات مهبط الوحي وانبلاج فجر الإسلام بين قوم يشركون بالله وينسبون له ما ليس له، وقد توارثوا عن آبائهم هذا الاعتقاد وهذا التصور، ثم جاء من يدعوهم إلى عبادة ربّ واحد لا شريك له، والتوجّه إليه وحده في الشعائر وتلقّي الشرائع منه وحده، وإنه لَأمرٌ عجاب ولَقولٌ يُستنكَر عند تلك الثلّة من القوم: {وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 4-7].

إذن فقد جاء القرآن لتصحيح الاعتقادات وبلورتها، وجلاء التصورات الفاسدة واستجلاء الحقائق الخالدة، واستنقاذ الفطرة من تحت ركام الجاهلية. جاء لإعادة إحياء التوحيد الخالص الذي بُعث به الرسل من قبل، والذي تنادي به الفطرة الحيّة المستقيمة، في نفوس تلك العصبة التي تتعجّب وترفض أن يكون لها إلهٌ واحد، فكيف السبيل إلى ذلك؟ عن طريق الوجدان.. نعم!

يقول سيد قطب: “موطن العقيدة الخالد هو الضمير والوجدان -موطن كل عقيدة لا العقيدة الدينية وحدها- وأقرب الطرق إلى الضمير هو البداهة، وأقرب الطرق إلى الوجدان هو الحس”. ويقول أيضا: “لقد عمد القرآن دائمًا إلى لمس البداهة، وإيقاظ الإحساس، لينفذ منهما مباشرة إلى البصيرة، ويتخطاهما إلى الوجدان، وكانت مادته هي المشاهد المحسوسة، والحوادث المنظورة، أو المشاهد المشخّصة والمصائر المصوّرة. كما كانت مادته هي الحقائق البديهية الخالدة، التي تتفتح لها البصيرة المستنيرة، وتدركها الفطرة المستقيمة”.[7]

ويؤكّد على هذه الحقيقة البهيّ الخولي إذ يقول: “إن فهم هذه الرسالة وقبولها منوطان بيقظة الوجدان الإلهي في الإنسان، لا بالفهم العقلي والمنطق الذهني فقط.. وإن العربي الذي تحمّس للعقيدة وبذل في سبيلها ما يملك، وآمن بها لدرجة الفناء فيها، ما فهمها وقبلها إلا أنه ذو وجدان ذكي مرهف، وكيان عصبي فطري يقظ، ووعي روحي مهيّأ لأمر الله. وما كان العقل وحده ليعشق الرسالة هذا العشق الذي استغرق مشاعره كلها، حتى أتى على حب الأوطان والآباء والأبناء”.[8]

لذلك نجد أن الآيات المكية -بحسب أشهر الأقوال في كون الهجرة هي الفاصل بين الآيات المكية والمدنية- قد اعتنتْ في خطابها بلفت النظر إلى آيات الله في الطبيعة والكون، والدعوة إلى تأمل المشاهد الطبيعية والنفس الإنسانية والحيوان والنبات والأشياء وكل ما هو من آثار الألوهية الواحدة التي يستطيع العقل البشري إدراكها ضمن نطاق عمله ومحدودية فكره، “فالعرب كما شرح ابن المقفع «ليس لها أول تؤمه ولا كتاب يدلها»، بل يتلقّفون معارفهم عن طريق الاتصال المباشر بالحياة”.[9]

على خطى الخليل.. قلّب النظر والفؤاد

ومن خلال النظر في آيات الكون اهتدى خليل الله أبو الأنبياء عليه السلام إلى الخالق الحقّ الذي لا إله غيره ولا شريك له {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]، فبعد أن قلّب وجهه في ملكوت السموات والأرض بكرةً وعشيّا؛ أحسّ بارتياب وعدم وجود روافد وتوافق بين مرتكزات الحق الكامنة في فطرته المتعلقة بتصور حقيقة الألوهية، وبين ما عاينه من صفة أفول الخلائق الكونية. يصوّر لنا القرآن نموذجًا لإنسانٍ فَهِمَ لغة الكون وأدرك أسراره ومراميه والحقائق الكامنة فيه، وهو تجاوب إيجابي عميق المعنى والدلالة، ويلفتُ القلب والنظر إلى المنهجية السليمة والصحيحة في التعامل مع الكون وكذلك سائر ظواهر الحياة،[10] وهو مسلكٌ بعيد كل البعد عن إنسان العصر الحديث المُخترَق والمؤدلَج عقائديا وفكريا ووجدانيا، الذي لا يستطيع تجاوز أُطر المادة والنظر إلى الغيبيّات والماورائيات، فكل ما لا يمكن أن يفسّره ماديا ويخضعه لقوانين العلم التجريبي فهو -بزعمه- غير موجود، مختزلًا نفسه وآفاقه ومحيطه في هيئة معادلة فيزيائية لا تنبض بالحياة، وذلك حين ألغى اعتبار الوجود الغيبي وحقيقة الإنسان الوجودية والرسالية والمعاني الغائية، وقد أصبح أمره فُرُطًا بعد ذلك الحق الذي ضيّعه.

وهكذا نَخلُص إلى أنّ التأمّل والتدبّر في النفس والآفاق والجمادات والعجماوات من شأنه أن يخلق وشيجة حيّة بين الإنسان والوجود، فتهدي النفوس الحَيْرى والذوات التائهة إلى وجود خالق مدبّر مبدع، عظيم حكيم خبير، له مقاليد السموات والأرض.. له وحده! لا ينازعه في حكمه أحد ولا يشاركه في ألوهيته أحد، وله الدينونة وحده بلا منازع ولا مناكف، شاملة للوجود كله بمن فيه. ولقد اعتنى المنهج القرآني أيّما اعتناء في بيان هاتين الحقيقتين – أي حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية – وترسيخها وتوطيد قاعدتها وتشييد أركانها في أعماق النفس الإنسانية، مبيّنًا الآماد والآفاق التي تمتدّ إليها، في عالم الغيب وعالم الشهادة، مستخدمًا شتى طرق التأثير بصورة ليس لها نظير.

وحين تختلّ أو تُفقد تلك القاعدة في الضمير البشري التي يقوم عليها اعتقاد الإنسان وينبثق منها تصوره الموافق لحقيقة الكون والحياة والإنسان؛ فإن البشرية تخبطُ خبط عشواء وترزحُ تحت أغلال قيّدت نفسها بها، فإهمالهم لعنصر الخيال واهتمامهم بالواقع والمادة والمحسوسات والعلم التجريبي أفضى بهم إلى عالم عقيم بارد موحش، مؤطّر ضيّق الأفق، رسمتْ حدودَه الداروينيةُ القديمة[11] وسائر المذاهب المادية، وهو عالم لا يصلح بصيغته التعريفية والمضمونية إلا لساكنين ذوي طبيعة ميكانيكية آلية جامدة. وجنحت الجاهليات الغربية تارةً إلى هنا وتارةً إلى هناك، مرة تقدّس العقل وتحارب الشعر والعاطفة وجميع الفضاءات الإنسانية كما حدث في عصر التنوير، ومرة تجنح إلى الخيال والشاعرية وتناهض العقلانية والمادية الكلاسيكية كما في الحركة الرومانتيكية التي وصفها راسل بأنها كانت “تتميّز ككلٍّ بالاستعاضة بالمعايير الجمالية عن المعايير النفعية،”[12] وما استطاعوا أن يوازنوا بينهما ولن يستطيعوا والقاعدة موجودة بغموض وتحريف أو مفقودة تمامًا.

وحده النظام الإسلامي والخطاب القرآني الذي يطابق بنية النفس الإنسانية في تلبيته للاحتياج الواقعي والاحتياج الخيالي، فهما مكوّن أساسي في جبلّة الإنسان وكيانه، إن فُقِد أحدهما أو طغى أحدهما على الآخر اختلّ نظام الحياة ونظام الإنسان، وحالَ هذا الطغيان بين الإنسان وبين وجوده الرسالي، فكان من المُغرَقين في أزمة وجودية وفكرية وأخلاقية وقيمية.[13]

ولعبد الوهاب المسيري جملة مشهورة تعبّر عن الطبيعة الثنائية لحقيقة الإنسان الوجودية وبنيته التكوينية، أي الروحية والمادية، إذ يقول: “يقف الإنسان وقدماه مغروستان في الأرض وعيناه شاخصتان إلى السماء، وهذا هو سرّ عظمة الإنسان ومأساته، وهذا أيضا هو سرّ وجوده الإنساني المركّب”.[14]

بحثًا عن عاطفة العقل

في مدح العقل العاطفي وذمّ العقل المنطقي يقول البهيّ الخولي في سياق كلامه عمّن تلقّفوا معاني القرآن بعقولهم وفهمهوه، أما قلوبهم فأبوابها مؤصدة تأبى هديه: “والعقل المنطقي يسيغ ما يسيغ في ركود وقبول سلبي، أما العاطفي فيسيغ ما يقبله في حرارة وحركة وقبول إيجابي؛ وإنما تحتاج الرسالة من الرسالات – حتى الأرضية منها – إلى أن تفهم على هذا الوجه الأخير، فالعقل العاطفي هو الذي يفتح لها آفاق النفس، ويصل بها إلى قرار الفطرة، ويمكّن لها في حبّات القلوب، وبها يُسِّرُ إلى الأعصاب يقظة وعزيمة، ويشيعها في الدماء نشاطا وحيوية، فيصبغ صاحبها بصبغتها من جميع أقطاره الظاهرة والباطنة، فتبدو ألوانها في أعماله، وأقواله، وأفكاره، ونواياه، واتجاهاته، وعواطفه، وأهوائه، فإذا هي قد ملكته ولا يملكها، وسخّرته لمشيئتها ولا يسخّرها، فيحيا لها منفعلا بخواطرها، غيورا على حرمتها، مجاهدا لإعلاء مبادئها، باذلا في سبيلها ماله، وراحته، ووقته، ومواهبه، ودمه، ونفسه، سعيدا بذلك غاية السعادة، وراضيا به تمام الرضا؛ وهذا الفهم هو المعروف لدى علماء التوحيد بأنه التصديق القلبي. وهيهات أن يؤتى العقل المنطقي هذه الثمرة الباهرة، والقوة القاهرة.. فالمسألة على هذا ليست مسألة الذهن الذي يفهم أو لا يفهم، والعقل الذي يصدّق أو لا يصدّق، وإنما هي مسألة القلب الذي يرضى ما يقال أو يجحده، ويبشّ له أو يرفضه، {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]”.[15]

وأهمية أخرى لهذا الخطاب الإيجابي الذي يثير الفاعلية في النفس والأرض بعد أنِ استقرّ على قرار له في الكيان البشري، يقول محمد قطب: “ولكن القرآن – وهو منهج حياة، وهو كتاب تربية وكتاب دين – يهمّه كذلك أن يوقظ النفس من تبلدها لتتفتح وتستنشق الحياة!

فإنّ الإنسان حين تدرك حسّه هذه البلادة ينحصر في دائرة ضيقة رتيبة خاملة لا تنبض فيها الحياة. ومن شأن ذلك أن يفسد نفسه جميعها، فالنفس المتبلدة لا تجيش لحمل أمانة الخلافة في الأرض: لا تنزع إلى الخير، ولا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر، ولا تبني ولا تنمي ولا تحوّر ولا تبدل في هذه الأرض، لأن ذلك كله حركة جياشة فعالة مُريدة، والحركة لا تنشأ من التبلد، والجيشان لا ينبع من الخمول!

فمن أجل خير هذه النفس وصلاحها، من أجل رفعة الحياة البشرية وترقيتها، يسعى القرآن إلى تحريك هذه الحواس المتبلدة لتنفعل بالحياة في أعماقها، وتتجاوب تجاوبًا حيًّا مع الأشياء والأحياء”.[16]

منهج التربية القرآني

لسيّد هاهنا رؤية عميقة فريدة وملمح نفيس إذ يقول: “ومما يلاحظ بوضوح في منهج التربية القرآني كثرة توجيه الإدراك البشري إلى ما في الكون، وما في الأنفس، من أمارات وآيات، وتوجيه هذا الإدراك إلى مصاحبة صنعة الله في الأنفس والآفاق. ذلك أن هذه المصاحبة – فوق أنها تنبه الإدراك البشري إلى معرفة الصانع من صنعته، وإجلاله بإدراك عظمته من عظمة صنعه، وحبه بإدراك عظمة أنعمه – فهي في الوقت ذاته تطبع الإدراك الإنساني بخصائص تلك الصنعة: من دقة وتناسق وانتظام، لا خلل فيه ولا تصادم ولا تفاوت. كما تطبعه بموحياتها كذلك من سنن وحقائق ومقررات.. وليس بالقليل مثلا أن ينطبع في حس الإنسان وشعوره من متابعة التغير المستمر في أحوال هذا الكون، وفي أحوال البشر، وفي أحوال النفس، أن الدوام لله وحده، الذي يغير ولا يتغير. وأن كل شيء حائل أو زائل، إلا الحي الذي لا يموت، الصمد الثابت المقصود.. وليس بالقليل مثلا أن ينطبع في حس الإنسان وشعوره من ملاحظة ثبات السنن التي تحكم ذلك التغير، وثبات الناموس الذي يتم به التبدل والتحور، أن الأمور لا تمضي جزافًا، وأن الحياة لم توجد سدى، وأن الإنسان غير متروك لقًى. وإنما هو التدبير والتقدير، والابتلاء والجزاء، والعدل الصارم الدقيق في تقدير المصير”.[17]

أما عبد الحميد إبراهيم فقد ارتأى معنى جوهريّا، متلبّسًا روح العربي في العصر الجاهلي آنذاك ليستشرف أثر التأمل في ظواهر الكون المتقابلة ومعالم الحياة المتضادة والإقرار بواقعية الصراع بين الخير والشر في القلب الإنساني على الصلة بين الله والإنسان:

“وكان أهم ما اكتشفته في هذا الكتاب هو عنصر (الحركة)، الذي يميز الحضارة العربية الإسلامية، فقد كان العربي في العصر الجاهلي جزءًا من الطبيعة حوله، متطرف مثلما هي متطرفة، ومتقلب مثلما هي متقلبة، قد يبدو عنيفًا كنهارها، ثم يصبح رقيقًا كنسيمها. وحين نزل القرآن الكريم لفت العربي إلى حركة الظواهر الطبيعية حوله، وإلى هذا التطارد بين الليل والنهار، والظل والشمس، وإلى حركة الأرض تكون هامدة ميتة، ثم ينزل عليها الماء فتهتز وتحيا. ثم نقل القرآن تلك الحركة إلى قلب المسلم، واعترف بواقعية الصراع بين الخير والشر وبصعوبة التحكم في هذا الصراع، والاهتداء إلى الحقيقة من خلال هذا الصراع والتي يسميها الصراط المستقيم. وتلك نقلة كبيرة في تاريخ الحضارة العربية، لأنها تعني تأمل حركة الطبيعة بدلًا من الاندماج والتشيّؤ فيها، بمعنى أنها أصبحت موضوعًا للذات، والتي تحاول احتواءها ثم تجاوزها.

إنّ الصلة بين الله والإنسان في الحضارة الإسلامية، إنما هي تعبير عن تلك الحركة، فهي تقوم على الشدّ والجذب والأخذ والردّ. وتجعل المرء في حالة من التوتر الصحي، فهو ليس بعيدًا عن الله بعدًا يوئسه، ويجعله يعيش في كون معادٍ خالٍ من الروح القدس. وهو في الوقت نفسه ليس قريبا منه قرب اتحاد أو حلول، ينسيه الفارق بين العالمين، وينتهي به إلى سديمية فارغة، بل هو قريب بعيد، في حالة تجمع بين الخشية والرجاء، وتعمر القلب بالحركة المتواصلة والمتراوحة، بين الإنسان والمطلق، كالصورة في المرآة على حد تشبيه الغزالي، ليست هي المرآة وليست هي مفارقة لها.”[18]

على سبيل الختام

الله عز وجل يعلم ماهيّة الإنسان وتركيب كينونته ومساربه الخفيّة التي تصله بالحقيقة الأزلية الكبرى، ويدرك كُنْهه والمدخلات المؤثرة في نفسه؛ لذلك خاطبه بما هو إنسان.. لأنها نفس إنسان لا تركيبة ذهن محض، وما الذهن إلا كوّة واحدة من منافذ النفس العديدة. خاطبه بما يلائم طبيعته ويؤثّر فيه ويجيب عن تساؤلاته الحائرة، ويضيء غياهب قلبه المعتمة وجنبات عقله المظلمة، بالقول الذي يخاطب العقل ويسبر أغوار النفس ليصل نوره إلى القلب بجلاء ووضوح، من خلال المشاهد الناطقة والصور الحيّة الشاخصة وإلباس المعنى لبوس التشخيص والتمثيل الذي يلمس الحسّ ويوقظه؛ فتُستنار البصيرة، فتتهيّأ النفس للإيمان والإذعان للحقائق، ومن ثم تستحيل قراءة النص القرآني قراءة حركية فعّالة، لا تجريدات ذهنية باردة تُختزن في الأذهان دون أن يكون لهذا الاعتقاد مصداقه ومدلوله في الواقع العملي وفي الضمير البشري ذاته. وهذا هو غاية الخطاب القرآني وأَولى مآربه.

في مقال قادمٍ سوف نطرح أمثلة تطبيقية لهذا الأسلوب المؤثّر في المنهج القرآني بعد أن استعرضنا الجانب النظري، ليتضّح لقارئ المقال كيف لمس القرآن الوجدان، ونرى قدرة هذا الأسلوب بخاصّيته المزدوجة على الولوج إلى النفس البشرية من كل مساربها، والامتداد إلى آفاقها والتأثير فيها كل التأثير وأكمله، لنرى الإعجاز الفني والجمالي الكامن فيها، والقدرة – التي تعجب لها العقول وتلتذّ بها القلوب – على شحن ألفاظ مجرّدة بحمولة تمثيلية تصوّرية بديعة، توضح المعنى وتعززه وتقرره في أعماق الضمير وأكانه، وكذلك لنتّبع منهجه ونلتمس أنواره في كيفية بيان الحق والهدى وسبيل الرشد.


[1]  يراجع فصل “إشكال الفصل بين العقل والحس” وفصل “إشكال الفصل بين العقل والقلب” في: سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، طه عبد الرحمن (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012)، 65-69.

[2] المصدر السابق، 73.

[3] البهيّ الخولي، تذكرة الدعاة، (القاهرة: دار الكتاب العربي، 1952م) 14.

[4] يراجع فصل “التوازن” في: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، سيد قطب (القاهرة: دار الشروق، ) 119.

[5]  رونالد سترومبرج، تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، ترجمة: أحمد الشيباني (القاهرة: دار القارئ العربي، 1451 ه – 1994 م) 181.

[6]  المصدر السابق، 307 – 308.

[7]  من فصل “المنطق الوجداني”، سيد قطب، التصوير الفني في القرآن (القاهرة: دار الشروق، 1945) 226-229.

 البهيّ الخولي، تذكرة الدعاة، 14.[8]

[9] عبد الحميد إبراهيم، الوسطية العربية: مذهب وتطبيق، الكتاب الأول: المذهب (القاهرة: دار المعارف، 1990) 47.

[10] يراجع فصل “ألوهية وعبودية” في: مقومات التصور الإسلامي، سيد قطب (القاهرة: دار الشروق، 1418ه – 1997م) 100-108.

[11] لكونها تختلف عن الداروينية الجديدة  Neo-Darwinizim التي تقرّ بتفرّد الإنسان وتكريمه عن الحيوان.

[12] تاريخ الفلسفة الغربية، برتراند راسل، ترجمة: محمد فتحي الشنقيطي (القاهرة: دار الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977) 277.

[13] يراجع فصل “الواقع والخيال” في: منهج التربية الإسلامية، محمد قطب (القاهرة: دار الشروق، 1414ه – 1993م)، 148-150.

 رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، عبد الوهاب المسيري (القاهرة: مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2000).[14]

 البهيّ الخولي، تذكرة الدعاة، 16.[15]

[16] محمد قطب، منهج الفن الإسلامي (القاهرة: دار الشروق، 1403ه – 1983م)، 143-144. وله كلام مماثل في موضع آخر مفاده أن إثارة الوجدان وإزالة التبلّد الذي يقع في حسّ الإنسان وسيلة من وسائل طريقة القرآن في هداية النفس البشرية. يراجع فصل “طريقة القرآن في هداية النفس البشرية وردّها عن شتى الضلالات” وفصل “القرآن والوجدان” في: ركائز الإيمان (القاهرة: دار الشروق، 1422ه – 2001م)، 21-23.

[17] سيد قطب، خصائص التصور الإسلامي، 147-148.

[18] عبد الحميد إبراهيم، الوسطية العربية، 47-48.

النسخ في القرآن وفلسفة الإصلاح

النسخ في معناه العام هو أن تنزل آية من القرآن ثم تستبدل آية أخرى، ويكون استبدالها إما استبدالًا كُليًّا أو جزئيًا، ويتضمن هذا الاستبدال -على الأغلب- رفعًا لحكمٍ شرعيٍّ سابق، بحكمٍ شرعيٍّ مُتأخرٍ عنه في زمن نزول الوحي.

وقد ذُكِر النسخ في القرآن الكريم في سورة البقرة، في قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 106- 107] وفي الآيات إشارة لطيفة إلى أن منزل القرآن هو خالق الكون، وكما أن الإله الخالق للكون هو المدبر الأول فيه ويتصرف فيه كيف يشاء، فهو أيضًا متصرّف في نزول كتابه كيف يشاء، من ترتيب النزول وموعد النزول ونسخ الآيات ببعضها بعضًا.

استيضاح لمفهوم النسخ

ربما يتساءل أكثرنا، ما المقصود بالنسخ وكيف يقع؟

يقول الإمام ابن كثير في تفسير الآية آنفة الذكر: “وذلك أن يتحول الحلال حرامًا، والحرام حلالًا، والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، فأما الأخبار فلا يكون منها ناسخ ومنسوخ” [مختصر تفسير ابن كثير]

ومن هنا نستشفّ أن النسخ يقع في الأحكام؛ فهو تبديل في التشريع، إلا أنه لا يقع في الأخبار، وذلك -حاشا لله- يعني أن القائل غير متأكد من مقالته فغيّرها، أو أنّه شاكٌّ فيما يقول، أو أنه خاف من قوله فغيّره، وكل تلك الاحتمالات تنبع من الخوف والتردد ومحض النقص والنقض، وربنا سبحانه وتعالى منزه عن كل هذا بكمال علمه وحكمته.

وفي القرآن أمثلة كثيرة من نسخ الأحكام، سواء في فرض الفرائض أو في طلب اجتناب النواهي، ومنها على سبيل المثال، فرضية الصيام، حيث كان ثلاثة أيام من كل شهر فقط في أول الأمر، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ثم نزلت الآية التي تحدد مدة الصيام وشهره في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وهكذا غُيِّر الحكم في الصوم من أيام قليلة شهريًّا إلى شهر رمضان كاملًا.

وجاء تحريم الخمر بتدرُّجٍ بدءًا من قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وصولاً إلى التحريم النهائي في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وجاء تحريم الربا تدرُّجًا كذلك، بدءًا قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] لذمّ الربا ومدح الزكاة، ثم منع الربا وحرّمه قطعيًّا في آيات سورة البقرة: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وهكذا.

 ما وراء النسخ

قد يسأل سائل: لو كان الحكم الشرعي الأول مختصًّا بمرحلة زمنية معنية في عصر نزول الوحي، ثم حصل نسخٌ ما، بحيث لن تعمل الأمة الإسلامية إلى يوم القيامة بالحكم السابق اكتفاءً بنص الحكم اللاحق، فلم لا تحذف تلك الآيات من القرآن، بل إن معظم الآيات المنسوخة يبقى المسلمون يرددونها في تلاوتهم أبد الدهر.

يقول الأستاذ فريد الأنصاري في كتابه (مجالس القرآن): “إن هذه الآيات المنسوخة حكمًا، الثابتة تلاوة، علاوة على فائدتها التعبدية من ثبوت أجر القارئ لكتاب الله، هي علامات ظاهرة جعلها الله في كتابه لفائدة التدبر والتبصر، ومعرفة كيف كانت مسيرة الوحي في بناء الأمة الإسلامية تربية وتزكية وتشريعًا. حتى يستفيد الداعية الحكيم قواعد تجديد الدين وأسرار الصناعة في إعادة بناء صرح الأمة، ومعرفة خطوات ذلك خطوة خطوة، من النفس إلى المجتمع، ومن الفرد إلى الجماعة، ومن الشتات إلى الوحدة. إنها معالم لمنهج إعادة البناء والتركيب للمحرك الإيماني الذي به تستأنف الأمة حياتها الشاهدة على الناس. ولذلك كان بقاؤها مرسومة في كتاب الله – رغم نسخ حكمها – كبقاء المفتاح على الأقفال ” [3/317]

ولعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا: إن السيرة النبوية ليست مجرد تدوين تاريخي جاف لحقبة من الزمن، بل إننا نرى في السيرة فقهًا في أسرار الإصلاح وكيفية احتواء النفوس المعجونة بالشهوات وإقناع العقول المتتبعة للشبهات، وإن نجاح سيدنا رسول الله ﷺ في تحويل مجموعات من أعراب بدو الصحراء ممن يعبدون الأصنام إلى قدوة دينية أبد الدهر ليس مجرد نجاح يُبهر كل منصف مدرك لحجم التحديات والصعوبات التي كانت في طريقه، وإنما شيء أعظم من ذلك وأكبر.

لقد كانت السيرة النبوية بكل ما فيها عبارة عن وصفة إصلاح لكل مصلح شرع في تغيير الناس والتأثير فيهم؛ وإن نجاح المصلح في انتشال عبَدَة الأصنام من ظلمات جاهليتهم إلى نور الإسلام ونقاءه يعني أن أي مصلح بعد سيدنا محمد ﷺ ستكون مهمته أسهل من مَهَمَّته، لأن حجم التحدّيات -بلا شك- ستكون أهون وأسهل.

وهكذا، فإن السيرة يجب أن تتحول في عين المصلح من أحداث تاريخية إلى دورس وعبر تستخلص من بين السطور، ترسم ملامح الطريق، وتوضح سبل الإصلاح، فلن يفهم المرء سبل إصلاح النفس البشرية تلك إلا إذا تأمل كيف تعامل معها الوحي الإلهي بالتدرج، إذ إن الوحي نزل ممن خلق النفس وألهمها فجورها وتقواها!

فريد الأنصاري

 

فلسفة الإصلاح في الإسلام

إن الوقوف عند ظاهر السيرة وحدود النصوص، مع الغفلة عن الرحلة التشريعية فيها وحِكَم الله في تنزيل القرآن منجّمًا ومفرَّقًا على مدار ثلاث وعشرين عامًا وتدرّج أحكامه، ينتج لنا نماذج من البشر يعانون من (تدين المراهقين)، وهي حالة من الحماسة الدينية الزائدة والزائفة في وقت واحد.

هذه الفئة من البشر كثيرو التصادم مع الواقع، لأنهم أبعد الناس عن فهم الحاضر واستخلاص العبرة من الماضي، فهم يحلمون بوجود تغيير لحظي في المجتمع حولهم دون امتلاكهم الحِلم والاصطبار على الرحلة الطويلة من مسايسة شرور النفوس وحظوظها، بل ويغفلون تمامًا عن مبدأ (تدرج التشريع) في الإسلام.

إن المطلوب ليس تطبيق بعض الشريعة دون بعض، أو في تدرج بعض أحكامها في تحليل الحرام حينًا من الدهر، لأن الشريعة قد اكتملت ووجب تطبيقها بشكل كامل بصريح القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 208]، فإن تدرُّج التشريع في حالة الأزمان المعاصرة، من المحال لأنه غير مبرر شرعًا، وإنما المطلوب هنا هو تدرّج الإصلاح!

إن النصيحة الدينية في الكثير من الأحيان لا يمكن أن تكون معممة، والخطاب الديني الذي يناسب شخصًا قد لا يناسب آخر، فإن لبعض الناس أهواء أرهقت قلوبهم فلا يكادون يخرجون من وحول الشهوات، وإن توقُّعَ تغيُّر حالهم في زمن قياسي أشبه بتوقع تعافي مدمن مخدرات في بضعة أيام.

ولو أننا أمعنا النظر في نبع التوقعات اللاواقعية والجهل بطبيعة العملية الإصلاحية فسنراها على الأغلب قد جاءت ممن غفل عن مبدأ النسخ القرآني وتدرج التشريع، وإن المصلح الحق هو من يقف عند النفس العليلة فيحاول أن يخرج ما فيها من خير حتى يغلب خيرها شرها، ولو التبست عليه الطرق، فها هو القرآن به من الآيات التي نتلوها ولا نعمل بها حُكمًا، ولكن في وجودها رغم تعطيل حُكمهًا حِكمًا كثيرة. فيكفي أن يمر قارئ القرآن على آيات تتلى ولا يعمل بها حتى يتذكر في كل مرة كيف كانت النفوس العليلة تشفى بجرعات متفاوتة من العلاج.

إن النفوس التي خرجت من الجاهلية لم تكن لتطيق العلاج الثقيل مهما كان نافعًا لأنها غير مؤهلة لاستيعابه، وإن الشريعة لم تُنزَل كاملة إلا بعد سنوات من حمل الناس عليها رويدًا رويدًا، وإن الإصلاح الذي ينبع من رؤية لاواقعية سيفشل لا محالة لأنه ينبع من سذاجة، والإصلاح الذي ينبع من واقعية النظر ومبدأ التدرّج هو إصلاح متين وأقرب للثبات من الانتكاس، لأنه ينبع من طريقة القرآن التدريجيّة في الإصلاح، ويتعامل مع نفوس البشر كما تعامل معها من يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.

وقعت بنا كارثة.. كيف نتعامل مع الابتلاء؟

لا يمكن أن يمر على الإنسان حياة كاملة دون عذابات متنوّعة يعايشها ويعاينها كل فرد منا، مادية كانت أو معنوية، بل إن الإنسان ذاته لم يخرج من الجنة إلا ليوضع في الابتلاء والامتحان، أيتعبّد ربّه بالصبر والخضوع، أم يطيش عقله وتلتهب عاطفته بأسئلة الشك والتمرّد!

أرأيت صنوف الابتلاء وأنواعها، بما جدَّ منها وقدم، فإنها -على ما فيها من اختلافات ظاهرة- قديمةٌ قِدَم الحياة البشرية، ووجودها مرتبط بوجود الإنسان، فهي تتوالى على الإنسان منذ خلق اللهُ  تعالى أبانا الأول، فقال لنا محدّثًا مبيّنًا: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف: 27]، ثم تتابعت الابتلاءات في نسله من بعده، فأصابت الأنبياء والصالحين وأممًا بأكملها، فقال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}[الأنعام: 42-44].

بحثًا عن الابتلاء.. سياقاته وأسبابه

يتعدد الابتلاء في أنواع وأشكال مختلفة، وقد يكون ما في إنسان من ابتلاء غايةً عند آخرين، فيطمح الفقير لقصير منيف يختبر الله صاحبه به، ويطمح العقيم لولد يراه عند أخيه وقد ابتلاه الله به.

ولعلنا رأينا جميعًا أن القرار في المنزل أثناء انتشار وباء كورونا يحتوي أمانًا نسبيًّا من وصول العدوى، لكن هذا الأمان يتحوّل إلى خوف إذا ما جاءت الزلزلة واهتزّت الأرض، فيغدو حينها ساكن خيمة التهجير في أمان أكثرَ مما يسكن في قصر منيف..

إن تعدّد أنواع الابتلاء في كل شيء بين أيدينا -المادّي والروحي والنفسي والجسديّ- يبصّرنا بعِظَم الامتحان وضرورة إقامة حقّ الله بعبادته، والتسليم له مع الصبر والرضا، فلا يركن الإنسان إلى قلق اليأس الذي يدفع الإنسان إلى القنوط والحيرة واليأس، فالباري يقول: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وهذا -بطبيعة الحال- بعيد عن قلق الضعيف الذي يرى في ضعفه قوّة لإيمانه، فلا يغيب عن طرق أبواب المولى طرفة عين، بل يستمسك بضعفه عند الخالق ليمدّه بالصبر والقوة.

ولنرصد بعضًا من الآيات القرآنية التي تشير إلى الابتلاء صراحة في متنها، سنجد أنها تزيد عن ثلاثين آية عدا الآيات التي فيها ما يرادفها من الفتنة والاختبار والامتحان.

تشير هذه الآيات إلى سياقات متعددة للابتلاء، بين الشر والخير وكلاهما معًا، وينصّ كلٌّ منها على دلالة مباشرة، فما هي تلك الآيات، وما دلالاتها؟

نبتدئ من قوله تعالى: {وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، حيث وردت في سياق الشر، وتشير دلالتها إلى اختبار مقدار الصبر والأناة على المصيبة، وفي قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] فقد وردت في سياق الخير، وتشير دلالتها إلى اختبار التكليف، أما قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] فقد وردت في سياق الشر، وتشير دلالتها المباشرة إلى اختبار الصبر على المصائب الدنيوية، أما في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7] فكانت في سياق الخير والشر معًا، وأشارت دلالتها إلى اختبار العمل بين الصلاح والفساد، والإحسان والإساءة، وقوله تعالى {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] فكانت كذلك في سياق الخير والشر، ودالّة على عِظم ما نراه في حياتنا من خيرات ومسرّات ومكاره وشرور، وأننا نُختَبَر بها كلّها بموقفنا منها وتصرفنا إزاءها.

ولعل أعظم ما في هذه الابتلاءات المشار إليها في القرآن ما عُبّر عنه بالزلزلة فقد قال تعالى -حكايةً عن حال المسلمين- {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] فكان السياق سياق شر، والاختبار دائرًا حول الصبر والثبات.

وبالنظر إلى جميع ما يمكن رصده من سياقات الابتلاء كافة، فإننا نراها تكاد لا تتجاوز هذه القيمة العظمى -أي الصبر والثبات- وعليه مدار السياقات والدلالات المباشرة التي يفهمها أي إنسان ذي لغة عربية سليمة، مثل دلالة اختبار الثبات على الإيمان من عدمه، واختبار الأخلاق والضمائر ما فيها من خير أو شر، واختبار الصبر على الفقد، وكيفية اختيار طرق الخير وأضدادها، واختبار صدق الإيمان وغير ذلك.

إن غاية أنواع الابتلاء كلها -سواء كانت لغاية الإنعام أو الإضرار- بثّ العبرة واقتناص الموعظة {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، والإنسان بطبعه يحتاج إلى تثبيت وتوفيق من الله ورضًا يحكم قلبه في كلا الابتلاءين.

إنه شرٌّ مجّاني.. هكذا يقول المشككون!

تشير موسوعة ستانفورد للفلسفة إلى وجود مفهومين -على الأقل- عن الشر، أحدهما عام موسّع، وآخر خاص مضيَّق، ومن العجيب أن المفهوم العام يستوعب أي تصرّف سيئ، أو أي فعل خاطئ أو أي عيب في الشخصية أو التكوين أو الخِلقة أو الكوارث، فربما يتساوى -في الوصف على الأقل- وجع الأسنان مع كارثة كبرى[1].

قُسّم الشر بمعناه الواسع في مقال الموسوعة إلى فئتين: الشر الطبيعي والشر الأخلاقي، ومن اللافت للنظر أن الشر الطبيعي هو ما يطلق عليه الشر المجّاني لدى منتقدي الأديان من رؤوس الإلحاد -كريتشارد دوكنز-، حيث لا نوايا عاقلة خلفها، مثل الإعصارات أو وجع الأسنان كأمثلة على الشرور الطبيعية. في المقابل، تتمخض الشرور الأخلاقية عن نوايا أو إهمال الفاعلين الأخلاقيين؛ كالقتل والكذب كأمثلة على الشرور الأخلاقية[2].

يستدل هؤلاء القوم على أن وجود الشر المجاني يعني عدم وجود إله للكون، لأن الإله لا يفعل الشر على زعمهم -وقد أشرنا لتفكيك هذه الشبهة في مقال عن مشكلة الشر سابقًا– وبما أن مفهوم الشر الضيق ينطوي على إدانة أخلاقية، فإنه يُنسَب فقط للفاعلين الأخلاقيين من البشر وأفعالهم المباشرة[3].

أقتبس من كتاب د. سامي عامري [مشكلة الشر] النص الآتي: “يقوم المشككون في مسلك ساذج للتهييج العاطفي، بتجميع جميع الشرور في العالم باعتبارها كتلة شرّ واحدة حتى إن عددها يبدو للوهلة الأولى مفزعًا؛ للإيحاء أنّ الشرور في العالم بالغة الكثرة إلى درجة بالغة المعاندة لدعوى الحكمة والرحمة في الخلق.. وهذا منطق متكلف؛ لأن الصواب أن نتحدث عن الشر الذي يصيب الفرد الواحد باعتباره محنة للإنسان كفرد من جنس، أما جمع الشرور جميعًا فإنّه يخرج الدعوى من المعقولية إلى المبالغة والعاطفية. وكما قيل فإنّ كلّ شرور العالم لا تزيد على ما يعانيه كائن واحد يعاني أعظم البلاء؛ فإنه لا يوجد فرد يعاني كل شرور الدنيا. وإذا صحت الحكمة في معاناة أشدّ الناس بلاء، صحت في غيره من باب أولى. كما أن هذا المنطق يعتبر خاطئًا حسابيًا؛ لأنّ الأصل في هذا الكون الخير والانتظام لا الشر والفوضى؛ فإنّ عدد الأصحاء الذين لا يعانون آلاما تتجاوز المعدل المتوسط لتحمّل الأذى، أعظم بكثير ممن يعانون الأمراض التي تحرم الإنسان لذة الحياة والكوارث الطبيعية الكبيرة استثناء في الوجود لا أصل.. ولو أننا حسبنا الأمر بالنسب المئوية، فلا ريب أن نصيب الأذى سيكون بالغ الضعف. ثم إن أصل دعوى الشرّ المجاني هو النظر إلى كل شر كوحدة منفصلة، في حين أنه لو نظر إلى هذه الشرور كأجزاء من صورة العالم في كليته، فستتضح حكم لا تدرك إذا عزلنا كلّ جزء على حدة. [مشكلة الشر، ص: 150]

عند التفكير في “مشكلة الشر” كما يعرضها الملحدون والمشكّكون، نرى أن مكمن الخلل الأساسي قائم على تصوّر مشوّه للإله والكون، فهم يتصورون الإله بناء على خليط متراكبٍ من مفاهيم رحمة مبادئ حقوق الإنسان، وتقبّل الآخر، والآلهة الأسطورية التي تفنى في سبيل إرضاء عابديها.. فهم يريدون إلهًا حسب الطلب، يخدم الجماهير، ويغير رأيه مع تغيّر أمزجتها، وهكذا يمضي الزمان والإله يخدم رغبات الأسياد التي خلقها، وهكذا فإن الملحدين لا يصورون لنا إلهًا حقيقيًّا، وإنما إلهًا استقال من كونه واجب وجود إلى موجودٍ يسعى للمساواة مع الإنسان.

فما بالك بزلزلة الساعة؟

لا يملك المؤمن بالله إلا أن يسلّم بحكمته وعدله، ولا يقف أمام الاختبار إلا موقف الضعيف اللاجئ إلى ربه، فيرضي قلبه بأن ما جرى إنما جرى لأمر يريده الله، وأنه إن صبر فسيكون له الجزاء العظيم، اختبارًا لصبره، أو رفعًا لدرجاته، أو إعدادًا له لأمر أعظم، إيقانًا بالعدالة الإلهية الكاملة، فلا يكون هذا الكون بكل خيره وشروره إلا اختبارًا يبحث عن تجاوزه بما يرضي الله عنه فيه.

{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].

إن الإلف حجابٌ، فالإنسان قد لا يتوقف متأملاً الأشياء التي ألِفها؛ حتى يحدث انقلاب في معهود الأشياء، حينئذ يشعر الإنسان بحقيقة نعم الله، ولنأخذ كارثة زلزال تركيا وسورية على سبيل المثال، فقد جرى في أقل من دقيقتين ما يشيب له رأس الوليد.. ومبعث ذلك أن الناس لم يشعروا بنعمة قرار الأرض إلا حينما مادت من تحتهم وأسقطت بيوتهم وآمالهم، فشعر الجميع بضَعفهم الشديد أمام مخلوق من مخلوقات الله..

ألا يستوجب هذا أن يقف الإنسان لأجله معتبرًا لنفسه فيحثّها على الفوز في هذا الامتحان، بالصدقة والتطوّع والتعبّد والتعلّم وكل ما يمكن أن يكون سببًا في نهضة إنسان أو مجتمع أو أمة..

ما بال الإنسان يفزع لزلزلة لحظات، ما الذي سيقاسيه حين تُضرب الأرض من شرقها إلى غربها فتخرج أثقالها إيذانًا بساعة الحشر ووضع الموازين للقسط.

{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 1 – 8].


[1] ينظر: مفهوم الشر، موسوعة ستانفورد للترجمة، رابط المادة الأصلية: https://stanford.io/3xnOuVu ، رابط المادة بالترجمة العربية على موقع مجلة حكمة: https://bit.ly/3YUHlaV

[2] المرجع السابق ذاته.

[3] المرجع السابق ذاته.

الهدي النبوي في مقاومة تهديدات الهوية الإسلامية

في أوساط القرن الخامس الهجري، ألقى أبو حامد الغزالي ملاحظة مهمة بعد تعامله مع شريحة من المنبهرين بالفلسفة اليونانيّة في عصره، أدى بهم هذا الانبهار إلى مناقضة الشريعة، ولاحظ أن هذه الشريحة غير مدركة لحقائق الأفكار الفلسفية، وإنما غاية الأمر أنهم مندهشون من أسماء الفلاسفة الرنانة، فيتلبّسون بهذه الأفكار لكي يكتسبوا هُوية مستمدة منهم، فيقول في كتابه [تهافت الفلاسفة، 41]: “فإني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميّز عن الأتراب، قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات، وإنَّما مصدر كفرهم سماعهم أسماء هائلة، كسقراط وبقراط، وأفلاطون، وأرسطوطاليس، وإطناب طوائف من متبعيهم في وصف عقولهم ودقة علومهم، وأنهم مع رزانة عقلهم منكرون للشرائع، فلمّا قرع ذلك سمعهم تجمّلوا باعتقاد الكفر، فأية رتبة في عالم الله أخس من رتبة من يتجمّل بترك الحق تقليدًا”

وفي القرن السابع/ الثامن الهجري قدَّم ابن تيميّة ملاحظات كثيرة حول ظاهرة الانبهار بالفلسفة اليونانيّة، وتأويل نصوص العقيدة لتوافقها، ويشير في ثنايا دراسته إلى الأسلوب غير النزيه الذي تسبب في تصدعات عقدية في الداخل المسلم: “فيأخذ هؤلاء العبارات الإسلاميّة ويودعونها معاني هؤلاء، وتلك العبارات مقبولة عند المسلمين، فإذا سمعوها قبلوها، ثم إذا عرفوا المعاني التي قصدها هؤلاء ضل بها من لم يكن يعرف حقيقة دين الإسلام”، [مجموع الفتاوى، 17/333]

وفي القرن الثامن/ التاسع دوّن ابن خلدون ملاحظات حول تغالب الثقافات، من مستوى التصرفات والمواقف الفردية، إلى مستوى الروح المجتمعية العامة، وعقد لذلك فصلاً خاصًا كرسه لتحليل هذه الظاهرة، قال فيه:
“الفصل الثالث والعشرون: في أن المغلوب مولعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب؛ في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. والسبب في ذلك: أن النفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلبٍ طبيعي، إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك، واتصل لها اعتقادًا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، حتى أنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها؛ فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير”، [المقدمة، 1/283].

واستمرت عملية الرصد لهذهِ التيارات المنكسرة لسلطة الثقافة الغربية، ويمكن لنا أن ننتقي نموذجًا متأخرًا في السبعينيات الميلادية، وهو القانوني الدكتور فتحي عبد الكريم حيث يقول: “دفعهم حماستهم للإسلام إلى أن يثبتوا فيه، بغير دراسة معمقة، كل ما يرونه قد راج في أسواق العالم المتحضر؛ متوهمين أن في ذلك خدمة جليلة للإسلام، فكأن الإسلام في أعينهم طفلٌ يتيم ذليل لا يعيش إلا إذا جعل تحت رعاية رجل ذي قوة ونفوذ، أو هم يخافون أن لا تكون لهم عزة من حيث كونهم مسلمين؛ إذا أخرجوا للناس مبادئ من دينهم مثل مبادئ النظم الاجتماعية السائدة في عصرهم، فإذا راجت الديمقراطية كان الإسلام ديمقراطيًا، وإذا راجت الاشتراكية كان الإسلام اشتراكيًا، وإذا راجت نظرية سيادة الأمة كانت هذه النظرية من نظريات الإسلام”، [الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي، 81]

التعامل النبوي مع الحضارات المختلفة

بُعث النبي محمَّد ﷺ في الناس وفي عصره أربع إمبراطوريات اقتسمت العالم، الرومانيّة والفارسيّة والهنديّة والصينيّة، فالأولى امتدت لأوروبا، والثانية حاضرة في الشرق الأدنى، والأخريان شبه معزولتين، وكان المخزون الحضاري متراكمًا من الحضارة المصريّة والإغريقيّة.

وكان العالم قُبيل مبعثه ﷺ حافلاً بالمعارف والعلوم في دقائق المعقولات، كما أرخ الأمريكي ديفيد ليندبرغ ذلك في موسوعة the cambridge history of science، فعُرف قانون الهُوية والتناقض والثالث المرفوع، ونظرية الدولة، وتقسيم أشكال إسناد السلطة، ودقائق الهندسة، وتعيين بعض القيم الرياضية، وفنون العمارة، والمسرح والشعر والأدب، وأصول الطب، وقياس المسافات الفلكيّة وتحديد مواعيد الكسوف واختراع البوصلة، والرافعات، وغيرها كثير.

ورغم ذلك كلّه، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر نبيه محمَّد عن القيمة المنحطَّة لكل تلك المدنيات، ووصفها القرآن بالضلال بكل ما تضمنته قوتهم وعلومهم وفنونهم ومدنيتهم، في قوله سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164]

وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أنه يبغضهم ويمقتهم ويكرههم جل جلاله، سواء كانوا أدباء العرب أم فلاسفة أثينا، أم أطباء الصين، أم حكماء الهند، أم غيرهم، كما رُوي عن رسول الله أنه قال مرَّةً في خطبته: (وإنَّ اللَّهَ نَظَرَ إلى أَهْلِ الأرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلَّا بَقَايَا مِن أَهْلِ الكِتَابِ) [صحيح مسلم] كل ما كان متوفرًا آنذاك من العلوم المدنية والفلاسفة والأدباء؛ بلا وزن في ميزان الله سواءٌ في ذلك عربهم وعجمهم، ولم يستثنِ -سبحانه- إلا طائفة قليلة من الناس هم أهل الكِتاب (اليهود والنصارى) بسبب ما كان لديهم من بقايا النبوات.

وحكم الله على البشرية كافّة أنها في الظلمات قبل البعثة، وبيّن سبحانه أن التنوير الحقيقي الذي تحتاجه هو نور الوحي، وسيبقى من أعرض عن هذا الوحي مرتكسًا في الظلام والضلال مهما أُوتي من العلوم، وهذا الانتقاص والاستعلاء الشرعي على المنجزات الحضاريّة والفنيّة ليس ذمًّا لتلك المنجزات لذاتها، وإنَّما لأن أصحابها لم يتزكوا ويتنوروا بالوحي والعلوم الإلهية.

والمنهج الذي يُحبَّه الله ويريده من المسلم إزاء الحضارات الأخرى هو الانتفاع بما لديها ممَّا يعزز الغاية، كما انتفع النبي وأصحابه في الخندق، ومشروعية الغيلة، والتبادل التجاري، وافتدى الأسير الكافر بتعليم المسلمين، دون أن يقع المرء في تعظيمها والانبهار بها مع ضلالها عن الإسلام، بل يعي تخلفها وانحطاطها وظلاميتها، كما وعى ذلك النبي وأصحابه، وحاجتها للتنوير الحقيقي الذي لا يكون إلا بالإسلام.

ديفيد ليندبرغ

البناء النبوي للهوية الإسلاميّة في نفوس الأمة

حرص النبي ﷺ على تميُّز المسلمين عن غيرهم حتَّى في المظهر العامّ، سواءٌ على مستوى الفرد أو المجتمع ككُلٍّ، إذ وردت أدلَّة كثيرة حول مسألة النهي عن التشبُّه بالكُفَّار ومسايرتهم، فهذا التشبُّه الظَّاهري له أثَرُه الذي قد يمتدُّ إلى موافقتهم فيما هو أشدُّ من اعتقاداتٍ وتشريعاتٍ، لأجل ذلك، أكثر النبي تنبيه أصحابه إلى التنوير الحقيقي وهو نور الوحي، وربَّى أصحابه على أن تلك المجتمعات المتمدنة المحيطة بهم يحتاجونكم أضعاف ما تحتاجونهم، فهم إنما يملكون الوسائل، وأنتم تعرفون الغايات، وشتّان بين منزلة الغاية والوسيلة.

وكان ﷺ يستثمر الأحداث والمواقف ليوضّح ويُبيِّن ويكشف عن هويّة الإسلام الخالصة المتفردة، التي لا يمكن لها أن تُستَمَد من حضارة أخرى، أو تستعير منها المنطلقات والغايات.

وكان أظهر ما ثبّته الني في الصدور: متاعيّة الدُّنيا ومركزيّة الآخرة، فحين بكى عمر من بساطة بيت رسول الله بالنسبة إلى قصور الحضارات الأخرى، ربَّاه النبي بحزم على هذا المعنى، حيث رُوي عن عمر بن الخطاب أنه قال: (دخلتُ على رسولِ اللهِ ﷺ وهو على حصيرٍ قال: فجلستُ، فإذا عليه إزارُه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِه، فابتدرت عيناي، فقال: ما يُبكيك يا بنَ الخطَّابِ؟ فقال: يا نبيَّ اللهِ وما لي لا أبكي! وهذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِك وهذه خِزانتُك لا أرَى فيها إلَّا ما أرَى، وذاك كسرَى وقيصرُ في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت نبيُّ اللهِ وصفوتُه وهذه خِزانتُك. قال: يا بنَ الخطَّابِ أما ترضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدُّنيا!). [صحيح مسلم]

هذا الحوار العظيم بين النبي ﷺ وعمر من أدق المشاهد على ثبات مركزيّة الآخرة في الهويّة الإسلاميّة، فحين عبَّر عمر عن تألمه وهو يقارن المظاهر الدنيويّة في الحضارة الفارسيّة والروميّة بمحدودية المجتمع الإسلامي، أعاد ﷺ تذكيره بمركزية الآخرة، فقال له: (أما ترضى أن تكون لهم الدُّنيا ولنا الآخرة)، وفي رواية أخرى في الصحيحين أن النبي قال له: (أفي شك أنت يا بن الخطاب، أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا).

وحين أُهدي إلى النبي هدية أعاد ذات الدرس عليهم، فعن البراء بن عازب، قال: أُهديَ إلى النبي ﷺ سَرَقةٌ من حرير، فجعلَ النَّاس يتداولونها بينهم ويعجبُونَ من حُسنها ولينها، فقال رسول اللَّه ﷺ: أتعجَبُونَ منها؟ قالوا: نعم يا رسول اللَّه، قال: والذي نفسِي بيده، لمناديل سعد في الجنَّة خيرٌ منها. [صحيح البخاري]

واشتدَّ ﷺ في مخالفة الكفار والمشركين في كل مجال براءةً منهم، وإبرازًا للهويّة الإسلاميّة المتفردة، ومثال ذلك أنَّ رسول الله لمَّا خرج إلى خيبر، مرَّ بشجرة للمشركين يُقالُ لها: ذاتُ أَنْواطٍ، يُعلِّقونَ عليها أسلحتَهم، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي: سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].

وكذلك لمّا اهتم النبي بشأن الصلاة، فأخذ يشاور أصحابه في كيفيّة إعلام الناس بدخول وقت الصلاة، وقد كان الناس في أولِ أمر الصلاة يتَّجهون إلى المسجد إذا جاء وقتها بلا أَذان ولا نداء، فقيل له انصُب رايةً عند حضور الصلاةِ فإذا رأوها آذنَ بعضُهم بعضًا، فلم يعجبْه ذلك، وذكروا له القُنْعَ (يعنى البوقَ)، فلم يعجبه وقال هو من أمرِ اليهودِ، فذُكر له الناقوسُ فقال هو من أمرِ النصارى. [فتح الباري لابن حجر، إسناده صحيح]

يقول ابن تيميّة في كتابه [اقتضاء الطريق المستقيم،1/356]: “هذا يقتضي كراهة هذا النَّوع من الأصوات مطلَقًا في غير الصَّلاة أيضًا؛ لأنَّه من أمر اليهود والنَّصارى؛ فإنَّ النَّصارى يضربون بالنَّواقيس في أوقات متعدّدة، غير أوقات عباداتهم، وإنَّما شعار الدِّين الحنيف الأذانُ المتضمّن للإعلان بذكر الله، الذي به تُفتَح أبواب السَّماء، فتهرُب الشَّياطين، وتَنزِل الرَّحمة”.

وأخبر النبي أصحابه عن المكانة جوهريّة المفهوم الحبِّ بالله والبغض فيه والموالاة والمعاداة لأجله، فعن عبد الله ابن عباس أنه ﷺ قال: (أوثقُ عُرَى الإيمانِ: الموالاةُ في الله، والمُعاداةُ في الله، والحبُّ في الله، والبُغضُ في اللهِ عزَّ وجلَّ) [صحيح الجامع]، فشعور المسلم وموقفه من الآخر مبنيٌ على الهويّة الدينيّة، لا يتجاوزها، وذلك يناقض الخِطاب الإنساني الغربي، الذي يدعو إلى رفع قيمة الإنسان وحبِّه ونصرته بصرف النظر عن دينه أو ميوله وإلقاء كامل المعجم المفاهيمي للبراء في ذمة التاريخ، وهذا تناقض داخلي؛ فإنَّ أي تبنٍّ للحب في الله يلزم منه البغض بالله، ولا يمكن فصلهما.

وقد شرح هذا التلازم بينهما أبو حامد الغزالي بعبارة بديعة، حيث يقول: “اعلم: أن كل من يحب في الله، لا بدَّ أن يبغض في الله؛ فإنك إن أحببت إنسانًا لأنه مطيع لله، فإن عصاه؛ فلا بدَّ أن تبغضه؛ لأنه عاص لله، ومن أحبب بسبب، فبالضرورة يبغض لضده، وهذان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر.” [إحياء علوم الدين: 2/253].

وبيَّن النبي لأصحابه ميزان الله المختلف حتمًا عن الموازين عند الناس في تقييم الأفراد والمجتمعات، وذلك لمّا “مرَّ رجلٌ من أغنياء المسلمين على رسول اللَّه، فقال لأصحابه: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريٌّ إن خَطبَ أن يُنكَح، وإن شَفعَ أن يُشفَّع، وإن قال أن يُستمَع، فسكت رسول الله، حتَّى مرَّ رجلٌ من فقراء المسلمين، فأعاد النبي على أصحابه السؤال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريٌّ إن خَطبَ أن لا يُنكحَ، وإن شَفعَ أن لا يُشفَّع، وإن قال أن لا يُسْتمَع، فقال رسول اللَّه: هذا خيرٌ من ملءِ الأرض مثل هذا.” [صحيح البخاري]
فكان معيار القياس الأول موازين الدُّنيا من الجاه والمال والسُّلطان، بينما الميزان عند الله فهو بقرب العبد إليه وبتقواه، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وإطلاقه ﷺ التفضيل على الغنيِّ المذكور لا يلزم منه تفضيل كلِّ فقير على كُلِّ غنيٍّ؛ فالمعيار في التفاضُلِ الدِّين والتقوى، وليس الغِنى والفَقرَ.

خُلُق نغرسه في قلوبنا

تشرَّب أصحاب النبي هذهِ المعاني حتَّى أصبحت جزءًا من كينونتهم الإنسانيّة، وارتسمت في قلوبهم وعقولهم هويّة واضحة مستمدة من المرجعية الإلهيّة، تُبيّن لهم حقيقة الأشياء، ومسمياتها التي تحتملها حقًا، تبيّن كذلك طبيعة الطريق، وغاية السعي، وجزاء الحركة، يتعرّف المسلم من خلالها إلى نواميس الكون، وسنن الحياة وطاقات الأرض، وفي الوقت ذاته يعيش موصول الروح بالله.

وأظهر الأمثلة على ذلك عبارة ربعي بن عامر (رسول جيش المسلمين) إلى رستم قائد الفرس، وهو يسأله ما الذي جاء بكم؟، فأجابه بكلمات قلائل تصوّر طبيعة هذهِ العقيدة، وطبيعة الحركة الإسلاميّة التي انبثقت منها، حيث قال: “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”

يُفسِّر المُفكَّر الجزائري مالك بن نبي هذهِ الحالة، في كتابه [دور المسلم/ 49]: “لماذا استطاع ذلك هؤلاء الأعراب الفقراء في عهد محمد ﷺ؟ لماذا قام أولئك الأعراب الفقراء الأميون بإنقاذ الإنسانية وشعروا أنهم جاؤوا من أجل إنقاذها، فقد كانوا يعلنون هذا في أقوالهم ومخاطبتهم للآخرين، سواء من أهل الفرس أو من أهل روما، كانوا يقولون لهم: لقد أتينا لننقذكم، إنهم لم يشعروا بـ “مركب النقص”، لماذا لم يشعروا بـ”مركب النقص”؟! لأن الإمكانيات الحضارية المتكدسة أمامهم في فارس أو في بيزنطة أو في روما لم تفرض عليهم النقص، وبعبارة أخرى لم تبهرهم”

الإسلام إذ يحررنا من المؤثرات الدنيوية القاهرة!

يستيقظ الشاب صباحًا فيمسك بهاتفه فما يلبس حتى يظهر له إعلان لمنتج ملابس كان قد تحدث مع أصحابه عنه أمس، فإذا نزل الشارع رأى لافتة تغريه بإحدى الوجبات الجديدة في المطعم المجاور له، ثم في طريقه للعمل يبصر “لوحةً ترويجية” لفتاة فاتنة على جدران إحدى المستشفيات تستعمل منتجًا طبِّيًّا معيَّنًا، حتى إذا رجع لمنزله وفتح التلفاز رأى خبرًا يتناول خسارة أحد رجال الأعمال لمليارات الدولارات من ثروته وآخر اشترى سيارة بكذا من نوع كذا، حتى إذا أراد الترفيه عن نفسه فتح اليوتيوب وشاهد أحد صانعي المحتوى وهو يطلب كميات كبيرة من الطعام ليقدّمها في مشهد عبثي وهكذا…

استعراض موجز جدا لما نشاهده خلال يومنا العادي من مؤثرات ومدخلات أنتجها الانفتاح العالمي، تتحكم ولو بشكل ما على قراراتنا وشهواتنا وأفكارنا، فهل هذا الانفتاح أمر جديد، وما رؤية الإسلام الشامل وتعامله مع هذا الانفتاح؟

خوف النبي ﷺ علينا

ركّز النبي ﷺ مع أصحابه في بداية الدعوة على السرية؛ مراعاةً لحال الرسالة ومحافظةً على عدد الحاملين لها وتحقيقًا للبداية الطبيعية لأي دعوة جديدة، فلما هاجر النبي ﷺ وبدأ التماس مع مجتمعات جديدة وثقافات مختلفة وعادات متباينة ومع الفتوحات المجيدة ورؤية أصحابها لنعم الله على أصحاب هذه البلاد، بدأ المربي ﷺ في التعامل مع هذا الانفتاح وتصحيح المفاهيم فقال عندما اجتمع الأنصار لما علموا بأن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قادم من البحرين بمال: (فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ). [البخاري، 4015] فانظر أين وقع خوف النبي ﷺ! لا من الفقر كما هو الحال المشهور وإنما خاف عليهم من فتنة الدنيا والتنافس عليها، “فإن الوالد المشفق إذا حضره الموت كان اهتمامه بحال ولده في المال فأعلَمَ -ﷺ- أصحابه أنه وإن كان لهم في الشفقة عليهم كالأب لكن حاله في أمر المال يخالف حال الوالد وأنه لا يخشى عليهم الفقر كما يخشاه الوالد، ولكن يخشى عليهم من الغنى الذي هو مطلوب الوالد لولده”. [1]

ومن هذا الباب أيضًا تحاوره مع أصحابه فيما سيكون تصرفهم عند انفتاح الدنيا عليهم، فقال لهم: (إذا فُتِحَتْ علَيْكُم فارِسُ والرُّومُ، أيُّ قَوْمٍ أنتُمْ؟ قالَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كما أمَرَنا اللَّهُ، قالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: أوْ غيرَ ذلكَ، تَتَنافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدابَرُونَ، ثُمَّ تَتَباغَضُونَ، أوْ نَحْوَ ذلكَ، ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ في مَساكِينِ المُهاجِرِينَ، فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ علَى رِقابِ بَعْضٍ). [صحيح مسلم، 2962]

فهنا تبصير بأن انفتاح الدنيا فيه فتنة كبيرة وأن بدايتها يكون بالتنافس عليها وينتهي بالفرقة والتباغض، قارن بين هذا وبين النظام العالمي الآن الذي يعلي من المنافسة مطلقا دون حدود وما يفتح ذلك من الفرقة بين المسلمين، ومنه أيضًا قوله: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها). [صحيح مسلم، 1052] “وزهرة الدنيا يعني: بهجة الدنيا، وقيل لها زهرة؛ لأنها كالزهرة تستهوي من نظر إليها، وتجذبه وتعجبه، وهي كالزهرة أيضاً في سرعة ذبولها وتحولها وتغيرها، ولكنّ الكثيرين ينظرون إلى ما فيها من الحسن والجمال والبهجة فتأسرهم أسراً وتشدهم إليها شدًّا فيقعون في وثاقها، ثم بعد ذلك يغفلون ويلهيهم ذلك عن ذكر الله وطاعته والتقرب إليه. وإذا حصل هذا التنافس حصل التسارع إلى عرضها الزائل، وحصل بسبب ذلك أيضاً قسوة القلوب، وما يضاف إلى ذلك من الوحشة في قلوب أهل الإيمان والعداوة والبغضاء”. [2]

الاستمتاع بالدنيا وحال التشبه

عدّ الإمام ابن تيمية الاستمتاع بالشهوات دون ضابط من جملة التشبه بالكفار فألحقه بقول الحق {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ۚ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69]، فقال: “وأما قوله {َفاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} ففي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الحسن في قوله {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} قال: بدينهم ويروى عن ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه. وروي عن ابن عباس: بنصيبهم من الآخرة في الدنيا. وقال آخرون: بنصيبهم من الدنيا” [3]، ثم بين وجه المشابهة بين الآية واتباع الشهوات: “فقوله سبحانه {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة. ثم قوله {فَاسْتَمْتَعْتُم} و {وَخُضْتُمْ} خبر عن وقوع ذلك في الماضي وهو ذم لمن يفعله إلى يوم القيامة” [4]، وهذا الاستدلال على ذم اتباع الشهوات من عبقريته رحمه الله، كما أنه ذَكر في هذا الموضع كثيرا من الأحاديث -منها ما تقدم ذكره– عن نهي النبي ﷺ أمته عن الاستمتاع بالخلاق.

في البحث عن الحلول..

ما قولك في غض البصر؟ إن العين لما كانت بوابة المؤثرات الخارجية ومبدأ المحركات الداخلية، فمنها تعرج المؤثرات للقلب فإما تأثير يحيي القلب ويرققه وإما تأثير يقسّي القلب ويميته، كان الأمر واضحا من الله تعالى لرسوله ﷺ وللمسلمين من بعده بتقصير البصر عن رؤية متاع الله سبحانه لغيرهم {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ} [طه: 131] قال الطنطاوي في تفسيره: “وبعد هذا الأمر بالتسبيح، جاء النهى عن الإعجاب بالدنيا وزينتها فقال – تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ…}. أي: أكثر -أيها الرسول الكريم- من الاتجاه إلى ربك، ومن تسبيحه وتنزيهه ومن المداومة على الصلاة ولا تطل نظر عينيك بقصد الرغبة والميل {إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ}. أي: إلى ما متعنا به أصنافا من هؤلاء المشركين، بأن منحناهم الجاه والمال والولد. وما جعلناه لهم في هذه الدنيا بمثابة الزهرة التي سرعان ما تلمع ثم تذبل وتزول…

وقوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} بيان للحكمة من هذا التمتيع والعطاء أي متعنا هؤلاء الكافرين بالأموال والأولاد… لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم بهذا المتاع، فإذا آمنوا وشكروا زدناهم من خيرنا، وإذا استمروا في طغيانهم وجحودهم وكفرهم، أخذناهم أخذ عزيز مقتدر. فالجملة الكريمة تنفر العقلاء من التطلع إلى ما بين أيدي الكفار من متاع، لأن هذا المتاع سيء العاقبة، إذا لم يستعمل في طاعة الله تعالى…

والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد رسمت للمؤمن أفضل الطرق وأحكمها، لكي يحيا حياة فاضلة طيبة، حياة يعتز فيها صاحبها بالمعاني الشريفة الباقية، ويعرض عن المظاهر والزخارف الزائلة”.

حث الأهل على الصبر والصلاة

لقد أعقب الحق سبحانه هذه الآية بالأمر بحض الأهل على الصلاة والصبر على ذلك {وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسۡـَٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ} [طه: 132] وقد وضّح ابن كثير العلاقة بين النهي عن مد العين لمتع الدنيا في الآية الأولى وبين الآية الثانية بأثر عن ابن أبي حاتم فقال: “قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث، عن هشام، عن أبيه؛ أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا، فرأى من دنياهم طرفًا فإذا رجع إلى أهله، فدخل الدار قرأ: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} إلى قوله : {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} ثم يقول: الصلاة الصلاة، رحمكم الله”.

فهذا رأى طرفا فقط فوقع في قلبه موقع التمني والتشهي فسارع لمحو ذلك بالصلاة، فكيف بمن يطلق بصره لزخرف الدنيا ويتعمد التلذذ برؤية زينتها؟ فيَعْلق قلبه وتذل قدمه ويتخبط فكره وتكتئب نفسيته ويحسد غيره ولا يرى نعم الله عليه فضلا على شكرها والرضا بها.

الصبر مع الفئة المؤمنة

ومما أمر الله به نبيه ﷺ أن يصبر مع الفئة المؤمنة ولا يجاوز نظره عنهم {وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا} [الكهف: 28]

قال ابن كثير في معنى الصبر: “أي: اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه، ويسألونه بكرة وعشيًا من عباد الله، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء”.

وقال صاحب الظلال في تفسيره في معنى لا تعد عيناك: “ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة . فهذه زينة الحياة (الدنيا) لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه”.

فتأمل خطورة العين وما تزينه، فلو أن الإنسان أطلق بصره متجاوزًا للفئة المؤمنة الذاكرة، رأى هذا يأكل ويشرب ويتمتع وذاك يلعب ويلهو وآخر جميل فتان وهكذا فتُحدّثه نفسه بهذه الزينة وإن كانت نفسه لم ترد هذا الأمر منذ قليل لكنها النظرة تتحول لشهوة، فإن استطاع الظفر بها فعلها إرضاء لشهواته وإن كانت غير مستطاعة فالحزن والاكتئاب والشعور بالنقص.

بهرج الدنيا ليس لنا

من أكثر ما أكده القرآن والسنة أن الحياة الدنيا ما هي إلا دار فناء وأن الآخرة هي دار القرار والشواهد في هذا كثيرة ولعلنا نذكر حديثا واضح الدلالة شديد اللهجة في هذا، وهو الحديث المشهور في حادثة اعتزال النبي ﷺ نساءه وفيه وصف سيدنا عمر لحجرة النبي فقال: (وإنَّه لَعَلَى حَصِيرٍ ما بيْنَهُ وبيْنَهُ شَيءٌ، وتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِن أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وإنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، وعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أثَرَ الحَصِيرِ في جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقالَ: ما يُبْكِيكَ؟ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ فِيما هُما فِيهِ، وأَنْتَ رَسولُ اللَّهِ! فَقالَ: أَمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ لهمُ الدُّنْيَا ولَنَا الآخِرَةُ). [صحيح البخاري، 4913]

يا الله!! أي صراحة تلك؟! لا تورية فيها ولا تجميل “لهم الدنيا ولنا الآخرة”، وقليلا ما نجد هذه الصراحة لدى الدعاة اليوم تحت غطاء خطاب التمكين والنصر وغيرها مع تناسي لهذا أو تجميل له.

فلعلك أخي تبصر موضع قدميك من هذه المؤثرات فتحاول حفظ قلبك وعقلك من الافتنان بها مع تذكير نفسك بأن ترضى بما قسمه الله لك وتضع عينيك على الآخرة.


المصادر:

[1] الحافظ ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري، 249

[2] الدكتور خالد السبت، شرح رياض الصالحين، موقع الدكتور على الشبكة

https://cutt.us/z0jDB

[3] ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، دار إشبيليا، 115

[4] المصدر السابق، 121

شوقًا إلى رسول الله.. خطوات عمليّة في الاقتداء به

مع تلاحق الأحداث وتتابعها، وتكدُّس النوازل التي تطعن في الأمة وأبنائها، ومع الشعور بقلة الحيلة الذي ينتابنا بين الفينة والأخرى إزاء العديد من القضايا، تتفجّر بداخلي أمنيةٌ عزيزة، وتُلِّحُّ عليّ بشدة، فأتفاعل معها وأسيح فيها وأُعايشها، ويطير معها وجداني، وبينما أحلِّق في أعاليها، إذا بي فجأة أستفيق من هذا الحلم الجميل لأجدني لا زلت في هذا الواقع، وما بين الحلم واليقظة تدفّقت كلمات هذا المقال، والتي لم تُكتب بمِداد القلم كما المعتاد، وإنما بمِداد القلب أو بشجونه إن شئتم.

حُلُمٌ غالٍ..

هذا الحلم العزيز أن أكون من ثلة المؤمنين في عهد النبي ﷺ، أعيش في كنفه، أستقبل الوحي غضًّا طريًّا، أسمعُ التوجيهات المحمدية المُشَرَّفة عند كل أمرٍ ونازلة، فلا يبقى في نفسي ألمٌ أو حيرة.

ورغم صعوبة العيش التي كان فيها المجتمع، والابتلاءات التي كانت في عهده صلوات ربي وسلامه عليه التي وصفها المقداد بن الأسود رضي الله عنه إذ قال: (لَقَدْ بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بُعِثَ عَلَيْهَا نَبِيٌّ قَطُّ، فِي فَتْرَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِينًا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَرَى وَالِدَهُ أَوْ وَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ كَافِرًا، وَقَدْ فَتْحَ اللَّهُ قُفْلَ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ دَخَلَ النَّارَ، فَلَا تَقَرُّ عَيْنُهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَبِيبَهُ فِي النَّارِ)، وَأنَّهَا للَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] [البخاري في الأدب المفرَد]، إلا أنّ وجوده ﷺ كان كافيًا لمحو القروح والنوازل، وكيف لا وهو من أضاء به كل شيء في المدينة لما دخلها، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه (لمّا كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ﷺ الْمَدِينَةَ، أضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ وَمَا نَفَضْنَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ الأَيْدِي حَتَّى أنْكَرْنَا قُلُوبَنَا) [أخرجه الترمذي في السنن وأحمد في المسند].

نعم، هذا النور النبويّ الذي كانت تسري به السكينة في نفوس الناس، ولما ذهب بموته؛ كل شيء أصابه الأفول، فقد انقطع الوحي وتقطّع الحبل الواصل بين السماء والأرض، وهذا المعنى أجهش نفوس الصحابة، واستفز المقل ليفيض منها الدمع بسخاء، فها هما العمران رضي الله عنهما يدخلان على أم أيمن بعد وفاة النبي ﷺ يتفقدانها، فوجداها تبكي، فقال لها أبو بكر: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله، قالت: والله ما أبكي ألّا أكون أعلم ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أنّ الوحي انقطع من السماء، فهيَّجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان.

إنّ مجرد ذكر اليوم الذي اشتد فيه وجع النبي ﷺ كان كافيًا لاستحضار حجم الفقد وعِظَم المصيبة، فـ (كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا حدّث عن موت النبي ﷺ يقول: يوم الخميس، وما يوم الخميس! ثم يبكي حتى يبلّ دمعه الحصى، فقيل له: يا ابن عباس، ما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله ﷺ وجعه) [مسلم في الصحيح].

وإنني أرى خفوت هذا الحلم يزداد من فحوى السياق كلما تقدمت فيه وأمعنته، وإنّ هذا المصاب سيظل من النوازل الأليمة لهذه الأمة، وكما قال الشاعر

فإذا أتتك مصيبة تُشجى بها ** فاذكر مصـابك بالنبي محمد

بشائر نبوية

بعدما يفيق المرء من هذا الحلم الجميل على تلك الحقيقة القاسية، فإنه سجيةً يبحث عن بريق أملٍ تتلألأ فيه البشريات المحمدية، ومن عظيم الرحمة الإلهية ومقتضى علمه المحيط بالبريّة، علم سبحانه وتعالى أنّ ثمة عبادًا مؤمنين يأتون بعد موت صفيه، تتوق قلوبهم شوقًا لنبيه، فأوحى إليه بمبشّراتٍ لهم لتكون قوتًا لتلك القلوب التقية، فكانت مكافأة من آمن به دون رؤيته، هي حيازة محبته، والشهادة لهم بالخيرية، فقد روى الإمام أحمد من حديث أبي جمعة – رضي الله عنه – قال: (تغدّينا مع رسول الله ﷺ ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله، أحد منا خير منا؟ أسلمنا وجاهدنا معك، قال: نعم، قوم يكونون من بعدكم، يؤمنون بي ولم يروني [أخرجه أحمد في المسند]

بل أعلمه ربه هيئة أحسن اتباعه، التي سيعرفهم بها عند لقياهم على الحوض، وكذا صفة من بدّلوا بعده وخاضوا في كل خوض، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله ﷺ خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا، فقالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ قال بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض، فقالوا: يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليُذادَنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم، ألا هلم، ألا هلم. فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا).

دلائل النبوة لا تنضب!

بالرغم من أنّ العلماء رصدوا مئات الأدلة الدامغة التي تثبت النبوة المحمدية وصدق الرسالة الربانية، إلا أننا نجد دليلًا وجدانيًا آخر لا تفسير له سوى أنّ هذا الرجل حقًا مرسلٌ من عند الله ومؤَيَّد، فعندما نتصفح التاريخ الإنساني، نجده ممتلئًا بعظماء وعباقرة حازوا على إعجاب خَلَفهم، ونجد أنّ بعضهم كُتِبَ فيه قصائد المدح وقصص البطولة، لكنّ هذا الإعجاب الكبير يظل في سياج العقل، أو بالكاد يتعدّاه فيحرِّك الوجدان، لكن ما نراه حيال حَرَارة الشوق لنبينا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه يتجاوز ذلك كله، إذ إنه يصل إلى الجوارح ويحركها باتباعه والعمل بمقتضى سنته والذود عنه ولو بالنفس بمنتهى الرضا والجسارة، وإنّ هذا الفداء لا يحصل في سياق النفوس البشرية إلا عند الوصول إلى مرحلة عليا من اليقين، ذاك اليقين الذي ترسخ في سويداء القلب مطمئنًا بالله، ثم امتدّ إلى نبيه ورسالته ليجد ذات الرسوخ تجاهه دون رؤيته، ويعمل بمقتضاه طمعًا في جنة عرضها السماوات والأرض، وهذه الحالة الإنسانية لا يمكن أنْ يحظى بها إنسان عند جمعٍ غفير من الناس إلا إذا كان هذا الإنسان له حبلٌ مع مالك القلوب وبارئ النفوس سبحانه وتعالى.

واجبنا نحو رسول الله ﷺ

إنّ أوجب الواجبات تجاهه صلوات الله وسلامه عليه هي حسن اتباعه وتمام محبته، فيكون أحب إلينا من أهلنا ووالدينا والناس أجمعين، يقول بن حجر رحمه الله في فتح الباري “وليس ذلك محصورًا في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصرة سنته والذب عن شريعته وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” فإن المحبة الحقيقية تتجلى عند العمل بمقتضاها في مواطن النصرة، فلا تكون محض شعارات رنانة تختفي وتذوب عند عتبة أول اختبار لصدق المحبة والنصرة.

وكذلك نحفظ له ولصحابته رضوان الله عليهم أجمعين عظيم فضلهم في حفظ هذا الدين ونقله لنا وجهاد من ساموهم سوء العذاب لأجلنا، فنشأنا مسلمين ولله الحمد دون الذب عن الدين بالأرواح أو تحت صليل السيوف، فكما قال المقداد بن الأسود رضي الله عنه (تَحْمَدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ أَخْرَجَكُمْ لَا تَعْرِفُونَ إِلَّا رَبَّكُمْ، فَتُصَدِّقُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ ﷺ، قَدْ كُفِيتُمُ الْبَلَاءَ بِغَيْرِكُمْ) [البخاري في الأدب المفرد].

الواجبات الناشئة عن وجودنا في هذا الزمان

إنّ تواجدنا في هذه الحقبة الزمنية المليئة بالفتن والصعوبات والبلايا يقتضي منا مزيد عملٍ وبذل في ميادين متعددة، وبالرغم من أنها محنةٌ عظيمة حقًّا، إلا أننا يمكننا تحويلها إلى منحة رائعة، إذ إنّ أزمنة النصرة والتمكين تندر فيها مواطن البذل والصبر والجهاد، وتقل فيها الثغور التي يمكن أن يقوم عليها المسلم، ويكون الرخاء فيها نذير شؤم لسقوطٍ جديد، وهنا تتبلور المنحة الحقيقية، وهي الفرص الهائلة المتاحة للعمل والجهاد، والأوقات السانحة لنري الله منّا خيرًا وبذلًا، واثقين من قدوم النصرة والتمكين سواء قضينا نحبنا قبله أو انتظرناه وعاينّاه، فقد قال الله عز وجل {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور: ٥٥] وهذا والله خيرٌ عظيم كفيلٌ لإحياء الهمم والعزائم لتلحق بموسم الأجر والصبر والمثوبة والجهاد، وهذا هو الميدان الأول.

أما الميدان الثاني فإنه يتمثل في التعاطي مع الواقع الحالي الذي يختلف تمامًا عن واقع الصحابة الكرام، ونجده يتجلى في سياقات متعددة منها:

السياق التربوي

إنّ الذين لا يبذلون جهدًا في البناء التربوي لهم ولأبنائهم في هذا الزمان، ولا يشيّدون بناءً فكريًا راسخًا يستطيعون به تحصين أنفسهم من نوازل هذا العصر، ونقل هذه الحصانة لذريتهم، مُعللين ذلك بأنّ الناس في عصر النبوة لم يكونوا على علمٍ بهذه النُسُق التربوية، ولا تلك القريحة الفكرية، وخرج منهم رواد الأمة وعظمائها.

والحق أنّ من يردد هذا الكلام في عصرنا واقعٌ في وهمٍ كبير ناتجٌ عن قصور في تصور الواقع، أو كسل وتقاعس عن العمل بمقتضى العلم، إذ إنّ المسلمين في عصر النبوة لم يكونوا في حاجة إلى تعلُّم تلك المهارات لأنهم كانوا أناسًا يمتلكون فطرة سليمة ونفوسًا سوية، ويعيشون في حاضنة مجتمعية سمتها الأبرز التسليم لله ولرسوله وطاعتهم، فنشأت الأجيال بشكلٍ طبيعي على ذات المنوال، فلم يحتج الآباء بذل جهد إضافي للحفاظ على أبنائهم أو القيام بمقاومة الوسط الخارجي لفساده.

أما نحن فلا يخفى على ناظرٍ إلى الواقع أنّ كل هذه المقومات التي تمتع بها جيل الصحابة وجعلت من مهمة التربية شيئًا يسيرًا تلقائيًا، تكاد تكون منعدمة في زمننا هذا، لذا وجب علينا للحفاظ على المحجة البيضاء التي بُذلت لها الأرواح لتصل إلينا، الاجتهاد لتكوين وابتكار تلك المقومات من جديد ولو في الدوائر الصغيرة حتى نوفر بيئة للأبناء تسمح لهم بالنمو بشكلٍ سوي فيها.

السياق الفكري

إنّ تكوين مَلَكة فكرية ناقدة لم يعُد أمرًا اختياريًّا أو تكميليًّا في هذا الزمان، بل هو من واجبات الوقت التي لا يمكن تفويتها، إذ إنّ الغزو الفكري الذي اجتاح المجتمعات الإسلامية في العقود الأخيرة ولم يترك موطن إلا دنّسه، فرض على أبناء الأمة في هذا الزمان التسلّح بالحد الأدنى من الأدوات الفكرية التي تحميهم من هذا الغزو البغيض، وتوجب عليهم مزيد علمٍ بالشريعة وتمسك بها ورؤية العالم بعين القرآن ليميز المرء الخبيث من الطيب.

فهذا التحدّي لم يكن في عهد النبوة، إذ إنّ النبع الصافي موجود بتلاوة آيات الله ووجود رسوله، وحتى شبهات اليهود والمنافقين كانت تُدحَض بآياتٍ كالصواعق تُنبئهم بما في قلوبهم وتحذر الصحابة منهم.

السياق الدعوي

رغم تنوع الملل والنِحل في عهد النبوة، وعظيم البلاء الذي تعرض له سيّد الخلق في سياق الدعوة طوال حياته، إلا أنّ المدعوّين كانوا على قدر كبير من الوضوح والمنطقية، فنادرًا ما تجد سفسطة أو إنكارًا للمبادئ العقلية الضرورية، وقليلٌ من يتحدث متسلقًا على مقاماتٍ أعلى من مقامه، وكان هناك قدرٌ من المروءة عند الناس تجعل الكثير من السياقات الدعوية فيها ملأى بالرقيّ الحواري.

أما الآن فيصعُب جدًا تحديد السياقات الدعوية في مسارات محددة لكثرة الأنواع البشرية المحتاجة للدعوة، وكثرة التحدّيات التي تواجه الداعية سواء الفكرية أو الحوارية أو غيرها، وغير ذلك الكثير من التحديات.

والسياقات الأخرى الواردة في هذا الباب كثيرة جدًا، ويمكن استخراجها من خلال فهم وإدراك الواقع الحالي، مع استيعاب مقتضيات ذات القضية في عصر النبوة.

ختامًا..

إنّ الحديث عن الحبيب المصطفى ﷺ أمرٌ مهيب وعزيز، وهو حديثٌ لا ينضب، وينبوع لا يجف، كيف لا وهو عن سيد الخلق والمرسلين الذي كان خُلُقه القرآن، الذي أُرسل رحمة للعالمين، فمن حقّه علينا أن نلقاه على الحوض ونحن على المحجة البيضاء، ثابتين على هذا الدين مدافعين عنه، معتزّين به، فإن لم يُكتب لنا شرف لقياه في الدنيا والعيش في كنف النبوة، ففرصة كتابة شرف نصرته والعمل بمقتضى محبته قائم، فلنُرِ الله منّا خيرًا.

بحثًا عن الحكمة.. وقفة مع النفس البشرية!

إن المؤمن القابض على دينه في زماننا هذا؛ قد يعيش معزولًا عن الواقع المجتمعي الحالي، غير قادر على التأثير فيه؛ فالمجتمع قد انتشر فيه مرض انفصام الشخصية المجتمعية فأصبح لا يقبله؛ ولأنّ الخلايا السليمة لا يمكنها أن تلتئم مع خلايا المجتمع المصابة تلك؛ فالواقع المعيش يذكّر بالأنيميا المنجلية -وهو مرض ينتج فيه الجسم خلايا دم حمراء غير طبيعية الشكل مثل الهلال أو المنجل- حيث تصبح هذه الخلايا جامدة ولزجة وغير منتظمة الشكل -خلاف الخلايا السليمة- فتتخثر بالأوعية الدموية الصغيرة؛ التي يمكن من شأنها أن تبطئ أو تمنع تدفق الدم والأكسجين إلى أجزاء الجسم، وبالتالي قد تؤدي إلى السكتة الدماغية، أو متلازمة الصدر الحادة، أو إلى تلف الأعضاء الداخلية بما في ذلك الكبد والكلى والطحال وغيرها من الأمراض -عافانا والله وإياكم-.

استوقفني هنا قوله عز وجل {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21] وكأن الذي يحدث داخل أجسامنا إنما هو انعكاس لما يحدث من حولنا؛ وكأن في داخلنا خارطة تمكننا من فهم واستيعاب اﻷمور، ومن ثم كان لزامًا علينا أن نتدبر ونتفكر ونبصر أنفسنا.

بين السليم والسقيم..

إذا ما قسنا أحوالنا الخلقية والداخلية بواقع المجتمع حين تختلط فيه ما يشبه الخلايا المنجلية المنحرفة عن الدين والمجتمع، وخلايا سليمة، فإن ذلك قد يؤدي به إلى خلل في القيم والأخلاق، وأعظمها فتكًا إصابتها بخلل الاعتقاد؛ ولهذا السبب نجد أن العلاج الرباني يدور على التمييز بين الخلايا السليمة هذه والمصابة تلك، ونجد ذلك بنصوص واضحة الدلالة بالقرآن والسنة، وكيف ميّز بالعقوبة الحَدِّيّة جريمتي الحرابة والزنا، من خلال إقامة العقوبة ثم نفيهم من المجتمع السليم.

نجد كذلك أن الله ميّز بين الكافر والمسلم من قبل الولادة وإلى الممات؛ إذ إن المسلم لا يجوز له الزواج من غير المسلمة إلا إن كانت كتابية، والمسلمة لا تتزوج من غير المسلم، والكافر حين يموت لا يُقبَر بمقابر المسلمين، وما بين الحياة والموت هنالك أكثر من ١٣٠ حكم شرعي، تتميز فيه الخلايا السليمة هذه عن المصابة تلك.

هنا قد يقول قائل بأن اليهود قد عاشوا في المدينة بعهد رسول الله وأن دول الإسلام المتعاقبة كان فيها نصارى يقطنون شتى البقاع الإسلامية؛ والجواب عن ذلك أن المسلمين عندما أقاموا دولتهم، فإنهم لم يقيموها ليبقى الباطل كما هو، وإنما ليسلكوا في وجهه مسلك الدعوة والحكمة والموعظة؛ بتغيير الباطل إلى حق، والظلام إلى نور، والانحراف إلى استقامة، والبدعة إلى سنة؛ ومن هنا نجد قول ربنا تبارك وتعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [الحج: 41].

خلايا الدم الحمراء المنجلية

ضرورة التمييز بين السليم والخبيث

إن اﻵيات التي تحثنا على التمييز بين الخلايا السليمة والمصابة بالقرآن الكريم كثيرة؛ ولكننا سنكتفي بذكر آيات سورة اﻷنفال، حيث ميز الله المجتمع إلى ثلاثة أقسام:

القسم اﻷول في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض} [الأنفال: 72] والمقصود المسلمون القاطنون في المجتمع المسلم، حيث يوالي بعضهم بعضًا.

أما القسم الثاني، ففي ذات الآية يقول الله تعالى: {والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} [الأنفال: 72] أي المسلمون الموجودون في دار الكفر، فأولئك ليسوا بولاية الدولة اﻹسلامية حتى يهاجروا إليها.

في حين وصف القسم الثالث بقوله {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} أي الكفار القاطنين بديارهم فبعضهم أولياء بعض ولا شأن لنا بتلك العلاقة فيما بينهم، ومن ثم يتبع قوله بعد هذا التقسيم: {إلا تفعلوه تكن فتنة في اﻷرض وفساد كبير} أي إن لم تفعلوا هذا التمييز تكن في اﻷرض فتنة وفساد وكبير.

 إن المجتمع عندما يكون فيه المسلم، والمسيحي، واليهودي، والبوذي، والمجوسي، والأقوام المستحدَثون المناقضون للفطرة، والنسويات، فلن يكون سليمًا أصلا سواءً من الناحية النفسية أو الاجتماعية، أو العقلية، أو من الناحية العقائدية.

وهنا أذكر قصة واقعية وقعت في منطقتنا، قصّها علينا معلّمي أثناء إلقائه محاضرة في التخطيط الاجتماعي وكنا نتناول معوقات التخطيط فقال: تمّ إغلاق جامعة كذا -من دون ذكر اسم الجامعة- بسبب طالب مسيحي طالب بإنشاء كنيسة له؛ ليتعبّد فيها ربه مثلما نحن لدينا مساجد نتعبد فيها!

وهنا وقفت عند نفسي، تساءلت متعجبةً: بسبب هذا الطالب المسيحي أغلِقت مؤسسة تعليمية كاملة، وشلّت حركة الوعي والتعليم.

أجر عظيم.. لمن استمسك بدينه القويم..

شاهدنا في الفترة القريبة الماضية كيف توفّي الطفل الفلسطيني “ريان” ذعرًا إثر اقتحام قوات الاحتلال لمنزلهم، ومن قبل في العراق قصة “عبير” التي ترك حادث الاعتداء عليها في نفوسنا شرخًا ما كان للزمان أن يكون كفيلًا بمحوه.

انقلوا أبصاركم أيضًا إلى التاريخ واستذكروا رعاكم الله حال المسلمين الأوائل بمكة قبل الهجرة، حين كانوا يعانون ويصبرون، وقفوا عند قوله ﷺ: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) [متفق عليه] لضمان سلامتنا العقلية والنفسية والاجتماعية لا العقائدية فقط؛ فندرك عظمة هذا الدين وشموله وتكامله من كل النواحي والجوانب؛ ولهذا السبب -بحسب فهمي البسيط المتواضع- كان أجر القابض على دينه في زماننا هذا كهجرة معه ﷺ، أو كأجر خمسين صحابي.

دور التنشئة في مواجهة أمراض المجتمع الطارئة

بالنظر إلى أسباب وعوامل اﻹصابة بمرض الخلايا المنجلية فإننا سنراه ينتقل عن طريق الوراثة، وبالنظر إلى كلام الله تعالى سبحانه، فإننا سنراه يخبرنا كثيرًا في القرآن عن أولئك المترفين المعادين للرسل واﻷنبياء -المنحرفين عن الدين والمجتمع- فجميعهم قد ورثوا دينهم عن آبائهم وأجدادهم وأسلافهم.

وهنا لا بدّ من الإشارة والتنبيه إلى دور عملية التنشئة وأهميتها في مواجهة التطبيع الاجتماعي مع الانحرافات والأمراض الطارئة، -وسوف نتحدث عنه بمقالات لاحقة إن شاء الله-.

لنتمعن ببعض اﻵيات التي تخبرنا بذلك، وتوضّح لنا حقيقة الحال:

{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} [البقرة: 170]، وفي قوله تعالى {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} [المائدة: ١٠٤]، وقوله {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 28]، {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين* إذ قال ﻷبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون* قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} [اﻷنبياء: 51- 53] وقوله سبحانه: {قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين* إن هذا إلا خلق اﻷولين* وما نحن بمعذبين} [الشعراء: ١٣٦-١٣٨].

وقوله سبحانه: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون* وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون* قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} [الزخرف: ٢٢-٢٤]

إن سبب رفض هؤلاء ومقاومتهم ومعاداتهم للرسل واﻷنبياء؛ مرتبط بتمسكهم بالعادات والتقاليد التي توارثوها وأصروا على العيش بها ما بقوا من حياتهم، شأنهم في ذلك كشأن اﻷنيميا المنجلية تمامًا، ولعلنا نكشف بمقال لاحق إن شاء الله عن بقية اﻷسباب التي تجعل الطغاة يرفضون اﻹسلام.

إن اﻷعجب من ذلك كله؛ هو أن فترة عيش هذه الخلايا المنجلية يتراوح بين ١٠_٢٠ يومًا، والسليمة من الخلايا تصل إلى غاية ١٢٠ يومًا؛ ونلاحظ في القرآن الكريم أن الله يعجل بهلاك المفسدين ويمد بعمر المصلحين إلى أمد بعيد، وهذه قاعدة ربانية بأن اﻷرض يرثها عباده الصالحون مهما علا فيها الباطل واستعمرها من مشرقها إلى مغربها؛ ولذلك كان قوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد} [آل عمران: 196] ويقول أيضا: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد} [غافر: ٤]

ختام القول

إن المجتمع كاﻹنسان، له كيان ونظام شبيه بأجسامنا؛ فما يصيب الفرد في داخله، يصيب المجتمع من داخله؛ ولذلك كان قوله ﷺ عن النعمان بن البشير- رضي الله عنهما: (مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [متفق عليه].

والتغيير الاجتماعي شيء حتمي لا مناص منه أبدًا، وتغيير المجتمع يبدأ من داخل الفرد، وقف إن شئت عند قوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11]، وإذا ما أبصرنا بأنفسنا أدركنا حقيقة التغيير، ولذلك كان قوله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: ٢١].

اللهم عجّل بالشفاء لمرضى اﻷنيميا المنجلية ولجميع مرضى وجرحى المسلمين.