مشكلة الشر ووجود الإله (2 من 2)

image_print

بعد تبيين الأصل التاريخي وأساس الاستشكال الذي بنيت عليه “معضلة الشر” في المقال السابق؛ فإن اللازم الآن تبيين جوانب الشبهة وما يقدمه الإيمان من حلول في سبيل فهمها.

مفهوم الشر فلسفيًّا
هل يعد وجود الشر  ذاتيًّا محضاً أم أن وجوده ظرفيٌّ بحسب الواقع المحيط به؟

ينبغي الإشارة إلى أن هذه التقسيمات تعود في أصلها إلى مسألة تحديد مفهوم الشر من حيث كونه ذاتيًّا محضًا أو نسبيًّا يتحقق بتبعيته لطرف آخر سابق عليه.

لايبنتز

بالعودة إلى فهم الفيلسوف الألماني لايبنتز (ت 1716م)  للشر نرى أنه قد صنَّفه ضمن أنواع ثلاثة، أولها: الشر  الميتافيزيقي (المجرَّد) ويقصد به النقص التام في وجود المخلوقات بسبب تناهيها إضافة لكونها ناقصة بالمقارنة مع وجود الله، ثم الشر الطبيعي وتدخل فيه الآلام الجسمانية والكوارث الطبيعية، وثالثها: الشر الأخلاقي الكامن في الخطيئة[1]، وحين ينظر في مسألة الشرين الطبيعي والأخلاقي فإنهما بالضرورة يدخلان تحت الشر المجرد أي النقص المتحقق فيهما، ويشار إلى أن الليبراليين وسعوا من إطار الشر الأخلاقي ليتضمَّن أي أذية للآخرين في حريتهم أو منعهم من تحقيق رغباتهم شرًّا أخلاقيًّا[2].

يرى ابن قيم الجوزية (ت751ه) أن أحوال الموجودات بأسرها لا تخرج عن حالات أربع هي: حالة الخير المطلق، أو الشر المطلق، أو حالة التنازع بين الخير والشر فيكون الخير إما مستوياً مع الشر أو راجحًا عليه أو العكس، أو حالة عدم القيمة، فلا يكون فيه خير أو شر، ويتحقق القسم الأوّل بوجود الخالق فقط والذي هو خير محض، ولا يوجد من بقيّة الأقسام في وجودنا إلّا ما كانت المصلحة والحكمة والخير في إيجاده أكثر من المفسدة، أي ما كان “خيره راجحًا على شرّه”، وأمّا الشر المحض الذي لا خير فيه فلا حقيقة له لأنه عدم محض[3].

وجود الله ووجود الشر
أبدأ هذه الفقرة بالسؤال المعهود: هل يتعارض وجود الشر مع وجود الإله؟

يؤكد الإلحاد –كما تقدَّم في الجزء الأوَّل- على عدم إمكانية اجتماع وجود إله قادر رحيم مع وجود الشرور –كالتي نراها على الأقل-.

بينما يؤكد علماء الدين الإسلامي ورجال اللاهوت من الأديان الأخرى على عدم التعارض أصلاً، ويقدمون في سبيل ذلك حججًا عديدةً لتبيين ضعف المنطق الإلحادي وتناقضه، سواء من حيث أساس اعتراضه، أو في تفسير حقيقة الإشكال وتأويله.

ثمة سؤال يمكن تقديمه في هذا المعرض مفاده: هل يجب على الإله الخيِّر القادر أن يمنع الشر[4]؟

ويمكن الاعتراض على هذه الصيغة “الله قادرٌ على كل شيء” بالعديد من المغالطات المنطقية والمناقشات التي لا تتعدى باب اللعب باللفظ، فأسئلة من قبيل: هل يسَعُ اللهَ خلق صخرة يعجز عن حملها، أو هل يقدر الله على أن يخلق إلهًا مثله، أو هل بإمكانه رسم مربعٍ مستديرٍ ، هي أسئلة تناقض ماهية الشيء في ذاته، “فالصخرة مهما بلغ حجمها متناهية، وقدرة الله غير متناهية، والإله ليس مخلوقًا بالضرورة، فلا يصحّ منطقيًا افتراض إله مخلوق، والمربَّع لا يكون دائرة بالضرورة، فلا يصحّ افتراض اجتماعهما”[5].

وبالمحصِّلة فإن كمال القدرة الإلهية إما أن يعني: القدرة على فعل كل شيء وإن كان ضمن دائرة الاستحالة المنطقية أو فعل الأشياء الممكنة منطقيًّا فقط، وبما أنَّ تصوُّر المستحيل ممكن لأنه عمل ذهني غير واقعي إلا أن وقوعه في الوجود أمر غير ممكن لتناقضه مع شروط الوجود أوَّلاً، ولأن القدرة الإلهية -حسب ما يقرره علماء العقائد- لا تتعلَّق بغير الممكن منطقيًّا، فتكون اعتراضات الإلحاد في جوهرها عن تناقض وجود الشر مع وجود الإله “مخادعات لفظيّة لا يمكن أن يكون لها وجود في غير عالم اللغة”[6]؛ لأنَّ سماح الله بوجود الشرّ في ملكه لا يلزم منه الانتقاص من قدرته، فالشر البشري ناتج عن حريَّة الاختيار  بين فعل الخير والشرّ؛ والقول بوجوب زواله يحتوي على تناقض منطقي، لأن الله قد وهب البشر حريّة الإرادة لامتحان إلهي أفعالهم، ولا تتعلّق قدرة الإله -على كمالها- بإزالة هذا الشرّ لأنه من غير المنطقي أن يمتحن الله عباده بالخير والشرّ ثم يجبرهم على فعل الخير دون الشر أو العكس [7]، وهو ما أشار الله إليه في قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} [الروم:41] فجعل الفساد (أي الشرور الأخلاقية) عائدة إلى اختيارات الناس وأفعالهم، ولعله من المفيد الإشارة إلى أن التعلل بالشر الأخلاقي في نفي الإله غير مجدٍ.

بلانتينغا

في هذا المعرض يجدر الإشارة إلى رأي الفيلسوف الأمريكي اللاهوتي ألفن بلانتينغا (وُلد عام 1932) القائل: إنّ حريّة الإرادة عند الإنسان من أهم المسوّغات العقلية لنفي التناقض المدّعى بين وجود الإله الكامل مع وجود الشر؛ إذ إنّ الشر الأخلاقي نتيجة لممارسة الإنسان لاختيارات إرادته الحرّة، فالشر هنا ضريبة لازمة ومنطقيّة ومرضيّة لنعمة الإرادة الحرّة؛ وبذلك ينتقض الاعتراض على عدل الله أنّه يسمح للشر بالوجود، فلا معنى لوجود كائن حر يملك إرادة الاختيار ضمن الطبيعة البشريّة المحضة، ثم هو لا يفعل إلّا نوعًا واحدًا من الأفعال، فالمخلوقات الحرّة تزلّ أحيانًا وتفعل الخير أحيانًا، ولا يمكن أن تكون هذه الاختيارات ضد وجود قدرة الله الكليّة ولا ضد خيريّته؛ لأنّه ليس بالإمكان أن يُمنع وقوع الشر الأخلاقي إلّا بمنع إمكانية الخير الأخلاقي[8].

الشر المادِّي والمجَّاني؟
ينقل د. حسن المرسي عن ريتشارد دوكينز قوله في أن الشر  لا يمكن أن ينفي أو يثبت وجود الإله[9]،  ولذلك مال العديد من رموز الإلحاد إلى تكثيف الاسشتهاد بما سمّوه (الشر المجاني) أي الألم الذي لا فائدة خلفه، وله مثالان شهيران هما: “الموت البطيء لغزالة في حريق داخل غابة، واغتصاب طفلة ثم قتْلها على يد عشيق أمّها”[10] إذ إن على “الإله العليم، كامل الخيريّة أن يمنع وقوع كلّ معاناة شديدة إلّا أن يؤدّي المنع إلى تفويت خير أعظم من هذه المعاناة أو السماح لشر يوازيها أو يربو عليه، وبالنتيجة فإن ذلك واقع فلا يوجد –إذن- إله قدير، عليم، كامل الخيريّةِ”[11].

ثمة عدة مسالك يمكن التصدي بها لمشكلة الشر بأنواعها إجمالاً وتفصيلاً، “كالدفاع الإيماني الذي يفسر الشر على ضوء الحكمة الإلهية والعناية الربانية، أو بيان سبب العجز عن الإجابة على السؤال كليًا أو جزئيًا: للقصور المعرفي للإنسان، أو البحث في السؤال والعمل على تعديله[12]“.

وعلى ضوء التكامل بين هذه المناهج يشير عدد من الباحثين في نقد الإلحاد إلى أهمية السؤال عن الشر المجاني بصيغة: هل هناك شر مجاني فعلاً؟

إنّ مقتضى البحث العقلي أن يصار أولاً إلى البحث عن البناء المنطقي للحجة المقدَّمة لنقض وجود الإله وهي (الشر المجاني موجود، وعليه  ينفي وجوده وجودَ الإله)؛ وبما أنه لا يمكن لأحد إثبات قطعية (الشر المجاني) في الظواهر المضروبة لذلك، وبعبارة أخرى، نسأل: هل يعجز الإله أن يجعل وراء كلّ ما يبدو شرًا مجانيًا، حكمةً وتعويضًا؟

قول الإلحاد هنا منحصر بمنع وجود الحكمة أو إثباتها التي نفترضها للإله، فإنّ العقل لا يمنع من وجود هذه الحكمة وهذا التعويض للمبتلى؛ فيسقط اعتراضه، وإذا قال إنّ هذا الأمر ممتنع عقلًا؛ طولب بالدليل العقلي، ولا دليل؛ فيظهر بذلك قُصور فهمه لكمال الألوهيّة. فتنقلب المعادلة من:

الترتيب الآتي: 1. وجودُ الشرّ المجاني أمر يقينيٌّ، 2. وجود الإله فرضية بحاجة إلى بحث، 3. وجود الشرّ المجاني حجّة على نفي وجود إله؛ 4. إذن لا وجود لإله.

إلى: 1. الأدلّة المادية والعقلية تثبت وجود الإله، 2. وجود الشرّ المجاني فرضية بحاجة إلى بحث، 3. الإيمان بالإله يقتضي الإيمان بكماله وعدله وحكمته فيكون قادراً على جعل ما يبدو شرًا مجانيًا حكمةً وخيرًا، 4. إذن لا وجود لشرّ مجانيّ[13].

فرويد

وقفة أخيرة
في خضم المناقشات المنطقيَّة في مسألة الشر قلّما يتنبّه الباحثون إلى البحث عن مصدر الاستشكال، فبما أن العقل البشري قاصر في إدراك خصائص المحيط الخاص به فإنه بالقفز إلى القطع في إحدى أهمِّ المسائل الوجودية يختزل ظاهرة الشر دون الفهم الكامل لكل جزئياتها. فما مردُّ هذا الاستعجال؟

يشير مقال ما بعد الحداثة في موسوعة السبيل إلى تطوُّر الآراء والظروف التي مرت بها الذهنية الغربيَّة، ولعل من أبرز ما يُستشهد به هنا قول الفيلسوف روجيه غارودي في كتابه “البنيوية فلسفة موت الإنسان” نقلاً عن فرويد بأن نظريته في التحليل النفسي ألحقت بكبرياء البشرية ثالث إذلال كبير لها، وذلك بعد الثورات العلمية على يد كوبرنيكوس التي أنهت كون النص الديني المركز الذي تقاس إليه الأمور، ثم رؤية داروين التي حوَّلت الإنسان إلى حيوان بيولوجي يصارع من أجل البقاء[14].

وهكذا ظهرت العدمية التي أفرزت مظاهر اللامعنى وغياب الثبات ورفض معنى الإله الخالق وتأطير القيمة، فالوجود خالٍ في خاتمة المطاف من المعنى، ولعل هذا التصوُّر هو ما نراه في اللامبالاة والظلم البشري وعدم المسؤولية في أحداث عظيمة كالأحداث المستمرة في سورية منذ سبع سنوات.

إن حالة “غياب المعنى” التي يعيشها الملحد تدفع للتساؤل: لمَ يبحث الملحد عن المعنى وراء الشر أو الخير؟ فالإيمان بـألا قيمة للوجود تدفع حتماً لتفسير أحداث الوجود بذات الرؤية التي فُسِّرت به بدايته، أي “العشوائية والمادية”، فتفسير الشر الذي يحدث في العالم -ضمن هذه الرؤية- يجب ألا يعدو تحليلاً كتحليل رؤيتنا للوحة الموناليزا مثلاً، وك��لك الحروب والأعاصير والكوارث المادية، لأن التفاعل مع الألم الطاغي في هذه الظواهر لا يستند إلى قيمة أخلاقية وإنَّما إلى رؤية عدمية، وهذا بحد ذاته تناقض صارخ.

ومن هنا فإن التعامل مع مشكلة الشر بحسب الرؤى المختلفة في تفسيرها عائد إلى رؤيتين، أولهما: عدّه جزءًا من النظام الكوني المتصف بالنقص في ذاته لكونه حادثاً والإله وحده الكامل. والثاني: النظر الديني إلى الشر على أنه ابتلاء واختبار في هذه الظواهر ويستلزم منا البحث عن الحكمة التي يقتضيها فعل الله وعدله، وفي الحالتين ليس ثمة ما يُتَوجّه به لنفي وجود الله أصلاً.

إذن فالسؤال المهم حقًّا هو: لمَ كان الوجود أصلاً؟ والبحث في أصل هذا السؤال سيقود الملحد إلى الانهيار حتمًا.[15]


الهوامش

[1] ينظر تاريخ الفلسفة، فريدريك كوبلستون، المركز القوم للترجمة، ترجمة سعيد توفيق، ط1، 2013، ج4 ص437.

[2] ينظر ملف مشكلة (الشر) على شبكة (معابر) الفلسفية، من مقال ندى الحاج، تأمُّلٌ في الشر الإنساني، http://www.maaber.org/issue_october03/perenial_ethics1.htm

[3] ينظر شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد بدر الدين، دار الفكر، ط1، 1978، ص 181-182، ويقارن بـ مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص 98، 99.

[4] ينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص 112.

[5] ينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص115.

[6] ينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص 114.

[7] ينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص115.

[8] ينظر محاورة جاري كينتغ مع ألفن بلانتينغا بعنوان: هل الإلحاد لا عقلاني، ترجمة: د. عبد الله الشهري، نشر مركز براهين، ص5، وينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص120، نقلاً عن كتابي ألفن بلانتنجا: الله، الحرية والشر، وكتابه: The nature of necessity

[9] ينظر الكتاب الإلكتروني الجواب عن مشكلة الشر، مقال د. حسن المرسي، انفكاك الجهة بين وجود الخالق ومسائل الحكمة والخير والشر، 131، 132

[10] نقلاً عن ويليام رو، ينظر د. سامي عامري، مشكلة الشر ووجود الله، ص 146.

[11] ينظر المصدر السابق ص146-147.

[12] ينظر المصدر السابق 147.

[13] ينظر المصدر السابق، ص 151، 152.

[14] البنيوية فلسفة موت الإنسان، روجيه غارودي، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة، ط3، 1979، ص12-14.

[15] استفدت الخاتمة الأخيرة: من مدونة (أنا مسلم، أنا أفكر) وسقت ملخِّصًا بعضًا من نقدها لمسألة الشر على الرابط: https://iammuslimiamagainstatheism.blogspot.com.tr/2013/10/blog-post_20.html

التعليقات

تعليقات