شوقًا إلى رسول الله.. خطوات عمليّة في الاقتداء به

image_print

مع تلاحق الأحداث وتتابعها، وتكدُّس النوازل التي تطعن في الأمة وأبنائها، ومع الشعور بقلة الحيلة الذي ينتابنا بين الفينة والأخرى إزاء العديد من القضايا، تتفجّر بداخلي أمنيةٌ عزيزة، وتُلِّحُّ عليّ بشدة، فأتفاعل معها وأسيح فيها وأُعايشها، ويطير معها وجداني، وبينما أحلِّق في أعاليها، إذا بي فجأة أستفيق من هذا الحلم الجميل لأجدني لا زلت في هذا الواقع، وما بين الحلم واليقظة تدفّقت كلمات هذا المقال، والتي لم تُكتب بمِداد القلم كما المعتاد، وإنما بمِداد القلب أو بشجونه إن شئتم.

حُلُمٌ غالٍ..

هذا الحلم العزيز أن أكون من ثلة المؤمنين في عهد النبي ﷺ، أعيش في كنفه، أستقبل الوحي غضًّا طريًّا، أسمعُ التوجيهات المحمدية المُشَرَّفة عند كل أمرٍ ونازلة، فلا يبقى في نفسي ألمٌ أو حيرة.

ورغم صعوبة العيش التي كان فيها المجتمع، والابتلاءات التي كانت في عهده صلوات ربي وسلامه عليه التي وصفها المقداد بن الأسود رضي الله عنه إذ قال: (لَقَدْ بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بُعِثَ عَلَيْهَا نَبِيٌّ قَطُّ، فِي فَتْرَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِينًا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَرَى وَالِدَهُ أَوْ وَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ كَافِرًا، وَقَدْ فَتْحَ اللَّهُ قُفْلَ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ دَخَلَ النَّارَ، فَلَا تَقَرُّ عَيْنُهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَبِيبَهُ فِي النَّارِ)، وَأنَّهَا للَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] [البخاري في الأدب المفرَد]، إلا أنّ وجوده ﷺ كان كافيًا لمحو القروح والنوازل، وكيف لا وهو من أضاء به كل شيء في المدينة لما دخلها، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه (لمّا كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ﷺ الْمَدِينَةَ، أضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ وَمَا نَفَضْنَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ الأَيْدِي حَتَّى أنْكَرْنَا قُلُوبَنَا) [أخرجه الترمذي في السنن وأحمد في المسند].

نعم، هذا النور النبويّ الذي كانت تسري به السكينة في نفوس الناس، ولما ذهب بموته؛ كل شيء أصابه الأفول، فقد انقطع الوحي وتقطّع الحبل الواصل بين السماء والأرض، وهذا المعنى أجهش نفوس الصحابة، واستفز المقل ليفيض منها الدمع بسخاء، فها هما العمران رضي الله عنهما يدخلان على أم أيمن بعد وفاة النبي ﷺ يتفقدانها، فوجداها تبكي، فقال لها أبو بكر: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله، قالت: والله ما أبكي ألّا أكون أعلم ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أنّ الوحي انقطع من السماء، فهيَّجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان.

إنّ مجرد ذكر اليوم الذي اشتد فيه وجع النبي ﷺ كان كافيًا لاستحضار حجم الفقد وعِظَم المصيبة، فـ (كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا حدّث عن موت النبي ﷺ يقول: يوم الخميس، وما يوم الخميس! ثم يبكي حتى يبلّ دمعه الحصى، فقيل له: يا ابن عباس، ما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله ﷺ وجعه) [مسلم في الصحيح].

وإنني أرى خفوت هذا الحلم يزداد من فحوى السياق كلما تقدمت فيه وأمعنته، وإنّ هذا المصاب سيظل من النوازل الأليمة لهذه الأمة، وكما قال الشاعر

فإذا أتتك مصيبة تُشجى بها ** فاذكر مصـابك بالنبي محمد

بشائر نبوية

بعدما يفيق المرء من هذا الحلم الجميل على تلك الحقيقة القاسية، فإنه سجيةً يبحث عن بريق أملٍ تتلألأ فيه البشريات المحمدية، ومن عظيم الرحمة الإلهية ومقتضى علمه المحيط بالبريّة، علم سبحانه وتعالى أنّ ثمة عبادًا مؤمنين يأتون بعد موت صفيه، تتوق قلوبهم شوقًا لنبيه، فأوحى إليه بمبشّراتٍ لهم لتكون قوتًا لتلك القلوب التقية، فكانت مكافأة من آمن به دون رؤيته، هي حيازة محبته، والشهادة لهم بالخيرية، فقد روى الإمام أحمد من حديث أبي جمعة – رضي الله عنه – قال: (تغدّينا مع رسول الله ﷺ ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله، أحد منا خير منا؟ أسلمنا وجاهدنا معك، قال: نعم، قوم يكونون من بعدكم، يؤمنون بي ولم يروني [أخرجه أحمد في المسند]

بل أعلمه ربه هيئة أحسن اتباعه، التي سيعرفهم بها عند لقياهم على الحوض، وكذا صفة من بدّلوا بعده وخاضوا في كل خوض، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله ﷺ خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا، فقالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ قال بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض، فقالوا: يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليُذادَنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم، ألا هلم، ألا هلم. فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا).

دلائل النبوة لا تنضب!

بالرغم من أنّ العلماء رصدوا مئات الأدلة الدامغة التي تثبت النبوة المحمدية وصدق الرسالة الربانية، إلا أننا نجد دليلًا وجدانيًا آخر لا تفسير له سوى أنّ هذا الرجل حقًا مرسلٌ من عند الله ومؤَيَّد، فعندما نتصفح التاريخ الإنساني، نجده ممتلئًا بعظماء وعباقرة حازوا على إعجاب خَلَفهم، ونجد أنّ بعضهم كُتِبَ فيه قصائد المدح وقصص البطولة، لكنّ هذا الإعجاب الكبير يظل في سياج العقل، أو بالكاد يتعدّاه فيحرِّك الوجدان، لكن ما نراه حيال حَرَارة الشوق لنبينا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه يتجاوز ذلك كله، إذ إنه يصل إلى الجوارح ويحركها باتباعه والعمل بمقتضى سنته والذود عنه ولو بالنفس بمنتهى الرضا والجسارة، وإنّ هذا الفداء لا يحصل في سياق النفوس البشرية إلا عند الوصول إلى مرحلة عليا من اليقين، ذاك اليقين الذي ترسخ في سويداء القلب مطمئنًا بالله، ثم امتدّ إلى نبيه ورسالته ليجد ذات الرسوخ تجاهه دون رؤيته، ويعمل بمقتضاه طمعًا في جنة عرضها السماوات والأرض، وهذه الحالة الإنسانية لا يمكن أنْ يحظى بها إنسان عند جمعٍ غفير من الناس إلا إذا كان هذا الإنسان له حبلٌ مع مالك القلوب وبارئ النفوس سبحانه وتعالى.

واجبنا نحو رسول الله ﷺ

إنّ أوجب الواجبات تجاهه صلوات الله وسلامه عليه هي حسن اتباعه وتمام محبته، فيكون أحب إلينا من أهلنا ووالدينا والناس أجمعين، يقول بن حجر رحمه الله في فتح الباري “وليس ذلك محصورًا في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصرة سنته والذب عن شريعته وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” فإن المحبة الحقيقية تتجلى عند العمل بمقتضاها في مواطن النصرة، فلا تكون محض شعارات رنانة تختفي وتذوب عند عتبة أول اختبار لصدق المحبة والنصرة.

وكذلك نحفظ له ولصحابته رضوان الله عليهم أجمعين عظيم فضلهم في حفظ هذا الدين ونقله لنا وجهاد من ساموهم سوء العذاب لأجلنا، فنشأنا مسلمين ولله الحمد دون الذب عن الدين بالأرواح أو تحت صليل السيوف، فكما قال المقداد بن الأسود رضي الله عنه (تَحْمَدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ أَخْرَجَكُمْ لَا تَعْرِفُونَ إِلَّا رَبَّكُمْ، فَتُصَدِّقُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ ﷺ، قَدْ كُفِيتُمُ الْبَلَاءَ بِغَيْرِكُمْ) [البخاري في الأدب المفرد].

الواجبات الناشئة عن وجودنا في هذا الزمان

إنّ تواجدنا في هذه الحقبة الزمنية المليئة بالفتن والصعوبات والبلايا يقتضي منا مزيد عملٍ وبذل في ميادين متعددة، وبالرغم من أنها محنةٌ عظيمة حقًّا، إلا أننا يمكننا تحويلها إلى منحة رائعة، إذ إنّ أزمنة النصرة والتمكين تندر فيها مواطن البذل والصبر والجهاد، وتقل فيها الثغور التي يمكن أن يقوم عليها المسلم، ويكون الرخاء فيها نذير شؤم لسقوطٍ جديد، وهنا تتبلور المنحة الحقيقية، وهي الفرص الهائلة المتاحة للعمل والجهاد، والأوقات السانحة لنري الله منّا خيرًا وبذلًا، واثقين من قدوم النصرة والتمكين سواء قضينا نحبنا قبله أو انتظرناه وعاينّاه، فقد قال الله عز وجل {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور: ٥٥] وهذا والله خيرٌ عظيم كفيلٌ لإحياء الهمم والعزائم لتلحق بموسم الأجر والصبر والمثوبة والجهاد، وهذا هو الميدان الأول.

أما الميدان الثاني فإنه يتمثل في التعاطي مع الواقع الحالي الذي يختلف تمامًا عن واقع الصحابة الكرام، ونجده يتجلى في سياقات متعددة منها:

السياق التربوي

إنّ الذين لا يبذلون جهدًا في البناء التربوي لهم ولأبنائهم في هذا الزمان، ولا يشيّدون بناءً فكريًا راسخًا يستطيعون به تحصين أنفسهم من نوازل هذا العصر، ونقل هذه الحصانة لذريتهم، مُعللين ذلك بأنّ الناس في عصر النبوة لم يكونوا على علمٍ بهذه النُسُق التربوية، ولا تلك القريحة الفكرية، وخرج منهم رواد الأمة وعظمائها.

والحق أنّ من يردد هذا الكلام في عصرنا واقعٌ في وهمٍ كبير ناتجٌ عن قصور في تصور الواقع، أو كسل وتقاعس عن العمل بمقتضى العلم، إذ إنّ المسلمين في عصر النبوة لم يكونوا في حاجة إلى تعلُّم تلك المهارات لأنهم كانوا أناسًا يمتلكون فطرة سليمة ونفوسًا سوية، ويعيشون في حاضنة مجتمعية سمتها الأبرز التسليم لله ولرسوله وطاعتهم، فنشأت الأجيال بشكلٍ طبيعي على ذات المنوال، فلم يحتج الآباء بذل جهد إضافي للحفاظ على أبنائهم أو القيام بمقاومة الوسط الخارجي لفساده.

أما نحن فلا يخفى على ناظرٍ إلى الواقع أنّ كل هذه المقومات التي تمتع بها جيل الصحابة وجعلت من مهمة التربية شيئًا يسيرًا تلقائيًا، تكاد تكون منعدمة في زمننا هذا، لذا وجب علينا للحفاظ على المحجة البيضاء التي بُذلت لها الأرواح لتصل إلينا، الاجتهاد لتكوين وابتكار تلك المقومات من جديد ولو في الدوائر الصغيرة حتى نوفر بيئة للأبناء تسمح لهم بالنمو بشكلٍ سوي فيها.

السياق الفكري

إنّ تكوين مَلَكة فكرية ناقدة لم يعُد أمرًا اختياريًّا أو تكميليًّا في هذا الزمان، بل هو من واجبات الوقت التي لا يمكن تفويتها، إذ إنّ الغزو الفكري الذي اجتاح المجتمعات الإسلامية في العقود الأخيرة ولم يترك موطن إلا دنّسه، فرض على أبناء الأمة في هذا الزمان التسلّح بالحد الأدنى من الأدوات الفكرية التي تحميهم من هذا الغزو البغيض، وتوجب عليهم مزيد علمٍ بالشريعة وتمسك بها ورؤية العالم بعين القرآن ليميز المرء الخبيث من الطيب.

فهذا التحدّي لم يكن في عهد النبوة، إذ إنّ النبع الصافي موجود بتلاوة آيات الله ووجود رسوله، وحتى شبهات اليهود والمنافقين كانت تُدحَض بآياتٍ كالصواعق تُنبئهم بما في قلوبهم وتحذر الصحابة منهم.

السياق الدعوي

رغم تنوع الملل والنِحل في عهد النبوة، وعظيم البلاء الذي تعرض له سيّد الخلق في سياق الدعوة طوال حياته، إلا أنّ المدعوّين كانوا على قدر كبير من الوضوح والمنطقية، فنادرًا ما تجد سفسطة أو إنكارًا للمبادئ العقلية الضرورية، وقليلٌ من يتحدث متسلقًا على مقاماتٍ أعلى من مقامه، وكان هناك قدرٌ من المروءة عند الناس تجعل الكثير من السياقات الدعوية فيها ملأى بالرقيّ الحواري.

أما الآن فيصعُب جدًا تحديد السياقات الدعوية في مسارات محددة لكثرة الأنواع البشرية المحتاجة للدعوة، وكثرة التحدّيات التي تواجه الداعية سواء الفكرية أو الحوارية أو غيرها، وغير ذلك الكثير من التحديات.

والسياقات الأخرى الواردة في هذا الباب كثيرة جدًا، ويمكن استخراجها من خلال فهم وإدراك الواقع الحالي، مع استيعاب مقتضيات ذات القضية في عصر النبوة.

ختامًا..

إنّ الحديث عن الحبيب المصطفى ﷺ أمرٌ مهيب وعزيز، وهو حديثٌ لا ينضب، وينبوع لا يجف، كيف لا وهو عن سيد الخلق والمرسلين الذي كان خُلُقه القرآن، الذي أُرسل رحمة للعالمين، فمن حقّه علينا أن نلقاه على الحوض ونحن على المحجة البيضاء، ثابتين على هذا الدين مدافعين عنه، معتزّين به، فإن لم يُكتب لنا شرف لقياه في الدنيا والعيش في كنف النبوة، ففرصة كتابة شرف نصرته والعمل بمقتضى محبته قائم، فلنُرِ الله منّا خيرًا.

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد