image_print

لماذا يبدو الخطاب الديني متناقضا؟

تبرز إحدى أكبر المشاكل التي يواجهها المتلقي للخطاب الديني في التناقض الكبير فيما يتلقاه، فأحدهم يدعي أنّ الحجاب عادة جاهلية، وآخر يشكك بصحة السُنّة.. ناهيك عن داعش ونهجها.

ويتلقى الناس كافة المتناقضات مُغلفة بغلاف الدين، فكيف يمكن اجتماع كل هذه المتناقضات؟ ليكون الدين مجرد غلاف يمكن أن يحوي أي شيء، حتى كاد صحيح الدين أن يصبح ضبابياً، فكل ثابت من ثوابت الإسلام يظهر أحد ما ليخالفه، وبطريقة إقناع قد تبدو منطقية.

الجواب ببساطة أنّ الدين جملة علوم قائمة بذاتها؛ وبالتالي ففي كل علمٍ من علوم الدين يجب اتباع المنهج العلمي للوصول لنتائج صحيحة. وأما حمل الألقاب الأكاديمية، أو إصدار بعض الكتب، فلا تخوِّل صاحبها ليُفسر ويُفتي كيفما شاء، إن لم يتبع منهجاً علمياً قويماً.

فقد أصبح كل من تمكن من الظهور على الشاشات مفتياً ومفسراً وفقيهاً، وباستغلال جهل العامة (أي من غير ذوي الاختصاص) يُمكن إقناعهم بأي شيء، فبانعدام العلم عند المتلقي، يصعب عليه تمييز المنهج العلمي القويم، بالتالي يصبح أي شيء ممكناً، ويمكن التوصل لأي نتيجة يريدها صاحب الخطاب الديني.

وهذا أمر طبيعي يمكن إيجاده حتى في العلوم التجريبية البحتة، فبغياب المنهج العلمي القويم يمكن أن يكون ناتج تفاعل الهيدروجين والأكسجين هو ثاني أكسيد الكربون (مثلاً) وليس الماء، وذلك بالتلاعب بظروف إجراء التجربة ومكوناتها (أي بما يخالف المنهج العلمي)، وبالتالي سيقتنع المتلقي أنّ ثاني أكسيد الكربون ينتج عن تفاعل الهيدروجين والأكسجين.

مما سبق يتضح أنه وبغياب العلم المسبق تزداد أهمية مصادر المعلومات، إذن ما العمل؟ كيف يتعين علينا نحن العامة اختيار مصدر معلوماتنا الشرعية والدينية؟

أظن أنّ الخطوة الأولى هي بناء أساس علمي بسيط وضروري -لا يستلزم الاختصاص- مما لا يسع المسلم جهله، قائم على تعريف المسلمين بأساسيات دينهم وتثبيتها في نفوسهم، فرغم كل محاولات التضليل والتمييع، تبقى ثوابت الدين العامة واضحة المعالم فلا داعي لعلم متخصص لتعلم أنّ الصلاة أو الحجاب هي أحد فرائض الدين، ومن ينادي بغير ذلك فهو شاذ عن القاعدة ويحتاج كلامه إلى نظر.

لكن ما الذي يدعو الشباب للانقياد خلف الأقوال الشاذة دون التأكد من مدى صحتها وسلامة نهجها؟

أحد أهم الأسباب لذلك هو إغفال الشباب للمكانة العلمية للمتلقّى عنه؛ فللعلماء مراتب واختصاصات يكمّل كل منها الآخر، وهناك الدعاة الذين ليس بالضرورة أن يكونوا أصحاب علم. وأخيراً هناك الدخلاء على العلم الشرعي، وهم من يتخذون الدين وسيلة للحصول على المال أو الشهرة ونحوه، فمنهم من يتخذ الآراء الشاذة سبيلاً لتحقيق الشهرة، ومنهم من يرضخ لإرادة أصحاب وسائل الإعلام، أو يكون أداة في يد أصحاب النفوذ والسلطة وما إلى ذلك. وفي كثير من الأحيان يشمل ذلك أئمة المساجد؛ ليكونوا مجرد أشخاص درسوا في كليات تقبل أقل شروط القبول بغية الحصول على وظيفة، وفي هذه الحالة هم موظفون وحسب، ليسوا مصدراً للعلم الشرعي ولا أهلاً للخطاب الديني.

التقليد والتجديد
يتهم الشباب الخطاب الديني بالضعف، فمع حال أئمة المساجد آنفي الذكر، وفي ظل ما تعانيه الأمة من انهزام وما يقوم به الإعلام من تزييف للحقائق، وما يعانيه الشباب من جهل بالعلم الشرعي وغياب للاستعلاء الإيماني، أصبح الشباب يهرولون نحو كل من يدّعي التجديد. فيأتي مدّعو التجديد هؤلاء فيُسمّون الخطاب الديني بـ”الخطاب التقليدي”، ويميعون الدين ويضيعونه، في محاولتهم لأسلمة قيم الرأسمالية والعلمانية والعولمة، مستغلين انجذاب الشباب إليهم لدسّ ما يحلو لهم من أفكار.

وهؤلاء الداعون للتجديد أصحاب خطابٍ ومخاطَبين، يُعاملون الدين معاملة العلوم التجريبية؛ فيفترضون أنّ الدين يتقدم بمرور الوقت، وعليه فيجب استحداث اساليب جديدة لأنَّ كل قديم عفا عليه الزمن. وهؤلاء قد نسوا -أو تناسوا- أنّه من الطبيعي -بالعموم وليس بالإطلاق- وبمرور الزمن أن يقل فهمنا للوحي المُنزل منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، بسبب قلة العلم بأسباب النزول وبعلوم اللغة وغيرها من ضروريات فهم الوحي من جهة، وضعف منظومة تعليم العلم الشرعي -المشار لها سابقاً- من جهة أخرى.

ولنعد لما يتعلق بالادعاءات الشاذة؛ حيث يتوجب على المسلم المهتم بهذه الادعاءات مقارنتها بما لديه من ثوابت عامة وأساس علمي -تمت الإشارة لضرورته فيما سبق- وإنّ الحق سيكون جلياً من خلال قوة الحجج ومدى انسجامها مع الوحي سواء لدى صاحب الادعاء أو من يردُّ عليه.

وبالتالي إن ثبت أنّ أحدهم يعاني الجهل ويتحدث فيما لا يفقه، أو أنه يستخدم التدليس والخداع لإثبات رأيه، فهذا كفيل بإسقاط ادعاءاته المستقبلية مباشرة بسقوط المنادي بها. وبالمقابل إن وجِد آخر ثبت أنه يتبع منهجاً علمياً موضوعياً ويحيل الأمور لأهل الاختصاص، فهذا كفيلٌ بجعله ثقة للأخذ عنه.

هذا وليس كل غريب على العوام غريب على العلماء، وهنا يكمن الفرق بين الادعاءات الضالة المضللة، وبين صحيح الدين غير المألوف لدى العامة. ففي الحالة الأولى؛ يكون الادعاء مثيراً للجدل ويستهجنه العلماء ويردون عليه، ويصدر من أدعياء العلم؛ وأما الحالة الثانية، فهي العكس تماماً. وبالعودة لتفاعل تكوّن الماء، فإنّ “خليط” الأكسجين والهيدروجين -وبنفس النسب- يُستخدم في اللحام ومعالجة المواد الحرارية، أمر قد يستغربه العوام لكنه بديهي لأهل الاختصاص.

والتثقف العام بالدين لا يمنع أن تجول في بال المسلم أسئلة وشبهات، لكن المهم هو محاولته إيجاد الإجابات من المصادر الصحيحة؛ فلا يتعرف على دينه من خلال شبهات المُضللين، وعلى السؤال أن يقترن بيقين وجود الإجابة، فيكون سؤالاً بغرض طلب العلم، لا بغية مهاجمة الدين أو التشكيك به. لكن هل هذا يعني عدم وجود مسائل جزئية خلافية؟

بالطبع لا، فالعلوم الإنسانية عموماً فيها أمور خلافية؛ فإذا كان علم كالمحاسبة -وهو أقرب العلوم الإنسانية للعلوم البحتة لتعامله مع أرقام وكميات- فيه اختلافات شاسعة تتجسد في المرونة العالية والخيارات الكثيرة التي توفرها المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية، فكيف بالعلم الشرعي الذي يضبط كافة نواحي الحياة للفرد المسلم؟!

لكن الخطاب التجديدي يتخذ فكرة الخلاف ذريعة لجعل كثير من أمور الدين خلافية حتى الثوابت منها؛ فتطغى على العوام النسبية السفسطائية المطلقة والمفضية إلى العدمية، فتُسلب الحقائق قيمتها وتصبح ثوابت الدين “وجهات نظر”.

وأما الخلافات السائغة فتُترك للعلماء، فلا يصح أن يتجادل العامّة، بأمور اختلف فيها أهل الاختصاص. وعلى المسلم ألا ينشغل إلا بما يفيده ويَمضي في حياته فيما يحقق الخير له ولأمته، دون الانشغال فيما لا يفقه أو فيما لا يساعده على العمل والتأثير والإنجاز.

وختاماً؛ فإنَّ الله تعهد هذا الدين بالحفظ، مهما بلغت محاولات تمييعه وتضييعه، ومهما اشتد الحكّام سطوة واشتدت أبواقهم خنوعاً. ويكمن واجبنا في تحري الحق وعبادة الله على مراده، سائلين الله أن يرزقنا علماءً يسعون إلى الحق دون غايات مضمرة أو محاباة لأي أحد، لا يقصدون تعنتاً ولا تساهلا بل يتحرون مراد الله سبحانه، ويقدمون نموذجاً للخطاب الشرعي الصحيح، يسعون لنشره ليكونوا منبراً للحق منارةً للهدى.

الصلاة وسيلة تغيير

كنا نناقش يومها سُبل التّغيير، وكأننا نبرم بين بعضنا اتفاقاً عاماً نلزم أنفسنا به كتعهد طوال العام، على أن يكون هذا التعهد يحمل الأثر الواضح في الحياة، أي على أرض الواقع، وكان ما طرحته تلك الفتاة يبدو عادياً لوهلة، إلا أنه كان حقيقة مميزاً وعميقاً إلى أبعد حد ممكن.

ففي الحين الذي أعلنت إحداهن الرغبة في زيادة حصّتها العلمية، وقررت أخرى الاهتمام برعاية أسرة يتيمة، وتحدثت ثالثة عن التبرع بنقود للفقراء والمساكين، قالت هي بأنها تريد أن تركز على أمر واحد فقط لا غير، وهو أن تجعل صلاتها أفضل.

قد يتراءى لنا جميعاً أنه عملٌ عادي، له أثر شخصي وخاص بها، ولكن فهمها لأبعاد الصلاة وتأثيرها في الحياة كان المحور والأساس.

بداية لقد انطلقت الفتاة من فهمها الصادق لقوله تعالى: “إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم” [الرعد:11]. فكان تغيير ما بالنفس هو المحور والانطلاقة لكل شيء، وقد ربطت تغيير ما بالنفس بالصلاة وقد فهمت تماماً أن التغيير يحتاج قوة، والقوة لا يمكن أن تستمد إلا بالصلة المتينة بالله سبحانه وتعالى، وهذا ما تفعله الصلاة.

لم تكن إشارتها لتحسين الصلاة مرتبطة بالأمور الظاهرة كالحركات والسكنات وحسب، بل تعداه إلى تأثير الصلاة في الحياة، وقد استحضرت سريعاً  آية وعتها وفهمت من خلالها أيضاً دور الصلاة في التغيير، قال تعالى: “اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ” ]العنكبوت: 45[.

كيف للصلاة أن تنهى عن الفواحش إن لم تصدق هذه الصّلة، فتعمل في النفس عمل التطهير من الذنوب، وتعمل أيضاً عمل الوقاية من ارتكابها، فيكون الارتباط الوثيق للمسلم بالله، وهو يتمعن الإنسان في النداء، ويسارع إليه كمحتاج باحثٍ عن من يسمعه فيلبيه، وهو مؤمن بأنه لن يخيبه، ويتوضأ لا ليتجدد خمس مرات في اليوم نظافة وحسب، بل ليستشعر في قلبه ذلك الطهر، وتساقط ذنوبه مع كل قطرة ماء تتساقط على جسده مطهّرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟”، قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: “فذلك مثل الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهن الخطايا”؛ متفق عليه.

تفكير جديد
قالتها في تلك اللحظة ودفعتنا لأن نعيد التفكير في المسألة من جديد.

كيف للصلاة حقاً أن تحفظنا، وتغيّرنا لنغير ما حولنا، كيف لها أن تستعيد الإنسان من الفجوة الحاصلة بينه وبين واقعه، فتبنيه البناء الصحيح. إن الإشكالية الكبرى التي وقع فيها المسلمون في صلاتهم كونهم  لا يصلّون الصلاة التي أمر الله بها عباده المؤمنين، هم يصلون وحسب، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن صلاتهم هذه صحيحة.

قال تعالى: “قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ” [المؤمنون:1-2[، والخشوع ليس بالضرورة ذرف للدموع أو البكاء، بل هو تدبر متواصل ومستمر للقرآن، وتفاعل حقيقي مع الله في علاقة تربط المسلم به تعالى، كما تربطه بالمجتمع وبالكون ككل.

الصلاة التي تتصل فعلاً بالله، والتي تغيّر القلب، وتحيي العقل والروح، فينعكس ذلك كله على الأفعال، على الحياة والسلوك، فالذين لا تتصل قلوبهم بالصلاة لا يمكن أن تشكل صلواتهم رادعاً لهم عن الخطأ، وفقط أولئك الذين تعلموا من كل تفصيل في الصلاة عبرة ودرساً يجعلهم أفضل، هم الذين طبقوا الإسلام بأفضل وسيلة ممكنة.

من جعلوا فترة ما بين التكبيرة والتسليمتين مفتاحاً للتغيير، واستجابوا لنداء الله حين قال في كتابه العزيز: “إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي” ]طه: 14[. فكانت الصلاة إحياء الروح باستمرار ذكر الله، وحضور الإيمان في قلب الإنسان المؤمن.

ولعل شيئاً ما في داخل كل منا يميل بإصرار للاتّصال بالله تعالى بطريقة أو بأخرى، حاجة قوية تدفعنا لنجمع الدعاء وهو خطابنا له، والقرآن وهو خطابه لنا في عبادة واحدة.

حركات وسكنات تمثّل كل منها دعوة إلى حياة الاستقامة، وتربية عليها، تناغم كامل كلّي يأخذ المسلم إلى عالم آخر في أيّ بقعة من العالم كان، وفي أيّ ظرف أو حال، فهي الأمن والسكن، والملجأ والراحة، والكهف الذي نلبث فيه قليلاً ثم ننطلق عبره إلى العالم بروح مختلفة.

يلخص ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه: “أرحنا بها يا بلال”، وكأنما فيها طلب الراحة المطلقة من ضجيج الحياة وما يتحمله صاحب الرسالة فيها من كدّ وتعب وعناء.

هي راحة منذ سماع التكبيرة الأولى للأذان، وحتى الوضوء فالتكبير للصلاة، فأداء للصلاة على تمامها حتى التسليمتين.

راحة بتوزيع أوقاتها على الليل والنهار لتكون الحارس الأهم الذي يحصّن المسلم من الوقوع في المهالك، ولذلك كان الحث مستمراً على الاهتمام بها وعدم التفريط فيها.
قال ﺗﻌﺎﻟﻰ: “فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا” [النساء: 103]، ﻭقال تعالى: “حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى” [البقرة: 238]، وكفى للصلاة أهمية أنها كانت آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته المسلمين حين قال: “ﺍﻟﺼﻼﺓ ﺍﻟﺼﻼﺓ، ﻭﻣﺎ ﻣﻠﻜﺖ ﺃﻳﻤﺎﻧﻜﻢ”. حديث صحيح، غير أن الأمة حين غُيّبت أخذت ظاهر الوصية في صلاة شكلية، وتناست الجوهر فغاب الأثر، وحين تستعيد صلاتها ستعود لتحيي الموات بإذن الله.

هل هناك مؤسسة دينية في الإسلام؟

في كل الأديان المحرفة والموضوعة التي ظهرت في التاريخ الإنساني كان هناك دائمًا مؤسسة دينية تراتبية، يقوم على رأسها رجال دين يصوغون المبادئ والعقائد وطرق العبادة وتفاصيل الحياة اليومية، ويسيطرون على العقول والقلوب والجيوب بطرق مختلفة، وبالتحالف مع السلطة التي تتبادل معهم الاعتراف بما يضمن الاشتراك في المنفعة بالتسلط على العباد.

ولعل أوضح الأمثلة على هذه المؤسسات وأكثرها استحضارًا في كتابات المثقفين هو كنيسة الفاتيكان الكاثوليكية، حيث سيطر البابا طوال القرون الوسطى على ممالك وإمارات أوروبا، ثم امتد سلطانه إلى المستعمرات حول العالم، ولم يكن يُسمح لأي كنيسة بأن تنشأ ولا لأي كاهن بأن يُرسم سوى باعتراف البابا وتحت سلطته.

وبالرغم من بروز محاولات عدة للتمرد عليه (حركات الهرطقة) إلا أنها كانت تنتهي دائمًا تحت أقدام العسكر وفي محاكم التفتيش بمساعدة السلطات السياسية المتحالفة معه. أما في اليهودية فتتخذ هذه المؤسسة شكلاً أكثر تطرفًا وانغلاقًا؛ لكنها أقل شهرة لعدم تحالفها مع سلطة سياسية منذ السبي البابلي وحتى تأسيس الكيان الصهيوني، ولحرصها الشديد على البقاء في الظل.

ونجد هذه المؤسسات الدينية بتحالفاتها السياسية حاضرة أيضًا طوال تاريخ الحضارات الشرقية، كالهندوسية والبوذية والطاوية والكونفوشية والشنتوية والزرادشتية والمزدكية، وقد اطلعت في الأيام الماضية على بعض ملامح المؤسسة الدينية للبوذية وتزاوجها مع السلطة حتى اليوم في دول آسيوية، ووقفت عن قرب على تفاصيل احتكار الكهنة للمعرفة الدينية؛ تمامًا كاحتكارهم لإدارة المعابد، فالتعرف إلى الدين بحد ذاته لا يتم إلا على يد الكهنوت؛ مما يجعلهم بحق “مؤسسة” متكاملة.

لكن وجود مؤسسة دينية بهذا المعنى مستحيل في الإسلام، لأن نصوص هذا الدين -التي تكفل الله بحفظها من التحريف- لا تجيز وجود هذه المؤسسة، وبالرغم من محاولات الكثير من المذاهب ابتكار هذه المؤسسة بكل ما تستلزمه من مراتب وشعائر ترسيم ومبايعة وتوريث فإنها لم تنجح إلا بين أتباعها فقط، ولم تستطع احتكار الإسلام نفسه لأن النصوص المحفوظة والمعلنة والتي لا يستطيع أحد احتكارها تفضح هذه المحاولات.

فالنصوص المحفوظة تمنع وجود السلطة الدينية والكهنوت، ولا تجيز الاستبداد أصلاً على يد السلطة السياسية نفسها، فضلاً عن الدينية. لذا لا يُعترف في الإسلام سوى بشرعية العلم الذي يُكتسب بالطلب المتاح لكل صاحب همة، وليس بالوراثة ولا بالمال ولا بالبيعة. وهو علم يتصل بالسند المضبوط بقواعد الرواية عن مصدره الوحيد وهو النبي المرسل، ويُجتهد فيه بالرأي المنضبط أيضًا بقواعد مستنبطة من فقه القرون الثلاثة الأولى التي شهد لها النبي المعصوم بالالتزام بالسنة.

وعندما حاول الخليفة المنصور –وكان هو السلطان الوحيد لكل مسلمي الأرض حينئذ- أن يجبر القضاة والولاة على الالتزام بكتاب واحد هو موطأ مالك، رفض المؤلف نفسه رحمه الله وقال: “إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها”. وحتى عندما اكتمل جمع الأحاديث في قرون لاحقة لم يكن ممكنًا حمل الناس على مذهب واحد، حتى لو وُجد من العلماء من يرغب بالتسلط، لأن هناك علماء آخرين لديهم من العلم ما لديه ولا يستطيع أي سلطان أن يطمس ذلك العلم ويحرّفه ليجبر الناس على الالتزام بما يقوله عالم ما يتربع على رأس مؤسسة دينية.

لذا لم يتسيد أي عالم مهما علا شأنه على الأمة كلها، فكان هناك إمام السنة ابن حنبل وحجة الإسلام الغزالي وشيخ الإسلام ابن تيمية وفيلسوف الإسلام ابن رشد، ولكن لم يتمكن أنصار أي منهم أن يؤسسوا لهم مؤسسة دينية، مع أن كل واحد من هؤلاء وجد من يناصره من السلاطين، ولكنهم جميعًا تعرضوا أيضًا للاضطهاد السياسي في فترات أخرى، كما أن المسلمين لم يجتمعوا على سلطان واحد إلا في سنوات قليلة من عصر الخلافة الراشدة والأموية وبداية العباسية، بينما كان البابا يسيطر على كل ملوك أوروبا الذين يتنابزون بينهم سياسيًّا ويعودون في النهاية لاكتساب الشرعية من مؤسسة دينية واحدة.

إذن فمصطلح المؤسسة الدينية الذي يطغى على كتابات الأوربيين المناهضين لاضطهاد الكنيسة السابق يجب أن يبقى ضمن سياقه، ومن المؤسف أن يستعيره العلمانيون العرب لنقد عيوب المسلمين أو للتعرض للإسلام نفسه، فأقصى ما يمكن نقده -عندما يوجد الضمير الحي- هو سلطة فقهاء السلطان الذين يشكلون مرجعيات لا مؤسسات، والذين يحاولون حمل الناس على آرائهم بقوة السلطان والإعلام وليس باحتكارهم للحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها كما هو الحال في الأديان الأخرى التي طمس أحبارها ورهبانها الوحي وأخفوه تمامًا.