image_print

نقد الخطاب المدني والعبودية الناقصة

من المسائل المركزية التي استُحضرت مؤخرا في النقاشات القائمة في فضاء الفكر الإسلامي هي نظرة الإسلام إلى الحضارة والمدنية، وقضية ما إذا كان الإسلام قد دعا إلى إقامة حضارة عصرية أو مدنية متقدمة، أم أنه يعدها مسألة ثانوية، ولذلك لم يعطها ذلك الاهتمام الكبير.

ويبدو أن الكلام في هذه القضية بدأ يستحوذ على اهتمام خاص في البيئة العربية الإسلامية بعد عصر النهضة الأوروبية واكتشاف المسلمين الفجوة الحضارية الهائلة بينهم وبين الأوروبيين، وتجلي ذلك في ميادين العلوم الطبيعية والإنسانية والتقدم التقني في المجالات الصناعية والزراعية والحربية وغيرها، وهو ما انكشف للمسلمين مع الحملات الاستعمارية التي اجتاحت معظم البلاد الإسلامية، وكذلك عن طريق البعثات العلمية التي أُرسلت إلى الديار الأوروبية. وبناء على ذلك نشأ تيار من العلماء المسلمين أفزعه ذلك التخلّف وقض مضجعه، فانطلق يدعو المسلمين إلى ضرورة النهوض، وبنى خطابه الإصلاحي على مركزية الشهود الحضاري، وجعل يحرّض المسلمين ويستحثّهم على استئناف مسيرتهم الحضارية، والعودة إلى مركز الريادة في سائر مجالات الحياة. وعلاوة على ذلك رأى بعض منظري هذا التيار أن وظيفة الإنسان المركزية في الحياة هي عمارة الأرض، وما سوى ذلك ما هو إلا وسيلة لهذه الغاية.

وعلى صعيد آخر قام الحداثيون العرب بالدعوة إلى تقليد الغرب بعجره وبجره، واقتفاء أثره شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وصار التقدّم المدني عندهم معيار الحكم على المجتمعات والثقافات، وقد تطوّر الأمر عند بعضهم إلى درجة التصريح بعدم صلاحية الإسلام وشريعته للزمن المعاصر باعتبار أن المسلمين أصبحوا متخلّفين في مختلف المجالات الدنيوية، بينما تقدّم الغربيّون بمراحل بعيدة خارج إطار الدين، فقال هؤلاء: تعالوا نضع الدين جانبًا كما فعل الغربيون من أجل أن نصل إلى ما وصلوا إليه. وهذا الفريق على اختلاف أقنعته ومشاربه من علمانية وليبرالية وحداثية، لا نستهدف مناقشته في هذه المقالة، فقد كُتبت الكثير من الردود على أطروحاته بما كشف لنا حقيقته وأغراضه وخطورة أفكاره على المجتمعات الإسلامية ونهضتها المنشودة.

لكن الذي يهمّنا هنا هو مناقشة ردود بعض الإسلاميين المعاصرين التي تُقدم تحت عناوين من قبيل “نقد الخطاب المدني” و”الرد على الأفكار الحداثية أو الليبرالية” وما أشبه ذلك، لكنها في الواقع تحاول -في حيّز كبير منها- تقديم ردٍ على خطاب المدرسة الإصلاحية، الذي نُسِب إليه مسمى “الإسلام الحضاري”، ونقد بعض أفكاره المركزية.

معارضة الخطاب المدني بمركزة مفهوم العبودية لله  

وجد بعض الباحثين ممن اشتغل بنقد الخطاب المدني -وقد لاقى خطابهم قبولا لدى الشباب- الحلَّ في المقاربة التالية: الإسلام ما جاء للناس لكي يقول لهم ابنوا حضارة أو شيّدوا مدنية، لكن جاء لدعوتهم ليكونوا عبادا لله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وكل دعوات الأنبياء مع أقوامهم المسجلة في القرآن شاهدة على ذلك، بل هي صريحة وواضحة في مركزية هذه الدعوة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وذلك ظاهر من نداءاتهم المتكررة {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [هود: 61]، بل نجد فوق ذلك أن الاستعلاء المادي والتفوّق الحضاري والتقدم المدني، الذي بلغته بعض الشعوب الغابرة، جاء في القرآن الكريم غالبا في معرض الذم، وعقّب الله عز وجل بعد ذكر أحوالهم بالوعيد والنكير الشديد. فالعبودية لله إذن حسب هذا الرأي هي رسالة الإسلام الجوهرية، أما الحضارة والمدنية وعمارة الأرض والسعي الدنيوي عموما فهي مسائل ثانوية لم يعطها الإسلام تلك الأولوية كما يدعي أنصار الإسلام الحضاري، ويرى هذا المذهب أن الأفكار والمشاريع الإصلاحية المتمركزة حول النهضة المادية متأثرة بالخطاب الحداثي المدني.

وفي تطور لافت أصبحت بعض الاجتهادات الفقهية الحديثة، والمقاربات الفكرية المعاصرة، والرؤى التجديدية تُوضع مباشرة في خانة الخطاب المدني المتأثر بسلطة الثقافة الغالبة، الذي يُنتج حسب هذه الرؤية تحت ضغط الواقع، وفي مصانع التجميل العصري، بحيث يراد إخراج الإسلام بحلّة عصرية جديدة تتوافق مع المكتسبات المدنية الحديثة، وتلقى قبولا لدى الآخر غير المسلم، وتتماهى مع المعايير العالمية الجديدة التي أقرتها دساتير الدول الحديثة.

إشكالات هذا الطرح

لا حاجة هنا لمناقشة فكرة أن العبودية لله تعالى هي غاية الوجود الإنساني، فهي من الوضوح بما لا يُحتاج معه إلى مزيد إيضاح. كما لا بد من الإقرار بوجود إشكال في المبالغة في تصوير مكانة الحضارة والسعي المدني في الإسلام، وأن ذلك جاء أحيانا على حساب تزكية النفوس وتربية القلوب، فلم تتصف هذه الدعوة بالتوازن المنشود. فالحضارة أو المدنية ليست مسألة معيارية تسمح بالحكم النهائي المطلق على السعي الإنساني بالنجاح أو الفشل، لكنها في المقابل قضية غير منفصلة عن مفهوم العبودية لله، بل إنها ملازمة له، ونتيجة طبيعية لتحمل تكاليف الخطاب الشرعي كما سيتبين لاحقا.

والإشكال في هذا الطرح هو تصويره للعبودية على أنها العبادة المحضة (الصلاة، الصيام، الحج، الدعاء…)، وإهمال حقيقة أن بعض الأعمال الدنيوية قد تدخل أيضا في معنى العبودية، إذا قصَد الإنسان فيها وجه الله تعالى. ويؤخذ على هذه المقاربة أنها جعلت العبودية مقابل المدنية والمكتسبات الحضارية كأن بينهما تناقض أو انفصال في التصور الإسلامي، فالأولى حسب هذه الرؤية هي التي أرادها الله لعباده، وكلّفهم بها، والثانية ليست من جوهر الدين، ولم يحثّ الشارع عليها.

والعبودية لا تُقصر على العلاقة المباشرة بين الإنسان وخالقه، ولا يمكن حصرها في مجال الوجداني والروحاني أو اختزالها بالشعائر العبادية، لكنها تنسحب أيضا على المجالات الحياتية كافة {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]. والعبرة فيها بالنية والقصد، فإماطة الأذى عن الطريق عبادة، وإتيان الزوجة بغية الاستعفاف عبادة (وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ)، وإقامة الدولة لنصرة الحق عبادة، وإرساء نظام اقتصادي نظيف بعيدا عن الربا والغرر وأكل أموال الناس بالباطل عبادة، وبناء مدرسة أو جامعة من أجل تنشئة الأطفال وتعليم الشباب عبادة، وتشييد مصنع لصناعة الأدوية عبادة، وهكذا.. ولا يمكن أن تتحقق العبودية لله على مستوى الأمة حتى بشقها التعبدي المحض على الوجه الأمثل دون هذا السعي “المدني”.

وعليه وجب تقرير أن للإسلام مطالب “دنيوية” واضحة تجاه المسلم بأن يضطلع بدوره التعميري في هذه الأرض. وإلا فماذا نفعل بتشريعات القرآن في المجالات المالية والسياسية والدفاعية وغيرها من المجالات؟! فالقرآن وضع المبادئ العامة في مجالات الحياة الأساسية ليقول للناس: أقيموا حياتكم بكل ما يلزم لضمانها حياة كريمة نظيفة عادلة تعبدا لله تعالى.

ومن إشكالات هذا الطرح أيضا أنه جعل العبودية بمعنى التزكية، والأقرب أن الأمرين مختلفان في المدلول والمقام. فتحقيق العبودية لله له مساران يترقّى بهما المسلم ليكون عبدا لله في باطنه، وفي أعماله الظاهرة: مسار روحي قائم على تزكية القلب وتنقيته من الأهواء والشهوات في عملية مستمرة وملازمة لوجود الإنسان في الحياة الدنيا، ومسار مادي قائم على جملة من الأمور منها: اكتشاف السنن الكونية، والازدياد المعرفي، وتحصيل أسباب القوة من أجل تحقيق الغايات والمقاصد التي حددها الشرع، ولا يقوم الدين إلا على هذا. وإن عدم احترام السنن الربانية في الطبيعة والإنسان، والزهد في البحث عنها، وإهمال النظر في الكون، ومحاولة الكشف عن أسراره، مع التوهم بتحقيق العبودية، هو تمرد على مفهوم العبودية ذاته.

والعبادة عند شيخ الإسلام ابن تيمية هي: “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة”. وقريب من ذلك رؤية الأستاذ المربي ماجد عرسال الكيلاني لهذا المصطلح، فهو عنده: “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفكار والمشاعر والعواطف في حياة الأفراد والجماعات، وفي جميع الميادين الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وغير ذلك”.

ومن هنا يتأكد لنا أن قصر مفهوم العبودية على العبادة المحضة يحولها إلى عبودية ناقضة تكرّس نظرة مختزلة ومشوهة لمهام الوجود الإنساني، ولا يُستبعد أن تؤدي إلى الدروشة والعطالة الفكرية والحضارية، بحيث يصير المسلمون عالة على الأمم كما هو الحال في أيامنا هذه. ومن العجيب أن تدفعنا انحرافات المقولات الحداثية في هذا الشأن إلى التخبّط بين طرفي الطريق، إما إلى إفراط أو تفريط، دون الاهتداء باتزان إلى الصراط المستقيم وسطا بين المسالك المنحرفة. كما أن ضغط الواقع وثقله لا ينبغي أن يربك المفكر المسلم الواثق فينسى تجاربه التاريخية وخبرته الثرية، ويصرف نظره عن الإشكالات الكثيرة والآثار الخطيرة في تحوير مصطلح العبادة، وهو أمر ظهرت له تبعات ثقيلة في تاريخ هذه الأمة الطويل، ولنا في بعض فرق المتصوّفة المبتدعة قديما وحديثا دروس وعبر.

الحضارة والمدنية نتيجة لازمة لتحمل التكاليف الشرعية

وإن كان الإسلام لم يأمر صراحة بإقامة الدول، أو إنشاء الدواوين، والمؤسسات، والوزارات، وتشييد وسائل النقل والاتصال، وهي مما تشكّل بمجموعها المدنية أو الحضارة عند البعض، فإن تلك الوسائل والآليات وما يضاهيها هي النتيجة الطبيعية لمحاولة تنزيل الإسلام على أرض الواقع، والترجمة الضرورية للسعي إلى بلاغ الرسالة الربانية؛ وهذا ما يبوح به التاريخ، إذ إن المسلمين في المرحلة الأولى للدعوة، لمّا اضطروا إلى دفع الاعتداءات والمكائد عن معاقل الإسلام، عملوا على الاستعانة بأحدث الأسلحة المتوفرة في زمانهم (الخندق، المنجنيق..)، ولمّا سعوا إلى تطبيق فريضة الزكاة، وأرادوا جمعها وتوزيعها على مستحقيها، أنشأوا المؤسسات والهيئات الإدارية اللازمة التي تمكنهم من أداء هذا الفرض على أحسن وجه. وكذلك لمّا سعى الخلفاء إلى تنظيم الأسواق، ومراقبة سَير الحياة المالية وضبطها، ومحاربة الغش والاحتكار والغرر، استحدثوا هيئات الرقابة ونظام الحِسبة وبيت المال.. إلخ؛ وذات الشيء يقال في المستشفيات، وصك العملة، ونظام البريد، وابتكار نظام التأريخ الهجري، وسوى ذلك من الابتكارات الحضارية التي توالت في المراحل التاريخية اللاحقة.

وعليه فإن مجرد قيام المسلمين بواجبات الإسلام في تطبيق منهجه وممارسة شعائره، والسعي إلى بلاغ رسالته، ونشر دعوته، وحماية أرضه، يلزم منه قيام هيكل متناسق ومترابط من الهيئات والمؤسسات والوسائل التي يستند عليها في إحياء الفكرة الإسلامية وحمايتها، وجعلها فاعلة مؤثرة في أرض الواقع. وإن الاعتداء على هذه الوسائل المدنية بعدَّها مظاهر خارجة عن مفهوم العبودية هو بمثابة قصَّ أجنحة الفكرة الإسلامية، وتقطيع أطرافها، وهدم أسوارها، وذلك يفضي في النهاية إلى جعلها فكرة مثالية هلامية منبتّة الصلة بالواقع، وعاجزة عن إصلاح الأفراد والمجتمعات، ويسلبها حظا وافرا من قوتها ورونقها فيما يُرتكز عليه في الإقناع والمجادلة، ورفع الهمم وإرشاد الأمم في الإقبال على تطهير النفوس من قبائح السلوكيات والعادات، وتقبّل منهج التوحيد منهجا في الحياة.

وهذا هو الحاصل في أيامنا، فقد رأينا أنه لما ذبلت الحضارة الإسلامية، وتحوّلت وسائلها المادية إلى أدوات بالية ومتهالكة، صارت الفكرة الإسلامية عارية الجسد، ووُجِّهت إليها الأسهم من كل اتجاه، وأخذت الشبهات تتسلل دون مقاومة فعّالة إلى عقول الشباب المسلم، وتعشش في نفوسهم، متوسلة بأدوات البحث العلمي الحديثة تارة، وبالمناهج التربوية والتعليمية الجديدة في المدارس والجامعات تارة أخرى، ولم تتوانَ الآلة الإعلامية عن استخدام سحر الصورة وبهجة الألوان من إرسال أشعتها الضارة من خلال الثقوب التي وجدتها في أسوار القلاع الحجرية القديمة، ممهدةً بذلك لاعتناق الأفكار الجديدة بما فيها من أوبئة وسموم. ولما انتفض دعاة الإسلام إثر هذه التطورات المخيفة، وفزعوا لمواجهة هذه التهديدات الخطيرة، لم يجدوا في سبيل ذلك من الوسائل ما يكافئها ويفت عضدها، وصاروا يحتاجون إلى جهود مضاعفة ومساعي ماراثونية من أجل صد الفتن ومقاومة الضلالات الوافدة. وإن نجح بعضهم إلى حد ما، فإن الكثير من هذه الأشعة الفتاكة اخترقت السدود، وأصابت قطاعات واسعة من المسلمين في عقيدتهم وقيمهم وأخلاقهم في مقتل.

وإذا نظرنا من زاوية أخرى، يمكن التساؤل: ما حاجة المسلم الجاد المجتهد إلى السعي المدني الذي يحتسبه نصرة للإسلام إذا أُخبر أن سعيه وجهده في هذا الميدان لا يقع ضمن الأولية القصوى التي جاء بها الدين، بل في رتبة ثانوية تابعة، وأن ذاك المتعبد في محرابه خير منه، وعمله خير من عمله، وأنه أقرب منه إلى تحقيق العبودية لله والغاية من التكليف ومقصود الشارع من الخلق؟! فهل سيدفعه ذلك إلى مواصلة تحمّل معاناة السعي الدنيوي في طلب العلوم الدنيوية، ومحاولة فهم بدائع الصانع في خلقه، واكتشاف قوانينها، ومن ثمّ تسخير ذلك لصناعة الأدوات والآلات التي تتحقق بها كفاية الأمة وقوتها ومنعتها؟ أم أنه سيهجر ميادينها كما فعلت الأمّة بالمجمل في القرون الماضية تحت تأثير هذا الخطاب؟!

وقبل الختام أريد أن أوضح أن ما سبق ليس دفاعا عن الخطاب المدني الذي تمارسه التيارات العلمانية والليبرالية والحداثية، وإن انحرافاتهم وضلالاتهم معلومة لكل مثقف واعي، ولا هو دفاع عن ما يسمى بخطاب المدرسة الإصلاحية، ولا هو انتقاص من أهمية التزكية والتربية الروحية، ولا نفي لوجوب أن تكون العبادات والشعائر الإسلامية هي المنطلق والمحرك لكل سعي دنيوي، إنما هو دفاع عن جملة من الخصائص والقيم التي تفرّد بها هذا الدين الحنيف، وعلى رأسها: الشمولية والواقعية والتوازن والفاعلية، لما لها من دور جوهري في نهضة الأمة، وتمليكها القدرة على مقارعة الظلم وإزالة التخلف الذي أصابها.

وخلاصة القول: إن التزام منهج الدين الكامل على المستوى الجمعي، والسعي إلى تفعيله في أرض الواقع، لا بد أن تنشأ عنه حضارة منتجة متماسكة البناء، ومدنية مادية قائمة على أفضل الوسائل العصرية في كافة مجالات الحياة، تكون هي العاكسة لقيمه العليا، والممثلة لحقائقه النقية، والحامية لمبادئه السامية، والناشرة لأفكاره النيّرة؛ وليست الحضارة ولا المدنية مسألة ثانوية بأي حال من الأحوال.

لا تفكر.. عش اللحظة!

“لا تتردد.. لا تفكر.. عِشِ اللحظة” كان هذا أحد شعارات حملة إعلانية لإحدى الشركات الكبرى منذ سنوات عديدة، ولا أعلم حقيقة مقصد العنوان، إلا أنه يمكن القول إنها حملة دعائية بطريقة شبابية طريفة لتحقيق انتشار واسع وبالتالي الحصول على أرباح جيدة..

يشابهه إلى حد ما أيضا اسم الشركة البريطانية (just eat) “كُل فحسب” الذي تشعر معه وكأنه يدعوك لتناول الطعام دون تفكير، فقط خذ قرارك بالأكل ونحن نتكفّل بالباقي، في الحقيقة لا أستطيع التستر هنا على رغبتي في ادّعاء أن هناك تعميمًا لاستخدام وتنزيل مثل هذه الشعارات في حياتنا اليومية، ولعلك تنظر إلى بعض تصرفاتك اليومية التي يتوقف مباشرتك لها أو الإحجام عنها على قرار سريع تتخذه في لحظته، وما إن تفتأ التفكير لدقائق معدودة هل ستباشره أم لا؟ حتى يأتيك هذا الصوت: هيا افعلها لا تُشغل بالك استمتع!!

خصلتان يحبهما الله: الحلم والأناة

أخرج الترمذي في سننه حديثا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال لأَشجّ بن عبد القيس رضي الله عنه: (إنَّ فيكَ خَصلتينِ يحبُّهُما اللَّهُ: الحِلمُ، والأَناةُ) وأخرجه مسلم مطولا، وقد قال النووي في كتابه المنهاج في شرح صحيح مسلم: “وأما الحلم فهو العقل، وأما الأناة فهي التثبيت وترك العجلة… وسبب قول النبي ﷺ ذلك له ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي ﷺ وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته ولبس أحسن ثيابه ثم أقبل إلى النبي ﷺ فقَرَّ به النبي ﷺ وأجلسه إلى جانبه… قال القاضي عياض فالأناة تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل والحلم هذا القول الذى قاله الدال على صحة عقله وجودة نظره للعواقب”.

انظر إلى الخصلتين اللتين حُمد بهما الأشج، وقارن بينهما وبين ما يحصل الآن من التسرّع واتباع الهوى دون تأنٍ في القرار وبصيرة بالنتائج.

ضغط اللحظة الآنية

لقد أبدع الشيخ فهد العجلان بتناول هذه المسألة في كتابه معركة النص تحت عنوان (سيد الضمانات الفكرية) ومع أن السياق الذي سار عليه الشيخ يتناول الأمر من ناحية الشبهات الفكرية أكثر من قضية الشهوات إلا أن المؤثر فيهما واحد وهو العجلة وترك الأناة، واسمحوا لي بعرض مقاطع طويلة بعض الشيء من هذا الفصل على نفاستها، فمثلا يقول في تعريفها وثمرتها: “الأناة هي صفة خلقيَّة تهيمن على سلوك الإنسان فيغلب عليه الهدوء والاستقرار والتفكير قبل اتخاذ القرار، وتصونه من العجلة والخضوع لضغط نفسي معين.

ما أكثر تلك المواقف التي لو قُدِّر لنا أن نتريث فيها قليلا لما رضينا بها، لكن العجلة وضغط اللحظة الآنية يدفعان الشخص لاتخاذ مواقف غير مقبولة، وهنا تأتي هذه الصفة الجليلة لتجذب النفس عن السقوط في مثل هذه الأخطاء”.

ثم عرض ما ينتج عن غيابها: “ضعف الأناة يفتح على الإنسان ركام التأثيرات النفسية والضغوطات الآنية، فيكون المؤثر ليس هو البحث عن الحق ولا ميزان العدل، بل هي الحالة النفسية التي يعيشها، تدفعه دفعًا إلى تصورات كلية قطعية بصفة سريعة مع قصور ظاهر في استيعاب الفكرة أو تعميمها أو التدقيق في دلائلها”.

أعترف قبل الإكمال بأن مصطلح (ضغط اللحظة الآنية) عجيب ويصف بدقة الحالة الشعورية لمن تَنْقَض عليه أفكاره وشهواته، وذكرني بالمحاضرة البديعة للشيخ إبراهيم السكران (سلطة طرح الأسئلة) والتي ذكر فيها أمثلة لحالات شديدة مرت على الأمة فأنتجت من سطوتها انحرافات خطيرة مثل قضية إنكار المعجزات في فترة من الفترات بسبب الضغطة المادية الغربية حينها التي تُعلي من قيمة المادة وتبخس من التصورات الغيبية، أما الآن بعد مرور هذه الضغطة لا تجد تعاطيًا لهذه القضية كما كانت حينها.

إذن فإن ضعف الأناة يضع الإنسان تحت ضغط التأثيرات النفسية الحالية فلا يرى حقيقة ونتائج قراراته المستقبلية، إنما هي سطوة أتته فضغطت عليه ولم تسعفه أَنَاتُه منها فكاكا ولا فيها تفكيرا.

ثم ختم بلفتة بديعة في الدعاء والاعتصام بالله عند حلول الضغوطات: “ومن أعظم ما تثمره الأناة: الدعاء، فالقضية هنا ليست مسائل يتعامل معها بمنطق رياضي، إنما هي أنفس متقلبة، فيها أهواء وشهوات ورغبات، ويعتريها نقص ونسيان، وتؤثر فيها الضغوط والمتغيرات، فليس بالضرورة أن ما تراه عقلاً هو العقل في حقيقة الأمر، بل ربما هي الأهواء والشهوات التي تحسبها عقلاً وهنا تأتي الحاجة إلى الالتجاء إلى الله، والصدق في مناجاته، والتذلل بين يديه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، ولهذا كان من دعاء النبي ﷺ: (اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السَّماوات والأرض، عالم الغيب والشَّهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك، إنَّك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مُستقيمٍ).

يا الله، ما أعظم أن تستخير الله وتطلب هدايته فيما أشكل عليك وما اختلف فيه الناس! إنك تعترف بنقصك وضعفك وأهوائك، وتلتجئ إلى من بيده مقاليد كل شيء، موقف عظيم لن يعرفه إلا ذو أناة، حريٌّ به أن يُهدى إلى الحق وأن يُعصم من الفتن، وحريٌّ بمن اعتمد على نفسه وعقله أن يكِلَه الله إلى قصوره وعيوبه فلا يجد إلا الخذلان والاضطراب ومخالفة العقل”.

فانفذ إلى بوابة الثبات الكبرى الدعاء؛ فليس الأمر بيدك إنما بيد مولاك وسيدك.

الصبر أم اتباع الشهوة؟

وقد أدخل الإمام ابن تيمية اتباع الشهوات في جملة التشبه بالكفار في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم فألحقه بقول الحق، {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ۚ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69]،

 ثم بين وجه المشابهة بين الآية واتباع الشهوات فقال: “فقوله سبحانه {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة… ثم قوله {فَاسْتَمْتَعْتُم} و {وَخُضْتُمْ} خبر عن وقوع ذلك في الماضي وهو ذم لمن يفعله إلى يوم القيامة…”

وجعل المسلمين على خلاف هذه الحالة، في الصبر على ما يرد عليهم والتبصر بحقيقته، فقال: “وقد وصف الله أئمة المتقين فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات. ومنه قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر: 3]، ومنه الحديث المرسل عن النبي ﷺ: (إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات)”.

وليس الإشكال فيما نتحدث عنه في مجرد الفكرة أو الشهوة فهذا أمر إنساني جِبِلي يطرأ على الجميع، ولكن في كيفية التعامل معها، أبالصبر والأناة أم بالعجلة والتهور؟

كيف تواجه لحظة الضغط الآنية؟

ونختم بذكر الحل الذي يراه الإمام الأديب الماوردي لمشكلة الشهوة الآنية في كتابه (أدب الدين والدنيا) فيقول في فصل ذم الهوى: ” فلما كان الهوى غالبا وإلى سبيل المهالك موردا جُعل العقل عليه رقيبا مجاهدا يلاحظ عثرة غفلته ويدفع سطوة بادرته ويوضح خداع حيلته لأن ١- سلطان الهوى قوي ٢- ومدخل مكره خفي، ومن هذين الوجهين يؤتى العاقل حتى تنفذ أحكام الهوى عليه، أعني بأحد الوجهين: قوة سلطانه، وبالآخر: خفاء مكره”.

ولعلنا نكتفي بذكر حل الوجه الأول وهو قوة سلطان الهوى؛ لأنه الأخص بموضوعنا: “فأما الوجه الأول فهو أن يَقوى سلطان الهوى بكثرة دواعيه؛ حتى تستولي عليه مغالبة الشهوات، فيَكلّ العقل عن دفعها، ويضعف عن منعها، مع وضوح قبحها؛ في العقل المقهور بها.

وهذا يكون في الأحداث أكثر، وعلى الشباب أغلب؛ لقوة شهواتهم، وكثرة دواعي الهوى المتسلط عليهم، وأنهم ربما جعلوا الشباب عذرا لهم… وحسم ذلك: أن يستعين بالعقل على النفس النَّفور، فيشعرها ما في عواقب الهوى من شدة الضرر وقبح الأثر وكثرة الإجرام وتراكم الآثام؛ فقد قال النبي ﷺ: (حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات) [أخرجه الشيخان]، أخبر: أن الطريق إلى الجنة احتمال المكاره، والطريق إلى النار اتباع الشهوات”.

خلاصة الكلام

ختامًا؛ فإن من أسوأ التبعات التي تنتج عن العجلة وترك الأناة أن تعيش اللحظة كلحظة واحدة، تستمتع بها وينتهي الأمر، فلا ترى تلك اللحظة في الصورة الكبيرة، بأنها لحظة تُكَون عمرك وتفاصيل حياتك وشخصيتك، فأي فعل سواء كان صحيحًا أم خاطئًا لمّا تفصله عن الصورة الكبيرة وتجعله لحظة صغيرة تعيشها وتنتهي، تجد الذنب عملًا تافهًا يتصاغر في عينيك فلا ترى تأثيره البعيد وعلى العكس ترى الأعمال الصالحة المركزية صغيرة لا تؤثر في حياتك أو شخصيتك.

أما عيش اللحظة الحقيقي يكون بإدراك معناها ورؤية آثاراها ومآلاتها القادمة، أن ترى الصورة كاملة بأن تعلم التغيير الذي سيحدث بتراكم هذه اللحظات في شخصيتك وحياتك، وتعلم أنك محاسب عليها {فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرࣰا یَرَهُۥ ۝٧ وَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ شَرࣰّا یَرَهُۥ ۝٨} [الزلزلة: 7-8]، قال ابن عاشور في تفسيرها: “والذَّرَّة: النملة الصغيرة في ابتداء حياتها”!!

الرسالة الأخيرة

تخيل معي أيها المسلم أن مسافراً من المستقبل أتى إليك وعلى وجهه كل نظرات الكآبة والخوف والهلع وصدره ينتفض شهيقا و زفيرا من هوْلِ ما رأى وهرب منه، ثم أخبرك أنه جاءك ليحذرك من طامّة ستحدث لك قريبا، واستضعاف سينالُك، وسيتم التنكيل بك وسيحاولون كل جهدهم قتلك وقتل عائلتك وتشريدهم واغتصاب أقاربك من النساء وخطف أطفالك وتغيير ديانتهم ونسبهم لغيرك. وسترى من المصائب ما تسودُ به عيشتك فلا تدري أين الطريق، ولا النور ولا الظلمات.

فما كان منك إلا أن سألته بتلهف وخشية من مصيرك المحتوم: إذا ماذا أنا بفاعل؟! وكيف الوسيلة لتفادي كل هذا؟!

فكان ردّه أنه ترك لك إرشادات وتعليمات تدفع عنك هذا وترفعه وتوجّهك وتعينك على ما سترى، وبها يمكنك تبديل حالة الاستضعاف لحالة التمكين والعزة ثمّ قال لك أنه لن يستطع العودة إليك مجدداً، وعليك وحدك تحمّل نِتاج أفعالك واختياراتك، وما لبث أن غادر وترك لك تلك “الرسالة الأخيرة”.

لنتعرف إلى الرسالة الأخيرة

إنه من الجليّ أن مقصدنا بالرسالة الأخيرة هو القرآن، فقد أرسل الله محمداً رسوله وخاتم الرسل وسيد بني آدم ﷺ ومعه القرآن لينذر الناس ويهديهم من الكفر إلى الإيمان. فكان القرآن هو بمثابة آخر رسالة من الله عز وجلّ لنا فلو أدركت عظمة وقدرة وقدْر المُرسِل، لاستشعرتَ قيمة وأهمية الرسالة التي بين يديك.

هو الله خالق السماوات والأرض وخالقنا، خلقنا لحكمة من عنده سبحانه وتعالى، ولم يتركنا لأنفسنا نفسد في الارض ونقتل أنفسنا ويظلم بعضنا بعضاً، فتُسْفك الدماء وتضيع الحقوق. وإنما حين استخلفنا فيها أرسل لنا الرسل والانبياء ليرشدونا ويعلّمونا ويكونوا لنا دلالة على الطريق كالنجوم نستهدي بها السبيل. فكلما استفرد الإنسان بقوته وعلمه وعقله، أرسل الله له من ينذره ويدعوه إلى الإيمان وتحقيق مراد الله من خلقه. فإذا أبى عذّبهُ الله وأهلكه بعناده وكبره.

حتى أتى موعد الرسالة الأخيرة وجاء بها محمد ﷺ، أخبرنا بما سيكون لنا في آخر الزمان من فتنٍ كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويُمْسي كافراً ويبيع الرجل دينه بقليل دنيء من الدنيا رديء ومتاعٍ محدود(1) ويحذرنا من تكالب ملل الكفر على بيضة المسلمين، وهوانهم وانكسار شوكتهم(2)، يوالي ويتبع المسلمون اليهود والنصارى بحثا عن العزة، ولا يبقى للرجل المؤمن أخير وأسلم من الفرار بدينه بعيدا إلى أعالي الجبال(3).

فأمرنا ﷺ بمعاهدة القرآن ومداومة الوصال به، وبشرنا بالضلال والضياع والحيد عن الطريق المنشود إن نحن استمسكنا بغيره ونشدنا الهداية والصلاح واستصلاح العباد والبلاد بدستور غير ما انطوى عليه القرآن، فهو الرسالة الأخيرة للعباد من ربّ العباد.

فينبغي للمسلم أن يعي قدر ما بين يديه من الرسالة ويحاول فهمها وتدبرها واستخلاص المعاني الموجودة فيها والعمل بها والحث عليها ونشرها وتبيينها للناس. ومما يُعين على ذلك أن يَدرس ما بها من موضوعات رئيسية وأفكار أساسية يتتبعها ويتعلم منها مراد الله في كلّيات الأمور فإن عَلِمَ الُكلّيات وضَحَت له عِلّة الجزئيات وأسبابها وفوائدها.

تِبيان مسؤولية المسلم

ولأن المرسَل إليه هو الإنسان، فمن المتوقع أن يوجّه إليه الكلام ويُخاطب بالأمور والتكاليف والمهام التي من أجلها خُلق، ولله الحكمة في شؤونه. فقامت الرسالة بتبيين الغايات وأولى الأولويات، التي من أجلها خلق الله العباد (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). فتحقيق العبودية لله هيَ مطلب المؤمن في الدنيا ومسعى كل ذي علمٍ ولُبّ، وكانت العبادات وسيلة تحقيقها، فيصل العبد لكمال عبوديته بطاعته المطلقة لمولاه، وتنفيذه لأوامره، واجتناب نواهيه وزواجره.

فإذا قال الربّ عزّ وجلّ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 56] كان تنفيذ أمره واجبًا، لا يصح معه رفض أو اعتراض أو تباطؤ فيه. وأضْحت طاعة نبيه من طاعته. وإن نهانا الله انتهينا، فلا خير فيما حرمه الله علينا فهو مولانا وأعلم بنا منا، وذلك حتى إن لم نعِ الحكم من ذلك المنع والتحريم.

المسؤولية المجتمعية

أما عن المجتمع الإسلامي ككل، فهو مجتمع مُختص بكونه أمة واحدة لا يفرقها حدود أو بلدان، كتلةٌ صلبة في ذاتها، وجهت لها الرسالة أوامر ونواهي مباشرة، وحضّت على نبذ الفردانية والأنانية، وجرمت حرية الفرد مجتمعيا إن كان فعله مخالفاً لتعاليم الشريعة، حتى وإن لمْ يضّر أو يؤذي غيره، ففي مجتمع الإسلام لا يجب أن يُسْمح بأيّ وجودٍ لنبتةِ الفسق والاعتداء على حدود الله، لذلك اعتنى القرآن بأهمية التواصي على الخير فيما بين أفراد الأمة {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3] وأكد على أهمية العمل سويا لأجل الأمة نفسها وخدمة ما ينفعها في دنياها وآخرتها {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وحرّم الاجتماع على شرور الأمور وفسادها {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وأكد على ضرورة التناصح بين المسلمين والحث على زجر مرتكبي المنكرات علناً {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110]، وحُق في أمتنا أن تُوصف بالخيرية إن هي اتبعت سبيل المؤمنين ودولة السابقين الراشدين في الدعوة إلى الخير وكف يدِ الفاسقين المعتدين المتباهين بذنوبهم، فتنجوا بإذن الله ورحمته من لعنة الله كما لُعِنت أختها من قبل بتركهم تناهي بعضهم البعض عن ارتكاب الفواحش والسيئات {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79]

ومهام المسلم وتكليفاته -الخاصّة به كفرد أو بالمجتمع ككل- في القرآن مفصّلة مبينة، منها الجهاد والصيام والزكاة وغيرها، وفي سنة النبي ﷺ قولاً وفعلاً نموذجا لها. ثمّ إن تتبعها جميعا هنا غير ممكن والغرض من ذلك الفصل هو المرور على أمثلة لها تشرح الفكرة، والفائدة الأكبر لمن أتخذها دربا له في البحث والتدقيق عن شبيهاتها في القران فيعمل بها.

الرسالة وتشريعات المسلمين في الدنيا

كما هو معلوم أن الدنيا دار ابتلاء، وجسرٌ يُعبر عليه الى الدار الآخرة؛ ولأن الله لم يتركنا لنفسنا وللشيطان يغوينا ويضلنا فكانت رسالته الأخيرة لنا محتوية على ما ينفعنا ويُسهّل علينا دنيانا وأمورنا الحياتية في المعاملات اليومية بين المسلمين، وفيها تشريعات لحياتنا الدنيا نتخذها حتى تُحفظ حقوقنا بيننا، ففيها تقسيم الميراث وكيفية كتابة الدَيْن والفصل في قضايا النساء من طلاق وزواج، وتبيين ما يجوز أكله وشربه. فبها يُفرق بين الحلال والحرام، فعندما يدّعي بعضهم أن الربا مثل البيع، تأتي الرسالة بالقول الحاسم الفاصل موضحةً الحكم للمسلمين {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فينصاع الناس لما قيل ويتبعون تشريعاته المُحكمة.

الرسالة وتمييز الحق من الباطل

وفي اتباعها وملازمتها الهداية -بإذن الله- إلى السبيل الحق واجتناب الضلال، والرُشد الى الصواب من الأمور، فتحْمِلك عن إتباع النفس والهوى، وتبصّرك بما يقوّم عيشتك ومعيشتك {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وترى بها الحق حقاً والباطل سدىً، وما أفضلها من نعمةٍ حين تُرزق نعمة تمييز الحق عن الباطل في زمنٍ التبس فيه الشر ثواب الخير وادّعى فيه السفهاء العلم والفهم، وتكلم الناس فيما جهلوا، وكثر شيوخ السلاطين ومواليهم، فلم تعد تعرف صدق أو كذب فتواهم وكلامهم، وكَثُر أتباع الدجال وإن لم يظهر بعْد. فهنا تجد الرسالة لك كالبوصلة على الطريق، تحدد لك الجهة المراد سلوكها، فترى منها أهلها وطالبيها من أهل القرآن، وتعرف بها الصواب وأهله فتتبع سبيلهم، وتكشف لك فعل المنافقين وصفاتهم فتحذرهم، فتكون فرقاناً بإذن الله.

تغيير تصورات المسلم

ومن أخص خصائص الرسالة وأنفعها هي ترتيب أولويات المؤمن وإعطاء المشاكل نظرة مختلفة تهونها عليه ويدرك بها قيمتها الحقيقية ويضعها في مكانها الملائم بين الهموم. فيأتي في ثنايا الرسالة أن المسلم مأمور بطاعة الله وتأدية عباداته كما سبق ذكره، ثمّ إذا تطرقت الى الرزق كمثال لهمًّ من مشاغل الدنيا كان جوابها {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] فتوجهه على ما هو مطلوب منه كالصلاة وتبعده عما هو مرفوع عنه كالرزق، فقد قسَمه الله له من قبل أن يخلقه. وتجد أن الله لا إله الا هو، خالق كل شيء وله مقاليد الأمور وهو القاهر فوق عباده، هو الغنيّ ونحن الفقراء إليه قد أخبرنا فيها {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] ثمّ يقسم بنفسه على ذلك {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23]. فتتبدل رؤيتك لقسمة الرزق وتظن في الله خير وتطمئن.

وإذا نزلت نازلة أو حلّت مصيبة على الأمة، جاءت الرسالة تخفف عنا وتبصّرنا بمآلات الأمور وعواقبها وتحثنا على الصبر {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] ثم تبشرنا بمثابة ذلك الصبر وأن ينعت الله الصابرون بصفة المهتدون ومن بعدها توضح جزاء المهتدون وهو أنهم {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] وعسى أن يكون مأواهم الجنة ثوابا على صبرهم وعملهم.

الرسالة والمعيار الحاكم لأفعال المسلمين

ومما وعته الرسالة وفصلته وأكثرت من ذكره خلال آيات الرسالة وسورها هو التمييز والفصل بين المسلمين الموحدين بالله والكفار المعاندين المشركين، وأشارت إلى قوة وعزة المسلم بالله ودينه {وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [آل عمران: 139]، فتحفظ المسلم من ذلّ التَبَعية لكل من لا يؤمن بالله، ويضع في نفسه صفة الاستعلاء بالله ودينه.

غير أنها تبين له المعيار الحاكم لأفعال البشر، فربما يجد المسلم في نفسه استحسانا لمساهمة بعض الكفار في خدمة وتطوير كل ما ينفع الإنسان، ويشعر بالحيرة والشك والتخبط خاصّة عندما يرى الظلم والفساد والتخلف الذي نال بلاد المسلمين. ولن أخوض في أسباب تلك الحالة التي وصل لها المسلمون أو أسرد القول في أفعال الغرب الكافر بالمسلمين أو بين أنفسهم، فليس ذلك هدف المقال. ولكن هيمنة الغرب وضعف الأمة الإسلامية قد أثر بالسلب على بعض المسلمين وأحدث خللاً في نفوسهم وفي تصورهم عن الإسلام.

تنبهك الرسالة أن أفعالهم لا تنفعهم ما لم يؤمنوا، وأن شرط قبول عملهم في الآخرة هو الإيمان {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه 112]، وإن عظم في عينيك أعمالهم وتقدمهم وبنائهم فتذكرك بمصيرهم يوم القيامة {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23] فلا يبقى منه شيئا، ولئن شاهدت لهم رفعة وشهرة وقوة في الدنيا فتذكرك -الرسالة- بأن الدنيا فترة عابرة والآخرة هي دار الحياة ثم إن {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]، فاعمل بعملهم واتّبع نهجهم وسبيلهم وعسى أن يمكننا الله منهم ويعزّنا بقرآنه ودينه فتكون لنا اليد الأعلى في الدنيا، ثم الخلود في الجنة.

النذير الأخير

ولأنها الرسالة الأخيرة فكان فيها النذير الأخير لكل البشر، نذير سيدوي ذكره آجالا طويلة وسنينا عديدة، يدل الناس على الإيمان ويحذرهم من العصيان ويفصّل لهم حقيقة الدنيا وقلة مكانتها وقدرها. ينبئهم بأن الأمر جلل وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وإنها يوم كخمسين ألف سنة مما يحسب البشر، بدايته صاعقة يقوم بها من في القبور عرايا، أحياهم الله كما خلقهم أول مرة، تحسب من هيئتهم السُكْر فتراهم هلعين خائفين يتخبطون لا يقدرون على المسير من هول ما سمعوا ومن خشية ما هم مقبلين عليه وسائرين إليه {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2].

تُصور لك الرسالة مشاهد يوم القيامة والبعث والحساب، فهنالك يجد كل امرئٍ ما عمل ويحصد ما صنع في حياته، ويُنادى الناس للمحاسبة والمسائلة فيلقون الله وحدهم {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] فلا تجد صاحبا أو قريبا يدفع أو يدافع عنك أمام الله، لن ينفعك إلا عملك، والله أخبرنا أن {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [غافر: 7].

يحاسبهم الملك عز وجل على ما صنعوا وهو أعلم به منهم، فيجد الإنسان كل صغيرة وكبيرة في كتابه لا ينقص منه شيئا {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍۢ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء 47] فلا يظلم ربك أحدا، وله الحكم والقول الفصل.

تشير الرسالة في غير موضع عن أننا عباد الله وعلينا طاعته، فتبشر تارة بنعيم الجنة ترغيبا وتارة أخرى بعذاب الله وجحيمه ترهيبا. تقص لنا قصص الأمم الهالكة من السابقين وكيف كان عقابهم، وتحكي لنا سيَر الأولين الصالحين وكيف كانت الجنة مأواهم الأخير، فتكون في فصصهم عبرة لنا ولمن بعدنا نقتدي بها وبهم حتى نجني ثمار ما جنوا.

تأخذنا -الرسالة الأخيرة- في رحلة الى النهاية الأخيرة الوحيدة لكل البشر، تلك النهاية التي تُهْزم بها اللذات وتنطفئ بها الشهوات ويفرّ كل بني آدم من ذِكرها أو تذكرها، تلك النهاية التي تُنسى وتستصغر من أجلها كل مآسي الدنيا والهموم، وتُوقظ بها الغافلين.

تُخبر الغارقين في ملذات الحياة الدنيا والمعتدين لحقوق الله وحدوده، المتشبثين بلذة فانية ومتعة زائلة، مسرفين على أنفسهم بالذنوب، غافلين عن موعدهم ومآلهم، وأن كل ما يرتكبونه إنما هو في الدنيا، وأن مقرهم واستقرارهم فيما بعد الموت وأن الأرض فانية والدنيا هالكة {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن 27].

فيا أيها القارئ للرسالة الأخيرة! إن لم تكن في موكب الناجين ستكون يومئذ من النادمين، يوم تقف أمام الله وقفة طويلة مهيبة، يعقبها جنة أو جحيما أبديا، فكما تعلم أن الله غفور رحيم فإنه كذلك شديد العقاب.

تلك صور متعددة محدودة من نذير القرآن وتحذيره للناس أجمعين، ولا يسع المقال للتفصيل والتبيين في أكثر من ذلك، والقرآن بين يدي كل مسلم يمكنه تدبره واستخراج كل الآيات التي تحمل هذا المعنى، فتكون له واعظا ونذيرا.

اتبع وحي الله إليك!

إن منزلة القرآن كونه الخطاب الأخير من الله لعباده يستوجب منا كل الاهتمام والانتباه والتمسك بما فيه، والنظر إلى توصيف النبي على لسان أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه كان ﷺ قرآنا يمشي على الأرض، يبين لنا كيفية الاتباع والعمل بما فيه، فقد كان ﷺ نموذج التطبيق العملي لما جاء به القرآن من أوامر وخُلُق وصفات يتحلى بها العبد الصالح. إذا فعلينا كمسلمين تجاه القرآن أن نلزمه ونعاهده بالتلاوة والتدبر وبذل كل الجهد في تحصيل حسين الاتباع {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121] وحق التلاوة هي الاتباع والعمل بما فيه وتحليله حلاله وتحريم حرامه كما قال ابن عباس.

إن القصد الأعظم من القرآن هو اتخاذه كمنهاج للمسلم وخلقا يتحلّى بها ويطبقها، وهو أيضا دستورا للمجتمع الإسلامي ككل، ولم يكن الهدف أبدا من تنزيله أن يكون تراتيلا يتغنّى بها الناس ويطّربون بصوت مؤديها، أو أن يُبذل الجهد في قراءته بمقامات موسيقية تجعله كالغناء أحيانا، ولا أيضا أن يهتم الناس بتعلم وحفظ ألفاظه فقط وترك العمل بما جاء به من أصول وتنظيمات وشرائع، فينشأ جيل من حفظة القرآن لا يدرون ما يقولون وترى سلوكياتهم خلاف ما تحفظ قلوبهم. وينبغي التنبيه على أن بعضا مما ذُكر سابقا مقبول ولكن المرفوض أن يكون الغاية من أخذ القرآن واتّباعه، فقط الالفاظ. وإهمال العمل بما فيه ومعرفة مراد الله وأحكامه فينا. فالذي تُبذل فيه الأعمار والأنفس هو العلم ثم ما يقتضيه من العمل والطاعة وذلك هو الغاية المنشودة.

أخيراً، إن الحديث عن الرسالة الأخيرة من الله وكلامه وخطابه الموجّه يطول، ولا تسعه صفحات معدودة أو كتاب، وإنما نعبّر عن بعض المواضيع التي تخدم الفكرة. والقصد أن نحث أنفسنا والمسلمين على تلاوة القرآن وتدبره كما أراد ربنا، وعسى الله أن ينفعنا وينفع بنا.

الهجرة ومعركة بدر.. دروس وعبر

وقعت معركة بدر في السابع عشر من رمضان، ومن غير المعقول أن نقرأ هذه الحادثة دون أن نسلط عليها الضوء وننهل من فيض مائها العذب، إذ لا يختلف اثنان على أن هذا الحدث غيّر العرب وشبه الجزيرة العربية والمنطقة بل غير العالم، ومازال أثره ليومنا هذا.

إن كانت الشيوعية تدرّس على أنها انتصار للعمال والكادحين، فإن معركة بدر انتصار للبشرية جمعاء بأطيافها، انتصار للحق وهزيمة للباطل والظلم، وإعلان عن دخول عصرٍ جديد.

إن معركة بدر لوحدها درس مانع جامع يستخلص منه المؤمن دروساً وعبراً، تأخذ بيده نحو سيرة النبي العدنان والقائد الملهم، وتقدم له قراءة وفهماً للحياة وإحاطة بسر النجاح الذي يطمح له كل شخص وتطمح له الأمة، وأي نجاح أفضل من نجاح الدعوة المحمدية؟!

بين يدي معركة بدر

قبل الحديث عن معركة بدر، سنرحل على متن قطار التاريخ لنقف على أحداث وعبر من سيرة الحبيب ﷺ، منذ بعثته وإلى حدثنا الرئيس.

ففي القرن السادس للميلاد وبينما العالم في حالة من الفوضى، مكان واحد كان هادئاً لا جلبة فيه؛ كان ذلك المكان هو قلب رجل يعيش في قلب الصحراء، كان هذا الهدوء مريباً، وكان صمته ذا شجون، له معنى عميق، وقد أدركت زوجته ذلك، ولاحظت أن قسمات زوجها تعِد بالكثير، لكنها لم تكن تتخيل أن يفعل هذا، هذا الرجل الأربعيني من سكان مكة، معروف بين أقرانه وأصحابه بحسن السلوك ونقاوة الباطن والظاهر وكان من خَبره أن يشارك أهله ما يجيدونه ويعرفونه أباً عن جد “التجارة”.

خرج سكان مكة ليمارسوا التجارة ويجوبوا البلدان يعرضون بضائعهم، ويجلبوا غيرها، ومن أجل هذا ربطوا علاقات دبلوماسية مع أمصار عديدة، وشاعت أخبارهم في الأنحاء، فكانوا ذوي مكانة ومهابة، على ضعف إمكانياتهم العسكرية والسياسية، كان لهم حضور بارز في هذين الميدانين وكانوا يكتفون بالتبعية السياسية في بعض الأيام للفرس أو الروم، مع استقلال وعزة نفس في أغلب الأحايين، وكانت مدينتهم مكة مزاراً للتجار من أنحاء العالم.

لم يكُن أحد من العالمين يتصور أن يحدث الذي حدث، ولم يكُن من قريش ولا من القبائل المجاورة من يتوقع أن المستقبل سيجعل من هذه البقعة ساحة للتحرير، تحرير العالم من أدران التصقت به لقرون طويلة، ولم يكُن يُنتظر من قريش التي لا يعرف معظمها القراءة والكتابة، أن يخرج من أصلابها من يبشر الناس بالمعرفة والعلم، وأن يصبح أهلها خير من يؤلف الكتب ويطالعونها، حتى كانوا أعلم أهل الأرض بالكتب، وفي هذا يقول الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ماري فولتير [في كتابه القاموس الفلسفي ص56]: “قبل اختراع الطباعة الرائع، كانت الكتب نادرة، وأغلى من الأحجار الكريمة.. العرب وحدهم كانت لديهم كتب منذ القرن الثامن حسب تقويمنا حتى القرن الثالث عشر”.

كيف يعقل أن تصبح هذه الأمة الأمية الجاهلة أمة علم وأمة قراءة؟ هذا عجيب!، والأعجب ما استطاعت تحقيقه من منجزات كان لها الفضل في تغيير وجه الأرض وفي وقت وجيز للغاية يثير الدهشة. فالعرب وحدهم من شكلوا النشاز في تاريخ الحضارة، فقد تحولوا من الظلام إلى النور ومن الهمجية إلى المدنية ومن طور الفوضى والتشرذم إلى طور الأمن والسلام وانتقلوا من ذيل الأمم إلى مقدمتها؛ في وقت وجيز للغاية، وما هي إلا سنوات حتى سيطروا على أراضٍ شاسعة امتدت من المحيط الأطلنطي غربا إلى جزر آسيا شرقاً.

نزول الوحي

حين بدأ العد التنازلي لبعثته ﷺ، حُبب إليه الخلاء، فكان يأخذ زاده ويرتحل إلى غار حراء بجبل النور، فيبقى هناك أياماً عدة، مناجياً ربه، الذي عرفه لكنه لم يتعرف عليه بعد، فقد كان يتأمل ملكوت السماوات والأرض، ويرى ما عليه قومه، فيشهد مع نفسه أنهم على ضلالة، وأن الله أعظم من ذاك كله.

وفي اللحظة التاريخية التي ستغير مجرى التاريخ الإنساني، يأتيه جبريل، وتتنزل الكلمة الإلهية الخالدة: (اقرأ).
لقد أنزل الله تعالى كلمة “اقرأ” لتكون إعجازاً للأعداء وسراً من أسرار تقدم هذا الدين الجديد، وآية منه خاصة أن النبي ﷺ كان أمياً، فكيف يختار لنفسه كلمة هو أعجز الناس عنها.

 لم يفرح بما أنزل عليه، ولم يقل “هذه فرصتي”، بل تصرف كإنسان، خاف وارتعد، جرى مهرولاً، ولم يعقب، واتجه مباشرة الى خديجة، وهو يقول: “زملوني زملوني” منظر يدل على صدقه، وصدق رسالته، فهو رجل أربعيني وقريشي، لا تخيفه الأرواح ولا الشياطين، لكن أن يتصرف بهذه الطريقة، يعني أن الأمر فاق الخيال، وأن الأمر ما يتحمله بشري، ولو كان رجلاً آخر لاختار أن يصف نفسه بالشجاعة وقوة العزم، كما يفعل الدجالون والنصابون، الذين يدعون تحكمهم في الشياطين والجان، يقول ﷺ: “لقد خشيت على نفسي”، فتقول أمنا خديجة، رضي الله عنها: “كلا”.

أمنا خديجة، رضي الله عنها، أول من علم بنبوته، فما رأته منه لا يمكن أن يصدر من بشري أبداً، لهذا لم تفزع ولم تخف، بل أكدت للحبيب الخبر: إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.

لا أعتقد أن أحداً سيعرف نبينا الكريم أكثر من زوجه، مستحيل، ولا أحد منا يشك في نية أمنا خديجة، فما أرادت سلطة ومالاً، كي يقول القائل: لأنها ستربح من ادعائه النبوة، فكل المؤرخين يعرفون أمنا خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها وأرضاها، وكلنا يعلم قصة زواجها من الحبيب، وهو معدم، فقير، ويتيم.
ولو كانت تريد السلطة لتزوجت من صناديد قريش.

دروس الهجرة

تمر السنون وتنتشر الدعوة الإسلامية وتنتقل من السر إلى العلن، فيزاد أذى قريش للحبيب ﷺ، ولصحبه وبخاصة الضعفاء منهم فيأذن الله لرسوله بالهجرة للمدينة المنورة (يثرب).

 وهنا يقدم الرسول ﷺ درساً آخر في فنون التخطيط، تتجلى في الهجرة النبوية الكريمة فطنة الحبيب وصلابة هذا الدين، ودروس أخرى، حسبنا منها خمسةٌ، وهي:

1- التضحية: فقد ضحى الرسول والصحابة بكل شيء من أجل إنجاح الهجرة. ونضرب ها هنا مثالاً نأخذه من كتب السيرة. إنه خبر صهيب الرومي، رضي الله عنه، (هذا صُهَيب الرُّومي، لَمَّا أراد الهجرة، قال له كُفَّار قريش: أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالُك عندنا، وبلَغْتَ الذي بلغت، ثم تريد أن تَخْرج بِمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: “أرأيتم إنْ جعلْتُ لكم مالي، أتخلُّون سبيلي؟” قالوا: نعم، قال: “فإنِّي قد جعلتُ لكم مالي”، فبلغ ذلك رسولَ الله ﷺ فقال: “رَبِح صهيب”)، وتجدون القصة في [صحيح السِّيرة النبوية]. بالإضافة إلى تضحية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، بنفسه من أجل إنجاح مشروع الهجرة، وهذا يؤكد يا أيها القائد، أن التغيير زرع ينبت بالتضحية.

2- التشبث بالأمل وعدم اليأس: لقد أوذي الحبيب وطرد من مكة وطاف القبائل يدعو لدين الله فرفضت، وأمطرته سخرية وحجارة حتى أدمته -بأبي وأمي هو-، إلا أن هذا لم يطفئ نار الحق في قلبه، فظل متشبثاً بقضيته يدافع عنها، ولم يتردد في قبول بيعة الأنصار والإيمان بصدقهم رغم ما لقيه من القبائل، بل انتهز الفرصة وآمن بنفسه وتشبث بخيط أمل وهو مدرك أن الله لن يخيبه، وأن المدينة قد تفتح أمامه أبواب مكة إن هو نجح في بناء دولته هناك. وهذا الذي حدث بالضبط، وهذا يؤكد يا أيها القائد، أن الواجب عليك ألا تفقد الأمل وأن تؤمن برجالك.

3- حسن الصحبة: اختار الرسول بصحبته أبا بكر كما هو معروف، لم يكن اختياره عشوائياً أبداً، فقد عرف عن أبي بكر الشهامة والتضحية وحب الله ورسوله والأكثر اسمه بين القبائل العربية، فقد كان أبوبكر ذا مكانة مرموقة تسمح له باختراق المنطقة دون التعرض للأذى، وقد أبان أبوبكر عن عزم وتفانٍ منقطعي النظير فكان جديراً بالثقة النبوية والربانية.) قال: الصحبة يا رسول الله؟” قال “نعم”، فدمعت عيناه، رضي الله عنه). فكان الصاحب وخير الصاحب، رضي الله عنه.. يا أيها القائد، اختر رفيقك بعناية.

4- التخطيط الجيد: خطّط الرسول ﷺ للهجرة مع استشارة المقربين منه، فعمل على إرسال سفير له وهو أول سفير في الإسلام (مصعب بن عمير)؛ مصعب الخير الذي هيأ الأمور بالمدينة، ثم قسم المسلمين إلى أفواج وعمل على أن تتم الأمور في سرية تامة دون أن تشعر قريش، كما عمل على وضع جهاز استخباراتي يعد من أوائل الأجهزة الاستخباراتية في التاريخ، يقوده صحابة كرام عرفوا بالدهاء، فكانوا يتجسسون الأخبار ويطلقون العيون إلى المداخل والمخارج ويهيئون الأمور ويرسلون التقارير التي تفحص من الحبيب والصحابة الكرام. وأهم من ذلك -بالنسبة لي- وهنا يلمع معدن القائد العظيم، وهنا تظهر أخلاق العظماء، أن الحبيب لا يخرج حتى يطمئن على أن الجميع قد خرج وسَلم من شر قريش.. أيها القائد، خطط بهدوء واضرب بقوة.

5- الثقة والاعتماد على الكفاءات: لعل الغريب في هذه الواقعة اعتماد الرسول ﷺ على رجل مشرك لم يؤمن بدعوته، ومع خطورة المهمة وحساسية اللحظة التاريخية يختار (عبد الله بن أريقط) أعرف الناس بالصحراء وهو رجل يحفظ الخريطة السياسية للمنطقة، ضابط للاتجاهات الجغرافية، باختصار الرجل المناسب في المكان المناسب. يا أيها القائد، استفد من أعدائك.

معركة بدر الخالدة

قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، وهكذا تبدأ مرحلة جديدة من مراحل الإسلام، ويستغل الرسول ﷺ مرور أبي سفيان بتجارة لقريش فيأمر الصحابة بالزحف لاعتراضها واسترداد ما أخذته قريش من أموال الصحابة، ويحدث أن يغير أبو سفيان طريقه، وفي نفس الوقت تجمع قريش بعد أن سمعت بتحرك الحبيب جيوشها وتتجه نحو ملاقاة الصحابة، وتتداخل الأحداث إلى أن يجد الصحابة أنفسهم في مواجهة قريش.

خرجت قريش في ألف مقاتل، منهم ستمئة يلبسون الدروع، أما البعير فكان معهم منها سبعمئة، ومئة فرس، بالإضافة إلى القيان معهم يُغنين بذم المسلمين، ورغم أن أبا سفيان أعلمهم بنجاته وطالبهم بالعودة إلا أن أبا جهل رفض العدول عن الحرب ودفع الناس للمضي إلى بدر.

لم يكن المسلمون يتوقعون الحرب، وكل ما أرادوه هو قطع الطريق على القافلة ولكن لله قَدَرٌ، فقد وجد الصحابة أنفسهم في مواجهة لم يحسبوا لها الحساب، وكيف وهم قلة وعدوهم كثير. فعن البراء بن عازب، رضي الله عنهما قال: (كنا أصحاب محمد ﷺ نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوزه معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاث مئة) وفي رواية الترمذي.

وليس في هؤلاء كما روى الرواة عن علي رضي الله عنه سوى فارس واحد هو (المقداد بن عمرو) رضي الله عنه.

كان أول ما بدأ به رسول الله ﷺ أن وضع المسلمين في سياق الأحداث وأخبرهم أنه لم يخطط للحرب وها هم يرون ما الذي حدث، فيقول الحبيب: (أشيروا علي أيها الناس).

وهنا يسطع نجم رجل آخر هو (سعد بن معاذ)، رضي الله عنه، الذي يقف ينظر إلى رسول الله قائلاً: (والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، قال سعد: فقد آمنا بك، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدواً غداً إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله). فيتهلل وجه الرسول ﷺ ويقول: (سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى  الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم).

بات المسلمون ليلتهم وكلهم أمل تحفهم الملائكة من كل جانب، فليس فوق الأرض يومئذ من المؤمنين إلا هؤلاء النفر وبعض أشخاص متفرقون في أنحاء المعمورة ممن ما زالوا على قبس من التوحيد.

وبينما المسلمون يغطون في نومهم، الحبيب لم ينم، فها هو رافع يده الشريفة يدعو والدموع تنهمر من مقلتيه الشريفتين، متضرعاً إلى المولى عز وجل: (اللهمَّ أنجز ما وعَدتَني.. اللهمَّ أنجِزْ ما وعَدتَني، اللهمَّ إنْ تَهلِكْ هذه العِصابةُ مِن أهلِ الإسلامِ فلا تُعبَدُ في الأرضِ أبداً).

فيسمعه أبوبكر ويهون عليه ويذكره الصديق بأن الله سينصرهم ويطمئن الحبيب بأن الصحابة على قلب رجل واحد وأن النصر حليفهم بإذن الله، ويزيد الله تعالى من فضله فينزل المطر ليلته إعلاماً بنزول السكينة والرحمة على المسلمين.

يحاول أحد المشركين التسلل نحو آبار بدر التي استحوذ عليها المسلمون؛ فيتلقفه حمزة رضي الله عنه؛ وتبدأ أطوار المعركة بما عهد عليه العرب، بمبارزة بين شجعان القوم، يخرج من قريش شيبة وأخوه عتبة والوليد بن عتبة.

ومن الصحابة عبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطّلب، وكان خروجُ هؤلاء بطلب من قريش التي أرادت مبارزين من بني أعمامها.. يهلك فرسان قريش ويعلو التكبير وتستعر الأحداث، ويبلي المسلمون بلاء حسناً ويثبت الله الأقدام، وينزل الملائكة تقاتل مع المؤمنين، فينصر الله الصحابة نصراً عزيزاً؛ ويهلك من قريش من يهلك ويأسر خلق كثير، وتدنس أعلام قريش وترفرف رايات الحق عالياً وتصدح الحناجر بلا إله إلا الله محمد رسول الله.

هكذا تنتهي أحداث معركة عظيمة فاصلة في التاريخ البشري، فاصلة بين عهد الانحطاط وعهد الرقي. بين عهد عبادة الناس وعهد عبادة رب الناس، بين عهد الظلم والعدل، عهد البر وعهد الجور، وبنهاية معركة بدر تدخل البشرية مرحلة جديدة.

ختاماً

يقول المفكر والأديب الروسي تولستوي: “إنه خلص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم. وإن شريعة محمد ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة” [حكم النبي محمد].

إن المساجد لله.. ما هو مفتاح العبودية؟

هَبْ أنَّ ملكًا أنشأ حديقةً غنَّاء جميلة، أحضر فيها نادر الأشجار وبديع الأزهار، شقَّ لها الينابيع ليسقيها ويرعاها، ووزّعَّ الأشجار على نحوٍ دقيقٍ بديعٍ رائع، ثم سيّجها بسورٍ شاهقٍ له سبعة أبواب، وأعلن رسميًا أنّ تلك الأبواب من حقه وحده، فلا ينازعه فيها أحد، ثم أمّن عليها حارس.

هل تتوقعون -فيمن أنشأ حديقةً كهذه- أنه أراد الأبواب لذاتها؟ وماذا لو فتح الحارس البوابات لغير الملك؟

أبواب الإنسانِ.. آرابُه السبعة

عندما نتأمل في حال تلك الحديقة؛ سنرى أنّ ثمة أمرًا عظيمًا سيُستباح إذا خان الحارسُ العهدَ وسمح لغير الملك عبور تلك الأبواب، لأنّ الإشكالية لا تكمن في عبور الأبواب لذاتها، بل في الأملاك التي ستُستباح لمن ليس له حقٌ فيها، ولا يملك منها شيئًا، ولا شارك في إنشائها ورعايتها.

ولله المثل الأعلى، فقد قال الله عز وجل {وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}[الجن:١٨] وقد رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسَاجِدِ الْأَعْضَاءُ الَّتِي يَسْجُدُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ وَهِيَ سَبْعَةٌ: الْجَبْهَةُ وَالْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ، يَقُولُ: هَذِهِ الْأَعْضَاءُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا السُّجُودُ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ فَلَا تَسْجُدُوا عَلَيْهَا لِغَيْرِهِ [تفسير ابن كثير]، وَقَالَ الْعَبَّاسُ: قَالَ النبي ﷺ: [إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ آرَابٍ] (آراب: أعضاء)، وقال عطاء: مساجدُك: أعضاؤك التي أُمرت أن تسجد عليها، لا تذللها لغير خالقها.[تفسير القرطبي]، فملك الملوك تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وصوّره فأحسن صورته، وأتمَّ خلقه بإحكام، وسخَّر له ما في السماوات وما في الأرض، وهيّأ له كل شيء، ثم أمره -تعالى- بعبادته، وجعل للعبادة المحضة هيئات مختلفة منها القيام والركوع والسجود، وبالرغم من العبودية التي يقتضيها الركوع، إلا أنّ “الركوع عبادة تختص بالصلاة لا تصح منفردةً عنها بخلاف السجود؛ فقد جاء في الشريعة سجود التلاوة والشكر ونحوهما بلا صلاة، وأما الركوع فلم يَرد، ومثله القيام؛ لذا كان السجود أعظم عندَ اللهِ؛ لِتمحضِهِ بالتعبد، فمن سجَدَ لغيرِ اللهِ، كَفَرَ؛ لأنه لا يُعْرَفُ السجود في الأُمَّةِ منفردًا ومتضَمنًا إلا عبادةً بخلافِ مَن قام وانحنى؛ فإن قصد التعبد كفر؛ لأنَّ القيام بذاتِهِ بلا صلاة لا يدلُّ دَلالة تامة على التعبد إلا بقرينة”[التفسير والبيان لأحكام القرآن – عبد العزيز الطريفي].

“لذا اختص الله تبارك وتعالى له الأعضاءَ التي يحصل السجودُ باستوائها على صعيدٍ واحدٍ، لأنها أبواب العبودية له عزّ وجل، ومفتاحُها استواؤها على صعيدٍ واحد، فإذا نُصِبَت على صعيدٍ واحد؛ فُتِحَت، وانجرَّ من خلالها كل ألوان العبودية، ليصطبغ بها جميع الجسد حتى تصبح سيماه، ولأن الوجهَ واجهةُ السَمتِ والسيماء؛ فهو أول ما يتبلور فيه آثار السجودِ، فقد قال الله عز وجل {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}[الفتح:٢٩]، وفي هذا يقول ابن عباس رضي الله عنه “أما إنه ليس بالذي ترون، ولكنه سيما الإسلام وسَحْنته وسَمته وخشوعه”، وقال مجاهد “الخشوع والتواضع” [تفسير الطبري].”

فظاهر السجودِ عبوديةُ الجسد، أما جوهر فانفتاح وتحرُّر كل الكيانات الكامنة في هذا الجسد من عبودية الروح، القلب، النفس، والعقل، لأنَّ البابَ إذا فُتِح؛ أُبيح ما أُغلِق عليه، وهذا يقتضي تمام التوحيد والإذعان لله جل جلاله.

الشرك ظلمٌ عظيم.. لماذا؟

جاء نهيٌ بعدم الإشراك بالله، ولبديع التناسق وردت ذلك بعد أن خصّ الله المساجد له سبحانه وتعالى، لأنّ عدم دعوة أحدٍ مع الله تكون نتيجةً طبيعية إذا حُصِرَت المساجد لله، لذا كان الشرك بالله -تبارك وتعالى- أعظم الظلم، فقد قال الله عز وجل {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان:١٣]، لأنّ المشرك المتعبِد لغير الله إذا سجد، فإنه لا يقتصر على عبودية بدنه فقط، وإنما فرَّط في كل صنوف العبودية بنصب آرابه السبعة على صعيدٍ واحد لغير الله، فهو بهذا سمح لمن لا يخلق شيئًا، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، أن يزاحم الخالقَ المتقِنَ في ملكه! وأن يتسلل أسوار الحديقة من أبوابها بغير حق! بل سوّى بينهما! فأيُّ ظلمٍ وأي جريرةٍ بعد هذا؟! وهل كل من سوّى آرابه السبعة على صعيدٍ واحدٍ قائلًا إنها لله؛ يكون صادقًا؟

الحق أننا إذا تأملنا في حال الخلق؛ سنجد أناسًا يصفُّون مساجدهم على صعيدٍ واحد دون تحقيق العبودية لله أو تحقيق تمامها، ويقع هؤلاء في فئتين رئيستين:

الأولى: المنافقون: فإذا اطلعنا على حال المنافقين سواء في عهد النبي ﷺ أو في أي زمان، سنجد أنّ كثيرًا منهم يصلون، ويسجدون، وفي ذات الوقت يبطنون الكفر! والحق أنّ انفتاح كوامن الجسد حاصلٌ بسجودهم، ولكن العبودية التي انفتحت هي عبودية الأهواء وأمراض القلب، فهم سجدوا لإدراكهم أنهم لن يستطيعوا أن يكيدوا للإسلام إلا إذا اندسوا فيه، لأنّ الجُبن منعهم أن يجاهروا بالكفر، فكأن مساجدهم استوت لأهوائهم، كمساجد المشركين لأصنامهم، فنَفَذَت عبودية القلب والروح والنفس والعقل نحو أهوائهم، فظاهريًا يسجدون مع الساجدين لله، أما على وجه الحقيقة، هم نصبوا أهواءهم وأدرانَ قلوبهم أمامهم صنمًا يُعبد من دون الله.

الثانية: مؤمنون منشغلون بالدنيا: هؤلاء قومٌ آمنوا، ولكن انشغلت قلوبهم وأرواحهم ونفوسهم وعقولهم بالدنيا وما فيها حتى غلبت عليهم، وشغلت حيزًا في نفوسهم، فإذا استوت آرابهم السبعة على صعيدٍ واحد ساجدين لرب العالمين؛ حصلت عبودية الأبدان، وانفتحت أبواب العبودية، ولكن حجزت الدنيا -على قدر إشغالها لكل نفس- بقية صنوف العبودية أن تنسلّ وراء البدن، وتُحلِّق هي الأخرى في موكب العبودية لله رب العالمين، فأصبحت العبادة ظاهرة، لا تخضع معها كل مكونات النفس البشرية، ليس لأنها منصرفة، ولكن لأنها حبيسة، وهؤلاء تبرأ ذمتهم بهذه الصلاة وهذا السجود، ولكن أين الغاية من تلك العبادة؟! “فليست الغاية من الطاعات مباشرة رسومها الظاهرة، واعتياد أشكالها، وتقمص صورها.. كلا، بل الغاية منها أن تزيد حِدَّةُ العقل في إدراك الحق، وارتياد أقرب الطرق إليه، وأن تُمكِّن الإنسان من ضبط أهوائه، وإحسان السير في الحياة بعيدًا عن الدنايا والمظالم” [جدد حياتك – محمد الغزالي].

لذا يجب على المؤمن أن يراقب عبادته عمومًا، وسجوده خصوصًا، ليرى: هل تنفتح كل كيانات العبودية فيه من قلبٍ موقن، وعقلٍ مصدِّق، وروحٍ محلِّقة، ونفسٍ مذعنة بتسوية أعضائه السبعة على صعيدٍ واحد؟ فإن كان نعم؛ فاللهم لك الحمد، وإن كان لا، فليجاهد نفسه ويزكها حتى تذعن لخالقه ومالكه تبارك وتعالى، فقد أعطاه مسئولية الأمانة، وسيحاسبه عليها.

شمسٌ وكواكب!

عندما نتأمل علاقة الكواكب بالشمس، وكيف أنّ جميع الكواكب باختلاف مسافاتهم منها، وأحجامهم، وسرعاتهم، يدورون حولها في أفلاكٍ منتظمة مرتبطة بها هي، حتى أقمارهم المرتبطة بهم وتدور في فلك كل كوكب، هي في النهاية تطوف مع كوكبها حول الشمس.

وهكذا تمامًا يجب أن تكون علاقة المسلم بالعبودية لله عز وجل، فالعبودية كالشمس، والمسلم كالكوكب، والقمر كحياته، فالعبودية -التي مفتاحها نصب الآراب لله على صعيدٍ واحد- هي المركز الذي يجب أن يدور حوله المسلم، وينتظم في فلكها، ويوطِّن نفسه وحياته كلها على هذا الفلك، ويضبط كل معاملاته وفقًا لها، وهذا التعبيد للمؤمن منبثقٌ عمّا فطره الله عليه “فالله سبحانه فطر عباده على شيئين: إقرار قلوبهم به علمًا، وعلى محبته والخضوع له عملا وعبادة واستعانة؛ فهم مفطورون على العلم به، والعمل له” [بيان تلبيس الجهمية – بن تيمية]، “وهذا العلم يُلزم نفوسهم لزومًا لا يمكنهم الانفكاك عنه، أعظم من لزوم العلم الضروري بالأمور الحسابية والطبيعية مثل كون الواحد ثلث الثلاثة، وأن الجسم لا يجتمع في مكانين، وذلك أنّ ذلك علمٌ مُجرَّد ليسوا مضطرين إليه، بل قد لا يخطر ذلك ببال أحدهم، وأما هذا العلم فهم مع كونهم مضطرين إليه، هم مضطرون إلى موجبه ومقتضاه، وهو الدعاء والسؤال والذل والخضوع للمدعو المعبود، الذي هو فوق” [بيان تلبيس الجهمية – ابن تيمية]، فمهما امتلك الإنسان من الدنيا وغرق فيها “فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدًا، وفيه شعثٌ لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرضٌ لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده، فهو دائمًا يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر”[مدارج السالكين – ابن القيم].

كيف يبلغ الإنسان الكمال في عبوديته لربه تبارك وتعالى؟

إذا نظرنا إلى حقيقة العبودية في الإنسان، سنجد أنّ فيه “عبوديتين: عبودية غير اختيارية (وذلك أنه تحت سلطان الله وقدره، فهو الذي أوجده وهو الذي يقبض روحه وهو الذي يُقدِّر عليه الأقدار) وعبودية اختيارية (وهي الالتزام بالتكليف الشرعي)، فلا يوجد إنسان قادرٌ على مخالفة العبودية غير الاختيارية، بينما تكثر المخالفة في العبودية الاختيارية بمخالفة الشريعة التي أنزلها الله، والجمع بين هاتين العبوديتين هو غاية ما خُلق الإنسان لأجله، إذ إنّ المقصد الشرعي من وضع الشريعة: إخراج المكلّف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبدٌ لله اضطرارًا -كما قال الشاطبي رحمه الله تعالى-” [بوصلة المصلح – أحمد السيد].

فعندما تصبح العبودية لله جل وعلا اختيار العبد، فإنه قد بلغ أعلى مراتب العبودية، وأسمى درجات التزكية، حيث إنه روَّض نفسه حتى أذعنت تمامًا لروحه، وانسلَّت عن طينيته، بل سما على عبودية الملائكة لأنه بلغ تلك المرتبة مع منازعته شهواته بخلاف الملائكة النورانية، فكانت مساجده منفذًا واسعًا لبلوغ غاية العبودية لله رب العالمين.

الآن يا عمر!

إنّ من تمام طاعة الله والإذعان له، طاعة نبيه وصفيه ﷺ، فقد قال الله عز وجل {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النساء:٨٠]، ومن تمام تحقيق العبودية لله عز وجل تقديم الله ورسوله على النفس والمال والولد، والحق أنّ تحقيق هذا الأمر وبلوغ تلك المرتبة أمرٌ عظيمٌ شاقٌ يحتاج مجاهدة طويلة ونفوس عظيمة، وأحسب أننا لن نبلغه إلا بشِقِّ الأنفس، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه سلّم بهذا بعدما كشف له النبي أنّ تمام محبته لن يبلغها إلا إذا قدمه على نفسه، فعن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: كُنَّا مع النَّبيِّ ﷺ وهو آخِذٌ بيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فَقالَ له عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ ﷺ: لَا، والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ، فَقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ ﷺ: الآنَ يا عُمَرُ [رواه البخاري].

وهذا التجرد الكامل لله تبارك وتعالى منبعه الرئيس هو إحسان نصب الآراب على صعيدٍ واحدٍ وترك كل صنوف العبودية تسمو من خلال الأبواب التي فُتِّحت لها.

ختامًا

إنّ العبودية لله رب العالمين تنطوي على معاني عظيمة وسامية، فهي منتهى الغاية من الخلق، وقد قال الله جل شأنه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:٥٦]، وكانت دعوة الأنبياء كل الأنبياء هي عبادة الله وحده والإخلاص له، فقد قال الله تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:٣٦]، وجعل سبحانه وتعالى أعظم مقامات العبودية في السجود، وجعل السجود في الإنسان لا يتم إلا على سبعة آراب وأعضاء، ثم خصَّ تخصيصًا استثنائيًا منفردًا هذه المساجد له، لتكون تمام العبودية له تبارك وتعالى لأنها مفاتح عبوديات النفس، فلا تجحدوا نعمة الله عليكم بأن تدعوا مع الله أحدًا.

التربية واجب الوقت.. كيف ولماذا؟

إنّ الأعمال التي تقع في مرتبة الوجوب في الشريعة الإسلامية هي تلك التي يأثم المرء بتركها ولو شغل الوقت الذي وجبت فيه بأشياء أخرى تبدو نافعة، لأنها في تلك اللحظة يجب أن تُقدَّم على غيرها، ولا ينشغل بشيء دونها. وعلى ذات الوتيرة فإننا عندما نتحدث عن عمل يُمثِّل واجب الوقت في السير نحو نهضة الأمة وبلوغ رشدها فإننا نعني به أنه يجب أن يتقدم على غيره أو يوازيه -حسب سياق العمل المقارَن- وإلا فإننا سنقع في عنت غفلتنا عن هذا الثغر.

جهود وإخفاقات نهضوية

منذ القرن التاسع عشر خرجت عشرات الأطروحات النهضوية، وتباينت بسبب اختلاف المرجعيات التي انبثقت منها، والرؤى التي تبنتها على ضوء تلك المرجعيات، مما أفضى إلى تنوعٍ في هذه الأطروحات ما بين الرصين والمتهافت، والأصيل والمقلد، وما بين من أدرك مقومات الرشد للأمة ومركزياتها فسار في رحابها، ومن ذاب تحت سطوة الثقافة الغالبة، ومن بين من اهتم بالكليات والمسارات الفكرية الكبرى والسنن الكونية في التغيير، ومن دقق في جزيئات المجتمع وحلله، واقترح حلول له، ورأى أن نقاء الصورة الكلية لا يتأتى إلا من سلامة أجزائها المكوِنة لها.

وبالرغم من هذا الكم الضخم من الأطروحات والذي ينم عن انشغال عقل الأمة لاستعادة ريادتها ضمن مقوماتها وهُويتها الخاصة، وأنّ سؤال: كيف ننهض؟ بمختلف الأفهام التي على ضوئها تم تحرير مصطلح النهوض، يُعد سؤالًا ضاغطًا منذ قرون.

إلا أننا إذا نظرنا إلى مجموع حال الأمة، فلن نحتاج مجهودًا كبيرًا كي ندرك أنّ الكثير من هذه النِتاجات النهضوية لم تكن سوى في عقل المفكر، ولكن المساحة التي استطاعت فيها هذه الأطروحات أن تتجسد وتُعمل أثرها في الناس مساحة لا زالت ضيقة لا يتمثلها الوعي الجمعي، حيث إنّ الحاضنة المجتمعية بمجموعها سلوكيًا متأثرة بعدد كبير من الروافد الداخلية والخارجية سواء على المستوى الديني أو النفسي أو الاجتماعي جعلتها مجوَّفة لدرجة تهدر أي جهد إصلاحي، ويجعل الخطوات التي تدفعها للأمام متعثرة متلجلجة.

إنّ الأسباب التي حالت دون تجسُّد جُل هذه الأطروحات على أرض الواقع كثيرة جدًا ومتشعبة، وتتطلب تحرير دقيق لكل أطروحة ومقدِّمها، وطبيعة العصر الذي كان يعيش فيه، والظروف الخارجية المؤثرة، والتغيرات النفسية والاجتماعية والثقافية التي تحدث على إثر تلك الظروف، والأخطاء المنهجية التي وقعت فيها بعد تحديد المعيار الصحيح المبني على مرجعية الأمة -أي الوحي والسنة-.

وبالرغم من أنّ هناك عشرات الكتب والمحاضرات -إن لم يكن مئات- خُصصت في بحث هذه الأسباب أو الدندنة حولها، إلا أننا نرى جملة من الإشكالات التي ضعفت وقللت من قيمة وفاعلية هذا النقد ومن أهمها هو ما يمكن أن نسميه الإزاحة الزمنية التي تقع فيها الأطروحة، حيث تخرج -بين الفينة والأخرى- أطروحات -أيًا كان توجهها- تتدحرج بين الأخذ والرد والسجالات حول منطلقاتها وأفكارها ومدى جدواها، وريثما يستقر صاحبها على الصيغة النهائية لها التي يخرجها في هيئة كتاب أو غيره، يكون قد وقع عدد من التغيرات والتحركات في الكتل والتراكيب الاجتماعية الصغيرة على أصعدة متعددة، وبالتالي فإن الصورة الكلية التي بنى عليها أطروحته تغيرت -ولو تغيرًا طفيفًا-، مما يعرقل فاعليتها، وهذه هي الضربة الأولى.

 أما الضربة الثانية تتجلى في لحظة خروج الأطروحة، حيث تتناولها أيدي النخبة من المفكرين والباحثين وغيرهم، فتُحصَر في هذا السياق الأكاديمي التنظيري الذي يتسم بضعفٍ في اتصاله مع الحاضنة المجتمعية، ويندر فيهم من ينقلها إليهم.

أما الثالثة تقع عندما تصبح هذه التغيرات المجتمعية التي أفضت إلى بروز قصور الأطروحة جلية لعموم النخبة بسبب الإزاحة الزمنية الكبيرة جزئيًا، فيتناولونها بالنقد والرد والتعديل في دحرجة جديدة لها، فتصبح في النهاية بمثابة (سِفر لامع) يطّلع عليه المختصون لفهم ودراسة هذه الحقبة الزمنية أو طيف منها، أو تندثر نهائيًا، وبالرغم من أن هناك القليل من الأطروحات التي نُصِبت على أساس السنن الكونية ومرجعية الوحي، والتي لا تزال تحمل الحيوية والريادية التي اكتسبتها من منطلقاتها، إلا أنها لا زالت حبيسة الدائرة النخبوية. مما يجعلنا نُعيد النظر حول نوعية الأطروحات النهضوية، وآلية تفعيلها.

تربية الإنسان المسلم جوهر النهضة

من خلال النظرة الكلية التي طرحناها سابقًا يتضح لنا بجلاء أن نوعية الأطروحات النهضوية يجب أن تتمحور أولًا حول ترميم وإصلاح الحاضنة المجتمعية بكافة العوامل المؤثرة عليها، إذ إنّ عدم جاهزيتها لنفوذ تلك الأطروحات خلالها وانعدام القابلية سبب رئيس من أسباب تعويقها، إذ إنّ مناطها، وأول ما يجب أن يُبدأ به في هذا الإصلاح هو إصلاح جوهر هذه الحاضنة ومكونها الأساس الذي هو الإنسان، حيث إنّ إصلاح الحد الأدنى من عموم الناس الذي يُنتج وعي كلي هو الذي يُفضي إلى إصلاح الحاضنة المجتمعية ككل والوصول إلى النقطة الحرجة من الوعي التي تسمح بانتقال المجتمع من حالة إلى أخرى.

ما هي المشاكل التربوية التي حالت دون صناعة هذا الإنسان؟

عندما ننظر إلى المكتبة العربية سنجد عشرات بل مئات المصادر والكتب والمحاضرات التي تحدثت عن التربية من جوانب عدة، فهو باب واسع صُنِف فيه كثيرًا قديمًا وحديثًا، وبالرغم من ذلك نجد إشكالات ضخمة في هذا الثغر المركزي منها:

١- تحرير مصطلح التربية: والحق أن تحرير مصطلح التربية أمرٌ بالغ الأهمية، لأن غالب الناس يعتبر نفسه محققًا له قائمًا به ولا يحتاج إعادة النظر فيه أو معالجة وضبط بعض الجوانب، ولكن عندما ننظر إلى الواقع نجد بونًا شاسعًا وتفاوتًا كبيرًا بين الناس في أساليبهم وتطبيقهم لهذا المصطلح، وعندما نبحث عن السبب نجده راجعًا -غالبًا- إلى الاختلاف في تحرير وفهم التربية، فهذا يراها مرادفًا للرعاية، وذاك يفسرها على أنها التربية الإيجابية من منظور غربي، وهؤلاء يرون تحقيقها بالدلال أو بالقسوة والعقاب والتعنيف …إلخ، وكلهم يرى أنه محققٌ لها ويتعجب من الدعوات التي تتحدث عن البناء التربوي الصحيح.

والحق أنّ تحرير هذا المصطلح يجب أن يكون على المعيار الإسلامي الذي كان عليه الرعيل الأول، فإذا بحثنا عن المعنى اللغوي لجذر التربية سنجد أنه مشتقٌ من الجذر رَبا، ونقول “رَبا الشيءُ يَرْبُو رُبُوّاً ورِباءً: زَادَ وَنَمَا. وأَرْبَيْتُه: نَمَّيته”[لسان العرب]، فمعاني النماء والزيادة في الإنسان المسلم تعتمد أساسًا على تحقيق العبودية لله عز وجل والتزكية وتعلُّم هذا الدين وحمل همّه، وهذه هي المركزيات التربوية التي تمحورت حولها تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فقد قال الله عز وجل {لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذۡ بَعَثَ فِیهِمۡ رَسُولࣰا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِۦ وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبۡلُ لَفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ} [آل عمران :١٦٤]، ووسيلة تحقيق ذلك تتضمن نقاط كثيرة أولها وأهمها هو جاهزية المحل الذي سيباشر هذه المهمة _ أي المُربي_ وهذا ينقلنا إلى النقطة الثانية.

٢- تزكية المربي لنفسه: من المستحيل أن يربي تربية صحيحة من لا يُربي نفسه أولًا، إذ إنّه دون تزكية وصلاح ذاتي وإصلاح -على الأقل في محيط أسرته- لن يتمكن من نقل هذه المعاني لغيره، ففاقد الشيء لا يعطيه، وسيظل متخبطًا في تعامله معهم، ولن ينجح الوالدان في إخراج إنسان مسلم سوي، بل ستخرج أجيال تحمل ذات الإشكالات التي أفضت إلى الشكل الحالي للمجتمع معجونة بمزيد من التحديات التي تتولد من تقلبات العصور ومستجداتها. وسبيل تحقيق هذه التزكية يكون بعرض النفس على القرآن ووزنها عليه، والاطلاع على كتب التزكية لعلماء المسلمين، وتربية النفس ومرانها على تلك المعاني.

٣- الرؤية والمهارة: إن ضبط مصطلح التربية وتزكية النفس ليسا كافيين للسير في عملية تربوية سليمة، لأن انعدام الرؤية والخطة في التربية ووضع أسس وقواعد للسير عليها ستجعل أمواج الحياة من هذه الأماني الأولى في تربية الأبناء طيفًا عابرًا وذكرى جميلة.

وكذا المهارات التي سيتم بها نقل هذه الرؤية وتحقيقها والاستمرار عليها، وإلا ستظل حبيسة الأنفس والأوراق.

ما هي أنواع التربية التي يجب علينا العمل عليها؟

إذا نظرنا إلى المجتمع النموذج وهو المجتمع النبوي الذي عمّره سيد الخلق وأصحابه، نستطيع أن نستشف منه التركيبة المجتمعية التي تعطينا تصوُّر عن طبيعة المجتمع المسلم الصحي الذي يجب أن نكون عليه، فالمجتمع النبوي حوى فئات متنوعة من المسلمين أنفسهم -فضلًا عن الأصناف الأخرى-، فالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا آلافًا، ولكن جلهم ليسوا معروفين لنا لأنهم كانوا مسلمين صالحين مُسَلِّمين لله تبارك وتعالى ولرسوله، يقيمون مركزيات الإسلام على أتم وجه دون أن يكون لهم دور إصلاحي خاص مثل بعض أعلام الصحابة كالخلفاء الراشدين وغيرهم ممن تميزوا في ميادين إضافية إصلاحية كالعلم وغيره، فهؤلاء كانوا غالبية المجتمع، وفي كثير منهم جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله ﷺ قال: (طُوبَى لعبدٍ أخذ بعنانِ فرسِه في سبيلِ اللهِ أشعثَ رأسُه مُغبَّرةٍ قدماه إن كان في الحراسةِ كان في الحراسةِ وإن كان في السَّاقةِ كان في السَّاقةِ إن شفَع لم يُشفَّعْ وإن استأذَن لم يُؤْذَنْ له) [رواه البخاري].

ومن هنا سندرك أنّ التفاوت كان كبيرًا وأنّ غالب المجتمع كان صالحًا وأقله مصلحًا، ولكن الجميع تمحور حول التسليم لله ورسوله تسليمًا تامًا حتى في تنفيذ العقوبة لمن زلَّ ووقع في خطأ، وطبيعي جدًا أن يخطئوا لأنهم ليسوا معصومين، لأن نموذجهم ليس فردوسيًا مثاليًا، وإنما واقعيًا قابلًا للتطبيق.

وعليه سندرك أنّ مستويات التربية مختلفة، فهناك تربية عامة وهي التي يجب أن تعم غالب المجتمع، ويتحقق بها شروط الصلاح والتسليم لله ورسوله، مما ييسر مهمة الفئة الثانية.

صناعة المصلحين.. جوهر التربية الخاصة

وهي تربية تتحقق بمعايير أعلى حتى يخرج منها نماذج معيارية إصلاحية تستطيع أن تأخذ بزمام التغيير والإصلاح، وتجد حاضنة مجتمعية مُهيأة بشكل عام لتقبل هذا الإصلاح والتغيير.

ما سُبل صناعة تلك النماذج؟

الحقُ أنّ هذا طريقٌ طويلٌ للغاية، ولكننا إذا استوعرناه وترددنا في خوضه لاستعجالنا النتائج والتفاتنا عنه بحثًا عن الطرق السهلة والسريعة، فكبِّر أربعًا على بزوغ شمس الأمة من جديد، لأنه كما وضحنا يجب أن تدور الأطروحات الإصلاحية في فلك إصلاح الحاضنة المجتمعية، ومن لطف الله بنا أنه قصَّ علينا في كتابه نموذج مماثل يسلينا أثناء خوض غِمار هذا الطريق الممتد، وهو موسى عليه السلام، إذ إنّ الله تبارك وتعالى لمّا كتب النجاة لبني إسرائيل لم يبعث من رجالهم نبيًا، ولم يخسف بأعدائهم الأرض -وهو على ذلك قادر عز وجل- وإنما جعل السبيل إلى ذلك مولودًا صغيرًا سيُصنع على عينه من مهده، ويربى ويربو تربية إلهية، ثم يكون التمكين على يديه!

فمن الواضح أنّه وسط النماذج النبوية التي قصها الله علينا لنعتبر بها ونُعملها في حياتنا وفي طريقنا الإصلاحي سيكون نموذج موسى عليه السلام هو نموذج وشعار هذه المرحلة من الأمة، وعليه فيجب على أرباب الأسر الحالية والمستقبلية والمحاضن التربوية أن يعدوا أنفسهم جيدًا ليكون هناك قابلية لصناعة تلك النماذج، ثم يشقوا الطريق الذي اصطفاه الله عزّ وجل لكليمه.

ختامًا

لقد عرَّجت في هذا المقال على النقاط المركزية دون تفصيلها، وعبرت عبورًا سريعًا عليها في محاولة للّم شمل الصورة الكاملة في سياقٍ مقتضب، وإلا فإن التفصيل في كل نقطة سيطيل هذا المقام، لذا فدورك أيها القارئ الكريم الذي استشعر مسئوليته تجاه الأمة وفي هذا الدرب أن تبدأ الآن بإعداد نفسك تزكويًا وفكريًا وأخلاقيًا ونفسيًا لهذه المهمة العظيمة، ثم انظر إلى نفسك بعدها، هل سيخرج من تحت يديك صالح؟ أم أنك ستصنع بإذن الله وتوفيقه مصلحًا تخوض لأجل صناعته طريق موسى عليه السلام؟

وتذكر: ليس لك خيارًا ثالثًا.

أسأل الله أن يبلغ هذه الأمة رشدها.


مواد ننصح بالاطلاع عليها

١- مركزيات الإصلاح – أستاذ أحمد يوسف السيد

https://youtube.com/playlist?list=PLZmiPrHYOIsTzx4o7OtGxionyUg685Tpo

٢- صناعة المربي – أستاذ أحمد يوسف السيد

https://youtube.com/playlist?list=PLZmiPrHYOIsSG9pLjTGeYVzAYkMw_kZ-R

٣- بوصلة المصلح – أستاذ أحمد يوسف السيد

https://youtube.com/playlist?list=PLZmiPrHYOIsQuuotMlJIPcmuEnYQ78a_p

https://youtube.com/playlist?list=PLZmiPrHYOIsS2xZhvr4k_IpitJu9XQoug

العقل والوجدان في القرآن صنوان لا يفترقان.. نماذج تطبيقية

قد بيّنا في الجزء الأول من المقال فرادة النص القرآني في ازدواجية نظمه بين الخطاب العقلي والخطاب الوجداني، وحيويّته الدافعة بخلاف برودة أسلوب المناطقة والمتكلمين، ثم بيان أهمية هذا الأسلوب في تأسيس المعرفة السليمة، وفاعليّته الواقعية الحركية، وموافقته لتركيب الكينونة الإنسانية في احتياجها إلى العنصر الواقعي والعنصر الخيالي، ثم الحديث عن إشكالية الفصل بين العقل والقلب المستوردة من المنقول الإغريقي ونقدها، وبيان محدوديّة العقل في الفضاء الشرعي الإسلامي، وموازنة العقيدة بين عالم الغيب وعالم الشهادة التي تحفظ العقل والنفس من الغلوّ والشطط هنا وهناك، ثم بيان تهافت أسس المنظومات الفكرية الفلسفية الغازية وفساد إفرازاتها سواء العقلانية المجرّدة الديكارتية والمذهب التجريبي البيكوني الذي يُغالي في الحسّ ويعظّم الرؤية المادية ويستبعد شؤون الغيب والمعجزات، مصادمين بذلك حقيقة الإنسان وحمولة الأسئلة الوجودية، وحقيقة الكون والحياة، وموقعين به في أزمة روحية يحاول التخلص من تبعاتها بالفن والموسيقى والشعر؛ ليظهر المذهب الرومانتيكي، وفيما بعد مذاهب مثل البراغماتية والفلسفة الوجودية بمنزلة رد فعل على الدمار المادي والقيمي والأخلاقي الذي خلّفه هذا الفكر الشارد.

أما الآن فسوف نأتي بنماذج قرآنية لنطوف في رياضها ونتنسّم عبيرها ونقطف من ثمارها، لكن لا بد أن نبيّن ماهيّة التصوير الذي هو أحد أدوات الخطاب العقلي الوجداني وأكثرها تأثيرًا، ثم بيان أنواعه وتمثُّلاته لنلحظه أينما جاء وكيفما جاء.

التصوير في القرآن

التصوير كما يقول سيّد قطب: “الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حيّ، وإذا الطبيعة البشرية مجسّمة مرئية. فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردّها شاخصة حاضرة؛ فيها الحياة وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل”.[1]

وللتصوير ضروبٌ شتّى، وهدفها واحد، كينابيع عدّة تصبُّ في مجرى واحد، وهي كما بيّن سيّد: “تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخييل؛ كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكثيرا ما يشترك الوصف، والحوار، وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملّاها العين والأذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان”[2]، وهذا من ثراء أسلوب التصوير وتنوع معالمه وطرقه ومظاهره في التأثير على النفس الإنسانية.

وهذه الازدواجية في الخطاب القرآني بين العقل والوجدان ينضوي تحتها القرآن كله، فتارة يكون بعض ما يتعلق بتوحيد الألوهية والربوبية، أو مشاهد الحياة في الأرض وفي الإنسان، أو مناظر يوم القيامة وكل ما يتعلق بالجنة والنار من صور النعيم والعذاب، أو حيثما شاء أن يعبّر عن حالة نفسية أو صفة معنوية، أو نموذج إنساني أو حدث تاريخي، يُعبّر عن كل هذه العناصر بطريقة العرض القرآني المعجزة الفريدة في إحياء المشاهد في كيان المتلقّي بالتخييل المنظور والواقع الملموس، ولنستعرض أمثلة، منها: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ * اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 1-4].

تأمّل هذه اللوحة المبهرة التي رُسمت بغير ريشة ولا ألوان! تأمّل هذا الحشد الهائل من الصور والأشكال التي تنبض بالحياة!

هو الله الذي نصب السماوات عاليًا دون أعمدة ترفعها وتحملها وجعلها سقفًا محفوظًا للأرض، فأين ما تطلبون من معجزات مادية محسوسة وفوقكم آيات كونية ناطقة بالحق؟ وذلّل الشمس والقمر لمنافع خلقه[3]، وأسّس الحياة على قاعدة الزوجية، وبسط أرضها، وأرسى جبالها، وأجرى مياهها، وهيأها لاستقبال الوجود البشري في حناياها.

إنّ هذه الأرض الرحبة الغنّاء بأنهارها الجارية وجبالها الراسية، وما فيها من ثنائيات متقابلة، وهذا الصبح المتنفِّس الذي يطلعُ على العباد بشروقه الأخّاذ، وتضوّع نسيمه الأريج الزكيّ، وتسليم الشمس عرشَها إلى القمر عند المغيب ليفترش السماء، ويضيء بنوره الساحر، ويمحو صخب الحشود، ويُسدِل سكينته على القلوب والوجود، وفي حركة الليل والنهار الدائبة التي يجتمع فيها المعنى النفعيّ والحسّ الجماليّ، وتلك الأراضي المتجاورة المتضادة مختلفة الألوان والأشكال والطبيعة، وما ينبت فيها من زرعٍ ذي منبت واحد أو متفرّق، واختلافها عن بعضها بعضًا بالنسق الظاهري والهيئة واللون والطعم والرائحة رغم كونها كلها تُسقى من نفس الماء!

إنّ هذا الحشد الغفير من الظواهر والصور، والحركة والسكون، والألوان والأشكال والثنائيات المتقابلة؛ تلمس بمنطقها الفطري المباشر الحسَّ وتوقظ القلب والعقل من غفلتهما، وتثير الوجدان وتستجيش كل خالجة فيه ليستنشق الحياة، ويُصغي إلى لغة الكون ويفقه دلائلها والحقائق المنطوية في داخلها، ويتأمل في صفحة الوجود صنعَ الله الذي أتقن كل شيء.

وفي أنفسكم..

وكما أنه أنزل إلينا كتابًا نقرؤه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد جعل لنا في النفس والآفاق آياتٍ تجول فيها العقول وتتدبرها القلوب فتهدينا إلى الحق وتُعلمنا ألّا معبودَ بحقٍّ سواه، فهذا كتاب الله المقروء، وتلك آفاق الكون المرئية، وتلك خبايا النفس المكنونة، وكله من رحمته بعباده، فلم يذرهم هائمين في مهمه التيه واللاجدوى والعبثية.

وأراد الله عز وجل أن يخبرنا عن حال الإنسان حين يسهّل عليه قبول دينه فيشرح صدره للإيمان بخالقه والتسليم لشريعته والتصديق برسوله ﷺ والامتثال لكل ما جاء به، حتى يستنير الإسلام في قلبه فيضيء له ويتّسع صدره بـ “لا إله إلا الله”، فقال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125].

وفي المقابل وصف لنا غير المؤمن وحال قلبه حين لم يتلقّف هدايات الوحي، فصوّر لنا المشهد بقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125].

وما إن تصل إلى كلمة {حرجًا} حتى يأخذك خيالك إلى تصوّر تلك الشجرة الملتفّ بها الأشجار، لا يدخل بينها وبينها شيء لشدّة التفافها بها، وهكذا حال قلب الكافر والمنافق، لا تصله الموعظة ولا يُقذف في قلبه نور الإيمان، ولا يبلغه شيء من الهدى والخير، لأنّ الشرك قد ران على قلبه ولفّه كما الشجرة تلتفّ بالأشجار حولها.

ثم تضيق أنفاسك وتتسارع نبضاتك حين تقرأ {كأنّما يصّعّد في السماء} مع تشديد الصاد والعين في {يصّعّد} والتي تُحسّ من خلالها شدّة ما يُلاقيه الإنسان حين صعوده السماء من نقص في الأوكسجين وقوة الجاذبية الأرضية، وتغيّر سرعة الصعود مما يؤدي إلى استحالة صعوده دون أجهزة وآليات تدعمه وتزوِّده بما ينقصه، وكما أنه لن يبلغ عنان السماء فكذلك التوحيد والإيمان لن يدخلا قلبه.

الاحتياج إلى الواحد الصمد

ويخبرنا سبحانه بأنه هو النافع والضارّ وحده، وما يكون للعبد ظاهرًا وباطنًا من رزق يتنعّم به ويتقلّب فيه فهو من عند خالقه لا من عند غيره، وهي آية تدل على أنّ التوحيد من فطرة الإنسان:

{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].

وفي جرس هذه الكلمة “تجأرون” تصوير حسّي لمدلولها، فالجأر كما ورد في تفسير الطبري أصله: من جؤار الثور، وذلك إذا رفع صوتا شديدا من جوع أو غيره. وكذا حال من مسّهم الضر، يلجأون ويتضرّعون إلى أرحم الراحمين، إلى من بيده أن يكشف عنهم ما هم فيه رغم شركهم وجحودهم وعصيانهم له، ولسان حالهم: أيا ربّ.. هلّا وابلٌ يحيل قفارَ صدورنا ريّانةً كأن لم يُصِبْها القحط بالأمس؟ فليس لنا من دونك ملتحدٌ..

{تجأرون} كلمة إن تأملتها تراءى لك ما بين حرفي الواو والنون نداءات طويلة، واستغاثات عديدة، وألمٌ ممتدّ يلفّ روح صاحبه..

تصوير دقيق باعث على الأحاسيس ومحرّك للخلجات، دافع للتوجّه إلى ربّ البريّات إذا ما حلّتْ على العبد الرزايا والمُلِمّات.

الخالق الواهب.. لا ولد ولا ندّ له

ويريد أن يبيّن عظم فرية مقولة اليهود والنصارى وبعض المشركين وشناعة ادعائهم بنسبة البنوة لله تعالى، فلا يعبّر عنه بتعبيرات ذهنية باردة لا يتخطى المعنى فيه خارج حدود الكلمات، بل يرسم لهذا الافتراء الجلل صورةً حسّية حركية تخاطب الكينونة الإنسانية من منافذ عدّة:

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88-93].

مشهدٌ تخيّلي مهيب، يثير فيك الفزع والهول، ويزلزل كل ذرة في جسدك مع كل حركة وهزّة من تلك الجمادات.. تتفطّر السموات.. ثم تنشقّ الأرض.. ثم تخرّ الجبال، حتى يستقرّ في نفسك فداحة هذا القول، وأنه ليس بالاعتقاد والكلام الهيّن في حقّ الله الذي ليس كمثله شيء!

وقد كان بإمكانه جل جلاله أن يكتفي بقوله {لقد جئتم شيئا إدّا} ويردفها بقوله {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} دون أن يتطرّق لذكر الحال الذي تكاد تؤول إليه السموات والأرض والجبال من عِظَم دعواهم، لكنّ هذا الخطاب الذهني الأحادي لن يثير فيك ما أثاره وجود التخييل والحركة، ومن ثمّ لن يتعاظم عندك – كما ينبغي – ما جاؤوا به في حق الله الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

الشجرة الطيبة

ويصف الله سبحانه لنا الإيمان به وشهادة أن لا إله إلا الله بالشجرة الطيّبة، راسخة جذورها، سامقة فروعها، دانية ثمارها في كلّ حين..

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24-25].

وكذلك حال المؤمن العامر قلبه بالإيمان والإخلاص لله وحده وعبادته وطاعته ليلًا ونهارًا، وإليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح في كل غُدوة وعشيّة.

أما كفر الكافر وعمله: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26].

هكذا في ومضة، استؤصلتْ كأن لم تكن في الأمس! وكذلك مثل الكافر، لا أصل ولا فرع لاعتقاده وعمله، قد مُحق الخير منه في الأرض، ويحمل أوزاره على ظهره فلا يصعد له عمل صالح أو قول طيب..

صورة رمادية كالحة، في مقابل صورة خضراء نضرة، ليتّعظ من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

يوسف وبيان الحق.. يدًا بيد

وتقرأ قوله تعالى على لسان امرأة العزيز: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف: 51].

وتكاد ترى حروف كلمة “حصحص” تنطق بالبون الشاسع بين الحقّ والباطل! فحرف الحاء مرقّق يخرج من وسط الحلق، أما الصاد مفخّم يخرج من طرف اللسان، حرفان متضادان لا يجتمعان مخرجًا وصفة، وكذلك نور الحقّ وظلمات الباطل.

ويريد أن ينهى عباده عن غيبة الآخر وتبغيضها إلى قلوبهم ونفوسهم فيصوّرها في نموذج إنساني:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}؟ [الحجرات: 12]. وتقف ها هنا.. تقف طويلا طويلا.. تستحضر في خيالك ذلك المشهد النتن وأنت تنهش في لحم أخيك، فتزداد نفورًا وإعراضًا عن ذلك الفعل المشين.

خلاصة القول     

هذا نزرٌ يسير من براعة نظم القرآن الكريم وكمال أسلوبه وفرادة نسجه، بين يديك هذا الكتاب الذي لم يَشُبْ نبعه الأصيل كدر، والذي لا تنقضي معجزاته وعجائبه وتأثيراته، به ندرك حقيقة الكون والحياة والإنسان وأنّها خيوط متشابكة مردّها إلى يد الله سبحانه وتعالى، بأسلوب يأخذ بتلابيب العقل وبمجامع القلب ويوقظها من سباتها وتبلّدها بتدبّرها لكتاب الكون المفتوح، وكتاب النفس المكنون، المتجلّية فيهما آيات الحقّ البديعة، فيخلق وشيجة حيّة بين الإنسان والوجود تُفضي إلى صداقة مؤنسة مع هذا الكون الرحب.[4]

أسلوبٌ هو أشدّ ما يكون تأثيرًا في الكينونة الإنسانية والضمير البشري، يلجُ إلى أغوار النفس من كل مساربها الظاهرة والكامنة، ويخاطب بقايا فطرة خالصة لم تَشُبْها أهواء إنسيّة أو تطمسها نوازع شيطانية، فيؤجّج نار قلق المعرفة في أعماق القلب، والتي لن يخمد لهيبها سوى التوصّل إلى الحق الأبلج بعد التيه والشرود في ظلمات لجلج. ومن ثم ليخبرنا القرآن بأن الهداية إلى الحق لا تؤول واقعًا حيًّا وأثرًا ملموسًا ما لم نقتفِ منهجيّته وأساليبه في الهداية، بعيدًا عن جدل السفسطائيين وتضليلهم ومغالطاتهم، وترفّعًا عن المحاججة بغية إفحام الآخر وإلجامه.

منطق فطريّ جليّ يحاكي مفردات العالم المشهود المحسوس ومكوناته، بسماواته وأرضينه، وشمسه وقمره ونجومه، وجباله وهضابه وتلاله، وبكل ما فيها من خلق؛ تُخلَع عليها صفة الحياة لتحيلها صورة حيّة، فترتسم المعاني في وجدانك متحوّلة بذلك إلى تجربة شعورية متكاملة، ثم يُستمطَر من قلبك التصديق واليقين، ومن جوارحك الحركة والفاعلية.

والحمد لله رب العالمين.


[1] سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، (القاهرة: دار الشروق، 1945) 36.

[2] المصدر السابق، 37.

 [3] وهذا مما ينفي عن المرء الشعور بالسلبية في نظام الكون، فكل ما فيه مسخّر للإنسان ولتحقيق مصالحه ورساليّته وغاية وجوده، وشعوره بأنه مكلّف بالسعي في مناكب الأرض وعمارتها – في حدود طاقاته – مع شعوره بأنه مُعان على هذه المهمة بتسخير القوى الكونية له؛ يدحض السلبية والسخط في قرارة نفسه ويدفعه دفعًا حثيثًا للعمل والإنتاج والحركة الإيجابية.

[4] على خلاف الفلسفات والتصورات التي شطّتْ فجعلتْ كلًّا من الإنسان والكون عدوًّا للآخر يتربّص به.

ما لا يسعك جهله في الإسلام!

مرت أيام دوحة شهر رمضان الفضيل، وسلسل الله -تهوينًا علينا- أعداءنا من الشياطين، وانبثقت من قلوبنا الصدئة أحاسيسُ كنّا قد نسَيناها، وفُتحت على ألبابنا رحماتٌ طالما تمنّيناها، واصطفّ واحدنا قبالة نفسه أعزلَ إلّا ممّا كان قد اكتنزه من سلاح التقوى في أمس الذاهب.

قرعت فكرة كتابة هذا المقال القصير عما لا يسع الإنسان المسلم جهلة في الإسلام رتاج ذهني، وأعجبني قرعها لِما ألفيتها تفيض به من فائدةٍ قد تُعين المُستعين، وتُوطّئ للمسترشد فهم ما لا يسعه جهله عن غرض وجوده الذي يقدّمه هذا الدين، والله يهيّئ لنا من أمرنا رشدًا، ويمدّنا بجنود التوفيق والتمكين، اللهمّ آمين.

دينك دينك.. أدرك مقصده عظيم!

أمّا وقد صرنا إلى هذا الزمن المتعرّي أوّله أمام ألحاظ آخره، وانبثّ فيه كلّ كاتبٍ يريد ابتكار فكرٍ جديدٍ، أو برهنةَ قديمٍ وتقديمه للناس على أنّه صائبٌ مُفيد، وزخرت بكتب الجهّال المكتبات، وامتلأت المواقع بكلام الخطل والافتراءات، وسيقت نظريّات الغربيّين إلى بلداننا، تارةً بكلام المستشرقين معروفي الغاية، ومرّةً بلسان عربٍ مستغرقين في الغواية؛ فلقد وجدتُ أنّ عددًا من الشبّان المُسلمين، والشابات المسلمات لا يعرفون مقصد دينهم، ولا يُدركون بسيط روايته، وما هي حبكةُ قصّته، وأساسه، وركنه الذي عليه يدلّ، وإيّاهُ يُبيّنُ بين دفتيّ القرآن العظيم.

الإله الواحد

يُخبرنا الله تعالى بالكلام العربيّ المُبين الكاشف الذي لا يستبهم على القارئ؛ أنّهُ واحدٌ فردٌ صمدٌ ليس له كفءٌ ولا نظيرٌ ولا نِدٌّ، فيقول في سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصمَدُ * لَمْ يَلِدْ * وَلَمْ يولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-6]؛ ليُبطلَ به دعاوى المُحرّفينَ الذينَ ادَّعَوا لهُ ولدًا، وغيرهم ممّن زعمَ وجودَ عديدِ آلهةٍ، وليعلّم من لم يكن يعلم، ولمّا ينزلق في مزالق هذه الدعاوي المُهلكةِ حقيقةَ الفردانيّة، وصراحةَ الوحدانيّة.

أعلمُ أنّ هذا لا يعزب عن قلب مسلمٍ ولا مسلمةٍ، ولكنّهُ ممّا لا بدّ أن نستهلّ به الكلام، ما دُمنا قد أزمعنا تبيين ما لا يسعُ جهله عن الإسلام.

الإنسان والشيطان

أمّا أنا وأنتَ وهيَ، فبشرٌ من مادّةٍ هي البدن، وروحٍ مغيّبةِ الكُنهِ لحكمةِ حكيمٍ خالقٍ، نخرجُ إلى النورِ من أرحامٍ حانيةٍ، ونكبرُ في الجسم والفهم مع تطاول الأيّام، وتساوق السنوات. وإنّ لنا في الأرض غريمًا يرانا ولا نراه، ينشد إضلالنا، وهدفه أن نلقى في السعير المتضرّم عذابنا، وهو الشيطان الرجيم.

وأمّا هذا الشيطان فلقد كان عابدًا زاهدًا كما رُوِينا، ثمّ خلق الله آدم، وهو غرّة نوعِنا، ثمّ علّمه الأسماء كلّها فحاز بها مجدًا من الله ورفعةً في الجنان، وإذ أمر الله الملائكة بالسجود لخلقه الجديد، كان إبليس حاضرًا فأبى الطاعة استكبارًا واستعلاءً على أمر الله؛ لظنّه أنّهُ خيرٌ من هذا المخلوق الذي هو أبونا آدم، عليه السلام. فما كان جزاؤه إلّا اللعنُ والطردُ من ملكوتِ السماء، إلى أرضٍ هي كلّها شقاءٌ. وقبل أن يُنزل إليها سارع لتضليل أبينا آدم، وأمّنا حوّاء بأن أزلّهما عن الطاعة، وأوقعهما في المعصية.

يقول تعالى في سورة البقرة: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ} [البقرة: 24].

فإذا كنتُ قد عرفتَ حقيقة أصلك، ثمّ أدركتَ مبتغى الشيطان منك، وتيقّنت -لقول الله في القرآن- من صريح العداوة؛ فلا بدّ أن تعاديَ عدوّك، وتبحث عن سبيل انتصارك عليه، وهذا يجري فيّ وفيك مجرى الطبع والغريزة، وعليهما فطرنا الله جلّ جلاله. فكيف يكون انتصارنا عليه؟

العبادة

إنّ من حظّي وحظّك السعيدَين أنّنا خُلقنا على يد ربٍّ رحيمٍ، لا يخيب فيه الأمل، ولا يضيع به الرجاء، إذا سألته أجابك، وإذا أطعته أثابك. وقد خطّ الله لي ولكَ خطّةً واضحةً أسماها في كتابه الحكيم “الصراط المستقيم”، وهو الدرب الذي ارتضاه للناس أن يأتوه منه، وهذه اغرسها في قلبك غرسًا مُحكمًا؛ كي لا تجد نفسك مضلّلًا عن دربه، شاطًّا عن طريقه، إثر دعوات بعض الجُهّال والمُغرضين، المُدّعين بأنّ الدروب إلى الله كثيرة، وأنّ كلّ هذه الدروب نهايتها البلوغ. ويقول سبحانه في سورة يس: {وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 61].

فإنّ العبادة أمرٌ من الله العظيم، وسبيلٌ لبلوغ مرضاته، وسلوك صراطه، والفوز بجنانه، ومجانبة عذابه، وفي التزامها الثواب العظيم، وفي تركها الإثم المُهلك؛ وهذه أخرى تُبطل ما يحاول البعض ترويجه إفكًا أنّ الصلاة ليست واجبةً، والحجاب ليس ضرورةً، فقالوا زورًا: “الإيمان في القلب”، فمن كان على رشدٍ فهم أنّ كلامَ الله شيءٌ، وكلامَ الناس شيءٌ دونه؛ إذ هم دونه وبعضٌ من خلقه. وفي العبادة تفصيلٌ طويلٌ ليس هذا مقامه، ولكن أُحيلك إلى كتاب شيخنا (عليّ الطنطاويّ) رحمه الله، واسمه: “تعريفٌ عامٌّ بدين الإسلام”؛ فيه بيّن العبادات بحُلّةٍ بهيّةٍ مفهومةٍ، وعرضها بإيجازٍ لا ينقص من مضمونها.

الرسل والأنبياء

ولأنّه أراد للناسِ الهدايةَ، ودعاهم إلى حياضها الآمنة؛ فقد أرسل في كلّ أمّةٍ رسولًا من بني آدم، يختاره ويصطفيه وفق حكمته وعلمه، وهو العليم الحكيم. ولقد اختتم هذه السلسلة الشريفة من الرسل والأنبياء بمحمّدٍ -صلّى الله عليه وسلّم-، وجعله ناسخًا لما جاء به من كان قبله، من الرسل القيّمين، والأنبياء المُباركين. ويقول -سبحانه- في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ} [النساء: 170]  فصار علينا لزامًا واجبًا، إن كنّا نعقلُ، ونبتغي الرشادَ أن نتّبع هذا الرسول، ولا سبيل لاتّباعه إلّا بمعرفة خبره، وإماطة اللثام عن معروف سيرته، ولسعادتنا فقد انبرى لهذا العمل العظيم الكثير من العلماء والأدباء، فسيرته -صلّى الله عليه وسلّم- تملؤ الأنحاء والأرجاء، فعليكَ بها فهمًا وإدراكًا، وبه اتّباعًا واقتداءً؛ لأنّك سمعت واضح أمر الله بالإيمان به، والسير في سبيله وطريقه.

الابتلاء

كم من مرّةً شهدنا على هذه المواقع، وعلى شاشات التلفاز المسيّسة التي تبتغي غسل وعيي ووعيك، وتوجيهي وإيّاك كما يُريد دافع الفاتورة، أو الجالس على العرش، كلامًا يُساس على وجهٍ باطلٍ يعرض مصائب بعض الملتزمين، وما يظهر للعين كأنّه سوء حالٍ، أو عدم قَبولٍ من الله تعالى. فأبشّرك أنّ هذا الإله الخالق قد أنبأ بأنّه يبتلينا في حياتنا الدنيا، وأقرّ ذلك في مواضع مختلفة من كتابه العزيز، فقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]

فهذا كلامٌ بيّن فيه إخبارٌ لا يحتمل التأويل، وهو قضاءٌ لا يدفعه دافعٌ، وإنّما بيّنه الله من قبل وقوعه رحمةً منه، وكرمًا من لدنه، ورُوينا في الحديث الصحيح عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟، قَالَ: (الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ). وهذا ردٌّ شافٍ للعقل، مبرئٌ من الشكّ، مُعربٌ عن حقيقة الابتلاء، ومبيّنًا -كما رأيتَ في الحديث- علّة حلوله، وهي تزكية عباد الله من ذنوبهم وسوء أعمالهم، فيكون الابتلاء دواءً يصيب العبدَ فيشفيه من أمراض قلبه، وموجبات عقوبته، فنعمّا هو.

الموت والبعث والحساب

ينتشر اليوم بين عموم الناس مقالةٌ مُحدثةٌ غريبةٌ، تقول إنّ موت الإنسان هو نهاية أمره، ومدى وجوده، يتحلّل بعدها جسمه في جَدَثهِ فيرجع إلى عدمٍ لا تُعرفُ بدايته. وهذه المقالة وإن لم تنطقها الألسن في الشرق فقد نطقت بها الجوارح والعادات الطارئة، إذ صار الفساد نمطًا للعيش، وأمسى الاحتيال حذاقةً وحُسن تدبيرٍ، وتغيّرت دلالات الأفعال، ونُحِلَ لها ما لا يعبّر عنها من الألفاظ، وهي نظريّةُ المُلحدين الكـ.ـافـ.ـرين، الذين استفحل أمرهم في الغرب؛ فأمروا بكلّ منكرٍ، ونهوا عن كلّ معروفٍ، إلّا ذاك الذي يخدمُ مصلحتهم، ويُغني خزينتهم.

والحقيقةُ ما كلّمنا به الله في إمامه المُبين، أنّ المُسلمَ يوقن بحلول الأجل، وتجربة الموت، والمكوث في البرزخ، (وهو مكانٌ بين الدنيا والآخرة يُحبسُ فيه حتّى يأذن الله للناس بالانبعاث للحساب)، ثُمّ يُبعث من مرقده، ويوقَف أمام ربّه فيرى أعماله عملًا عملًا، حتّى يقضيَ الله في شأنه، فإمّا جنان باقية، وإمّا جهنّم حامية. واحذر أن تُنكر شيئًا في الثانية فيحبط عملك، واعلم -يقينًا- أنّ الشكّ يُحيط بكَ، والشُبُهات تُقذف عليكَ، فالزم القرآن تعرف خبرك، واجلس إلى حديث النبيّ تجد ما فيه نفعك، واحرص على كثير الدعاء أن ينير الله قلبك، ويهديك دربك، وهو السميع المُجيب.

ثنائية الكوارث والأفكار.. ما مدى الارتباط بينهما؟

إذا نظرنا إلى مساحة التاريخ الإنساني؛ سنجد عددًا كبير من الكوارث الكبرى التي راح ضحيتها عشرات الآلاف بل أحيانًا ملايين من البشر، وتُمثِّل هذه الحوادث -سواء كانت على إثر كوارث طبيعية، أو بما كسبت أيدي الناس- علامات استفهام عند المعاصرين لها أو الأجيال اللاحقة، تحاول الوصول إلى تفسير لتلك الحوادث، وعند كل كارثة نجد عددًا لا بأس به من التفسيرات التي تريد حمل الكارثة على محملٍ بعينه، ولكن المُلفت للانتباه حقًا لا يتمثل في علامات الاستفهام تلك التي يتداولها عموم الناس، ولكنها تلك الأفكار التي انبثقت خلال الكوارث وعلى إثرها تغيَّر وجه العالم بأسره، أو تلك الكوارث التي كانت مآلًا لبعض الأفكار.

سنتناول بإذن الله في هذا المقال نماذج لتلك الكوارث ونحللها، حتى نتمكن من فهم هذه الثنائية التي تُعيننا بحول الله على توجيه المسار الفكري المعاصر توجيهًا صحيحًا بعد الكارثة المتمثلة في زلزال سوريّة وتركيا.

زلزال لشبونة ١٧٥٥م

في اليوم الأول من نوفمبر عام ١٧٥٥م، الموافق لعيد القديسين، وقعت سلسلة من الزلازل الشديدة في مدينة لشبونة، عاصمة إمبراطورية البرتغال في القرن الثامن عشر، وتسببت تلك الزلازل في أضرارٍ جسيمة، ودمرت المباني العامة والمنازل، واندلعت على إثرها الحرائق وراح ضحيتها نحو ٦٠ ألف شخص. [زلزال لشبونة-مجلة المنار]، وتضاربت التفاسير حول سبب هذا الزلزال ما بين سخط الإله والسؤال عن: أين الإله؟ وغير ذلك.

بحلول هذه الكارثة وجدت الأفكار التي كانت تتكون منذ بداية القرن الثامن عشر المعروف بعصر التنوير في متسلسلة التاريخ الأوروبي طريقها الذي ينحدر بها سريعًا نحو الهاوية الإنسانية دون أن يشعر أرباب تلك الأفكار.

لقد كان ڤولتير -على سبيل المثال- أحد أبرز مفكري وأدباء عصره، حيث وصفه فيكتور هوجو بقوله “إن اسم ڤولتير يصف القرن كله، فإذا كان لإيطاليا نهضة، ولألمانيا إصلاح، فإن لفرنسا ڤولتير”، وقد كان لفكره وأدبه الباع الأكبر -بالطبع مع رفاقه التنويريين مثل جان جاك روسو وغيره- في رصف بقية توجه الطريق الفكري الأوروبي، وقد كانت معظم آرائه الجدلية تدور حول مشكلة الشر، ويتبيّن هذا من كتابه الصادر عام ١٧١٣م الذي ناقش فيه الإشكال، بالإضافة إلى نقد التراث وإعادة النظر إلى التاريخ بنظرة عقلانية بعيدًا عن الأساطير، وكذا نقد الدين، ومركزية العقل.

استفزّ زلزال لشبونة ڤولتير ليُعيد النظر مرة أخرى إلى ماهية الشر، حيث اعتبر أنّ طبيعة الإنسان ليست شريرة، ولكنه قد ينحرف عن الطبيعة البشرية بحلول الكوارث كما حصل في لشبونة، وهو ما عبّر عنه فولتير عندما حل الزلزال بلشبونة عام ١٧٥٥م في قصيدته التي ندد من خلالها بالشرور الموجودة في العالم وندد كذلك بالتفسيرات التي قُدمت لهذا الزلزال خاصة تفسير رجال الدين وتفسير جان جاك روسو القائلة بأن مصدر الشرور في العالم هي أفعال البشر الطاغية.

ومن الواضح أنّ النزعة التشاؤمية ازدادت عنده، وهذا ما عبّر عنه في روايته “كنديد” ١٧٥٩م التي سخر فيها من الفلسفة التفاؤلية، وقد التقط رونالد سترومبرج هذا التغيُّر حيث قال “يبدو لنا أنّ ڤولتير عندما تقدمت به السن بدّل اتجاه عقله، إذ اتخذ مسارًا أشد كآبة وظلامًا، وهذا أمر طبيعي عززه موت محظيّته، وفتور صداقته مع فريدريك الكبير، وحرب السبعة أعوام، والزلزال الرهيب الذي ضرب مدينة لشبونة عام ١٧٥٥م”.

هذه التركيبة الفولتيرية -بالإضافة إلى رفاقه التنويريين- أدت إلى اندلاع الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩م، والتي كانت من أهم إنجازاتها كما يقول د. إبراهيم شاهين أنها نقلت مركز القوة من الكنيسة إلى الدولة، حيث إنّها بحسب تزفيتان تودوروف “المنعطف الكبير الذي يعتبر مسئولًا أكثر من أي منعطف آخر عن تشكيل هُويتنا التي نحن فيها الآن”، وتمخّض منها القرن التاسع عشر الذي كان مفككًا على إثرها، بخلاف تماسكية القرن الثامن عشر، ليستمر الانحدار بظهور نظرية داروِن التي حيونت الإنسان، وكان تأثيرها مركزيًا لدرجة أن جيمس بيرك وصفها بأنها “أحدثت دويًّا في العالم يشبه دويّ انفجار القنبلة”، ليظهر بعده نيتشه الذي كان نتيجة طبيعية لهذا الانحدار، حيث إنه أنكر المطْلَقات والأخلاق والمعنى، ليعيش بجلاء الحيوانية الداروينية، مما دفع د. عبد الوهاب المسيري للقول: “لحظة ظهور نيتشه هي لحظة تاريخية حاسمة في تاريخ الحضارة الغربية، نيتشه أعلن الفضيحة كاملة”.

أتى من بعد ذلك ماركس الذي -بحسب سترومبرج- ربط بين النظريات ووضعها، وقد تنبأ ميشيل فوكو بمآل هذه الأفكار حيث قال “الإنسان سوف يندثر مثل وجه من الرمل مرسوم على حد البحر”. وهكذا يمكن أن نرى بجلاء كيف ساهمت هذه الكارثة الطبيعية في تطور المتسلسلة الفكرية إلى هذا الحد.

 هيروشيما – السادس من أغسطس عام ١٩٤٥م.

أما الآن فيتجلى الشِق الثاني، وهو الكوارث التي كانت مآلًا لأفكار، حيث تتجلى في تلك الكارثة المروِّعة ما أنتجته قيم الحداثة من كوارث ومصائب، وهو نِتاج طبيعي لتلك الأفكار، “لقد ابتلعت هذه الحضارة في مشهدها المعاصر طُعْمَ الداروينية بوعي أو بغير وعي، فأضحى مبدأ الصراع مبدأ فاعلاً، وصار قانون بقاء الأصلح أمرًا حاكمًا، وأصبح الموت هو محرك التقدم والتطور؛ فإما أن تفترس غيرك، أو تكون الفريسة، وهو أمر وثقه تشارلز داروين  نفسه في مذكرات رحلته الشهيرة على «البيجل»، فقال ملخّصًا تاريخ الغرب: أينما خطا الأوروبيون فإن الموت يطارد سكان البلد الأصليين”[رواية هيروشيما]، وامتد التأثير الدارويني في التعبئة ضد اليابانيين، حيث كان الأميرال وليم بل هلسي -قائد قوات جنوب المحيط الهادي- يَحْثُ جنوده على قتل اليابانيين، ناعتًا إياهم بالقرود الصفر، وقد كان الناس يتساءلون فعلاً: هل يُعَدُّ اليابانيون من البشر؟!

كتبت مجلة التايم: “الياباني العادي جاهل ولا يمكن التفاوض معه، قد يكون إنسانًا، لكن لا شيء يدل على ذلك”.

وقد التقط الصحفي البريطاني إيرني بايل -الذي اشتهر بتغطية شؤون الحرب بعد انتقاله من أوروبا إلى المحيط الهادي- هذه النظرية القائمة التي كانت تسيطر على العقل الأمريكي في ذلك الحين، وكتب: “كنا نشعر في أوروبا أن أعداءنا مع وحشيتهم ودمويتهم لا يزالون بشرًا، ولكن هنا كانت الانطباعات عن اليابانيين مختلفة، فقد كان يُنظر إليهم باعتبارهم شيئًا أَحَطَّ من الإنسان، ومثيرًا للتقزز والاشمئزاز، تماما كشعور البعض تجاه الصراصير والفئران”. [رواية هيروشيما].

وبعد إلقاء القنابل، وارتكاب الجريمة؛ تجلّت النزعة النيتشوية الماركسية اللاأخلاقية، فسحقوا كل الاعتبارات الآدمية وكل المعاني القيمية، حيث إنهم اعتبروا أنّهم حصلوا على فرصة سانحة لدراسة تأثير الإشعاع على الناس الناتج عن القنابل الذرية المُجرَبة لأول مرة، فقد كان اليابانيون مجرد فئران تجارب، حيث قام أحد العلماء المسؤولين عن هذه الدراسة برفع دماغ كان قد استخرج من جثة ياباني للتو ليعلن بكل برود “بالأمس كانت الأرانب، واليوم اليابانيون”[رواية هيروشيما].

سنلاحظ أنّ هذا الإجرام المروّع وتلك الكارثة نتيجة مباشرة للأفكار كما أسلفنا، وفي ذات الوقت انبثقت أفكار وفلسفات جديدة مرة أخرى عن هذه الكارثة، فبعد الصدمة التي وقعت بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت الدنيوية والمنطقية وأصبحت اللغة مصدر كبير للتفلسف، وجنحت النزعة الفردانية، ثم انبثقت مرحلة ما بعد الحداثة منذ ثورة الطلاب عام ١٩٦٠م.

زلزال سوريا – تركيا السادس من فبراير عام ٢٠٢٣م.

تباينت التفاسير -كما العادة- حول هذا الزلزال المروّع الذي وقع مؤخرًا، وهذا الخِضَم التفسيري متوقَع وطبيعي جدًا في مرحلة الصدمة التي لا زلنا فيها، وخِطاب التثبيت ودحض الشبهات وتعزيز المعاني الكبرى للحياة مثل معنى الابتلاء وغيره مهم جدًا في هذه المرحلة -مرحلة الصدمة-، ولكن ما يجب التنبه له هو مرحلة ما بعد الصدمة، وهذه المرحلة أشد خطورة في تشكيل المرحلة المقبلة، إذ إنّه لا مفرّ من نشوء أفكار منبثقة عن هذه الكارثة، وهذه الأفكار تتبلور _ غالبًا _ في مرحلة ما بعد الصدمة، أو تتأخر قليلًا لتظهر في مرحلة المُعايشة، لذا نلاحظ في زلزال لشبونة أنه رغم كثرة التفاسير التي انبثقت خلال مرحلة الصدمة، إلا أنّ التفسير الذي طغى هو تفسير ڤولتير، والذي أصّر على إعادة إنتاجه في روايته بعد الكارثة بأربع سنوات، وبالطبع ثمة عوامل أخرى في التصوّر الكلي في متسلسلة التاريخ الأوروبي، ولكن ڤولتير أخذ بزمام الأفكار حينها.

لذا على المصلحين والمشتغلين في الساحة الآن استباق الأحداث، وأخذ خطوة إلى الأمام، لضمان توجيه هذه الشذرات الفكرية -التي حتمًا ستتضخم عاجلًا أو آجلًا- إلى المسار الصحيح التي يجب أن تسير فيه، فلو كان زلزال لشبونة سببًا في جنوح النزعة الإلحادية، فإننا بمُكنتنا أن نجعل هذا الزلزال سببًا في إحياء الروح النهضوية.

والحق أنني أرى مقومات هذه الصحوة متواجدة في الساحة الآن، ويجب اقتناص هذه الفرصة وعدم تفويتها، لأنها -بهذه الحيثيات- من الصعب أن تتكرر.

ويتحقق هذا عن طريق التقاط المعاني الكلية الكبرى التي تجلّت في مرحلة الصدمة، بعيدًا عن التفسيرات الجزئية، والتي تمثلت بشكل أساسي في نقطتين رئيسيتين:

١- حضور روح الأمة، وتبلوُّر مفهوم الجسد الواحد.

٢- رسوخ العقيدة في ساحة البلاء.

وإذا تأملنا هاتين النقطتين؛ سنجد أنهما يمثلان جناحي النهضة الإسلامية الصحيحة، فأخذ زمام الأمور بالتركيز عليهما والاستمرار في الترويج لهما بشتى الوسائل؛ سيُحرِّك السيل الفكري نحو هذه القضية، والساحة الآن في حالة جيدة من الاستعداد للتلقي لوجود عوامل عدة بإمكانها احتضان هذا التوجه -لا يسع المقام لذكرها-.

ما مسؤوليتنا تجاه الثغور المنبثقة عن الكارثة؟

لمّا استشهد عدد كبير من حفظة القرآن الكريم في معركة اليمامة؛ تنبّه المُلهَم المُحدَّث عمر بن الخطاب لهذا الخطب، وأدرك أن ثمة ضرورة تُحتّم جمع القرآن الكريم خوفًا من ضياع بعضه، فأشار ذلك على الصديق، وبعد مداولة المسألة؛ شرح الله صدر الصديق لها ومنَّ سبحانه وتعالى على الأمة بجمع القرآن الكريم.

وقد انبثقت هذه الفكرة عند الفاروق بناءً على نازلةٍ ألمّت بالأمة حينها لم تَعرِض لها من قبل، فلجأوا رضوان الله عليهم للقيام بشيء جديد لم يقع في عهد النبوة، ولكنهم أدركوا _بالقرائن الواقعة_ أنّ هذا الأمر لازمٌ عليهم، وصدّ الخطر الذي يلوح في الأفق من ضياع بعض القرآن بسبب فَقْد القرّاء أصبح أمرًا لا بد من إيجاد حلًّ له.

وإني أرى وجوب تكرار ذات المشهد عند كل نازلةٍ تنزل بالأمة ويروح فيها الآلاف من أبنائها، أرى أنها نوازل يجب على العاملين من ذوي البصيرة أن يتنبهوا للثغور التي تُشَق على إثرها، وأنّ المسئولية التي كانت موزعة على هؤلاء الآلاف انتقل حِملها إلينا بقضائهم نَحْبَهم، فيجب أن يتضاعف الشعور بالمسئولية والعمل تِباعًا، وألّا نسمح لكفة الأمة أن تختل عند النوازل والمصائب.

لعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمرًا، ويُهيأ لهذه الأمة من أمرها رَشَدًا.


مصادر للاستزادة:

١- سلسلة تاريخ الفكر الأوروبي الحديث – الأستاذ أحمد يوسف السيد

https://youtube.com/playlist?list=PLZmiPrHYOIsQMpwdg-LEUnb7c1LDxkQv5

٢- التراث والتنوير في فلسفة ڤولتير – مريم بن عطا الله – بحث ماستر.

٣- رواية هيروشيما – جون هيرسي – ترجمة وتقديم الشيخ عبد الله العجيري.

٤- مقال زلزال لشبونة – المنار

https://www.manar.com/page-46848.html

كيف يُصنَع الإنسان على عين الله؟

قدر الله عز وجل للمخلوقات أقدارها، ووضع لها رزقها في عالم الغيب قبل أن تولد، وعلم كل ما يحيط بها قبل أن تُخلَق، ومنحهم القدرة على الهداية والغواية، فجعلهم مخيرين باختيار الطريق الأمثل ليصلوا لتلك الأقدار، وليصلوا لتلك الأرزاق، كما وضع لهم شرعًا ومنهاجًا، وبيّن لهم الطريق الأمثل، وأمرهم بالسير عليه، فإن هم فعلوا ذلك، فكأنهم صنعوا أنفسهم كما أراد الله وأمر، وهم في ذلك مخيّرون لا مسيّرون، فإما أن يختاروا ما يرضي الله، وإما أن يختاروا طرقًا أخرى، وهم على طرفي الأمر لن ينالوا إلا ما علمه الله لهم.

التفضيل والتكريم وحمل الأمانة

من فضل الله على البشر أن كرّمهم على سائر المخلوقات، وقدر لهم أن يستعمروا هذه الأرض، وأنه وضع لهم منهاجًا ليسيروا عليه، يكونون به أسياد هذه الأرض، فينالوا رضى الله بذلك، ولأنها أمانة ثقيلة، فقد حملت للإنسان بما أعطاه الله من القدرة على إعمال العقل، وإذكاء الروح، وقد قبلها الإنسان، فحريٌّ بنا أن نستكمل طريقنا ونحن ندرك عِظم هذه الأمانة وثقلها وضروراتها ومحظوراتها، فنؤديها كما أمرنا ربنا، ولا نحيد عنها، فنكون كمن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

إن الإنسان من أقوى مخلوقات الله في هذا الوجود، وهذا القوة لا بد لها من ميزان يضبطها، وهو حسن الصلة بالله تعالى، وقد كرّمه الله منذ نشأته، بأن جعل الملائكة تسجد -في امتحان إلهي لها- لأبي البشر، آدم عليه السلام، إلا أن طغيان الجهل بين بعض الناس، وما سوّله الشيطان وأتباعه، دفع كثيرًا منهم ليستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فتركوا ما يمنحهم رضى ربهم وذهبوا إلى طرق توهن أرواحهم وتُسخِط ربهم عليهم، فتراهم -بالرغم من ذلك- يبحثون عن قوة بديلة يعبدونها، سواء كانت مادية أو معنوية، فالإنسان بحاجة لانتماء وأمان نفسي، ومن لم يجد أمانه في عبادة الله، تراه يتوهم أمانه في عبادة المال أو الذات أو الأفكار المنحرفة.. إلخ.

البعد عن الله.. بين الظاهر والباطن

قد يتوهم كثيرون أن البعد عن الله ذو مقاييس ظاهرية فقط، إلا أن الأمر يتعدى ذلك إلى البعد الباطني أيضًا، فالبعد الظاهريّ نراه في عبادة ما دون الله والولاء له والسمع والطاعة لذلك المعبود مما خلقه الله أو اخترعه البشر من الآلهة أو الأسماء التي سمّوها، كعبادة الشيطان أو عبادة البقر أو الشمس أو الكواكب أو مختلف الأصنام أو حتى عبادة الإلحاد، وهذا كله من جحود الإنسان لربه، وجحوده ضرورة الخضوع لمن بيده أمره كله.

كيف يستسيغ الإنسان أن يعبد غير الله في أرضه وتحت سمائه وسمعه الكريم وبصره العظيم، {ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون} [النحل: 73]

أما البعد الباطنيّ فله أنواع وأبعاد كثيرة، مثل أن يعبد الإنسان الله في جوارحه، فيؤدي بعض شعائر الإسلام، ويقر بأن الله هو الخالق، لكنه في كثير من أحواله يسير في طرق أخرى غير طريق الله.

مثل هؤلاء ترى ظاهرهم مع الله وباطنهم مع هواهم، مع المال أو السلطان أو الأبناء أو اتباع الشهوات، وحين يتبع الإنسان ما يتراءى له من الشهوات فإنه ينحدر بها بمستواه إلى ما دون المستوى الذي أراده الله له، ويصبح بمنزلة الأنعام أو أضل، { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] وقوله تعالى:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 43، 44]

والخشية الحقيقية، أنه عندما يسلك الإنسان هذا المسلك، فإنه يبعِد قلبه عن تلقي نور الوحي، ويستغرق في طريق الضلالة، فلا يفتح قلبه للهداية، وهكذا يزيد يومًا بعد يوم في غيه وطغيانه، ويزيد الله في امتحانه بأن يزيد له في طريق الباطل.

التربية بالابتلاء والفتن

طرق التربية العملية كثيرة، ولعلها أكثر تأثيرًا في الناس ودفعًا للفهم من المقولات النظرية، فالناس حين يرون التجربة أمامهم عمليا أو يمرون بها تتغيّر دواخلهم أكثر من تلقّيهم لها بالكلام النظري.

من هنا فإن الصناعة على عين الله تتحقق بالعملي أكثر من النظري، وهي من أهم النعم التي ينعم الله بها على عبده، فما أجلّ أن يربي الله عز وجل عبده الذي يحبه بالابتلاء والاختبار والعسر بعد اليسر، وعرضه على الفتن ليعلم حقيقة إيمانه، ثم ينعم عليه بأن يكون معه في هديه وتثبيته وإنزال نعم المعاني عليه كل وقت وحي، ثم يدبر له فيصرف عنه الشر الذي حسبه خيرًا، ويرزقه الخير الذي حسبه شرا، ويأخذه من أحضان الغفلة إلى معيته وكنفه عزوجل.

وقد تجد نفسك -أيها الإنسان- تتساءل لمَ الدرب موحشٌ؟

لا يحزِنك خلوّ الطريق من الرفاق، فإن الغالبية لا تسير في طلبه، وانظر إلى الأنبياء من قبل، سلكوا طرقهم مع أعداد قليلة من المؤمنين، نوح عليه السلام حين ظلمه قومه، وموسى عليه السلام حين خرج من بلدته خائفًا يترقب، ويوسف عليه السلام حين فُتِن بالكثير من الامتحانات، ومحمد ﷺ حين ظل يدعو الله العدد من السنين ومن يستجيب له قلة بين قومهم.

لتصبح عبدًا ربانيًّا

الصناعة والتربية وجهان لعملة واحدة كلمتان مترادفتان وهما أهم ما يكوّن الإنسان في هذه الحياة، أما ترى أن هناك كثيرًا ممن يمتلك علمًا بلا أخلاق، وآخرين ممن يمتلك فهمًا بلا تربية، أترى أحدهم ينتفع بعلمه عند ربه؟ لقد باعوا قصور الأخرة بأكوام قش الدنيا.

عن عبدة بن أبي لبابة، عن ابن عمر قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي، وقال: اعبد الله كأنك تراه، وكن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل”

أما الإنسان إن صحت صح تربيته في الله، وصُنِع على عينه كما قال لنبيه موسى {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] فإن آنذاك سيصح فهمه لحقيقة الأمور كلها، سواء ما كان من متاع الدنيا الزائل أو منزل الآخرة الباقي، وهكذا يغدو الإنسان عبدًا ربانيًّا.