image_print

الامتلاء النفسي.. هل من سبيل لنتجاوز فراغنا وهشاشتنا النفسية؟

أستهل هذا المقال بالتساؤل: لماذا نتحدث عن الامتلاء النفسي والفراغ النفسي؟ يصف أحدهم حالنا بأننا مثل الكراسي الهزازة نتحرك كثيراً.. إلا أن هذه الحركة ثابتة في مكاننا. إضافة إلى أن هناك تغيرًا ملحوظًا في نوعية الحالات النفسية التي ترد للعيادات وللمختصين، وتغير واضح في نوع الشكوى التي يعبر عنها الناس من غير المراجعين.

هذا التغير كان من اضطرابات نفسية تقليدية محددة كالاكتئاب والوسواس والخوف المرضي مثلاً إلى شكاوى عائمة غير واضحة المعالم، إلا أن محورها هو: فقدان الأنا، والشعور بالفراغ، والركود والتشتت، والافتقار إلى هدف أو خسران الاحترام الذاتي[1].

وفي الغالب فإن أعراض هذه الشكوى مجملة في ثلاث جوانب، بدءًا من مستوى المعنى، ثم المستوى المعرفي، ثم المستوى الشعوري.

المشاعر كدليل

أَمَّا أَنت
فالمرآةُ قد خَذَلَتْكَ
أنْتَ… ولَسْتَ أنتَ، تقولُ:
(أَين تركت وجهي؟)
ثم تبحثُ عن شعورك، خارج الأشياءِ
بين سعادةٍ تبكي وإحْبَاطٍ يُقَهْقِهُ[2]

في الغالب فإن المشاعر هي المفتاح الذي يدرك الإنسان من خلاله أن ثمة خطباً ما، وأنه يشعر بالفراغ أو الخواء. وهو قد يسلك أحد المسلكين الشعوريين: إما الغرق أو تسطيح المشاعر. فإما أن يشعر بأن هناك كثافة مشاعرية من حيث عدد المشاعر التي تعتريه وثقل محتواها، فهو غير قادر على التعامل مع هذه الكثافة الشعورية لأنها تتجاوز قدرته النفسية المتخيلة أو ما يعرف بـ (شعور الغرق). أو أن يشعر بخلو الإحساس وأنه غير قادر على الشعور بشيء، فهو عاجز عن الإحساس بالفرح حقيقة وعيش الحزن حقيقة وهو ما يعرف بـ(تسطيح المشاعر).

وإن أردنا فهم سبب هتين الحالتين فلا بد من تحليل طبيعة أهم العوامل التي تلعب دوراً كبيراً في حياتنا وتداخلت مع كثير من لحظاتنا الشخصية وهي منصات التواصل الاجتماعي.

مدخلات كثيرة ومشاعر متداخلة

عرض الأخبار والأحداث في منصات التواصل الاجتماعي يكون متداخلاً، فلا نجد منصة خاصة بأخبار الحزن فقط وأخرى بأخبار سعيدة فقط، فلا يمكن أن تكون الصفحة الرئيسية التي نقلب فيها الأخبار لأي منصة متناسقة ومتناغمة في مضمونها فهي تحوي الخبر حزين الذي يتبعه الخبر المضحك، يتبعه خبر كارثة في أقصى الأرض، ثم تتبعه نكتة.. وبالتالي فإن المدخلات إضافة لكثرتها فإنها ذات مضمون شعوري متداخل لا يعطي القارئ فرصة بأن يدرك شعوره تماماً أو يقف عند مقاصده وأبعاده.

 إن القارئ لا يعيش إلا لحظة من لحظات استهلاك الصورة ويتجاوزها بعد ذلك نحو البحث عن موضوع آخر للاستهلاك الحسي؛ ومن ثم فقدنا الصلة مع مشاعرنا وتكونت فجوة بيننا وبينها وبين ذواتنا، لأن مشاعرنا هي أهم ما يدلّنا ويقربنا من أنفسنا ويعرّفنا بها، فهي تشير لنا إلى ما نحب وما نكره، وتحديد أولوياتنا ومبادئنا وقيمنا ودوافعنا.

 

مدخلات كثيرة ومشاعر مستهلَكة

هناك مصطلح يسمى استهلاك المشاعر أو تعب التعاطف (Compassion Fatigue)[3] وهي ظاهرة نفسية شائعة يصبح فيها الفرد مخدرًا للحوادث المأساوية نتيجة رؤيته بشكل متكرر. ومع تعدد الصدمات المعروضة والأحداث المأساوية وتكرار صورها على المتصفح عبر منصات التواصل الاجتماعي تصبح مشاعره مستهلكةً، ويبدأ بممارسات انطوائية غريبة؛ في محاولة منه الحفاظ على ما تبقى من رصيد مشاعره. فغدت الصورة مجرد موضوع للرؤية والتفاعل الحسي المحدود في الزمان والمكان، فانقطع الرابط الذي يوصلها بالعقل والضمير. وخلقت ثقافة تطبيع المأساة أو الكارثة حيث إنها لا تؤثر بالدرجة الكافية على الحالة الشعورية لمن يتلقى خبرها، وإن تأثر فقد يستبعدها عن نفسه ويستبعد علاقتها مع مساحته الشخصية.

المعرفة كأساس.. معرفتنا عن ذواتنا وعن العالم

لنبدأ بهذا السؤال: بأي معيار يمكن أن أعرف نفسي؟

إن معرفتنا لذواتنا وبناؤنا لقيمتها لا بد أن يعتمد على مرجعية ما، وهذه المرجعية قد تكون معايير الآخرين وقد تكون فكرة خارجية كالدين، ولا يمكن للإنسان أن يكون معياراً لنفسه، وكذلك لا يمكنه ألا يمتلك معياراً البتة، فبهذه الحالة سيُفرَض عليه المعيار فرضاً دون أن يدري، كما هو الحال في السابق، حيث كان معيار الآخرين قديماً متعلقاً بالنسب، وقد سعى الإسلام لتغييره إلى معيار العلم والعمل الصالح بدلاً من النسب. فقال رسول الله ﷺ: (مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه) [صحيح ابن حبان]. فصار المعيار الديني هو من يحدد مفاهيم النجاح والفوز والفلاح وبالمقابل الخسران والإفلاس. وقال ﷺ: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وَقَذَفَ هذا، وأكل مال هذا، وسَفَكَ دم هذا، وضرب هذا) [صحيح مسلم].

إلا أن العمل بمفهومه الحديث مرتبط بالرأسمالية والثقافة الاستهلاكية، وقد صار مؤخراً هو المعيار العام الذي يعد مرجعاً لقياس الأمور ووزنها. ومفهوم العمل هنا مرتبط بالإنتاج الاقتصادي. وبناء على ذلك فإن معرفة الذات تقزّمت لتعرَف بناء على المهنة أو الوظيفة وكذلك الشهادات الأكاديمية. وأصبحت مصطلحات مثل الإنجاز والنجاح والفشل والسعادة مفاهيم مطلقة، بمعنى أنها صارت تعني معنى موحداً لدى الجميع، فمن لم يلتزم به فاته خير كثير.

منصات التواصل الاجتماعي ونظرية المقارنة

تحدت ليون فستنغر صاحب نظرية المقارنة الاجتماعية[4] عن تعريف الشخص لذاته وبنائه لقيمته، وأشار إلى أن البشر لا يستطيعون تعريف أنفسهم بشكل جوهري أو مستقل، بل بناء على المقارنة بشخص آخر. وعندما يتعلق الأمر بالمسائل الكبرى المتعلقة بالهوية والذات، فالفرد بحاجة إلى النظر إلى أشخاص آخرين. وهنا فإن منصّات التواصل الاجتماعي كثفت مبدأ تقييم الذات من خلال الآخرين. ويمكن تسمية ما تقوم به هذه المنصات بأنه تعريض للذات وانكشافها على تجارب الآخرين. وبالتالي فإن الذات الفردية تقيم تقدمها وسعادتها وجمالها بناء على ما تراه لدى الآخرين. وهذا يزيد مشاعرها بالتذبذب وعدم الرضا وعدم الوصول، فالمعيار بحد ذاته متذبذب ومتغير.

ليون فستنغر

في سياقات غير دقيقة.. كيف شاعت اللغة النفسية؟

قد يلاحظ السامع لطريقة التعبير عن المشاكل والضغوط التي يواجهها الناس في هذا العصر أنها مختلفة عن الطريقة التي اعتادها الناس قبل عدة عقود قليلة من الزمن. حيث شاعت بعض المصطلحات النفسية بين الناس غير المختصين وصارت أكثر استخداماً للتعبير عن المشاعر والخبرات الشخصية.

تكمن المشكلة في أن هذا الاستخدام ليس بالضرورة أن يكون دقيقاً أو مناسباً للسياق الذي يتم استخدامها فيه، فاتسمت بالتبسيط المخل.

مثال على ذلك كلمة (الصدمة)، فهي في كثير من الأحيان تستخدم للتعبير عن المرور بضغوطات معينة. وبالمقابل فثمة قاعدة دقيقة تقرر بأن المرور بصدمة يعني المرور بضغط، لكن المرور بضغط لا يعني بالضرورة المرور بصدمة نفسية.

وكذلك مصطلح الاكتئاب الذي صار يستخدَم مرادفًا لمشاعر الحزن. وفي هذا السياق فإن العديد من الأبحاث النفسية توضح أن هناك علاقة مهمة بين اللغة التي نستخدمها والمشاعر التي نطورها، والطريقة التي نتعامل بها مع مشاعرنا أيضًا.

فاستخدام المربّين لمصطلحات شعورية متعددة مع الأطفال -مثلاً- يتنبأ بالقدرة على فهم المشاعر وقدرات التنظيم الذاتي في مرحلة الطفولة اللاحقة[5].

وفي بحث آخر أجري على أشخاص في مرحلة الرشد، تبين أن استخدام كلمات متعددة للتعبير عن مشاعر مختلفة يغير من طريقة إدراك المشاعر، من طريقة التعامل معها وحتى من طريقة تفاعل الدماغ معها[6].

آثار حملة نزع الوصمة الاجتماعية

الكثير منا سمع في الفترة الأخيرة بمفهوم الوصمة Stigma وهي نظرة المجتمع السلبية لمن يقوم بمراجعة طبيب نفسي أو يعاني من اضطراب نفسي. وشهدت الفترة الأخيرة حملة علمية واجتماعية لنزع هذه الوصمة وجعل الاضطراب النفسي أمراً طبيعياً -فاشتهرت جملة المرض النفسي مثل المرض العضوي- ومراجعة الطبيب النفسي أمراً متقبلاً. وقد أفرزت هذه الحملة عدداً من النتائج والآثار الأخرى، فبالطريق لنزع الوصمة توسعت دائرة اللاسواء وضاقت دائرة السواء. فصار من الممكن أن يسوّق لبعض المشاكل الطبيعية بأنها اضطراب نفسي قد يفوق قدرة المرء وتستلزم مساعدة وتدخلًا خارجيًّا. وتم تجاهل قدرة الإنسان الطبيعية وآلياته الطبيعية (مثل الدعم الاجتماعي، ونمط الحياة اليومي كالرياضة والروتين والغذاء المناسب) أو ما يسمى بالاتزان الداخلي equilibrium الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يتكيف وأن يتجاوز المشاكل والصعوبات التي تواجهه.

معرفتي عن العالم.. بين الحياد والاستقطاب

نشر كتاب عام 2017 للكاتبة Jean Twenge كتاب مهم عنوانه (جيل التقنية: لماذا يكبر أطفال اليوم أقل ثورية وأكثر تسامحاً وأقل سعادة وغير مؤهلين لمرحلة الرشد)[7]، والعنوان ذاتُه يعكس صفات يحملها جيل اليوم، خاصة طبيعة الآراء التي يتبنونها. فالتوجهات في العالم سلكت أحد مسارين: إما الحياد وإما الاستقطاب.

يقصد بالحياد أن الفرد أصبح أكثر ميلاً للانكفاء على قضاياه الشخصية فغابت قضايا الأمة الكبرى عن مخيلته وغابت معاني مثل النضال الحقوقي والصراع الطبقي والتدافع الأممي. وبرزت مفاهيم التنمية البشرية مثل تطوير الذات والتركيز على الطموحات الشخصية. فظهر التدين الفردي الذي أبعد عن ساحته الاهتمام بالمجتمع وقضاياه.

أما الاستقطاب فإن لمنصات التواصل الجتماعي مرة أخرى دوراً أساسياً في تشكيله. فالفرد على حسابه الشخصي على الفيسبوك مثلاً يستطيع تشكيل مجتمعه الذي يريد من خلال انتقاء جمهوره وأصدقائه واستبعاد أي رأي أو شخص لا يعجبه. وهكذا الآراء تتشابه على صفحة الأخبار الرئيسية التي يقلبها وهي بالأصل تشبه رأيه فيزيده تأكيداً. وقد يحصل تحيز معرفي يسمى Confirmation bias أي أن الإنسان يميل لتشكيل رأي موافق لرأي المجموعة التي هو فيها ليتجنب شعور النبذ ويشعر بالانتماء ولو كان هذا الرأي هو الأقل منطقياً وصواباً بالنسبة له.

المعنى .. منطلَقٌ وغايةٌ

مآل الفراغ الشعوري والمعرفي والنفسي هو أن يتحول إلى فراغ في الجواب على أسئلة وجودية ملحة تطرح نفسها على شكل ما الغاية من وجودي وما الغاية مما أفعل؟

وهنا حاول العالم الحديث أن يقدم الاستهلاك والترفيه كجواب حداثي للأجوبة الوجودية. فأهم شيء هو عيش اللحظة وعدم التفكير في المآل. فمثلاً صناعة السينما والفن عموماً عرفت الطريق لاستبدال الحاجة الروحية من الدين بأشياء أخرى تمنح نفس المتعة لكن بتحرر من القيود الدينية، لتأكيد فكرة العيش هنا والآن فقط.

وعلى مستوى أبسط من ذلك، ففقدان المعنى لا ينحصر فقط على الأسئلة الوجودية الكبرى بل تسلل للعلاقة الشخصية مع الأشياء والأشخاص. فقد يشعر الإنسان بإحساس الغربة حتى في بيته، وبشعور الوحدة حتى وهو بين أهله.

فإذا اقتلع الإنسان جذوره وجعل الآخرينَ معياره ونصب السعادة غايته فكأنه بلا منطلق وبلا مقصد، ومن كان كذلك فسيضل طريقه وستفقد حياته معناها {أفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الملك: 22].

توصيات عملية

● لا تجعل انشغالك يفقدك مساحات التأمل الشخصية والمراجعة الذاتية. فهذه المساحات هي ما يشكل معرفتنا العميقة بذواتنا، يساعدنا على تحويل تجاربنا الفاشلة إلى حكم ودروس، وتعلمنا ليس فقط تقبل الألم والحزن وتطبيعه بل بأن ننظر إليه بأنه من أعمدة بناء الشخصية وبأنه يمنحنا فرصاً للتعلم والتطوير.

● تدرب على الصبر وألّا تتبع نفسك هواها. فما يجعل الإنسان إنساناً هو منطقة الدماغ الأمامية وما قبل الأمامية وهي المسوؤولة عن العمليات المعرفية العليا (التحكم بالسلوك، اتخاذ القرارات، التفكير بالعواقب..)، وبتدرّبنا على الصبر وحمل النفس على ما يفيدها ولو أنها لا ترغب فإننا بذلك نجعل هذه المنطقة الدماغية أكثر نشاطاً واتصالاً عصبياً، وكأننا بذلك نزيد إنسانيتنا.

● وكما قال رسول الله ﷺ: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم) [أخرجه الخطيب البغدادي في التاريخ وصححه الألباني]. وكذلك قول الشافعي: “آفة المتعلم الملل وقلة صبره على الدرس والنظر، والملول لا يكون حافظاً، إنما يحفظ من دام درسه وكدّ فكره وسهر ليله لا من رفه نفسه”[8].

● اجعل منظورك لتعريف نفسك واسعاً. فلا تحصر تعريفك لنفسك بالمهنة والشهادة الأكاديمية مثلاً، بل أسس تعريفك لذاتك على قيمك ومبادئك وثوابتك، ماذا تحب وماذا تكره، إلى ماذا تسعى، وماذا تقدم، ما صفاتك وما موهبتك. لا تجعل من نفسك متماهية مع دور واحد فقط فتفقد نفسك عند فقد هذا الدور. من يقصر تعريفه على مهنته فسيواجه لاحقاً مشكلة التقاعد مثلاً، والأم التي تقصر تعريفها لنفسها بأولادها فستواجه مشاكل في التربية (تربيتهم كشخصيات مستقلة عنها، مشاكل عن دخولهم للمدرسة، عند دخولهم مشروع زواج).

● تذكر جوهر القصة كلها. فكما يقول المسيري “ما ننساه في حياتنا هو شيء لا ينبغي نسيانه فهو جوهر القصة بالأساس وهو ما يستند عليه العالم بأسره”[9]. {نسوا الله فأنساهم أنفسهم} [الحشر:19].

● ترجم المفاهيم التي يسوّق لها بأنها مطلقة (الإنجاز والنجاح والسعادة والفشل) حسب ظروفك وحسب معيارك.

● اصنع نظاماً يومياً يشكل لك معنى وكوّن علاقة شخصية لها معنى قيّم مع الأشياء من حولك (فنجان من القهوة، مكان للجلوس على الأريكة في بيتك..).

● أعط لنفسك فرصة لاستخدام الآليات النفسية التكيفية الطبيعية التي تمتلكها في التعامل مع الضغوط (أنشطة لتفريغ الضغط، دوائر الدعم الاجتماعي..).

● انتبه للغة التي تستخدمها في التعبير عمّا تمر به من مشاعر وتجارب.

● حافظ على الورد القرآني. وكن على يقين أن في وسائل التواصل الاجتماعي يحصل انكشاف للذات على تجارب الآخرين فتعيد تعريف ذاتها وبناء هويتها باتخاذها للآخرين معياراً. أما بالورد القرآني فإن هذا الانكشاف يحصل على معيار المنهج الرباني والمعايير القرآنية. وشتان بين تبنى هويته ويعرّف نفسه متمحوراً حول الآخرين الذين يتسمون بالتغير والتذبذب وبين من يكون القرآن والكلام الإلهي المطلق محوره في ذلك.


[1] معنى الحياة في العالم الحديث، عبد الله بن عبدالرحمن الوهيبي. 1441 ه، صفحة 9.

[2] من شعر محمود درويش

[3] https://www.psychologytoday.com/us/basics/compassion-fatigue

[4] Festinger, L. 1954. A theory of social comparison processes

[5] Shablack, H., & Lindquist, K. A. (2019). The role of language in emotional development. In Handbook of emotional development (pp. 451–478). Springer.

[6] Lindquist, K. A., Gendron, M., Satpute, A. B., & Lindquist, K. (2016). Language and emotion. Handbook of emotions (4th ed.). The Guilford Press.

[7] iGen: Why Today’s Super-Connected Kids Are Growing Up Less Rebellious, More Tolerant, Less Happy–and Completely Unprepared for Adulthood–and What That Means for the Rest of Us

[8] رواه الآجري في “جزء حكايات الشافعي” ( ص ٣٠ – ٣١ )

[9] محاضرة التيارات الفكرية المعاصرة وآثارها في الشرق المسلم، عبد الوهاب المسيري. https://www.youtube.com/watch?v=9XbP-3l2_H4&ab_channel=khotwacenter

الذكاء الاصطناعي…عفريت يأبى العودة إلى الفانوس!

شهد العالم تحولات وتطورات تكنولوجية رهيبة في السنوات القليلة الأخيرة، مسّت العديد من مجالات المعرفة، مما دفع المتخصصين لتسمية هذه المرحلة بـ(الثورة المعلوماتية) أو (الانفجار المعرفي) أو (حرب البيانات) وغيرها من التسميات، إلى أن وصلنا إلى ما نراه من ثورة حقيقية في مجال الذكاء الاصطناعي وقدراته المذهلة التي باتت تهدد العديد من المهن التقنية.

مدخل لا بد منه

مع غض النظر عن القدرة العسكرية، فقد أصبح من يمتلك المعلومة يمتلك سلاح السيطرة والتحكم والتأثير، وقد ساهم التطور التقنيّ الذي نراه في وسائل الاتصال وأنظمة الحواسيب في تنظيم وتسيير المعلومات، كاستخدام الرقائق السيليكونية لتحقيق سرعات فائقة في تخزين ومعالجة البيانات، واستخدام اللغة الرقمية وكوابل الألياف البصرية لنقل المعلومة والصوت والصورة بدقة عالية؛ وبذلك نكون قد دخلنا عصر الثورة الصناعية الرابعة.

هذا العصر التي أضحت فيها التقنيّة جزءًا لا يتجزأ من المجتمع، ومن الإنسان نفسه؛ فأصبحت أجهزة الحواسيب والآلات تحاكي عملية تفكير العقل البشري، وذلك من خلال انتقال أساليب الذكاء الإنساني إلى نظم البرمجة للحاسبات والآلات، وقد أدّى استخدام هذه البرمجيات والتطبيقات إلى ظهور نظم الذكاء الاصطناعي في العديد من جوانب الحياة كالصناعة والتجارة والاتصالات والصحة وغيرها من القطاعات، لكن التقدم السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي وأنظمتها، وتجاوزها للتوقعات البشرية؛ نتج عنه تصاعد القلق حول مستقبل البشرية، خاصة مع توقع الكثير من الخبراء بأنّنا سـنصل إلى مرحلة بناء أجهزة آلية -روبوتات- وآلات تمتاز بمستويات ذكاء تفوق مستوى الإنسان؛ مما يمكنها من اتخاذ قراراتها بشكل ذاتي، وحينها سنجد أنفسنا  واقعًا أمام سؤال:

هل سيتحكم الذكاء البشري في الذكاء الاصطناعي أم سينقلب السحر على الساحر؟

الذكاء الاصطناعي من خيال علمي إلى واقع يومي

كان الذكاء الاصطناعي في السابق محض مادة للخيال العلمي، تناولها المنتجون في أفلامهم الخيالية حتى منتصف الخمسينات من القرن الماضي، إلى أن شرع العديد من العلماء في تبني نهج جديد لبناء آلات ذكية من خلال اكتشاف نظريات رياضية جديدة للمعلومات؛ واختراع الحواسيب الرقمية إلى جانب تطور علوم الأعصاب.

يمكن الإشارة إلى المراحل الأولى في هذا المجال في عام 1956 حيث بدأت ملامح علم يهتم بأبحاث الذكاء الاصطناعي في الظهور؛ وذلك من خلال انعقاد أوّل مؤتمر في كليّة دارتموث بالولايات المتحدة الأمريكية، وكان من أبرز الباحثين الأمريكيين في هذا المجال الذين حضروا المؤتمر جون مكارثي، ومارفن مينسكاي، وهربرت سايمون، وألين نويل؛ الذين أصبحوا فيما بعد قادة بحوث الذكاء الاصطناعي لعدّة عقود، فقاموا بتأسيس مختبرات للذكاء الاصطناعي في عدة أماكن، مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة كارنيجي ميلون، وجامعة ستانفورد، وقامت آنذاك وزارة الدفاع الأمريكية بتمويل أبحاثهم، لكن سرعان ما تخلّت الحكومة عنهم لفشلهم في تطوير مشاريعهم؛ فكانت تلك الانتكاسة الأولى التي شهدها مجال بحوث الذكاء الاصطناعي.

مع بداية الثمانينات شهد هذا المجال اهتمامًا كبيرًا خاصة في الجانب التجاري؛ وذلك نظرًا لنجاح برنامج نظم الخبرة الذي يحاكي مهارات التحليل وذكاء الإنسان الخبير، لكن وبعد فترة وجيزة ومع انهيار سوق آلة lisp machine (إحدى لغات البرمجة المعروفة في مجال بحوث الذكاء الاصطناعي االتي اخترعها العالم جون مكارثي سنة 1958) عرفت البحوث انتكاسة أخرى، غير أنه مع بداية التسعينات شهد العالم ميلاد الثورة الصناعية الثالثة والتي اتسمت بتحوّل تكنولوجيا المعلومات التناظرية إلى التكنولوجيا الرقمية، وكنتيجة للتطور الواسع لهذه الأنظمة وتداخلها وتفاعلها مع بعضها البعض من خلال الخوارزميات؛ فتم إفراز تقنيات الثورة الصناعية الرابعة والتي من أهمّها الذكاء الاصطناعي؛ فأصبحت أبحاثه على درجة عالية من التخصص؛ منقسمًا بذلك إلى عدّة مجالات فرعية ترتكز على فكرة أساسها أنّ الآلات الذكية لها القدرة على التعلم والاستنتاج ورد الفعل.

أهمية الذكاء الاصطناعي في حياتنا

إنّ الغاية الأساسية من وجود الذكاء الاصطناعي هو تمكين الآلات على العمل والتفكیر مثل الدماغ البشري واستخدامها في العديد من المجالات؛ فقد أصبحت تطبيقاته تتغلغل في حياتنا وتزداد ترسيخاً؛ فنجدها مثلًا في:

  1. القيادة الذاتية للسيارات وتحليق الطائرات بدون طيّار.
  2. الصناعات العسكرية ولعل من أبرزها كاسحات الألغام.
  3. الصناعات الإستراتيجية كالمفاعلات النووية لأغراض سلمية أو عدائية.
  4. تفسير الصور والبيانات الزراعية واستشعار جودة المياه.
  5. -برامج الاتصالات السلكية واللاسلكية وشبكات الإنترنت ومنصات التواصل.
  6. التشخيص والعلاج الطبي.
  7. التعليم ومراكز البحث.
  8. تحليل البيانات الاقتصادية والتنبؤ بالبورصات وتطوير أنظمة تداول الأسهم.
  9. المحاكاة المعرفية كـالتعرف علـى الوجـوه أو البصمات (مثل نقاط المراقبة في المطارات أو مراكز التحقيق).
  10. التصاميم الصناعية كصناعة السيارات ومختلف الآلات والأجهزة.
  11. التحكم بوسائل النقل والمواصلات كالسكك الحديدية.
  12. الأقمار الصناعية وأنظمة الملاحة الفضائية.
  13. محركات البحث على الإنترنت كالعناقيد البحثية لمتصفح غوغل.
  14. أنظمة الحماية في البنوك والمؤسسات والمنازل.
  15. ألعاب الفيديو والحاسوب.
  16. الأجهزة الشخصية كالهواتف والألواح الذكية.
  17. الأنشطة الفنية كالسينما والرسم والموسيقى.
  18. لعلّ آخر ما توصل إليه العقل البشري هو اختراعه للإنسان الآلي الروبوت “صوفيا” وروبوت الدردشة “ChatGPT”.

كل هذا ما هو إلا عينّة من بعض استخدامات الذكاء الصناعي في واقعنا اليوم، فبرامجه تتعّدد من مجال إلى آخر؛ تمس الفرد والجماعة على حد سواء، وميدانه كوكب الأرض والفضاء، وتتنوّع أهدافه من التنمية والدفاع والأمن إلى التعليم والتثقيف والترفيه.

إن أهمية الذكاء الاصطناعي تكمن في أنّه يساعد الإنسان على أداء أعماله في فترة وجيزة مع خفض تكلفة الإنتاج؛ إلى جانب توفير الراحة والرفاهية له، فهو يساهم -بكل اختصار- في تطوير الحياة البشرية.

وعلى اعتبار أنّ أبحاثه ذات طابع تقني محض؛ فإنّه سيؤثر أيضًا في ميادين العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الأعصاب وعلم الإجتماع وعلوم الفلسفة وغيرها من العلوم؛ وذلك من خلال إتاحة الفرصة للعلماء في فهم عملية التفكير البشري.

ليست بعيدة.. تهديدات الذكاء الاصطناعي

مع توسع قدرات الذكاء الاصطناعي وانتشاره، ازدادت حدّة النقاش حول هواجس خروجه عن السيطرة، فقد اتفق العديد من العلماء والأكاديميين والفاعلين في الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي على مخاوفهم من عدم التحكم في التكنولوجيا مستقبلاً؛ بل وصل اعتقادهم بأنّها ستقضى على البشرية؛ مما دفع قرابة ألف خبير ومتخصص لتوقيع عريضة يطالبون من خلالها بوقف مؤقت لتطوير هذه التكنولوجيا، ولعلّ من أبرزهم مالك تويتر وشركتا “سبايس إكس” و”تيسلا” إيلون ماسك، ومؤلف كتاب “سايبيينز” يوفال نوح هراري، ورئيس شركة “أوبن إيه آي” سام التمان وممثل شركة “آبل” ستيف ووزنياك، وخبراء من مختبر “ديب مايند” للذكاء الاصطناعي التابع لـ”غوغل”، ورئيس شركة “ستابيليتي إيه آي” عماد موستاك، بالإضافة إلى  مهندسين من شركة “مايكروسوفت” وأكاديميين متخصصين في الذكاء الاصطناعي؛ كما حذر الأب الروحي للذكاء الاصطناعي بشركة “غوغل” جيفري هينتون من مخاطره عندما ترك منصبه مؤخراً.

 تتجلّى لنا هذه المخاوف بوضوح حين نرى بأنّ الآلات الذكية التي تعيش معنا تفتقر للعاطفة والإنسانية وبالتالي ستؤثر قراراتها الآلية في حياتنا بشكل مباشر، كما أنّ استخدامها بشكل دائم ينعكس بالسلب على أدمغتنا كضعف الذاكرة والإدراك وتراجع العلاقات الإنسانية -العزلة والانفصال عن البشر-، إلى جانب تزايد التهديدات الأمنية على المستوى القومي كالهجمات السيبرانية والتلاعب بالمعلومات واختراق الحسابات والمواقع الإلكترونية والتجسس عبر برامج خاصة -مثل برنامج بيغاسوس-.

أمّا على المستوى الداخلي فيكمن القلق في استخدام الحكومات لبرامج من شأنها تقييد حريّة الأفراد ومراقبتهم وإنتهاك خصوصيتهم الشخصية، أمّا اقتصاديًا فاليد العاملة مهدّدة بخسارة المزيد من فرص العمل، وتوجد تهديدات جمّة لا يسعنا حصرها.

من خلال ما سبق ذكره من مخاوف وهواجس؛ نطرح السؤال التالي: هل شعر عرّابو الذكاء الاصطناعي بالندم لاختراعهم الذي تجاوز خيالهم؟

يجيبنا العالم البريطاني سيتوارت راسل على ذلك بقوله: “إنّ البشرية قامت بخطأ في البداية لأنهّا لم تفكر في سبب الحاجة إلى اختراع الذكاء الاصطناعي”.

 للذكاء الاصطناعي دور في تحسين حياة الناس من خلال تقديم خدمات أكثر دقة وبسرعة فائقة؛ لكنّه قد يشكّل أيضًا تهديدًا للبشرية إن لم تكبح جماحه، وذلك بوضع إستراتيجات تقوم على أسس حوكمة وأخلقة التكنولوجيات الحديثة وتنظيمها ومُتابعتها ومُراقبتها والتحّكم فيها؛ فالذكاء الاصطناعي بمثابة ذلك العفريت الذي يتطلّع لتحقيق أُمنياتنا ورغباتنا ويأبى العودة إلى الفانوس؛ وقد أكّد ذلك السيناتور الأمريكي كوري بوكر حينما قال بأنّه “لا توجد طريقة لوضع هذا الجنّي في الزجاجة؛ إنّه ينفجر عالميًا”.


 قائمة المراجع:

1-الذكاء الاصطناعي: تأثيرات تزايد دور التقنيات الذكية في الحياة اليومية للبشر.

https://futureuae.com/media/20_371c98d6-6b55-4f40-8200-6ffcca032c25.pdf

2-مدخل إلى عالم الذكاء الاصطناعي

https://www.kutubpdfbook.com/book/%D9%85%D8%AF%D8%AE%D9%84-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A/download

3-أفضل كتاب يشرح الذكاء الاصطناعي

https://www.rofofs.com/2021/04/learn-artificial-intelligence-basics-book-pdf.html

4-تاريخ الذكاء الاصطناعي

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-pdf

5-الذكاء الاصطناعي واقعه ومستقبله

https://www.ebooksar.com/%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-pdf

6-مخاطر الذكاء الاصطناعي على الأمن ومستقبل العمل

https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/perspectives/PE200/PE237/RAND_PE237z1.arabic.pdf

7-الذكاء الاصطناعي يهاجم الذكاء الاصطناعي

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D9%8A%D9%87%D8%A7%D8%AC%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D8%B4%D8%B1%D9%81-%D8%B4%D9%87%D8%A7%D8%A8-pdf

8-الذكاء الاصطناعي المستقبل الجديد

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-pdf

الخروج من الصراع الهدام بين التيارات الفكرية

إنّ السعي للخروج من الصراعات الفكرية البارزة على الساحة الآن لم يعد اختيارًا رفاهيًا يمكن الأخذ به أو تركه، بل هو ضرورة يجب أن تتحقق إذا أردنا أن نتوجه نحو البناء والنهوض الحضاري، إذ إنّه لا يُتصوَّر إمكان التحرك نحو النهضة وبلوغ مرحلة الرشد في خضم هذا التناحر الفكري والصراع الهدّام بين مختلف التيارات الفكرية.

لماذا تتحول بعض الأفكار إلى ساحة نزاع هدام؟

حتى نستطيع الوصول إلى مرحلة البناء في الأمة على المستوى الكلي، ونشرع في التحرك نحو حالة الرشد الحضاري، علينا أولًا إدراك طبيعة الأفكار التي هي أساس أي بناء، ومن اللطيف أن نجد قانونًا فيزيائيًا يستطيع تمثيل جزء كبير من هذه الطبيعة بدقةٍ وجلاء، حيث ينص القانون الثالث من قوانين نيوتن للحركة في الميكانيكا التقليدية، على أنّ القوى تنشأ دائمًا بشكل مزدوج، حيث يكون لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكسٌ في الاتجاه، وتعيين إحدى القوتين بوصفها فعلًا والأخرى رد فعل، هو تعيين تبادلي حيث يمكن اعتبار أي من القوتين فعل في حالة اعتبار الأخرى رد فعل، والعكس صحيح.

ومن الممكن أن نرى تجليات هذا القانون ذاته في عالم بعض الأفكار والحركات الاجتماعية الناشئة عنها، فكثير من الأفكار تنشأ بشكل مزدوج أو بشكل فردي يُهَيكل الازدواجية مع الاتجاه المضاد، وتحدث هذه التبادلية في ردود الأفعال في الأفكار، والتي تتبلور وتتجسد في الحركات الاجتماعية الحاملة لها والمحركة لها كذلك، وطرفا النقيض هنا لا نعني بهما دائمًا وصف اليمين واليسار من ذات الفكرة، وإنما بشكل أوسع نقصد بهم الفكرة والفكرة الأخرى التي نتجت ردَّ فعل لها سواء كانت من جنسها أو لم تكن، مثل جنوح الفردانية بعد خيبة الأمل التي أصابت الناس جراء الحرب العالمية الثانية.

وهذا يدل على أنّ وجود حالة التصادم الفكري الاجتماعي مرتبطةٌ بنشوء فكرة خارج سياج المكونات الحضارية التي تتشكل على ضوء تمايز الهُوية عند كل أمة، لأنها ستؤول إلى تكوين فكرة مضادة، وتبدأ رحلة الصراع والتراشق بين الفكرتين، إذ من المستحيل أن يجتمعا أو يتفقا أو يتواجدا بسلام في مساحة واحدة، وإلا سنخرق أحد المبادئ العقلية الضرورية، وهو مبدأ عدم اجتماع النقيضين، -بالطبع نقصد هنا الأفكار التي تُمثل طرفي النقيض- وينشأ عن هذا المعترك عندما يتكرر في عدة أفكار تحديًا حقيقيًا لكل من أراد خوض غِمار هذا العالم، وهو الحفاظ على الموضوعية في ذات الوقت الذي تتنازعه فيه كافة القوى الفكرية المتضادة لتجرفه في تيارها، والحفاظ على حياة مبادئه من السحق في المنتصف بين معارك الأفكار المتناحرة.

بحثًا عن التوازن

بالرغم من وجود هذا المعترك الفكري، إلا أنّ هناك حالة من التوازن يمكن أن تحصل ولو على مستوى الصراع، وتتحقق هذه الحالة بتساوي طرفي النقيض في القوى المحركة لها، والتي غالبًا تتمثل في الحركات الاجتماعية التي نشأت عنها أو تبنّتها، ولكن ينتج عن ضعف إحدى القوتين اختلال في ساحة الصراع والذي غالبًا سيؤدي إلى ابتلاع القوة الأكثر هيمنة القوةَ الناشئة أو التي أصابتها الشيخوخة أو الهزال.

يبدو ظاهريًّا أنّ هذه الحالة قد تم التخلص فيها من طرف الصراع، وأنّ الاستقرار الاجتماعي هو المرحلة المقبلة، إلا أنّ هذا لا يحدث، بل تتكون أفكار أخرى جديدة مناهضة لهذا التيار ولو بصورة بطيئة، فطالما أنّ الفكرة المهيمنة خارج سياج المظلة الكبرى لهُوية تلك الأمة؛ فإنه من الصعب جدًا أن تجد لها استقرارًا أو هيمنة كاملة إلا بطمس تلك الهُوية، وحينها يمكنها أن تنشأ هي هُوية جديدة تنبني عليها الصراعات.

تمامًا كإنسان يحمل حقيبة ثقيلة في كل يد لهما نفس الوزن، نعم هي ثقيلة ومرهقة له، ولكنه متزن في تلك الحالة، فلو وضع إحدى الحقيبتين مع الأخرى وجمعهما في حقيبة أكبر في يدٍ واحدة؛ لانجذب بثقلها نحو الأرض، ليضطر إلى السير مائلًا حتى تتركز قوة جسده إلى الجانب المُحمَّل، فالمشهد الكلي له هو حدوث خلل واضح في توازنه، ولن يستطيع تجاوزه إلا بإحضار حقيبة جديدة تقارب وزن الأوليين معًا، أو تركها مطلقًا والتخلص منها والبدء في البحث عن حمولة جديدة تناسبه هو، لذا من العبثِ التوجه لإصلاح أو تقويم أحد الاتجاهات دون نظيرتها، لأن هذا سيُحدث خلل في الهيكل الفكري الاجتماعي.

كيف ينشأ هذا الخلل؟

من الإشكالات التي يجب التنبه لها وهي موجودة على الساحة الآن، مجابهة بعض الأفكار والتيارات دون توجيه الجهود الكافية للاتجاه المضاد، فمثلًا إشكالية النسوية والذكورية، الانحلال والتشدد … إلخ، كل هذه القضايا لو اقتصر العمل فيها على اتجاه دون آخر؛ سيكون مآل ذلك انبثاق خلل جديد في المجتمع، لأنه سيحصل خلل في التوازن الفكري الاجتماعي، فعندما ينكمش تيار ويضمحل دون إشغال مساحة الفراغ التي تركها؛ سيتمدد الاتجاه المعاكس ليشغلها ويحتلها، فنتفاجأ -ربما بعد أعوام- من مناهضة التيار الأول، أنّ ثمة تيار آخر متوحش مستفحل في المجتمع يحتاج إلى رحلة جديدة تستغرق سنوات جديدة لأجل تقليصه.

ولو سرنا على ذات النسق الأول، أي بالعمل على تيار واحد؛ فكَّبِّر أربعًا على بزوغ المشاريع التنموية النهضوية الحقيقية التي تنتقل بنا من مرحلة الترميم والإصلاح إلى مرحلة البناء، لأننا سنظل في ذات الدوامة، لأن كل تلك الأفكار إما دخيلة على الهُوية الإسلامية أو منحرفة عن أصلها الصحيح، لذا فلا مكان لها تحت مظلة الهُوية الإسلامية.

ما الطريقة الصحيحة للتعامل مع صراع التيارات الفكرية بشكل متزن؟

والصحيح هو العمل بالتوازي بصورة متوازنة على كافة الأصعدة، وهذا عن طريق توجيه جهود متساوية لكل فكرةٍ مُشكلةٍ والفكرة المضادة لها، وهذه الجهود يجب أن تُبرِز المرجعية التي ننطلق منها وهي مرجعية الوحي، وأنه المعيار الذي تتحقق به الموضوعية عند موافقته لما أراد الله، لأن الوحي هو العامل المركزي في تشكيل هُويتنا، ويجب الحرص على عدم الغلو أو التمييع أثناء حل الإشكالات والإشكالات المضادة.

وثمرة هذا أمران:

١- تقليص فترة الترميم إلى النصف، لأنه يتم العمل على كل فكرة واتجاهها المضاد في ذات الوقت، فنكسب وقتًا يمكننا فيه الاتجاه نحو البناء.

٢- كسر الدائرة التي نؤول إليها في كل مرة نعمل فيها على جانب ونُغفِل الآخر، وبالتالي ضمان انكماش طرفي النقيض وتبلور الموضوعية على الساحة.

وهذا لا يستلزم أن يهتم كل فرد بالفكرة واتجاهها المضاد في آنٍ واحد، لا مشكلة في أن يتخصص كل فرد في نقض أحد التيارات، ولكن من الضروري أن يتحقق التكامل الإصلاحي بأن يكون مجموع سعي العاملين في الساحة يغطي كافة الأفكار باتجاهاتها المضادة، مما يعطي بريق أمل من إمكان الوصول إلى النقطة التي يمكن أن ننطلق منها نحو البناء، مع أهمية استمرار هذا العمل المتوازن المتوازي لأن توليد الأفكار لا يمكن أن ينتهي، إذ إنّ وجودها مرهونٌ بوجود البشرية.

أهمية التكوين الفكري لأبناء الأمة

بعد أن نظرنا إلى المساحة الكلية لطبيعة الأفكار وحركتها وكيف يمكن أن نتعامل معها لنتجاوز مرحلة الترميم والإصلاح إلى مرحلة البناء، يجب أن نبذل جهودًا لإنشاء جيل يصعب توّلد هذه الأفكار بهذا الشكل فيه، وهذا عن طريق التربية الصحيحة القويمة على كتاب الله وعلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترسيخ العبودية لله جل وعلا في نفوسهم، والمداومة على تزكيتهم.

ومن المهم بعد رسوخهم في الأصول أن يطلعوا على الأفكار والأديان الأخرى المنحرفة عن مراد الله تبارك وتعالى، وكيف يتخبط الناس في ظلمات الجاهلية بتركهم نور الإسلام ودين الفطرة، فهذه المعرفة تُبرز جمالية الإسلام أكثر، إذ إنّ الأشياء لا تُعرَف إلا بأضدادها، وكذا تمرين العضلة الفكرية عندهم بالمناقشة والحوار الذي يجعلهم معتزين بالإسلام، شاكرين اللهَ على هدايته لهم، واصطفائهم لحمل دينه، فيزدادوا نورًا على نور، ورسوخًا على رسوخ، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إنما ينحّلُّ الإسلام عروةً عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية”.

ما هي آلية الاطلاع على الملل والنِحل الأخرى؟

يمكن القول: إنه لا يوجد آلية موحَّدة لتحقيق هذا الغرض، إذ تتفاوت الآليات والطرائق تبعًا لقرائن كثيرة تشمل العمر والبيئة وطبيعة الأفراد وطبيعة العصر وغير ذلك من القرائن التي يمكنها تحديد الآلية المناسبة، وفي مراحل متقدمة يمكن الاتجاه نحو الدراسات المقارنة، لأنها أفضل ما يُبرز حقائق الأمور، فأشدُ البياض يُرى بجانب أحلك السواد، وهذا ما رآه الشيخ الداعية محمد الغزالي رحمه الله إذ قال “الدراسات المقارنة هي في نظري أجدى الوسائل للبحث عن الحقيقة، والظفر بها” [جدد حياتك].

ختامًا

إنّ السعي نحو الوصول إلى النقطة الفيصلية التي تسمح لنا بالتحرك نحو النهضة دون الانجذاب أرضًا تحت سطوة لُجج الأفكار أمرٌ مركزيٌ يجب أن نضعه نصب أعيننا، إذ إنّنا لو غفلنا عن هذه الحقيقة المتمثلة في أنّ الكثير من الإنتاج والكتابات والجهود الموجودة على الساحة الآن في حقيقتها متوجهة نحو فكرة واحدة دون إيجاد نِتاج للفكرة المضادة، وبالتالي تُستهَلك الكثير من الجهود الضخمة في مجابهة دائرة واحدة وبعضها تغرق في إحدى اللجج الفكرية، دون أن نعي أننا نُستهَلك ونستهلِك الزمان والطاقات والعقول في معارك كان يمكننا أن نتجاوزها لو تعاملنا معها بطريقة صحيحة متوازنة، سيفوتنا الكثير من الفرص، ولكن علينا التنبه والتحرك حتى نعطي فرصة لسفينتنا أن تتحرر من دوامة معترك الأفكار اللُجيِّة؛ فتُبحِر.

نسأل الله أن يُبلِّغ هذه الأمة رشدها.

هل العشرينات محطة التنازلات؟

إن مرحلة العشرينات أو ما يُطلق عليها بأزمة ربع العمر -والتي يمكن حصرها بالفئة العمرية ما بين سن [20-35]، وقد يحصرها بعض الباحثين في غير هذا-، اخترناها محورَ حديثنا في هذا المقال لأهمية هذه المرحلة العمرية من حياة الإنسان، فهذه المرحلة العمرية يرجو الوصولَ إليها الصغير، ويتمنى العودةَ إليها الكبير. فهي -كما يُطلق عليها أو تُحسب كذلك- المرحلة الفاصلة الحاسمة في مراحل الشخص الحيوية، وعلى رحى هذه المرحلة سنطلق العِنان لقلمِنا فيجري بنا فيما ينبثق عنها من جميلٍ وقبيحٍ، وخطأٍ وصحيحٍ، في شتى أشياء.

وكما يشير عنوان مقالنا (هل العشرينات محطة التنازلات؟)، فإننا ارتأينا التوقف قليلًا عند هذه المحطة وهذه التنازلات أوّلًا، ثم نتدرّج في الحديث عمّا رسمناه.

أحلام الصبا

إن الطفل منذ صغره؛ تجده يرجو بلوغ مرحلة العشرينات، ويمنّي النفس بذلك، لعله إذا بلغها، سنح له عامل السن والشباب تحقيق جل أحلامه، وإنجاز صفوِ طموحاته، فحتى إذا حققها، عاش في رغدٍ وتفاخرَ بين أقرانه، فغبطه الناس، وحسده حسَّاده. حتى لتجد الطفل أو المراهق وبأمله الدّافق، ما ترك من حُلمٍ شاهِق ومطمحٍ سامِق إلا واصطفاه، وجعله هدفًا له يسعى لتحقيقه والوصول إليه.

فإذا بلغ هذه المرحلة وتوغل فيها، اصطدم بما لم يكن في الحسبان، فالواقع ليس كالتوقع، والبيئة لا تسمح، وتهكم الناس يؤذي النفس ويتعبها، والعتاب من الأهل والزوج داخل البيت يعرقل الآمال. إن الشاب بعد بلوغه هذه المرحلة، يصبح كثير التأوه، يتمنى العودة إلى أيام الطفولة والبراءة، حيث لم يكن كاهلاه مثقلان بمسؤولية أو محمّلان بالأمانات العظيمة، فجل ما كان عليه حاله القرب وملازمة أمّه ويديها الدافئتين.

حين يبلغ الشاب هذه المرحلة، تراه يتنازل عن أحلامٍ كثيرة وطموحاتٍ غزيرة، ولربما ودّعها بالأمل الخافت، فما عاد يطلب بعد ذاك غير راحة البال والسكينة، والاستقلال بعملٍ يدر عليه مالًا فيضمن له العيش الكريم، وبيت يسكن فيه، وحَلِيلَة يسكن إليها وتسكن إليه.

اغتنم ساعات الشباب

الجميل في مرحلة العشرينيات أن الشاب فيها يعيش زهرة عمره، وريعان شبابه، ورشاقة بدنه، والوقت وقته لاقتناص الفرص وتجديد الأمل وسُبُل العمل، فإن توقدت الهمّة وعلَت، فما فات ما فات، والخير كلّه آت.

أما إن كان لهذه المرحلة قبيح عراها، وامتطى زمامها فآذاها، فهو كثير، نذكر منه: أن الشاب قد يعيش ضغوطاتٍ كثيرة من مواقع شتى؛ فتؤثّر عليه وعلى نفسيته وصحته، ففي زمننا هذا نجد الشاب وعلى غير المتوقع لا يتحرج في القول بأن يقول إنه يعيش حالة اكتئاب وأزمة نفسية، فالمسألة صارت اعتيادية ومألوفة، بينما كانت في السابق عارًا ومحط سخرية.

احذر ضغط وسائل التواصل

إن الجديد بين الشباب الآن أنه منذ انتشار مواقع التواصل الاجتماعي أصبح الكثير من الشباب يعيشون أزمات نفسية وتقلّبات سريعة في المزاج والمشاعر، فتلفي الشاب لا يصفو باله إلا نادرا. فكيف لنفسية الشاب أن ترتاح وتهدأ عندما تتصفح موقعا إلكترونيا معينا فتشاهد مقطعا مضحكا ساخرا فيضحك الشاب، فيمرر إلى مقطع حزين كئيب فيحزن، فيمرر إلى مقطع محفز مرشد فيتحمس، ثم يمرر إلى مقطع يفيض بالانتقاص والتشاؤم فيتشاءم، فكيف -والحال هكذا-للمشاعر أن تهدأ إذًا؟.

إن معظم الشباب يعيش جميع الفصول في وقت واحد، فكيف له أن يرسو على ميناء واحد والعواصف ترميه بين مختلف الشطآن، وكيف له أن يقف عند حال واحدة وجل وقته يتنقل بين مختلف الأحوال، فكيف سيعطي لكلٍّ حقّه وتقديره؟.

 إن ضغوطات مواقع التواصل الاجتماعي كثيرة وآثارها على الشباب جسيمة، فالشاب يسير بقدم تلي قدمًا نحو ما يرجوه ويأمله من القمم، فإذا به يشاهد مَن هو أصغر منه عمرا وربما قدرًا، قد بلغ سقف طموحاته، وهو هو على حاله، ما زال يسير في الدرب متعثرًا، كيف لنفسية هذا الشاب أن تحافظ على حماسها وتسير، وتصبر وتتعقّل، والشاب حينها يرى في عمره ذاك أنه الحاسم؟!.

يحيط الخوف من المستقبل بالشباب من كل جانب، وحتى المحيط الأسري تجده يمارس ضغطه كذلك. والزمان ليس كالزمان، والشاب كاهلاه مثقلتان بالأماني والمطالب التي يجب عليه تحقيقها، إن هذه الضغوطات على كثرتها تصيب الشاب بالعجز أحيانا والكسل، فترى كثيرا من الشباب قليلي الهمة وينأون بأنفسهم عن كلِّ مسؤولية تُحَمَّل إليهم.

احذر عواقب الخطأ

إذا ما عرَّجنا ناحية الأخطاء المفتعلة في هذه الفترة العمرية، فإننا نجدها بالجملة، ومنها: أننا نأتي الشاب ننظر إليه فنجده يسعى إلى المثالية في كل شيء، وهذا طامة كبرى، ومطمح جاف.

ولعلك تسأل -وأنت محق- لماذا؟ لأن الشاب بغفلته يسعى إلى أن يحصل على منزل مثالي وعمل مثالي والحبيب المثالي، وهذا ما لا يكون، ولن يكون. لأن النفس بطبيعتها لا تهدأ على حال، فكلما حصلت على شيء رأت ما هو أحسن منه فغبطت صاحبه وتمنَّته وحرضت صاحبها عليه. وبهذا تعوجّ النفوس ولا تستقيم، وتمرض القلوب وتختل الموازين، بعد أنْ جهِلَت أي منهجٍ في الحياة تُقيم، فتتشرد في الوجود وتنسى الحدود.

أما ما نراه صحيحا في هذه المرحلة وصوابا، هو ذاك الذي يغلِّق على هواه الأبواب، ويستعصم بمنهجٍ وثيق، ولا يتزحزح عنه ويسلك غيره طريق. فالصحيح فعل مَن تجنّب طلب المثالية، ورضي بما حباه الله وقدّره له، وسار في طلب العلا غير متكاسل.

 وإننا وإن تأخر بنا القول، فخير ما يسلك الشاب أن يرى ما يفعل، لا ما قيل ويقال. فالشاب الذي يرنو بذكاء إلى حلمه، ويرضى بعمله وقوت يومه، ويطمئن في منزله، ويحب أهله وزوجه مع ما له من جميل وقبيح فيكون هو الحاضن والمقَوِّم لتلك المثالب، فهو على طريق الخير والسالك المتبع لأمر خير الأنبياء.

ختام القول

هنا نتوقف ونختم بالقول: إن مرحلة العشرينات وإن كانت محطة تنازلات كبيرة -كما يشير عنوان مقالنا-، إلا إنها زهرة العمر ومنبت الأمل. والفطِنُ الحاذق من طَوَّعَها لأجل ما يطمح من آمال ورامه من أحلام وأهداف. واللّه تعالى أعلم.

كيف تدفع الفردانية لتذويب المجتمع في الفرد؟ .. تعرّف معنا إلى ظاهرة الذوبانية

الذوبانية مصطلحٌ قديمٌ متجدد، إلا أنه يتجدد بشكل متشعب في ميادين مختلفة ومتنوعة، فمن العلم التجريبي حيث الكيمياء والفيزياء، إلى المساحة النفسية بين الأم وطفلها، إلى تمثلّاته التي تظهر في الساحة الاجتماعية لكن دون أن يكشف وجهه تمامًا ويفصح عن نفسه ومسماه بشكلٍ واضح.

ظاهرة الذوبانية.. تاريخ الظهور

في محاولةٍ لتتبع الخط الفكري الذي أفضى إلى بروز تلك الظاهرة، سنلاحظ أنّ بحث أصول الفردانية أمرٌ مهم، إذ إنّ عددًا كبيرًا من المتأثرين بإشكالية الذوبانية يصنفون على أنهم فردانيون، لذا فإن بحث نشوء وتطور الفردانية ومعرفة الإرهاصات المجتمعية التي وُجدت إبان بثها في مجتمعاتنا؛ سيعيننا على إدراك السبب الذي جعل تلك الفردانية -في أغلب حالتها في مجتمعاتنا- فردانية ظاهرية، وتكمن في طياتها الذوبانية.

إنّ التأسيس لفكرة الفردانية كان رد فعل مضاد خرج من مجتمعات ترزح في النظريات الكُليانية، فـ (ريمون بودون) مؤسس الفردانية المنهجية مَقَتَ الماركسية المؤسسَة على منطق الصراع بين الطبقات الاجتماعية؛ مما دفعه إلى التوجه نحو تأصيل رؤيته المناقضة لهذا التيار، حيث أقام منهجه في دراسة الواقع الاجتماعي بناءً على الفرد وليس على الطبقة، مما سمح بإزاحة النظريات الكليانية الهاضمة للفرد من التفسير الاجتماعي.

بدأت الفردانية تتبلور وتتضح معالمها، وبات من الممكن تعريفها بأنها “توجه نظري وفلسفي يقوم على إعطاء الأسبقية للفرد على المجتمع من خلال استناد قرارات الفرد على منفعته ومتعته الشخصية باعتباره مركز كل شيء، وحوله يدور كل شيء، فمصالحه الشخصية تتحقق فوق اعتبارات الدولة وتأثيرات المجتمع والدين” [الفردانية المنهجية وتقويض أسس التصورات الشمولية – د.الفرفار العياشي]

وقد تمكَّن بودون من تقديم مقولة الفرد كأداة مهمة في فهم وتفسير الظواهر الاجتماعية مُزيحًا التصورات الشمولية، واستطاع أن يُبرز البُعد الفردي عند رواد الاتجاهات الكليانية مثل كارل ماركس وإميل دوركايم، فبالرغم من تجاهلهم للفرد واعتباره نقطة عبور للأفكار الجماعية وتقديم النظام والطبقة والمجتمع عليه، إلا أنهم وجدوا أنّ التغيرات الاجتماعية لا تقع في مساحة فراغ عدميّة، بل تقع في محيط يحوي أفراد يكون لهم تأثير في تبلور الصورة النهائية للمجتمع، فالوعي الجمعي لا يلغي الوعي الفردي، لكنه يؤثر فيه.

وإذا بحثنا أكثر عن أصول الفردانية، سنجد أنّ هناك شبه “إجماع على أنّ أصول الفردانية تعود أساسًا إلى أعمال كلٍ من ماكس فيبر و فلفريدو باريتو، وهو ما يؤكده بودون في كتاباته” [الفردانية المنهجية – الفرفار العياشي]، وقد دعا إلى الفردانية رواد الليبرالية مثل هوبز، جون لوك و جون ستيوارت ملْ وغيرهم، حيث أنّ الفردانية هي الركيزة الأساسية في الفكر الليبرالي.

ارتبط الاتجاه الفرداني بمبادئ النظام الرأسمالي خصوصًا في ألمانيا وإنجلترا التي تعاملت معها من منطلق اقتصادي، ويعتبر الفيلسوف آدم سميث من المنظرين الأساسيين لهذا التوجه الفرداني، لذا اهتم مؤسسو النظريات الكليانية مثل “ماركس وإنغلز بنقد أفكار الرأسمالية التي ظهرت على يد آدم سميث وديفيد ريكاردو، وحاولا إسقاط هذا النموذج على أساس المنطق الجدلي ليقدما بدلا منه الاقتصاد السياسي الماركسي” [مقال الماركسية والشيوعية– موسوعة السبيل]، حيث إنهم اعتبروا أن منطلقات سميث الفردانية مناقضة لشمولية نظرياتهم.

وقد انتظمت هذه الأفكار في المجتمع الغربي ليصبح مجتمعًا فردانيًا يدعو إليها، وتحاول ترسانته الإعلامية بث وترسيخ هذا المصطلح بما يحمله من قيم في المجتمعات الإسلامية، حيث يقول د.محمد المجذوب “إنّ هناك اتجاها استعماريا لإكساب الإنسان المسلم في العالم العربي للقيم الفردانية الغربية، ومن ثم تغييبه من أي بعد جماعي، وهذا الاتجاه ليس عشوائياً وإنما هو تابع لثقافة الهيمنة الغربية ورغبتها في تمديد نفوذها عبر أنحاء العالم”، وبالفعل بدأت تظهر الفردانية في المجتمعات الإسلامية، ولكن لاحظنا أنّ هذه الفردانية في شرائح واسعة هي فردانية ظاهرية، لأن شريحة الأفراد المتأثرين متمركزين في مجتمعات مبنية على أسس رأسمالية، والتي تعتمد بشكل رئيس على الشكل النووي للأسر، مما يعطي انطباعًا أنّ أفراد هذا المجتمع فردانيون، لكننا إذا تمعّنّا قليلًا سنرى ظاهرة أخرى أشد فتكًا منها، يمكن أن نسميها الذوبانية.

ريمون بودون (على اليمين)، آدم سميث (على اليسار)

تطور الفردانية إلى الذوبانية

 سنجد في خضم توصيف بودون للفردانية ذكره لفكرة “التذويب”، حيث “إنّ المنهجية الفردانية حسب ريمون بودون، تستوجب أن يُنظر إلى الفرد في ظل نسق من التفاعلات، وأنه بمثابة ذرات يتطلب دراستها وفهمها قاعدة منهجية لتحليل سلوكياتها وتصرفاتها بالقطع مع المسلمات الكلاسيكية المغالية في تفسير أنساق التفاعل والتغير الاجتماعي والتي تعمل على تذويب الفرد فيها”[الفردانية المنهجية – الفرفار العياشي].

ويتضح بجلاء من سياق ورود لفظ التذويب عند بودون -في معرض حديثه عن تأثير النظريات الكليانية- أنّ مدلولها هو اعتبار الفرد عنصر ذائب في المجتمع الكلي، يتشكل بحسبه ويعيش تحت سطوته.

لكن الذوبانية المجتمعية الآنية -والتي نقصدها في هذا المقال- تحمل مدلولًا مختلفا، إذ إنها تصف ذوبان الفرد في مجتمع أو كيان جزئي (جماعي أو فردي) بغض النظر عن الشمولية الاجتماعية، وإنما هذا الذوبان يكون بمحض إرادته بدايةً تحت ضغط دوافع عدة.

عندما بحثتُ عن الفكرة الكامنة في الفردانية الظاهرية، لم أجد أنسب من هذا المصطلح -الذوبانية- في وصفها، إذ إنّ التعريف الأعم والأشمل للفردانية هو التمحور حول الذات، بينما نلاحظ سلوك آخر مُتمثِّل في أشكالٍ عدة مآلها ذوبان الذات، وتمحورها حول الغير، فإما أن تجد بعض الأفراد فاقدين ذواتهم تمامًا ذائبين في مجموعهم بشكل سلبي متباين عن الاجتماعية أو الانتماء، أو فاقدين ذواتهم محاولين تشكيلها بمقياس بعض الكيانات أو الأفراد الذين انبهروا بهم، وهذا واضحٌ في حدثاء السن وتأثرهم بمن يسمون أنفسهم “مؤثرين”، فتذوب ذواتهم ويتمحوروا حول الذات الأخرى، وهذا الأمر شديد السلبية ومآلاته لا تقل خطورة عن مآلات الفردانية، ويستحق أن يُعتنى به للحد من هذه الظاهرة الخطيرة.

التقاطع بين الفردانية والذوبانية

وبالرغم من أن الذوبانية تعتبر سلوك متباين عن الفردانية، إلا أنها من جهة أخرى يمكن أن تكون مؤدية لها، إذ إنّ الفردانية يمكن أن تنشأ عن ذوبانية الفرد حول شخص فرداني فينتقل هذا السلوك إليه، فهو تعرض إلى عمليتين:

١- أنه وقع في الذوبانية وفقد ذاته، وتأثرت أو التفّت حول ذاتٍ أخرى متبنية الفردانية.

٢- أنه تبنى هذه الذاتية الجديدة وصُبِغ بها حتى أصبح فرداني، ولكن جوهر فردانيته غير أصيل.

فهذان المصطلحان -الفردانية والذوبانية- متباينان من جهة، ويؤدي أحدهما إلى الآخر من جهة أخرى، وكلاهما جدير بتدمير المجتمع السوي، وإغراقه في تمزق أو تشوه اجتماعي.

كيف تفشّت الذوبانية في المجتمع؟

أفضى حكم النظام الرأسمالي وتفشيه في المجتمعات إلى حدوث تغيُّرات جذرية في شكلها، ومن أهم هذه التغييرات هو تكوّن ما عُرِفَ بالأسر النووية، وهي التي تتكون من الوالدين وأبنائهما فقط، وضمر وجود الأسر الممتدة خصوصا في المدن الصناعية والحواضر، فـ (بارسونز) مثلا يرى أنّ شكل الأسرة النوويّة هو الأكثر تناسبًا مع المجتمع الرأسمالي الحديث.

فالأسر باتت في صورة وحدات منعزلة عن بعضها، ويظهر السلوك الخارجي لأفراد الكثير منها على أنه فرداني متمحورٌ حول ذاته ومنعزلٌ عن الكيان الكلي للأسرة -التي بدورها منعزلة جزئيا- ولكن إذا تأملنا قليلا سنجد أنّ عددًا لا بأس به من الأفراد ليسوا فردانيين، وإنما ذائبون، سواء في كيانات أخرى مثل الأوتاكو -أي مدمني الأنمي-، أو الفرق الغنائية الكورية وغيرهما، أو حول أفراد مثل المؤثرين كما أسلفنا.

ويتضح هذا أكثر عندما نحاول تحرير سمات الشخصية الفردانية الأصيلة، حيث إننا سنجد أنّ صفات الاعتداد بالذات والاعتماد عليها والاكتفاء بها صفات أساسية، مما يعني أنه يمكن أن يعيش بعيدًا عن كيانات (حقيقة أو افتراضية) أو يعيش بينهم دون أن ينفعل كليًا معهم، ودون أن يشعر بإشكال كبير، لأن الشعور الغريزي بالانتماء عنده قد أشبعه بالانتماء لذاته.

من ناحية ثانية نلاحظ صفات أخرى في شرائح واسعة من المحسوبين على الفردانية وتتضمن: عدم تحمل البقاء بعيدًا عن تلك الكيانات (الافتراضية – حقيقية)، عدم القدرة على أخذ قرارات مصيرية، الهشاشة النفسية، عدم وضوح -وأحيانًا اضطراب- الهوية الذاتية، وهذا يعني أحد أمرين:

١- أنهم ذائبون تمامًا ولم يبق من ذواتهم ما يمكنّهم من الانفعال الواقعي؛ مما يعني أنهم ليسوا فردانيين.

٢- أنهم فردانيون فردانية غير أصيلة -الموضَحة آنفًا- فيحتاجون إلى بقاء حبل الانتماء مع من اصطُبِغوا بفردانيته، لأنها هوية ليست أصيلة عندهم، فلا يمكن أن تحافظ على ذاتيتها دون تعزيز خارجي.

ارتداء الأوتاكو لأزياء شخصيات الأنمي

ما أسباب تكوُّن الذوبانيين؟

الحقُ أنّ أسباب جنوح تلك الظاهرة الخطيرة في هذا الجيل تحديدًا كثيرة جدا ومتعددة، فجزء كبير منها يعود إلى طريقة التربية الخاطئة التي لا تعزز الثقة في نفوس النشأ، ولا تربيهم على العزة التي يجب أن يتحلى بها المسلم، ولا تعطيهم أدوات ووسائل الوصول إلى فهم الذات وتكوين الهوية الذاتية، ولا تعلمهم تحمل المسئولية وأخذ القرارات.

وكذا طريقة التعليم في المدارس الإلزامية التي تلغي شخصياتهم وتقولبهم، فيضطر أغلب الأفراد إلى الذوبان في محيطهم خصوصًا مع عدم وجود خلفية تربوية تُحصِّنهم من هذا التذويب؛ فطبيعة هذا الجيل المعروفة بـ “رقائق الثلج”، أراها نتيجة طبيعية لطريقة التربية والتعليم، وسبب أساسي لجنوح ظاهرة الذوبانية.

أنواع الذوبانية

يمكن تقسيم الذوبانية إلى: ذوبانية كليّة، وذوبانية جزئية.

أما الأولى وهي الذوبانية الكلية، وتتمثل صورتها فيما ذكر آنفًا، وهو فقدان الإنسان ذاتيته كليًّا، أما الثانية، وهي الذوبانية الجزئية فهي تأثر جانب من جوانب الإنسان بهذا الإشكال مع الحفاظ على بعض التماسكية في جوانبه الأخرى.

يمكننا القول بأن الذوبانية الجزئية موجودة على مر العصور، فكما قال ابن خلدون في مقدمته “المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”، فإنه بطريقة أو أخرى يشير إلى شكل من صور الذوبانية الجزئية، فشعور الهزيمة أمام الغالب يمكن أن يكون نفسيًا أو فكريًا أو ماديًا أو اجتماعيًا، وكل جانب من الجوانب الأربع يمكن أن يقع فيه انبهار وولع بالغالب -أيًا كان، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات- فيؤدي إلى الذوبان فيه وتقليد أعرافه خصوصًا لو كان الانبهار ماديا أو اجتماعيًا، ومعتقداته لو كان الانبهار فكريا أو نفسيا.

وساعد في تعزيز الذوبانية الجزئية في الجانب الفكري رواج فكرة النسبية وعدم الاكتراث، مما أدى إلى انصهار حاجزَي الفكر والهوية اللَذين يمنعان وقوع هذا النوع من التأثر.

ويمكن أن تتحول الذوبانية الجزئية إلى كلية في حال وقوع الفرد في الانبهار الكلي، وهذا يحدث عندما تذوب بقية تكويناته الذاتية المتماسكة ليفقد ذاته تمامًا.

ما المآلات الاجتماعية للذوبانية؟

إنّ مآل الذوبانية هو مجتمع عاجز تمامًا عن القيام بأي شيء أو صدور أي رد فعل عنه، لأن ردود الأفعال لا تتأتى إلا بوجود ذات تنفعل ليصدر عنها رد فعل -على الأقل-، فالذائب فاقدٌ لذاته، لذا فهو مطموس الهوية والذاتية معًا، بل إنّ الفرداني يمكن أن يصدر عنه رد فعل وإن كان قاصرًا لعدم انخراطه مع المجموع الكلي أو عدم توجيهه للمصلحة الكلية، ولكنه على الأقل لا زال محتفظًا بجزءٍ أساس من مقومات إنسانيته وهو الذات.

ختامًا

إننا نعيش في عصر متسارع في كل شيء، فالقفزات والتغيُّرات الاجتماعية باتت سريعة ومتقلبة، فملاحظة المجتمع وسلوك الأفراد ومحاولة رصد الظواهر الاجتماعية والفكرية الجديدة أو نظمها في اصطلاح يوضح مساحتها وحدودها أمرٌ مهمٌ في طريق الإصلاح لا بد أن نحرص عليه، ويجب شحذ الهمم لمعالجة هذه الإشكالات، وتوجيه الجهد الأكبر إلى أسس ومنابع الإشكال -وتتمثل هنا في التربية والتعليم – حتى يتم حله بشكلٍ صحيح ومتوازن.

أسأل الله أن يبلغ هذه الأمة رشدها.

فلسطين.. حتى لا تكون أندلسًا أخرى

في سنة 897 هجرية/ 1492 ميلادية استيقظ العالم على خبر سقوط آخر معاقل من معاقل حكم المسلمين للجزيرة الإيبيرية التي دام حكمهم لها قرابة 800 سنة كانت فترة الحكم هذه يسودها العدل عدل الإسلام الذي تمثل في حكم المسلمين لكل الطوائف والمعتقدات الدينية على حد سواء، فترة ساد فيها العلم وأصبحت إيبيرية أو الأندلس منارة العلم التي حج إليها العربي والأعجمي المسلم والأوروبي النصراني في وقتٍ كانت أروبا تعيش في ظلام الجهل، تعيش تحت حكم الكنيسة الظالمة التي نهبت شعبها في ما كان يسمى بصكوك الغفران، فترة عاش فيها اليهود أزهى أيامهم تحت راية تحترم الإنسان والإنسانية تعطي لكل ذي حق حقه بغض النظر عن عرقه ومعتقده، فيما عاش إخوانهم في نفس الفترة أحلك أيامهم تحت راية النصارى اللذين تفننوا في تعذيبهم أشد العذاب.

هذه هي الأندلس والنكبة التي يبكي على أطلالها المسلمون كلما لمحتها أعينهم أو سمعتها أذانهم، فيا ترى هل الأندلس هي النكبة الأولى والأخيرة التي تجرع المسلمون مرارتها أم في قلوبهم وأفئدتهم غصة غيرها أشد منها قوةً وأثراً.

تعدُّ كارثة سقوط الأندلس أمام النكبة الفلسطينية التي سقط معها حكم المسلمين للأراضي المقدسة لصالح الصهاينة سقطة هينة، نعم هينة لأنها قضية ليست كأي قضية، وحتى لا تكون فلسطين أندلساً أخرى، سوف نحاول استخلاص الأسباب التي أدت إلى سقوط الأندلس من خلال الإجابة عن الإشكاليات التالية: لماذا سقطت الأندلس؟ ما القاسم المشترك بين القضيتين؟ كيف ننصر القضية الفلسطينية؟

لماذا سقطت الأندلس؟

بدأت قصة سقوط الفردوس الأندلسي في عز سيطرة المسلمين على الأراضي الإيبيرية، وذلك بسبب أكبر خطأ عسكري ارتكبه القائد المغوار طارق بن زياد ومن جاء بعده مثل يوسف بن تاشفين، تمثل في عدم السيطرة على المناطق الشمالية في البلاد، مما جعل النصارى يتحصنون فيها ثم يتمددون منها إلى أن سيطروا على بلاد المسلمين مرة أخرى، وهذا الخطأ دفع المسلمون ثمنه غاليا، بأن خرجوا منها كما دخلوا لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ويا ليت هذا كان، فحتى الدخول لم يكن كالخروج، هذا بسبب خبث العدو المتروك الذي تفنن في تعذيبه للمسلمين قبيل حكمه لهم، وبهذا كان تعامله مع المسلمين نقيض تعامل المسلمين مع أهل الجزيرة حين فتحهم لها.

من جملة الأسباب التي أدت لسقوط الأندلس وخروج المسلمين منها تخاذُلُ المسلمين وبعدهم عن نبع الحق ومشكاة الوحي وسكونهم للأرض وملذاتها وشهواتها من الأسباب القوية التي يغفل عنها كل من يبحث في السبب وراء سقوط الجزيرة الإيبيرية، فلو يبحث الباحث عن أسباب سقوط الدول المسلمة سوف يجد قاسمًا مشتركًا بينهم ألا وهو البعد عن الدين، فقد وضع الله سبحانه وتعالى لخلقه قوانين وسن لهم تشريعات منذ بعثة الرسول الكريم لهذه الحياة، سننًا وقوانين من التزم بها حاز النصر والتمكين، ومن حاد عنها رفع الله يده عنه وسلط عليه عدوه حتى يستأصل جدورهم وآخر معاقلهم.

عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ) [أخرجه أبو داود في السنن وأحمد في المسند وغيرهما]

من الأسباب ابتلاء الأمة بحب الدنيا والخلود إليها، كما قال جل وعلا: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]

ومن تلك الأسباب إسناد الحكم إلى غير أهله، روى البخاري في صحيحه أنه ﷺ قال: (إذا ضُيِّعَتِ الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة).

ولهذا قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: “فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما أو ولاء أو عتاقة أو صداقة أو موافقة في بلد أو مذهب، أو طريقة، أو جنس، كالعربية والفارسية، والتركية، والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينها، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهى عنه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[الأنفال 27-28]” [السياسة الشرعية]

ومنها التنازع في الأمر: كان هذا في عهد ملوك الطوائف الذين خربوا البلاد بجشعهم وتنازعهم على السلطة والحكم حتى تقسمت البلاد الإسلامية إلى دويلات مضحكة، تفرق شمل المسلمين في عهدهم وتسلط عليهم عدوهم حتى كان الحاكم منهم يدفع للحاكم الصليبي الذهب لينصره على عدوه المسلم.

كثرة المعاصي والذنوب، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ.

القاسم المشترك بين القضيتين؟

في عام 92 هـ وبعد ثلاث أعوام فتح المسلمون الجزيرة الايبيرية شرقا وغربا شمالا وجنوبا، على يد القائد الأمازيغي المسلم طارق بن زياد، والقائد العربي المسلم يوسف بن تاشفين، كان هذا الفتح بداية قصة جميلة سوف تكتب فيما بعد بماء من ذهب، قصة يكتب عليها العربي والغربي قصة حزن وفرح قصة أسميتها الأندلس من المهد إلى اللحد، ولم تكن لتكتب هذه القصة لولا بقعة جغرافية صغيرة لا تكاد ترى بالعين المجردة في الخرائط البقعة التي تركها طارق ومن جاء بعده في يد أعدائهم، فقد ذكرت المصادر التاريخية أن هذه الفرقة التي تمت تسميتها باسم قائدها بلاي پلاجيوس والذي سميت البقعة الجغرافية التي تحصن فيها هو وجنوده باسمه فيما بعد. تذكر المصادر أن عدد الفرقة العسكرية التي تحصنت بذلك المكان كان عددهم حوالي 30 شخصا، منهم عشرة فرسان والباقي نساء وأطفال.

لم يتركهم طارق بن زياد في بادئ الأمر من غير أن يلحق بهم، فقد أرسل إليهم قائد من جنوده في سرية ليستأصل شأفتهم، فما كان من هذه الفرقة التي تعد بأصابع اليد سوى الاختباء والتحصن في مغارة تسمى “كوفادونجا“ حاصرهم المسلمون لشهور لكن شدة البرد القارسة في تلك الأراضي الباردة جعلتهم يفكون حصارهم عن هذه العصبة، وفي كل سقوط للمسلمين سبب ولعل السبب الأول في سقوطهم هذه المرة قولة شهيرة قلها قائد المسلمين حينما أراد فك الحصار: (ثلاثون عِلْجًا ما عسى أن يجيء منهم).

غادر وجنده مستهزئًا بهم ومن قلتهم، فرحًا بعودته إلى أهله وهو لا يدري عظم الخطأ العسكري الذي فعله، وكأن الله أغشى بصره عن الآية الكريمة التي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وجُنُودِهِ قَالَ الَذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ البقرة:249].

كانت هذه العصبة الصغيرة التي تركها المسلمون وخلف هذا الخطأ العسكري الذي ارتكبه قائد الجند سببا في سقوط الجسد بعد أن كان صحيحا سالما من كل داء.

البقعة الجغرافية الصغيرة والعصبة الصغيرة التي ضحك واستهزأ من صغرها القائد المسلم كانت بداية النهاية من تم بدأ سقوط الفردوس الأندلس، في تلك اللحظة بدأت نهاية حكم المسلمين للأندلس من تلك اللحظة بدأ المؤرخون الكتابة حول قصة الأندلس من المهد إلى اللحد.

لم ننقل هذه الأحداث التاريخية هكذا عبثا ولم نقل إنها قاسم مشترك مع القضية الفلسطينية انطلاقا من خيال أو حلم يراودنا إنما لتشابه القصص وتقاطع أحداثها.

ففي الأراضي الفلسطينية المقدسة بدأت نهاية القصة الصهيونية التي خطت خطوطا من الظلم والقهر والقتل بدم الشهداء والأبرياء اللذين تم تهجيرهم وطردهم من وطنهم لتحل محلهم دولة أخرى باسم آخر بوصفها الوطن الأبدي للصهاينة المظلومين.

في 1948 بدأت النكبة الفلسطينية ومعها تم احتلال معظم الأراضي الفلسطينية، هناك ظهر نجم سوف يظل إلى اليوم النور الذي يؤكد الوجود الفلسطيني في تلك الأراضي، هي غزة النجم الذي استعصى على الصهاينة النجم الذي يضيء في زمن يسوده الظلام نجم ترك إسحاق رابين رئيس وزراء الكيان الجديد يتمنى الأماني في يقظته ونومه، كان يقول (أتمنى أن اصحو ذات صباح واجد غزة وقد ابتلعها البحر)، هذه المدينة الصغيرة التي تعيش حصار من الأرض والجو والبحر هي القشة التي منعت الصهاينة الراحة أو الهدوء هذه هي البقعة التي استعصت على الصهاينة، فهل تكون قصتها كالبقعة التي مهدت الطريق للقوط للاستلاء على الجزيرة الايبيرية.

إسحاق رابين (ويكيبيديا)

كيف ننصر القضية الفلسطينية؟

أولا: فهم القضية الفلسطينية وفهم أبعادها وقيمتها المركزية طريق نحو نصرة هذه القضية، فلا يمكن أن ننصر قضية أو شخص أو دولة أو قيمة إن لم ندرس أبعادها وجوانبها وجذورها، فالذي يتبع القضية بالعاطفة سوف يغير رأيه كلما تأثر بقول سواء أصاب الصواب أو جانب الصواب.

ثانيا: نصر القضية يبدأ من اتباع الإسلام قولا وفعلا فلو كان النصر يهمك انصر الله ينصرك، تقويم النفس واتباع أمر الله واجتناب نواهيه طريق نحو النصر، قال تعالى: {وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيْكَ وَٱصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ ۚ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ} [يونس: 109]

ثالثا: تعزيز الهوية لا نصر للمسلمين من غير العودة للفهم الصحيح للعقيدة الإسلامية والعمل بها، ولا نصر إن لم ينشغل المسلم باللغة العربية التي كلما حاد عنها حاد عن الطريق، لا نصر إن لم يقرأ التاريخ ويفهمه ويعتبر به في سيره لنصرة قضيته، لا نصر إن لم يعد القرآن الكريم القاعدة المركزية للحياة العملية للمسلمين.

رابعا: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) [رواه مسلم]، فالذي يقدر على الكتابة يكتب فهذا نصر، والذي وهبه الله حسن الكلام والمناظر يناظر وينافح عن القضية فهذا من النصر، فمن لم يستطع لا يروم إلى الباطل ويعقد قلبه ويجمعه على الحق.

في الختام

عندما نقارن بين حال فلسطين والأندلس سابقًا، نرى العديد من أوجه الشبه بين أحوالهما، ومن هنا فإنه لا بد من العمل للحفاظ على فلسطين مسلمةً محرّرة، ونذكر هنا نظرية قال بها ابن خلدون وسماها “الاستماتة والاستبصار”، يقول ابن خلدون فيما معناه أن النهوض الحضاري الذي يسعى إليه المسلمون، يقتضي استماتة منهم في تنفيذ فكرة أو قضية معينة، وألا يعوقهم دونها عائق وأن يكونوا مستعدين للموت في سبيل تحقيقها، واستبصارا أي يكون لديهم وعي بهذا المشروع الذي يريدون أن يموتوا في سبيله والوعي به يتجلى في بعد نظرهم ورؤيتهم واستعدادهم لما يصادفهم في مستقبلهم.

كيف يتحقق النهوض.. سبيلنا نحو رشدية حضارية

تنصرف الأذهان مباشرةً إلى البحث عن وجهةٍ بمجرد سماعها كلمة “نَحْوَ”، وتُدرِك تِباعًا أنها خارج سياج هذه الوجهة، وأنها تحتاج التحرُّك خلال طريقٍ معلوم حتى تبلغ بُغيتها. وطالما أنّ الوجهة التي نرنو إليها هي الرشدية الحضارية، فيجب علينا بحث الدائرة التي نتواجد فيها حاليًا ثم الكشف عن بعض الإرشادات التي تُعين على إصابة الوجهة الصحيحة بإذن الله.

أطوار تكوين الرشدية

يسبق الرشد مراحل مختلفة تتمثل في: العدم – الولادة – المهد، فينمو هذا المهد ويتمدد حسب مجريات البيئة التي يتواجد فيها، مما يعني أنّ الوصول إلى الرشد ليس حتميًا لكل مهدٍ، فرُبَّ مهدٍ وُئِدَ في أوله، ورُبَّ مهدٍ صار يافعًا ثم تخطّفه السفهاء؛ فاجتُث، ورُبَّ مهدٍ اجتمع عليه العقلاء فسلك سبيل الرشدية حتى بلغ مداه.

ولو أردنا التعرف على المرحلة التي تتواجد فيها الأمة الإسلامية الآن يجب علينا أولًا تحرير كل مرحلة ومعرفة علاماتها، ثم ما تطابق منها على حالنا فإنه حتمًا ينفع في فهم وصفنا.

سنلاحظ أنّ أطوار نمو الرشدية الحضارية تتطابق مع أطوار نمو الكائنات الحية، لأنّ الحضارة تعتبر حالة من حالات الكائنات الحية في طبيعتها ونموها وتمثلاتها وأثرها، لذا يمكننا قياسها على نموذج الكائن الحي.

١- مرحلة العدم: إنّ مرحلة العدم تتجلى في طورين: طور ما قبل الولادة، وطور ما بعد الموت، ففي كلا الطورين لا يستطيع الكائن أن يثبت لنفسه حضورًا في دائرة الوجود، وإن كان له تمثُّل تكويني قبل الولادة، أو تمثُّل روحي بعد الموت، ولكن كلا الطورين خارج سياج الحضورية.

٢- مرحلة الولادة: وهي المرحلة التي تتجلى بعد تمام التمثل التكويني، وبعد الحصول على كل التفاصيل المعلوماتية المسئولة عن رسم ملامح خاصة لهذا الكائن ليتميز بها في حضوريته، ولكنه لم يمتزج بعد بمكونات الحضورية.

٣- مرحلة المهد: هو التواجد الحقيقي لهذا المخلوق منفصل تمامًا عن مراحله التكوينية، مستعدًا للانطلاق أو إعادة الانطلاق نحو رشدية ملامحه التي حمل أدق تفاصيلها في مراحله التكوينية، وقد ذكرنا إعادة الانطلاق لأن المهد له طورين: الطور الذي يلي الولادة، والطور الذي يلي رشدية أصابها مكروه، ففقدت دلائل رشديتها؛ لتنتكس إلى المهدية مع احتفاظها بذات المخزون المعلوماتي الذي يُمكّنها من إعادة الانطلاق مرة أخرى.

٤- مرحلة الرشد: هي المرحلة التي تنتج عن سير المهد في الطريق الصحيح الذي يضمن تبلور ملامحه دون تشوّهها، مع رعاية عقلاء بيئته له بتوجيهه والحفاظ عليه من الزيغ أثناء المسير حتى يبلغ تمام رشده وصلاحه وعمله بمقتضى منهج خالقه وامتثاله تمام الامتثال.

 أين نحن؟

عندما نمعن النظر في هذه المراحل ثم ننزلها على حال الأمة الآن، سنجد أنّ الأمة الإسلامية تعيش في الطور الثاني من مرحلة المهد، حيث إنّها متجاوزة لمرحلة العدم بطوريه، إذ إنّ العدم مستحيل في حق الموجود فضلًا عن أن يكون وجوده بلغ الرشدية، وعدم ما بعد الموت مستحيل في حق الأمة الإسلامية لأن وجودها متعلق بالحاكمية الإلهية المتصفة بالأزلية، لذا فإنها اكتسبت صفة الديمومة الحضورية التي لا يجوز في حقها الموت، مع إمكان تغيُّر أطوارها الحضورية بناءً على مدى امتثال وموافقة حامليها للمنهج الرباني.

وهي كذلك متجاوزة -ضرورةً- مرحلة الولادة التي تسبق الوجود المُثبَت لها.

إنّ الأمة بلغت مهدها الأول ببزوغ نور الدعوة المحمدية، والذي اعتنى بها أيما عناية وطفق يربيها حتى ربت، وبلغت رشديتها على خير وجه، ولكن تلاحقت المصائب تتهاوى على رأس الأمة حتى انتكست مرة أخرى إلى مهديتها، ولولا أنّ وجودها الحضوري حتميٌ بسلطة تعلو على سلطات الأرض، كان احتمال أن تنتقل إلى العدم بهذه المصائب قائم.

ما سبب بقائنا في مرحلة المهد؟

عندما نطلق على أنفسنا أننا أصبحنا في مرحلة المهد الحضاري، فإننا لا نروم بهذا التلويح التأخر المادي في أمتنا، لأن هذا ليس محكّ الرشدية عندنا، وكذا لا نقصد به أنّ هذا المهد متمثلٌ في البُنية العقدية المنهجية في هذه الأمة، لأنه تامٌ وكاملٌ كمالًا إلهي، وإنما موضع المهدية عندنا كامنٌ في اللُحمة بين تلك العقيدة وبين غالبية حامليها، فبسبب النوازل الكثيرة التي أصابت الأمة؛ انسلخت فيها تلك اللُحمة، فصار الوصول إلى تطابق حقيقي يُمكِّن للمهدية أن تنتقل مرة أخرى تدريجيًا إلى طور الرشدية أمرًا يحتاج إلى عمل حثيث مُبصِر.

فردانية الحضارات

إذا أردنا قياس المستوى الذي عليه الأمة ومعرفة مكانها بدقة، فيجب علينا أن نقارن الأمة بالأمة في حقبة أخرى لقياس المقومات التي تمتاز بها والحد الأقصى من الرشدية التي يمكننا بلوغها، ولسنا بحاجة لمقارنة الحضارة الإسلامية بالحضارات الأخرى، لأن الحضارة هي كلمة مشتقة من الحضور، فكأن تمثلات كل أمة بمقوماتها الخاصة التي تنتظم في مجتمعها كنِتاج لسلوك الأفراد هي حضورها وتبلورها في حاضرها المُعاش، ولأن الثقافة عنصر فرداني، أي أنها لا يمكن أن تتشابه بين أمة وأخرى لكونها اكتسبت تمايزها من تفرُّد كل دين، وهي انعكاس لهذا الحضور الحضاري، فإن تواجد العناصر التي تتيح عدالة المقارنة الحضارية تكاد تكون منعدمة، لذا فإن محاولة وضع العين على حضارة أخرى في معرِض البحث عن سبيل الوصول إلى الرشدية في الحضارة الإسلامية هو من قبيل من يترقب غزالًا ليصطاده بسنارة!

لذا يجب أن تنمو الحضارة في حاضرها بمقومات رشديتها الخاصة، وألا نتوقع مدحًا من الحضارات الأخرى أثناء سيرها بحثًا عن لبِنات الرشدية، لأن سنة التنافسية والتدافعية الأممية ستظل قائمة أبد الدهر، وسجِال الحق والباطل سيظل وطيسه حاميًا، ويجب التنبه أنّ تلك اللحظة التي تلقي حضارة  ثناءها على حضارة أخرى أو حتى تصمت صمات رضى، فهذا لا يعني أنّ تلك الحضارة الأخرى وصلت إلى الرشدية، وإنما تفسير ذلك أنها ابتُلِعَت في الحضارة المحتفية بها، فاعتبرتها جزءًا منها مُحقِقًا لمعاييرها، وإن لم تنسلخ تلك الحضارة سريعًا عن جعبة الحضارة الآكلة، ستُهضَم بداخلها وتنعدم ويكون مآلاها الفناء.

هل يمكن أن تفنى الحضارات؟

والفناء جائز في حق الحضارات التي لا تنطلق من عقيدة، إذ إنّ هذا النوع من الحضارة يتركب من مكونين أساسيين هما الروح وتمثلات تلك الروح، والروح الحضارية حصرية لكل حقبة زمنية، بل أحيانًا لكل جيل، إذ إنّها النَفَس العام المتكوَّن من مجموع أنفاس الأفراد، فبمجرد زوال هذا الجيل وإرهاصاته؛ تزول معه روح حضارته، ولكن تبقى تمثّلاتها العلمية والعملية والفكرية التي وجدت مسلكًا إلى أرض الواقع تدل عليها، ولكن رغم حضور التمثلات إلا أنها فقدت الأنفاس البشرية التي تُجسد فيها الحضور، لذا يمكن اعتبار هذه الحضارة في حالة فناء.

ومن هنا فإن التشبث بتمثلات هذه الحضارة الماضية بمثابة التشبث بجثمان ميت فاضت روحه منذ زمن، مهما استنطقت أغراضه وموروثاته؛ لن تتمكن من تطويعها بذات النحو الذي طوّعها هو.

لكن عندما تدخل العقيدة الإسلامية ضمن مكونات الحضارة، فإنها تكسبها ميزة تضمن لها إمكان البعث في أي جيل، حيث إنّ العقيدة الإسلامية تتناسق تمامًا مع غاية الخلق وفطرة الإنسان، وهذان العنصران في حالة وجودية مرتبطة بوجود الإنسان، لذا فمهما زهقت أرواح الأجيال وبقيت التمثلات عاجزة عن الحياة والبعث، تظل تلك العقيدة بهذا النمط متواجدة في الأوساط تتخلل النفوس البشرية لتتطابق مع النزعة الغائية فيها وتلتحم بفطرتها، فتتحول أنفاس الجيل الجديد إلى أنفاس متشابهة _وأحيانًا إلى حد التطابق_ مع سلفهم الذين عاشوا تلك الحالة، وبالتالي فإن مجموع الأنفاس قادر على توليد روح تشبه الروح الأولى لتلك الحضارة لأنها من نفس المشكاة.

إن اندماج العقيدة الصحيحة في المعادلة الحضارية ينتج حضورًا جديدًا لها، ويجعل إمكانية بلوغ الرشدية بعد كل كبوة ممكنًا، وبالتالي لا يهمنا كثيرًا التمثلات الحسية لتلك الحضارة لأنها في النهاية طرف غير فعّال في تفعيل المعادلة الحضارية، وإنما هو نتيجة لما أنتجه الجيل حتى يكوّن الروح التي أنتجت هذه الأفكار ونفذّتها، فسواء تم تنفيذ تلك التمثلات أم لا؛ فإن الرشدية غير معتمدةٍ عليها.

ما واجبنا نحو الرشدية؟

نخلُص من هذا الطرح إلى أنّ الأمة رغم انتكاسها إلى طور المهدية مرة أخرى، إلا أنها لا زالت -وستظل- تحمل في أعماقها الملامح التكوينية التي تضمن لها بلوغ رشدها مرة أخرى إذا سارت بهذه المقومات في الطريق الصحيح، وأن عنصر العقيدة هو العنصر الحيوي في تفعيل المعادلة الحضارية بشكل عملي، لذا علينا استنطاق هذه الملامح وتذليل الطرق التي تسمح لها بالظهور والبروز مرة أخرى، وتهيئة البيئة التي تضمن حصول مرحلة انتقالية صحيحة من المهد إلى الرشد.

أسأل الله أن يُبَّلِّغ هذه الأمة رشدها.

كيف نرتقي بالحوار.. بين الدفاع عن الفكرة والانتصار للذات؟

كثيرًا ما نخوض في النقاشات العلمية والسياسية أو الثقافية، سواء في المؤسسات التعليمية أو المنتديات الثقافية أو في المواقع التواصلية، بغية إيصال ما نتبناه من فكر متراكم إلى من يحاورنا، وهذه النقاشات الحوارية الفكرية التي تسعى إلى التغير والتقدم نحو الأمام، إن اقتفينا تاريخ الأمم والشعوب سوف نجد أنها كانت اللبنة الأساس في نهضتها.

وبالعودة إلى المذاهب الفكرية التي كانت سبب من أسباب نهضة الغرب يتبين لنا مدى أهمية التفكير والفكرة وكيف ساهم هذا الحوار الفكري بين أعلام الفكر الغربي في بعث أمة بمفاهيم مشتركة كانت السبب في ما وصلت إليه من تقدم، ومن جهة أخرى حين نتحدث عن الحضارة الإسلامية فلا بد أن نشير إلى مسألة مهمة ألا وهي أن الحوار الفكري ساهم بشكل كبير في نهضتها سواء حوار المسلمين مع بعضهم أو حواراتهم مع غيرهم.

الدعوة والحوار في قِيَم الإسلام..

لقد كانت للرسول ﷺ عدة حوارات مع مشركي قريش ومن بينها حواره مع عتبة بن ربيعة حينما أتى يساوم الرسول ﷺ على ترك الإسلام، ومن حواراته ﷺ أيضا ما جرى في لقائه مع حبر من أحبار اليهود جاء يسأل الرسول ﷺ عن مسائل غيبية والرسول ﷺ يجيب والحديث رواه أبو أسماء الرحبي.

ومن الصحابة حوار ابن عباس رضي الله عنه مع الخوارج، ومن الفرق التي اشتهرت بالنقاشات الفكرية في الساحة الإسلامية، المعتزلة والأشاعرة ومدرسة أهل الحديث وقد كانت لهم عدة مناظرات لازالت مدونة بين صفحات التاريخ.

إن الحوار الفكري إذًا هو أشبه ما يكون بـ الدينامو أو الماكينة الحياتية عند كل الشعوب والمجتمعات، وهذا الحوار الفكري يختلف على حسب المنطقة الجغرافية، ففي (الدول المتدنية علميًّا وتقنيًّا وروحيًّا) أو (دول العالم الثالث) -كما يحب غيرنا تسميتها- نلاحظ عقم هذا الحوار ومحدوديته بين مختلف أتباع الفرق والمذاهب، وهذا الذي نسميه حوارًا إن أمعنا النظر يجب أن نسميه صراع فكري لا حوار فكري، صراع بين إنسان أصم وآخر أبكم لا يريد أحدهما أن يسمع الأخر فضلا عن أن يفهمه للانتقال من حال إلى حال.

ما هو الحوار؟

يعرّف عبد القادر الشيخلي الحوار بـ”أن يتناول الحديثَ طرفان أو أكثر عن طريق السؤال والجواب، بشرط وحدة الموضوع أو الهدف، فيتبادلان النقاش حول أمر معين، وقد يصلان إلى نتيجة، وقد لا يقنع أحدهما الآخر، ولكن السامع يأخذ العبرة ويكوِّن لنفسه موقفًا”، ويعرّف الحوار في موضع آخر بأنه: “عملية تبادل الأفكار والآراء بين محاورين اثنين أو أكثر لغرض بيان حقيقة مؤكدة أو رأي معين، قد يتقبله الآخر وقد يرفضه”.

وبناء على ذلك يمكن أن نصف الحوار بأنه عملية تبادل المعلومات على مستوى الفرد أو الجماعة بغية إيصال أفكار معينة للأخر مع الحفاظ على بعض الأخلاقيات التي تجعل من الشخص المحاور في حالة تسمح له بالنقاش أو تحليل ما يعرض له من الطرف الآخر.

هل نبحث عن القاسم المشترك؟

هو سؤال غالبًا ما يعرض لذهني كلما حضرت لحوار بين طرفين يتحاوران حول فكرة معينة أحدهما يخالف الأخر في توجهاته الفكرية، ذلك أن غالبية الحوارات القائمة بين أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية لا تسعى إلى الإصلاح أو الوحدة والجمع بين الأدلة، بل همها من الحوار إثبات من يتفوق على الآخر؟ من يهيمن على الساحة؟ ومن هنا فإن حمولات عديدة من الأفكار تجعل الحوار فاشلا منذ بدايته.
هل الإصلاح إذا يقبل الحوارات الأحادية القطب؟ الجواب لا.

المعرفة بهذا سوف تقود بلا شك أتباع الفرق الإسلامية إلى البحث عن القواسم المشتركة التي تجمع شرقها بغربها جنوبها بشمالها، وإن بحثنا عن هذه القواسم سوف نخلص إلى تساؤل مهم ألا وهو: إن كانت كل هذه القواسم مشتركة بين أتباع هذه الفرق، فما الداعي للفرقة الواقعة بين المسلمين؟

إن تجاهل أتباع هذه الفرق التي تخوض حوارًا فكريًّا وعقديًّا وفقهيًّا للقواسم المشتركة، أدَّى إلى استمرار الصراع وتفاقمه، تجاهل أدى إلى صراع مميت نخر جسد الأمة، ساهم فيه الجميع لكن بنسب متفاوت، وفي وقت كان الإسلام الذي نتصارع تحت رايته يدعونا إلى مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، يقول تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]، أصبحنا لا نتجادل ولا نتحاور إلا بإذكاء الصراع والفرقة وربما يميل البعض لإعداد المكائد والمصائد لبعضنا البعض.

أوليس الحوار هو ذلك الحديث الذي يجمع بين طرفين، يجمعهما اختلاف في رأي معين يحاول أحدهما إقناع الآخر بصحة فكرته أو معتقده، لمَ لا نستحضر في هذا الحوار قول الله عز وجل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصّلت: 34]، انظر إلى أثر هذا الخلق (الدفع بالتي هي أحسن) في الحفاظ على الألفة بين طرفين يختلفان في الرأي، فهل لنا أن نطالب بحوار قائم على الإصلاح لا الصراع.

لماذا نركز على الأشخاص بدلًا من الفكرة؟

في الكثير من الأحيان تحدث نقاشات وحوارات بين مجموعة من أفراد العائلة أو بين أتباع مذهب معين أو فرقة معينة أو بين مجموعة من الأشخاص في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي خضم هذا الحوار تحدث نوع من الفوضى بين الأطراف التي تجري الحوار، وذلك بسبب انتقال الحوار من حوار فكرة إلى صراع أفراد يبحث كل واحد منهما عن نقائص الأخر لإظهارها، فيظهر لنا كلمات على سبيل المثال، هل نسيت حالك كيف كنت؟ من أنت لتقول هذا؟ لا تمتلك أسلوبًا جيدًا في الحجج؟ أنت إنسان رجعي؟ انظر إلى نفسك هل مثلك يتحدث عن هذا؟ أنت من أساسًا حتى تتحدث معي بنبرة استعلاء.. وهكذا!

إذا بحثنا عن القاسم المشترك بين هذه الأقوال سوف نجد أن البحث عن النقائص والعيوب عند المتحاور هي السمة الأساس في كل هذه الأقوال، وهذا الأمر له أسباب عدة من أبرزها:

الحديث من غير علم: ففي العديد من المناسبات حينما يخوض الإنسان حوارًا ما، من غير أن تكون لديه معرفة جيدة بالموضوع الذي يتحاور حوله، تقوده قوة دليل الشخص الذي يحاوره إلى الخروج عن نص الموضوع ومن الرد بالدليل إلى الرد على الشخص نفسه في محاولة للتقليل من أثر الإحراج جراء الهزيمة التي تعرض لها.

الفكرة المسبقة: في بعض الحوارات تكون التمثلات التي يحملها أحد الطرفين عن الأخر سببًا في انتقال الحوار من حوار في الفكرة إلى حوار في الشخصنة، ومن أجل تقريب ذلك نعرض المثال التالي: في حوار دائر بين شاب وفتاة حول قضية من قضايا المرأة، نجد أن انطلاق الشاب من فكرة أن الفتاة تحمل فكرًا نسويا وفق قراءته السابقة لها أو سماعه شيء يدل على انتمائها، يؤدي إلى تحويل الحوار من منطلق سلمي يبحث عن إقناع الطرف الأخر بصواب وقوة الفكرة التي يتبناها، إلى حمل الحوار على الأسلوب العدائي الذي يلامس شخص الفتاة لا فكرها، وكذلك العكس صحيح.

التقليد أو التعصب: يؤدي التقليد غالبًا إلى وصول المحاور للنفق الضيق، ذلك أن المقلد غالبا ما يقع في فخ عدم قدرته على الاستدلال على الدليل أو الفكرة التي طرحها، إذ إنه ينتقل من قال شيخي، فإن قيل له وما دليل شيخك على المسألة لجم فمه فلا يقوى على الحديث بعد، الشيء الذي يجعل منه إنسانًا ذا طبيعة عدائية تبحث عن أي نقيصة في الطرف الآخر ليحفظ بالتذكير بها ماء وجهه.

الغرور: هناك من يرى العار في قول: “لا أعلم”، ولا يرضى بالأخذ من غيره، ولا يحب الإنصات والاستماع للذي يقابله، مغرور إلى حد حب الظهور، الإنسان المغرور مولوع بانتقاد الآخر ولا يرضى بالهزيمة أمام غيره، يبدأ الحوار من فوق لتحت، لديه طبيعة شبيهة بطبع إبليس المتكبّر، ومن له هذا الطبع إما أن يقصم ظهر من يحاوره حينما تكون حجته أقوى من حجة محاوِره، وإما أن يغوص في البحث عن نقائصه.

هل يمكن أن نجري حوارًا هادئًا معتدلًا؟

حتى يكون الحوار بين الطرفين حوارًا معتدلًا ومنتِجًا على مستوى الفرد والجماعة ويساهم في التطور وتقديم الإضافة يجب أن ينبني أولا على مجموعة من الأصول، وعلى افتراض أن الأطراف التي تجري الحوار تجمعها كلمة “لا إله إلا الله محمد رسول الله” نرى أن أهم هذه الأصول هي:

الأصل الأول: أن الحاكم المعرفي الذي يحتكمان إليه عند انقطاع التواصل بينهما هو القرآن الكريم والسنة النبوية، قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]. وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].

الأصل الثاني: المحاورة بعلم، ففي الكثير من الحوارات ينشأ الصراع والسجال من خلال غياب المصطلحات العلمية بين الأطراف المتحاورة، والذي يميز الحديث بالوسائل والمصطلحات العلمية، تقليل الخلاف وسوء الفهم بينهم، ذلك أن من أسباب سوء الفهم بين المتحاورين عدم قدرتهم على التعبير بما يجول في أذهانهم بالتالي تحمل أقواله على غير مرادها.

الأصل الثالث: الاستقامة وجاءت في أكثر من موضع من مواضع القرآن الكريم، قال تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 5]، يقول فخر الدين الرازي في تفسيره لهذه الآية: “إن العلماء بينوا أن في كل خلق من الأخلاق طرفي تفريط وإفراط، وهما مذمومان والحق هو الوسط. ويتأكد ذلك بقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143]، وذلك الوسط هو العدل والصواب. فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مؤمنا مهتديا، أما بعد حصول هذه الحالة، فلا بد من معرفة العدل الذي هو الخط المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في الأعمال الشهوانية، وفي الأعمال الغضبية، وفي كيفية إنفاق المال. فالمؤمن يطلب من الله أن يهديه إلى الصراط المستقيم، الذي هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق، وفي كل الأعمال”.

الأصل الرابع: الإخلاص في النية، حرص الأطراف المتحاورة على حصول النفع وطلبه للمصلحة العامة لا لمصلحة شخصية دنيوية.. وهذا يأتي من بوابة الإخلاص لله سبحانه وتعالى في القول والعمل، وأن يكون قصده وهمه الأول والأخير جلب المنفعة ودفع المفسدة عن الأمة، فهذا التجرد عن الذات والابتعاد عن حب الظهور ومغالبة الآخر به تحصل الفائدة.

الأصل الخامس: الإنصات بإمعان، إذ لا يمكن أن يجرى الحوار بآذان صماء لا تريد أن تسمع أو تفهم حجج الطرف الآخر فما بالك بفهمها فهما صحيحا. إن سماع الحجج ومحاولة فهم ما يريد الطرف الآخر إيصاله بكلامه من الأشياء التي تعين على الخروج بنتيجة مثمرة من الحوار، أما كثرة الحديث والكلام من غير سماع أو إنصات يولد حوارًا عقيمًا نتيجته تفاقم المشكلة والصراع إضافة إلى ضياع الوقت.

عن تقزيم الاحتفال بالحب!

كل عام عندما أرى احتفال ما يسمى لدى البعض بعيد الحب أشعر باستغراب شديد، وتثور في ذهني مجموعة من التساؤلات حول إصرارهم على الاحتفال بهذا اليوم على سبيل الحصر، باعتباره عيدًا للحب.

تكلم الكثير من الأفاضل حول مدى مشروعية الاحتفال بهذا اليوم، ومنهم من تكلم أيضا حول المرجعية الغريبة عن مجتمعنا لفكرة هذا اليوم بالتحديد، ولكني هنا أتكلم من زاوية أخرى، وهي الأسئلة التي أسألها لنفسي كلما ثار الجدل حول هذا الموضوع.

وهم الاختزال

هل يمكننا حصر الاحتفال بالحب في يوم ما بعينه، وهل يمكننا حصر الاحتفال به عن طريق ارتداء نوع معين من الألوان، أو إهداء نوع معين من الهدايا؟ أليس هذا تقزيمًا للحب؟

أليس الحب أعمق وأهم من أن يختزل في يوم واحد، أو في لون واحد، أو في نمط واحد من الهدايا، وأساليب التعبير النمطية التي –للغرابة- لا أعرف كيف لا يشعر الناس بالملل منها؟.

إن الحب شيءٌ سامٍ، لا يخالط عملا إلا خرج كأجمل ما يكون، ولا ألمًا إلا هان كأنه لم يكُن، فالحب أساس من أسس الوجود، فإن اختفى من الأرض فذاك مؤشِّر خطيرٌ إلى أنها في أيامها الأخيرة، فالساعة ستقوم على شرار الخلق الذين لا يملكون في قلوبهم ذرَّة من إيمان أو خير أو حب.

إن الله -سبحانه وتعالى- عندما أراد إدخال الأنس على قلب سيدنا آدم في الجنة رزقه بأمنا حواء لتؤنسه في الجنة رغم ما فيها من نعيم، وعندما أراد -جل شأنه- عمارة الأرض أسكن السيدة حواء في قلب سيدنا آدم، وألّف بينهما بالمودة والرحمة، فكان ذلك دستور اقتران الرجل بالمرأة أبد الدهر، فواجها سويًّا مشاق الأرض ومشاكلها، فكان الحب من معينات الله لهما في هذه الحياة، وسببا في  إعمار الأرض، أحد أهم أعمدة ازدهار الحضارات، ومقياس تقدم الأمم أو تخلُّفها.

فالنظام الأسري الذي هو من أهم أسباب تماسك الحضارات أو تخلفها لا نجاح له بغير المودّة الصافية والحبّ الناضج بين الزوج وزوجته، وحبهم لأبنائهم الذين يبادلونهم حبا بحب لا يموت بموتهم بل يُورَّث كابرا عن كابر، ذلك الحب الذي يكون نواة الأسرة التي تعتمد عليها أي حضارة تريد لنفسها الاستمرار والازدهار في مواجهة الحياة.

حين يغدو الحب مكافأة أخرويّة!

الحب شعار أهل الجنة، فبه استحقوا دخولها، وهو المكافأة الكبرى التي سيتمتعون بظلالها في جنان الخلد، ولم لا يكون ذلك، والله قد أدخلهم الجنة لأنهم أحبوه جل جلاله، وأكرمهم بها لأنه يحبهم، فلم يتركهم وحدهم دون إرشاد، فأرسل إليهم رجالا منهم، فعلّموهم الشرع والوحي الذي استمدوه ممن أرسلهم -سبحانه-، ولأنهم جسدوا لهم معاني الحب في صور حيّة، أصبحت نموذجهم الأسمى في الحب، فأصبحوا نجوما ترشد كل من أراد السير في درب الحب.

 إن كل من يقرأ سيرة سيدنا محمد ﷺ بقلب حاضر، لا يملك إلا أن يغسل قلبه بدمع الحب والشوق للقاء هذا الرجل الذي لم يسمح للدنيا بكل أحوالها من خير وشر أن تدنّس قلبه.

فهو الرجل الذي خاض المعارك الضارية دون أن يكره أعداءه لذواتهم، فلم يخض تلك المعارك إلا بدافع ورجاء أن يستخرج من نفوسهم الإيمان بالله -جل وعلا- ، وإلا فكيف تفسر انبهار أشدهم ضراوة بشخصه بمجرد اهتداؤهم لتلك الحقيقة، وما عليك إلا أن تنظر لمآل شخصية مثل عكرمة بن أبي جهل -الذي صرف الجزء الأكبر من حياته في كراهية سيدنا محمد ﷺ ومحاربة دعوته، بل إنه قد ورث هذه الكراهية كما يتبين لك من اسم والده- لتشعر بحقيقة قولي.

وهو ﷺ الرجل الذي وقعت الدنيا تحت أقدامه، فأشاح بوجهه عنها وأعطى منها لمن يعرف أنها قد ترقق قلبه، حتى قالوا عنه إنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.

اجعل الحبَّ عظيمًا

إن من أدق المشكلات التي نعاني منها في هذا الإطار هي تسطيح عاطفة الحب وتقزيمها، حتى إننا أصبحنا نريد حصرها في نماذج مؤطرة، فبات الخروج عنها خروجًا عن الحب في نظر مَن رُبِّيَ على تلك النماذج التي تحاول حبس أهم عاطفة على الأرض في أُطرٍ ضيقة لا تستطيع هي والعشرات منها أن تسعه، بل إن عدم الفهم الكامل لعاطفة الحب وما تعنيه، هو السبب الأساسي في الانهيار السريع الذي تتعرض لها مجتمعاتنا، وما عليك إلا أن تلقي نظرة سريعة على أي محكمة خاصة بشؤون الأسرة لتعلم مدى هذا الانهيار!

حلّ هذه المشكلة أن نضع الحب في مكانته الحقيقية التي تليق به، وفهم حقيقة أن الصورة الساذجة التي يصدرها الإعلام لا تمثّل حقيقة الحب، بل إن التضحية والصبر وتحمل المشاق أجزاء لا تنفك عن الحب، وهي الجوانب التي تم إغفالها عند تربية الشباب، فتصيبهم صدمة عندما يجدون أن الواقع مختلف عن الصورة التي تربوا عليها فيظنوا أنهم لم يجدوا الحب الحقيقي، فتضيع أعمارهم وأسرهم التي أنشأوها في بحثهم عن سراب الحب الذي لم يعرفوا حقيقته يومًا.

أسأل الله أن يرزقنا جميعا بحب يصل بنا إلى سعادة الدنيا والآخرة.

جناية الحاضر على التاريخ.. تأثير النزعات المعاصرة في فهم الماضي

اعتدنا سبر أحداث التاريخ لرصد الخيوط التي كوّنت النسيج الحالي للحياة والمجتمع، وطفقنا نعدّد الأسباب التي أدت إلى انبثاق عدد من القضايا، وبحثنا عن التكوين النفسي لهذا الجيل بين تلافيف الماضي، ولكن هل للحاضر سطوة على الماضي كما نرى سطوة للماضي دومًا؟ وهل هناك جناية للحاضر على الماضي؟

القولبة الفكرية للماضي

من السمات الواضحة لهذا العصر هي القولبة، كل شيء بات مقولبًا بشكلٍ لا يقبل إعادة النظر أو التفاوض، ونجد أنّ الملَكَة الفقهية باتت ضامرة عند الكثير من المشتغلين في مجال الفكر والدعوة فضلًا عن عموم الناس، فأصبح الكثير لا يحسن تصوّر الأمور إلا في شكلٍ وقالبٍ واحد، إما أبيض أو أسود، إما حلالٌ خالص أو حرامٌ مُطلَق، دون إدراك أنّه ثمة لون رماديٌ، وألوان كثيرة بين هذين اللونين، وبحسب القرائن المصاحبة لكل قضيّة وحالة يكون اللون الموافق لها هو المناسب، ولكن ما نراه الآن هو الزجّ بصاحب السؤال أو الإشكال إلى أقصى غاياته لعدم امتلاك مرونة الملكة الفقهية التي تضع كل حالةٍ على نحو ما يناسبها.

وهذه الحالة لا تتوقّف عند عتبة الحاضر، بل امتدّت لتفعل فعلتها بين دهاليز الماضي، فنجد أنّ البعض عندما يعودون لقراءة أحداثِ الماضي لا يُحسِنُون خوض غماره دون اصطحاب قوالبهم الفكرية، فيصنّفون الأحداث حسب مقاييس قوالبهم، بل إذا وجدوا أنّ بعض السياقات لا تحتمل القولبة، فإمّا أن يمزقوها لتناسب القالب، أو يطمسوها، ثم يستنطقون قوالبهم للخروج بالنتيجة التي رسموها بداية، وتصبح كل الأحداث التاريخية تدور بشكل “منسجم” مع أفكارهم وتخدمها وكأن التاريخ ما كُتِبَ إلا لهم، فالحاصل أنهم اعتقدوا رأيًا ثم حملوا أحداث التاريخ عليه دون تورّعٍ أو عدالة.

قراءة الماضي تحت ضغط الواقع

تولَّدت العديد من المصطلحات المعاصرة نتيجة تَولُّد بعض التيارات الفكرية التي ساهمت في تشكيل وتكوين الواقع الحالي، وهذا الكيان الاجتماعي الجديد أحدث ضغطًا على المسلمين المعاصرين؛ فاضطروا كذلك إلى صك بعض المصطلحات لينافحوا بها عن الدين، فبعد الشقاق الذي وقع في متسلسلة التاريخ الأوروبي بين العلم التجريبي والدين، والذي أفضى إلى جنوح النزعة العلموية؛ إذ لم يقتصروا على الكاثوليكية، بل انتقلوا بهذا الحكم إلى كل ديانة، فأخذ بعض المشتغلين في الساحة وضع الدفاع عن طريق تعزيز المصطلحات التي توائم بين “العلم” و “الدين”، وتضع الشقاق بينهما، ظنًا منهم أنهم هكذا يخرجون الإسلام من مأزقٍ كبير ضائق.

 وبالرغم من وجود بعض جوانب النظر حول هذه المصطلحات وتأثيرها في الواقع، ومآلات اعتمادها كمسلّمات مرتبطة بهذا الواقع، إلا أنّ مناقشتنا في هذا المقال ستكون حول تأثيرها الممتد في عمق الماضي والتاريخ، فمع اعتياد واعتماد هذه المصطلحات وغيرها، أصبح الخروج عنها أو تصوّر الواقع بدونها أمرًا شاقًا خارجًا عن سياج العقل الجمعي المعاصر، فنجد أنه قد نُقِلَت هذه المصطلحات إلى الحِقَب الماضية ووُصِفت بها، فعند ذكر العلماء المسلمين وما قدموه، أول ما يتبادر إلى الذهن هم العلماء الذين أسهموا في جانب العلم التجريبي كالبيروني وابن الهيثم وغيرهما، ثم تتم عملية الانتقال الثانية والتي تتمثل في اتخاذ هذه المنجزات كبرهانٍ ساطع على كون الإسلام لا يعادي العلم التجريبي ولا يتعارض معه، ثم يُحصَر تقدُّم المسلمين في هذه الحقبة، وهذا بمثابة اعتراف ضمني لمعيارية التقدم المادي لنهوض الأمم، ثم نعود مرة أخرى إلى واقعنا لنرى أن التقدم المادي ليس بين أيدينا، فنعيش تحت ضغط سؤال “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”، وهكذا دواليك نعيش في غمرة تلك الدوامة.

والإشكال الذي وقع فيه من يسير في هذا المضمار يتمثل في أمرين أساسيين:

أولهما: أنه تم استدعاء إشكالات الحاضر ومصطلحاته التي نتجت عنه إلى حِقَب في الماضي لم تعش هذه الإشكالات، وبالتالي فإن استدعاء هذه المصطلحات يعد باطلًا لا معنى له، فهي بمثابة تصدير بطارية هاتف إلى زمن ما قبل الهاتف، فأصحاب البطارية يُنَظّرُون حولها، ويتناقشون بجد عن مدى جدواها، بينما لو بُعث أهل هذا الزمان لنظروا باستغراب إلى هذا الجسم العجيب، ثم يتركونه ويذهبون، إذ لا عمل له عندهم ولا طائل أو معنى يذكر من وجوده.

ثانيهما: إنّ تلك العقلية المبرمجة تحت ضغط الواقع بخست حق الكثير من العلماء والعلوم بحصرهم العلم في العلماء الذين أسهموا إسهامات تجريبيّة، لكن لو أوردنا علم الحديث فقط كمثال لعلم عظيم امتلك منهجية رصينة مذهلة في إثبات صحة الروايات من جهة المتن والإسناد، وهو من أجلّ العلوم وأدقها، بل من مفاخر هذه الأمة، سنعلم أنّ عبقرية العلوم لم تُحصَر في السياق التجريبي فقط، بالإضافة إلى أنّ أصحاب ذلك الطرح تغافلوا أو غفلوا كون الكثير من العلماء الذين برعوا في العلوم التجريبية كانوا في ذات الوقت فلاسفة ومؤرخين وفقهاء، لنعرف الواقع الحقيقي حينها وهو أنّ التقدم في العلوم التجريبية كان نتيجة طبيعية لوضوح الهُوية ونضوج البناء الإنساني على ضوء تلك الهوية، فحينما يصل المجتمع إلى هذه الحالة من النضج؛ فإنه ينمو طبيعيًا ليتمدد في مساحة الكون بمختلف تشكلاتها ليحقق الاستخلاف الذي نما منه ولأجله، لذا فإن رؤية الماضي وقراءته تحت ضغط الواقع الحالي يؤدي إلى طمس هذا الماضي ويعيق الناظر إلى هذه القراءات عن استشفاف الحالة الحياتية الحقيقية للمجتمع المسلم حينها، ويضع غشاوة على تلك العين التي تبحث بين سطور تلك القراءات عن ملامح النهضة.

سجن الماضي في مصطلحات الحاضر

عندما طُعِن الإسلام ونُعِتَ بأنه دينٌ دوغمائي، لا يحمل فكرًا أو فلسفة، فبدأ ينشأ ويتشكل مصطلح “الفكر الإسلامي” ليناوئ تلك الاتهامات ويتحرك في مسار تجريدي يضاهي المسارات المعادية له، وبدأ المصطلح في النمو لينتقل إلى تسميات على مستوى الأفراد كـ”مفكر إسلامي” وغيره على إثر هذا الواقع الجديد.

لكن موطن الجناية هنا على الماضي هي تصدير هذا المصطلح إلى الماضي واستخدامه في سياقات تاريخية لم تشهد تلك الإرهاصات التي ولّدت هذا المصطلح، وبالتالي فإن مجرد ذكر هذا المصطلح عند السرد التاريخي يعتبر إعادة تشكيل وهيكلة لتلك الحقبة وفق معطيات الواقع الحالي، وكذا تُعَدّ اعترافًا ضمنيًّا لنجاح الغزو الفكري الذي اجتاح العالم الإسلامي في ترسيخ الانفصالية بين العقيدة التي تقتضي العمل وبين الفكر المجرد، وأنّ هذا المضمار “الفكري” كله في عزلة عن الإنتاج العلمي بكافة مساقاته، وهذا النجاح لم يتوقف عند حدود الحاضر، بل استطاع أن ينتقل إلى الماضي ويرسمه وفق مصطلحات منبثقه من غزوه الآني.

قراءةٌ ضيزى!

يحتّج الكثيرون بآرائهم ويضفون عليها نكهة وثائقية من خلال قياسها على أحداثٍ وسياقات في الماضي، ويلزمون الآخرين بقولهم خصوصًا عند تشابه القضايا والأحداث، لكن موطن جنايتهم هنا أنهم تجاهلوا قرائن الزمان التي تحيط بكل حراكٍ وقع فيه، إذ إنّ الأحداث لا تحدث في مساحة فراغ عدمية فيُضمَن تمدد الحدث في هذا الفراغ بذات الطريقة في كل مكان وزمان، وإنما تحدث وسط قرائن متعددة ومتشابكة تُمثِّل الوعاء الذي يُشكِّل هذه الأحداث ويعطيها طابع معين، وبالتالي فإن محاولات القياس المجردة على الماضي دون ذكر القرائن وفهم ما تقتضيه لخروج الحدث بهذا الشكل يعتبر تجنّيًا على الماضي لطمس قرائنه، وظلم لأناسٍ كُثُر حُمِلت أقوالهم وأفعالهم على غير محملها وزُجَّ بها وسط قرائن جديدة منتظرين منها نتائج متشابهة!

ما واجبنا نحو الماضي؟

إنّ أول واجب علينا تأديته هو رفع الظلم عن الماضي وقراءته قراءة موضوعية غير متأثرة بضغوطات الواقع أو متقولبة بأفكاره أو محبوسة في مصطلحاته، إذ إنّ هذا الأمر لا ينحصر في كوننا نرغب في قراءة موضوعية واعية للماضي، وإنما يمتد لنزع الغشاوة التي وضعناها بأيدينا أثناء قراءتنا له، وبالتالي ضمان الخروج بأحكام واستنباطات ورؤى أقرب للصواب وأكثر واقعية، حينها يكون في مُكنتنا حقًا الاستفادة من هذا الماضي، لأننا رأيناه كما هو، بعينه هو، لا بعدستنا نحن، وكذا ستتبلور الأخطاء الحقيقية التي كانت في رحابه بوجهها الحقيقي دون تحريف يصيبها من لوثة قوالب الحاضر، لذا يجب على المشتغلين في الساحة الآن الاحتياط من استخدام أي مصطلح عمومًا قبل سبره وتمحيصه، والمصطلحات التي تخص الماضي خصوصًا لِما فيها من التداعيات المذكورة آنفًا، ولعل هذا يكون من أُولى الخطوات وأَولاها التي تسهِم في تحرير الماضي وما بُني عليه من تلك القوالب، وبالتالي صياغة واقع أكثر توازنًا ونضجًا.