image_print

جوابات فكرية وعقدية حول الأحداث الجارية

تتوالى الأيام والأحداث على أرض فلسطين، عامًا بعد عام. ويستدعي هذا التطور الدائم مزيدًا من النقاش بيننا، ومزيدًا من توضيح الحقائق. من خلال تأمل بعض النقاط التي يكثر الحديث عنها في مثل هذه الأوقات. وسأدوِّن هذا بأسهل ما يمكنني من عبارة، وأبسط ما أصل إليه من تصور كي أشارك أوسع مدى ممكن من القراء الأفاضل. ولا أخفي أحدًا سرًّا؛ فإن ما نتداوله اليوم سويًّا قد يكون تفريجًا عن نفس صاحب السطور -وكذا الشعور عند كل الصادقين- من أن تصيبه مصيبة، وهو يشاهد مع عشرات الملايين ما يحدث في عملية “طوفان الأقصى”، وما تبعه من أحداث بدأت في السابع من أكتوبر 2023م. فإن شعور العجز عن إنقاذ أخ يستنقذك من محرقة قد يصيب أي شريف سليم النَّفس بجلطة.

فهذه بعض إجابات لبعض أسئلة شاعت أو ظواهر التي طفحت على سطح الأحداث، في مجال الفكر العربي.

أما سئِمتُم من النقاش؟!

أول ما يستحق التوضيح، هو شرعية النقاش واستمرار التداول والتدارُس في ظل الأحداث؛ فكلما جدَّ جديد واحتدمتْ الأحداث في فلسطين، وجدنا سائلًا يسأل: أما سئِمتُم من النقاش؟ أما آن لنا أن نعمل ونحرك الأحداث على الأرض؟

وهذه نقطة تستحق التوضيح حتى يكون الرد عليها مبسوطًا في أذهان الجميع.

بدايةً، أشعر -تمام الشعور- بضيق صدر مَن يطرح هذا السؤال، وأقدره. لكنْ أوضح للسائل الناقم هذه النقاط بالترتيب:

  • لا تعارض بين العمل والنقاش، كي نتعجب من أن نناقش ولا نعمل. فهذا النوع من التساؤل عن جدوى النقاش الدائم والقعود عن العمل؛ يُطرح على مَن في مقدوره العمل الآنيّ الحاليّ الفوريّ، لكنه يعزف عنه إلى نقاش في غير محلٍ.
  • أنوِّه إلى حقيقةٍ عامةٍ عن علاقة النقاش والعمل؛ أن العملَ فرعٌ عن التصوُّرِ، وتقديرِ الموقف الكلي، ورؤيةِ ما يحدث رؤيةً صحيحةً، وإلا صار العمل ضارًّا لا نافعًا.
  • سؤال جدوى النقاش يُطرح ويُثمَّن، ويزداد رسوخًا أثناء تصوُّر مشهد الوعي العربي والإسلامي تجاه القضية الفلسطينية ثابتًا؛ أقصد بذلك أن وعينا (صورة المسألة الفلسطينية في الذهن العربي) مُوحَّد -إجمالًا- مُتَّفَقٌ عليه، بلا خوفٍ من تبدُّل أو تزييف. وأسأل: هل هذه هي الحال الآن؟ الإجابة واضحة: لا. فالساحة العربية تشهد الكثير من محاولات التزييف وتبديل الموقف كليَّةً تجاه القضية، وبثِّ رُوح اللامُبالاة في نفوس العرب تجاه فلسطين، بل بدأ تجريف الوعي يدخل حيوزًا غايةً في البشاعة؛ من خلال بثِّ رُوح الكراهية لفلسطين، والمناضلين عليها داخلها وخارجها. وهذه المؤشرات -التي كانت موجودةً دومًا، لكنها زادتْ بعنفوان ضاغط على الواقع العربي- أضافتْ معركة وعي، جوارَ معركة الأرض[1]. وقد بُذِلَتْ في سبيل إقحام هذه الدعاوى جهود سامة، تستدعي نقاشًا موسَّعًا، وتداولًا حقيقيًّا، وإبرازًا لوسائل الإقناع الناجحة في معركة الوعي فيما بيننا.
  • وأخيرًا، أنوِّه إلى ضرورة التداول المستمر لكافة قضايانا الفكرية المصيرية بيننا؛ لأن أية أمة؛ ما هي إلا مجموع من “أجيال مُتداخلة”، كلُّ جيل يُعاشر ويحيا مع ما سبقه من أجيال؛ إلى أنْ يبقى هو نفسه الجيل الأكبر، ويعيش مع أجيال لاحقة به. وكلُّ جيل يحتاج إلى توضيح هذه القضايا له؛ ليتصورها صورةً صحيحةً سويَّةً، وعليه يتصرف التصرف الصحيح. فمتى كانت القضية مُتضِحةً لك؛ فهي أقل وضوحًا عند الجيل الأصغر. ولنفهم هذا ونستحضره دومًا.

خلاصة ما في نقطة “شرعية النقاش في وقت الاحتدام” أن النقاش شرعي متاح، بل ضروري مطلوب في كل وقت. ولا يعتبرنَّ بعضُ المُتحمسين أن النقاش إماتة للقضية وللتصرف، بل هو إحياء لها في الحقيقة. على أن نتنبَّه إلى أمر هامٍّ؛ أن النقاش ذو غرض، وليس غرضًا في نفسه؛ فالنقاش لإحياء القضية، ولوضوح التصور، وللرد على كل مُغرض، وللاستعداد لغيره من الأعمال، ولاستحضار رُوح الاستنفار للتضحية وقت التضحية.

ماذا يحدث؟ وهل صحَّ تصرف السابع من تشرين الأول؟

وفي تناول ما حدث، منذ السابع من أكتوبر؛ وقع الكثيرون في عيب فكريّ؛ هو “الجزئية في تناول المشهد”، فقد فصلوه عن السياق العام للأحداث، بلا مبرر واضح للفصل. وتداولوا الاشتباك المبدوء من جانب أهلنا، وكأنه ابتداء لحدث جديد! وأخذوا يتباحثون -تحت ضغط الجهود السامة التي أشرنا إليها- عن مدى شرعية ما حدث. والحق أن ما حدث في “طوفان الأقصى” هو ما حدث قبل “طوفان الأقصى”؛ وهو ما يحدث منذ قرابة قرن من الزمان؛ فنحن في “حالة حرب” -إذا لمْ تكن تعلم-.

و”الحرب” ليست مُقاتَلَةً بين جانبين -أو أكثر- في وقت واحد، حتى يفنى أحدهما أو ينصاع لرغبة الغالب فحسب؛ بل الحرب -في حالات كثيرة- تكون حلقات وتسلسلات، بعضها بعد بعض؛ تشهد الكثير من حلقات الهزيمة، وحلقات النصر؛ وأيام العزة، وأيام العار؛ والأبطال المُقدَّمين والأنجاس المُتخاذلين. فليست الحرب بهذا التصوُّر موقفًا واحدًا متى انتهى توقفتْ الحرب، ومَن قاتل بعدها فقد بدأ حدثًا بعد أنْ لم يكن. وفي هذه الحالات من الحروب بين الأقوام المُتنازعة، ومع اختلاف ميزان القوى بين جانب يملك كل القوى وجانب لا يملك إلا ما يتوكل على الله به؛ تُسمَّى الحال الحربية أو التحارُبيَّة “نضالًا”؛ يُنافح فيه الجانبُ الأضعفُ الجانبَ الأقوى.

ومتى تمادينا وفكَّرنا جزئيًّا مع مَن يفكرون في مدى “شرعية ما حدث” -وأنا هنا لا أدافع عن فصيل بعينه، بل أنظر للقضية كلها-؛ فلا أدري داعيًا يُخرجنا للقتال أقوى من يأتي من يسلبنا أرضنا، ومصادر ثروتنا عليها، ويضمُّ إليه أراضينا الزراعية، ثم يمُنُّ علينا أن نعمل فيها أُجراء؛ لتُنتج له قوتًا وثمراتٍ يتقوَّى بها على إكمال احتلالنا، أو يُصدِّرها ليكتسب ثروةً فوق ثروة. ولا أعرف سببًا يُخرجنا للقتال أقوى من أن تتواضع فئة -أيْ تضع من قدر نفسها-، وتمثِّل دور ضحية الاضطهاد والمحرقة أمام الأمم؛ لتجد لها مكانًا تدَّعِي أنه “أرض بلا شعب”، رغم أنها أرضنا، وأقوامنا يقطنون عليها، ويمتلكونها حقًّا، لا غصبًا. فيكون الموقف والمَقال من الدول الغربية أننا -وبالمخالفة والاستغفال، والكيد الظاهر والباطن-: سنُوطِّن هؤلاء اليهود المساكين، وهم شعب بلا أرض؛ في تلك الأرض التي بلا شعب. دون ظلم لأحد، ودون انتقاص من حق أحد!

ثم متى ظهرنا -نحن أصحاب هذه الأرض- التي ادعيتم أنها بلا شعب، وطالبنا بحقنا في أرضنا؛ تحوَّل المحتلّون المساكين إلى عصابات صهيوينة، ترتكب مجزرةً بعد مجزرة لتقهرنا، وتُوسِّع من نطاق اغتصاب الأرض، ثم تُنشئ كيانًا سياسيًّا لها، وتُسمِّيه دولةً. بل تستدعي كل أحلامها القديمة، فيما ورد في سِفر “التكوين”، الإصحاح 15 الذي به بالنصّ: “في ذلك اليوم قطع الرَّبُّ مع أبرام مِيثاقًا قائلًا: لنَسلِكَ أُعطي هذه الأرض من نهر مِصرَ إلى النهر الكبير نهر الفُرات”[2]. (وفي هذا السياق أنصح بمُشاهدة الفيلم الوثائقي الفلسطيني “طريق سيدي”، حيث تتبع فيه المخرج الفلسطيني “نزار حسن”، طريق أجدادنا على أرض فلسطين، ليكشف الحقائق لمَن غابت عنه وللأجيال الجديدة[3]).

وتتوالى الأعوام، ويتقدَّم الاحتلال في غرضه، ويُضيِّق رقعة الوجود علينا -نحن أصحاب الأرض-؛ حتى ما بقي في فلسطين إلا بضع كيلومترات هنا أو هناك. والبقية محتلة، يعمل أهلها عند الاحتلال بأجر! ويتداولون هذا الأجر بالعُملة اليهودية التي أصدرها الاحتلال، الذي ينظر لبقية الفلسطينيين على أنهم خدم له، أو مرحلة مع الزمن سيعبرها. هذا، ويُضيِّق الصهاينة على غزة جدًّا في الطعام والشراب والوظائف والمعايش؛ حتى أن أصدقاء لي داخل غزة كانوا يشتكون مُر الشكوى من الأحوال المعيشية في فترات الهدوء.

وما يحدث اليومَ من مجريات فاحشة في العدوان والتقتيل؛ مجرد استكمال تنفيذ الخطة. والتي يتضح منها أن الهدف الرئيس هو محاولة دفع البقية إلى أرض عربية أخرى “سيناء”، بأي ثمن، أو على الأقل التمهيد لهذا في الحلقة القادمة من الصراع. وهذا واضح من سيادة التفكير الحربي على التفكير السياسي طوال الأيام السابقة؛ فإنهم مُصرُّون على تحقيق أقصى إفادة على الأرض، بدفع أكبر عدد للرحيل؛ بغض النظر عن صورة الدولة اليهودية في العالم. وهنا لنا وقفة مع مسألة صورة الدولة اليهودية.

فلعلنا في حاجة إلى الكشف عن مدى محافظة اليهود على صورتهم؛ فهُم من أشد الأقوام حرصًا على ذلك. ومنه أن الكيان يصرُّ منذ الحرب العالمية الثانية، على أن يصور نفسه أمام العالم الغربي خاصةً؛ أنهم قوم مُسالمون اضطهدهم الجميع، وأُقيمت لهم المحارق في الماضي، وفي الحاضر الفلسطينيون يعتدون عليهم ويظلمونهم. ولعل القارئ الصغير سنًّا لا يعرف أن الكيان من أجل هذه الصورة اخترع فكرة “الإرهاب”، وغذَّاها تغذية وئيدةً ووطَّنها في عقلية المواطن الغربي، ثم نقلها إلى البيئة العربية عن طريق وسطائه؛ لتُثمر -على مدار غالب العقدين الأخيرين- ما نشهده الآن على الساحة من فظاظة في وصم أية مقاومة بوصمة “الإرهاب”، وتصنيف أية قوة تقاومه تحت هذا الصنف.

ولعلنا في حاجة إلى الكشف عن أن اليهود -من فرط إرادتهم ترسيخ فكرة اضطهادهم- يستغلون السينما -بوصفها أحد أكبر محركات الوعي في العصر الحديث- أسوء استغلال؛ فما يمر عام منذ عقود طويلة، إلا ويخرجون فيه عشراتِ الأفلام التي تتناول ما يدَّعُون أنه حدث لهم من اضطهاد، وعشراتٍ أخرى تُظهر الشخصية اليهودية مُسالمةً وادعةً، تحمل راية التغيير للأفضل للعالم أجمع[4].

ولعلنا في حاجة إلى الكشف عن أن اليهود يجهدون في السيطرة على الوعي في كل مكان، وفي الوعي الغربي خاصةً، يُشكِّلونه بما يريدون، بالقوى الناعمة تارةً، وبالخشنة تارةً. وأكتفي هنا على السيطرة الفكرية الخشنة بمثال واحد، لأستاذ الأدب الفرنسي “روبير فوريسون” (وهو يشبه عبد الوهاب المسيري عندنا؛ حيث هو الآخر مدرس أدب، تفرغ لدراسة الصهيونية)، وكتبه ممنوعة في أوربا، ومحظور تداولها لأنها تفضح حقيقة الأكاذيب الصهيونية. يقول الكاتب “أمير العِمَري” في تقديم أحد كتبه: “إن معظم -إنْ لم تكن كل- كتب وكتابات روبير فوريسون ممنوعة في فرنسا، ومحظور تداولها في معظم الدول الأوربية (الديمقراطية)؛ طبقًا للقوانين المُقيِّدة لحرية البحث والتفكير في موضوع واحد فقط، يتعلق بجماعة بشرية صغيرة العدد نسبيًّا في العالم كله؛ هي الجماعة اليهودية، والموضوع المقصود هو موضوع “الهولوكوست”، أو الإبادة الجماعية التي تعرَّض لها اليهود، إبَّان الحقبة النازية في ألمانيا، قبل أكثر من نصف قرن”[5].

وأقصد بما سقتُهُ هنا؛ أنهم يعتبرون ما يجري جزءًا شديد الأهمية من خطتهم، إلى حد المغامرة بالصورة التي يحافظون عليها أشد المحافظة، مع توالي التنديد الشعبي الغربي بما يفعلون، في ظل عصر التواصل الاجتماعي وسيولة انتقال المعلومات. فهذا يؤكد على إصرارهم تحقيقَ التهجير بأي ثمن. ورغم أن هذه الخطوة بالنسبة للقراءة السياسية المعاصرة تمثل تقدمًا ضخمًا؛ فإنها من منظور عربي إسلامي محضُ تقدُّم؛ فكلُّ هذه الأرض عربية إسلامية، والكيان يريدها جميعًا، ويريد كسر الإسلام الذي هو أكبر أعدائه؛ بمُخطط الإرهاب وبغير الإرهاب (أقصد بمخطط الإرهاب أنه صنع هذا الغول القِيَمي الذي سمَّاه الإرهاب، ليحتوي به كامل البناء الإسلامي شيئًا فشيئًا). فالمُخطَّط مُخطَّط مُثابرة، مَن يعضُّ على يد الآخر حتى النفس الأخير.

روبير فوريسون

كيف يسمح الله بكل هذه الشرور؟!

من الظواهر التي شاعتْ في هذه الأزمة الأخيرة؛ أنَّ بعضًا من المثقفين والعوام رفعوا شعار “ننتظر ردَّك يا الله”. وأنَّ كثيرًا أبدوا الاعتراض الشهير “كيف يسمح الله بكل هذه الشرور؟”، ومتى تماشينا مع هذه المقولة سنصل إلى الكفر الصريح: “كيف يكون الله موجودًا مع هذه الشرور؟”.

أما عن الشعار “ننتظر ردَّك يا الله” فقد يكون نتاج قلة الحيلة، وضعف الوسيلة من أناس ليس بيدهم شيء، لكنْ يجب أن نذكِّر أنفسنا بأمور سأوردها في آخر هذه الفقرة عن هذا الشعار. أما عن السؤال “كيف يسمح الله بكل هذه الشرور؟” فالأصل هنا أن نحرر فهم الدنيا في التصور الإسلامي؛ لنبين سوء هذا التصور.

وفي هذه المسألة خلط ضخم، ومغالطة شنيعة؛ فإن أصحابها السائلين ينسون أن الله هو مَن أرسل لهم هذا الظلم، اختبارًا وابتلاءً، ويغفلون ألَّا شيء في كون الله يقع دون إرادة الله ومشيئته. بل كأنَّهم في سؤالهم قد تصوَّروا لعبةً تسمى الدنيا، وضمُّوا الله إلى معسكر فيها، وكأن المعسكر الآخر (الشر) قد أتى وقام واقتدر أهلُهُ عليه دون علم أو إرادة من الله المُبدئ والمُعيد. وفي هذا من التقزيم لمقام الألوهية -والعياذ بالله- مما تصنعه حماقة الإنسان، وضغط اللحظة الراهنة عليه.

فالله هو خالق كل شيء، ومريد كل شيء، لا يحدث إلا ما أراد، ولا يقع إلا ما يشاء. ووقوع الضر على المؤمنين في حيز الدنيا؛ ليس إلا من مُجريات الاختبار الذي أخبرتنا العقيدة الإسلامية به، مثله مثل وقوع الخير وإسغاب النِّعَم على الإنسان. ولعل كامل هذا المعنى في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]. بل شدَّد القرآنُ التذكيرَ بالابتلاء بالمصائب والبلايا والفاجعات: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155، 156]. وقال تعالى مُبينًا عن موقف مشابه لما نحن فيه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42].

وهكذا نرى التصوُّر العَقَدِيَّ للبلايا والمحن في الإسلام واضحًا. فما الحياة الدنيا إلا اختبار، يبتلي الله فيها عباده جميعًا. وأقصد بعباده هنا العبودية القهرية لا الاختيارية، أيْ كل الناس، لا العباد المؤمنين وحسب. يُقلِّب عليهم أحوالَ الخير وأحوالَ الشر؛ أيامَ الرخاء وأيامَ الشدة؛ سنواتِ الازدهار، وسنواتِ الجدب. وكلُّ شخص في هذه الدنيا على تعاقب الأحوال بين الشدة والرخاء؛ مطلوب منه الإيمان بالله والعمل الصالح، اللذيْنِ جاءا مُقترنَيْنِ في آيات متكاثرة، منها إخباره -تعالى- عن يوم القيامة: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التغابن: 9].

ولم يسمح أصحاب هذا السؤال لعقلهم بامتداد التساؤل: ولِمَ لمْ يساعد الله النبي -وهو المُرسَل منه- وهو مضطهد داخل مكة، مُحاصَر بين أعداء له؟! ولِمَ ترك المؤمنين للمُشركين يفتنونهم قبل الهجرة؟ حتى قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110]؟ بل لِمَ لمْ يجعل الله الناس تصدِّق النبي وكلَّ نبي منذ بعثه {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34]؟..

وكلُّ “لِمَ” تجرُّ لِمَ حتى النهاية؛ لأنه مبدأ مُغالِط. فالله لم يجعل الأرض جنةً، بل وعد مَن يؤمن ويعمل صالحًا بالجنة؛ والله لم يجعل مُجريات الدنيا آخر المطاف، بل أوَّلَه وعليها يُحاسب كلُّ امرئ. بل أبدى القرآن لومًا وتقريعًا لمَن سوَّى بين اختبار الله له وابتلائه إيَّاه وعذابات الدنيا {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10].

وقد ردَّ القرآن على هذا التصور الطفولي الخاطئ مراتٍ؛ منها قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]. بل ردَّ عليه بإجمال الحكمة منها {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35]. ولا أريد الإطالة، ولسنا في مدوَّنة عقديَّة؛ لكنْ بقي أن أقول (وهو ما يتعلق بأصحاب الشعار الأول): إن رؤية الإسلام للدنيا عامة شاملة، أراد الله بها خلافة الإنسان ليُقيم أمانته على الأرض. وكلُّ امرئ مُطالَب بالإيمان، وكلُّ امرئ مُطالَب بالعمل الصالح. فأمَّا مَن استُشهِدَ دون ماله أو عرضه أو أرضه على دين الله؛ فما أرى إلا أنه أحسن غاية الإحسان حتى مماته، وأنها أفضل ميتة أكرم الله بها أهلها. لكنَّ الإشكال في كلٍّ منا؛ فكلٌّ منا ما زال يحيا ويُختَبَر في هذا الموقف العصيب الذي نشهده، وليحرص كلٌّ منا على أن يُخلِص لجماعة المؤمنين، ويهتمّ بهم غاية الاهتمام، وأن يقدم لهم أقصى ما يستطيع وما يكون في مقدوره.

ولنستمع -جميعًا- إلى وصية الرجل الصالح الذي آمن من قوم فرعون، وهو يُلخّص المشهد الكلي: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 38- 40].

المنافقون ودرس الامتحان والثبات

كنتُ في صغري أحب وأستلطف الآيات التي تتناول الكافرين صراحةً، أو المؤمنين صراحةً؛ لكنني كنت غافلًا عن آيات كثيرة في القرآن الكريم تتناول فئة المنافقين، كنت أعجب لِمَ بسط القرآن القول في المنافقين وفي صفة النفاق خاصةً، في أمة الإسلام وأمم سابقة. لكنني حينما كبرت عرفت السبب واضحًا في دنياي. وفي هذه المحنة نشهد الحكمة من آيات النفاق العديدة في القرآن؛ فلا صوت يعلو فوق صوت النفاق الخبيث في هذا الاختبار.

كنت وأنا صغير أعجب؛ لِمَ يدعو القرآنُ لإخراج هذه الفئة من القتال في أوقات اشتداد المحنة وأُزُوف القتال {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47]. أليس استكثار العدد أولى؟ -هكذا فكرت وأنا صغير-. لكنني اكتشفت السبب في كبري.

يا الله! يا لها من كاشفة فاضحة تلك الاختبارات التي يُؤذن الله بابتلائنا بها -كما فهمنا سويًّا أعلاه!-وسبحان مُمحِّص القلوب بأيدي المواقف! فما بين “ولي أمرٍ” أمانتُهُ مَعقودة بالتحرُّك؛ فإذا به يتثابط في القيام بدوره، ليظهر وكأنَّ الموقف هو الذي ألجمه {وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ} [المنافقون: 1]. وبين “ولي رأيٍ” أمانته في توعية الناس؛ فإذا به قد أضلَّ الناس، وسعى فيهم سعي السوء، يشوه المناضلين المنافحين القائمين بحق الله، وهُم في أقسى الظروف وأشظف الأحوال. ولنذكر تحذير القرآن منهم {وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} [المنافقون: 4].

فإن الهدى هدى الله، والحق أبلج واضح. وإن هاتين الفئتين من أُولي الأمر وأُولي الرأي المنافقين رسبوا في اختبارهم، فلا ترسب معهم. وادعُ بدعاء الرسول ﷺ أن يُميتك الله على الإيمان؛ فقد كان يدعو “يا مُقلِّبَ القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك”. وجاء في القرآن تنبيه على هذا {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].

مُفارقة صحة الإسلام وانتكاس أهله

من المفارقات العجيبة في هذا الدين، أنه ينتصر في كل حال، ويتأكد في كل موقف. كما قال الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. ومن أعجب دلائل صحة الإسلام؛ دليل سُفُول حال أهله المُنتسبين له على حرفٍ، آخر الزمان، وهو حديث تداعي الأمم الشهير. (يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها. فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ. ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ. فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ) [حديث صحيح، أخرجه أبو داود في السنن].

فكأن المشهد قد حُشد حشدًا، ووُصف وصفًا ما أدَّقَه وأبلغه، في هذه الكلمة من جوامع كَلِم الرسول ﷺ. وأعيد التنبيه لمَن يتداولون الحديث أن المقصود من الحديث ليس الاستسلام، والقعود عن النهوض، وتثبيط الهمم؛ بل العكس هو الصحيح بمفهوم المُخالفة. فالمطلوب هو الفرار والخلاص -الفردي والجماعي- من هذه الحال. عملًا بالحديث -وحديث بحديث- (إنْ قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألّا يقوم حتى يغرسها فليفعل) [أخرجه البخاري في الأدب المفرد]. وهذا حديث آخر يلخِّص الحل الفرديّ: (احرصْ على ما ينفعك، واستعنْ بالله ولا تعجزنَّ) [أخرجه مسلم في الصحيح]. فليحرص كلٌّ على عمل الصحيح؛ مهما رأى من مُخالفةٍ له في هذا العصر، وليحرص كلٌّ على كلِّ ما يقدر عليه من عمل.

ولعلي هنا أستحضر مثالًا على الحديثَيْن الأخيرين؛ معركةً -وهي معركة فردية لا جماعية- هي المقاطعة الاقتصادية. التي قامت بها الشعوب العربية؛ بعدما رأت تقاعُس أولياء الأمر عن دورهم، وازورارهم عن أهل النضال؛ فما كان منهم إلا أنْ قدَّمُوا أقل ما بأيديهم، بالعزوف التام عن كل منتجات الأعداء (بالقطع وجود هذه المنتجات وسماحنا بأولويتها، وتقاعسنا عن الإنتاج ذنب يقع على من بيده الأمر). وقد أحدث هذا الخلاص الفرديّ الذي رآه الأفراد واستحسنوه بالغَ الأثر.

تفاءلوا بالخير

وفي النهاية، أربط على قلبي وقلوب كل المؤمنين بالتذكير أن الله هو المُبدئ والمُعيد، وأنه وارث الأرض ومَن عليها، وأن التفاؤل واجب من استقراء النصوص الشرعية. ومنه حديث (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له) [أخرجه أحمد في المسند ومسلم في الصحيح بلفظ آخر]. ووصلًا بالكلام أعلاه عن مشكلة الشر؛ نجد أن هذا الشر -من جهة ومن نظرة معينة- أظهر منا وفينا التفافًا حول شئون هذه الأمة، واستعدادًا خالصًا عند الكثيرين للتضحية بالمال -كاملًا في مواقف-، أو الدم، أو بما يحتاج له أخوه، وأنه عدَّلَ من سلوكنا وقوَّم من أحوالنا -ولو جزئيًّا-، وأنه أرانا الابتلاء في درجة قاسية ليُشهدنا أن مشكلاتنا الشخصية محض هراء، وأنه أرانا المنافقين منا لنميزهم عن الصالحين الصادقين، ولنستعيذ بالله أن نكون منهم، وأنه كان فرصةً للكشف عن ازدواجية الحاكمية الغربية في معاييرهم، وفرصةً لانتشار الوعي بين شعوب العالم الغربي عن حقيقة الصهيونية، وأنه دفع ملايين الغربيين للتظاهر من أجل القضية، وأنه كسر صورةً ظل اليهود محتفظين بها، مُحافظين عليها أمام العالم.

فهذا كون الله أمامنا، يُصرِّفه الله أنَّى شاء، ويرينا من آياته العجب، ويعلمنا أننا قاصرون عن إدراك الحكمة في كل ما نرى من تصاريف الدنيا. فسبحان الحكيم المُتعالي المُدبِّر!


[1] لنقاش أوسع في هذا الجانب، راجع مقالًا لي على الشبكة، بعنوان “هل فلسطين قضية الفلسطينيين وحدهم.. نقاش عقلي”.

[2] في مسألة النصوص الدينية اليهودية راجع مقالًا لي على الشبكة، بعنوان “انتفاضة الأقصى وأسفار اليهود الدينية”. وفي مسألة القضية الفلسطينية وعلاقتها بالعقيدة، راجع مقالي بعنوان “فلسطين قضية عقيدة إسلامية.. الأدلة والنقاشات”.

[3] الفيلم متاح على موقع “يوتيوب”، على أجزاء. وهو من إنتاج الجزيرة الوثائقية. راجع أيضًا مقالي عن الفيلم بعنوان “طريق سيدي.. كيف احتلت فلسطين بدقة”؛ وقد لخصت فيه مراحل احتلال فلسطين.

[4] انظر مثالًا واحدًا على هذه الأفلام في مقالي “جوجو أرنب .. فن الدعاية اليهودية”.

[5] كتابات في المراجعة التاريخية، أكذوبة المحرقة اليهودية، روبير فوريسون، من تقديم الأستاذ أمير العمري. روافد للنشر والتوزيع، ط1، 2017م. والكتاب متوفر على الشبكة للمراجعة والكشف عن الفضائح.

هل أتاك حديث الوهن؟

إنّ المرجع الأوّل والأساسي لكلّ مسلم لمعالجة واقعه وفهمه وإدارة التّغيير هو القرآن الكريم، الذي به تُحيَ القلوب وتُبنى العُقول ويُقوّمُ السّلوك العملي للفرد وللجماعة، فهو النّور الخالد الربّاني الذي يقود البشريّة الجمعاء للنّجاة في عصرٍ انتشرت فيه الظُّلمات والجاهليّة العمياء، واستفحل فيه الفساد القاتل لكلّ مظاهر الفطرة  السّليمة والإنسانيّة، ومن اتّبع غير سبيله ظنًّا منه أنّ الإصلاح يكون في اتّباع مناهج بشريّة ضالّة فإنّه لا يخدعُ إلاّ نفسه، ولن يكون إلاّ مُتّبِعًا للأهواء وما تُمليه عليه شياطين الإنس والجنّ من إغواءات.

ومن بين آياته الخالدة التّي تصفُ لنا موضع الدّاء في حياتنا وكيفيّة علاجها نقرأ قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، فالوهن هو من أخطر الأمراض المُستشرية فينا فخلّفت الجُمود والفساد والجهل داخل مُجتمعاتنا. فما هو مرض الوهن الذي نهانا الله عنه؟ وماهي مظاهره؟ وما هو سبيل العلاج منه؟!

أريد قبل ذلك الإشارة أنّ بعد بدايتي في كتابة هذا المقال بدأت معارك “طوفان الأقصى” من قبل المقاومة الفلسطينية في غزة، مما أشعل الأمل جديد في نهوضنا مرة أخرى، وتحرّر أرضنا، فعسى أن يكون ذلك بُشرى لطوفان التّغيير داخل أمّتنا الذي نمحو به مظاهر الضّعف والوهن، فأمّة الإسلام تضعف وتمرض لكنّها لا تموت ولا ينقطع الخير منها وستكون لها الغلبة والنّصر بإذن الله إذا أفاق المُسلم من غفلته وأخذ بأسباب التّمكين في الأرض ولنجعله طوفان الأقصى وطوفان النّهوض والانتصار!

الوهن ومظاهره

إذا بحثت في مُختلف المعاجم العربيّة عن مفهوم الوهن فإنّك فستستنتج أنّه الضّعف النّفسي والعملي والاستسلام للواقع والرّضا بالذلّ والانحطاط والقبول بالدّنيّة في الحياة، وهذا المرض أصابنا في مُختلف المجالات وبسببه لم نُحدِث أيّ تغيير حضاري في الحاضر، بل مُنذ قرون عدّة، حيث نشهد تقهقرًا وانكماشًا مُتواصلًا للمُجتمعات المُسلمة في مُختلف بقاع العالم.

العقيدة هي اللّبنة الأساسيّة لبناء المُجتمعات القويّة والنّاجحة والتي يجتمع جميع الأفراد حولها، لتكون منهج حياتهم ومرجعيتهم الأساسيّة في وضع القوانين وتنظيم الحياة، وفي الأصل يكون الجميع موقنون بها، ومُتّفقون عليها.

من شدّة الفراغ العقائدي والضّعف أصبح منّا أقوامٌ يبحثون مجهريًّا عن الاختلافات العقائديّة الفرعيّة التّي لا حرج فيها فيَكثُر الجدال حولها حتّي يصل بهم الأمر للتّصنيف والتّكفير والتّشويه وبثّ الكُره والفتنة بين النّاس وإدخالهم في صراعات أحيانًا دمويّة وخصومات كُبرى نحن في غنى عنها وما جُعلت العقيدة إلاّ لتوحيد الأمّة والبناء كما فعل قبلنا سلفُنا الصّالحُ، ولكنّنا اليوم لم نأخذ من مفاهيمها إلاّ الجزء القلبي والقولي مع غياب العمل بها، فأصبحنا بالكاد نرى مظاهرها في الحياة وأصبحت القوانين العامّة مصدرها البشر لا شريعة الإسلام، وبالتّالي أصبحت القوانين المُنظّمة للحياة سببًا في الشّقاء والمحاباة وخدمة المصالح الخاصّة على حساب المصلحة العامّة.

درجات أخرى من الوهن

لم يكن الأمر ليقف هنا بل وصل بنا بأن تحمي هذه القوانين الفاسدين الطّغاة كثيرًا، وتُحاسب المُصلحين الطّاهرين وتُنزلُ بهم أشدّ العُقوبات بسب دعوتهم للتّغيير، وأصبحت تُنتهك الحُرُمات في الفضاءات العامّة الرّقميّة والواقعيّة وفي وسائل الإعلام المُختلفة بدون مُبالاة، بل يُسمحُ بذلك داخل المُجتمعات الإسلاميّة فترى التمرّد على الأخلاق الإسلامية، فتسمع باعتياد اللّغو في القول والإيحاءات الفاحشة باسم اللّهو والتّرفيه، بل يصلُ الأمر بالاستهزاء بشعائر الإسلام علنًا بين المُسلمين، والتمرّد على الحياء فثمة تحقير للحِجاب وعدم احترام شُروطه كثيرًا لدى أهله، إلى جانب نشر التعرّي الفاجر بين نساء المُسلمين باسم الحداثة والنّسويّة.

خلّف الوهن العقائدي في الناس كثيرا من مظاهر الاضطرابات النفسيّة عند الأزمات، فتصِلُ بهم أحيانًا للانتحار بسبب الغفلة عن الحقيقة الكبرى بأنّ هذه الحياة دار ابتلاء مُسيّرة بأمر الله وقضاءه سبحانه وتعالى وتعلّقًا منهم بالحياة الماديّة ونتائجها التي هي بيد الله وحده أو اللّجوء للعُنف والطُغيان حفاظًا على مصالحه الدّنيويّة فقد يسرقُ المُسلم ويَقبل بالرّشوة ويُشارك في الفساد ويُدافع عنه ويكذب ويغشّ من أجل البقاء الموهوم والحفاظ على المظاهر الاجتماعيّة الزّائفة.

لقد أصابنا الوهن أيضا على المُستوى الشّخصي فكثير منهم أصبحوا ضعيفي الشّخصيّة، يخجل من دينه وإظهاره عمليًّا في سلوكه خوفًا من نظرة الآخرين المُنحرفين عن منهج الله المُتّبعين لأهوائهم البشريّة، بل أصبح مُطيعًا لهم شعوريًّا أو لا شعوريّا كطاعة العبد لسيّده فنتَج عن ذلك التّقليد الأعمى في المظهر باسم الموضة العالميّة والتّقليد الأجوف للسّلوكيّات باسم الحداثة والتحضّر، فأصبح الفرد فريسة سهلة تعصفُ به وساوس شياطين الجنّ والإنس بتزيين الشهوات والفواحش وتحسينها في نظره بدون مُقاومة نفسيّة منه مع العجز التّام للرّفض وانشاء حياة حرّة خاصّة به وفق المنهج الرّباني الذي يُؤمن به.

تطوّر هذا الاستسلام النّفسي حتى أصبحنا نرى المُنكر داخل مُجتمعاتنا فنلتزم الصّمت ونقبل به ونتعايش معه ولا نسعى لرفضه والتّوجيه للخير والمعروف الذي أمر به الشّرع، فنرى الظّلم ونستكين له ويُوالى أهله الطُغاة الذين يسوموننا أشدّ أنواع التّنكيل في هضم حقوق العامّة وحرمانهم من حياة كريمة عادلة وآمنة، ونرى في تعامُلاتنا اليوميّة اللاّمصداقيّة والانتهازيّة والأنانيّة فنقبل بذلك ولا نأخذ مواقف حازمة تحدّ من كلّ ذلك ولو بالكلمة، بل من شدّة ضُعف الشّخصيّة عندنا في حالة تعارض المصلحة الدّنيويّة مع أمر ديني وقيمة إسلاميّة فإنّنا نُسرعُ في التّنازل عن مبادئنا من أجل عرض دنيوي زائل.

الإعلام.. وتسويق الوهن

يُعتبر الإعلام أقوى وسيلة لتوجيه الرّأي العام وإعادة صناعة العقول والتحكّم فيها، فمن شدّة وهنِنا الإعلامي اليوم عدم قُدرتنا على إعادة تشكيل فكر المُسلم عن طريق مختلف وسائل الإعلام بل هنالك فئات طاغية تدير إعلامنا وفق المصالح الغربيّة فتُنتج لنا برامج ومُسلسلات تنشر الرّذيلة وتُشجّع على التحلّل من الثوابت الإسلاميّة فترى فيها دعاوى فاجرة للسّفور والتميّع وللسّلوكيّات المُخلّة بالحياء.

لقد كشفت أحداث طوفان الأقصى الأخيرة كيفية تسخير الغرب آلة الإعلام العالميّة من أجل تشويه المُقاومة واتّهامه بقتل الأطفال والاعتداء على النّساء بدون رحمة أو شفقة وفي المُقابل إخفاء جرائم الاحتلال الذي يقصف المستشفيات والمباني السّكنيّة والمساجد والجامعات بدعوى الدّفاع عن النّفس، فقد زرع هذا الإعلام المُضلّل في نفوس البعض الحقد والكراهية ضدّ المُسلمين والفلسطينيين خاصة ممّا دفع رجل مسنًّا في أمريكا لقتل طفل فلسطيني طعنًا والاعتداء على والدته!

في المُقابل مازالت بعض الجهات الإعلاميّة عندنا تلتزم الحياد إزاء القضيّة الفلسطينيّة وتسعى للتأثير على الرّأي العام سلبيّىا وشيطنة المُقاومة! بل أصبحنا نستخدم الإعلام من أجل تشويه رموز الإصلاح عندنا من علماء ومُفكّرين وتبرير ما تقوم الحكومات الظالمة من تقييد حرّياتهم والزجّ بهم في السجون وقمعهم!

نحن نعيش أيضًا وهَنًا علميًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، حيث تُشير الإحصائيّات وفق مؤشّر الويبو العالمي للابتكار لسنة 2022 عدم وجود أيّ دولة عربيّة مُسلمة في قائمة العشرين الأوائل بل أوّل دولة عربيّة وحيدة هي الإمارات في المرتبة 31 ضمن 50 دولة من العالم!

لقد أصبحنا لا نهتمّ إلا بالجانب الاستهلاكي العام ولا نقضي السّاعات الطويلة إلاّ في تتبّع المشاهير على مُختلف منصّات التّواصل والبحث عن طريقة عيشهم وعاداتهم ونقضي أوقاتنا أيضًا في التّفاهة المرئيّة والمقروءة والسّمعيّة وزد على ذلك إبداعنا المُتواصل في الثرثرة غير الهادفة والنّقد غير البنّاء، فالعلم والصّناعة والتّكنولوجيا الحديثة ليست من أهمّ المحاور في حياتنا.

أمّا على المُستوى السياسي والاقتصادي فإنّ صنّاع القرار عندنا ليست لهم الإرادة والمنهجية الواضحة في وضع الاستراتيجيات والاستثمارات اللازمة من أجل تحقيق نهوض علمي وصناعي واقتصادي، بل يعيشون تحت أوهام صندوق النّقد الدّولي المُستعبد لنا!

أمّا سياساتنا الخارجيّة فهي مُحرجة فمن شدّة ضُعفنا فإنّ حكوماتنا عاجزة عن رفض ما يحصل من جرائم واعتداءات على المُسلمين في بقاع العالم مع لزوم الصّمت بل وصل الأمر بالتّطبيع الفاجر مع أعداء الأمّة ومُوالاتهم الذين هم أنفُسهم يستنزفون خيراتنا من مواد خام مُختلفة ويبُثّون الفتن في مُجتمعاتنا ويتعاملون معانا بعقليّة استعماريّة بحتة ويُملون خياراتهم علينا مع وجوب تنفيذها.

وهننا بين السياسة والمجتمع

ما يحصل في هذه الأيام من جرائم بشعة تجاه إخواننا في غزّة على يد الكيان الصّهيوني المُحتلّ خير دليل على ضُعف سياساتنا الخارجيّة فأغلب الحكومات الإسلاميّة إمّا التزمت الصّمت واكتفت بالمتابعة من بعيد وبعضهم أصدروا بيانات تدعو للتّهدئة بل هنالك من يُحمّل المُجاهدين في فلسطين إثم هذه الجرائم ويتعاطف مع الكيان الغاصب، وفي المُقابل سرّعت دول -مثل أمريكا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا- للإعلان رسميّا مُساندة الكيان الصّهيوني واستعدادها لدعمه بمُختلف الوسائل المُتاحة! فعجبًا لقوم رضوا بالذلّ وسعى حكامه لإرضاء جلاّديه والخضوع لهم وهم يستبيحون دماء إخوته!

لابدّ لنا أيضًا من ذكرِ الوهن الاجتماعي، فعلاقتنا فيما بيننا تنزل في الوهن والضعف والأحباط، والأنا طاغية، ولا يَنصر بعضنا البعض دفاعًا عن العرض أو الكرامة أو المال، فقد يُهان الفرد أمامنا أو يُعتدى عليه فترى الآخرين ينظرون إليه نظرة اللامُبالاة مادُمت لستُ أنا الضحيّة، بل ورّث هذا الضعف الفردانيّة في الحياة والمصلحة خاصة أصبحت أعلى من المصالح الجماعية المُشتركة وبالتّالي وصلنا إلى حدّ التفكّك الاجتماعي وضعف الرّوابط وانتشر الخوف وعدم الثقة والطمأنينة مع الآخر الذي قد يؤذيك في تعاملاته بل قد يهضم حقوقك من أجل منفعته الخاصّة، فقد يصلُ الأمر بالوشاية وتسليم المُسلم لأعدائه ليفتكوا به بدون مُبالاة!

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم في تشخيصه لمرض الوهن الذي أصاب الأمّة حين قال: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت) [أخرجه أبو داود في السنن]، فعذرًا لإخواننا في غزة وفلسطين الذين تُستباح دمائهم يوميّا من قِبل كيان ظالم مُجرم، فقد أصابنا الوهن وتخلّت الأمة عن فاعليتها، لكنّكم اليوم أبطال التاريخ الحديث أشعلتم داخلنا لهيب التّغيير والعودة للمجد والكرامة وحبّ الجهاد في سبيل الله فاثبتوا فإنّا قلوبنا معكم واعلموا أن النّصر من عند الله ولا تهنوا لما أصابكم فأنتم رمز عزّتنا وقوّتنا.

هل من علاج للوَهَنُ؟

إنّ أوّل خطوة في علاج الوهن هي إعادة بناء العقيدة وترسيخها في القلب، وقد يقول أحدنا إنّا جميعًا نُدرك هذه الحقيقة، ولكن كيف نُصلح عقيدتنا عمليّا، فقد اكتفينا من الخطب الطنّانة ومن قراءة المقالات دون توفير الحلول؟!

إنّ العقيدة هدفها ترسيخ شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ مُحمّدا رسول الله في القلب يقينًا صادقًا وفي الجوارح عملاً خالصًا، وبكل بساطة تعني أن تعيش حياتك وفق شريعة ربّ العالمين قولا وعملا والتزاما كاملا وليس جزئيّا بأن تقوم بفرائض العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحجّ وفي المُقابل تظلم وتكذب وتحتال على غيرك وتُنافق أهل الفساد وتُداهنهم في آرائك وتنهاز لمنهجيّتهم في الحياة.

تذكّر دائمًا بأنّ المًسلم الحقّ هو من يُحكّم شرع الله في كلّ جزئيّات حياته، ولكن كيف نُحكّم شرع الله في حياتنا؟! إنّ فاقد الشئ لا يُعطيه فنحن ابتعدنا عن روح الإسلام ومفاهيمه كثيرا، فعليك أيّها القارئ أن تأخذ دينك عن علم فتبدأ بالقرآن واعرض نفسك عليه بصدق واقرأه بتدبّر، وتوسّع في تفاسيره ولا تتجاوز آياته إلاّ وقد درستها وفهمت معانيها، ولتستسلم لكلام الله ليُعيد تشكيل شخصيّتك من جديد ومن ثمّ انغمس في مُراجعة سيرة سيّد المُرسلين عليه الصلاة السّلام وتدبّر حياته وكيف طبّق فيها مبادئ الإسلام وليكن هو قدوتك الأولى في كلّ شئ، فهذا هو الطريق الوحيد الموصل لبناء عقيدة قويّة متماسكة. ولكن هل هذا سيكون بالأمر الهيّن والسّهل؟!

لن يكون الطريق سهلا فهو ممتلئ بالأشواك المُمثّلة في الفتن وتيّار المُجتمع المنجذب للمذاهب الغربيّة المُختلفة، وهذا جهاد طويل يتطلّب منك الصبر والمُصابرة والمُرابطة حتّى تُصبح مُسلمًا قويّا عاملاً بدينك صادعًا بالحقّ الذي معك لا تخشى أحدًا إلاّ الله، ولا ترجو رضا أحدٍ إلاّ الله مُخلصًا له وحده.

فإذا التزمنا بذلك -أفرادا- فكيف ستخرج الأمّة من وهنها وضعفها، وكيف سينتصر المسلمون ويُدافعوا عن مُقدّساتها؟!

إن العقيدة السّليمة تجعل المؤمن قويّ الشخصيّة يُظهر دينه بدون حرج أو خجل منه لأنّه على يقين بالحقّ الذي يملكه، فلا يسكت على ظلم أو فجور، بل يسعى للإصلاح قدر استطاعته بالكلمة أو الفعل وسيكسر قيود الذلّ التّي تفرضها الحكومات وسيطالب بالكرامة والعزّة والعدل وتحكيم شرع الله وجعلها قوانين منظّمة للحياة.

لن يرضى المسلم أن يتولّى أمره حكومة توالي أعداء دينه، أو تطبّع مع الفساد والانحلال، وسيكون هو الرّقيب عليها في كلّ قراراتها ومواقفها وانجازاتها، ولن يرضى صاحب العقيدة الرّاسخة بالغوص في اختلافات فرعيّة تؤدّى به إلى الاعتداء على أخوه المُسلم أو تكفيره واستباحة دمه، بل سيسعى لتوحيد الصّفوف والعمل على التّغيير والتقدّم ولن يُحاول إيذاء أخيه المُسلم أو تسليمه لعدوّ أو الغدر به بل سيسعى لحماية دمه وماله وعرضه ولن تكون له في ذلك مصلحة دنيويّة بل هدفه أن يُقيم الإسلام في الأرض ويُحقّق وظيفة الخلافة فيها.

سيسعى المؤمن الصادق لتعليم من حوله العقيدة الحقّة ونشرها داخل مجتمعه من أجل إنشاء جيل جديد يحمل قضايا الأمّة وينتصر لدينه، عملا بقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ مِنكُمۡۚ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} [الأنفال: 74].

لا يرضى المؤمن بالسلبيّة بل يبذل ما يستطيع من جهد لنصرة دينه، ولا يرضى بأن يكون من الخوالف، بل يُبادر لتحقيق النّهوض وإعادة بناء حضارتنا الإسلامية، ويبدأ التغيير بنفسه فيهجر المعاصي والمنكرات والاستبداد والظلم والفتنة، وإن لم يقدر على مواجهة ذلك كله، فإنه يجاهد نفسيًّا ومعنويا للثبات على الحقّ، أما الجهاد الفعلي فيكون بمقاومة كلّ مظاهر الفساد، والجهاد القتالي يكون بنصرة إخوانه ودفاعه عن مُقدّساته، وهذا كله مرتبط بالعقيدة.

وبالتنشئة على هذه العقيدة يكون هناك مديرون وموظفون ومسؤولون في مختلف المؤسّسات السياسيّة والإعلاميّة والعلميّة والعسكريّة، بإيمانهم وصدقهم، يسعون للتغيير وتحويل الأمّة إلى قوّة ذات وزن وهيبة تُحترم قراراتها ولا يجرؤ أعداؤها بالمسّ من أراضيها ومقدّساتها. وستصبح الأمّة مُستقلّة بذاتها صناعيّا واقتصاديّا ولن يأتى ذلك من فراغ بل علينا كأفراد العودة للمنابع الصّافية للعقيدة والأخذ منها وتحمّل المشاق لذلك.

فلا تيأس ولا تحزن بل ابذل ما استطعت من وقت وجهد، وسيأتي النّصر والتّغيير بإذن الله، فنحن مسؤولون عن العمل والأخذ بالأسباب، أمّا النّتائج فهي لله ومنه وحده.

لماذا نحتاج إلى علوم إنسانية وليدة مجتمعاتنا الإسلامية؟ علم الاجتماع نموذجًا

عندما نتحدث عن خصوصية الهُوية الإسلامية وما تحويه من ركائز تُشكِّلها مثل الدين والثقافة واللغة وغيرهم، فإننا نتوقع -بداهةً- أنّنا نمتلك علومًا إنسانية منبثقة من هذه الركائز وناتجة عن امتزاجها، إذ إنّ أثر مكونات الهوية في أي أمة يجعل لأفرادها ومجتمعها سمات متمايزة عن غيرها، وهذا لا يتنافى مع وجود تشابك مع مجتمعات أخرى بسبب المشترك الإنساني لكل الحضارات والاعتلاج الحاصل بينهم، ولكننا لا نجد حتى الآن منهجًا متمايزًا ناضجًا وليد مجتمعاتنا، واصفًا لها وهو ناظرًا إليها بعينها لا بعيونٍ أجنبية عنه.

لذا سنعرض نموذجًا في هذا المقال يُبلّور هذه الإشكالية ويوضح مدى عمقها، ولعلنا نرى قريبًا بإذن الله مناهج ناضجة نابعة من مجتمعاتنا.

مقدمات واحدة.. نتائج مختلفة!

في القرن الماضي وأثناء الحروب التي وقعت في منطقتنا العربية، تعرضت إحدى المدن لمخاطر كبيرة بسبب الحرب، فتم تهجير أهلها قسرًا إلى مدن أخرى أكثر أمانًا، وبعد سنوات من المعركة، هدأت المدينة وعادت إلى السكون، ولكن معظم أهلها الأصليين آثروا البقاء في المدن الأخرى بعدما تدبرّوا حياتهم فيها واستقروا.

وقامت الدولة بإعادة إعمار هذه المدينة، وبسبب تميزها الجغرافي وكثرة الموارد فيها؛ تحولت إلى مدينة صناعية بامتياز؛ مما شجع الكثير من الشباب على الانتقال إليها في هجرة عكسية من مدنهم، وبنوا حياتهم فيها وجاؤوا بزوجاتهم ليستقروا ويكملوا حياتهم في هذه المدينة. وإذا توقفنا عند هذه النقطة في رصد التغيُّرات التي حصلت في هذه المدينة جرّاء الحرب وحاولنا تحليل طبيعتها وطبيعة من يعيشون فيها، سنجد بعض المعطيات تؤول إلى بعض النتائج.

أما المعطيات، منها:

١- مجتمع نووي، فغالب الأفراد انتقلوا دون عوائلهم وبالتالي فإن أسرهم مقتصرة على الزوجين والأبناء.

٢- مجتمع صناعي، فالمسار الاقتصادي الغالب في هذه المدينة هو الصناعة والإنتاج.

٣- تجمعات سكنية متباعدة بسبب طبيعة توزيع الشركات والمصانع في المدينة.

وأما النتائج المتوقَعة من هذه المعطيات تتمثل في:

١- إن التباعد السكني والأسر النووية يحفز على الانعزال الاجتماعي ويصعب التواصل بين الأفراد، مما يعزز من جنوح النزعة الفردانية في هذا المجتمع والتمحور حول الذات، وتقلص المروءة في هذا المجتمع.

٢- طبيعة النشاط الصناعي يعطي طابعًا ماديًا تعاقديًا لهذا المجتمع، حيث إنّ النظام الرأسمالي هو المهيمن على هذه الشركات، مما يدفع إلى الإنتاج المادي المحض بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى.

ولكننا عندما ننظر إلى هذه المدينة ونرصد المخرجات الإنسانية السكانية الناتجة عنها؛ سنلاحظ بجلاء قدرًا كبيرًا من المروءة والتشارك الاجتماعي بين أهلها بشكلٍ عام، وأن الحفاظ على الأطر الأخلاقية فيها جليٌ أكثر من مدن أخرى لا تملك هذا التنوع السكاني، وأن نسبة التدين فيها مرتفعة.

مما يجعلنا نتساءل: لماذا اختلفت النتائج رغم وحدة المقدمات؟ فلو كانت هذه المدينة في المجتمع الغربي لكانت المآلات المتوقَعة لهذه التركيبة الاجتماعية صحيحة تمامًا، وكذا متناغمة بشكل واضح مع فرضيات علم الاجتماع الذي نبع من مجتمعاتهم، ومع السمت العام للإنسان الأوروبي المعاصر، فهذه المقدمات عندما تندمج مع مجتمع نُظِم من هذا الفرد؛ سيؤول إلى هذه النتائج.

وهذا المشهد يفرض سؤالًا يجب أن ننتبه إليه: ما الذي جعل النتائج مختلفة؟

وقبل أن نجيب على هذا السؤال، يجب أن نذكر أنّ علم الاجتماع عندما يقوم بدراسة مجتمع بشري ويرصد الظواهر التي فيه ليصل إلى مصطلحات عامة ناظمة لهذه الظواهر يمكن القياس عليها والتصوُّر له من خلالها، علينا أن نعي أنّ هذه الظواهر -أو النتائج- ما هي إلا نتيجة امتزاج مقدماتٍ ما بمجموع أفراد هذا المجتمع، وبسبب التشارك الثقافي والديني والعرفي بين غالبية الأفراد؛ فإن غالب النِتاج الذي ينبثق عن هذا الامتزاج يكون على قدرٍ كبيرٍ من التشابه، أي أننا يمكن أن نعتبر أنّ التركيبة النفسية للأفراد تُمَّثِّل الوعاء الذي يُشكِّل هذه المقدمات ويعطيها طابعًا معينًا، مما يعني أنّ تلك المقدمات لا تؤول بالضرورة إلى نفس النتائج أو أنها تتمظهر بشكلٍ أحادي في كل زمان ومكان، بل تدخل في وعاء المجموع البشري لهذا المجتمع بخصوصيته فتخرج شبيهة لهذا الوعاء.

لذا فقد كان التباين الكبير في التركيبة النفسية لمجموع أفراد مجتمعاتنا عن المجتمع الأوروبي سببًا مركزيًا في خروج نتائج مختلفة تمامًا، إذ إنّ الإطار الديني والأخلاقي العام جعل مقدمات الغربة والانفصال عن العائلة الممتدة حافزًا لسد هذا الشعور عند النفس والآخر، وبشكلٍ غير مُعلَن عمل الجميع على مؤازرة الآخر وتلقي ذات الدعم منه والسير في حوائجه، وكذا الإطار الأخلاقي الذي يشجع على المروءات وأصحابها كان عاملًا ممتازًا في حدوث تلك النتائج، وكذا القيم التي حث عليها الإسلام كالإحسان إلى الجار وإكرام الضيف ومعايدة المريض واتباع الجنائز وصلاة الجماعة وغير ذلك من السمات الأخلاقية الاجتماعية في الإسلام التي تعزز من الروابط الاجتماعية.

وكذا كسرت قيم الرحمة والكرم وفضل الصدقة والحث على العطاء من الطابع المادي الرأسمالي، فكان العمل في تلك الشركات والمصانع من باب تحصيل الرزق دون الانغماس في المحركات الفكرية خصوصًا في الصناعات الإنتاجية الكبرى.

لذا فإنّنا ندرك من خلال التعريج على هذا النموذج أنّ استيراد العلوم الإنسانية من أمة أخرى وإنزالها على واقعنا يعني تمامًا أننا نطمس أوعيتنا المتمايزة، فبدلًا من دراسة المقدمات الخاصة بنا، ودراسة التركيبة النفسية لمجموع أفراد مجتمعاتنا لنخرج بنتائج ندرك من خلالها شكل الوعاء الخاص بنا الذي يمكننا تفسير معظم ظواهرنا الاجتماعية من خلاله، نذهب ونأخذ نتائج خرجت من وعاء مغاير لنا تمامًا، ناتجٌ عن مقدمات متباينة، ممتزجة مع نفسيات أفراد لها خلفيات ثقافية وأخلاقية ودينية مغايرة لنا!

هل تكمن المشكلة فقط في القراءة الخاطئة لمجتمعنا؟

إنّ إشكالية القراءة الخاطئة لمجتمعنا وإنزال نتاج مجتمع آخر عليه هو جانب من جوانب الإشكاليات التي تواجه هذا الموضوع، حيث إنّ الأمر أحيانا لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتعداه ليجعل من هذه “القراءة” والتوصيف نتائجَ يُتعامل معها كحقائق علمية مطلقة يبني عليها رؤى أخرى، فالحاصل أنه يُنظِّر حول مجتمع لا وجود له في واقعه، بل منبثق عن امتداد ذهني أوروبي.

كيف يمكننا أنّ نُنضِج مناهجنا الإنسانية الخاصة؟

بدايةً وقبل الحديث عن الخطوط العريضة التي يمكن أن تفيد في هذا الصدد، يجب أن نذكر أنّ واحدًا من أهم مؤسسي علم الاجتماع هو العالم المسلم ابن خلدون في مقدمته البديعة، والتي وضع فيها أسس البحث الاجتماعي التحليلي المنهجي للمجتمع، وربط بين عناصره، وسبر مراحله، مما يعني أنّ لنا جذورًا عميقة ضاربة في هذا العلم وتاريخه، والسهم الأول فيه خرج من قوسنا، فعندما نستحضر هذا الملمح التاريخي لهذا العلم؛ تُنزَع من صدورنا هيبة خوض غمار هذا الحقل، وتعيد إلينا الثقة في القدرة على إنتاج مناهج إنسانية متناغمة مع مجتمعاتنا، وابتكار وصك المصطلحات التي تصفنا بدقة، مستوعبة الصورة الكاملة المتمثلة في المقدمات الممتزجة بمجموع نفوس الأفراد ومنعكسة على الواقع الاجتماعي، لذا نقول إنّ أولى الخطوات التي نسلك بها هذا الطريق هي استعادة الثقة في العقل المسلم الذي يستطيع أن يلاحظ ويحلل، وينتج أفكارًا، ويصك مصطلحات، ولا يكون مرتهن الفكر لثقافات ذات واقع إنساني مهترئ، ولا يشعر بالوصاية الفكرية للمناهج الغربية، بل يتعامل معها تعامل الباحث المنصف مع أي منتج فكري يصل إليه، فإنه يزنه ويقيمه تبعًا لمرجعية الوحي التي ينطلق منها، يأخذ ما ينتفع به ولا يتعارض مع مرجعيته، ويرد ما تعارض مع أصوله أو طبيعة مجتمعه.

أما الخطوة الثانية فتتمثل في قراءة المجتمع قراءة شمولية متجردة من قوالب أو فرضيات مسبقة تؤدلج تلك القراءة، فيتم استيعاب كافة المقدمات التاريخية والإرهاصات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي شكلت الواقع الاجتماعي، وكذا دراسة المقدمات المتمثلة في الأطر الدينية والأخلاقية والعُرفية التي أثرت في التشكيل النفسي لمجموع الأفراد، وكذا التباين الجغرافي الواقع في بلادنا ومدى تأثيره على طبيعة سكانه ونشاطهم الاقتصادي، وهناك العديد من الدراسات التي دارت حول موضوعات منتمية لهذا الحقل البحثي يمكن توظيفها والاستفادة منها لبلورة هذا المشروع.

أما الخطوة الثالثة تتوجه نحو الإنتاج المنهجي الذاتي، وذلك عن طريق ملاحظة وتحليل نِتاج المرحلة الثانية، ومن ثَمّ معرفة الخصائص الاجتماعية لمجتمعاتنا وما يميزها، وكذا طريقة التواصل الاجتماعي بين الأفراد، والأنماط المتكررة فيه، مما يُمكّننا من صك المصطلحات الخاصة بنا والناظمة لطبيعة مجتمعاتنا، ثم صياغة مناهج اجتماعية متكاملة تكون حقًا من جذورها نابتة من أرضيتنا وطبيعتنا وخصوصيتنا.

هل يمكن استصلاح (أسلمة) علم الاجتماع ليناسب مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟

يمكن القول بأن “استصلاح” هذه العلوم بإضفاء غطاء إسلامي عليها سيحدث إشكالًا جديدًا، لأن الأمر _كما ذكرت آنفًا_ متعلق بالأسس التي بُني عليها هذا العلم، فمساحة الاستفادة من المناهج الغربية _أو الأجنبية عمومًا_ في العلوم الإنسانية أضيق من العلوم التجريبية، لأن مناط بحثها هو الإنسان الذي تتباين طبائعه من ثقافة إلى أخرى، ولأنها علوم لها قدر كبير من الخصوصية مبنية على طبيعة كل مجتمع وما يحويه من دين وثقافة وتاريخ، وتمتلك قابلية عالية للتأثر بالأفكار والفلسفات المختلفة بل والاندماج في قوالبها أحايين كثيرة، لذا فمن غير المعقول اعتبار أنّ إعادة صياغة بعض المصطلحات أو إضفاء ألفاظ من حاضنتنا الثقافية سيكون كافيًا لجعل هذه المناهج والفرضيات ملائمة لنا، ويبقى هناك مشترك إنساني عام يحوي جوانب يمكن الإفادة منها، وتكون تلك الإفادة بعد ترسيخ القواعد الخاصة بمجتمعاتنا، فلا يتحول الأمر من تنوع وتواصل حضاري إلى ذوبان حضاري، فيمكن الاطلاع على علم الاجتماع الغربي وتتبع تطوره التاريخي للاستفادة من التجربة وبعض المشتركات الإنسانية العامة كما ذكرنا، لكن يجب أن يكون علم الاجتماع الإسلامي منبثق عن مجتمعنا، نابعٌ أصالةً منه.

أسأل الله أن يبلغ هذه الأمة رشدها.

الكوميديا السياسية والمعارضة

لا يخفى على أحد أن غالبية الأنظمة السائدة في البلدان العربية لا تلبي من طموحات شعوبها إلا النزر اليسير، فالفقر والبطالة والفساد وعدم الاستقرار السياسي ومشكلة الكيان الصهيوني الكامن بين جنبي العالم العربي وغيرها من القضايا تخلق الفجوة بين الحاكم والمحكوم في بلداننا، والمعارضة التي ينبغي أن تكون جزءًا أساسيا من أي جسم سياسي قائم تبدو مهمشة وضعيفة في معظم هذه البلدان، ومطارَدة ومضطهدة وملاحَقَة في بلدان أخرى ومهادِنة ومتملقة في ثالثة حسب طبيعة النظام الحاكم في كل بلد، ولكل من هؤلاء وسيلته في توجيه الانتقاد والفكرة الرافضة للاستبداد، سواء كانت جادة أو كوميدية، في قوالب متعددة من المقروء والمسموع والصورة المرئية.

ليسوا سواءً

الجهات المعارضة للأنظمة الحاكمة تختلف أهدافها، وتبعا لذلك تختلف الوسائل التي تستخدمها في سبيل تحقيق ما تصبو اليه، فبعض المعارضة يكون هدفها إسقاط الأنظمة وصناعة أنظمة جديدة على أنقاضها، وأخرى تنادي بإجبار الأنظمة القائمة على إحداث الإصلاحات والتغييرات وآخرون لا يحسبون على أية جهة معارضة وإنما هم مثقفون أو فنانون يبثون أفكارهم بوسائلهم الخاصة.

كثيرون ينظرون إلى الفن باعتباره وسيلة تحريض ناجحة تستهدف وعي الجماهير التي هي منبع التغيير ودافعه، والفن بأنواعه الجادة وصولا إلى البرامج الساخرة خادمة لتحريض هذا الوعي وتوجيهه.

ما يهم هنا هو القالب الكوميدي الذي يقدم فيه هذا الفن، فهل يكفي لتحريك الجماهير؟ سنأخذ نماذج متعددة -دون ذكر أسماء- ممن كانوا في صفوف بعض المعارضات العربية، ثم نتيجة البطش الذي تعرضوا له اختاروا الهجرة من أوطانهم واستكمال مشروعهم المعارض، وهؤلاء يطلون على جماهيرهم من خلال اليوتيوب وغيرها من المنابر الإعلامية، البعض منهم نجح في تقديم أفكاره من خلال المشاهد الكوميدية والفواصل القصيرة، مما صنع لهم شعبية كبيرة لدى الجماهير العربية.

بالرغم من الضغوط الهائلة التي يتعرضون لها من تهديد بالقتل واعتقال لأفراد أسرهم إلا أن بعضهم ما زال منذ سنوات يبذل أقصى ما يستطيع دون أن نلمس تغييرا على أرض الواقع، فأغلب الناس ينتظرون هذه النوعية من البرامج مثلها مثل أي برنامج أو مسرحية كوميدية، يتابعونها بينما يحتسون أكواب الشاي والقهوة، ويقضمون المكسرات، يضحكون على ما يعرض أمامهم من أحداث مؤسفة تجري في بلادهم، ثم ينتهي البرنامج وينتهي معه الحماس ولا يترك أثرا ملموسًا على أرض الواقع.

ما السبب؟

السبب معروف، ذلك أن المعارض الذي يختار قالبا كوميديا لنشر أفكاره إنما يقوم بالتنفيس عن مشاعر الناس المكبوتة بدل حشدها للقيام بحراك واعٍ، فبعد الضحك والقهقهات يتولد لديهم شعور أن الدنيا بخير وأن الأمور سوف تسير نحو الأفضل دون مناقشة التفاصيل والكيفية. وقد ينجح شعار ساخر أو أغنية متهكمة في لفت أنظار الجماهير إلى وجود مشكلة ما ولكن هذا غير كاف لجعلهم يطلقون الوعي من عقاله.

أستشهد هنا بمقولة لـ د. علي الوردي في كتابه مهزلة العقل البشري “الناس لا يثورون من جراء ظلم واقع عليهم، إنما يثورون من جراء شعورهم بالظلم، فالشعور بالظلم هو أعظم أثرا في الناس من الظلم ذاته. إن الناس لم يثوروا على الطغاة الذين سفكوا دماءهم وجوعوهم وسلطوا الجلاوزة عليهم يضربون ظهورهم العارية بالسياط، ذلك لأن الناس قد اعتادوا على ذلك منذ زمن مضى وألفوه جيلا بعد جيل، فهم يحسبونه أمرا طبيعيا لا فائدة من الاعتراض عليه، ولكنهم يثورون ثورة عارمة عندما تنتشر بينهم مبادئ اجتماعية جديدة فتبعث فيهم الحماس”.

إذًا، لا بد من إقناع الناس بأن ظلما قد وقع بالفعل عليهم من أجل حملهم على الثورة الواعية والمطالبة بالإصلاح، وهذا لن يحصل جراء حضور مسرحية ساخرة أو الاستماع إلى أغنية فحسب.

لننتقل إلى شهادة من أحد كبار الفنانين الذين يعتبرون من رواد المسرح السياسي الساخر، وهو السوري دريد لحام، حيث عبّر عن تفاصيل الفقر والتهميش في حياة الناس في كثير من أدواره، ففي مقابلة نشرتها له صحيفة الشرق الاوسط عام 2006 يقول لحّام “الفن لا يمكن أن يغيّر عقل الإنسان، فهو لم يحول إرهابيًّا للتفكير لثوان، ولم يحول دكتاتورا إلى ديمقراطي، وفي الواقع فإن الفن لا يفعل الكثير سوى التسلية”

هذا ما اكتشفه الممثل بنفسه بعد رحلته الطويلة، إن الفن والكوميديا لن تصنع حدثا أو تصنع فارقًا، ويؤكد دريد نفسه فيقول: “اكتشفنا، ربما في وقت متأخر أن الفن ليس له قوة الشرطة، يمكن أن يجبرك على فعل شيء، ولكن الجمهور يعتبر ذلك شيئا يستحق الضحك”

فبكى حتى ابتلت لحيته!

في العصور السابقة كان كثير من السلاطين -خاصة الفاسد منهم- يواجهون موعظة العالم والفقيه بالكثير من اللين، فينصت للعالم وهو يعظه ويذكره بضرورة إقامة العدل وحفظ حقوق الرعية وتقوى الله… فيذرف السلطان الدموع تأثرا بما سمع ثم يأمر للعالم بأعطية كبيرة ولكنه ما يلبث أن يعود إلى ما كان عليه من الفساد والجور.

في زماننا هذا تغيرت أساليب السلطان في احتواء من يوجه له النقد حتى لو كان على شكل نكتة، فنرى السلطان يحمي ويساند الفنان الذي يمكن استخدامه كأداة لتنفيس الاحتقان لدى الشعب، وأما الفنان المشاغب الذي يشكل خطرًا أكبر أو ممن ينتمون إلى ما يسمى بالمسرح التحريضي فالسلطان لا يعدم وسيلة لاحتوائه، قد يستمع لرأي مستشاريه فيذهب إلى المسرح لحضور عرضه الساخر والناقد، يجلس مع زوجته في الصف الأول من مقاعد المتفرجين يبتسم ويصفق وهو يسمع شتمه بأذنيه ثم في النهاية يتقدم طاقم العمل للسلام على سلطانهم والتقاط الصور التذكارية مع بعضهم البعض، ليثبت السلطان للجماهير أن ما يقدم على المسرح إنما يُقدَّم برضاه وموافقته، ويبقى كل شيء على ما هو عليه، لا أسعار السلع ستنخفض ولا العاطلون عن العمل سيجدون عملا يحفظ كرامتهم ولا الانتخابات ستكون نزيهة، ويبقى السلطان سلطانا ملء السمع والبصر، “بل إن انتقاداته لم تفعل شيئا سوى تحويلها إلى لعبة في أيدي رجال السلطة، وإن الدكتاتوريين يحبون الإشارة إلى حرية النقد كوسيلة للدفاع عن أنفسهم ضد الاتهامات بأنهم يقمعون حرية التعبير، لقد شعرت بخيبة أمل، كنا نفكر بأن العمل الفني يمكن أن يصدم ويغير، ولكن كلّا، فالعمل الفني هو تسلية في نهاية المطاف حتى إذا كان انتقاديا” [مقابلة مع دريد لحام].

صحيح أن الفن أصبح أمرا واقعا في هذا العصر، وهو سلاح يمكن استخدامه لمواجهة حملات التغريب، إلا أن استخدام الفن وخاصة الكوميديا كأداة للمعارضة في مواجهة السلطة فهذا -في رأيي- لا يقدم ولا يؤخر، فعملية التغيير السياسي أو الإصلاحات الحقيقية في بلداننا ليست سهلة، وينبغي أن تكون أدواتها جادة، على قدر جدية الأهداف المرجوة وأهميتها.

الامتلاء النفسي.. هل من سبيل لنتجاوز فراغنا وهشاشتنا النفسية؟

أستهل هذا المقال بالتساؤل: لماذا نتحدث عن الامتلاء النفسي والفراغ النفسي؟ يصف أحدهم حالنا بأننا مثل الكراسي الهزازة نتحرك كثيراً.. إلا أن هذه الحركة ثابتة في مكاننا. إضافة إلى أن هناك تغيرًا ملحوظًا في نوعية الحالات النفسية التي ترد للعيادات وللمختصين، وتغير واضح في نوع الشكوى التي يعبر عنها الناس من غير المراجعين.

هذا التغير كان من اضطرابات نفسية تقليدية محددة كالاكتئاب والوسواس والخوف المرضي مثلاً إلى شكاوى عائمة غير واضحة المعالم، إلا أن محورها هو: فقدان الأنا، والشعور بالفراغ، والركود والتشتت، والافتقار إلى هدف أو خسران الاحترام الذاتي[1].

وفي الغالب فإن أعراض هذه الشكوى مجملة في ثلاث جوانب، بدءًا من مستوى المعنى، ثم المستوى المعرفي، ثم المستوى الشعوري.

المشاعر كدليل

أَمَّا أَنت
فالمرآةُ قد خَذَلَتْكَ
أنْتَ… ولَسْتَ أنتَ، تقولُ:
(أَين تركت وجهي؟)
ثم تبحثُ عن شعورك، خارج الأشياءِ
بين سعادةٍ تبكي وإحْبَاطٍ يُقَهْقِهُ[2]

في الغالب فإن المشاعر هي المفتاح الذي يدرك الإنسان من خلاله أن ثمة خطباً ما، وأنه يشعر بالفراغ أو الخواء. وهو قد يسلك أحد المسلكين الشعوريين: إما الغرق أو تسطيح المشاعر. فإما أن يشعر بأن هناك كثافة مشاعرية من حيث عدد المشاعر التي تعتريه وثقل محتواها، فهو غير قادر على التعامل مع هذه الكثافة الشعورية لأنها تتجاوز قدرته النفسية المتخيلة أو ما يعرف بـ (شعور الغرق). أو أن يشعر بخلو الإحساس وأنه غير قادر على الشعور بشيء، فهو عاجز عن الإحساس بالفرح حقيقة وعيش الحزن حقيقة وهو ما يعرف بـ(تسطيح المشاعر).

وإن أردنا فهم سبب هتين الحالتين فلا بد من تحليل طبيعة أهم العوامل التي تلعب دوراً كبيراً في حياتنا وتداخلت مع كثير من لحظاتنا الشخصية وهي منصات التواصل الاجتماعي.

مدخلات كثيرة ومشاعر متداخلة

عرض الأخبار والأحداث في منصات التواصل الاجتماعي يكون متداخلاً، فلا نجد منصة خاصة بأخبار الحزن فقط وأخرى بأخبار سعيدة فقط، فلا يمكن أن تكون الصفحة الرئيسية التي نقلب فيها الأخبار لأي منصة متناسقة ومتناغمة في مضمونها فهي تحوي الخبر حزين الذي يتبعه الخبر المضحك، يتبعه خبر كارثة في أقصى الأرض، ثم تتبعه نكتة.. وبالتالي فإن المدخلات إضافة لكثرتها فإنها ذات مضمون شعوري متداخل لا يعطي القارئ فرصة بأن يدرك شعوره تماماً أو يقف عند مقاصده وأبعاده.

 إن القارئ لا يعيش إلا لحظة من لحظات استهلاك الصورة ويتجاوزها بعد ذلك نحو البحث عن موضوع آخر للاستهلاك الحسي؛ ومن ثم فقدنا الصلة مع مشاعرنا وتكونت فجوة بيننا وبينها وبين ذواتنا، لأن مشاعرنا هي أهم ما يدلّنا ويقربنا من أنفسنا ويعرّفنا بها، فهي تشير لنا إلى ما نحب وما نكره، وتحديد أولوياتنا ومبادئنا وقيمنا ودوافعنا.

 

مدخلات كثيرة ومشاعر مستهلَكة

هناك مصطلح يسمى استهلاك المشاعر أو تعب التعاطف (Compassion Fatigue)[3] وهي ظاهرة نفسية شائعة يصبح فيها الفرد مخدرًا للحوادث المأساوية نتيجة رؤيته بشكل متكرر. ومع تعدد الصدمات المعروضة والأحداث المأساوية وتكرار صورها على المتصفح عبر منصات التواصل الاجتماعي تصبح مشاعره مستهلكةً، ويبدأ بممارسات انطوائية غريبة؛ في محاولة منه الحفاظ على ما تبقى من رصيد مشاعره. فغدت الصورة مجرد موضوع للرؤية والتفاعل الحسي المحدود في الزمان والمكان، فانقطع الرابط الذي يوصلها بالعقل والضمير. وخلقت ثقافة تطبيع المأساة أو الكارثة حيث إنها لا تؤثر بالدرجة الكافية على الحالة الشعورية لمن يتلقى خبرها، وإن تأثر فقد يستبعدها عن نفسه ويستبعد علاقتها مع مساحته الشخصية.

المعرفة كأساس.. معرفتنا عن ذواتنا وعن العالم

لنبدأ بهذا السؤال: بأي معيار يمكن أن أعرف نفسي؟

إن معرفتنا لذواتنا وبناؤنا لقيمتها لا بد أن يعتمد على مرجعية ما، وهذه المرجعية قد تكون معايير الآخرين وقد تكون فكرة خارجية كالدين، ولا يمكن للإنسان أن يكون معياراً لنفسه، وكذلك لا يمكنه ألا يمتلك معياراً البتة، فبهذه الحالة سيُفرَض عليه المعيار فرضاً دون أن يدري، كما هو الحال في السابق، حيث كان معيار الآخرين قديماً متعلقاً بالنسب، وقد سعى الإسلام لتغييره إلى معيار العلم والعمل الصالح بدلاً من النسب. فقال رسول الله ﷺ: (مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه) [صحيح ابن حبان]. فصار المعيار الديني هو من يحدد مفاهيم النجاح والفوز والفلاح وبالمقابل الخسران والإفلاس. وقال ﷺ: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وَقَذَفَ هذا، وأكل مال هذا، وسَفَكَ دم هذا، وضرب هذا) [صحيح مسلم].

إلا أن العمل بمفهومه الحديث مرتبط بالرأسمالية والثقافة الاستهلاكية، وقد صار مؤخراً هو المعيار العام الذي يعد مرجعاً لقياس الأمور ووزنها. ومفهوم العمل هنا مرتبط بالإنتاج الاقتصادي. وبناء على ذلك فإن معرفة الذات تقزّمت لتعرَف بناء على المهنة أو الوظيفة وكذلك الشهادات الأكاديمية. وأصبحت مصطلحات مثل الإنجاز والنجاح والفشل والسعادة مفاهيم مطلقة، بمعنى أنها صارت تعني معنى موحداً لدى الجميع، فمن لم يلتزم به فاته خير كثير.

منصات التواصل الاجتماعي ونظرية المقارنة

تحدت ليون فستنغر صاحب نظرية المقارنة الاجتماعية[4] عن تعريف الشخص لذاته وبنائه لقيمته، وأشار إلى أن البشر لا يستطيعون تعريف أنفسهم بشكل جوهري أو مستقل، بل بناء على المقارنة بشخص آخر. وعندما يتعلق الأمر بالمسائل الكبرى المتعلقة بالهوية والذات، فالفرد بحاجة إلى النظر إلى أشخاص آخرين. وهنا فإن منصّات التواصل الاجتماعي كثفت مبدأ تقييم الذات من خلال الآخرين. ويمكن تسمية ما تقوم به هذه المنصات بأنه تعريض للذات وانكشافها على تجارب الآخرين. وبالتالي فإن الذات الفردية تقيم تقدمها وسعادتها وجمالها بناء على ما تراه لدى الآخرين. وهذا يزيد مشاعرها بالتذبذب وعدم الرضا وعدم الوصول، فالمعيار بحد ذاته متذبذب ومتغير.

ليون فستنغر

في سياقات غير دقيقة.. كيف شاعت اللغة النفسية؟

قد يلاحظ السامع لطريقة التعبير عن المشاكل والضغوط التي يواجهها الناس في هذا العصر أنها مختلفة عن الطريقة التي اعتادها الناس قبل عدة عقود قليلة من الزمن. حيث شاعت بعض المصطلحات النفسية بين الناس غير المختصين وصارت أكثر استخداماً للتعبير عن المشاعر والخبرات الشخصية.

تكمن المشكلة في أن هذا الاستخدام ليس بالضرورة أن يكون دقيقاً أو مناسباً للسياق الذي يتم استخدامها فيه، فاتسمت بالتبسيط المخل.

مثال على ذلك كلمة (الصدمة)، فهي في كثير من الأحيان تستخدم للتعبير عن المرور بضغوطات معينة. وبالمقابل فثمة قاعدة دقيقة تقرر بأن المرور بصدمة يعني المرور بضغط، لكن المرور بضغط لا يعني بالضرورة المرور بصدمة نفسية.

وكذلك مصطلح الاكتئاب الذي صار يستخدَم مرادفًا لمشاعر الحزن. وفي هذا السياق فإن العديد من الأبحاث النفسية توضح أن هناك علاقة مهمة بين اللغة التي نستخدمها والمشاعر التي نطورها، والطريقة التي نتعامل بها مع مشاعرنا أيضًا.

فاستخدام المربّين لمصطلحات شعورية متعددة مع الأطفال -مثلاً- يتنبأ بالقدرة على فهم المشاعر وقدرات التنظيم الذاتي في مرحلة الطفولة اللاحقة[5].

وفي بحث آخر أجري على أشخاص في مرحلة الرشد، تبين أن استخدام كلمات متعددة للتعبير عن مشاعر مختلفة يغير من طريقة إدراك المشاعر، من طريقة التعامل معها وحتى من طريقة تفاعل الدماغ معها[6].

آثار حملة نزع الوصمة الاجتماعية

الكثير منا سمع في الفترة الأخيرة بمفهوم الوصمة Stigma وهي نظرة المجتمع السلبية لمن يقوم بمراجعة طبيب نفسي أو يعاني من اضطراب نفسي. وشهدت الفترة الأخيرة حملة علمية واجتماعية لنزع هذه الوصمة وجعل الاضطراب النفسي أمراً طبيعياً -فاشتهرت جملة المرض النفسي مثل المرض العضوي- ومراجعة الطبيب النفسي أمراً متقبلاً. وقد أفرزت هذه الحملة عدداً من النتائج والآثار الأخرى، فبالطريق لنزع الوصمة توسعت دائرة اللاسواء وضاقت دائرة السواء. فصار من الممكن أن يسوّق لبعض المشاكل الطبيعية بأنها اضطراب نفسي قد يفوق قدرة المرء وتستلزم مساعدة وتدخلًا خارجيًّا. وتم تجاهل قدرة الإنسان الطبيعية وآلياته الطبيعية (مثل الدعم الاجتماعي، ونمط الحياة اليومي كالرياضة والروتين والغذاء المناسب) أو ما يسمى بالاتزان الداخلي equilibrium الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يتكيف وأن يتجاوز المشاكل والصعوبات التي تواجهه.

معرفتي عن العالم.. بين الحياد والاستقطاب

نشر كتاب عام 2017 للكاتبة Jean Twenge كتاب مهم عنوانه (جيل التقنية: لماذا يكبر أطفال اليوم أقل ثورية وأكثر تسامحاً وأقل سعادة وغير مؤهلين لمرحلة الرشد)[7]، والعنوان ذاتُه يعكس صفات يحملها جيل اليوم، خاصة طبيعة الآراء التي يتبنونها. فالتوجهات في العالم سلكت أحد مسارين: إما الحياد وإما الاستقطاب.

يقصد بالحياد أن الفرد أصبح أكثر ميلاً للانكفاء على قضاياه الشخصية فغابت قضايا الأمة الكبرى عن مخيلته وغابت معاني مثل النضال الحقوقي والصراع الطبقي والتدافع الأممي. وبرزت مفاهيم التنمية البشرية مثل تطوير الذات والتركيز على الطموحات الشخصية. فظهر التدين الفردي الذي أبعد عن ساحته الاهتمام بالمجتمع وقضاياه.

أما الاستقطاب فإن لمنصات التواصل الجتماعي مرة أخرى دوراً أساسياً في تشكيله. فالفرد على حسابه الشخصي على الفيسبوك مثلاً يستطيع تشكيل مجتمعه الذي يريد من خلال انتقاء جمهوره وأصدقائه واستبعاد أي رأي أو شخص لا يعجبه. وهكذا الآراء تتشابه على صفحة الأخبار الرئيسية التي يقلبها وهي بالأصل تشبه رأيه فيزيده تأكيداً. وقد يحصل تحيز معرفي يسمى Confirmation bias أي أن الإنسان يميل لتشكيل رأي موافق لرأي المجموعة التي هو فيها ليتجنب شعور النبذ ويشعر بالانتماء ولو كان هذا الرأي هو الأقل منطقياً وصواباً بالنسبة له.

المعنى .. منطلَقٌ وغايةٌ

مآل الفراغ الشعوري والمعرفي والنفسي هو أن يتحول إلى فراغ في الجواب على أسئلة وجودية ملحة تطرح نفسها على شكل ما الغاية من وجودي وما الغاية مما أفعل؟

وهنا حاول العالم الحديث أن يقدم الاستهلاك والترفيه كجواب حداثي للأجوبة الوجودية. فأهم شيء هو عيش اللحظة وعدم التفكير في المآل. فمثلاً صناعة السينما والفن عموماً عرفت الطريق لاستبدال الحاجة الروحية من الدين بأشياء أخرى تمنح نفس المتعة لكن بتحرر من القيود الدينية، لتأكيد فكرة العيش هنا والآن فقط.

وعلى مستوى أبسط من ذلك، ففقدان المعنى لا ينحصر فقط على الأسئلة الوجودية الكبرى بل تسلل للعلاقة الشخصية مع الأشياء والأشخاص. فقد يشعر الإنسان بإحساس الغربة حتى في بيته، وبشعور الوحدة حتى وهو بين أهله.

فإذا اقتلع الإنسان جذوره وجعل الآخرينَ معياره ونصب السعادة غايته فكأنه بلا منطلق وبلا مقصد، ومن كان كذلك فسيضل طريقه وستفقد حياته معناها {أفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الملك: 22].

توصيات عملية

● لا تجعل انشغالك يفقدك مساحات التأمل الشخصية والمراجعة الذاتية. فهذه المساحات هي ما يشكل معرفتنا العميقة بذواتنا، يساعدنا على تحويل تجاربنا الفاشلة إلى حكم ودروس، وتعلمنا ليس فقط تقبل الألم والحزن وتطبيعه بل بأن ننظر إليه بأنه من أعمدة بناء الشخصية وبأنه يمنحنا فرصاً للتعلم والتطوير.

● تدرب على الصبر وألّا تتبع نفسك هواها. فما يجعل الإنسان إنساناً هو منطقة الدماغ الأمامية وما قبل الأمامية وهي المسوؤولة عن العمليات المعرفية العليا (التحكم بالسلوك، اتخاذ القرارات، التفكير بالعواقب..)، وبتدرّبنا على الصبر وحمل النفس على ما يفيدها ولو أنها لا ترغب فإننا بذلك نجعل هذه المنطقة الدماغية أكثر نشاطاً واتصالاً عصبياً، وكأننا بذلك نزيد إنسانيتنا.

● وكما قال رسول الله ﷺ: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم) [أخرجه الخطيب البغدادي في التاريخ وصححه الألباني]. وكذلك قول الشافعي: “آفة المتعلم الملل وقلة صبره على الدرس والنظر، والملول لا يكون حافظاً، إنما يحفظ من دام درسه وكدّ فكره وسهر ليله لا من رفه نفسه”[8].

● اجعل منظورك لتعريف نفسك واسعاً. فلا تحصر تعريفك لنفسك بالمهنة والشهادة الأكاديمية مثلاً، بل أسس تعريفك لذاتك على قيمك ومبادئك وثوابتك، ماذا تحب وماذا تكره، إلى ماذا تسعى، وماذا تقدم، ما صفاتك وما موهبتك. لا تجعل من نفسك متماهية مع دور واحد فقط فتفقد نفسك عند فقد هذا الدور. من يقصر تعريفه على مهنته فسيواجه لاحقاً مشكلة التقاعد مثلاً، والأم التي تقصر تعريفها لنفسها بأولادها فستواجه مشاكل في التربية (تربيتهم كشخصيات مستقلة عنها، مشاكل عن دخولهم للمدرسة، عند دخولهم مشروع زواج).

● تذكر جوهر القصة كلها. فكما يقول المسيري “ما ننساه في حياتنا هو شيء لا ينبغي نسيانه فهو جوهر القصة بالأساس وهو ما يستند عليه العالم بأسره”[9]. {نسوا الله فأنساهم أنفسهم} [الحشر:19].

● ترجم المفاهيم التي يسوّق لها بأنها مطلقة (الإنجاز والنجاح والسعادة والفشل) حسب ظروفك وحسب معيارك.

● اصنع نظاماً يومياً يشكل لك معنى وكوّن علاقة شخصية لها معنى قيّم مع الأشياء من حولك (فنجان من القهوة، مكان للجلوس على الأريكة في بيتك..).

● أعط لنفسك فرصة لاستخدام الآليات النفسية التكيفية الطبيعية التي تمتلكها في التعامل مع الضغوط (أنشطة لتفريغ الضغط، دوائر الدعم الاجتماعي..).

● انتبه للغة التي تستخدمها في التعبير عمّا تمر به من مشاعر وتجارب.

● حافظ على الورد القرآني. وكن على يقين أن في وسائل التواصل الاجتماعي يحصل انكشاف للذات على تجارب الآخرين فتعيد تعريف ذاتها وبناء هويتها باتخاذها للآخرين معياراً. أما بالورد القرآني فإن هذا الانكشاف يحصل على معيار المنهج الرباني والمعايير القرآنية. وشتان بين تبنى هويته ويعرّف نفسه متمحوراً حول الآخرين الذين يتسمون بالتغير والتذبذب وبين من يكون القرآن والكلام الإلهي المطلق محوره في ذلك.


[1] معنى الحياة في العالم الحديث، عبد الله بن عبدالرحمن الوهيبي. 1441 ه، صفحة 9.

[2] من شعر محمود درويش

[3] https://www.psychologytoday.com/us/basics/compassion-fatigue

[4] Festinger, L. 1954. A theory of social comparison processes

[5] Shablack, H., & Lindquist, K. A. (2019). The role of language in emotional development. In Handbook of emotional development (pp. 451–478). Springer.

[6] Lindquist, K. A., Gendron, M., Satpute, A. B., & Lindquist, K. (2016). Language and emotion. Handbook of emotions (4th ed.). The Guilford Press.

[7] iGen: Why Today’s Super-Connected Kids Are Growing Up Less Rebellious, More Tolerant, Less Happy–and Completely Unprepared for Adulthood–and What That Means for the Rest of Us

[8] رواه الآجري في “جزء حكايات الشافعي” ( ص ٣٠ – ٣١ )

[9] محاضرة التيارات الفكرية المعاصرة وآثارها في الشرق المسلم، عبد الوهاب المسيري. https://www.youtube.com/watch?v=9XbP-3l2_H4&ab_channel=khotwacenter

الذكاء الاصطناعي…عفريت يأبى العودة إلى الفانوس!

شهد العالم تحولات وتطورات تكنولوجية رهيبة في السنوات القليلة الأخيرة، مسّت العديد من مجالات المعرفة، مما دفع المتخصصين لتسمية هذه المرحلة بـ(الثورة المعلوماتية) أو (الانفجار المعرفي) أو (حرب البيانات) وغيرها من التسميات، إلى أن وصلنا إلى ما نراه من ثورة حقيقية في مجال الذكاء الاصطناعي وقدراته المذهلة التي باتت تهدد العديد من المهن التقنية.

مدخل لا بد منه

مع غض النظر عن القدرة العسكرية، فقد أصبح من يمتلك المعلومة يمتلك سلاح السيطرة والتحكم والتأثير، وقد ساهم التطور التقنيّ الذي نراه في وسائل الاتصال وأنظمة الحواسيب في تنظيم وتسيير المعلومات، كاستخدام الرقائق السيليكونية لتحقيق سرعات فائقة في تخزين ومعالجة البيانات، واستخدام اللغة الرقمية وكوابل الألياف البصرية لنقل المعلومة والصوت والصورة بدقة عالية؛ وبذلك نكون قد دخلنا عصر الثورة الصناعية الرابعة.

هذا العصر التي أضحت فيها التقنيّة جزءًا لا يتجزأ من المجتمع، ومن الإنسان نفسه؛ فأصبحت أجهزة الحواسيب والآلات تحاكي عملية تفكير العقل البشري، وذلك من خلال انتقال أساليب الذكاء الإنساني إلى نظم البرمجة للحاسبات والآلات، وقد أدّى استخدام هذه البرمجيات والتطبيقات إلى ظهور نظم الذكاء الاصطناعي في العديد من جوانب الحياة كالصناعة والتجارة والاتصالات والصحة وغيرها من القطاعات، لكن التقدم السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي وأنظمتها، وتجاوزها للتوقعات البشرية؛ نتج عنه تصاعد القلق حول مستقبل البشرية، خاصة مع توقع الكثير من الخبراء بأنّنا سـنصل إلى مرحلة بناء أجهزة آلية -روبوتات- وآلات تمتاز بمستويات ذكاء تفوق مستوى الإنسان؛ مما يمكنها من اتخاذ قراراتها بشكل ذاتي، وحينها سنجد أنفسنا  واقعًا أمام سؤال:

هل سيتحكم الذكاء البشري في الذكاء الاصطناعي أم سينقلب السحر على الساحر؟

الذكاء الاصطناعي من خيال علمي إلى واقع يومي

كان الذكاء الاصطناعي في السابق محض مادة للخيال العلمي، تناولها المنتجون في أفلامهم الخيالية حتى منتصف الخمسينات من القرن الماضي، إلى أن شرع العديد من العلماء في تبني نهج جديد لبناء آلات ذكية من خلال اكتشاف نظريات رياضية جديدة للمعلومات؛ واختراع الحواسيب الرقمية إلى جانب تطور علوم الأعصاب.

يمكن الإشارة إلى المراحل الأولى في هذا المجال في عام 1956 حيث بدأت ملامح علم يهتم بأبحاث الذكاء الاصطناعي في الظهور؛ وذلك من خلال انعقاد أوّل مؤتمر في كليّة دارتموث بالولايات المتحدة الأمريكية، وكان من أبرز الباحثين الأمريكيين في هذا المجال الذين حضروا المؤتمر جون مكارثي، ومارفن مينسكاي، وهربرت سايمون، وألين نويل؛ الذين أصبحوا فيما بعد قادة بحوث الذكاء الاصطناعي لعدّة عقود، فقاموا بتأسيس مختبرات للذكاء الاصطناعي في عدة أماكن، مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة كارنيجي ميلون، وجامعة ستانفورد، وقامت آنذاك وزارة الدفاع الأمريكية بتمويل أبحاثهم، لكن سرعان ما تخلّت الحكومة عنهم لفشلهم في تطوير مشاريعهم؛ فكانت تلك الانتكاسة الأولى التي شهدها مجال بحوث الذكاء الاصطناعي.

مع بداية الثمانينات شهد هذا المجال اهتمامًا كبيرًا خاصة في الجانب التجاري؛ وذلك نظرًا لنجاح برنامج نظم الخبرة الذي يحاكي مهارات التحليل وذكاء الإنسان الخبير، لكن وبعد فترة وجيزة ومع انهيار سوق آلة lisp machine (إحدى لغات البرمجة المعروفة في مجال بحوث الذكاء الاصطناعي االتي اخترعها العالم جون مكارثي سنة 1958) عرفت البحوث انتكاسة أخرى، غير أنه مع بداية التسعينات شهد العالم ميلاد الثورة الصناعية الثالثة والتي اتسمت بتحوّل تكنولوجيا المعلومات التناظرية إلى التكنولوجيا الرقمية، وكنتيجة للتطور الواسع لهذه الأنظمة وتداخلها وتفاعلها مع بعضها البعض من خلال الخوارزميات؛ فتم إفراز تقنيات الثورة الصناعية الرابعة والتي من أهمّها الذكاء الاصطناعي؛ فأصبحت أبحاثه على درجة عالية من التخصص؛ منقسمًا بذلك إلى عدّة مجالات فرعية ترتكز على فكرة أساسها أنّ الآلات الذكية لها القدرة على التعلم والاستنتاج ورد الفعل.

أهمية الذكاء الاصطناعي في حياتنا

إنّ الغاية الأساسية من وجود الذكاء الاصطناعي هو تمكين الآلات على العمل والتفكیر مثل الدماغ البشري واستخدامها في العديد من المجالات؛ فقد أصبحت تطبيقاته تتغلغل في حياتنا وتزداد ترسيخاً؛ فنجدها مثلًا في:

  1. القيادة الذاتية للسيارات وتحليق الطائرات بدون طيّار.
  2. الصناعات العسكرية ولعل من أبرزها كاسحات الألغام.
  3. الصناعات الإستراتيجية كالمفاعلات النووية لأغراض سلمية أو عدائية.
  4. تفسير الصور والبيانات الزراعية واستشعار جودة المياه.
  5. -برامج الاتصالات السلكية واللاسلكية وشبكات الإنترنت ومنصات التواصل.
  6. التشخيص والعلاج الطبي.
  7. التعليم ومراكز البحث.
  8. تحليل البيانات الاقتصادية والتنبؤ بالبورصات وتطوير أنظمة تداول الأسهم.
  9. المحاكاة المعرفية كـالتعرف علـى الوجـوه أو البصمات (مثل نقاط المراقبة في المطارات أو مراكز التحقيق).
  10. التصاميم الصناعية كصناعة السيارات ومختلف الآلات والأجهزة.
  11. التحكم بوسائل النقل والمواصلات كالسكك الحديدية.
  12. الأقمار الصناعية وأنظمة الملاحة الفضائية.
  13. محركات البحث على الإنترنت كالعناقيد البحثية لمتصفح غوغل.
  14. أنظمة الحماية في البنوك والمؤسسات والمنازل.
  15. ألعاب الفيديو والحاسوب.
  16. الأجهزة الشخصية كالهواتف والألواح الذكية.
  17. الأنشطة الفنية كالسينما والرسم والموسيقى.
  18. لعلّ آخر ما توصل إليه العقل البشري هو اختراعه للإنسان الآلي الروبوت “صوفيا” وروبوت الدردشة “ChatGPT”.

كل هذا ما هو إلا عينّة من بعض استخدامات الذكاء الصناعي في واقعنا اليوم، فبرامجه تتعّدد من مجال إلى آخر؛ تمس الفرد والجماعة على حد سواء، وميدانه كوكب الأرض والفضاء، وتتنوّع أهدافه من التنمية والدفاع والأمن إلى التعليم والتثقيف والترفيه.

إن أهمية الذكاء الاصطناعي تكمن في أنّه يساعد الإنسان على أداء أعماله في فترة وجيزة مع خفض تكلفة الإنتاج؛ إلى جانب توفير الراحة والرفاهية له، فهو يساهم -بكل اختصار- في تطوير الحياة البشرية.

وعلى اعتبار أنّ أبحاثه ذات طابع تقني محض؛ فإنّه سيؤثر أيضًا في ميادين العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الأعصاب وعلم الإجتماع وعلوم الفلسفة وغيرها من العلوم؛ وذلك من خلال إتاحة الفرصة للعلماء في فهم عملية التفكير البشري.

ليست بعيدة.. تهديدات الذكاء الاصطناعي

مع توسع قدرات الذكاء الاصطناعي وانتشاره، ازدادت حدّة النقاش حول هواجس خروجه عن السيطرة، فقد اتفق العديد من العلماء والأكاديميين والفاعلين في الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي على مخاوفهم من عدم التحكم في التكنولوجيا مستقبلاً؛ بل وصل اعتقادهم بأنّها ستقضى على البشرية؛ مما دفع قرابة ألف خبير ومتخصص لتوقيع عريضة يطالبون من خلالها بوقف مؤقت لتطوير هذه التكنولوجيا، ولعلّ من أبرزهم مالك تويتر وشركتا “سبايس إكس” و”تيسلا” إيلون ماسك، ومؤلف كتاب “سايبيينز” يوفال نوح هراري، ورئيس شركة “أوبن إيه آي” سام التمان وممثل شركة “آبل” ستيف ووزنياك، وخبراء من مختبر “ديب مايند” للذكاء الاصطناعي التابع لـ”غوغل”، ورئيس شركة “ستابيليتي إيه آي” عماد موستاك، بالإضافة إلى  مهندسين من شركة “مايكروسوفت” وأكاديميين متخصصين في الذكاء الاصطناعي؛ كما حذر الأب الروحي للذكاء الاصطناعي بشركة “غوغل” جيفري هينتون من مخاطره عندما ترك منصبه مؤخراً.

 تتجلّى لنا هذه المخاوف بوضوح حين نرى بأنّ الآلات الذكية التي تعيش معنا تفتقر للعاطفة والإنسانية وبالتالي ستؤثر قراراتها الآلية في حياتنا بشكل مباشر، كما أنّ استخدامها بشكل دائم ينعكس بالسلب على أدمغتنا كضعف الذاكرة والإدراك وتراجع العلاقات الإنسانية -العزلة والانفصال عن البشر-، إلى جانب تزايد التهديدات الأمنية على المستوى القومي كالهجمات السيبرانية والتلاعب بالمعلومات واختراق الحسابات والمواقع الإلكترونية والتجسس عبر برامج خاصة -مثل برنامج بيغاسوس-.

أمّا على المستوى الداخلي فيكمن القلق في استخدام الحكومات لبرامج من شأنها تقييد حريّة الأفراد ومراقبتهم وإنتهاك خصوصيتهم الشخصية، أمّا اقتصاديًا فاليد العاملة مهدّدة بخسارة المزيد من فرص العمل، وتوجد تهديدات جمّة لا يسعنا حصرها.

من خلال ما سبق ذكره من مخاوف وهواجس؛ نطرح السؤال التالي: هل شعر عرّابو الذكاء الاصطناعي بالندم لاختراعهم الذي تجاوز خيالهم؟

يجيبنا العالم البريطاني سيتوارت راسل على ذلك بقوله: “إنّ البشرية قامت بخطأ في البداية لأنهّا لم تفكر في سبب الحاجة إلى اختراع الذكاء الاصطناعي”.

 للذكاء الاصطناعي دور في تحسين حياة الناس من خلال تقديم خدمات أكثر دقة وبسرعة فائقة؛ لكنّه قد يشكّل أيضًا تهديدًا للبشرية إن لم تكبح جماحه، وذلك بوضع إستراتيجات تقوم على أسس حوكمة وأخلقة التكنولوجيات الحديثة وتنظيمها ومُتابعتها ومُراقبتها والتحّكم فيها؛ فالذكاء الاصطناعي بمثابة ذلك العفريت الذي يتطلّع لتحقيق أُمنياتنا ورغباتنا ويأبى العودة إلى الفانوس؛ وقد أكّد ذلك السيناتور الأمريكي كوري بوكر حينما قال بأنّه “لا توجد طريقة لوضع هذا الجنّي في الزجاجة؛ إنّه ينفجر عالميًا”.


 قائمة المراجع:

1-الذكاء الاصطناعي: تأثيرات تزايد دور التقنيات الذكية في الحياة اليومية للبشر.

https://futureuae.com/media/20_371c98d6-6b55-4f40-8200-6ffcca032c25.pdf

2-مدخل إلى عالم الذكاء الاصطناعي

https://www.kutubpdfbook.com/book/%D9%85%D8%AF%D8%AE%D9%84-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A/download

3-أفضل كتاب يشرح الذكاء الاصطناعي

https://www.rofofs.com/2021/04/learn-artificial-intelligence-basics-book-pdf.html

4-تاريخ الذكاء الاصطناعي

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-pdf

5-الذكاء الاصطناعي واقعه ومستقبله

https://www.ebooksar.com/%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-pdf

6-مخاطر الذكاء الاصطناعي على الأمن ومستقبل العمل

https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/perspectives/PE200/PE237/RAND_PE237z1.arabic.pdf

7-الذكاء الاصطناعي يهاجم الذكاء الاصطناعي

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D9%8A%D9%87%D8%A7%D8%AC%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D8%B4%D8%B1%D9%81-%D8%B4%D9%87%D8%A7%D8%A8-pdf

8-الذكاء الاصطناعي المستقبل الجديد

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-pdf

الخروج من الصراع الهدام بين التيارات الفكرية

إنّ السعي للخروج من الصراعات الفكرية البارزة على الساحة الآن لم يعد اختيارًا رفاهيًا يمكن الأخذ به أو تركه، بل هو ضرورة يجب أن تتحقق إذا أردنا أن نتوجه نحو البناء والنهوض الحضاري، إذ إنّه لا يُتصوَّر إمكان التحرك نحو النهضة وبلوغ مرحلة الرشد في خضم هذا التناحر الفكري والصراع الهدّام بين مختلف التيارات الفكرية.

لماذا تتحول بعض الأفكار إلى ساحة نزاع هدام؟

حتى نستطيع الوصول إلى مرحلة البناء في الأمة على المستوى الكلي، ونشرع في التحرك نحو حالة الرشد الحضاري، علينا أولًا إدراك طبيعة الأفكار التي هي أساس أي بناء، ومن اللطيف أن نجد قانونًا فيزيائيًا يستطيع تمثيل جزء كبير من هذه الطبيعة بدقةٍ وجلاء، حيث ينص القانون الثالث من قوانين نيوتن للحركة في الميكانيكا التقليدية، على أنّ القوى تنشأ دائمًا بشكل مزدوج، حيث يكون لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكسٌ في الاتجاه، وتعيين إحدى القوتين بوصفها فعلًا والأخرى رد فعل، هو تعيين تبادلي حيث يمكن اعتبار أي من القوتين فعل في حالة اعتبار الأخرى رد فعل، والعكس صحيح.

ومن الممكن أن نرى تجليات هذا القانون ذاته في عالم بعض الأفكار والحركات الاجتماعية الناشئة عنها، فكثير من الأفكار تنشأ بشكل مزدوج أو بشكل فردي يُهَيكل الازدواجية مع الاتجاه المضاد، وتحدث هذه التبادلية في ردود الأفعال في الأفكار، والتي تتبلور وتتجسد في الحركات الاجتماعية الحاملة لها والمحركة لها كذلك، وطرفا النقيض هنا لا نعني بهما دائمًا وصف اليمين واليسار من ذات الفكرة، وإنما بشكل أوسع نقصد بهم الفكرة والفكرة الأخرى التي نتجت ردَّ فعل لها سواء كانت من جنسها أو لم تكن، مثل جنوح الفردانية بعد خيبة الأمل التي أصابت الناس جراء الحرب العالمية الثانية.

وهذا يدل على أنّ وجود حالة التصادم الفكري الاجتماعي مرتبطةٌ بنشوء فكرة خارج سياج المكونات الحضارية التي تتشكل على ضوء تمايز الهُوية عند كل أمة، لأنها ستؤول إلى تكوين فكرة مضادة، وتبدأ رحلة الصراع والتراشق بين الفكرتين، إذ من المستحيل أن يجتمعا أو يتفقا أو يتواجدا بسلام في مساحة واحدة، وإلا سنخرق أحد المبادئ العقلية الضرورية، وهو مبدأ عدم اجتماع النقيضين، -بالطبع نقصد هنا الأفكار التي تُمثل طرفي النقيض- وينشأ عن هذا المعترك عندما يتكرر في عدة أفكار تحديًا حقيقيًا لكل من أراد خوض غِمار هذا العالم، وهو الحفاظ على الموضوعية في ذات الوقت الذي تتنازعه فيه كافة القوى الفكرية المتضادة لتجرفه في تيارها، والحفاظ على حياة مبادئه من السحق في المنتصف بين معارك الأفكار المتناحرة.

بحثًا عن التوازن

بالرغم من وجود هذا المعترك الفكري، إلا أنّ هناك حالة من التوازن يمكن أن تحصل ولو على مستوى الصراع، وتتحقق هذه الحالة بتساوي طرفي النقيض في القوى المحركة لها، والتي غالبًا تتمثل في الحركات الاجتماعية التي نشأت عنها أو تبنّتها، ولكن ينتج عن ضعف إحدى القوتين اختلال في ساحة الصراع والذي غالبًا سيؤدي إلى ابتلاع القوة الأكثر هيمنة القوةَ الناشئة أو التي أصابتها الشيخوخة أو الهزال.

يبدو ظاهريًّا أنّ هذه الحالة قد تم التخلص فيها من طرف الصراع، وأنّ الاستقرار الاجتماعي هو المرحلة المقبلة، إلا أنّ هذا لا يحدث، بل تتكون أفكار أخرى جديدة مناهضة لهذا التيار ولو بصورة بطيئة، فطالما أنّ الفكرة المهيمنة خارج سياج المظلة الكبرى لهُوية تلك الأمة؛ فإنه من الصعب جدًا أن تجد لها استقرارًا أو هيمنة كاملة إلا بطمس تلك الهُوية، وحينها يمكنها أن تنشأ هي هُوية جديدة تنبني عليها الصراعات.

تمامًا كإنسان يحمل حقيبة ثقيلة في كل يد لهما نفس الوزن، نعم هي ثقيلة ومرهقة له، ولكنه متزن في تلك الحالة، فلو وضع إحدى الحقيبتين مع الأخرى وجمعهما في حقيبة أكبر في يدٍ واحدة؛ لانجذب بثقلها نحو الأرض، ليضطر إلى السير مائلًا حتى تتركز قوة جسده إلى الجانب المُحمَّل، فالمشهد الكلي له هو حدوث خلل واضح في توازنه، ولن يستطيع تجاوزه إلا بإحضار حقيبة جديدة تقارب وزن الأوليين معًا، أو تركها مطلقًا والتخلص منها والبدء في البحث عن حمولة جديدة تناسبه هو، لذا من العبثِ التوجه لإصلاح أو تقويم أحد الاتجاهات دون نظيرتها، لأن هذا سيُحدث خلل في الهيكل الفكري الاجتماعي.

كيف ينشأ هذا الخلل؟

من الإشكالات التي يجب التنبه لها وهي موجودة على الساحة الآن، مجابهة بعض الأفكار والتيارات دون توجيه الجهود الكافية للاتجاه المضاد، فمثلًا إشكالية النسوية والذكورية، الانحلال والتشدد … إلخ، كل هذه القضايا لو اقتصر العمل فيها على اتجاه دون آخر؛ سيكون مآل ذلك انبثاق خلل جديد في المجتمع، لأنه سيحصل خلل في التوازن الفكري الاجتماعي، فعندما ينكمش تيار ويضمحل دون إشغال مساحة الفراغ التي تركها؛ سيتمدد الاتجاه المعاكس ليشغلها ويحتلها، فنتفاجأ -ربما بعد أعوام- من مناهضة التيار الأول، أنّ ثمة تيار آخر متوحش مستفحل في المجتمع يحتاج إلى رحلة جديدة تستغرق سنوات جديدة لأجل تقليصه.

ولو سرنا على ذات النسق الأول، أي بالعمل على تيار واحد؛ فكَّبِّر أربعًا على بزوغ المشاريع التنموية النهضوية الحقيقية التي تنتقل بنا من مرحلة الترميم والإصلاح إلى مرحلة البناء، لأننا سنظل في ذات الدوامة، لأن كل تلك الأفكار إما دخيلة على الهُوية الإسلامية أو منحرفة عن أصلها الصحيح، لذا فلا مكان لها تحت مظلة الهُوية الإسلامية.

ما الطريقة الصحيحة للتعامل مع صراع التيارات الفكرية بشكل متزن؟

والصحيح هو العمل بالتوازي بصورة متوازنة على كافة الأصعدة، وهذا عن طريق توجيه جهود متساوية لكل فكرةٍ مُشكلةٍ والفكرة المضادة لها، وهذه الجهود يجب أن تُبرِز المرجعية التي ننطلق منها وهي مرجعية الوحي، وأنه المعيار الذي تتحقق به الموضوعية عند موافقته لما أراد الله، لأن الوحي هو العامل المركزي في تشكيل هُويتنا، ويجب الحرص على عدم الغلو أو التمييع أثناء حل الإشكالات والإشكالات المضادة.

وثمرة هذا أمران:

١- تقليص فترة الترميم إلى النصف، لأنه يتم العمل على كل فكرة واتجاهها المضاد في ذات الوقت، فنكسب وقتًا يمكننا فيه الاتجاه نحو البناء.

٢- كسر الدائرة التي نؤول إليها في كل مرة نعمل فيها على جانب ونُغفِل الآخر، وبالتالي ضمان انكماش طرفي النقيض وتبلور الموضوعية على الساحة.

وهذا لا يستلزم أن يهتم كل فرد بالفكرة واتجاهها المضاد في آنٍ واحد، لا مشكلة في أن يتخصص كل فرد في نقض أحد التيارات، ولكن من الضروري أن يتحقق التكامل الإصلاحي بأن يكون مجموع سعي العاملين في الساحة يغطي كافة الأفكار باتجاهاتها المضادة، مما يعطي بريق أمل من إمكان الوصول إلى النقطة التي يمكن أن ننطلق منها نحو البناء، مع أهمية استمرار هذا العمل المتوازن المتوازي لأن توليد الأفكار لا يمكن أن ينتهي، إذ إنّ وجودها مرهونٌ بوجود البشرية.

أهمية التكوين الفكري لأبناء الأمة

بعد أن نظرنا إلى المساحة الكلية لطبيعة الأفكار وحركتها وكيف يمكن أن نتعامل معها لنتجاوز مرحلة الترميم والإصلاح إلى مرحلة البناء، يجب أن نبذل جهودًا لإنشاء جيل يصعب توّلد هذه الأفكار بهذا الشكل فيه، وهذا عن طريق التربية الصحيحة القويمة على كتاب الله وعلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترسيخ العبودية لله جل وعلا في نفوسهم، والمداومة على تزكيتهم.

ومن المهم بعد رسوخهم في الأصول أن يطلعوا على الأفكار والأديان الأخرى المنحرفة عن مراد الله تبارك وتعالى، وكيف يتخبط الناس في ظلمات الجاهلية بتركهم نور الإسلام ودين الفطرة، فهذه المعرفة تُبرز جمالية الإسلام أكثر، إذ إنّ الأشياء لا تُعرَف إلا بأضدادها، وكذا تمرين العضلة الفكرية عندهم بالمناقشة والحوار الذي يجعلهم معتزين بالإسلام، شاكرين اللهَ على هدايته لهم، واصطفائهم لحمل دينه، فيزدادوا نورًا على نور، ورسوخًا على رسوخ، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إنما ينحّلُّ الإسلام عروةً عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية”.

ما هي آلية الاطلاع على الملل والنِحل الأخرى؟

يمكن القول: إنه لا يوجد آلية موحَّدة لتحقيق هذا الغرض، إذ تتفاوت الآليات والطرائق تبعًا لقرائن كثيرة تشمل العمر والبيئة وطبيعة الأفراد وطبيعة العصر وغير ذلك من القرائن التي يمكنها تحديد الآلية المناسبة، وفي مراحل متقدمة يمكن الاتجاه نحو الدراسات المقارنة، لأنها أفضل ما يُبرز حقائق الأمور، فأشدُ البياض يُرى بجانب أحلك السواد، وهذا ما رآه الشيخ الداعية محمد الغزالي رحمه الله إذ قال “الدراسات المقارنة هي في نظري أجدى الوسائل للبحث عن الحقيقة، والظفر بها” [جدد حياتك].

ختامًا

إنّ السعي نحو الوصول إلى النقطة الفيصلية التي تسمح لنا بالتحرك نحو النهضة دون الانجذاب أرضًا تحت سطوة لُجج الأفكار أمرٌ مركزيٌ يجب أن نضعه نصب أعيننا، إذ إنّنا لو غفلنا عن هذه الحقيقة المتمثلة في أنّ الكثير من الإنتاج والكتابات والجهود الموجودة على الساحة الآن في حقيقتها متوجهة نحو فكرة واحدة دون إيجاد نِتاج للفكرة المضادة، وبالتالي تُستهَلك الكثير من الجهود الضخمة في مجابهة دائرة واحدة وبعضها تغرق في إحدى اللجج الفكرية، دون أن نعي أننا نُستهَلك ونستهلِك الزمان والطاقات والعقول في معارك كان يمكننا أن نتجاوزها لو تعاملنا معها بطريقة صحيحة متوازنة، سيفوتنا الكثير من الفرص، ولكن علينا التنبه والتحرك حتى نعطي فرصة لسفينتنا أن تتحرر من دوامة معترك الأفكار اللُجيِّة؛ فتُبحِر.

نسأل الله أن يُبلِّغ هذه الأمة رشدها.

هل العشرينات محطة التنازلات؟

إن مرحلة العشرينات أو ما يُطلق عليها بأزمة ربع العمر -والتي يمكن حصرها بالفئة العمرية ما بين سن [20-35]، وقد يحصرها بعض الباحثين في غير هذا-، اخترناها محورَ حديثنا في هذا المقال لأهمية هذه المرحلة العمرية من حياة الإنسان، فهذه المرحلة العمرية يرجو الوصولَ إليها الصغير، ويتمنى العودةَ إليها الكبير. فهي -كما يُطلق عليها أو تُحسب كذلك- المرحلة الفاصلة الحاسمة في مراحل الشخص الحيوية، وعلى رحى هذه المرحلة سنطلق العِنان لقلمِنا فيجري بنا فيما ينبثق عنها من جميلٍ وقبيحٍ، وخطأٍ وصحيحٍ، في شتى أشياء.

وكما يشير عنوان مقالنا (هل العشرينات محطة التنازلات؟)، فإننا ارتأينا التوقف قليلًا عند هذه المحطة وهذه التنازلات أوّلًا، ثم نتدرّج في الحديث عمّا رسمناه.

أحلام الصبا

إن الطفل منذ صغره؛ تجده يرجو بلوغ مرحلة العشرينات، ويمنّي النفس بذلك، لعله إذا بلغها، سنح له عامل السن والشباب تحقيق جل أحلامه، وإنجاز صفوِ طموحاته، فحتى إذا حققها، عاش في رغدٍ وتفاخرَ بين أقرانه، فغبطه الناس، وحسده حسَّاده. حتى لتجد الطفل أو المراهق وبأمله الدّافق، ما ترك من حُلمٍ شاهِق ومطمحٍ سامِق إلا واصطفاه، وجعله هدفًا له يسعى لتحقيقه والوصول إليه.

فإذا بلغ هذه المرحلة وتوغل فيها، اصطدم بما لم يكن في الحسبان، فالواقع ليس كالتوقع، والبيئة لا تسمح، وتهكم الناس يؤذي النفس ويتعبها، والعتاب من الأهل والزوج داخل البيت يعرقل الآمال. إن الشاب بعد بلوغه هذه المرحلة، يصبح كثير التأوه، يتمنى العودة إلى أيام الطفولة والبراءة، حيث لم يكن كاهلاه مثقلان بمسؤولية أو محمّلان بالأمانات العظيمة، فجل ما كان عليه حاله القرب وملازمة أمّه ويديها الدافئتين.

حين يبلغ الشاب هذه المرحلة، تراه يتنازل عن أحلامٍ كثيرة وطموحاتٍ غزيرة، ولربما ودّعها بالأمل الخافت، فما عاد يطلب بعد ذاك غير راحة البال والسكينة، والاستقلال بعملٍ يدر عليه مالًا فيضمن له العيش الكريم، وبيت يسكن فيه، وحَلِيلَة يسكن إليها وتسكن إليه.

اغتنم ساعات الشباب

الجميل في مرحلة العشرينيات أن الشاب فيها يعيش زهرة عمره، وريعان شبابه، ورشاقة بدنه، والوقت وقته لاقتناص الفرص وتجديد الأمل وسُبُل العمل، فإن توقدت الهمّة وعلَت، فما فات ما فات، والخير كلّه آت.

أما إن كان لهذه المرحلة قبيح عراها، وامتطى زمامها فآذاها، فهو كثير، نذكر منه: أن الشاب قد يعيش ضغوطاتٍ كثيرة من مواقع شتى؛ فتؤثّر عليه وعلى نفسيته وصحته، ففي زمننا هذا نجد الشاب وعلى غير المتوقع لا يتحرج في القول بأن يقول إنه يعيش حالة اكتئاب وأزمة نفسية، فالمسألة صارت اعتيادية ومألوفة، بينما كانت في السابق عارًا ومحط سخرية.

احذر ضغط وسائل التواصل

إن الجديد بين الشباب الآن أنه منذ انتشار مواقع التواصل الاجتماعي أصبح الكثير من الشباب يعيشون أزمات نفسية وتقلّبات سريعة في المزاج والمشاعر، فتلفي الشاب لا يصفو باله إلا نادرا. فكيف لنفسية الشاب أن ترتاح وتهدأ عندما تتصفح موقعا إلكترونيا معينا فتشاهد مقطعا مضحكا ساخرا فيضحك الشاب، فيمرر إلى مقطع حزين كئيب فيحزن، فيمرر إلى مقطع محفز مرشد فيتحمس، ثم يمرر إلى مقطع يفيض بالانتقاص والتشاؤم فيتشاءم، فكيف -والحال هكذا-للمشاعر أن تهدأ إذًا؟.

إن معظم الشباب يعيش جميع الفصول في وقت واحد، فكيف له أن يرسو على ميناء واحد والعواصف ترميه بين مختلف الشطآن، وكيف له أن يقف عند حال واحدة وجل وقته يتنقل بين مختلف الأحوال، فكيف سيعطي لكلٍّ حقّه وتقديره؟.

 إن ضغوطات مواقع التواصل الاجتماعي كثيرة وآثارها على الشباب جسيمة، فالشاب يسير بقدم تلي قدمًا نحو ما يرجوه ويأمله من القمم، فإذا به يشاهد مَن هو أصغر منه عمرا وربما قدرًا، قد بلغ سقف طموحاته، وهو هو على حاله، ما زال يسير في الدرب متعثرًا، كيف لنفسية هذا الشاب أن تحافظ على حماسها وتسير، وتصبر وتتعقّل، والشاب حينها يرى في عمره ذاك أنه الحاسم؟!.

يحيط الخوف من المستقبل بالشباب من كل جانب، وحتى المحيط الأسري تجده يمارس ضغطه كذلك. والزمان ليس كالزمان، والشاب كاهلاه مثقلتان بالأماني والمطالب التي يجب عليه تحقيقها، إن هذه الضغوطات على كثرتها تصيب الشاب بالعجز أحيانا والكسل، فترى كثيرا من الشباب قليلي الهمة وينأون بأنفسهم عن كلِّ مسؤولية تُحَمَّل إليهم.

احذر عواقب الخطأ

إذا ما عرَّجنا ناحية الأخطاء المفتعلة في هذه الفترة العمرية، فإننا نجدها بالجملة، ومنها: أننا نأتي الشاب ننظر إليه فنجده يسعى إلى المثالية في كل شيء، وهذا طامة كبرى، ومطمح جاف.

ولعلك تسأل -وأنت محق- لماذا؟ لأن الشاب بغفلته يسعى إلى أن يحصل على منزل مثالي وعمل مثالي والحبيب المثالي، وهذا ما لا يكون، ولن يكون. لأن النفس بطبيعتها لا تهدأ على حال، فكلما حصلت على شيء رأت ما هو أحسن منه فغبطت صاحبه وتمنَّته وحرضت صاحبها عليه. وبهذا تعوجّ النفوس ولا تستقيم، وتمرض القلوب وتختل الموازين، بعد أنْ جهِلَت أي منهجٍ في الحياة تُقيم، فتتشرد في الوجود وتنسى الحدود.

أما ما نراه صحيحا في هذه المرحلة وصوابا، هو ذاك الذي يغلِّق على هواه الأبواب، ويستعصم بمنهجٍ وثيق، ولا يتزحزح عنه ويسلك غيره طريق. فالصحيح فعل مَن تجنّب طلب المثالية، ورضي بما حباه الله وقدّره له، وسار في طلب العلا غير متكاسل.

 وإننا وإن تأخر بنا القول، فخير ما يسلك الشاب أن يرى ما يفعل، لا ما قيل ويقال. فالشاب الذي يرنو بذكاء إلى حلمه، ويرضى بعمله وقوت يومه، ويطمئن في منزله، ويحب أهله وزوجه مع ما له من جميل وقبيح فيكون هو الحاضن والمقَوِّم لتلك المثالب، فهو على طريق الخير والسالك المتبع لأمر خير الأنبياء.

ختام القول

هنا نتوقف ونختم بالقول: إن مرحلة العشرينات وإن كانت محطة تنازلات كبيرة -كما يشير عنوان مقالنا-، إلا إنها زهرة العمر ومنبت الأمل. والفطِنُ الحاذق من طَوَّعَها لأجل ما يطمح من آمال ورامه من أحلام وأهداف. واللّه تعالى أعلم.

كيف تدفع الفردانية لتذويب المجتمع في الفرد؟ .. تعرّف معنا إلى ظاهرة الذوبانية

الذوبانية مصطلحٌ قديمٌ متجدد، إلا أنه يتجدد بشكل متشعب في ميادين مختلفة ومتنوعة، فمن العلم التجريبي حيث الكيمياء والفيزياء، إلى المساحة النفسية بين الأم وطفلها، إلى تمثلّاته التي تظهر في الساحة الاجتماعية لكن دون أن يكشف وجهه تمامًا ويفصح عن نفسه ومسماه بشكلٍ واضح.

ظاهرة الذوبانية.. تاريخ الظهور

في محاولةٍ لتتبع الخط الفكري الذي أفضى إلى بروز تلك الظاهرة، سنلاحظ أنّ بحث أصول الفردانية أمرٌ مهم، إذ إنّ عددًا كبيرًا من المتأثرين بإشكالية الذوبانية يصنفون على أنهم فردانيون، لذا فإن بحث نشوء وتطور الفردانية ومعرفة الإرهاصات المجتمعية التي وُجدت إبان بثها في مجتمعاتنا؛ سيعيننا على إدراك السبب الذي جعل تلك الفردانية -في أغلب حالتها في مجتمعاتنا- فردانية ظاهرية، وتكمن في طياتها الذوبانية.

إنّ التأسيس لفكرة الفردانية كان رد فعل مضاد خرج من مجتمعات ترزح في النظريات الكُليانية، فـ (ريمون بودون) مؤسس الفردانية المنهجية مَقَتَ الماركسية المؤسسَة على منطق الصراع بين الطبقات الاجتماعية؛ مما دفعه إلى التوجه نحو تأصيل رؤيته المناقضة لهذا التيار، حيث أقام منهجه في دراسة الواقع الاجتماعي بناءً على الفرد وليس على الطبقة، مما سمح بإزاحة النظريات الكليانية الهاضمة للفرد من التفسير الاجتماعي.

بدأت الفردانية تتبلور وتتضح معالمها، وبات من الممكن تعريفها بأنها “توجه نظري وفلسفي يقوم على إعطاء الأسبقية للفرد على المجتمع من خلال استناد قرارات الفرد على منفعته ومتعته الشخصية باعتباره مركز كل شيء، وحوله يدور كل شيء، فمصالحه الشخصية تتحقق فوق اعتبارات الدولة وتأثيرات المجتمع والدين” [الفردانية المنهجية وتقويض أسس التصورات الشمولية – د.الفرفار العياشي]

وقد تمكَّن بودون من تقديم مقولة الفرد كأداة مهمة في فهم وتفسير الظواهر الاجتماعية مُزيحًا التصورات الشمولية، واستطاع أن يُبرز البُعد الفردي عند رواد الاتجاهات الكليانية مثل كارل ماركس وإميل دوركايم، فبالرغم من تجاهلهم للفرد واعتباره نقطة عبور للأفكار الجماعية وتقديم النظام والطبقة والمجتمع عليه، إلا أنهم وجدوا أنّ التغيرات الاجتماعية لا تقع في مساحة فراغ عدميّة، بل تقع في محيط يحوي أفراد يكون لهم تأثير في تبلور الصورة النهائية للمجتمع، فالوعي الجمعي لا يلغي الوعي الفردي، لكنه يؤثر فيه.

وإذا بحثنا أكثر عن أصول الفردانية، سنجد أنّ هناك شبه “إجماع على أنّ أصول الفردانية تعود أساسًا إلى أعمال كلٍ من ماكس فيبر و فلفريدو باريتو، وهو ما يؤكده بودون في كتاباته” [الفردانية المنهجية – الفرفار العياشي]، وقد دعا إلى الفردانية رواد الليبرالية مثل هوبز، جون لوك و جون ستيوارت ملْ وغيرهم، حيث أنّ الفردانية هي الركيزة الأساسية في الفكر الليبرالي.

ارتبط الاتجاه الفرداني بمبادئ النظام الرأسمالي خصوصًا في ألمانيا وإنجلترا التي تعاملت معها من منطلق اقتصادي، ويعتبر الفيلسوف آدم سميث من المنظرين الأساسيين لهذا التوجه الفرداني، لذا اهتم مؤسسو النظريات الكليانية مثل “ماركس وإنغلز بنقد أفكار الرأسمالية التي ظهرت على يد آدم سميث وديفيد ريكاردو، وحاولا إسقاط هذا النموذج على أساس المنطق الجدلي ليقدما بدلا منه الاقتصاد السياسي الماركسي” [مقال الماركسية والشيوعية– موسوعة السبيل]، حيث إنهم اعتبروا أن منطلقات سميث الفردانية مناقضة لشمولية نظرياتهم.

وقد انتظمت هذه الأفكار في المجتمع الغربي ليصبح مجتمعًا فردانيًا يدعو إليها، وتحاول ترسانته الإعلامية بث وترسيخ هذا المصطلح بما يحمله من قيم في المجتمعات الإسلامية، حيث يقول د.محمد المجذوب “إنّ هناك اتجاها استعماريا لإكساب الإنسان المسلم في العالم العربي للقيم الفردانية الغربية، ومن ثم تغييبه من أي بعد جماعي، وهذا الاتجاه ليس عشوائياً وإنما هو تابع لثقافة الهيمنة الغربية ورغبتها في تمديد نفوذها عبر أنحاء العالم”، وبالفعل بدأت تظهر الفردانية في المجتمعات الإسلامية، ولكن لاحظنا أنّ هذه الفردانية في شرائح واسعة هي فردانية ظاهرية، لأن شريحة الأفراد المتأثرين متمركزين في مجتمعات مبنية على أسس رأسمالية، والتي تعتمد بشكل رئيس على الشكل النووي للأسر، مما يعطي انطباعًا أنّ أفراد هذا المجتمع فردانيون، لكننا إذا تمعّنّا قليلًا سنرى ظاهرة أخرى أشد فتكًا منها، يمكن أن نسميها الذوبانية.

ريمون بودون (على اليمين)، آدم سميث (على اليسار)

تطور الفردانية إلى الذوبانية

 سنجد في خضم توصيف بودون للفردانية ذكره لفكرة “التذويب”، حيث “إنّ المنهجية الفردانية حسب ريمون بودون، تستوجب أن يُنظر إلى الفرد في ظل نسق من التفاعلات، وأنه بمثابة ذرات يتطلب دراستها وفهمها قاعدة منهجية لتحليل سلوكياتها وتصرفاتها بالقطع مع المسلمات الكلاسيكية المغالية في تفسير أنساق التفاعل والتغير الاجتماعي والتي تعمل على تذويب الفرد فيها”[الفردانية المنهجية – الفرفار العياشي].

ويتضح بجلاء من سياق ورود لفظ التذويب عند بودون -في معرض حديثه عن تأثير النظريات الكليانية- أنّ مدلولها هو اعتبار الفرد عنصر ذائب في المجتمع الكلي، يتشكل بحسبه ويعيش تحت سطوته.

لكن الذوبانية المجتمعية الآنية -والتي نقصدها في هذا المقال- تحمل مدلولًا مختلفا، إذ إنها تصف ذوبان الفرد في مجتمع أو كيان جزئي (جماعي أو فردي) بغض النظر عن الشمولية الاجتماعية، وإنما هذا الذوبان يكون بمحض إرادته بدايةً تحت ضغط دوافع عدة.

عندما بحثتُ عن الفكرة الكامنة في الفردانية الظاهرية، لم أجد أنسب من هذا المصطلح -الذوبانية- في وصفها، إذ إنّ التعريف الأعم والأشمل للفردانية هو التمحور حول الذات، بينما نلاحظ سلوك آخر مُتمثِّل في أشكالٍ عدة مآلها ذوبان الذات، وتمحورها حول الغير، فإما أن تجد بعض الأفراد فاقدين ذواتهم تمامًا ذائبين في مجموعهم بشكل سلبي متباين عن الاجتماعية أو الانتماء، أو فاقدين ذواتهم محاولين تشكيلها بمقياس بعض الكيانات أو الأفراد الذين انبهروا بهم، وهذا واضحٌ في حدثاء السن وتأثرهم بمن يسمون أنفسهم “مؤثرين”، فتذوب ذواتهم ويتمحوروا حول الذات الأخرى، وهذا الأمر شديد السلبية ومآلاته لا تقل خطورة عن مآلات الفردانية، ويستحق أن يُعتنى به للحد من هذه الظاهرة الخطيرة.

التقاطع بين الفردانية والذوبانية

وبالرغم من أن الذوبانية تعتبر سلوك متباين عن الفردانية، إلا أنها من جهة أخرى يمكن أن تكون مؤدية لها، إذ إنّ الفردانية يمكن أن تنشأ عن ذوبانية الفرد حول شخص فرداني فينتقل هذا السلوك إليه، فهو تعرض إلى عمليتين:

١- أنه وقع في الذوبانية وفقد ذاته، وتأثرت أو التفّت حول ذاتٍ أخرى متبنية الفردانية.

٢- أنه تبنى هذه الذاتية الجديدة وصُبِغ بها حتى أصبح فرداني، ولكن جوهر فردانيته غير أصيل.

فهذان المصطلحان -الفردانية والذوبانية- متباينان من جهة، ويؤدي أحدهما إلى الآخر من جهة أخرى، وكلاهما جدير بتدمير المجتمع السوي، وإغراقه في تمزق أو تشوه اجتماعي.

كيف تفشّت الذوبانية في المجتمع؟

أفضى حكم النظام الرأسمالي وتفشيه في المجتمعات إلى حدوث تغيُّرات جذرية في شكلها، ومن أهم هذه التغييرات هو تكوّن ما عُرِفَ بالأسر النووية، وهي التي تتكون من الوالدين وأبنائهما فقط، وضمر وجود الأسر الممتدة خصوصا في المدن الصناعية والحواضر، فـ (بارسونز) مثلا يرى أنّ شكل الأسرة النوويّة هو الأكثر تناسبًا مع المجتمع الرأسمالي الحديث.

فالأسر باتت في صورة وحدات منعزلة عن بعضها، ويظهر السلوك الخارجي لأفراد الكثير منها على أنه فرداني متمحورٌ حول ذاته ومنعزلٌ عن الكيان الكلي للأسرة -التي بدورها منعزلة جزئيا- ولكن إذا تأملنا قليلا سنجد أنّ عددًا لا بأس به من الأفراد ليسوا فردانيين، وإنما ذائبون، سواء في كيانات أخرى مثل الأوتاكو -أي مدمني الأنمي-، أو الفرق الغنائية الكورية وغيرهما، أو حول أفراد مثل المؤثرين كما أسلفنا.

ويتضح هذا أكثر عندما نحاول تحرير سمات الشخصية الفردانية الأصيلة، حيث إننا سنجد أنّ صفات الاعتداد بالذات والاعتماد عليها والاكتفاء بها صفات أساسية، مما يعني أنه يمكن أن يعيش بعيدًا عن كيانات (حقيقة أو افتراضية) أو يعيش بينهم دون أن ينفعل كليًا معهم، ودون أن يشعر بإشكال كبير، لأن الشعور الغريزي بالانتماء عنده قد أشبعه بالانتماء لذاته.

من ناحية ثانية نلاحظ صفات أخرى في شرائح واسعة من المحسوبين على الفردانية وتتضمن: عدم تحمل البقاء بعيدًا عن تلك الكيانات (الافتراضية – حقيقية)، عدم القدرة على أخذ قرارات مصيرية، الهشاشة النفسية، عدم وضوح -وأحيانًا اضطراب- الهوية الذاتية، وهذا يعني أحد أمرين:

١- أنهم ذائبون تمامًا ولم يبق من ذواتهم ما يمكنّهم من الانفعال الواقعي؛ مما يعني أنهم ليسوا فردانيين.

٢- أنهم فردانيون فردانية غير أصيلة -الموضَحة آنفًا- فيحتاجون إلى بقاء حبل الانتماء مع من اصطُبِغوا بفردانيته، لأنها هوية ليست أصيلة عندهم، فلا يمكن أن تحافظ على ذاتيتها دون تعزيز خارجي.

ارتداء الأوتاكو لأزياء شخصيات الأنمي

ما أسباب تكوُّن الذوبانيين؟

الحقُ أنّ أسباب جنوح تلك الظاهرة الخطيرة في هذا الجيل تحديدًا كثيرة جدا ومتعددة، فجزء كبير منها يعود إلى طريقة التربية الخاطئة التي لا تعزز الثقة في نفوس النشأ، ولا تربيهم على العزة التي يجب أن يتحلى بها المسلم، ولا تعطيهم أدوات ووسائل الوصول إلى فهم الذات وتكوين الهوية الذاتية، ولا تعلمهم تحمل المسئولية وأخذ القرارات.

وكذا طريقة التعليم في المدارس الإلزامية التي تلغي شخصياتهم وتقولبهم، فيضطر أغلب الأفراد إلى الذوبان في محيطهم خصوصًا مع عدم وجود خلفية تربوية تُحصِّنهم من هذا التذويب؛ فطبيعة هذا الجيل المعروفة بـ “رقائق الثلج”، أراها نتيجة طبيعية لطريقة التربية والتعليم، وسبب أساسي لجنوح ظاهرة الذوبانية.

أنواع الذوبانية

يمكن تقسيم الذوبانية إلى: ذوبانية كليّة، وذوبانية جزئية.

أما الأولى وهي الذوبانية الكلية، وتتمثل صورتها فيما ذكر آنفًا، وهو فقدان الإنسان ذاتيته كليًّا، أما الثانية، وهي الذوبانية الجزئية فهي تأثر جانب من جوانب الإنسان بهذا الإشكال مع الحفاظ على بعض التماسكية في جوانبه الأخرى.

يمكننا القول بأن الذوبانية الجزئية موجودة على مر العصور، فكما قال ابن خلدون في مقدمته “المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”، فإنه بطريقة أو أخرى يشير إلى شكل من صور الذوبانية الجزئية، فشعور الهزيمة أمام الغالب يمكن أن يكون نفسيًا أو فكريًا أو ماديًا أو اجتماعيًا، وكل جانب من الجوانب الأربع يمكن أن يقع فيه انبهار وولع بالغالب -أيًا كان، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات- فيؤدي إلى الذوبان فيه وتقليد أعرافه خصوصًا لو كان الانبهار ماديا أو اجتماعيًا، ومعتقداته لو كان الانبهار فكريا أو نفسيا.

وساعد في تعزيز الذوبانية الجزئية في الجانب الفكري رواج فكرة النسبية وعدم الاكتراث، مما أدى إلى انصهار حاجزَي الفكر والهوية اللَذين يمنعان وقوع هذا النوع من التأثر.

ويمكن أن تتحول الذوبانية الجزئية إلى كلية في حال وقوع الفرد في الانبهار الكلي، وهذا يحدث عندما تذوب بقية تكويناته الذاتية المتماسكة ليفقد ذاته تمامًا.

ما المآلات الاجتماعية للذوبانية؟

إنّ مآل الذوبانية هو مجتمع عاجز تمامًا عن القيام بأي شيء أو صدور أي رد فعل عنه، لأن ردود الأفعال لا تتأتى إلا بوجود ذات تنفعل ليصدر عنها رد فعل -على الأقل-، فالذائب فاقدٌ لذاته، لذا فهو مطموس الهوية والذاتية معًا، بل إنّ الفرداني يمكن أن يصدر عنه رد فعل وإن كان قاصرًا لعدم انخراطه مع المجموع الكلي أو عدم توجيهه للمصلحة الكلية، ولكنه على الأقل لا زال محتفظًا بجزءٍ أساس من مقومات إنسانيته وهو الذات.

ختامًا

إننا نعيش في عصر متسارع في كل شيء، فالقفزات والتغيُّرات الاجتماعية باتت سريعة ومتقلبة، فملاحظة المجتمع وسلوك الأفراد ومحاولة رصد الظواهر الاجتماعية والفكرية الجديدة أو نظمها في اصطلاح يوضح مساحتها وحدودها أمرٌ مهمٌ في طريق الإصلاح لا بد أن نحرص عليه، ويجب شحذ الهمم لمعالجة هذه الإشكالات، وتوجيه الجهد الأكبر إلى أسس ومنابع الإشكال -وتتمثل هنا في التربية والتعليم – حتى يتم حله بشكلٍ صحيح ومتوازن.

أسأل الله أن يبلغ هذه الأمة رشدها.

فلسطين.. حتى لا تكون أندلسًا أخرى

في سنة 897 هجرية/ 1492 ميلادية استيقظ العالم على خبر سقوط آخر معاقل من معاقل حكم المسلمين للجزيرة الإيبيرية التي دام حكمهم لها قرابة 800 سنة كانت فترة الحكم هذه يسودها العدل عدل الإسلام الذي تمثل في حكم المسلمين لكل الطوائف والمعتقدات الدينية على حد سواء، فترة ساد فيها العلم وأصبحت إيبيرية أو الأندلس منارة العلم التي حج إليها العربي والأعجمي المسلم والأوروبي النصراني في وقتٍ كانت أروبا تعيش في ظلام الجهل، تعيش تحت حكم الكنيسة الظالمة التي نهبت شعبها في ما كان يسمى بصكوك الغفران، فترة عاش فيها اليهود أزهى أيامهم تحت راية تحترم الإنسان والإنسانية تعطي لكل ذي حق حقه بغض النظر عن عرقه ومعتقده، فيما عاش إخوانهم في نفس الفترة أحلك أيامهم تحت راية النصارى اللذين تفننوا في تعذيبهم أشد العذاب.

هذه هي الأندلس والنكبة التي يبكي على أطلالها المسلمون كلما لمحتها أعينهم أو سمعتها أذانهم، فيا ترى هل الأندلس هي النكبة الأولى والأخيرة التي تجرع المسلمون مرارتها أم في قلوبهم وأفئدتهم غصة غيرها أشد منها قوةً وأثراً.

تعدُّ كارثة سقوط الأندلس أمام النكبة الفلسطينية التي سقط معها حكم المسلمين للأراضي المقدسة لصالح الصهاينة سقطة هينة، نعم هينة لأنها قضية ليست كأي قضية، وحتى لا تكون فلسطين أندلساً أخرى، سوف نحاول استخلاص الأسباب التي أدت إلى سقوط الأندلس من خلال الإجابة عن الإشكاليات التالية: لماذا سقطت الأندلس؟ ما القاسم المشترك بين القضيتين؟ كيف ننصر القضية الفلسطينية؟

لماذا سقطت الأندلس؟

بدأت قصة سقوط الفردوس الأندلسي في عز سيطرة المسلمين على الأراضي الإيبيرية، وذلك بسبب أكبر خطأ عسكري ارتكبه القائد المغوار طارق بن زياد ومن جاء بعده مثل يوسف بن تاشفين، تمثل في عدم السيطرة على المناطق الشمالية في البلاد، مما جعل النصارى يتحصنون فيها ثم يتمددون منها إلى أن سيطروا على بلاد المسلمين مرة أخرى، وهذا الخطأ دفع المسلمون ثمنه غاليا، بأن خرجوا منها كما دخلوا لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ويا ليت هذا كان، فحتى الدخول لم يكن كالخروج، هذا بسبب خبث العدو المتروك الذي تفنن في تعذيبه للمسلمين قبيل حكمه لهم، وبهذا كان تعامله مع المسلمين نقيض تعامل المسلمين مع أهل الجزيرة حين فتحهم لها.

من جملة الأسباب التي أدت لسقوط الأندلس وخروج المسلمين منها تخاذُلُ المسلمين وبعدهم عن نبع الحق ومشكاة الوحي وسكونهم للأرض وملذاتها وشهواتها من الأسباب القوية التي يغفل عنها كل من يبحث في السبب وراء سقوط الجزيرة الإيبيرية، فلو يبحث الباحث عن أسباب سقوط الدول المسلمة سوف يجد قاسمًا مشتركًا بينهم ألا وهو البعد عن الدين، فقد وضع الله سبحانه وتعالى لخلقه قوانين وسن لهم تشريعات منذ بعثة الرسول الكريم لهذه الحياة، سننًا وقوانين من التزم بها حاز النصر والتمكين، ومن حاد عنها رفع الله يده عنه وسلط عليه عدوه حتى يستأصل جدورهم وآخر معاقلهم.

عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ) [أخرجه أبو داود في السنن وأحمد في المسند وغيرهما]

من الأسباب ابتلاء الأمة بحب الدنيا والخلود إليها، كما قال جل وعلا: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]

ومن تلك الأسباب إسناد الحكم إلى غير أهله، روى البخاري في صحيحه أنه ﷺ قال: (إذا ضُيِّعَتِ الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة).

ولهذا قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: “فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما أو ولاء أو عتاقة أو صداقة أو موافقة في بلد أو مذهب، أو طريقة، أو جنس، كالعربية والفارسية، والتركية، والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينها، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهى عنه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[الأنفال 27-28]” [السياسة الشرعية]

ومنها التنازع في الأمر: كان هذا في عهد ملوك الطوائف الذين خربوا البلاد بجشعهم وتنازعهم على السلطة والحكم حتى تقسمت البلاد الإسلامية إلى دويلات مضحكة، تفرق شمل المسلمين في عهدهم وتسلط عليهم عدوهم حتى كان الحاكم منهم يدفع للحاكم الصليبي الذهب لينصره على عدوه المسلم.

كثرة المعاصي والذنوب، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ.

القاسم المشترك بين القضيتين؟

في عام 92 هـ وبعد ثلاث أعوام فتح المسلمون الجزيرة الايبيرية شرقا وغربا شمالا وجنوبا، على يد القائد الأمازيغي المسلم طارق بن زياد، والقائد العربي المسلم يوسف بن تاشفين، كان هذا الفتح بداية قصة جميلة سوف تكتب فيما بعد بماء من ذهب، قصة يكتب عليها العربي والغربي قصة حزن وفرح قصة أسميتها الأندلس من المهد إلى اللحد، ولم تكن لتكتب هذه القصة لولا بقعة جغرافية صغيرة لا تكاد ترى بالعين المجردة في الخرائط البقعة التي تركها طارق ومن جاء بعده في يد أعدائهم، فقد ذكرت المصادر التاريخية أن هذه الفرقة التي تمت تسميتها باسم قائدها بلاي پلاجيوس والذي سميت البقعة الجغرافية التي تحصن فيها هو وجنوده باسمه فيما بعد. تذكر المصادر أن عدد الفرقة العسكرية التي تحصنت بذلك المكان كان عددهم حوالي 30 شخصا، منهم عشرة فرسان والباقي نساء وأطفال.

لم يتركهم طارق بن زياد في بادئ الأمر من غير أن يلحق بهم، فقد أرسل إليهم قائد من جنوده في سرية ليستأصل شأفتهم، فما كان من هذه الفرقة التي تعد بأصابع اليد سوى الاختباء والتحصن في مغارة تسمى “كوفادونجا“ حاصرهم المسلمون لشهور لكن شدة البرد القارسة في تلك الأراضي الباردة جعلتهم يفكون حصارهم عن هذه العصبة، وفي كل سقوط للمسلمين سبب ولعل السبب الأول في سقوطهم هذه المرة قولة شهيرة قلها قائد المسلمين حينما أراد فك الحصار: (ثلاثون عِلْجًا ما عسى أن يجيء منهم).

غادر وجنده مستهزئًا بهم ومن قلتهم، فرحًا بعودته إلى أهله وهو لا يدري عظم الخطأ العسكري الذي فعله، وكأن الله أغشى بصره عن الآية الكريمة التي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وجُنُودِهِ قَالَ الَذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ البقرة:249].

كانت هذه العصبة الصغيرة التي تركها المسلمون وخلف هذا الخطأ العسكري الذي ارتكبه قائد الجند سببا في سقوط الجسد بعد أن كان صحيحا سالما من كل داء.

البقعة الجغرافية الصغيرة والعصبة الصغيرة التي ضحك واستهزأ من صغرها القائد المسلم كانت بداية النهاية من تم بدأ سقوط الفردوس الأندلس، في تلك اللحظة بدأت نهاية حكم المسلمين للأندلس من تلك اللحظة بدأ المؤرخون الكتابة حول قصة الأندلس من المهد إلى اللحد.

لم ننقل هذه الأحداث التاريخية هكذا عبثا ولم نقل إنها قاسم مشترك مع القضية الفلسطينية انطلاقا من خيال أو حلم يراودنا إنما لتشابه القصص وتقاطع أحداثها.

ففي الأراضي الفلسطينية المقدسة بدأت نهاية القصة الصهيونية التي خطت خطوطا من الظلم والقهر والقتل بدم الشهداء والأبرياء اللذين تم تهجيرهم وطردهم من وطنهم لتحل محلهم دولة أخرى باسم آخر بوصفها الوطن الأبدي للصهاينة المظلومين.

في 1948 بدأت النكبة الفلسطينية ومعها تم احتلال معظم الأراضي الفلسطينية، هناك ظهر نجم سوف يظل إلى اليوم النور الذي يؤكد الوجود الفلسطيني في تلك الأراضي، هي غزة النجم الذي استعصى على الصهاينة النجم الذي يضيء في زمن يسوده الظلام نجم ترك إسحاق رابين رئيس وزراء الكيان الجديد يتمنى الأماني في يقظته ونومه، كان يقول (أتمنى أن اصحو ذات صباح واجد غزة وقد ابتلعها البحر)، هذه المدينة الصغيرة التي تعيش حصار من الأرض والجو والبحر هي القشة التي منعت الصهاينة الراحة أو الهدوء هذه هي البقعة التي استعصت على الصهاينة، فهل تكون قصتها كالبقعة التي مهدت الطريق للقوط للاستلاء على الجزيرة الايبيرية.

إسحاق رابين (ويكيبيديا)

كيف ننصر القضية الفلسطينية؟

أولا: فهم القضية الفلسطينية وفهم أبعادها وقيمتها المركزية طريق نحو نصرة هذه القضية، فلا يمكن أن ننصر قضية أو شخص أو دولة أو قيمة إن لم ندرس أبعادها وجوانبها وجذورها، فالذي يتبع القضية بالعاطفة سوف يغير رأيه كلما تأثر بقول سواء أصاب الصواب أو جانب الصواب.

ثانيا: نصر القضية يبدأ من اتباع الإسلام قولا وفعلا فلو كان النصر يهمك انصر الله ينصرك، تقويم النفس واتباع أمر الله واجتناب نواهيه طريق نحو النصر، قال تعالى: {وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيْكَ وَٱصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ ۚ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ} [يونس: 109]

ثالثا: تعزيز الهوية لا نصر للمسلمين من غير العودة للفهم الصحيح للعقيدة الإسلامية والعمل بها، ولا نصر إن لم ينشغل المسلم باللغة العربية التي كلما حاد عنها حاد عن الطريق، لا نصر إن لم يقرأ التاريخ ويفهمه ويعتبر به في سيره لنصرة قضيته، لا نصر إن لم يعد القرآن الكريم القاعدة المركزية للحياة العملية للمسلمين.

رابعا: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) [رواه مسلم]، فالذي يقدر على الكتابة يكتب فهذا نصر، والذي وهبه الله حسن الكلام والمناظر يناظر وينافح عن القضية فهذا من النصر، فمن لم يستطع لا يروم إلى الباطل ويعقد قلبه ويجمعه على الحق.

في الختام

عندما نقارن بين حال فلسطين والأندلس سابقًا، نرى العديد من أوجه الشبه بين أحوالهما، ومن هنا فإنه لا بد من العمل للحفاظ على فلسطين مسلمةً محرّرة، ونذكر هنا نظرية قال بها ابن خلدون وسماها “الاستماتة والاستبصار”، يقول ابن خلدون فيما معناه أن النهوض الحضاري الذي يسعى إليه المسلمون، يقتضي استماتة منهم في تنفيذ فكرة أو قضية معينة، وألا يعوقهم دونها عائق وأن يكونوا مستعدين للموت في سبيل تحقيقها، واستبصارا أي يكون لديهم وعي بهذا المشروع الذي يريدون أن يموتوا في سبيله والوعي به يتجلى في بعد نظرهم ورؤيتهم واستعدادهم لما يصادفهم في مستقبلهم.