الخروج من الصراع الهدام بين التيارات الفكرية
إنّ السعي للخروج من الصراعات الفكرية البارزة على الساحة الآن لم يعد اختيارًا رفاهيًا يمكن الأخذ به أو تركه، بل هو ضرورة يجب أن تتحقق إذا أردنا أن نتوجه نحو البناء والنهوض الحضاري، إذ إنّه لا يُتصوَّر إمكان التحرك نحو النهضة وبلوغ مرحلة الرشد في خضم هذا التناحر الفكري والصراع الهدّام بين مختلف التيارات الفكرية.
لماذا تتحول بعض الأفكار إلى ساحة نزاع هدام؟
حتى نستطيع الوصول إلى مرحلة البناء في الأمة على المستوى الكلي، ونشرع في التحرك نحو حالة الرشد الحضاري، علينا أولًا إدراك طبيعة الأفكار التي هي أساس أي بناء، ومن اللطيف أن نجد قانونًا فيزيائيًا يستطيع تمثيل جزء كبير من هذه الطبيعة بدقةٍ وجلاء، حيث ينص القانون الثالث من قوانين نيوتن للحركة في الميكانيكا التقليدية، على أنّ القوى تنشأ دائمًا بشكل مزدوج، حيث يكون لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكسٌ في الاتجاه، وتعيين إحدى القوتين بوصفها فعلًا والأخرى رد فعل، هو تعيين تبادلي حيث يمكن اعتبار أي من القوتين فعل في حالة اعتبار الأخرى رد فعل، والعكس صحيح.
ومن الممكن أن نرى تجليات هذا القانون ذاته في عالم بعض الأفكار والحركات الاجتماعية الناشئة عنها، فكثير من الأفكار تنشأ بشكل مزدوج أو بشكل فردي يُهَيكل الازدواجية مع الاتجاه المضاد، وتحدث هذه التبادلية في ردود الأفعال في الأفكار، والتي تتبلور وتتجسد في الحركات الاجتماعية الحاملة لها والمحركة لها كذلك، وطرفا النقيض هنا لا نعني بهما دائمًا وصف اليمين واليسار من ذات الفكرة، وإنما بشكل أوسع نقصد بهم الفكرة والفكرة الأخرى التي نتجت ردَّ فعل لها سواء كانت من جنسها أو لم تكن، مثل جنوح الفردانية بعد خيبة الأمل التي أصابت الناس جراء الحرب العالمية الثانية.
وهذا يدل على أنّ وجود حالة التصادم الفكري الاجتماعي مرتبطةٌ بنشوء فكرة خارج سياج المكونات الحضارية التي تتشكل على ضوء تمايز الهُوية عند كل أمة، لأنها ستؤول إلى تكوين فكرة مضادة، وتبدأ رحلة الصراع والتراشق بين الفكرتين، إذ من المستحيل أن يجتمعا أو يتفقا أو يتواجدا بسلام في مساحة واحدة، وإلا سنخرق أحد المبادئ العقلية الضرورية، وهو مبدأ عدم اجتماع النقيضين، -بالطبع نقصد هنا الأفكار التي تُمثل طرفي النقيض- وينشأ عن هذا المعترك عندما يتكرر في عدة أفكار تحديًا حقيقيًا لكل من أراد خوض غِمار هذا العالم، وهو الحفاظ على الموضوعية في ذات الوقت الذي تتنازعه فيه كافة القوى الفكرية المتضادة لتجرفه في تيارها، والحفاظ على حياة مبادئه من السحق في المنتصف بين معارك الأفكار المتناحرة.
بحثًا عن التوازن
بالرغم من وجود هذا المعترك الفكري، إلا أنّ هناك حالة من التوازن يمكن أن تحصل ولو على مستوى الصراع، وتتحقق هذه الحالة بتساوي طرفي النقيض في القوى المحركة لها، والتي غالبًا تتمثل في الحركات الاجتماعية التي نشأت عنها أو تبنّتها، ولكن ينتج عن ضعف إحدى القوتين اختلال في ساحة الصراع والذي غالبًا سيؤدي إلى ابتلاع القوة الأكثر هيمنة القوةَ الناشئة أو التي أصابتها الشيخوخة أو الهزال.
يبدو ظاهريًّا أنّ هذه الحالة قد تم التخلص فيها من طرف الصراع، وأنّ الاستقرار الاجتماعي هو المرحلة المقبلة، إلا أنّ هذا لا يحدث، بل تتكون أفكار أخرى جديدة مناهضة لهذا التيار ولو بصورة بطيئة، فطالما أنّ الفكرة المهيمنة خارج سياج المظلة الكبرى لهُوية تلك الأمة؛ فإنه من الصعب جدًا أن تجد لها استقرارًا أو هيمنة كاملة إلا بطمس تلك الهُوية، وحينها يمكنها أن تنشأ هي هُوية جديدة تنبني عليها الصراعات.
تمامًا كإنسان يحمل حقيبة ثقيلة في كل يد لهما نفس الوزن، نعم هي ثقيلة ومرهقة له، ولكنه متزن في تلك الحالة، فلو وضع إحدى الحقيبتين مع الأخرى وجمعهما في حقيبة أكبر في يدٍ واحدة؛ لانجذب بثقلها نحو الأرض، ليضطر إلى السير مائلًا حتى تتركز قوة جسده إلى الجانب المُحمَّل، فالمشهد الكلي له هو حدوث خلل واضح في توازنه، ولن يستطيع تجاوزه إلا بإحضار حقيبة جديدة تقارب وزن الأوليين معًا، أو تركها مطلقًا والتخلص منها والبدء في البحث عن حمولة جديدة تناسبه هو، لذا من العبثِ التوجه لإصلاح أو تقويم أحد الاتجاهات دون نظيرتها، لأن هذا سيُحدث خلل في الهيكل الفكري الاجتماعي.
كيف ينشأ هذا الخلل؟
من الإشكالات التي يجب التنبه لها وهي موجودة على الساحة الآن، مجابهة بعض الأفكار والتيارات دون توجيه الجهود الكافية للاتجاه المضاد، فمثلًا إشكالية النسوية والذكورية، الانحلال والتشدد … إلخ، كل هذه القضايا لو اقتصر العمل فيها على اتجاه دون آخر؛ سيكون مآل ذلك انبثاق خلل جديد في المجتمع، لأنه سيحصل خلل في التوازن الفكري الاجتماعي، فعندما ينكمش تيار ويضمحل دون إشغال مساحة الفراغ التي تركها؛ سيتمدد الاتجاه المعاكس ليشغلها ويحتلها، فنتفاجأ -ربما بعد أعوام- من مناهضة التيار الأول، أنّ ثمة تيار آخر متوحش مستفحل في المجتمع يحتاج إلى رحلة جديدة تستغرق سنوات جديدة لأجل تقليصه.
ولو سرنا على ذات النسق الأول، أي بالعمل على تيار واحد؛ فكَّبِّر أربعًا على بزوغ المشاريع التنموية النهضوية الحقيقية التي تنتقل بنا من مرحلة الترميم والإصلاح إلى مرحلة البناء، لأننا سنظل في ذات الدوامة، لأن كل تلك الأفكار إما دخيلة على الهُوية الإسلامية أو منحرفة عن أصلها الصحيح، لذا فلا مكان لها تحت مظلة الهُوية الإسلامية.
ما الطريقة الصحيحة للتعامل مع صراع التيارات الفكرية بشكل متزن؟
والصحيح هو العمل بالتوازي بصورة متوازنة على كافة الأصعدة، وهذا عن طريق توجيه جهود متساوية لكل فكرةٍ مُشكلةٍ والفكرة المضادة لها، وهذه الجهود يجب أن تُبرِز المرجعية التي ننطلق منها وهي مرجعية الوحي، وأنه المعيار الذي تتحقق به الموضوعية عند موافقته لما أراد الله، لأن الوحي هو العامل المركزي في تشكيل هُويتنا، ويجب الحرص على عدم الغلو أو التمييع أثناء حل الإشكالات والإشكالات المضادة.
وثمرة هذا أمران:
١- تقليص فترة الترميم إلى النصف، لأنه يتم العمل على كل فكرة واتجاهها المضاد في ذات الوقت، فنكسب وقتًا يمكننا فيه الاتجاه نحو البناء.
٢- كسر الدائرة التي نؤول إليها في كل مرة نعمل فيها على جانب ونُغفِل الآخر، وبالتالي ضمان انكماش طرفي النقيض وتبلور الموضوعية على الساحة.
وهذا لا يستلزم أن يهتم كل فرد بالفكرة واتجاهها المضاد في آنٍ واحد، لا مشكلة في أن يتخصص كل فرد في نقض أحد التيارات، ولكن من الضروري أن يتحقق التكامل الإصلاحي بأن يكون مجموع سعي العاملين في الساحة يغطي كافة الأفكار باتجاهاتها المضادة، مما يعطي بريق أمل من إمكان الوصول إلى النقطة التي يمكن أن ننطلق منها نحو البناء، مع أهمية استمرار هذا العمل المتوازن المتوازي لأن توليد الأفكار لا يمكن أن ينتهي، إذ إنّ وجودها مرهونٌ بوجود البشرية.
أهمية التكوين الفكري لأبناء الأمة
بعد أن نظرنا إلى المساحة الكلية لطبيعة الأفكار وحركتها وكيف يمكن أن نتعامل معها لنتجاوز مرحلة الترميم والإصلاح إلى مرحلة البناء، يجب أن نبذل جهودًا لإنشاء جيل يصعب توّلد هذه الأفكار بهذا الشكل فيه، وهذا عن طريق التربية الصحيحة القويمة على كتاب الله وعلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترسيخ العبودية لله جل وعلا في نفوسهم، والمداومة على تزكيتهم.
ومن المهم بعد رسوخهم في الأصول أن يطلعوا على الأفكار والأديان الأخرى المنحرفة عن مراد الله تبارك وتعالى، وكيف يتخبط الناس في ظلمات الجاهلية بتركهم نور الإسلام ودين الفطرة، فهذه المعرفة تُبرز جمالية الإسلام أكثر، إذ إنّ الأشياء لا تُعرَف إلا بأضدادها، وكذا تمرين العضلة الفكرية عندهم بالمناقشة والحوار الذي يجعلهم معتزين بالإسلام، شاكرين اللهَ على هدايته لهم، واصطفائهم لحمل دينه، فيزدادوا نورًا على نور، ورسوخًا على رسوخ، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إنما ينحّلُّ الإسلام عروةً عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية”.
ما هي آلية الاطلاع على الملل والنِحل الأخرى؟
يمكن القول: إنه لا يوجد آلية موحَّدة لتحقيق هذا الغرض، إذ تتفاوت الآليات والطرائق تبعًا لقرائن كثيرة تشمل العمر والبيئة وطبيعة الأفراد وطبيعة العصر وغير ذلك من القرائن التي يمكنها تحديد الآلية المناسبة، وفي مراحل متقدمة يمكن الاتجاه نحو الدراسات المقارنة، لأنها أفضل ما يُبرز حقائق الأمور، فأشدُ البياض يُرى بجانب أحلك السواد، وهذا ما رآه الشيخ الداعية محمد الغزالي رحمه الله إذ قال “الدراسات المقارنة هي في نظري أجدى الوسائل للبحث عن الحقيقة، والظفر بها” [جدد حياتك].
ختامًا
إنّ السعي نحو الوصول إلى النقطة الفيصلية التي تسمح لنا بالتحرك نحو النهضة دون الانجذاب أرضًا تحت سطوة لُجج الأفكار أمرٌ مركزيٌ يجب أن نضعه نصب أعيننا، إذ إنّنا لو غفلنا عن هذه الحقيقة المتمثلة في أنّ الكثير من الإنتاج والكتابات والجهود الموجودة على الساحة الآن في حقيقتها متوجهة نحو فكرة واحدة دون إيجاد نِتاج للفكرة المضادة، وبالتالي تُستهَلك الكثير من الجهود الضخمة في مجابهة دائرة واحدة وبعضها تغرق في إحدى اللجج الفكرية، دون أن نعي أننا نُستهَلك ونستهلِك الزمان والطاقات والعقول في معارك كان يمكننا أن نتجاوزها لو تعاملنا معها بطريقة صحيحة متوازنة، سيفوتنا الكثير من الفرص، ولكن علينا التنبه والتحرك حتى نعطي فرصة لسفينتنا أن تتحرر من دوامة معترك الأفكار اللُجيِّة؛ فتُبحِر.
نسأل الله أن يُبلِّغ هذه الأمة رشدها.