image_print

نقض مظاهر الخرافة في العمارة

هذا المقال سيكون لطرح وإثارة أسئلة ومحاولة لتحليل ظواهر ومفاهيم معاصرة، دون وجود إجابات قاطعة بالضرورة وإنما محاولة للفهم، وذلك لئلا نطمئن لنمط واحد ثابت وحقيقة قاطعة لمفهوم العمارة خاصة في ظل عصر الحداثة السائلة المتغيرة.

الطريقة الأنسب للمضي قدما عند التكلم بموضوع شائك متشعب تكون بطرح الأفكار ووجهات النظر المختلفة، ثم النقاش ومبادلة الآراء وتفكيك المعلومات وترتيبها وتنقيتها للوصول للنقد دون الإسفاف والتسخيف والتسطيح، لتصبح الصورة أكثر وضوحا والفكرة أكثر تبلورا، ومن تلك المواضيع الجدلية هي مفهوم العمارة الإسلامية.

إننا عندما نتكلم عن العمارة الإسلامية، فإنه يخطر ببال البعض أجواء الصحراء الساحرة والأضواء الذهبية وقصر علاء الدين وعالم ألف ليلة وليلة، كما شبهها المؤرخ المعماري د. ناصر الرباط في محاضرته (إعادة تسمية العمارة الإسلامية) (1)

رسم متخيّل لقصر علاء الدين من انتاج شركة ديزني

نحن المسلمون مستمسكون بالوحي وقارئون للواقع، فهل نسمح لصورة العمارة الإسلامية أن يتم ربطها وتنميطها بالخرافة؟ كيف وصلت منتجات الحضارة الإسلامية لتلك الصورة النمطية ولماذا يتم الترويج لها، وربط الصورة الرومانسية للعمارة الإسلامية بأنها قديمة وصحراوية فيها قباب وأقواس عالية وزخارف معقدة؟ وما هو الحل للتخلّص من هذه الصورة النمطية؟

هل يكون الحل بالتخلي عن القباب والأقواس والزخارف؟

ربما قد يرى البعض أنه من الأفضل أن لا نثق بما أنتجته الحضارة، ويريد أن يفهم الاسلام من جديد ويتجرد من كل الأشكال التقليدية والشوائب التاريخية التي قد تعيق من فهمنا لجوهر الإسلام، بما أنه لا رموز في الإسلام، وأنه صالح لكل زمان ومكان؟

بالرغم من صحة أن الإسلام لا رموز مادية فيه، إلا أنه يجب التنبّه إلى أن الإسلام ليس فلسفة روحانية خالصة، وإنما هو منظومة كاملة تلقي ظلالها في جوانب الحياة الدنيا ومتطلباتها وقراراتنا فيها، والذي لا يقتصر دوره –في حالة العمارة- على الإفتاء بجواز البناء بشكل أو نمط معين وانما فهم استراتيجية البناء وفلسفته، وملاحظة إن كانت متوافقة مع الظروف المحيطة دون وجود أشكال ظلم وإجرام للبيئة/الأرض أو الناس أو الثقافة لذلك السياق.

العمارة الإسلامية في الواقع المعاصر
هل يتطلب فهمنا للواقع المعاصر التركيز على الوظيفة المادية للتصميم، وهل التركيز على الهوية قد يعيق هذا التقدّم؟ أم هل يعتبر التركيز على الهوية خطابًا عاطفيًّا؟ هل أصبح الشعور بالهوية والانتماء شيئًا ثانويًّا يضاف كلمسة أخيرة لإسكات ضمائرنا من التجرد الذي وصلنا إليه؟ هل العمارة الاسلامية مختزلة بأشكال وأنماط معينة؟ أم هل هي استراتيجية وفلسفة بناء؟ أم ربما لا يوجد شيء اسمه (عمارة اسلامية) وما هي إلا تبعية وتقليد للملل الأخرى؟

البعض ممن يريد أن يطور من التصميم العمراني ليواكب الواقع، يلجأ لتصميم حداثي متناقض لا علاقة له بالبيئة المحيطة، ثم يغطّيه بزخرفات ذات صبغة إسلامية ليعطيها طابعًا خاصًّا.

قاعة المؤتمرات والمعارض في جامعة GUtech Oman

العمارة في عصر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
الصورة التالية توضح نموذج مجسمِ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسجد النبويّ عندما تم بناؤه.

مجسم بيت ومسجد الرسول (ص) عند بناءه

في حين إن رجعنا إلى القائمة التي تصنّف العمارة الإسلامية في الأقواس والقبب والزخارف، نرى أن بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن تصنيفه على أنه ذو طراز إسلامي، وهنا نستذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى). [أخرجه أحمد في المسند] لندرك أنه يجب إعادة فهم ما الأساس الفكري للعمارة الإسلامية.

قبل القفز للاستنتاج الفوري أنه لا يوجد طراز إسلامي بناء على تصميم منزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقبل أن نتجه فورا لتقليد بناء هذا المبنى باعتباره تصميمًا مقدسًا، يجب إدراك مفهوم العمارة الاسلامية بأنها قائمة على مبادئ استراتيجية وليست مبنية على نتاج نهائي أو شكل ثابت مقدس، بل تتغير بحسب الحاجة.

إن العمارة الاسلامية مرنة على الدوام مع التأكيد على وجود عنصر الثبات حتى لا يصل التغير والمرونة الدائمة الى حد الهدم، كما أن التغير والتأقلم لا يعني بالضرورة أنه يجب علينا البدء من الصفر في كل مرة.. لقد كان تصميم منزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناسبًا مع البيئة المحيطة في ذلك الوقت، ومع قيم وأسس المجتمع الذي كان فيه، ومن هنا نرى أن المهم إدراك الفرق والأبعاد المختلفة بين مفهوم المجتمع والحضارة في عصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وفي عصرنا الحالي.

بناء على الشريعة السمحاء، فإن الأصل هو الإباحة في استخدام العناصر المعمارية المختلفة، واستنباط من العمارة السابقة ومن أنماط العمارة المعاصرة وعمارة الملل الأخرى ما يناسب عقيدة وهوية الإسلام. ويوجد مجال واسع للاجتهاد بأمور الدنيا وما يتطلبه الواقع. لكن يجب فهم متى تصبح اجتهاداتنا بدعة وجاهلية يجب التخلص منها وقطعها؟ وهل اتباع نمط معين في العمارة يعتبر تشبهًا بالملل الأخرى؟ هل يجب تمييز العمارة الإسلامية عن غيرها؟ أم نمشي على مبدأ أن الإسلام لجميع الناس، وبالتالي سيكون من التنفير والانغلاق أن نطور لغة معمارية خاصة بالحضارة الاسلامية؟ أم أنها فطرة طبيعية في الإنسان أن يبني حضارة خاصة ويترجمها في حياته؟

مفهوم الحضارة وتطور المجتمع
لغة التصميم العمراني يترجم جزء كبير من الحضارة وقيمها، ولفهم المنهج العمراني وفهم لماذا يتجه البشر لترجمة أفكارهم وقيمهم في جوانب حياتهم المختلفة، فإنه يجب فهم ماهية تطور الحضارة، إذ إن الحضارة لا تنتج من البداوة والتنقل المستمر، وإنما من الثبات والتجذر، وكما أن المرونة واجبة لكن لابد من وجود جذور لتترسخ قيم الحضارة وتتجلى بأشكال الحياة المختلفة كالطعام واللباس واللهجة واللغة والتصميم العمراني.

عرّف ابن خلدون الحضارة بأنّها “تفنّن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله”، كما عرّفها ضمن الإطار الإجتماعي والتاريخي بأنّها الوصول إلى قمّة العمران والتطوّر الثقافي والشخصي للمجتمع والدخول للرقي الاجتماعي الثابت فالحضارة بوجهة نظره هي نهاية العمران. (2)

مع أن الترف الزائد غير محمود وليس الأصل في الإسلام، إلا أن الاتجاه المعاكس من التقشف ليس من الإسلام أيضًا، بل يجب أن نصل لحالة توسط وموازنة. الحضارة هوية.

وهنا نسأل: ما هي الهوية أصلا؟ ماذا عن الحديث الشريف (عش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)؟ هل يتعارض الشعور بالانتماء مع هذا المبدأ؟ وهل الحنين للماضي وللوطن يعتبر شركًا؟ هل اتباع نمط معين في بناء الحضارة يعتبر تبعيّةً من أثقال القيود التي صنعها البشر في جاهلية الزمن الحديث؟

هل التمسك بالحضارة بدعة وجاهلية؟
هل مفهوم المجتمع في وقتنا الحالي نفس مفهوم المجتمع في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم، هل يناسبنا أن نستلهم الأشكال وأدوات البناء البدائية غير المتطورة في عصره وأن نطبّقها مباشرة على عصرنا وما وصلنا إليه من تشعّب وتشابك وتعقيد في مفهوم الحضارة؟

أم هل من الأفضل فهم واستنباط الاستراتيجية والفلسفة من وراء التصاميم الإسلامية السابقة، وتطبيقها على الواقع المعاصر بما يناسب الاحتياجات المعاصرة، محافظين على توازن بين المفاهيم التي تتطلب الثبات مثل الهوية والأخرى التي يمكنها التغير والمرونة كالتقدم التكنولوجي.

من اليسار إلى اليمين يوضح التحول المورفولوجي (التغير في التشكل العمراني) من مستعمرة رومانية إلى مدينة إسلامية. Kostof & Tobias (1991, page 49)

يجب أن نؤكد هنا، أنه ثمة عمارة إسلامية نابعة من الحضارة الإسلامية، وهي ليست بدعة أو شركًا أو تقليدًا، فمن فطرة الإنسان أن يميل إلى الاستقرار، وإيجاد أنماط يدركها ليتحكم بها، حتى يكون مسيطرًا على الطبيعة ويسخرها بما يفيده بطريقة فعالة ومستدامة، وتكون متوافقة مع معتقداته وأفكاره كي يعيش دون توتر أو تناقض، وبانسجام بين معتقداته والأدوات المادية في حياته اليومية، ونعرف هذا بالرغم من عيشنا في عصر الحداثة السائلة، حيث يعيش الإنسان الحديث البداوة الحديثة، وبالرغم من ذلك فإننا نحاول إيجاد الأنماط والمحافظة عليها لأن هذا من فطرتنا.(3)

لخّص الفيلسوف روجيه غارودي زياراته في البلدان الإسلامية وبخاصة العربية: لا انفتاح لطريق جديد ولكن هناك محاكاة مزدوجة: تقليد الغرب أو تقليد الماضي (4).

وهنا أتساءل هل الخيارات الموجودة في عمارة الدول الاسلامية هي إما بناء قصر علاء الدين أو التجرد التام المركّز على الوظيفة؟ وهل الخيارات المتاحة هي إما الرجوع للماضي أو التقليد للغرب؟

التمسك والبناء على ما خلفه الأولون وتطويره ليس نوستالجيا أو رومانسية غير عقلانية ولا اتجاه تام للماضي وإنما فطنة وقمة العقلانية فإننا لا “نعيد اختراع العجلة” كما يقال.

وهنا نسأل، ماذا عن التمسك وتطوير ما خلفته حضارتنا الاسلامية السابقة والبناء عليها؟ هل التمسك بقيم الحضارة يمحو الإبداع ويعتبر تخلفًا ورجعية؟ أم هل هو إرجاع لقيم عصر الاستنارة والتحكم الكامل للطبيعة وبالتالي ضد عقيدة التوحيد؟ أم أنه وسطية بين هذا وذاك؟ يحافظ على الهوية ويدرك بنفس الوقت أننا كلنا من جنس آدم؟

الإبداع والتطوير مهمان، إلا أن مفهوم الابداع حين يعرّف بأنه كسر النمط، فإننا نفهم أنه لابد من وجود نمط حتى يتم كسره، وبدون وجود نمط خاص فينا لن يكون لنا حضارة راسخة، وإنما أنماط مستوردة متناقضة تنتج الفوضى، وإن محاولة الإبداع دون وجود نمط متماسك ستكون تجربة عبثية لإنتاج شيء جديد لا معنى له ولا مضمون ولا سياق، وإنما العبثية فقط.

صورة تعبيرية لمفهوم الإبداع والتميز باعتباره كسرًا للنمط

إن الابتكار والتميز شيء أساسيّ في عملية التقدم وبناء الحضارة، إلا أن الوقت الآن يعتبر حالة طوارىء يستدعي من أولوياته التعاضد والتماسك وليس الفردانية والخروج عن الإطار، ففي هذا العصر المتغير، نرى أن البشر عموما، والمسلمين خصوصا، في حالة تشتت وتشرذم لم نصل لها من قبل، ولذلك يجب علينا التمسك بما هو مشترك في حضارتنا الإسلامية وبناء ثقافة مشتركة، كي تقوى شوكتنا وتتقارب اهتماماتنا.


المراجع:

1- محاضرة د. ناصر الرباط على يوتيوب بعنوان (Re-branding Islamic Architecture?) https://www.youtube.com/watch?v=2cg3JSifqus&t=348s

2- مفهوم الحضارة عند ابن خلدون https://mawdoo3.com/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9_%D8%B9%D9%86%D8%AF_%D8%A7%D8%A8%D9%86_%D8%AE%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%86#:~:text=%D8%B9%D8%B1%D9%91%D9%81%20%D8%A7%D8%A8%D9%86%20%D8%AE%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9%20%D8%A8%D8%A3%D9%86%D9%91%D9%87%D8%A7،%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%AE%D9%88%D9%84%20%D9%84%D9%84%D8%B1%D9%82%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D8%A8%D8%AA%20%D9%81%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9

3- محاضرة د. هبة رؤوف عزت على يوتيوب بعنوان (الحداثة السائلة) https://www.youtube.com/watch?v=ArmgfnH0qhA&t=5s

4- كتاب روجيه غارودي: “جولتي في العصر متوحداً

مصادر الصور:

https://disney.fandom.com/wiki/The_Sultan%27s_Palace

https://design-middleeast.com/modern-mashrabiya/

https://madainproject.com/masjid_al_nabawi_at_the_time_of_prophet_muhammad

https://www.researchgate.net/figure/Morphological-transformation-of-a-Roman-colony-into-a-Islamic-city-Source-Kostof_fig7_295719509

https://egkw.com/Art/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A6-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%81%D9%87-%D8%B9%D9%86-132516

باوهاوس والنمط العالمي الموحد

عند افتتاح مدرسة باوهاوس للفنون والهندسة المعمارية في ألمانيا، يقول المدير المعماري والتر غروبيوس في ورد “بيان الفنان” في أبريل 1919: ” دعونا نناضل وننشئ المبنى الجديد للمستقبل الذي سيوحد كل تخصص، والهندسة المعمارية والنحت والرسم، والتي سوف ترتفع في يوم من الأيام من السماء من أيدي الملايين من الحرفيين كرمز واضح لعقيدة جديدة قادمة.” (1)

أشهر مقولة تم تداولها في هذه المدرسة هي للمعماري سوليفان يقول فيها: (الشكل يتبع الوظيفة Form follows Function)، مما يعني أن أهم معيار لنجاح التصميم هو الكفاءة القصوى، يرد أستاذ آخر في المدرسة، المعماري مارسيل بروير ويقول (… ولكن ليس دائما).(2) اعتبر العديد من الفنانين أن باوهاوس ليست مجرد مدرسة بل هي أيديولوجيا وتحول وقناعة جديدة في الفكر الفني والمعماري.(3)

تدّعي مدرسة باوهاوس بأنها أول من ابتكر فكرة البناء مسبق الصنع، وذلك من أجل تشكيل لغة معمارية عالمية موحدة، والتأسيس لعمل معماري إنساني جماعي يتميز بالعطاء المتجدد.(4)

كتاب Neufert من إنتاج مدرسة باوهاوس، درس هذا الكتاب تحركات وسكنات الانسان وكل أعماله ووظائفه اليومية, مع حساب حجم المساحة المطلوبة لفعل كل وظيفة لتحديد الكفاءة القصوى للتصميم

أصبحت عبارة “الشكل (على الإطلاق) يتبع الوظيفة” صرخة معركة للمهندسين المعماريين الحداثيين بعد الثلاثينيات. حيث إنه تم أخذ العقيدة على أنها تشير إلى أن العناصر الجمالية، والتي يسميها المهندسون المعماريون “زخرفة”، كانت غير ضرورية في المباني الحديثة. مع أن سوليفان لم يفكّر ولم يصمّم على هذا المنوال الصارم المتشدد في ذروة حياته المهنية.(5)

العمارة الإسلامية واستيراد الأفكار الجديدة
ينبغي أن نعرف أنه من الجيد استعارة وتطبيق بعض القوانين والمبادىء التقنية المفيدة من مختلف بقاع الأرض عند التصميم التقني للآلات والمباني، خاصة فيما يتعلق بالكفاءة القصوى للتصميم، مما يساعد الانسان على التحكم ببيئته بطريقة حضارية ومستدامة. لكن قبل أن نأخذ تلك القوانين كحقيقة قاطعة، من الجيد أن نعرف تبعات هذه القوانين بكل أبعادها، ونعرف لأي مدى يكون حدود استعمال تلك القوانين، حتى لا تنتج عنها تبعات تتعارض مع نمط حياتنا وأفكارنا وما نؤمن به.

النمط العالمي الموحد (International Style) وعلاقته بالبساطة المفرطة (مينيماليزم (Minimalism
اشتهرت حركة البساطة المفرطة في التصميم من قبل المعماري لودفيغ مايس فان دير روه Mies Van Der Rohe بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كان آخر مديري باوهاوس.

انتشرت الباوهاوسية واعتنقت فكرة الأقل هو الأكثر(Less is More) . نظرًا لتأثرها بشدة بالتصميم الياباني التقليدي وفلسفة الزن Zen، ومن هنا فإن التبسيطية أو الميناليزم Minimalism تبشر بتقليل العناصر في التصميم من خلال التجريد المستمر، فيتم الاهتمام بالأغراض المرئية والوظيفية من خلال التقلّص باستمرار من العناصر الأخرى المتعلقة بالنمط التراثي والجمالي والثقافي، ويروّجون أن بساطتها تعمل بالكفاءة. (6)

منزل حداثي مصمم على مبدأ البساطة المفرطة

 

منزل محاكي للأصل لأساتذة مدرسة باوهاوس مبني على مبادىء البساطة المفرطة

 

منزل حداثي مصمم على مبدأ البساطة المفرطة وفلسفة الزن

وبالرغم من أن ليست كل التصاميم على هذا النحو المتطرف من البساطة والتجريد، حيث تتنوع التصاميم أكثر بحسب استخدام مواد البناء وموقعه ضمن أشكال مختلفة من أجل تحقيق قيمة جمالية متناسقة بين المبنى والبيئة المحيطة، إلا أن كل هذه الفلسفة والقيم الجمالية مستوحاة من فلسفة الزن التي تركز على استعمال العناصر الخمسة للطبيعة، حيث لا يأخذ المهندسون المعماريون في الاعتبار الصفات المادية للمبنى فقط، بل إنهم يعتبرون البعد الروحي وغير المرئي، من خلال الاستماع إلى الشكل والاهتمام بالتفاصيل، والأشخاص، والفضاء، والطبيعة، والمواد.(7)

لا يعني انتقاد منهج التجريد والبساطة المفرطة التشجيع على البذخ والإسراف، وإنما محاولة فهم تبعيات هذا المنهج عند اتباعه حرفيا.

أما مفهوم البساطة، فانه ليس محتكرا بحركة المينيماليزم، وحتى نفهم أيديولوجيا معينة، فإنه يجب تخيل تبعاته الخالصة عند تطبيقه بحذافيره وتعاليمه الحرفية وما ينتج عنها، وهنا فإننا لسنا بحاجة لمفاهيم هجينة تعلمنا كيف نبني مساجدنا ومنازلنا، خاصة عندما تكون مبنية على عقائد وأيديولوجيات تعارض نمط حياتنا.

كيف وصلت باوهاوس لهذا الحد من التجريد؟
لفهم هذه النتائج العجيبة، نحتاج دراسة تاريخ العمارة في الغرب والسياق الذي كانوا فيه. الحداثة كمصطلح واسع يصف الحركة الفلسفية التي تلت التغيرات العظيمة للحضارة الغربية (مثل الثورة الصناعية) في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقد كان من نتائج الثورة الصناعية مفهوم (الوظيفية Functionalism) وهو السماح لوظائف المبنى بالتحكم، وبالتالي تشكيل الجماليات والأسلوب المعتمَد. (8)

اتخذ المصممون الوظيفيون من الوظيفة إلهًا خاصة الذين عاشوا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حيث لم يشيروا إلى الله خالق المواد وموجدها بل إلى تظللوا في مطالب “روح العصر- زايتجيست Zeitgeist” أو “العصر الحديث” أو “عصر الآلة”.(9)

كما أدى ذلك الى نتائج عجيبة في فهم الجانب الميتافيزيقي للإنسان، وحاولوا فهمه من خلال تجريد جسم الإنسان إلى أشكال هندسية مجردة للتجربة والعبث في فهم الإبداع والميتافيزيقيا في طبيعة الإنسان وعلاقته ببيئته.

طلاب مدرسة باوهاوس في أزياء تنكرية للمسرح الميتافيزيقي

احتلت الحفلات المسرحية منذ البداية مكانة بارزة في التقويم السنوي للمدرسة، والتي كانت أشبه بطقوس ميتافيزيقية من رقص وتصوير وعبث. (10) فنجد في الصور السابقة مثالًا من السبعينيات، حيث استخدم المصممون في حركة باوهاوس الملابس والأزياء التي قمعت العنصر البشري من أجل تحقيق مفهوم الإبداع.

هل اقتصر منهج الباوهاوس على التصميم المعماري فحسب؟
يقول مصمم هذين الكرسيين إنه أراد إعادة فهم ما هو الجدوى من الكرسي وأراد التخلص من كل شي لا وظيفة مباشرة له، فتخلص من زيادات كل ذرة ونقطة وانحناءة للمادة، ولذا ترى أن لا جيوب له أو فتحات إضافية أو أي شيء يدل على أنه من الممكن التغير أو التأقلم.

من الطبيعي أن تكون الخطوة التالية عدم وجود الكرسي، فتخيل أنك جالس وهذا كاف لجعلك تطوف في الهواء. وقد قالها المصمم بروير في تعريفه، حيث افترض بروير أن الكراسي ستصبح في نهاية المطاف رجعية، وستستبدل بأعمدة داعمة أو هواء. (11)

من الجيد استخدام المواد بالسبل الأمثل وعدم إهدارها، لكن، لمَ تجريد الكرسي لهذه الدرجة بحيث لا يمكن استعماله إلا لتحدي الجاذبية؟ بل حتى الجاذبية حاولوا التمرد عليها.

كراسي صممت على طراز باوهاوس

دخلت مبادئ باوهاوس في تصميمات شركات الأثاث الكبرى مثل أيكيا، بسبب تركيزها على الجانب العملي الوظيفي. مع أن التصميم العملي ذي الكفاءة يعتبر شيئًا مهما، لكن ليس لدرجة أن تصبح أعمالنا اليومية آلية لا روح فيها. مثال ذلك المطبخ الذي تحول الى مصنع لا يدخله إلا الشخص المسؤول. يتم تقديم الطعام من شباك يصل بين المطبخ مع باقي المرافق، فأصبح مكانًا لا معنى أو قيمة له أو للوسيلة (عملية الطبخ) وإنما للنتيجة فقط (الطعام) فهي المهمة في المنظور المادي الآلي.

مطابخ صممت على طراز باوهاوس

هل إنكار منهج باوهاوس وحركة المينيماليزم رجعيّة؟
عندما ننكر فلسفة المينيماليزم فهذا لا يعني مواجهة فكرة البساطة ورفضها، ومثل ذلك فإن رفض فلسفة مدرسة باوهاوس فهذا لا يعني رفض الكفاءة والوظيفية، لكننا نحاول فهم هذه الفلسفات وتبعاتها الخالصة عند تطبيقها، ونقارن بين نتائجها وبين حاجاتنا وندرس إن كانت تتوافق أم لا مع مبادئ ديننا وهويتنا الحضارية، وفي هذا الحال فإن استخدامنا لهذا الفلسفات يجب أن يكون مدروسًا ومحدودًا في نطاق معين، حتى يعود لنا بالفائدة دون المساس بمبادئنا ونمط حياتنا.

يجب أن ندرك أن الوظيفة مهمة في التصميم لكن يوجد حاجات أخرى للإنسان لا يمكن أن تفهمها الآلة، وهنا ندرك أن القوانين التقنية لا يمكن تطبيقها على كل الحاجات الإنسانية، خاصة غير المادية منها، والتي تشمل الإحساس بالجمال والشعور بالانتماء. وبنفس الوقت من الأفضل عدم اللجوء لفلسفات ميتافيزيقية هجينة ومحاولة أسلمتها لإدراك البعد غير المادي في التصميم.

الجري وراء تحديد الشكل من خلال الوظيفة فحسب يؤدي بالتأكيد الى مسح هويات البشر المختلفة وثقافاتهم، فقد خلقنا الله سبحانه وتعالى شعوبًا وقبائل لنتعارف، والاختلاف هنا في البيئة والثقافة الشعبية شيء محمود وموجود لحكمة. أما التركيز على الوظيفة الآلية المحضة من كل شكل وتصميم، فإن ذلك بالنسبة للمصممين المناهضين لباوهاوس يؤدّي إلى مغالطة أن الوظيفة تحررك من الشكل، والتركيز الوحيد على الوظيفة سوف يستدعي لغة نموذج عالمية متأصلة. (12)


المراجع:
(1) https://eferrit.com/%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1-%D8%BA%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A%D9%88%D8%B3/
(2) https://www.greelane.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9/marcel-breuer-bauhaus-architect-and-designer-177371/
(3) https://www.arab48.com/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8-48/%D8%A7%D8%B3%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/2019/04/12/%D8%AC%D9%88%D8%AC%D9%84-%D8%AA%D8%AD%D8%AA%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D9%80-%D8%A8%D8%A7%D9%88%D9%87%D8%A7%D9%88%D8%B3-%D8%A8%D8%A8%D8%B3%D8%B7%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D9%88%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B6%D8%A7%D9%84%D9%8A#:~:text=%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%A8%D8%B1%20%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%8A%D8%AF%20%D9%85%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%86%20%D8%A3%D9%86، %22%D8%A8%D8%A7%D9%88%D9%87%D8%A7%D8%B3%22%20%D8%AD%D8%AA%D9%89%20%D8%B9%D8%A7%D9%85%201927
(4) https://alarab.co.uk/%D9%85%D8%A6%D8%A9-%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%88%D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%88%D9%87%D8%A7%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D9%8A%D8%B9%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8
(5) https://e3arabi.com/%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%86%D8%AF%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%83%D9%84-%D9%8A%D8%AA%D8%A8%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B8%D9%8A%D9%81%D8%A9/
(6) https://www.oysteinhusby.com/function-utopia-form-follows-function/
(7) https://en.wikipedia.org/wiki/Minimalism#Influences_from_Japanese_tradition
(8) The Function Utopia – Why ‘form follows function’ is misleading (oysteinhusby.com)
(9) Form Follows WHAT? History and critique of the form follows function formula. By Jan MICHL، Oslo، Norway
(10) http://people.brunel.ac.uk/dap/BauhausConstructivism.pdf
(11)The Bauhaus، 1919–1933 | Essay | The Metropolitan Museum of Art | Heilbrunn Timeline of Art History (metmuseum.org)
(12) https://www.oysteinhusby.com/function-utopia-form-follows-function/

مصادر الصور:
https://www.archdaily.com/881889/neufert-the-exceptional-pursuit-of-the-norm/59f672c2b22e3853b8000159-neufert-the-exceptional-pursuit-of-the-norm-image?next_project=no
https://www.dezeen.com/2018/07/19/bloco-arquitetos-white-cora-house-sloped-site-brasilia/
https://miesarch.com/work/580
https://www.archdaily.com/903195/project-nymph-zen-architects
https://www.penccil.com/gallery.php?show=11064
https://www.pinterest.pt/pin/406520303840893688/
https://www.midcenturyswag.co.nz/products/marcel-breuer-b33-chairs
https://www.bauhauskooperation.com/knowledge/the-bauhaus/works/joinery/slatted-chair-ti-1a/
http://collections.vam.ac.uk/item/O58657/armchair-breuer-marcel-lajos/
https://www.apartmenttherapy.com/brief-history-of-kitchen-design-from-the-1930s-to-1940s-247462
http://eldotdesigns.com/baukitchen/
https://www.pinterest.com/pin/752945631424794306/

 

تصميم دور العبادة والروحانية الجديدة: بين الجمال الحسي والهروب من الواقع

في الحياة العصرية السائلة، باتت التغيرات الزمانية والمكانية تحدث بسرعة غير مسبوقة، حيث يمكن للإنسان الانتقال بين قارات واسعة في بضعة ساعات، وقد أثّرت هذه الطفرة بسرعة الانتقال في طبيعة تفاعل الإنسان مع بيئته سواء أدرك ذلك أم لم يدركه.

من المهم جدًّا فهم كيفيّة تفاعل الإنسان وتأقلمه الناتج عن التعوّد على سرعة التغيرات في العالم المادي، وإن لم نكن محيطين ومتفقهين لهذا التغيّر، فإننا قد نقع فريسة الجهل وذلك بجعل البيئة قادرة على التحكم بنا، حيث نصبح أشخاصًا منهكين نفسيًّا لكثرة التغيرات الطارئة، فلا نريد سوى الانعزال والانفصال المؤقت عن العالم.

وفي هذه الحالة سنكون قد أعطينا البيئة السلطة التامة للتأثير على وعينا وفهمنا للواقع المحيط، مما يجعل ردود فعلنا -وحتى توجهاتنا ورغباتنا- متوقّعة يسهل التنبؤ بها، ويجعلنا ذلك أشبه بحال المأسور والشخص الواقع تحت تأثير التخدير، فيعطينا المسؤول جرعة تخدير للحظات قبل استيقاظنا ومواجهتنا للواقع، قبل وعينا الكامل، ونحن نتوهّم أنه يساعدنا ويهتمّ بنا لأنه على دراية بما نحتاج.

Church of the Sagrada Família مثال على الجمال الحسي

طبيعة التدين وعلاقة الإنسان ببيئته
إن دين الإسلام الذي جاء خاتمًا للأديان، جامعًا شاملًا ينتظم فيه شأن الدنيا والآخرة، سواءً حق العبد وحق الخالق، لم يأمر بالرهبنة ولم تكن من جملة تعاليمه، ولم يطلب منا لنكون عابدين مقربين أن نخلو بأنفسنا في صومعة على رأس جبل.

في الوقت ذاته فإن الإسلام لم يتم ترك أمر العبادات مفتوحًا للناس لينشؤوا أنماط عباداتهم وطقوسها بأنفسهم، حيث إن ذلك كله ينتهي باتباع الهوى وتقديس الجمال الحسي وكل ما يجلب المتعة، بحيث تصبح المتعة هي الخير، وقد أرسى الإسلام منهاجه الواضح في العبادة وهذا يتطلب منا فهمه وتطبيقه كي نعيش باستقامة وراحة.

يلجأ المعماريون -عند تصميم دور العبادة- لتصميم أشكال وزخارف مبهرة تأخذ كيان الإنسان ووعيه، بحيث يدخل حالة من الدوار والانبهار، ومما يلفت النظر انحصار هذه التصميمات ضمن اتجاهين ونمطين واضحين.

يركّز النمط الأول على الجانب الجمالي الحسي، معتمدًا على التنظيمات الهندسية المختلفة والألوان الخلابة.

أما النمط الثاني فيعتمد على التجريد، وقد لا يكون جميلًا بالمعايير المادية الحسية، إلا أنه يؤثر على إدراك الإنسان ووعيه وإحساسه، من خلال الاعتماد على عنصر المفاجأة والمباغتة، وذلك عند تغيير سياق إحساس الإنسان بالوجود، وعدم وجود نمط معين في البيئة يمكّن الإنسان من بناء وعيه.

يحدث ذلك عندما يتم التركيز في التصميم على التأثير على الحواس الذهنية والمبادئ الفكرية للإنسان. وهو ما سنشرحه وسيتم توضيحه بالأمثلة القادمة.

Nasir al-Mulk Mosque مثال على الجمال الحسي

 Liminal Space العمارة الانتقالية
تعتمد الحداثة السائلة –في كثير من صور العمارة الحديثة- على مبدأ المكان الانتقالي الفاصل غير المحدد: بحيث لا يكون للمكان هوية محددة له، وإنما يكون مرحلة انتقالية متجددة متغيرة، ويروّجون للروحانية فيه باعتباره تلك اللحظة أو الفراغ بين الأرض والسماء، المدخل أو العتبة بين العادي أو المدنّس والديني المقدّس.

Saint Andrew the Apostle Church مثال على العمارة الانتقالية

في كلتا الحالتين من أنماط التصميم، يبعث التصميم العمراني مشاعر مختلفة، إلا أن السؤال هو:

ما هي المشاعر التي تنطق بها العمارة؟ وهل يعتبر من المناسب أخلاقيا أن يتحكم معمارٌّي بمشاعر الناس ووعيهم بأكثر الأماكن أهمية في حياة الإنسان؟ وهل كل المشاعر محبذة ومرغوبة؟ هل يمكن جعل معيار النجاح المعماري متوقف على قدرته على إدراك وتحفيز المشاعر؟ بغض النظر إن كانت هذه المشاعر هي السكينة أو الخوف أو الحزن أو السعادة؟

بالرغم من أن النمط الأول -المعتمد على الجمال الحسي- سهلٌ من ناحية مراقبته وفهمه، إلا أن النمط الثاني يحتاج إلى التمهل والتمحيص، كما أن تأثيره يتخلل بشكل هادئ وغير مباشر، فتركيزه منصبٌّ على التغيير المفاجىء وإحداث بيئة غير متوقعة تجعل الإنسان في حالة توهّج بسبب كثرة التغيرات الطارئة، تنتهي بمكان فارغ وهادئ تجعل الإنسان بحالة سكون أشبه بحالة تخدير.

هذا المكان الهادىء يعرّف بمفهوم الواقع المغاير Altered Reality. حيث عندما يكون المكان غير مألوف ظاهرًا وكأن الانسان يراه لأول مرة حتى وإن اعتاد للذهاب عليه، بحيث تكون إيحاءات المكان مختلفة عن الإيحاءات المعتادة في الأماكن الأخرى.

يمكن تشبيه ذلك بمن يزور مدرسته أيام العطلة، حيث إنه يزورها بشكل معتاد وهي مكتظة ومليئة بالناس ثم يراها فارغة في وقت لاحق، إن ذلك يوحي له بمشاعر أخرى مختلفة، حيث يكون تصوّر العقل للمكان مغايرًا للواقع وهذا التحدي والتوتر يؤثر في وعي الانسان.

وهذا يدفعنا للسؤال: أليس من الإجرام الأخلاقي أن يتحكم المعماري بالبيئة الخاصة للعبادة؟ والتي تعتبر المعبّر الأسمى لعقيدة الإنسان في وجوده والغاية منه؟ أليس من الأفضل ترك المساحة محايدة يتجرد فيها الانسان للتقرب لربه؟ دون مساعدات خارجية ومحسنات يستجيب لها الإنسان؟

لأي مدىً يمكن للمعماري أن يتحكم بالبيئة المناسبة للعبادة؟ ومتى يصبح تحكمه جريمة أخلاقية تمنع الإنسان من الانفراد بربه؟

التخبط العشوائي ليس من الإسلام ولا فائدة فيه
قد يتوهم للبعض أن التخبّط والتشتّت جزء من الرحلة الروحانية، إلا أن تعاليم الإسلام ترفض التخبط وتطالب الإنسان بمجاهدة النفس أمام دعوات الاعوجاج، وشتان الفرق بين مفهومي التخبط والمجاهدة، إذ الأول مبنيٌّ على التجربة العبثيّة فلا هدف له سوى استشعار اللحظة والوسيلة الموصلة إليها، والثاني مبني على الوعي والإدراك، وغايته تطهير النفس وإلزامها الفضائل ولا يولي لذلك الوسائل المادّية كبير اهتمام.

إن التخبّط العشوائي ليس من الإسلام في شيء، وهنا يمثُل أمامنا قوله تعالى: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الملك: 22]. في الاستدلال على ذلك، -حيث يذكر لنا القرطبي في تفسيره- أن الله ضرب لنا فيها مثلاً للمؤمن والكافر، فيسير الكافر منكّسًا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه، فهل يكون كمن يمشي سويًّا معتدلًا ناظرًا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله. نفهم من ذلك أن التجربة لا تكون غاية بحد ذاتها, ووجود مشاعر واستجابة للبيئة لا يعني بالضرورة صدق الرحلة الروحانية.

مفهوم القبلة في الإسلام
قال تعالى: ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ). [البقرة: 144]

 

يمكننا هنا أن ندرك أهمية وجود القبلة، فهي بوصلة الاتجاه الذي يوحّد جميع المسلمين في بقاع العالم كلّها، وقد نصّ الله على ذلك في قوله: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177].

ويذكر لنا الإمام ابن كثير في تفسيره الآية الكريمة أن المراد إنما هو طاعة اللّه عزّ وجلّ، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجَّه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة المشرق أو المغرب برٌّ ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر اللّه وشرعه.

مفهوم المحراب في الاسلام
نتفق أن التأقلم واجب في هذا العصر المتغيّر، لكن بنفس الوقت يكون من الكياسة أن يستغل الإنسان لحظات ثباته كي يبني عليه وعيه، متى سنحت له الفرصة، وينبغي أن يوجد مكان مألوف للإنسان، بحيث لا يكون مطلوبًا منه المرونة والاستجابة للتغير طوال الوقت كي لا يهدر طاقته، وهذا ليس هروبًا من الواقع بل ترتيبًا للأولويات، حيث ليس كل تغيّر يستحق التفاعل والاستجابة، فالمقاومة والثورة واجبة مع المحيط المادي.

وكذلك فإنه ينبغي وجود مكان يستقر فيه الإنسان ويثبت, وهو المحراب، بحيث يشعر فيه بالأمان ويعلم أن المحيط لن يتغير، بحيث لا يتلاشى ولا يتشتت وعيه ويجعل تركيزه منصبًّا على شيء واحد يمكن البناء عليه، وهو العبادة.


المراجع:

https://smarthistory.org/gaudi-sagrada-familia/

https://mostlyamelie.com/iran-writing-about-the-most-beautiful-mosques-everyone-needs-to-see/

http://www.wastedevangelism.com/wasted-blog/church-building-as-liminal-space-our-worship-experience-has-a-history-and-habits-that-promote-a-dual-spirituality

https://en.wikipedia.org/wiki/Saint_Andrew_the_Apostle_Church#/media/File:SaintAndrewtheApostleChurchjf9747_04.JPG

https://www.alro7.net/ayaq.php?langg=arabic&sourid=2&aya=177

عندما يغدو الصخب القادم من القاع لحنا

مظلم جدّاً هذا القاع، حتى إنّ القدم باتت لا تقوى على الصّعود، والوهن يعتري ما يتمّ إظهاره من وهم الصّمود.

هذا الانحدار يبدأ بتعب في عضلات الروح لأنّها اعتادت أن ترقى، ثمّ يليها اقتناع بالظلام، ويوماً بعد يومٍ تصبح مخنوقة غرقى، ثمّ تأتي مرحلة الدفاع المستميت عن موقع هذا الظلام، وتبدأ ببثّ براهين أنّ الأوكسجين يتواجد في الأعماق، وأنّ نظرية التنفّس خارج القاع تكاد تذوي ولن تبقى.

تلك هي المراحل: (هبوط ثمّ غرق ثمّ اقتناع ثمّ دفاع)، وتلك المراحل هي نفسها التي جعلت الجفن يغلق نور العين المنيرة، والرّان يغطّي نور البصيرة، فهذا الزمن الذي فيه المفاهيم تُقلب، والمبادئ تُقولَب، وبات الثابت المرتقي نحو التكامل، متّهمًا بالرّجعيّة لعدم قبوله الانحدار نحو القاع، وممانعة فقه مرونة ما في هذا العصر من تعامُل!

التفكير بين الحقائق الملموسة والأفكار المدسوسة
يرضع أحدنا لبناً نقيّاً يبني فيه العقل والإدراك، ويهبه الله تعالى كلّما تقدّم به العمر تمييزاً بين الحقّ والباطل وبين الخطأ والصّواب، ثمّ يأتي أحدهم ليعطي معلومة مغلوطة، ويشوّه مبادئ نقيّة وفطرة زكيّة.

لا شيء يحدث على دفعة واحدة، فلن يأتي أحدهم ويقول لك –مثلاً- إن اللبن أسود؛ إذ إنّ عينك ما زالت تميّز بين الألوان، ولكن يبدأ الأمر بوضع نظرية تؤلَّف في سراديب مظلمة، تخبرك أنّ الرؤيا أحياناً قد يحكمها الوهم حتى أنّ العين قد تريكَ لوناً غير موجوداً، وهنا فإنهم يقرّون بما تراه ولكن يتمّ الطعن بالنظريات والاحتجاج.

أولئك لن يقولوا لك لا يوجد سنّة نبوية لأنّها حقيقة مسلّم بها، ولكن سينفذون من خلال ناقلها كالإمام البخاري مثلاً، وسيمضون الليالي والأيام في وضع نظريات حسابية فقط ليقولوا لك هذا الكتاب غير صحيح وتبدأ رحلة الطعن والتجريح، بذلك ينالون من جيل ركيزته كتاب الله تعالى وسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلّم.

وعلى هذا قِس! بكلّ ما يحدث حولنا.

 تأمّل قليلاً، انظر لكلّ الصخب القادم من ذاك القاع، صخب الكلمات الفارغة، والنظريات التافهة، والمحاضرات الضحلة، إن أبحرنا في جوهر هذه الأشياء وجدناها سراباً دون جوهر، ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: لمَ قد يعتاد أحدنا عليها ويراها موضوعاً عاديّاً لا داعي لنقضه حتى إنّه لا ينزعج له خاطر ولا يتكدّر بتكرارها على مسمعه؟

ألفة الأفكار المسمومة
لكل شيء سبب، وثمة أسباب عديدة تدفع الإنسان ليألف الأفكار المسمومة، أبرزها وأهمها هو ضعف الأساس وقلّة عتاد الروح، ونمثّل لذلك بأن تشحن هاتفك بنسبة عشرين بالمئة ولديك رحلة تستغرق يوماً كاملاً دون تيار كهربائي، في هذه الحالة فإنّ انتهاء بطاريّة الهاتف وانقطاع الاتصال به أمرٌ وارد وشبه قطعي، ولنفرض أننا خلال هذه الرحلة احتجنا لإجراء اتصال، فمن المنطقي أننا سنقبل أي هاتف يتمّ تقديمه لنا بسبب خواء هاتفنا، ومن يقدّم الهاتف سيكون بين مساعد بحقّ أو مخادِع.

ذاك الهاتف هو الروح وتلك الرحلة هي الدنيا، وإننا بدون اتصال دائم وتعلّم مستمرّ لن نستطيع الصمود أمام العواصف التي تعترض هذه الرحلة، وكلّما ثقُل العلم صعُب الاهتزاز.

وهذا السبب له علاج مضمون، وهو استغلال الوقت فيما ينفع الإنسان ويصلح روحه وأعماله، وهذا ما ورد عن سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث رواه عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك.) [حديث صحيح]

وكما ورد عن سيدنا عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه:

إِذا هَبَّت رِياحُكَ فَاِغتَنِمها              فَعُقبى كُلّ خافِقَةٍ سُكونُ

وَلا تَغفَل عَنِ الإِحسانِ فيها                     فَما تَدري السُكونُ مَتى يَكونُ

أما السبب الثاني فيعود لقوّة فرض الأفكار، وههنا دعنا نجرّب أن نفتح مواقع التواصل الاجتماعي ومنابر البثّ دون أن نبحث عن شيء، سنجد أنّ الباطل مروّج له بشكل احترافي من برامج وأفكار، وقد بات الإنسان لا يرى إلا ما يتمّ زرعه في عقله كالمنوَّم مغناطيسيّاً، يموج مع العاصفة كيفما ماجت، وقد وضّح القرآن هذا المبدأ في آياته حيث ذكر استراتيجية فرعون في صناعة وعي قومه عندما يقول: {مَآ أُرِيكُمْ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ} [غافر:29]

وهذا ما يتمّ الآن، حيث يُفرَض على الجيل ما يحطّم بناء أرواحهم وعقولهم، ويُنفَذ إليهم من أجمل الأبواب وألطف الكلمات، فتُشوَّه المفاهيم ويبدأ الجدال العقيم.

وعلاج هذا الأمر يبدأ بنشر الوعي ولو على نطاق صغير، وكلّما اتّسعت دائرة علاقاتك كلّما كان النفع أوسع.

أما السبب الثالث فيعود إلى قلّة الفِراسة والإدراك واتباع طريق اللامبالاة بما يصيب أوصال هذه الأمّة، وهذا غالباً إنّما يأتي من قلّة فقه لعلّة الوجود على الأرض، إذ إنّ الإنسان خُلق ليكون خليفة الله تعالى في الأرض والخليفة الذي مراده البناء فطِن نبيه لا راكن سفيه.

وهناك سبب رابع وهو ضعف الحجّة لدى بعض المتصدرين للعلم والفتيا واختيارهم لإبداء الرأي بما يعرفون وما لا يعرفون، فقد قيل: ”من تصدّر قبل أوانه فقد تصدّى لهوانه”، هذه الأمّة تغرق والغريق لا تنقذه قشّة وإنما يحتاج لقارب وذوي خبرة في التجديف والاتجاهات.

فكيف يتصدّى طالب لم يتعلّم شيئاً عن الفقه لشبهات الفتوى؟ وكيف يتصدّى شابّ لم يسمع بعلم التزكية لدحض الخلط بين الاستكانة والتوكّل؟ وكيف يخوض في نقاش الملحدين من سمع بالمصطلح ولم يفقه تاريخه وأبعاده؟ وكيف يتصدّى للموعظة من لا يفهم مراد الله من مراده؟!

 

تلك المحاولات لن تكون بلسماً للأمّة بل ألماً فوق الألم، وثقلاً فوق الثقل، فطوبى لمن امتلأ ثمّ تصدّر لدحض الشبهات.

إنّ الغيرة على الأمّة أمر محمود وبإذن الله يُثاب من يشعر بها، ولكن الغيرة العمياء التي لا تكون وفق منهجية مدروسة لا يُعوّل عليها، وإنّما يُخشى من نتائجها.

فمن أراد أن يكون له يد خير في شرف الإنقاذ كان لزاماً عليه طلب العلم من أهله، لا من كلّ طارق يطرق الباب، ثمّ بعد ذلك تصبح روحه مؤهلة، لمعرفة طرق الدعوة والخطاب.

وإنّ لكلّ اختصاص أهله، فلن يكون المرء جامعاً العلم كلّه وهذا ما نراه جليّاً في حديث رسول الله صلّى الله عيه وسلّم عندما وضع لكلّ صحابيّ من أصحابه وسامَ تميّزِه واختصاصِه حيث جاء في الحديث الذي يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (أرحَمُ أمَّتي بأمَّتي أبو بَكْرٍ، وأشدُّهم في دينِ اللَّهِ عُمرُ وأصدقُهُم حياءً عُثمانُ، وأقضاهُم عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وأقرأُهُم لِكِتابِ اللَّهِ أبيُّ بنُ كَعبٍ، وأعلمُهُم بالحلالِ والحرامِ مُعاذُ بنُ جبلٍ، وأفرضُهُم زيدُ بنُ ثابتٍ ألا وإنَّ لِكُلِّ أمَّةٍ أمينًا، وأمينَ هذِهِ الأمَّةِ أبو عُبَيْدةَ بنُ الجرَّاحِ.) [الصحيح المسند، صحيح على شرط الشيخين]

ما تقدّم كله يدفعنا للقول: إنّ الركيزة الأساسية لبناء أيّ فرد تنطلق من الأسرة وإن اختلّ أحد هذا الرّكن اختل ثبات البنيان.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ)، ثُمَّ يقولُ أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].

عرض الأزياء.. كيف تحول البشر إلى علّاقات ثيابٍ متحركة؟

من واجهات المحلات، إلى عروض الأزياء مروراً بإعلانات الملابس والحليّ ومستحضرات التجميل وصفحات المجلات، عارضو الأزياء مُستخدَمون في قطاعات كثيرة في عالم اليوم، وعن طريقهم يتم إقناع الزبائن بملاءمة البضائع لهم وحاجتهم لشرائها، فهذه الصناعات بعدما قامت لترِيح الإنسان وتؤدي له حاجاته، باتت متعاظمة بنفسها تُذِل كثيرين في خدمتها، وتملي عليهم نمط حياتهم كاملاً، ابتداءً بما يأكلون ويشربون، وانتهاءً بكيف يمشون ومتى يقفون وكيف يتكلمون أو يتبسّمون.

ومع أن الشركات توجهنا لأن نتجاهل الأفراد الذين يتم التسويق من خلالهم، وألّا نفكّر إلا في المنتج المقصود، إلا أننا نتساءل في هذا المقال:

ماهي هذه المهنة التي يحترفها العارضون؟ وكيف نجحت بتحويل بشرٍ كرّمهم الله إلى أدوات لا تُرى إلا لأجل الأشياء التي يستعرضونها؟ وبعد كل هذا، كيف دخلت هذه المهنة بيوتنا واستهوت فتياتنا وحوّلت كثيراً منهنّ إلى عاملات فيها بكل يسرٍ وسهولة؟

متطلبات وأهداف
ورد في موقع CollegeGrad الموجه للباحثين عن وظائف؛ تحت عنوان “متطلبات مهنة عرض الأزياء”: لا يشترط أي تحصيل علمي أو أكاديمي لمهنة عرض الأزياء، وكذا الخبرة المهنية فهي غير مهمة لمعظم الوكلاء، ولا يلزم التدريب أو الحصول على أي ترخيص رسمي كذلك.

إن المهم الذي يَسأل عنه الموظِّفون هو: العمر والوزن والطول وقياسات الجسم بشكل رئيسي[1].

وفي شرح أدقّ لهذه المحددات ورد في مصدرٍ آخر أن أقل طول مقبول لدخول الفتاة إلى هذه المهنة هو 176 سم، أما وزنها فينبغي أن يكون أقل من الوزن الوسطي لأقرانها على الأقل[2]!

هكذا بكل بساطة يقال إن هناك مهنة تهمّش العقل، ولا تتطلب إلا معايير شكليّة دقيقة لممارستها، ثم لا يعتبر ذلك تسليعاً للجسد أو انتقاصاً من الكرامة.

إن العجيب ليس وجود هذه المعايير، وإنما نجاح المهنة في استقطاب الفتيات وإقناعهن بأن المنافسة على المقدمة فيها أمر شرفي يستحق السعي والجهد. فنرى مواقع كثيرة تقدم مقالات مفصلة ترشد الفتيات إلى الطريق الأكثر فعالية لكسب الصدارة لدى المصممين المشهورين.

تقول واحدة من هذه الإرشادات الموجهة لليافعات (فوق سن الثانية عشرة) حرفياً: “شكلك الخارجي يجب أن يكون جذاباً وملفتاً. الوكلاء والمصممون يبحثون عن الكمال الجسدي في تجارب الأداء، لذلك تجنبي المبالغة باستخدام المكياج أو ارتداء الألوان الفاقعة، واحرصي على المشي بانسيابية أمام الحكام ليتم اختيارك للوظيفة”[3] وتقول أخرى: “إن أول شيء تحتاج العارضة الطموحة إلى معرفته هو مميزاتها الجمالية، وكيفية إبرازها بأفضل طريقة ممكنة، ما الذي يجعل وجهك مثيراً للاهتمام أو مختلفاً على الأقل؟ هل هو الفراغ بين أسنانك؟ أم عينيك الناعستين؟ كل هذه قد تكون ميزات تجعل عملاء التوظيف يذكرونك في تجارب الأداء[4]!”

وقد نتساءل هنا: ما الذي يجذب الفتيات لهذا الوسط غير الطبيعي؟ ما الذي قد يستهوي مراهقة بعمر الثالثة عشرة لتترك مدرستها ثم تأخذ 50 صورة لنفسها، ترسلها لوكيل عارضين من أجل تجربة أداء ستدخلها بين آلاف الفتيات الأخريات اللواتي يشابهنها في الوزن والطول، ليطلب منها هناك أن تصمت، أو تبتسم، أو تعبس، أو تمشي بكبر وخيلاء، ثم يتم الحكم عليها بناءً على ذلك لا غير؟!

كان هذا سؤالاً يلح عليّ أثناء بحثي في موضوع عرض الأزياء، فهذه مهنة مهينة فعلاً، وهذا يقرّ به بعض الداعين إليها حتى، فهذه إحداهن تقول في ختام كلام طويل عن طرق النجاح كعارضة: “يبدو الحديث في هذا الأمر سطحياً، صحيح؟ هذا لأنه كذلك فعلاً، ففي النهاية عارضات الأزياء هن علّاقات ملابس فاخرة لا أكثر، ودورهن في صناعة الموضة هو جعل الملابس تبدو جميلة لكي تُباع. لا يمكننا اللف والدوران حول حقيقة أن هذه صناعة يقودها الشكل الخارجي وحده[5]!” وليت الكاتبة اكتفت بهذا الكلام في مقالها، بدل أن تغرر بكثيرات وترشدهن درب الغواية والريادة فيها أيضاً.

وهنا يتكرر السؤال: لماذا تطلب فتاة عملاً كهذا؟

والجواب –كما وجدت- في أمرين:

أولهما: المال الوفير الذي تظن الفتاة أنها ستحصّله بمجرد عبورها على ممشى العرض أو وقوفها أمام كاميرا لبضع دائق، وثانيهما حلم الشهرة والنجومية الذي يستهوي كثيراً من اليافعات فيجعلنه هدفاً وشرطاً للسعادة، خصوصاً مع تقديس المشاهير في الإعلام وجعلهم قدوات للأجيال الجديدة، وكذلك تندفع الفتاة لهذا العمل المهين لأجل أوهام، ولا تفكّر في واقعية ذلك كله أو المقابل الذي ستدفعه لتحصيله.

تقول عارضة سابقة: كنت في الرابعة عشرة حين أرسلت لي وكيلتي أول فرصة لي كعارضة، كان إعلاناً طرقياً لمحطة راديو تظهر صورتي عملاقةً عليه، ظننته سيبدو بريئاً، لكنهم كتبوا تحت الصورة: “لا يوجد موعدٌ سيءٌ لا تصلحه الأغنية المناسبة”، كيف ألمحوا إلى أنني في موعد وأنا طفلةٌ في الرابعة عشرة من عمري![6]

وتقول أخرى: “كان الظهور على أغلفة المجلات مؤلماً، الجميع يحكم على شكلك ووزنك وموافقتك لمعاييرهم، وهذا لم يكن يعطيني أي قوة في وقتها، كنت في السابعة عشرة وأريد الاختباء، شعرت أنني لا أملك أي سلطة على نفسي[7]“، وبالرغم من أن العارضة لا تقدم جهداً ذهنياً أو عضلياً كبيرين في مهنتها، إلا أنها تفقد نفسها، ولا تملك أي سيطرة على هويتها التي تستخدمها الشركات للربح المادي فقط.

ومن جهة أخرى فإنّ الإحصاءات تظهر أنّ نسبة أقل من 10% فقط من العارضات هن من يحقق ثروة حقيقية عبر هذه المهنة، أما البقية فهنّ يعملن بأجر يتراوح بين 8-11$ في الساعة في الولايات المتحدة الأمريكية -أي أجر قريب من الحدّ الأدنى قانونياً-، وتكون الوظائف غير ثابتة أو متوقعة[8]. ومع ذلك كله فإن مهنةً العرض تجذب الفتيات الحالمات بالاستقلالية وامتلاك دخلهن الخاص، ففي ظل التفكك الأسري وارتفاع قيمة المال الذي تشهده المجتمعات الغربية، كان لازماً أن تصير مهنٌ تعطي دخلاً “سهلاً” للصغيرات مطلوبةً وإن كانت ستجعلهنّ رقيقات مستعبدات في الطريق.

جديرٌ بالذكر أن هذه المجتمعات التي تسمح لفتاة في سن الرابعة عشرة أن تترك بيتها، تسافر إلى مدينة بعيدة، وتوقع عقداً مع وكالة لا ترى فيها إلا قياسات جسدها، لترتدي ما تأمرها به، وتنشر صورها التي تختار في الطرقات وعلى أغلفة المجلات[9]، وتعرضها خلال ذلك لكثير من الاستغلال المادي والجنسي، هي نفسها التي ترفض زواج الفتاة ما لم تنهِ تعليمها الجامعي، وتعتبره حرماناً لها من طفولتها!

آثار مدمرة
عام 2006 بدأت النسبة العالية للمريضات باضطرابات تناول الطعام وبالأخص فقدان الشهية العصبي (ِAnorexia Nervosa) والشره العصبي Bulimia Nervosa)) في مهنة عرض الأزياء تتلقى انتباهاً إعلامياً كبيراً، تحديداً بعد وفاة العارضة آنا كارولينا بفقدان الشهية العصبي عن عمر 21 سنة، حيث لم يتجاوز وزنها عند الوفاة 40 كغ.[10] وبعد جدل كبير ووفاة عدد من العارضات بنفس المرض؛ أُقِرَّ في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا عام 2015 قانون يحدد أقل وزن يسمح به قانونياً لعارضة الأزياء وتُعاقب الشركة إن وظفت عارضات بوزن أقل منه.[11]  أما في الولايات المتحدة الأمريكية حيث لا توجد قوانين مشابهة، فمتوسط وزن العارضات يساوي ذلك الذي تسميه الأمم المتحدة بـ”المجاعة” (starvation)[12].

في الصورة: ايزابيل كارو، عارضة أزياء سابقة، طالبت بسن قوانين تحدد وزن عارضات الأزياء في الولايات المتحدة، توفيت بمرض Anorexia Nervosa عام 2010 عن عمر 28 سنة. المصدر:

Is It Time To Set Weight Minimums For The Fashion Industry? : Shots – Health News : NPR

وقد لوحظ أن العارضات يتبعن ممارسات مرضية خطرة ليكْبِتْنَ الإحساس بالجوع ويحققن النحافة المطلوبة كتناول كرات القطن والمناديل الورقية والتقيؤ العمد بعد كل وجبة.[13] تقول العارضة السابقة Zuzanna Buchwald: “كنت رياضيّة حين دخلت هذا العالم. طلبت مني وكالتي أن أتوقف عن ممارسة الرياضة وأمتنع عن تناول الطعام ريثما أفقد بعض العضل. تبعت توجيهاتهم حتى أصبت بفقدان الشهية العصبي ومن ثم الشره العصبي. كنت ضعيفة ومنهكة دوماً، انقطعت دورتي الشهرية لثلاث سنين وتحول لون أسناني إلى الرمادي، جفت بشرتي جداً، بدأ شعري بالتساقط، كانت تجربة مريرة. كنت أفعل كل ما يقال لي لأنني أريد الحفاظ على وظيفتي، لكنني لم أشعر يوماً أنني قوية أو جميلة”[14].

وقد أظهرت دراسة مسحية منهجية عام2015 أن اهتمام العارضات بالشكل الخارجي والنحافة الذي هو أعلى بكثير منه في غيرهن يجعل نسبة إصابتهن بمتلازمة اضطراب الأكل الجزئية مرتفعاً شكل ملحوظ.[15] والمشكلة لن تحل بتحديد وزن أدنى للعارضات، فالصناعة نفسها قائمة على كون الجمال في النحافة، والعارضة إنما يتم اختيارها لأنها تحقّق معايير الجمال تلك، فرفع الحد الأدنى للنحافة لن يحل المشكلة في كونها معياراً للجمال.

وعلى صعيد آخر بيّنت دراسة محكمة أن نسبة العارضات المدمنات على الكحول والمخدّرات أكثر من ضعفها في أقرانهن[16].

ولنا أن نفكّر هنا: كيف صار الإنسان خادماً لأقمشة مقطّعة مستعداً لفعل أي شيء في سبيلها لمجرد أن الذي جمعها معاً مصمم مشهور؟ كيف تحولت الثياب من وسيلة لستر العورة إلى قاضٍ على الوزن والجمال والحياة؟ وكيف يُسمح لشخص مريض أن يقول لفتاة إنها تحتاج لخسارة عدة سنتيمترات من محيط خصرها وإلا كانت غير صالحة للاستخدام![17]

وقد صدق ابن تيمية -رحمه الله- حين قال: ومن لم يكن خالصاً لله، عبداً له وحده، لا شريك له بحيث يكون الله أحب إليه مما سواه، استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه.[18]

من عارضة إلى فاشنيستا إسلامية
إننا اليوم نرى الذي وصفه ابن تيمية -رحمه الله- في أوضح صوره، عبوديةٌ للبشر والأضواء والأقمشة، والعجب أننا نرى كثيرًا من الفتيات المسلمات ينافسن على تقليده، فبالرغم من كل الذي ذكرناه في عرض الأزياء من مهانة وظلم وتسليع للإنسان إلا أن بريقه الخادع جذب كثيراً من فتيات المسلمين، فصرن ينافسن على النسخة الملطّفة منه تحت مسمى الـ “فاشنيستا”، وهي كلمة تترجم حرفياً إلى “تابعة الموضة”، أو الأنثى التي تكرس جزءاً من وقتها لاستعراض ملابس أوحلي أو ذوق في تنسيقها معاً أو مهارة في استخدام المكياج، ثم نشر صور ذلك كله في منصات التواصل الاجتماعي إما لغرض مادي (حين يكثر متابعوها وتتواصل معها الشركات لتستعرض منتجاتها، فتصير عارضة حقيقية) أو لغرض نفسي (من حيث أعداد المتابعات والإعجابات).

ومع أن ذلك لا يتّسق مع الحجاب الشرعي وأمر الله تبارك وتعالى بعدم إبداء الزينة، إلا أننا بتنا نرى فاشنيستات “إسلاميات” أخذن على عاتقهن عرض الملابس الموافقة للموضة مع بضع إضافات تغطي الشعر والجسد (غالباً)، ثم تقديم ذلك لمن تشعر بالحرمان لعدم القدرة على مواكبة الموضة باللباس الشرعي، فلا تختلف فاشنيستا إسلامية عن غيرها حقيقةً إلا بقليل من القماش، أما التبرّج والتجمّل والتركيز على صورة الجسد والجمال الخارجي فهو نفسه الذي لدى غيرها.

وكذلك نشأت شريحة كبيرة من المسلمات اللواتي يعرضن الأزياء لعدد غير محدود من الناظرين دون مغادرة بيوتهن، وكل ذلك عبر صفحات الإنستغرام والفيس بوك، حيث يطلبن الإعجاب، ويسعين لنيل رضا الجمهور من أجل مزيد من الشهرة و”التأثير”، ويعتقدن أنّهن خير مثال للمرأة المسلمة العصرية التي لم يمنعها حجابها من اتباع الموضة.

عسى الله أن يهدينا وشباب وشابات الإسلام سبل الرشاد، وينير بصائرنا ويوجهنا لما فيه خير دنيانا وآخرتنا، إنه على كل شيءٍ قدير.


الهوامش والمصادر:

[1] Models: jobs, career, salary and Education Information, CollegeGrad.

Models: Jobs, Career, Salary and Education Information (collegegrad.com)

[2] Tina Kells, Modeling For Girls, Liveabout dotcom. 2018.

Do You Have What It Takes to Be a Model? (liveabout.com)

[3] Kristine Tucker, Tips on Getting Discovered as a Model. Chron.

 Tips on Getting Discovered as a Model (chron.com)

[4] Format Team, How to Become a Model: A Beginner’s Guide, Format. 2020.

How to Become a Model: A Beginner’s Guide (format.com)

[5] Tina Kells, Modeling For Girls, Liveabout dotcom. 2018.

Do You Have What It Takes to Be a Model? (liveabout.com)

[6] Former Model Shares Dark Side of Glamorous Life, The 700 Club. 2015.

https://www.youtube.com/watch?v=QPbYM_lYgaU

[7] 9 Models on the Pressure to Lose Weight and Body Image | The Models | Vogue, 2019

https://www.youtube.com/watch?v=MKd38G338Qw

[8] Catie Watson, How Much Does a Model Make an Hour? Chron. 2019.

https://work.chron.com/much-model-make-hour-21379.html

[9] للمزيد: اقرأ قصة العارضة السابقة نيكول ويدر

Nicole Weider, Project Inspired: Tips and Tricks for Staying True to Who You Are. 2015. Zondervan.

[10] 21-Year-Old Anorexic Model Dies in Brazil.  Fox News. 2006.

21-Year-Old Anorexic Model Dies in Brazil | Fox News

[11] (المصدر السابق)

[12] Vanessa Rancano, Is It Time To Set Weight Minimums For The Fashion Industry?  NPR. 2015

https://www.npr.org/sections/health-shots/2015/12/22/460682633/is-it-time-to-set-weight-minimums-for-the-fashion-industry

[13] (المصدر السابق)

[14] Model Zuzanna Buchwald Reveals Her Agent Told Her To Stop Eating, 2016.

https://www.youtube.com/watch?v=6rdzoXWOAHc

[15] Zancu, S.A., Enea, V. Eating disorders among fashion models: a systematic review of the literature. Eat Weight Disord 22, 395–405 (2017). https://doi.org/10.1007/s40519-016-0293-5

[16] Santonastaso, P., Mondini, S., & Favaro, A. (2002). Are fashion models a group at risk for eating disorders and substance abuse?. Psychotherapy and Psychosomatics, 71(3), 168-172.

[17] 9 Models on the Pressure to Lose Weight and Body Image | The Models | Vogue, 2019

https://www.youtube.com/watch?v=MKd38G338Qw

[18] ابن تيمية، العبودية. ص 140

المسلمون والحداثة.. بين الانغلاق والانعتاق

كثيرًا ما نسمع في مُجتمعاتنا المُسلمة تكرار كلمة “الحداثة” وأصبح هنالك تصنيف للأفراد حسب إخلاصهم لمفهوم هذه الكلمة، فنجدُ الإنسان الحداثي المُتّبع للقيم الغربيّة والدّاعي إليها، ونجد في المقابل الإنسان الرّجعي والتّقليديّ المُتمسّك بالموروث الدّيني ومبادئه، ومن هنا تبدأ الجدالات والانقسامات داخل المجتمع، ويَنتج عن ذلك صراعٌ حول الهويّة والمبادئ وطريقة العيش، ممّا يجعلنا جميعًا في شتات وفي حيرة من أمرنا، وتضيع الطّاقات والجُهود والأوقات في تبادل التّهم والتّهكّم، بدلاً من التّركيز على أهمّ القضايا والمشاكل الكبرى التّي من خلالها نَستطيع النّهوض بمُجتمعاتنا، ولهذا فإنا بحاجة اليوم إلى معرفة المفهوم الصحيح للحداثة وما هي أبعادها وانعكاساتها داخل مجتمعنا وماذا قدّمت لنا باعتبارنا مسلمين.

الحداثة بين المنطلقات والغايات

عبد الوهاب المسيري

يقول الدّكتور عبد الوهّاب المسيري: “الحداثة هي تنميط للواقع (الطبيعة والإنسان)، وفرض الأحاديّة الماديّة عليه، والهدف من ذلك إدارة وتوظيف الإنسان على أحسن وجه، باعتباره مادة استعماليّة”(1)، فالحداثة إذًا قائمة على الفكر المادّي المُتحرّر من أيّ قيود أخلاقيّة أو دينيّة والهدف منها حُسن توظيف قدرات الإنسان والتّعامل معه على أنّه مادّة خاوية من الرّوح والعقل مع تكْيِيفه لقبول هذا الواقع الجديد من أجل تحقيق التقدّم المادّي في الحياة مع ضمان أريحيّة ورفاهيّة كلّ فرد عن طريق إشباع غرائزه المادّية.

 ومن خلال هذا المفهوم نستطيع أن نستنتج بديهيًّا أنّ الحداثة جزء لا يتجزّأ من الفكر الغربي، ولا غرابة في ذلك عندما نُلاحظ غياب ضرورة الأخلاق في المنظومة الغربية المعاصرة، والانطلاق المعرفي من مُقاطعة الموروث الديني والسعي لعزله عن الحياة اليوميّة، فكانت النّتيجة إباحة الشذوذ الجنسي والتعرّي بدون حدود، وتفشّي العلاقات المحرّمة خارج إطار الزّواج وغيرها من المُمارسات الذّميمة المُخالفة للفطرة الإنسانيّة.

ولنا هنا أنْ نتساءل: لماذا يسعى الغرب لنشر الفكر الحداثي عندنا ولماذا يدعم التيّارات الحداثيّة المناهضة للدين داخل أوطاننا، وهل غايته الحقيقيّة مُساعدتنا في تحقيق التحديث والتقدّم المادي داخل مُجتمعاتنا المُسلمة؟

ضمن الإجابة عن هذه التّساؤلات نقرأ للمُفكّر الفرنسي “أوليفيه روا” قوله:” إنّ أروبا لم تُوفّر جُهدًا لإعاقة الدّول الإسلاميّة من التّحديث، ابتداءً من الدّولة العُثمانيّة، ومحمّد علي إلى الإطاحة بمحمّد مصدق الإيراني، إلى التّرسيم التّعسّفي للحُدود، وكلّ ذلك كان يُعيق قيام دولة مُستقرّة في المنطقة… باختصار: كان هاجس الغرب من دزرائيلي إلى جورج بوش، مُرورًا بـكلمينص وكيسنجر لم يكن ذات يوم قد لعب دور التّحديث في الشّرق الأوسط”(2).

أوليفيه روا

إنّ غاية الغرب إبقاؤنا في حالة صراع وتمزّق وضياع وتخلّف وجمود من أجل إحكام سيطرته على العالم الإسلامي واستنزاف خيراته، لأنّه على علمٍ تامٍ أنّ الأمّة المُسلمة إذا استيقظت من سُباتها فإنّها ستكسر قيود الكُفر والظّلم والشرّ والفساد المُنتشرة في عالمنا اليوم، وعندما فشل الغزو العسكري في تنفيذ مُخطّطات، تم استبداله بالغزو الثّقافي والفكري عن طريق التّرويج للفكر الحداثي، حيث أصبح من بني جلدتنا المُنتمين للإسلام اليوم يَدعون للقطع مع تعاليم ديننا ومبادئه والسّير وراء خطوات الغرب وتقليده بطريقة عمياء في كلّ شيء ظنًّا بأن التقدّم المادي لن يكون إلاّ عن طريق إلغاء تاريخ الأمّة وإقصاء قوانين الإسلام من مُختلف مجالات الحياة.

انعكاسات فكر الحداثة
إن السّؤال هنا هو: كيف كانت انعكاسات هذا الفكر على مُجتمعاتنا وماذا قدّم لنا هذا الفكر الحداثي الغربي في واقع الحياة؟

نعيش اليوم تصدّعًا بين الهوية الإسلامية وقيمها، وبين نمط عيشنا الذي أصبح متأثّرًا بالفكر الحداثي الغربي المُناقض لديننا والدّاعي للتحرّر من تعاليمه، فكانت النّتيجة الضّياع والشّتات فلم نستطع الاستفادة من الغرب، ومن تجاربه في النّهوض بالمُجتمعات، ولم نأخذ منه ما ينفعُنا في مُختلف المجالات، ولم نستطع في المُقابل العيش وفق منهج الإسلام الذّي نؤمن به ولم نحترم شريعته، بل أصبح انتماؤنا إليه بلا روح أو عمل أو التزام، فانعكس ذلك كلّه سلبًا على حياة الأمّة، وجعلها تغرق في ظُلمات الجهل والتخلّف، وقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال لنا:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”(3)، وهذه القاعدة العامّة التّي لا تتخلّف فعندما نبتعد عن ديننا وشريعته فإنّنا سنضلّ الطّريق وما الفكر الحداثي الغربي إلاّ وسيلة لإحداث قطيعة بيننا وبين ديننا.

واليوم، بعد مرور سنوات من التّقليد الأعمى للغرب والتمسّك بمفاهيم الحداثة الغربيّة فإنّنا لم نستطع تغيير واقعنا للأفضل ولم نستطع تحقيق نهضة ثقافية وفكريّة داخل مُجتمعاتنا بل كانت في أغلبها تجارب سلبيّة، وتأكيدًا على هذا المعنى يقول د. برهان غليون –أحد أهم المنظرين الليبراليين العرب- “إنّ حداثتنا تسدّ علينا الأبواب في السياسة والثقافة والعلم والمعرفة والاجتماع والأخلاق، إنّها تنتج قهرًا وعنفًا واستبدادًا أكثر بكثير ممّا تُنتج من حرّيات فكريّة عمليّة، وهي تراكم الفقر والبطالة والبؤس أكثر ممّا تزيد من قدرة الأفراد على الإختيار في تحسين شروط حياتهم الماديّة والمعنويّة، وتُشجّع عمليّات غسيل الدّماغ وصبّ فكر الأفراد في قوالب جاهزة وجامدة أكثر ممّا تنحي العقل المُفكّر والمتأمّل والمُتسائل.”(4).

حاجتنا للحداثة بين الإطار والمهمّة
إذا كانت مظاهر الحداثة لم تنجح في تقديم الحلول عندنا فما هو البديل إذًا، وكيف يُمكننا النّجاح في تغيير واقعنا والنّهوض به؟!

إنّنا بحاجة اليوم إلى صياغة مفهوم جديد خاصّ بنا للحداثة تكون مرجعيّته الشريعة الإسلاميّة، التّي بها نُنظّم حياتنا وبها يستطيع الإنسان المُسلم تغيير نفسه إذا ما بذل جُهده من أجل ذلك، وما جُعل الإسلام ليبقي في الرّفوف بعيدًا عن الحياة ولن نجد أفضل من قوانين ربّانيّة نُقيم بها حياتنا فقد أثبت واقعنا فشل كلّ مُحاولة تحديث بعيدة عن القيم والمبادئ الإسلاميّة.

إننا مُطالبون أفرادًا ومُجتمعات بأن نُعيد إحياء روح الإسلام بيننا في تعامُلاتنا اليوميّة مع الأهل والأصدقاء والغرباء وأينما كُنّا، فالتّغيير الحقيقي يبدأ منّا نحن، ولا ننسى أيضًا ضرورة تنقية تُراثنا الإسلامي من المفاهيم الخاطئة والدّخيلة عليه التّي أصابته على مرّ العصور والعودة لمنابع الدّين الصّافية والاستقاء منها، ولا يكون ذلك إلاّ عن طريق عُلماء صادقين مُخلصين لربّهم لا يخافون في الله لومة لائم.

لا بدّ في هذا الإطار من إعادة النّظر في علاقتنا بالغرب فلنا أن نأخذ منهم ما ينفعنا من تقدّم علمي وإداري ومن تجارب ناجحة في مُختلف مجالات الحياة دون الذّوبان في ثقافتهم، ولنا في التّجربة اليابانية خير مثال حيث قامت نهضتها عن طريق التعلّم والاقتباس من الغرب بعقل واعٍ وناقد يُحافظ على الهويّة والثقافة اليابانيّة، وقد سبقهم في ذلك المُسلمون الأوائل عندما أخذوا العلوم اللازمة للتقدم، وانفتحوا على الحضارة اليونانيّة مع المُحافظة على الهويّة الإسلاميّة، وترك كلّ وافد يعود بالضّرر عليهم، ومن يظنّ بأنّ سبب تخلّفنا هو التمسّك بالموروث الدّيني فقد أخطأ التّقدير، إذ إنّ سبب فشلنا ليس في الإسلام بل في طريقة تفكيرنا وسوء تفاعُلنا مع ديننا وعدم الالتزام بمبادئه، إلى جانب هروبنا من مسؤوليّة العمل والإنجاز والتّغيير والتّضحية، وفي المُقابل اعتيادنا على الكسل والجمود والخمول والضّعف وديننا الحنيف جاء ليوقظ فينا روح العمل والمُثابرة وبذل أقصي الجهد من أجل البقاء في مُستوى الخلافة التّي كلّفنا الله بها.


الهوامش

(1): حوار حول التّراث والحداثة للدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي، الطبعة الأولى بتاريخ سبتمبر 2015، ص: 115.

(2): المصدر السّابق، ص: 116.

(3):المستدرك على الصحيحين،كتاب العلم، خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، الجزء الأوّل، الحديث رقم: 324، الصّفحة رقم: 284.

(4): حوار حول التّراث والحداثة للدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي، الطبعة الأولى بتاريخ سبتمبر 2015، ص: 106.  

جامع سنجقلار في إسطنبول.. هل حققت عمارته طفرة روحانية

لكل أمة بصمتها في العمارة حيث تستمدّ خصائصها البنائيّة من الهويّة الفكريّة والروحانيّة لعقائدها وأدبياتها وتاريخها، والنماذج التي تظهر فيها فنون العمارة الإسلاميّة كثيرة، بدءًا من المساجد فالمدارس والمنازل والجسور والمستشفيات والتكايا والقلاع، حيث تنتظم فيها رؤى الإسلام وعقائد المسلمين بشكلٍ واضحٍ وبسيط، فتتجسد فيها قيم العدل والتواضع والرحمة والتوحيد وغيرها.

تحريف العمارة الإسلامية
في الصورة الآتية نرى مسجد سنجقلار الذي يفخر مصمموه بأنه يحقّق التوازن بين الطبيعة والتجريد والعبادة.

التصميم الخارجي لجامع سنجقلار

يعرَف المسجد بأنه المكان الذي يصلح للصلاة، وتجوز الصلاة في أي مكان طاهر من الأرض إلا المقابر والحمّامات، وقد كان مسجد المدينة المنورة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بسيطًا في عمارته، فلا قباب فوقه، ولا مئذنة تدلّ عليه.

إذًا فإنّ مفهوم المسجد والمصلّى لا يقتصر على وجود مئذنة أو قبة وزخارف لتتحقق فيه شروط العمارة، إذ يكفي أن تتحقق فيه سمة صحّة الصلاة وقبولها -إن شاء الله- فيه، سواء كان المصلون يصلون تحت قبة او مظلّة أو أوراق شجيرات، فما هذه إلا شكليات تعين الإنسان على القيام بواجبه من صلاة وواجبات اجتماعية بطريقة تحميه من الشمس الحارقة أو المطر أو مختلف تقلبات الجوّ، إذ الغاية هي أداء العبادة مع الجماعة.

ونسأل هنا: هل الإنسان مجرد لهذه الدرجة التي نراها في التصميم الخارجي والداخلي للمسجد؟ هل يمكن أن يصل الإنسان لهذه المرحلة من التجرد، بحيث تصبح النية والوظيفة والنتيجة الفعل الأهم بغض النظر عن الظروف المحيطة؟ أم هل يجب أن توجد عوامل خارجية تحفز الإنسان على الصلاة، مثل وجود حوافز تشعره بالانتماء للمكان الذي يصلي فيه؟

هل التجرد مطلوب في النية فقط أم يجب التقشف والتجرد في الظروف الموضوعية الخارجية أيضًا؟

محاولات لمسح الهوية
في الهندسة المعمارية يمكن الإشارة إلى أن البساطة المفرطة (Minimalism) -الإفراط في استخدام البساطة- يجرّد الشيء من كل خصائصه، وربّما يؤول بعض المهندسين ذلك بالاستشهاد بالحديث: “إنما الأعمال بالنيات”.

وعلى الرغم من اتساع هذه الظاهرة في الهندسة المعمارية المعاصرة، وانتهاجها مسلك التجريد المبالَغ فيه، ومحاولة بناء وظيفة جديدة لكل آلة ومادّة، إلا أنّ الإفراط في استخدامها –في نهاية المطاف- يتعارض مع طبيعة الانسان وفطرته.

يمكننا تشبيه ذلك بحالة من يلبس معطف والده، فيتذكّره ويحنّ لذكرياته العاطفيّة معه، فالمعطف بوجوده ومكوّناته لا قيمة عاطفيّة له، إلا أن الإنسان يستجيب له بخواطره عند رؤيته، وذلك بسبب ارتباط هذه المادة –أي المعطف- بذكريات غير مرئية.

دعنا نسأل: هل للمادة خواص عاطفية؟

بكل تأكيد: “لا”، إلا أنّ ارتباط المادة والشكل بالذكريات قد يعطي للمادة المجردة بعدًا عاطفيًّا، وهو ما يمكن ترجمته في العمارة بالشعور بالانتماء للمكان.

وجود الأرض ومواد البناء بشكل موضوعي لا يشكّل قيمة عاطفية، إلا أنّ تشكيلها في شكل وسياق معين يعطيها أبعادًا غير مادية تجعل الإنسان يستجيب لها بعاطفته؛ وهنا حين تميل العمارة للتجريد المبالَغ فيه، فإنها تدخل في سذاجة وضيق أفق واضح.

لقد أدركت الحكومة الصينية أهمية وجود هوية للمكان، ولا بدّ لمواجهة الحضور الثقافي من إزالة الهوية أو البصمة الروحيّة للمكان، فقامت بتعديل أشكال أهم مساجد المسلمين في محاولة منهم لإزالة الارتباط العاطفي وتقليل نفوذ الهويّة الإسلامية فيها، وزيادة شعور المسلمين بالغربة، وذلك كما تظهرُ الصورة الآتية.

مسجد ينتشوان في الصين

فوفقًا لتقريرٍ لمجلة تيليغراف، أزالت السلطات الصينية القبة المميّزة لمسجد ينتشوان، ومحَتِ كلًّا من الزخرفة الذهبية ذات الطراز الإسلامي، والأقواس الزخرفية، والنص العربي الذي كان يزين المبنى، ثم حُوِّل المسجد لاحقًا إلى مبنى رمادي مستطيل الشكل.

أهميّة التصميم الداخلي للمسجد
الأصل في المسجد أن يكون عادي المظهر، وأن يتوافق مع ذلك بالبيئة المحيطة به بشكل عفوي، وبالرغم من أن الجماليات مهمة، إلا أن الأصل هو التركيز على العبادة، وأن لا يصبح المسجد عبارة عن متحف للزيارة أو قطعة فنية للتصوير.

دعنا ندخل هنا في صلب المقال.

أطلب أن تتمعّن في الصورة التي تظهر التصميم الداخليّ لمسجد سنجقلار، وقارِنها بالصورة من المتحف اليهودي في برلين

التصميم الداخلي في جامع سنجقلار

 

لقطة للتصميم الداخلي في المتحف اليهودي في برلين

ألا ترى أن التجريد في كلا التصميمين جعل المكانَين متشابهين إلى حدٍّ كبير، أين هويّة المكان؟

حين ننظر إلى تصميم المسجد المذكور ونقف عند مئذنته وبقية تفاصيله، فإن خواطر كثيرة تأتينا لفهم هذه الأشكال المختارة.

لكن المهندس المعماري للمسجد يخبرنا أنه يريد إعادة حضور “الكهف” و”غار حراء” في نفوس المصلّين، وذلك بهدف العودة لأصل الاسلام وتعزيز البساطة في حياته.

بالرغم من النيّة السليمة والغاية النبيلة إلا أن تميّز المئذنة في مساجد المسلمين لا يعارض مفهوم البساطة، كما أن التقشّف والتجريد المبالَغ فيه ليس من مبادئ الإسلام ومفاهيمه، بل إن الجمال العفوي المتميز في العمارات الإسلامية تكاد تكون أقرب لروح الإسلام.

إن شكل المئذنة التي بين أيدينا لا يختلف في صورته عن شكل أبنية بعض المعابد الوثنية، وقد أخفق المعماري في تصميمه حين جعل مئذنة سنجقلار على هذا الشكل الخشن.

قارِن بين الصورة الآتية أي مئذنة المسجد وبين الصورة التي تليها وهي صورة معبد شاماني في ألمانيا.

التصميم الخارجي للمئذنة في جامع سنجقلار

التصميم الخارجي لمعبد bruder Klaus field chapel

قد يقول بعضنا: من المحتمل أنها مصادفة، فكلا الشكلين تجريديان، ويمكن رؤية تجليات التجريد في الكثير من الأمثلة، إلا أننا نؤكّد أن الهويّة الإسلامية تعطي للمئذنة شكلاً بصريًّا مختلفًا ومتميزًا عن دور العبادة الخاصة بغيره من الأديان.

وقبل أن تأخذنا العاطفة بالجماليات في فهم تصميم المسجد المذكور، دعونا نقف عند نقطة بالغة الأهمية. إنه الضوء.

يجب إدراك أن التركيز على الضوء بهذا الشكل –الذي يظهر في الصورة الآتية- قد يخالف الغاية من عبادة الله، إذ إن فهمنا لكون الله “نور السموات والأرض” لا ينبغي أن يتجسّد في شكل ماديٍّ مشابه لعقائد أخرى.

إن التوافق بين الصور القادمة لا يندرجُ في الإخلال بالتجريدِ وإنما قد يقرَأ في إطار الدعوة للوحدة المدّعاة بين الأديان، حيث تركّز التصاميم الحديثة على تسليط الضوء مقابل المتأمّل أو العابد، وهو ما نراه –على سبيل المثال- في كنيسة النور في اليابان، ومعبد التأمل لأتباع جميع الأديان في جامعة MIT, وحتى المعبد الشاماني -الذي سبق ذكره- في ألمانيا.

التصميم الداخلي للجدار الداخلي المتجه للقبلة في جامع سنجقلار

 

التصميم الداخلي لكنيسة النور في اليابان

 

التصميم الداخلي لمعبد التأمل في جامعة MIT

 

التصميم الداخلي لمعبد bruder Klaus field chapel

المراوغة في التصميم
عندما يدرس المسلم الهندسة المعمارية يجد أن هناك وصايا في القرآن الكريم بخصوص طريقة البناء، ويتجلى له ذلك في آيات عديدة، منها قوله تعالى {وقدِّر في السرد} [سبأ: 11] حيث تشير الآية إلى وجوب الإتقان في العمل، إلا أن القرآن والسنة النبوية لم تحدّد شكلًا أو طريقة للبناء خاصة بالإسلام، فَتُرك هذا الأمر مفتوحًا للاجتهاد بما يتطلبه الواقع وبما يتوافق مع عقائد الإسلام.

على سبيل المثال فإن البناء عندما يعجّ بالرموز الوثنية والشركيّة – التركيز على العناصر الخمسة للطبيعة الأرض، الماء، النار أو النور، الهواء، أو الأثير والفضاء، التي يركز الباطنيّون عليها كثيرًا- في عملية التصميم والتنفيذ المشروع، فإن هذا أمر ينبغي على المسلم أن لا يوافق عليه، خاصة إن كان مسجدًا..

بكل تأكيد فإن كل بناء يحوي قدرًا من هذه العناصر، وعليه فإن وجودها الطفيف ليس دليلا على وسم المكان بصبغة معيّنة، إلا أن التركيز على إظهار تمازج هذه الرموز بشكل مبالغ فيه ومتفق مع عقائد باطنية، أمرٌ يحتاج لإعادة النظر فيه مرارًا وتكرارًا، خاصة إن كان التصميم لا يوصل لوظيفة محددة له، حيث يجب أن نسأل هنا: هل كان هذا التصميم لأغراض جمالية أم لمعانٍ تأويلية وباطنية أخرى؟

تظهر الصور الثلاث الآتية الشكل الخارجي لجامع سنجقلار، تأمّلها!

يقول مصمم المسجد:
إن وجود بركة مياه منخفضة وأشكال بسيطة للمساحة المفتوحة أمام المساجد يؤدي لحالة ذهنية عاكسة وهادئة، وتهيئة المصلين لدخول الصلاة، فالفضاء المفتوح أمام المساجد يعدّ “مساحة للتأمل” أيضًا، حيث “ينسجم المبنى تمامًا مع التضاريس، وبهذه الطريقة السلمية، يعيد تشكيل الأرض” كما أن وجود شجرة زيتون واحدة فقط وقديمة ترميزٌ للخلود.

هنا نسأل المعماري الذي أراد التخلّص من القِباب والمآذن ليرجع إلى روح الإسلام، هل حقّقت ذلك بتصميمك هذا؟

ما الفائدة من تصميم مسجدٍ يزخر بالترميزات التي تتعارض مع جوهر الإسلام؟

أم أن المصمّم يريد إعادة بناء هويّة الإسلام على نحو جديدٍ كما أعاد بناء المسجد في شكله الجديد؟

(وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) [الإسراء: 37]


المراجع:

https://dajran.com/posts/295

https://swarajyamag.com/insta/china-pulls-down-domes-islamic-decorations-from-mosques-turns-them-into-grey-structures

https://www.floornature.com/eaa-emre-arolat-architecture-sancaklar-mosque-istanbul-essen-15232/

https://emrearolat.com/project/sancaklar-mosque/

https://www.archute.com/church-of-the-light/

https://www.archdaily.com/106352/bruder-klaus-field-chapel-peter-zumthor?ad_medium=widget&ad_name=recommendation

 

الشهرة والظهور وتطوّر مفهوم الـ (trend) عبر العصور

الشهرة هي تلك الرّياح التي تواجه مركبك طالما اخترت الإبحار، والناس بين مسخّر تلك الرّياح لخدمة شراعه بحيث يصل بسموّ أفكاره ويحقق نفعها الانتشار، وبين متشاغل بالعاصفة ظانّاً أنّها قد ترفعه طالما تفوق سرعة المركب، فتراه نسي الوجهة وظنّ أنّ الطيران يتمّ بشكل عشوائي ناسياً أنّ الوصول للهدف يتمّ على نحو مدروسٍ مهذّب.

وأكثر المشاهير اليوم بين إيجابيّ وسلبيّ، فالأمر فيه بحث ونظر، ولكن إنّما نتحدّث عن مسلّماتِ مراعاةِ شفافية وعاء الروح لكيلا نلقاه بالبهرج والوهج المؤقّت قد تكدّر أو انكسر.

وسم الشهرة
لا يخفى أن (trend) كلمة إنكليزية، وتطلَقُ على كلّ حدث أو نموذجٍ يُحدث ضجّة إعلاميّة بين النّاس ويوجّه الأنظار لطرفٍ أو قضية ما، وهو ما يثبته المعنى اللغوي، فالـ (trend) هو الاتّجاه، وهو –باصطلاح مواقع التواصل الاجتماعي – الشيء الأكثر بحثاً أو الأكثر تداولاً في فترة معيّنة.

لنسلك النقاش بالأمر ضمن اتّجاه واضح؛ إذ يجب علينا أن نعرف حقّ المعرفة أنّ الـ (trend) ظاهرةٌ تستولي على العقول اليوم، فالكلّ يريد أن يكون ذاك الشّخص الذي يؤثّر في الناس، أو محورَ الحدث الذي تنطلق إليه الأنظار.

وبناء على هذا التصوّر بات الاتجاه لا يهمّ، فالبعض يختار سفاسف الأمور كتصوير الشباب لدقائق حياتهم أو خروج أحدهم بشيء مخالف للدّين أو للفطرة السليمة، وكلّ الهمّ أن يصبح حدثاً يتمّ التكلّم عنه، متناسيًا أنّ هذه الطفرة في عمقها أمرٌ هشّ وأنّ هذا التوهّج المفاجئ كاذبٌ مؤقّت، لا يرفع بنياناً ولا يُقيم عمراناً.

وهنا أسأل نفسي، هل مفهوم الـ (trend) يتعارض مع مبادئ المسلم؟

لم يكن الإسلام يوماً مقيّداً لأي لبِنة خيرٍ إيجابية تسهم برفع راية الأمّة، وإنّما كان مهذّباً ومقوّماً لكلّ مائل عن الطريق المتّجه نحو السموّ والرفعة؛ إذ إنّ الإنسان الذي كرّمه الله تعالى على جميع مخلوقاته وميّزه بالعقل والإدراك لا ينبغي له أن يسمح لنفسه بالسقوط نحو القاع ولو بتنازلٍ بسيط؛ ولذلك فإنه لم يكن ثَمّة مانعٌ في الإسلام لتوجيه السلوك باتّجاه معيّن يدخل في أهداف الإسلام وخدمة مبادئه، بل إنّ من توفيقَ من الله في أن يترك الإنسان أثره النافع في الآخرين أينما سلك وتوجّه.

من الممكن أن تقوم بمناقشة كتب تُساهم في بناء عقول سليمة لمن حولك وتشارك تجربتك مع الآخرين، ومن الممكن أن تطرح محتوى يطوّر لغة تتقنها لدى من يريد التعلّم، ومن الممكن فعل أشياء أخرى كثيرة، فالأبواب مفتوحة لكل راغبٍ في إحداث أثرٍ إيجابيٍّ بالناس.

إلا أن مدار الأمر وعمقه يظهر لك حين تسأل نفسك عدّة أسئلة لتقيس صحّة اتّجاهك، كأن تسألها “لمَ أقوم بهذا الأمر الذي يجعل مني شيئًا أو من فعلي حدثاً مميّزاً”، “ما نوع المحتوى الذي أقدمه للآخرين”، “ما الرؤيا التي وضعتها لنفسي ولأمّتي”، وقبل كل ذلك أن تسأل نفسك: هل الهدف منفعة شخصية آنيّة لا تُسمن ولا تغني من جوع؟ أم أنّ هناك طبخة دسمة لأوصال الأمّة المقطّعة جوعاً؟ وأن تفكّر مليًّا في أنك إن سلكت مسلكاً إيجابياً، فهل تملك الحصانة لنفسك ضد الشهرة ونسيان الهدف الأسمى والأساسي؟

هذه جزءٌ من الأسئلة التي يجب أن يجيب المرء عليها قبل أن يشرع بتقديم أي محتوى للنّاس.

نماذج من ظاهرة التأثير في القرآن
القرآن الكريم والسّنة النبوية زاخران بالأحداث التي كانت حديثاً مطروقاً بين أصحاب وقت ما، بين إيجابي وسلبيّ، ولكن في نهايات كلّ قصّة نأخذ عبرة واحدة أنّ ما كان سلبياً كان مؤقّتاً وما كان إيجابياً بقي نبراساً يُستضاء به.

  • قارون نموذجًا سلبيًّا على الصعيد المادّي

كان قارون رجلاً من قوم سيدنا موسى، آتاه الله مالاً عظيماً، فما كان منه إلا أن ردّ الفضل لذاته، وخرج يستعرض ماله وكنوزه بين النّاس بطَراً وأشَرَاً، بدل أن يكون جزاء إحسان الله إليه إحساناً لخلقه، لا استعراضاً لبهرج زائل ومال آفل.

لقد كان قارون -بلغة العصر الحالي- المؤثر الشهير (trend) في تلك الفترة بماله وكنوزه، وكان حديث النّاس بين لائم له ومذكّر بفضل الله عليه، وبين حاسد ومتمنٍّ أن يؤتى مثلما أوتي قارون من مال، ولكن طريقة طرح قارون السلبية للأمر جعلت النهاية إلى سراب.  

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ  * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ  *فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:76-82]

  • ماشطة ابنة فرعون نموذج إيجابيّ على الصعيد الإيماني:

أدركت ماشطة ابنة فرعون الحقّ واتّبعته، فكانت اتّجاهاً مختلفاً عن السائد في ذلك الوقت من تأليه لفرعون وتقديس له، لقد عرفت الصواب فلزمته، ولم يؤثّر عليها فساد ما حولها، وإنّما كانت نقطة ضوء وسط ذلك الظلام فكانت بلغة العصر الحالي (trend) في ثباتها وعدم تزعزعها.

عن عبد الله بن عبّاس  tقال: قال رسول الله r: (لَمَّا كانتِ اللَّيلةُ الَّتي أُسريَ بي فيها، أَتَتْ عليَّ رائحةٌ طَيِّبةٌ، فقُلْتُ: يا جِبريلُ، ما هذه الرَّائحةُ الطَّيِّبةُ؟ فقال: هذه رائحةُ ماشِطةِ ابنةِ فِرعونَ وأَولادِها. قال: قُلْتُ: وما شَأنُها؟ قال: بيْنما هي تَمشُطُ ابنةَ فِرعونَ ذاتَ يَومٍ، إذْ سَقَطَتِ المِدْرَى مِن يَدَيْها، فقالتْ: باسمِ اللهِ، فقالتْ لها ابنةُ فِرعونَ: أَبي؟ قالتْ: لا، ولكنْ رَبِّي ورَبُّ أَبيكَ: اللهُ. قالتْ: أُخبِرُه بذلكَ؟ قالتْ: نعَمْ. فأَخبَرَتْه، فدَعاها، فقال: يا فُلانةُ، وإنَّ لكِ رَبًّا غَيري؟ قالتْ: نعَمْ، رَبِّي وربُّكَ اللهُ. فأَمَرَ ببَقرةٍ مِن نُحاسٍ، فأُحميَتْ، ثمَّ أَمَرَ بها أنْ تُلْقى هي وأَولادُها فيها. قالتْ له: إنَّ لي إليكَ حاجةً، قال: وما حاجتُكِ؟ قالتْ: أُحِبُّ أنْ تَجمَعَ عِظامي وعِظامَ ولدِي في ثَوبٍ واحدٍ وتَدفِنَنا، قال: ذلكَ لكِ علينا مِنَ الحقِّ. قال: فأَمَرَ بأَولادِها فأُلْقوا بيْن يَدَيها؛ واحدًا واحدًا، إلى أنِ انتَهى ذلكَ إلى صَبيٍّ لها مُرضَعٍ، وكأنَّها تَقاعَسَتْ مِن أجْلِه، قال: يا أُمَّهْ، اقتَحِمي؛ فإنَّ عذابَ الدُّنيا أَهْوَنُ مِن عذابِ الآخِرةِ، فاقتَحَمَتْ.) [مُسند الإمام أحمد، بإسناد صحيح]

الشهرة والتأثير وأسئلة الشباب
كثيرٌ من الشباب يتساءل عن اتجاهات التأثير، ترى بعضهم يقول: إن المحتوى الإيجابي لن يجعلني trend)) لأنّ الشهرة لأولئك الذين يقدّمون محتوى سخيفاً لا فائدة منه.

بادئ ذي بدئ يجب أن نعلم أنّ العوامل التي تؤثر في جودة أي محتوى هي: موافقته للشريعة والصدق والجودة والابتكار.

أما الموافقة للشريعة فيكون ذلك بأن لا يخالف المحتوى عقيدة ولا مبدأ من مبادئ الإسلام، بالتوازي مع الصدق في إرادة التغيير، والجودة بحيث يكون المحتوى هادفاً ومنسوجاً من خيوط قويّة، وأن تحقق فيه الابتكار بأن يكون غير مملّ ولا مكرراً لغيره.

 هنا -أي بعد تحديد الاتّجاه- يأتي أمر مهمّ وهو استحضار أنّ الشهرة ليست شيئاً منشوداً، وإنّما هي شيء مساعد لتحقيق الانتشار، والمؤمن مُدرك لحقيقة نفسه وقدراته وأنّ كلّ ما يأتيه من نِعَم فإنّما هي من الله تفضّلاً ومنّة، لا من جهد شخصي.

قد يتساءل آخرون بأن العمل على محتوى جيّد لن يجلب العدد المطلوب من المُتابعين، إذ لا أحد يهتمّ رغم أنّ المحتوى هادف؟

هنا لا بد من أن نتذكّر أن ديدن الصالحين –دائمًا- هو العمل والتوكّل، فربّ عمر يقضيه الإنسان يعبّد طريقاً ما، دون أن يُعرَف، وكان له شرف تمهيد الطريق فحسب، وربّ عمر قضاه نبيّ وهو يدعو إلى الله تعالى دون أن يؤمن به مؤمن واحد، فقد جاء في الحديث الشريف: عن عبد الله بن عبّاس t قال: قال رسول الله r: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النبيُّ والنبيَّانِ يَمُرُّونَ معهُمُ الرَّهْطُ، والنبيُّ ليسَ معهُ أحَدٌ) [رواه البخاري، حديث صحيح] وبالرغم من أنه لا رسالة يتمّ تقديمُها أعلى وأجود وأفضل من رسالة التوحيد،  إلا أن بعض الأنبياء يأتون دون تابعين، فعدد المُتابعين ليس دليلاً على جودة الرسالة، إنّما الخير باستمرار تمهيد الطريق ولو لم نلقَ سالكين.

يترك بعض الأشخاص الأثر دون أن يُذكروا في صفحات التاريخ أصلاً، وخير مثال على ذلك، الرجل الصالح الذي جاء من أقصى المدينة يسعى فقط ليقوم بالمهمّة التي يمليها عليها إيمانه، رجل لم يأتِ ماشياً، وإنّما جاء يخطو على نحو مسرع، لم نعرف اسمه، وإنّما رفع ذكره صفاء رسالته، قال الله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]

إن الشهرة لها متلازمة المتابعين، حيث يبدأ الإنسان –أحيانًا- منحاه بشكل سليم، إلا أنه سرعان ما يُقيّد نفسه وسط الطريق بردّة فعل الآخرين، يرتفع بمدحهم ويُحبَط بذمّهم، وإن قلّ العدد قلّ منه العطاء والمدد، وبات كزهرة ذابلة تشعر أن لا أهمّية لها دون التصفيق والثناء من الجمهور، فإن أحجموا ذبل وإن أقبلوا بثّ أجمل العطور، وهذه حمّى تعترض السائر نحو هدف سامٍ، إذ إنّ العين يعتريها عند السلوك ضعف بصر وبصيرة، وتربط حبالها بجهة متقلّبة الأهواء والآراء، متناسية أنّ أمتن حبل هو حبل يُربط مع خالق الأرض والسّماء.

إن كيان المؤمن في نموّه وانطلاقته ورحلته ونتائجه مرتبط بنفسه وعقيدته ونتاجه، فقد قال رسول الله r: (مَثَل المؤمن مَثَل النحلة، لا تأكُلُ إلا طيِّبًا، ولا تضَعُ إلا طيِّبًا) [صحيح ابن حبان: 247]

ساعة التغيير

جميعُنا يبحث عن التغيير نحو الأفضل، فلا نعلم إنسانًا يبحث عن تغيير حياته نحو التردّي والضعف، وإنما نحو الصعود والقوّة، إلا أن شروط التغيير كثيرة، منها ما يكون عامًّا لكل الناس كالعزم الداخلي، والصبر على المحن، والثبات على الطريق، ومنها ما يزيد لدى المؤمن عن غيره، ألا وهو التمسك بهدي الله، والالتزام بأمره وشرعه..

لقد صوّر لنا العلماء المسلمون حقيقة التغيير، ووصفوا ساعته، وذكروا خطواته، فيكف بك حينما تقرأ كلام الإمام ابن القيم في صيد الخاطر حين يقول:

“وأيُّ عيشٍ لمن ساكَن الكسل، إذا رأى أقرانهُ قد برزوا في العلم وهو جاهل، أو استغنَوا بالتجارة وهو فقير، هل يبقى للالتذاذ بالكسل والراحة معنى؟ ولو تفكّر الزاني في الأُحدوثة عنه، أو تصوَّر أخذَ الحدِّ منه، لكفَّ كَفَّه، غير أنّه يرى لذّةً حاضرةً كأنها لَمْعُ برقٍ، ويا لشؤم ما أعقبَتْ من طول الأسى، وهذا كله في العاجل. فأما الآجل فمنغصة العذاب دائمة.” [صيد الخاطر: 238]

قد تقرأُ نصًّا كهذا فيكون كالشُعلة التي تعطيك الهمة العالية لتبدأ، فتهبّ لتأخُذ قراراً حاسماً بأن تقطع معصيةً ما أو إدماناً ما، هذه الهمة اللحظيّة تدفعك للبدء، لكنك حينما تبدأ، تُدركُ أنَّ الصوابَ صعب، وأنَّ لذة الصواب لا تأتيك لحظة التوجّه للتغيير، وإنّما حين تقطف ثمرة التغيير الذي يكون بعد رحلة لا تُعْلَم مُدتها، فتكون ساعة التغيير خطوتها الأولى فحسب.

التغيير بين هوى النفس ورِضا الله
قد تسوُّل لك نفسك مِراراً أن تتوقف، وربما تأتيكَ أعراض نفسية شديدة تمنعك، فالنفس التي تعوّدت على تلبية رغبات وتنفيذ شهواتها سرعان ما تبدأُ بالنزاع مع صاحبها، على أن ذلك لا يكفي، إذ يأتيك الشيطان من أبوابٍ عديدة محاولاً منعك من استكمال الطريق، بل ربما يحاول منعك من المضيّ فيه أحدُ الأشخاص القريبين منك.

ليس ذلك ما قد يواجهك، فالغربة ستكون في دربك، وستعاني –حتماً- من الألَم بقدرِ تعلُّقك بالعادة أو الذنب الذي تركته، فكُلما كان التعلُّق أشد كان الانتزاع أشد ألماً، وهذا من البلاء، أتُراكَ تستمر في مجاهدة هواك؟ أم أنّك ستُعلن استسلامك؟

قد تكون مُدمناً لموقعٍ افتراضيٍّ ما، أو أسيراً لإحدى الألعاب الإلكترونيّة، وحينها؛ فإن قرارك بالتغيير سيلقى تيّاراً قويًّا يسبح بالاتجاه المُعاكس لعزمك ونيّتك.

سترى إخوانك وأصدقاءك وكل من حولك لا يرفعون عيونهم عن أجهزتهم، وأنت وحدك قد رفعت رأسك، ها نحن نهمس لك: “وحدك الآن تقاوم، والكُلُّ من حولك لا يأبهون بل ربما يدعونك للعودة، ويرون فعلك خروجًا عن المألوف، وقد يصفونك بألفاظٍ تزيدُ من غُربتِك، لكن هل ذاك سببٌ مقنعٌ لتعود؟.

هبْ أنك قررت تخفيف سلوك غِذائي معيّن بعدما سمعتَ قول النبي صلى الله عليه وسلم “ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه” حينها سترى بعد أيام من مضيّك في هذا الطريق تلهُّفًا لتناول ما تشتهيه نفسك، سترى تيّاراً قويًّا من إعلانات الطعام والوجبات السريعة يغريك بترك قرارك.. حينها صبرك قد يزيد من غُربتك.

إن حاولت ترك أيّ إدمان، كإدمان التدخين أو المشاهد المُحرمة، فستظهر لك في الطريق أعراض انسحاب صعبة، ستزيد من حِدّة الألم، فقد عودتَ نفسك وجسدك على تحصيل اللذة من خلال هذه الأمور، وليس من السهل تحصيل هذه اللذة عن طريق أمورٍ أُخرى لا تؤذيك.

العادات وطريق التغيير
كل ما تقدّم من أمثلة، إنما هي جزء من العادات التي يعتادها الناس ويألفونها، وقد أصبحت عندهم أشبه بالمُسلمات، فكُل من خرج عنها كان غريباً، ومن ثم فإن رفض الإنسان للتغيير عائد لتعلّقه بالدنيا والبشر وغيرها من علائق القلب التي تمنع الإنسان من السير في الطريق إلى الله.

طريق التغيير يبدأ بالعمل على استئصال السوء كاستئصال الأورام، وهي عمليّة مؤلمةٌ بقدرِ تفشّي الوَرَم في الجسد وكان المرض، و بقدرِ طول الغفلة تكون مُدة العلاج، إنها رِحلة طويلة تجدها وأنت تخوضها أصعبَ مما قد توقعته في لحظة الهمة الأولى، فهي ملأى بالعَقبات، مظلمة كالنفقِ الذي لا زلت تسيرُ فيه بحثاً عن النور في آخره، ولعلك في سيرك تقرر الرجوع، إلا أن رجوعك ضارٌ لك أكثر من استمرارك، فما يكون عليك سوى أن تتحلى بالصبر مُدركاً بأنّه من ترك شيئاً لله أعاضه خيراً منه، وأن تتذكر أنّك بتوبتك و صبرك على مفارقة الذنب قد تبلغ مقاماً عالياً عند الله تعالى، “فحين خلق الله آدم و أمر الملائكة بالسجود له ظهر فضله و شرفه عليهم بالعلم و المعرفة، فلما وقع في الذنب ظنت الملائكة أنّ ذلك الفضل قد نُسِخ ورُفِع، ولم تطلّع على عبوديّة التوبة الكامنة، فلما تاب إلى ربه، وأتى بتلك العبودية، علمت الملائكة أنّ لله في خلقه سراً لا يعلمه سواه” [الفوائد: 64].

فإن صَبر استحالت لذة
بعد طريقٍ طويل من المُداواة، تُزيح ذنباً وتضعُ مكانه طاعة، تزيح عادةً سيئة وتضع مكانها عادةً حَسنَة، تسقطُ مرةً ثم تعاود القيام فيغلبُ قيامك سقوطك، وقد دعوت الله كثيراً أثناء رحلتك، تسألهُ الثبات والصبر تارةً، وتارةً تسألُه العَوضَ الجميل، مُدركاً ومُتيقِناً أنّ الله قد رأى سَعيك وأنّهُ سيسألك عن السعي لا عن النتيجة، مستمراً في السير في النفق المظلم الذي لا زلت لا تستطيع رؤية النورِ في آخره، في تلك اللحظات، يأتيكَ عوض الله بأنواعٍ مُختلفة.

هلمّ اقرأ معي هذه المقتطفات، لترى فيها نسمة الأمل والعمل، ” فما ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي و ميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها، و خير له و أنفع و أدوم، و ليجاهد نفسه على تركها له سبحانه، فتورثه تلك المجاهدة الوصول إلى المحبوب الأعلى”، “فإنّما يجد المشقّةَ في ترك المألوفات و العوائد من تركها لغير الله، فأما من تركها صادقاً مخلصاً من قلبه لله فإنه لا يجد في تركها مشقةً إلا في أوّل وهلة ليُمتحن أصادقٌ هو في تركها أم كاذب؟ فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة. وقد قال ابن سيرين: سمعت شريحاً يحلف بالله ما ترك عبدٌ لله شيئاً فَوَجَدَ فَقْدَه”، و”من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه”، والعوض أنواعٌ مختلفة، و”أَجَلُّ ما يعوّض به الأُنس بالله ومحبته، وطمأنينة القلب به، وقوّته ونشاطه وفرحه و رضاه عن ربه تعالى” [الفوائد: 106,107,109].

حينما نقرأ نصًّا كهذا تسقط أمامنا اللذات المؤقتة، و نبدأُ رحلةً في السعي لهذه اللذات الدائمة، فلطالما سمعنا عن الجنتين، جنة الدنيا و جنة الآخرة، فالجنة التي في القلب لا تتأتى بالتمني ولا بالسير خلف الشهوات، ولا بالعَجلة في تحصيل النتيجة بعد ترك الشهوات، وإنّما الطريق نحوها بحاجةٍ إلى تخليةٍ و تحليةٍ دائمة لا تنقطع، وكلها لها أدويةٌ نستخلصها من الوحي دون أن نضطر في أغلب الأحيان للجوء إلى العلوم الغربيّة، ولا إلى كُتب التنمية، فغاية ما يريدونه هو سعادة الإنسان في عالمٍ لا تحكمه قِيَمٌ ولا يحكمُه إله، وما نريده نحن أسمى بكثير، إذ نتطلّع إلى غاياتٍ عُليا، ونُهذّب أنفُسنا و نُزكّيها للوصول إلى رضا الله تعالى عنّا، وكلما كان الدافع والغاية أعظم، ارتفعت الهمة أكثر، وزاد صبرُ الإنسان على عَقباتِ رحلة التغيير.

 إن وُجِدَ المعنى ووُجدَ الدافع وعرفنا الداء والدواء، فلا يبقى أمامنا خيارٌ إلّا أن نبدأ ونخوضَ الرحلة ونسعى للفوزِ بالعوضِ الجميل في الدنيا والآخرة، “فإذا رأيتَ تثبيطاً من الباطن فاستغث بعون اللطف، وتنبّه في الأسحار، لعلّك تتلمّح ركب الأرباح، وتعلّق على قطار المستغفرين ولو خطوات، وانزل في رباع المجتهدين ولو منزلاً، أيّ منزل.” [صيد الخاطر: 251].

مآلات حرية التعبير.. صورٌ من الولايات المتحدة الأمريكية

بعد الإساءات التي توجهت للنبي الكريم ﷺ في فرنسا بحجة حرية التعبير، وبعدما وضح أفاضل من الدعاة حقيقة حرية التعبير ومحدوديتها في الغرب بصورة عامة[1]، أسلّط في هذا المقال الضوء على بعض الإشكالات التي أدّى إليها مفهوم حرية التعبير الكاذبة وغير المنضبطة في تلك البلاد بصورٍ واقعية من الولايات المتحدة الأمريكيّة.

ورغم أنّنا لا نذمّ الحرية بمطلقها، ولا ندّعي أن النموذج الموجود في الدول الناطقة بالعربية اليوم والبعيد عن الوحي يحتذى به، إلا أننا في الوقت نفسه ندرس ما أدى إليه مفهوم حرية التعبير الذي يزعم الغرب أنه حلٌّ لكل المشكلات، ويجعلونه الهدف الأعظم الذي يمضون إليه وينطلقون منه، لنرى حقيقةً إن كان يستحق السعي أو الطلب، أم أنه مجرد حُلَّةٍ براقةٍ لضلال كبير.

لا يدعو المسلمون اليوم وحدَهم لوضع ضوابط على حرية التعبير، وتحديد نفوذ هذا المقدس الجديد، إلا أنّ الإشكالات المتعلقة به منذ السبعينات وما قبلها جعلت حقوقيين ونشطاء كثر يدعون لتحديده حماية للأفراد والمجتمعات، وسيأتي بيان بعض أسباب ذلك.

التعديل الدستوري الأول

التعديل الدستوري الأول:
عام 1791 صادق الكونغرس الأمريكي على مجموعة من التعديلات الدستورية تحت عنوان مشروع قانون الحقوق (Bill of rights). وكان الأول من هذه التعديلات (first amendment) الذي يعتز به الأمريكيون اليوم كثيراً، ويكررون ذكره في سياق الحريات، هو القائل حرفياً إن الكونغرس ممنوع من إنشاء أي قوانين تحدد حرية الحديث أو حرية الصحافة[2]. ورغم أن هذا الكلام يبدو جميلاً ومريحاً في ظاهره، إلا أنه في حقيقته عامٌ للغاية، ويحتاج كثيراً من القوانين الفرعية لتكفل حدود الحريات وضوابطها المنصفة للجميع.

هل التسويق حرية؟
ربما يتبادر هذا التساؤل: ما علاقة التسويق بالحرية؟ أليس التسويق مجرد ممارسة إعلانية تجارية تهدف لبيع وشراء وتبادل اقتصادي عادي؟

الصفحة الأولى من الدراسة التي اقتبست منها

صحيح، لكن الواقع هو أن الشركات في الولايات المتحدة استغلت قداسة التعديل الدستوري أعلاه في النفوس، فادعت أن تسويقها لمنتجاتها جزء من حرية تعبيرها الخاصة وأن من حقها أن تقول ما تريد وقتما تريد وأينما تريد عن منتجاتها، بغض النظر عن آثار قولها من خداع للمستهلكين أو تكليفهم فوق طاقتهم المادية[3].

لقد كان ذلك تسهيلاً للكذب في الإعلانات، وتوجيه التسويق للقطاعات سريعة التأثر(vulnerable populations)، ووضع العبارات التي لا أساس لصحتها على العبوات، وذلك كلّه مندرِجٌ تحت مسمى حرية التعبير التي تجعل جهود الحقوقيين لمنعها عسيرة جداً[4].

نسبة قضايا التعديل الدستوري الأول للشركات الكبرى بين عامي 1946-2001 المصدر: How Corporations Took Over the First Amendment, Joe Pinsker, The Atlantic, 2015 https://www.theatlantic.com/business/archive/2015/04/how-corporations-took-over-the-first-amendment/389249/

إلا أنه بعد الكثير من الجهود، وُضعت قوانين لحماية المستهلك، وما زالت تخضع للتعديل باستمرار وسط معارك قضائية بين الناشطين ولوبيات الشركات الكبرى.

يقول بروفسور القانون في جامعة هارفرد جون كواتس في دراسته المعنونة “استيلاء الشركات على التعديل الأول”: إن القوة الآن تسحب من الأفراد العاديين ذوي الاهتمامات والهويات البسيطة ناخبين وموظفين وعملاء، وتُحوّل إلى الشركات البيروقراطية الكبرى ذات الأهداف الموجهة بدقة لتحصيل أموال الناس، مظهراً أن أكثر من 40% من قضايا الشركات القانونية عام 2001 كانت متعلقة بالتعديل الدستوري الأول[5].

وثمّة مثالٌ على ذلك من عالم الغذاء.

تسويق طعام مضر للأطفال
وثقت Business Insider عام 2013  أن الطفل الأمريكي يرى سنوياً أكثر من ألف إعلان للمأكولات السريعة، عدا عن مئات الإعلانات لشركة McDonald’s  وحدها[6]. وهذا توضيح لتقسيم ذلك بحسب الشركة المنتجة بحسب دراسة من Yale Rudd center  عام 2012.

 ولا شك أن هذا يوضح استهداف تلك الشركات الضخمة للأطفال الذين لا يملكون الحكمة في الاختيار ولا يستطيعون موازنة الفوائد والمضار المترتبة على تناول تلك الأطعمة المضرة بالصحة باتفاق الخبراء. والعجيب هنا أن المعيق الأساسي للحكومة من منع الشركات من استهداف الأطفال بإعلاناتها هو حرية التعبير في التعديل الدستوري الأول. وهذا ما أشار إليه باحثون في قوانين الطعام عام 2012 حين قالوا: إن حقوق حرية التعبير المتعلقة بالتعديل الدستوري الأول تمنع الحكومة من إنشاء أي قانون يحدد حرية التعبير الخاصة بالشركات، وبالتالي يكون أي قانون يمنع شركات المأكولات السريعة من توجيه جهودها الإعلانية للأطفال مرفوضاً مباشرة[7].

كل ذلك يرينا الإشكال في مفهوم حرية التعبير كقيمة مطلقة تكون الأساس الذي تبنى بحسبه القوانين والأنظمة دون مصلحة المجتمعات وحماية الأفراد. ورغم أن حرية التعبير لا ينبغي أن تشمل بشكلها المتوقع التسويق أو المنتجات الغذائية، إلا أن مفهومها الفضفاض والهالة الكبيرة التي رسمت حولها سمح للشركات باستغلالها لتبرر كذبها عليهم واستغلالها لهم، وقد نجحت في معظم ذلك حتى الآن.

 فكون حرية التعبير مفهوماً أساسياً في الشعور الأمريكي يجعل مجرد ذكره في المحاكم أمراً صعب التجاوز على الطرف الآخر، مما يحسم القضايا القانونية بشكل شبه تام بمجرد التلويح بالمساس بحرية التعبير!

الاستهزاء والسخرية
يمكن لأي شخصٍ عاش فترة الانتخابات في أمريكا أن يحدثك عن الكم الهائل من الإعلانات السياسية التي صادفته على مدار يومه لشهور عديدة قبل موعد الانتخاب. فما بين رسائل بريدية وإعلانات على يوتيوب وفيسبوك ولوحات طرقية وغيرها؛ أنفقت حملتا المرشحين الرئاسيين في أمريكا في الشهر الأخير قبل الانتخابات فقط أكثر من 200 مليون دولار على الإعلانات السياسية[8].  

وبينما الكلام السياسي محمي تماماً في أمريكا بحق حرية التعبير (حيث يكون له أعلى درجة من الحماية)، فإن هذه الحرية لا تضع أي ضوابط للأدب، أو حسن التعامل أو الصدق أو الاحترام. فتكون هذه الإعلانات ساحة صراع مفتوحة بين المتنافسين على الكراسي البرلمانية ومنصب الرئاسة[9]. فلا يسوّق الشخص نفسه بمزاياه وقدراته، قدرَ ما يسوقها بمساوئ غيره عبر التشهير به وفضح أي سر صغير عثر عليه له ورسمه بأسوأ الصور وإطلاق أسوأ النعوت عليه.

وهذه عينة حديثة من ذلك:

رسالة بريدية مما يصل البيوت في موسم الانتخابات، فيها إعلان لمرشح نيابي عبر تشويه صورة آخر (بعدسة الكاتبة)

ورغم أن القمع المنتشر في دول الشرق اليوم قد يكون أول ما يتبادر للأذهان كطرف النقيض المعاكس عند الحديث في هذا الأمر، فهو ليس ما أدعو إليه أو أسوغه، فديننا لا يرفع بشراً بعد الأنبياء إلى منزلة العصمة أو امتناع الحاجة للتصويب. لكن علينا في الوقت ذاته أن نقر بأن الانفلات الكامل من أي ضوابط احترام أو توقير أو خُلُقٍ عام بين الناس في عالم السياسة بأكمله ذو عواقب سلبية وخيمة. فجعلُ كلام السياسي محمياً لمجرد أنه سياسي يؤدي لفقدان حدود الأدب وامتهان الكرامات ونشر الإشاعات والتشهير بالأشخاص وتحويلهم إلى أدوات بأيدي العامة لمجرد مواقعهم في وظائف معينة، يضاف إلى ذلك غياب احترام الكبير وانعدام ثقافة التناصح والرفق في المجتمع.

وهذه إشكالات تحدث عنها نقاد غربيون من قبل؛ فقد قال –على سبيل المثال- البروفسور هنري برادي: رغم أن الحوار الحضاري مطلوب في الحياة العامة، إلا أننا صرنا نفقده تماماً في الوسط السياسي، حيث نرى إطلاق الشتائم والعنف اللفظي وانعدام الأدب وفقدان الأخلاقيات الاجتماعية المحببة أو أي اعتبار لمشاعر الآخرين، وهذا كله صار معتاداً ومقبولاً بين الناس[10]. فنحن بحاجة إلى نظرة وسطية تعترف بخطأ هذا الانفلات وتقر بضرر طرف النقيض المقابل تماماً له، لأن كلاهما بعيدٌ تماماً عن الوحي وهدي المصطفى عليه الصلاة والسلام. فامتلاك حرية التعبير المطلقة لا ينبغي أن يكون الهدف بنفسه، إنما القدرة على النصح والبيان والتصويب لأصحاب المناصب وأولي الأمر كما للعامة، وإلا كانت مفاسد وأضرار كثيرة آخر الأمر.

ختاماً
بالنظر لبعض مآلات حرية التعبير غير المنضبطة في الغرب يظهر للقارئ أن المفهوم نفسه يتضمن إشكالاً كبيراً، فالتمييز بين حرية المرء التي تكفل حقوقه وبين الانفلات الذي يجعله متجاوزاً ومتعدياً على غيره أساسٌ لم يبينه الغرب اليوم. فهذه الدول قررت أولاً جعل حرية التعبير رمزاً مبجّلاً، وسبيلاً للخلاص من الظلم، ثم أخذت تسن القوانين حوله لحمايته قبل حماية الناس منه.

 والواقع أن هذا ضياع لا بد أن يقع فيه أي شخص يخترع قوانين مختلفة لتنظيم حياة البشر دون العودة لوحي ربّاني أو شرع ذي مصدر غيبيّ، فعلم الإنسان بطبيعة نفسه محدودٌ، بينما علم الله به كامل، فلما نبذت الشعوب الوحي وجعلت تبتدع لنفسها مقدسات جديدة تنطلق منها، كان من الطبيعي أن تخطئ وتقع في متاهات تجعلها تحاول تعديل الدساتير وإضافة أخرى على الدوام حين تكتشف أخطاءها والتجاوزات التي قادت إليها قوانينها.

ولعل قائلاً يسأل هنا: ما المشكلة إن كان البشر يخطئون ويصيبون، ثم يعودون فيصحّحون الخطأ؟

وهنا نوضّح أن المشكلة هي تركُنا المعين الصافي الذي فيه السعادة الحقيقية، واندفاعنا للبحث عنها في أي شيءٍ آخر، وهذا الشيء لم ولن يتحقق للبشر لأنه بشريٌّ في مصدره وطريقته وغايته، فالكمال غير موجود إلا في شرع الله العليم الخبير بما يصلح لنا وما لا يصلح { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:14]، أما محاولة تكميل الدساتير الوضعية باستمرار فذلك سبب لضياع حقوقٍ وأعمارٍ كثيرةٍ في الطريق، ولن تهدي لمراد الله تبارك وتعالى نهايةً لأن السائر فيها إنما يفتش عن أيسر السبُل لإرضاء ناخبيه.

لم يطالب المسلمون وحدهم بقوانين تضبط حرية التعبير اليوم، بل إن حقوقيون كثر حول العالم تحدثوا بالموضوع من قبل، وإن كان بشكل غير مباشر، لئلا يغضبوا الشعوب المخدوعة بأن حرية التعبير سبيلهم لنيل كرامتهم وعدم الرجوع في الحال التي كانوا عليها قبل التحرر من سلطة الكنيسة والانطلاق في عيشٍ متمركزٍ حول الإنسان وهواه.


[1] أحمد دعدوش، حرية التعبير المطلقة VS الإسلام، قناة السبيل، 2020

https://www.youtube.com/watch?v=JPN78SSQKAk&t=1882s

حسب القيم الفرنسية هل نملك حرية التعبير فعلا؟!، قناة رواسخ، 2020

https://www.youtube.com/watch?v=JPN78SSQKAk&t=1882s

[2] First Amendment, Legal Information Institute, Cornell Law School.

https://www.law.cornell.edu/constitution/first_amendment

ولشرح مبسط لهذا التعديل انظر:    https://www.youtube.com/watch?v=Zeeq0qaEaLw

[3] How Corporations Took Over the First Amendment, Joe Pinsker, The Atlantic, 2015

https://www.theatlantic.com/business/archive/2015/04/how-corporations-took-over-the-first-amendment/389249/

[4] للمزيد في هذا الموضوع ابحث عن “commercial speech protection under first amendment” على محركات البحث.

[5] How Corporations Took Over the First Amendment, Joe Pinsker, The Atlantic, 2015

https://www.theatlantic.com/business/archive/2015/04/how-corporations-took-over-the-first-amendment/389249/

[6] U.S. Kids Watch Hundreds of Fast Food Ads Per Year, Felix Richter, Statista, 2013

https://www.statista.com/chart/1627/fast-food-advertising/ 

[7] Graff, S., Kunkel, D. and Mermin, S. (2012). Government Can Regulate Food Advertising To Children Because Cognitive Research Shows That It Is Inherently Misleading. Health Affairs, 31(2), pp.392-398.

[8] Political Ad Spends Jumps to New Heights in the Final Month of Election Season, MediaRadar, 2020

https://mediaradar.com/blog/political-ad-spend-2020/

[9] First Amendment Freedom of Speech Political Speech, United States Constitution.

https://constitutionallawreporter.com/amendment-01/political-speech/

وللمزيد في هذا الموضوع ابحث عن”Political speech protection under first amendment”  في محركات البحث

[10] Disrespect in Politics: Is Civility Possible?, Kathleen Maclay, Berkeley News, 2012

https://news.berkeley.edu/2012/07/13/disrespect-in-politics-is-civility-possible/

المصدر:

How Corporations Took Over the First Amendment, Joe Pinsker, The Atlantic, 2015