هل يُطلب النصر من موقع أمازون؟

image_print

في خضمّ الأحداث الحالية في غزة، قد يسأل سائل: ماذا استفاد أهل غزة من هذه المعركة؟! دُمّر القطاع كاملاً، واستشهد أكثر من ٣٥ ألف شخص بين نساء وأطفال وشيوخ.. أصبح الناس كلهم في الخيام وأماكن النزوح، وهناك خطط تتحدث عن التهجير الكامل لأهل غزة من القطاع.. فماذا استفادت غزة مما يجري؟

الحقيقة أن رؤية المشهد بهذه الأبعاد المادية الضيقة، هي رؤية محدودة وقاصرة. أما لرؤية المشهد كاملاً فيجب توسيع الإطار zoom out لمعرفة الأبعاد الأخرى للمشهد.

النصر في ظل طغيان المادة

في عصرنا الحالي الذي طغت فيه الأشكال المادية والرفاهية والاستهلاكية على حياة الإنسان، يظنّ كثير من الناس أن النصر سهل، يأتي نتيجة الحسابات المادية فقط، أي بالإنفاق العسكري عبر تجهيز العدة والعتاد، كأنك تشتري أغراضًا من موقع أمازون مثلاً! وإذا صحت حساباتك وخطك فإن النصر سيأتي تلقائيًّا!

بعضهم يظن أن النصر والتمكين يشبه مباريات كرة القدم، لا يمكن التيقّن بالفوز، لكن إذا صحّت الحسابات المادية كالتدريب الجيّد ومشاركة مدرب مخضرم ولاعبين أكفّاء، فإن ذلك سيرفع من فُرص الفوز!

بهذه الحسابات المادية الضيقة، ظن كثير من الناس إلى وقت قريب، أن قضية فلسطين انتهت، خصوصاً بعد مرحلة صفقات التطبيع العربية مع دولة الكيان المحتل. فبالحساب المادي، يصعب التكهّن بهزيمة الكيان الإسرائيلي الذي تدعمه دول الغرب وأقوى جيوش العالم دعماً غير محدود، ثم باتت تدعمه منذ بضعة سنوات بعض الدول العربية اقتصادياً وأمنياً، بهدف دمجه أكثر في المنطقة وكسر عزلته، مقابل الحصار المستمر للقضية الفلسطينية وحرمان الفلسطينيين من مقوّمات حقيقية لدولة قابلة للحياة، في أرض مزقها الإستيطان فيما تبقى مما يعرف بأراضي ٦٧..

ما الذي فات هؤلاء؟

فات هؤلاء أن معايير النصر لا تتعلق بالحسابات المادية في شيء!

وفاتهم أن المعيار الأهم للنصر هو “المعيار الإيماني”، الذي لن تجده في منظومة العولمة والرأسمالية ومنظومة التعليم الحديث المبني على أسس مادية بحتة. بل ستجده حصراً في الوحي الإلهي: في القرآن الكريم وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إننا لو نظرنا إلى السيرة النبوية من منظار مادّي بحت، لقال بعض الناس إن محمداً ﷺ قد تهوّر في معارك غير متكافئة أمام أعداء أقوى وأكثر من جيشه بكثير، ثم خاطر بأهل المدينة المدنيين وأفسد حياة الناس الآمنة المطمئنة وعرّضهم للخطر والحصار والموت..! وحاشاه ذلك ﷺ. وهنا الخطورة في هذا الفكر، فإن المنظار المادي هو كعدسة النظارة المتّسخة، تشوّه الصورة وربما قلبت معالمها على عكس ما هي عليه، فتبدو سوداء قاتمة مظلمة ومحبِطة، ما دامت تخلو من الرفاهية والمكاسب المادية كما يظن هؤلاء الناس!

أما لو قرأنا السيرة النبوية العطرة من منظار إيماني، يقول الله تبارك وتعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مَثَل الذين خَلَوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء و زُلزلوا حتى يقول الرسولُ والذين معه متى نصر الله إلا إن نصر الله قريب} [البقرة: 214] هذه سنّة الله في الصراع بين الحق والباطل، لا تمكين بلا امتحان ولا أمن إلا ويسبقه خوف..

أمثلة من التاريخ

في غزوة الخندق، واجه المسلمون معركة مفصلية صعبة، فقد حاصرهم الأحزاب من الخارج، واليهود والمنافقون من الداخل، وبلغت القلوب الحناجر من شدة الخوف: {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] وراهن الجميع أنها أيام الإسلام الأخيرة.. ولكن الله تعالى نصر المؤمنين في تلك الغزوة. وبعد عشر سنوات من غزوة الخندق، كان الصحابة يدكّون إمبراطوريتي الروم وفارس! ولكن ماذا قال المنافقون حينها؟ {ما وعدَنا الله ورسوله إلا غرورا} [الأحزاب: 12]، كلام المثبّطين نفسه يتكرر في كل زمن..

بعض الناس يقول: لماذا تهاجم مجموعات من المقاومين إسرائيل وهم ليسوا بقوتها؟

يجيب المفكر نايف بن نهار: هذه سذاجة سياسية وجهل بالدين، أما سياسياً فلأن المقاومة هي التي تؤدي إلى إضعاف العدو، فالشعوب تستمر في المقاومة حتى يضعف المحتل فتطرده، ولا توجد مقاومة في التاريخ انتظرت أن تكون بقوة المحتل، فالمحتل أصلاً لا يسمح لها بذلك.‏ أما إيمانياً، فالقرآن يخبرنا أن التعذر بغياب توازن القوى هو حجة للمتخاذلين للقعود عن القتال، مثل ما قال قوم طالوت: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} [البقرة: 249] فظنوا أن اختلال توازن القوى هي حجة لهم تُعفيهم عن القتال، ولكن كان الرد القرآني {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة: 249].

إن النظر بقلبٍ واعٍ في القرآن الكريم والسنّة النبوية، يغيّر مفاهيمنا حول النصر ومراحل الإعداد. وقربان النصر يستلزم الإيمان الصادق بالله تعالى. ولأن النصر غالٍ، فإنه يحتاج لتضحيات عظيمة. ومن أراد النصر لا بدّ أن يُبتلى، ولا بد أن يمرّ في طريق المشقة والشدة، لا من طريق الراحة والرفاهية.

سنّة الابتلاء هذه لا تحصل لعامة الناس في المجتمع، بينما تنجو منها علّية القوم كما يظن أصحاب الفكر المادي، بل الابتلاء يصيب الأنبياء في المقام الأول وهم صفوة البشر، ثم يليهم صفوة المؤمنين المتّقين مهما علا شأنهم بين أقوامهم. إن المعيار الإيماني لا يقاس بالماديات ولا يميّز الناس بين طبقات مادية واجتماعية.. بل هو يقين بالنصر لا يتزعزع، وثقة بالله لا تضعف {إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم} [محمد: 7]

صحيح أن الخسائر المادية والبشرية هائلة، لكن مع ذلك أهل غزة ليسوا ضد المقاومة بل هم الحضن الشعبي لها، لأنهم يعلمون أنها سبب عزتهم والسبيل الوحيد للنصر والتحرير وطرد المحتل.

ومع كل المآسي التي وقعت، إلا أننا ندعو أن تكون الغلبة للمقاومة، وعند رؤيتنا للمشهد كاملاً، سنرى أن العديد من الإنجازات قد حققتها على الصعيد العسكري والسياسي والشعبي والمعنوي على مستوى العالم. فقد كُسِرت هيبة جيش الاحتلال، وحُطّمت أسطورة الدولة التي لا تقهر، ويقع هذا الكيان اليوم -للمرة الأولى- في أزمة داخلية حقيقية وعميقة، ومراقبون كثر يتوقعون أن نهايته هي مسألة وقت فقط إن شاء الله تعالى.

في الختام

يمكن تلخيص معايير النصر في الإسلام في مقولة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه “نحن أمة لا تنتصر بالعدة والعتاد، ولكن ننتصر بقلّة ذنوبنا وكثرة ذنوب الأعداء، فلو تساوت الذنوب انتصروا علينا بالعدة والعتاد”.

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد