في كل استقامة إقامة

image_print

إذا ما سعينا في إلقاء نظرة خاطفة على حال شباب الأمة العربية والإسلامية، ترى أن كثيرًا منهم يسيرون في طرقاتها تائهين عن الهدف الكبير أو عن الخطوات اللازمة لتحقيق هذا الهدف. بعضهم يسعى في منفعة يحصّلها، وآخر يطلب المال في كل شيء، وغيره يسعى لرضى الله تاركاً كل الخلائق خلف ظهره، وآخر يسير كتيّار النهر الموّاج في حماسه، وآخر يعيش كمصباح محترق أو كالرماد في مهب الرياح، ينثر الكثير المُبَعْثر في الفراغ فلا منهج له ولا منهجية، وقليلٌ أولئك الذين يبصرون الله في حياتهم، أولئك المخلصون له (عِبَادُه) الذين يعبدون الله على بصيرة، وإقامة واستقامة، فمن أين لهم تلك البصيرة؟ وكيف نبنيها؟

كيف نفهم قولنا: في كل استقامةٍ إقامة؟

في حديثٍ للنبي الأكرم محمد ﷺ الذي يرويه الصحابي الجليل سفيان بن عبدالله الثقفي -رضي الله عنه- يقول: (قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أسْأَلُ عنْه أحَدًا بَعْدَكَ، “وفي حَديثِ أبِي أُسامَةَ غَيْرَكَ”، قالَ: قُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ)[1]، إن الأمر الجليَّ في هذا الحديث هو ورود فعل الأمر (استقم) بعد مفهوم الإيمان بالله سبحانه، وبالتالي، فإن السنة المحمدية جعلت شرط الاستقامة وانضباط النفس، وثبات العقل والقلب على منهاج سليم، يبدأ بعقيدة الإيمان والتوحيد، فقد كان في استقامة النبي وصحابته الكرام؛ إقامةٌ أولاً لسلامة القلب بالإيمان بالله، ولهذا السبب كان ديننا الحنيف مبنياً أولاً على أركان الإيمان الستة، ثم أتبعها بأركان الإسلام التطبيقية الخمسة، حتى إذا ألمَّ المسلم بأركان الإيمان والإسلام، وكانت له منهاج حياةٍ يسير عليه ويستقيم فيه، أصبح مسلماً ذا بصيرةٍ في حياته، وهنا يأتي مفهوم الإحسان الذي جاء في حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين جاء جبريل إلى نبي الله ﷺ على هيئة رجل شديد بياض الثياب وسواد الشعر وسأل النبي ﷺ عِدّةَ أسئلة ومنها أن جبريلاً عليه السلام قال: (فأخبرني عن الإحسان، فقال رسول الله: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)[2].

يؤكد هذا لنا أنه كلما ازدادت بصيرة الإنسان بقاعدته وأساسه المنهجي العقدي التطبيقي القائم على أركان الإيمان والإسلام، واستقام عليها روحياً وتطبيقياً، ارتقى حينها إلى رُتْبَةِ الإحسان.

من جانب آخر أيضاً، وللنظر من زاوية أخرى، فإننا نفهم مما سبق؛ أن أي تغيير إيجابي حادِثٍ أو مُحْدَثٍ في المجتمع، يجب أن يبدأ “بفكرة” أو كما قد نسميها “خصلة رأي”، وحين نقوم بزرعها وترسيخها في أذهان البشر تتحول إلى عقيدة، وإن آمن الناس بتلك العقيدة أصبحت طبعاً لهم، ومنهاجاً مصبوغاً في جذور المجتمع بوصفه منهاج حياة، كما هي خُصْلَةُ الشَّعْرِ في الرأس، ولكن الشَّعْرَ نوعان: شَعْرٌ شبابيٌ يافعٌ مُدعَّمٌ بالصحة والعافية القادمة من سلامةِ الجسدِ وحداثةِ العُمْر، وشَعْرٌ هزيل متساقط، يطير مع أي عارضٍ يأتيه كحكةٍ خفيفة للرأس أو حتى باللمس، مما يدل على الذبولِ والشيخوخةِ و الزعزعةِ في الصحة العامة.

مِنْ هذا التشبيه نقول: إن سلامة المنهاج -منهاج الحياة أو كما أسميناه الطبع- تكون على أساسِ سلامةِ الفكرة وخصلة الرأي التي تدعو إليها، وكمثالٍ آخر على كلامنا ولربط نقطتنا الأولى بالثانية، يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ﴿فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [الشورى: 15] وَيَتَّضِحُ هنا كيف جاءت استقامة نبينا على أساس إقامته لشريعة الله وأمره بالعدل وعدم اتباع الأهواء فيما يبعد عن سواء السبيل.

الشيوعية والسوفييت.. نظرة عابرة

لنا في الاتحاد السوفييتي عِبْرَة بالغة، بتحليل بسيط، ودون الخوض مفصّل في تاريخه فقد آمن الشيوعيون بفكرة، هي خصلة رأي شيوعية ماركسية، أُخِذَت من مؤلفات كارل ماركس وفريدريك إنجلز وغيرهم ممن رسموا طريق نظرياتهم وتَشَبّع فلاديمير لينين بها.

هذه العقيدة رسخها الشيوعيون في عقول الناس بأساليب متعددة ولأسباب كثيرة كان أول مظاهرها الإطاحة بالحكم الملكي في روسيا والحرب الأهلية الروسية (1917-1923) وتفاصيل الثورة البلشفية وإقامة كيان شيوعي اشتراكي محل النظام الإمبراطوري الأرستقراطي، فأصبحت الشيوعية لهذا الكيان عقيدة تسري في عقول هذه الشعوب، مسرى الدم في العروق والإيمان في القلب وهذا حمل المنظومة بأكملها لتمكث ما يقرب من السبعين سنة، إلا أن المصير النهائي لها كان الانهيار، والتفات الناس لفكرة أخرى ونموذج آخر، فما هذا الإيمان الهزيل الذي لم يحمل المؤمن به على الانتفاض لتخليده وترسيخه؟

هذا الإيمان نفسه هو المشكلة، بدءًا بمن آمن به، فهو قائم على بحر من التناقضات، فلم يوائم هذا النموذج الشيوعي مقتضيات حاضره، ولم يفهم موقعه من العالم وموقع العالم منه، وهذا تأكيدٌ على أن سلامة المنهاج تكون من سلامة الخصلة الفكرية المزروعة، فإن كانت حَسَنَةً كان المنهاج أو النموذج الحضاري والفكري حَسَنَاً، وإن كانت معطوبةً كان المنهاج كذلك.

الفكرة في المجتمع المسلم

حريٌ بنا أن نذكر في هذا السياق -لنفهم كيف بُنِيَ المجتمع الإسلامي على هذا الأساس- كلاماً دقيقاً للمفكر الجزائري مالك بن نبي -رحمه الله تعالى- حيث يقول: “والواقع أن القرآن قد وضع الضمير الإنساني بين حدين هما: الوعد والوعيد، ومعنى ذلك أنه قد وضعه في أنسب الظروف التي يتسنى له فيها أن يجيب على تَحَدٍّ روحي في أساسه. فالوعيد هو الحد الأدنى الذي لا يوجد دونه جهد مؤثر، والوعد هو الحد الأعلى الذي يصبح الجهد من ورائه مستحيلاً، وذلك حين تطغى قساوة التحدي على القوة الروحية التي منحها الإنسان. وبذلك نجد أن الضمير المسلم قد وُضِعَ بين حدي العمل المؤثر، وهما الحدان اللذان ينطبقان على مفهوم الآيتين الكريمتين: أ- (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف: 99]، ب- (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87]. وبين هذين الحدين تقف القوة الروحية متناسبة مع الجهد الفعال، الذي يبذله مجتمع يعمل طبقاً لأوامر رسالته، أعني طبقاً لغايته”[3].

ونُذَكّر بمسألة مهمة، حيث قد انتشر بين بَعْضٍ من شباب الإسلام اليوم للأسف فَهْمٌ مغلوط، مَفَادُه أنهم يرون دينهم قائمًا فقط على تنظير بحت بعيد عن التطبيق والواقع، ولذلك رأينا منهم -للأسف الشديد- من ابتعد عن الإسلام وَصَدّ عنه وفي هذا نُذَكّرُ أنفسنا ونقول لإخوتنا الدعاة ومن يَتَحَمَّلُ فقه الدعوة، بأن علينا الحظر من الدعوة لمثل هذه الصورة أو إظهارها في أيٍ من كلامنا وأفعالنا، مما قد يوصل الشباب لمثل هذا الفهم، ويوهمهم بهذه الصورة المعطوبة من وجوه كثيرة.

علينا أيضاً واجب النظر في الأساليب الدعوية المنهجية الصحيحة والتقديم السليم الحقيقي لصورة الإسلام، عند الدعوة لتجديد هذا الخطاب أو الإشارة للتحديات التي تواجهه على الصعيد التخصصي، أو على صعيد الشارع العام، ومعرفة ما يدخل فيه وما لا يدخل، وما يؤثر عليه وما لا يؤثر، من المستجدات الثقافية والاجتماعية والماجريات السياسية[4].

لنتذكر بأن رسالتنا ووجهتنا هي الإسلام، والإسلام حياة واتزان والالتزامُ منهجه، بالدينِ قولاً وفعلاً، وأن تقدم الأمة وعودتها إلى رشدها والتحامها من جديد، يكون بعودتها لشريعة الله الناطقة بالحق، وفي اقتراب الشباب من منهج ربهم، وابتعادهم عن آمالٍ دنيوية بحتة وشهوانية غير مستقرة، تطير من اليد أسرع مما يخرج الزفير من الصدر.


[1] رواه مسلمٌ في صحيحه (رقم 38)، كتاب الإيمان، بَاب جَامِعِ أَوْصَافِ الإِسْلَامِ.

[2] وبمناسبة ذِكْرِ هذا الحديث النبوي الشريف الذي يرويه الإمام مسلم في صحيحه (رقم 8)، وهو من أحاديث الأربعين النووية التي جمعها الإمام النووي -رحمه الله تعالى-، فإنه يَعْرِضُ في تسلسل دقيق مدهش مفاهيم الإيمان والإسلام والإحسان وبعدها السؤال عن الساعة وعن أماراتها، وكأن جبريل -عليه السلام- تَدَرّجَ في الأسئلة بقصد وَضْعِ هذه الصورة الكاملة في إطار واضح وخط سليم مستقيم، وهذا الحديث معروف ومشهور عند علماء السُّنة والسلف الصالح ولهم أقوال كثيرة في شرحه وبيان فضله ليس هذا المجال لعرضها كلها، ولكن نكتفي بكلامٍ رائعٍ للإمام ابن دقيق العيد -رحمه الله تعالى- في شرحه للأربعين النووية، يقول: “فهو كالأمِّ للسنَّة، كما سُمِّيت الفاتحة أم القرآن؛ لِمَا تضمَّنته من جمعها معاني القرآن”، ويكفي بهذا دليلاً على مكانة الحديث في السنة.

[3] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ترجمة: عبد الصبور شاهين، طُبْعَة دار الفكر، (ص: 24+25).

[4] يُنْصَح بمراجعة كتابٍ قَيّمٍ هو (الماجريات، د.إبراهيم السكران)، لمن أراد التعمق في فهم مصطلح (الماجريات) و(الماجريات السياسية) وتأثيرها بشكل خاص.

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد