من التحذير إلى التبشير

image_print

تضافرت الدلائل التي ساقها العلماء من القرآن والسنة للاستدلال على عدم تخليد المؤمن في النار، مع إمكان تعرضه لها وعذابه فيها بذنبٍ لم يتب منه ولم يعفُ الله عنه، وتصدر قوله تعالى {إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ وَیَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَ ⁠لِكَ لِمَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰۤ إِثۡمًا عَظِیمًا} [النساء: ٤٨] موكب الدلائل في القرآن الكريم ومعه آيات الشفاعة وغيرهما، وطال تفصيل العلماء فيها لا سيما عند التوسُّع للرد على أقوال الفرق والمذاهب التي تصر على ليّ أعناق النصوص وحملها على تصورات وأحكام مسبقة لديها، وكذا استدلوا بأقوالٍ عدة في السنة النبوية تدندن جميعًا حول المعنى الذي تجلى في هذا الحديث الشريف، فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: (أَتَيْتُ النبيَّ ﷺ وعليه ثَوْبٌ أبْيَضُ، وهو نَائِمٌ، ثُمَّ أتَيْتُهُ وقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقالَ: ما مِن عَبْدٍ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ علَى ذلكَ إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟ قالَ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟ قالَ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟ قالَ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ علَى رَغْمِ أنْفِ أبِي ذَرٍّ وكانَ أبو ذَرٍّ إذَا حَدَّثَ بهذا قالَ: وإنْ رَغِمَ أنْفُ أبِي ذَرٍّ) [أخرجه البخاري ومسلم].

توقفت أمام هاتين الآيتين {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَأۡكُلُوا۟ ٱلرِّبَوٰۤا۟ أَضۡعَـٰفࣰا مُّضَـٰعَفَةࣰۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ*وَٱتَّقُوا۟ ٱلنَّارَ ٱلَّتِیۤ أُعِدَّتۡ لِلۡكَـٰفِرِینَ} [آل عمران: 130- 131] لأجد فيهما دلالة واضحة في هذه المسألة، فقد قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: واتقوا أيها المؤمنون النارَ أن تصلوْها بأكلكم الربا بعد نهيي إياكم عنه، التي أعددتها لمن كفر بي، فتدخلوا مَدْخَلَهم بعد إيمانكم بي، بخلافكم أمري، وترككم طاعتي. كما روي عن ابن إسحاق: “واتقوا النار التي أعدت للكافرين”، التي جعلت دارًا لمن كفر بي. [تفسير الطبري].

وهي دلالة على عدم تخليد المؤمنين في النار، حيث تم نعت النار بلفظ (التي) ليخصصها بفئة الكافرين، حيث جاء لفظ (أُعدت) مُقيدًا بالتخصيص الذي سبقه، موجَّهًا للكافرين، وجاء لفظ الكافرين عامًا مستغرِقًا كل من وقع في الكفر، مما يعني أن الخلود فيها لن يكون إلا لمن أُعدت له وخُصَّت به، وكذا تدل على إمكان ولوج العصاة من المؤمنين النار بذنبهم ولكن دون تخليد.

وسنجد في أصول التفسير ما نفهم منه مقصود لفظ الكفار في المصطلح القرآني، حيث قال الطاهر بن عاشور “وأُريد بالكفار في قوله: الكفار أي (المشركون)، وهذا اصطلاح القرآن في إطلاق لفظ الكفار” [تفسير التحرير والتنوير].

ويقول كذلك في تفسير قَوْلُهُ: {واتَّقُوا النّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} تحذيرٌ وتنفيرٌ من النّارِ وما يُوقِعُ فيها، بأنَّها معدودةٌ للكافرينَ. وإعدادها للكافرين عدل مِنَ اللَّهِ تَعالى وحكمته لأنّ ترتيب الأشْياءِ على أمثالها من أكبر مظاهر الحكمة، ومن أشركُوا باللَّه مخلوقاتِهِ، فقد استحقُّوا الحرمان من رحماته، والمسلمون لا يرضون بمشاركة الكافرين لأنَّ الإسلام الحقّ يُوجِبُ كراهية ما ينشأ عن الكفر. وذاك تعريضٌ واضحٌ في الوعيد على أخذ الرّبا”. [التحرير والتنوير]

ويجدر الذكر هنا أنّ استحلال المعصية ناقضٌ للملة، بخلاف من عصى دون استباحة الذنب، وإنما وقع فيه غفلةً أو شهوةً أو ضعفًا أو ظلمًا، “فقد قال كثير من المفسرين أنه يكفر من استحل الربا، وقيل معناه اتقوا الربا الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار، وإنما خص الربا في هذه الآية لأنه الذي توعد إليه بالحرب منه لفاعله. قال ابن عباس هذا تهديد للمؤمنين أن يستحلوا ما حرم الله عليهم من الربا وغيره مما أوجب الله فيه النار، قال بعضهم إن هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه ويجتنبوا محارمه. وقال الواحدي في هذه الآية تقوية لرجاء المؤمنين رحمة من الله لأنه قال: “أعدت للكافرين” فجعلها معدّة لهم دون المؤمنين”. [فتح البيان للقنوجي].

نسائم الرحمة الإلهية

ثم بعد هذا التخويف من العذاب والتحذير منه، تتجلى نسائم الرحمة الإلهية، فسبحانه وتعالى رحمنٌ رحيم كتب على نفسه الرحمة، فبسط رحمته لعباده بإدلالهم على الطريقة التي يُحصّلوا بها تلك الرحمة، فمنّ عليهم بآية الملاذ التي فيها عين النجاة وسبيل الرحمة، وهو أمرهم بطاعة الله ورسوله حيث قال تعالى {وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ} [آل عمران: ١٣٢] والأمر بالطاعة في هذا الموطن مدعاة للإذعان والاستجابة التامة، إذ إنّ رب العالمين نادى عباده واصفًا إياهم بالإيمان مثبِته لهم، ناهيًا إياهم عن كبيرة، آمرًا إياهم بالتقوى ليبلغوا الفلاح، محذرًا إياهم من العذاب الذي يمكن أن يمسهم إذا وقعوا في هذا الإثم، فأمام هذا الخطاب المفعم بالجلال الإلهي، لا تملك النفس المؤمنة -بشهادة الله لها- إلا أن تخضع عندما تسمع أمره لها بالطاعة مُشتمَلًا بالرحمة التي تتشوف لها النفس بعد هذا الخطاب الحاسم، ومع أنّ هذه الآية الكريمة بمثابة الملاذ للمؤمنين، إلا أنّ الله تعالى ألحقها بآية أخرى فيها مقام أشرف وأعلى، وهو المسارعة إلى المغفرة والجنة { وَسَارِعُوۤا۟ إِلَىٰ مَغۡفِرَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَـٰوا⁠تُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِینَ} [آل عمران: ١٣٣] ويكأن الله تعالى أراد أن يوصل رسالة للمؤمنين فحواها هو ألا ترضوا بالحد الأدنى المُنجي في تلك المقامات، ولا تقصروا أعينكم على ما يزحزحكم من النار ويدخلكم الجنة، وبالرغم من أن هذا هو الفوز كما قال تعالى{ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ} [آل عمران: ١٨٥] إلا أنّ مقامات العلو والإيمان يجب أن تظل نفس المؤمن فيها طامحة لما هو أعلى، وقلوبهم متشوفة لما هو أرقى، فقد قال الله عز وجل{ وَفِی ذَ⁠لِكَ فَلۡیَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَـٰفِسُونَ} [المطففين: ٢٦].

ومن جهة أخرى فإن هذا المقام الرفيع -المسارعة- يوحي بالسعي الدؤوب إلى رضا الله ومغفرته ورضوانه، مما يستلزم التخفف من أحمال الدنيا المثقِلة التي تعيق المسير، وهذا المقام لا يمكن بلوغه والحدوّ فيه إلا إذا ترسخ المرء في مقام الطاعة وحسن الاتباع تمام الرسوخ، إذ إنّ المحبة التي هي وقود المسارعة لا يمكن أن تتأتى إلا بالمتابعة، فشرط المحبة المتابعة، وإلا كذب من يدعي المحبة دون اتباع، قال الله سبحانه وتعالى {قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِی یُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ} [آل عمران: ٣١]، وجعل مآل المسارعة محفوظ للمتقين، فقد قال جل ذكره {وَسَارِعُوۤا۟ إِلَىٰ مَغۡفِرَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَـٰوَ⁠تُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِینَ} [آل عمران ١٣٣] الذين جاهدوا أنفسهم وربوها بالاستعانة بالله والمجاهدة على التقوى؛ فحققوا المقام الأول وهو تمام الطاعة والإذعان، فترعرعت في قلوبهم المحبة التي أوقدت المسارعة حتى بلغوا بها أعلى المقامات.

ثم تأتي أبرز صفاتهم والتي اتفقت في ظاهرها على أنها أعمال ظاهرة متعلقة بالجوارح، إلا أنّ هذه الأعمال جذورها ضاربة ممتدة في أعماق القلب، وسُقياها التقوى، فقد قال الله سبحانه وتعالى {ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ فِی ٱلسَّرَّاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَٱلۡكَـٰظِمِینَ ٱلۡغَیۡظَ وَٱلۡعَافِینَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ*وَٱلَّذِینَ إِذَا فَعَلُوا۟ فَـٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُوا۟ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُوا۟ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن یَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ یُصِرُّوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلُوا۟ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ} [آل عمران ١٣٥: ١٣٤] فالمنفق في السراء والضراء هو مجاهدٌ لنفسه مانع لها من البخل والحرص، واق لها من شُحِّها، فاحتاج إلى إنماء التقوى لتلك المجاهدة حتى يتمكن من مغالبة هواه وشيطانه ونفسه، ثم جاء كظم الغيظ الذي مآله العفو عن الناس وهذا هو تمام الإحسان، وفيه يتجلى موطن القوة النفسية الحقيقية، فقد جاء من حديث أبي هريرة  أن رسول الله ﷺ قال: (ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).[متفق عليه]، إذ إنّ هيجاء النفس إذا اشتعلت؛ أحرقت بوادر العقل والحكمة والتمهل، وحتى يتمكن المرء من مغالبة تلك النزعة، يحتاج إلى طول دُربة على الحلم وكظم الغيظ، والكثير من التقوى التي تعينه على المجاهدة والمثابرة والتغلب على نفسه التي تريد الانتصار لذاتها، وعلى الشيطان الذي يحب الوقيعة بين الناس، ثم تأتي الثمرة التي تمثل جوهر التقوى، وهي أنّ المرء يصبح محلِّق في مقامات العبودية، وقلبه بلغ مقام المشاهدة، فحتى إذا غالبته نفسه وضعف ضعفًا بشريًا لا ينفك عن الآدمي ووقع في غفلة، تظل تلك الغفلة في سياج الجسد والفكر، أما القلب فقائمٌ بشهادته لا يفتر ولا يغفل، فيذكره بالله تعالى ويزجره إلى الاستغفار واليقظة واللجوء إلى الملجأ الوحيد الذي لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وينيبوا إليه تعالى إنابة تامة تليق بتلك القلوب الوجِلة الشاهدة الحيّة التي تعي قدر الله عز وجل وتقدره حق قدره.

تتويجٌ رباني

بعد هذه الرحلة الطويلة من المجاهدة والمغالبة والترقي بين المقامات، والكفاح لبلوغ أعلى الدرجات، وقلبٌ حيٌ دفّاق لا يفتر ولا يغفل، ويُذّكر ويقوم بعمله على أتم وجه كملكٍ يزجر رعيته ويردهم إلى الجادة، فيبقى القلب والجوارح جميعًا في إنابة دائمة ومسارعة دائبة، وبعدها يأتي الجزاء الجميل الذي وُعدوا به في أول طريق الجهاد، فقد قال الله جل ذكره {أُو۟لَـٰۤىِٕكَ جَزَاۤؤُهُم مَّغۡفِرَةࣱ مِّن رَّبِّهِمۡ وَجَنَّـٰتࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ} [آل عمران: ١٣٦]، ويعاينوا إجابة دعوتهم حين قالوا في دنياهم {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِیعَادَ*فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّی لَاۤ أُضِیعُ عَمَلَ عَـٰمِلࣲ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضࣲۖ فَٱلَّذِینَ هَاجَرُوا۟ وَأُخۡرِجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِمۡ وَأُوذُوا۟ فِی سَبِیلِی وَقَـٰتَلُوا۟ وَقُتِلُوا۟ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَیِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ ثَوَابࣰا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} [آل عمران: ١٩٤- 195]، ثم يأتي التتويج الرباني لهذا المشهد المهيب بكلمات قلائل تلخص لُبّ ما قاموا به هؤلاء الصادقون، حيث قال تعالى{وَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَـٰمِلِینَ}، يا الله! هذا العمل الدؤوب والمجاهدة والسعي جزاهم الله عليه ليس فقط بما وعدهم به من أجر، بل كذلك بشهادته تعالى لهم بأنهم كانوا حقًا عاملين، وأي شهادة أعظم من هذه!

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد