مقالات

هل من مساواة في الإسلام

سيفاجئك أن يقال إن الإسلام لا مساواة فيه، لكن قبل أن تتهمَ الإسلام بالظلم، ومبادئه بالانحياز لجهة دون أخرى، قف معي لنفهم حقيقة المساواة، أهي مبدأ إنسانيّ عام، أم أنها دعاية أيديولوجيّة لُبّست لبوس الإنسانيّة.

أظنّ أن أغلب قارئي هذا المقال قرأوا القرآن الكريم، ولعلّهم إن بحثوا فيه فإنهم لن يجدوا –وإن في آية واحدة- شيئًا يتحدّث عن المساواة المطلقة بين الخلق، لا بين الذكر والأنثى، ولا بين الصحيح والمريض، ولا بين المسلم والكافر، ولا بين الحيوانات حتى، فلماذا؟

إنّ المنطق يخبرنا بأن المساواة لا تعني العَدْل على الدوام، ومدار أمر الشريعة والدين عند الله هو العدل، وما ينادي به القرآن ويأمرنا به الله مراراً وتكراراً هو العَدْل، الذي يضمن حقوق الإنسان عمليًّا وإن لم يعلن عن المساواة المطلقة بين الناس شكليًّا.

النسوية ودعوى المساواة
منذ أن أطلّت علينا الجماعات النسويّة العربيّة، بدأت تنادي بـ”المساواة بين الرجل والمرأة” بكلّ قواها، آبهة بكلّ شيء إلّا الفَهم الحقيقيّ المجرّد من المشاعر والعاطفيّة، رغم أن هذا الشعار –حقيقةً- لا يحقّق مساواةً بالمعنى الجوهريّ للكلمة، ولا يهدف لخلق تناغمٍ بين الجنسين المختلِفَيْن في مجتمع متعدّد المقامات والاختلافات، كما أنّ المشكلة في شعار “المساواة” أنّها لا تحدّد المقصود بها بشكلٍ كلّي، بل تقتصر على حصره في إعطاء الأنثى ما يُعطى الرّجل.

 حسنٌ، قد تبدو هذه المعادلة جميلة المظهر، عندما يكون الحديث عن المساواة بشكلٍ عامّ بين شرائح المجتمع المختلفة، لا عن الرجل والمرأة فقط، إلا أن هذه المعادلة سرعان ما تبدأ بالانهيار، وذلك لوجود ثغراتٍ أساسية في أصلها.

إن أردنا تطبيق المساواة على رَجُلٍ صحيح ورَجُلٍ مُقعَد، بحيث نُعطي كلّ واحدٍ منهم درّاجة هوائيّة تقليديّة (وهذه مساواة في مظهرها)، فإن المؤكد أنه لن يستفيد من ذلك إلّا الرجل الصحيح، نظرًا لقدرته على استخدامها، بينما لن يستطيع المقعَد استخدامها، بل قد تصبحُ عبئًا عليه، وهنا تُصبِحُ المساواة ظالمة بكل تأكيد.

وإذا أردنا تطبيق هذا الشعار في موضوع الرجل والمرأة، فيمكننا أخذ رجلٍ وامرأة، وتوكيل كلّ واحدٍ منهما بمهمّة واحدة كإرضاع طفلٍ حديث الولادة مثلاً، فهذه مساواةٌ في مظهرها، لكنّها ظالمة للرجل.

إننا نرى أنّ كلمة “مساواة” أخذت معنى وشكلاً آخر عمّا تعنيه الكلمة حقّاً، خصوصاً في الآونة الأخيرة. في اللغة الإنجليزية، يتمّ استعمال مصطلحات متشابهة ومتشابكة في نفس الوقت عندما يدور الحديث عن المساواة بين الجنسين، وعادةً ما يكون القصد من ورائها “المساواة” لا غير كجزء من منظومة العَدْل. أما مصطلحات مشابهة كالإنصاف والتسوية والتعديل فتقع تحت جناحَي منظومة العدل الشاملة أيضاً.

أما المساواة فهي تنصّ على التسوية بين أفراد المجتمع وشرائحه بصرْفِ النّظر عن الاختلافات القائمة بينهم – فلا دين ولا عرق ولا جنس ولا مقام اجتماعيّ ولا أيّ شيء آخر يكون سبباً في التفريق بينهم. وتسمّى بـ”المساواة المطلقة”. وتكون هذه المساواة مساواة “مناسبة” عندما تتشابه إحدى صفات ومميزات الشخصَين تشابهاً كاملاً في المجال المقارَن به. -لاحِظ أنّ التشابه لا يعني التطابُق- يقول الفيلسوف ستيفان جوسباث: “عندما يكون هناك مقام متساوٍ في مجالٍ واحدٍ على الأقل ذا صلة معياريّة، تجب معاملتهما بتساوٍ بما يخصّ ذلك المجال” [المصدر مرفق أسفل المقال]

أنواع المساواة
علينا التفريق بين أنواع المساواة، إذ إن عموم الجمعيات المدنيّة والناشطين يأخذونها على أنّها كلمة ذات معنى واحد، إلا أن منظريها يفرقون بين ثلاثة أنواعٍ أو مبادئ للمساواة على الأقل، وهي:

  1. المساواة الرسميّة: وهي التي وضعها أرسطو في إشارةٍ إلى أفلاطون: “عامِل المِثْلَ بالمِثْل” – Treat like as like وقد تكون المساواة المقبولةً عامّةً.
  2. المساواة النسبيّة: وقد أشار أرسطو إلى نوعين منها هما المساواة العددية والنسبية، أمّا الأولى فهي نوع معاملةٍ للغير على أنّ كلّ الناس سواسية، وبذلك تجب معاملتهم بشكلٍم متطابقٍ – أو منحهم نفس النسبة من الناتج المحلي الإجمالي – Good per capita. وهذا ليس عادلاً دوماً، أما المساواة النسبية، فهي معاملة الغير بحسب استحقاقهم. أيّ أنّ للإنسان – ذكراً كان أم أنثى – الحق بمعاملة يتم تحديدها بحسب عوامِل تخصّ المجال الذي يُبحَثُ فيه.

لتيسير ذلك، نضربُ المثال الآتي: يشترط العمل في مصنعٍ لإنتاج الكعك على العامِل – بغضّ النظر عن جنسه أو عرقه – إنتاج 50 كعكةً يومياً مثلاً، فإذا ما أنتجت امرأة أقلّ من ذلك، فلا يكون ضدّ المساواة أن يسرّحها المصنع. إذا ما أنتج رجلٌ أقلّ من ذلك، فلا يكون ضدّ المساواة أن يسرّحه المصنع. هُنا يتم أخذ عامِل الكفاءة بالحسبان (Efficiency Factor)

  1. المساواة الأخلاقيّة: بموجب هذا المبدأ من المساواة، يستحق الجميع – ذكراً وأنثى – الكرامة والاحترام ذاته.

لا بد من الإشارة إلى أن هذه الفكرة تطورت من مدرسة الرواقيين Stoics الذين أكّدوا على المساواة الطبيعيّة بين كل المخلوقات العقلانيّة، ثمّ في العهد الجديد في المسيحية، الذي نادى بالمساواة بين البشر جميعاً أمام الله. ونرى أشكالاً مشابهة من هذه المساواة في اليهوديّة والإسلام كذلك.

يُعتبر هذا المبدأ -الكرامة والاحترام المتساويان- شائعًا كمعيارٍ أدنى في تيّار الثقافة الغربيّة السائد. لكن يجب توضيح بعض المغالطات فيما يتعلق بالمساواة الأخلاقيّة، فأنْ نقول بتساوي الرّجل مع قرينه لا يعني أنّهما متطباقين وبغضّ النّظر عن ذلك فإنه لا يمكن استنباط مبدأ المساواة العادلة من فكرة المساواة الأخلاقيّة.

إنّ المساواة المطلوبة في المجال الاقتصادي معقّدة إذا ما أردنا أخذ العديد من المواقف التي قد تبرر العُدول عن المساواة الشكليّة، إذ المشكلة هُنا هي كيفيّة التفرقة بين ما يستحقّ العُدول عن المساواة بسببه – أي الاستثناءات المبرّرة للمساواة الشكليّة في توزيع الناتج الإجماليّ. هذه الاستثناءات مثلاً، تُعدّ مبرّرة لعدم إنشاء مساواة أو معاملة متساوية بين الأطراف، مثل:

  • الحاجة: كالفرق بين مواطن الضعف الطبيعية المختلفة مثل الإعاقة.
  • الاختلاف في الأداء في خدمات خاصّة مثل الجَيش.
  • الاختلاف في كفاءة الأداء.

إن نظرتنا للمساواة لن تكون عادلةً إذًا ما لم نأخذ هذه العوامِل بالحسبان، وحينها يمكن أن تنتج مساواة مطلقة شكليّة لا يقبل بها الإنسان العقلانيّ، المُسلم وغير المسلم على السواء.

المساواة ودعاوى النسوية
إن المرأة لا تساوي الرجل، والرجل لا يساوي المرأة، لا في الحقوق ولا في الواجبات، فقد ضمن الإسلام لكليهما حقوقاً وفرض عليهم واجبات مناسبة لكلٍ منهما، فلا تضادّ في التفاعل بين البُنية الفيزيولوجية أو البدنية وبين البنية النفسيّة عند أيٍّ منهما.

بصرف النّظر عمّا تقدّم من تقسيماتٍ للمساواة إلا أنّ الجمعيات النسويّة أقدمت على تشويه مصطلح المساواة ليكون مطابقاً لعملية المساواة الحسابيّة، وثمة أمثلة متعددة على عدم فَهمِهِم للإسلام – ليس كدينٍ تعبّديّ فقط، بل كنهج حياة ودليل تشريعيّ – كقضيّة الميراث، فإذا ما طبّقنا فهمهم للمساواة في الميراث، فإنه لن يتحقّق عدلٌ في التوزيع كما في الإسلام.

وكذلك الحال حين يدعي النسويون والنسويات، في أنّ الإسلام فَرَض الحجاب على المرأة ظُلماً وجوراً، وأنه لم يفرض على الرّجل فرضاً مشابهاً، وتأويل النسوية ذلك بأن الإسلام يقدّم المرأة في تعاليمه على أنّها قطعة من اللّحم التي يجب تغطيتها وحمايتها من الذكر – الحيوان الشرس ذي الرغبات الجنسية الجائحة.

إن المفارقة هُنا أنّ الحلّ الأنسب الذي وجدوه لهذه المشكلة يوقِعهم في مشكلة أكبر. فالحلّ عندهُم إعطاء المرأة حريّة التعرّي الكامِل، ودعوة المرأة المتحجّبة لخلع حجابها، الذي هو سِمة وعلامة تمثّل عنجهيّة وتعسّف الذكوريّة في الإسلام بحسب افتراءاتهم، حيث إنّ المرأة مجبرة على لبس الحجاب من قبل زوجها أو أفراد عائلتها أو المجتمع. ولأنّ النسويّة تنادي بحريّة المرأة والمساواة بينها وبين الرّجل، فإنّ الحجاب يمنع ذلك، بل ويشكّل خطراً على مجتمع النساء.

تقول الباحثة البريطانية إريكا هوارد: إنّ أبرز الصور النمطية التي تخص المرأة المسلمة هي أنّها ضحيّة دينٍ ذكوريّ كابِت للمرأة، وهي بحاجةٍ للحماية من الأقارب الذكور العنيفين، فهي غير قادرة على مساعدة نفسها في وجه ثقافة ذكوريّة تجبرها على تغطية نفسها. أمّا الصورة النمطية الثانية فهي بارزة في الغرب تحديداً، وهي أنّ المرأة المسلمة “عنيفة” و”هجوميّة” – فتُرى على أنّها مسلمة متعصّبة، تَفرِضُ القِيَم على من لا حول لهم ولا قوّة، ومن لا يريدون رؤية تلك القِيَم في محيطهم. تتابع هوارد فتقول: إنّ هاتَين الصورتَين تناقضان بعضهما. إنّ المرأة المُسلمة بحاجة للإنقاذ من الإسلام، لكن في نفس الوقت، هي مسلمة متعصّبة ويجب إنقاذ الجميع منها.

ما يحدُث في مجتمعنا ليس ببعيدٍ عن ذلك. فالأشخاص الذين يباهون بحريّة النساء اللواتي “تحرّرن” من ظلم الإسلام يدّعون استقلال عقل المرأة وأنّها ملكة أفكارها وقراراتها. لكن حين تقوم امرأة مسلمة ضدّ أفكارهم المسمومة، فإنهم يبادرون لمهاجمة عقلها ووصفه بأنه مملوك أثّرت فيه عقلية الذكوريّة النتنة، أو أنها مجبرة على رأيها من قبل زوجها أو أهلها، ولن يسمعهم أحد يمدحون استقلال فكرها الذي -بحسب حريّة التعبير- ينتقدهم.

وهكذا إذن، فإنه عندما يكون عقلُ المرأة تابعاً للأجندات الغربيّة تكون قد تحرّرت من اتّباع الأجندة الذكورية وبلغت أرقى مستويات الحرية، أمّا عندما تقوم باتّباع دينها وإطاعة ربّها، فإنّ عقلها معطّل أو مغسول، وليس لرأيها المُخالِف لآرائهم أيّ اعتبار.


مصادِر:

Gosepath, Stefan, “Equality”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2011 Edition), Edward N. Zalta (ed.) –  https://stanford.io/33yVTCB

Howard E. Banning Islamic veils: Is gender equality a valid argument? International Journal of Discrimination and the Law. 2012;12(3):147-165. doi:10.1177/1358229112464450https://bit.ly/36oQf7P

لباس المرأة الغربية.. بين انتزاع الحياء وغياب الحشمة

بعد شتاءٍ قارسٍ في شمالي ولاية نيويورك، خرجنا في أول يومٍ ربيعي إلى حديقة مجاورة لنتأمل خضرة الأرض وازدهار الأشجار. كان نهاراً مشمساً بديعاً، يملأ النفس إيماناً بوحدانية الخالق الذي حبى الوجود جمالاً وإتقاناً عظيمين. في تلك اللحظات لم يعدنا لواقع الدنيا الفانية سوى شيءٍ واحد، وهو صدمتنا بلباس مرتادي الحديقة الكاشف من حولنا. فبعد أن قضى الناس شهوراً طويلة في ملابس الشتاء خرجوا في ذاك اليوم بشيءٍ قليل من الأقمشة يستر جسدهم ليستغلوا الجو اللطيف ويستمتعوا بحرارة الشمس!

من الربيع في شمال نيويورك – 2015، بعدسة الكاتبة

كان ملفتاً لنا كعائلة حديثة العهد بالغربة رؤية الأريحية التي يتعامل بها الأمريكيون مع قلة سترهم لأجسادهم، خصوصاً مع مفاهيم الحياء والأدب التي تربينا عليها. تعجبت من لباس الفتيات تحديداً، إذ لا يكاد ما يلبسنه يستر ربع أجسادهن! فكيف وصلت البلاد الغربية إلى هذا النمط من تعرية النساء ونزع حيائهن؟ وإلى أين تمضي هذه الثقافة بالشعوب الغافلة؟

نظرة تاريخية
يحدثنا القرآن الكريم عن بداية الإنسان المستخلف في الأرض كشخص حيي يحب الستر، فها هما أبوينا آدم عليه السلام وحواء لما أكلا من الشجرة وانكشفت عوراتهما جعلا يرقعان من ورق التين ما يواري جسدهما حياءً رحمهما الله [1] {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه:121]. وحيث تشير الوثائق التاريخية إلى تنوع في لباس في المجتمعات الرومانية واليونانية، فإن لباس النساء الغالب فيها كان الثوب الطويل (الشملة/Stola) الذي يصل إلى القَدم، طويل الكمّ إلى الساعد أو الرسغ [2]، وهكذا استمر لباس المرأة الغربية على نفس النمط حتى نهاية العصور الوسطى، حيث يؤرخ الخبراء هناك نشأة “الموضة” في العالم (المفهوم الذي يعرف بقبول عدد كبير من الناس لنمط لباس معين لفترة وجيزة) [3].

وللثورتين الفرنسية والصناعية دور كبيرٌ في تحول لباس المرأة الغربية نحو ما هو عليه اليوم، تحديداً مع خروج المرأة من البيت وانطلاقة المصانع بأعدادٍ كبيرة [3]. بعد ذلك كانت انطلاقة الحركات النسوية مع أثرها المفصلي في تبديل وجهات نظر النساء حول لباسهن، حيث ربطت الحرية من النظام الأبوي بقلة الستر والتفلّت من مفاهيم المجتمع حول الحياء والعفة. فهذه الحركات وإن بدأت محقةً داعيةً لرفع الظلم عن النساء، إلا أنها أنتجت ردود فعل صارخة تجاه كل قيد وحد على سلوك المرأة التي أشعروها أن الظلم التاريخي يبرر لها كل فعل. وبذلك بات لباس المرأة أعقد من مجرد قماش يغطيها، إنه تعبيرٌ عن حقوقها وتحررها واعتزازها بنفسها أيضاً. ومن الجدير بالذكر أن عولمة الثقافة الغربية وانطلاقها لريادة الشعوب الأخرى يجعل خطر كل هذا منطبقاً على الشعوب المسلمة، ولعل حملة “إنه جسدي، إنها حقوقي” التي أطلقتها منظمة العفو الدولية والتي تدعو لتمكين الشباب والشابات من اتخاذ قرارتهم الخاصة بأجسادهم من أوضح الأمثلة على فرض النظرة العولمية للجسد على الثقافات الأخرى [4].

النسوية وازدواج المعايير
تراودني تساؤلاتٌ عدة وأنا أستعرض التاريخ العام لتطور لباس النساء الغربيات. كيف رضيت النسوية المنادية بتحرير المرأة ومساوتها بالرجل بجعل جسدها مستباحاً لكل ناظر بهذه الطريقة التي نراها اليوم؟ وكيف استخفها الرجال الشهوانيون مصممو الأزياء ومخترعو الموضات فاقتنعت بأن التعري يرمز للقوة ويدل على الحرية؟ بل كيف رضيت المناديات بحقوق المرأة لأنفسهن أن يكون لباس النساء أكثر كشفاً بكثير من لباس الرجال المخصص لنفس الغرض؟ فبنطال الرياضة القصير المخصص للإناث أقصر بكثير من ذاك المخصص للذكور، كذلك لا يخفى على أحد كون زي المرأة الغربية الرسمي متضمناً تنورةً قصيرةً ضيقةً تكشف ساقيها، بينما الزي الرسمي للرجال يتضمن بنطالاً طويلاً فضفاضاً. فهل غاب عن النسويات ذلك؟ أم أنهنَّ اقتنعن فعلاً أن الكشف رمز للقوة؟

سيكون رد النسويات غالباً أن الأمر عائد للاختيار الشخصي، فهذه الديمقراطية وعلى أساسها قامت الحكومات الغربية، كما كتبت النسوية تيري موراي في إصدار لجمعية Rationalist Association أن المرأة عندما تلبس الثياب الكاشفة إنما تفعل ذلك للتعبير السليم عن نفسها بكل عفوية جاعلةً ذاتها “كياناً جنسياً مستقلاً” [5].

وللرد على هذا أحب أن ألفت انتباه النسويات إلى غياب الحرية عن الطرف المقابل تماماً، فإن كان الأمر مجرد دفاع عن حرية المرأة كما تزعمن، فأين نضالكن من أجل حرية المنتقبة في اختيار لباسها؟ أليست امرأة كذلك ولها الحق في اختيار ما تغطي وما تكشف من جسدها؟ بل لماذا تهاجمنها وتدعين فهم دوافعها وأسبابها؟ لقد افترض الناطقون باسمكن أن النقاب رمز للقمع والقهر وتحدثوا بكل ثقة عن كون المنتقبة مجبرةً ومكبوتةً من قبل الذكور في حياتها والذين لا ينظرون لها إلا كمادة جنسية تحتاج التغطية [5،6].

كيف علمتن أن هذه دوافع المنتقبات فعلاً؟ وأين دفاعكن عن حق المرأة بالتعبير عن نفسها كما تشاء؟ وإن كان الأمر كمان تزعمن حماية للمرأة ممن يعاملها كمادة جنسية ألم يكن الأحرى بكم أن تطالبوا بمنع صناعة وبيع أحذية الكعب العالي ومستحضرات التجميل التي تفعل ذلك بالضبط؟ أمرٌ يستدعي التفكير فعلاً!

الإنسانوية وغياب الفطرة
  إن ما أراه عجيباً فعلاً في هذا الميدان هو ما وصلت إليه الشعوب الغربية من غياب شبه تام لقيمة الحشمة كخلقٍ أساسيٍّ ينشأ عليه الأطفال منذ نعومة أظفارهم، إذ أن إقصاء الدين عن الحياة جعل الإنسان مركزياً تماماً، فهو مصدر الأمر والنهي وما يرضيه يكون صحيحاً بكل تأكيد، ولو أودى ذلك  بقيم وفضائل عرفتها البشرية عبر تاريخها الطويل. يقول د. سلطان العميري أن العقل الغربي توجه مع حركة التنوير إلى تقديس العقل الإنساني والإعلاء من قدراته وجعله الميزان الذي يحكم من خلاله على كل شيء، واعتقد الغرب أن القدرة العقلية الإنسانية يمكنها أن تصل إلى الرشاد في كل الميادين الحياتية من غير توجيهٍ من أي مصدر آخر خارج الإنسانية ذاتها [7]. ولما كانت مصلحة الإنسان المادي في تحصيل أكبر قدرٍ ممكن من المتعة والراحة في الحياة الدنيا، تبدلت ثقافة اللباس لتتماشى مع هذه المصلحة. فالخُلق الذي كان من بقايا الدين لم يعد له مكانٌ في حياة هذه الأقوام البتة.

ولنقارن هذا بحياء أمنا عائشة رضي الله عنها ونقاء فطرتها وسلامتها، فقد روي أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرْلاً”، قلت: يا رسول الله، الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: “يا عائشة الأمر أشد من أن يُهمهم ذلك”. [متفق عليه]. وسبحان ربنا تبارك وتعالى المتفضل علينا بالتكريم والستر، القائل في كتابه الكريم: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:26]. فمن فضل الله العظيم علينا تمكيننا من اللباس الساتر للعورات الذي ما فتئ الشيطان يغوي أتباعه بنبذه منذ الجاهلية حتى تمكن من المشركين وجعلهم يتعرون للطواف [8]. وها هو الشيطان اليوم يعيد الكرة ويستخف أتباعه في جاهلية ناطحات السحاب والأجهزة الذكية فيسلبهم أبسط نعم الله تبارك وتعالى عليهم، ويا أسفى على من يستورد تلك الثقافات بكل ما فيها.

وتبارك جلَّ وعلا حين قال في محكم تنزيله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكا} [طه:124]، فها هم الذين نبذوا الوحي يستمرون في الإعراض عن أبسط نعم باريهم عليهم، معظمين شهواتهم نحو تشوه فطري مغلف بالتقدم والتحرر!

ولا حول ولا قوة إلا بالله..


المصادر:

[1] الحافظ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم.

[2] The Ancient Roman Costume and Fashion History, Costume Fashion History

 https://world4.eu/roman-costume-history/

[3]   Phyllis Tortora, Europe and America: History of Dress (400-1900 C.E.)  

 https://fashion-history.lovetoknow.com/fashion-history-eras/europe-america-history-dress-400-1900-c-e

[4] ملاك بنت ابراهيم الجهني، الحريم العلماني..الليبرالي!. قراءات ومقالات فكرية، مركز باحثات لدراسات المرأة، 1436هـ.

[5] Terri Murray, Why feminists should oppose the burqa, New Humanist, Rationalist Assiciation, June 2013

https://newhumanist.org.uk/articles/4199/why-feminists-should-oppose-the-burqa

[6] Mona Eltahawy, Ban The Burqa, The New York Times, July 2009

https://www.nytimes.com/2009/07/03/opinion/03iht-edeltahawy.html

[7] د.سلطان بن عبد الرحمن العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، مركز تكوين.

[8] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري المسمى جامع البيان في تأويل القرآن.