هل من مساواة في الإسلام

image_print

سيفاجئك أن يقال إن الإسلام لا مساواة فيه، لكن قبل أن تتهمَ الإسلام بالظلم، ومبادئه بالانحياز لجهة دون أخرى، قف معي لنفهم حقيقة المساواة، أهي مبدأ إنسانيّ عام، أم أنها دعاية أيديولوجيّة لُبّست لبوس الإنسانيّة.

أظنّ أن أغلب قارئي هذا المقال قرأوا القرآن الكريم، ولعلّهم إن بحثوا فيه فإنهم لن يجدوا –وإن في آية واحدة- شيئًا يتحدّث عن المساواة المطلقة بين الخلق، لا بين الذكر والأنثى، ولا بين الصحيح والمريض، ولا بين المسلم والكافر، ولا بين الحيوانات حتى، فلماذا؟

إنّ المنطق يخبرنا بأن المساواة لا تعني العَدْل على الدوام، ومدار أمر الشريعة والدين عند الله هو العدل، وما ينادي به القرآن ويأمرنا به الله مراراً وتكراراً هو العَدْل، الذي يضمن حقوق الإنسان عمليًّا وإن لم يعلن عن المساواة المطلقة بين الناس شكليًّا.

النسوية ودعوى المساواة
منذ أن أطلّت علينا الجماعات النسويّة العربيّة، بدأت تنادي بـ”المساواة بين الرجل والمرأة” بكلّ قواها، آبهة بكلّ شيء إلّا الفَهم الحقيقيّ المجرّد من المشاعر والعاطفيّة، رغم أن هذا الشعار –حقيقةً- لا يحقّق مساواةً بالمعنى الجوهريّ للكلمة، ولا يهدف لخلق تناغمٍ بين الجنسين المختلِفَيْن في مجتمع متعدّد المقامات والاختلافات، كما أنّ المشكلة في شعار “المساواة” أنّها لا تحدّد المقصود بها بشكلٍ كلّي، بل تقتصر على حصره في إعطاء الأنثى ما يُعطى الرّجل.

 حسنٌ، قد تبدو هذه المعادلة جميلة المظهر، عندما يكون الحديث عن المساواة بشكلٍ عامّ بين شرائح المجتمع المختلفة، لا عن الرجل والمرأة فقط، إلا أن هذه المعادلة سرعان ما تبدأ بالانهيار، وذلك لوجود ثغراتٍ أساسية في أصلها.

إن أردنا تطبيق المساواة على رَجُلٍ صحيح ورَجُلٍ مُقعَد، بحيث نُعطي كلّ واحدٍ منهم درّاجة هوائيّة تقليديّة (وهذه مساواة في مظهرها)، فإن المؤكد أنه لن يستفيد من ذلك إلّا الرجل الصحيح، نظرًا لقدرته على استخدامها، بينما لن يستطيع المقعَد استخدامها، بل قد تصبحُ عبئًا عليه، وهنا تُصبِحُ المساواة ظالمة بكل تأكيد.

وإذا أردنا تطبيق هذا الشعار في موضوع الرجل والمرأة، فيمكننا أخذ رجلٍ وامرأة، وتوكيل كلّ واحدٍ منهما بمهمّة واحدة كإرضاع طفلٍ حديث الولادة مثلاً، فهذه مساواةٌ في مظهرها، لكنّها ظالمة للرجل.

إننا نرى أنّ كلمة “مساواة” أخذت معنى وشكلاً آخر عمّا تعنيه الكلمة حقّاً، خصوصاً في الآونة الأخيرة. في اللغة الإنجليزية، يتمّ استعمال مصطلحات متشابهة ومتشابكة في نفس الوقت عندما يدور الحديث عن المساواة بين الجنسين، وعادةً ما يكون القصد من ورائها “المساواة” لا غير كجزء من منظومة العَدْل. أما مصطلحات مشابهة كالإنصاف والتسوية والتعديل فتقع تحت جناحَي منظومة العدل الشاملة أيضاً.

أما المساواة فهي تنصّ على التسوية بين أفراد المجتمع وشرائحه بصرْفِ النّظر عن الاختلافات القائمة بينهم – فلا دين ولا عرق ولا جنس ولا مقام اجتماعيّ ولا أيّ شيء آخر يكون سبباً في التفريق بينهم. وتسمّى بـ”المساواة المطلقة”. وتكون هذه المساواة مساواة “مناسبة” عندما تتشابه إحدى صفات ومميزات الشخصَين تشابهاً كاملاً في المجال المقارَن به. -لاحِظ أنّ التشابه لا يعني التطابُق- يقول الفيلسوف ستيفان جوسباث: “عندما يكون هناك مقام متساوٍ في مجالٍ واحدٍ على الأقل ذا صلة معياريّة، تجب معاملتهما بتساوٍ بما يخصّ ذلك المجال” [المصدر مرفق أسفل المقال]

أنواع المساواة
علينا التفريق بين أنواع المساواة، إذ إن عموم الجمعيات المدنيّة والناشطين يأخذونها على أنّها كلمة ذات معنى واحد، إلا أن منظريها يفرقون بين ثلاثة أنواعٍ أو مبادئ للمساواة على الأقل، وهي:

  1. المساواة الرسميّة: وهي التي وضعها أرسطو في إشارةٍ إلى أفلاطون: “عامِل المِثْلَ بالمِثْل” – Treat like as like وقد تكون المساواة المقبولةً عامّةً.
  2. المساواة النسبيّة: وقد أشار أرسطو إلى نوعين منها هما المساواة العددية والنسبية، أمّا الأولى فهي نوع معاملةٍ للغير على أنّ كلّ الناس سواسية، وبذلك تجب معاملتهم بشكلٍم متطابقٍ – أو منحهم نفس النسبة من الناتج المحلي الإجمالي – Good per capita. وهذا ليس عادلاً دوماً، أما المساواة النسبية، فهي معاملة الغير بحسب استحقاقهم. أيّ أنّ للإنسان – ذكراً كان أم أنثى – الحق بمعاملة يتم تحديدها بحسب عوامِل تخصّ المجال الذي يُبحَثُ فيه.

لتيسير ذلك، نضربُ المثال الآتي: يشترط العمل في مصنعٍ لإنتاج الكعك على العامِل – بغضّ النظر عن جنسه أو عرقه – إنتاج 50 كعكةً يومياً مثلاً، فإذا ما أنتجت امرأة أقلّ من ذلك، فلا يكون ضدّ المساواة أن يسرّحها المصنع. إذا ما أنتج رجلٌ أقلّ من ذلك، فلا يكون ضدّ المساواة أن يسرّحه المصنع. هُنا يتم أخذ عامِل الكفاءة بالحسبان (Efficiency Factor)

  1. المساواة الأخلاقيّة: بموجب هذا المبدأ من المساواة، يستحق الجميع – ذكراً وأنثى – الكرامة والاحترام ذاته.

لا بد من الإشارة إلى أن هذه الفكرة تطورت من مدرسة الرواقيين Stoics الذين أكّدوا على المساواة الطبيعيّة بين كل المخلوقات العقلانيّة، ثمّ في العهد الجديد في المسيحية، الذي نادى بالمساواة بين البشر جميعاً أمام الله. ونرى أشكالاً مشابهة من هذه المساواة في اليهوديّة والإسلام كذلك.

يُعتبر هذا المبدأ -الكرامة والاحترام المتساويان- شائعًا كمعيارٍ أدنى في تيّار الثقافة الغربيّة السائد. لكن يجب توضيح بعض المغالطات فيما يتعلق بالمساواة الأخلاقيّة، فأنْ نقول بتساوي الرّجل مع قرينه لا يعني أنّهما متطباقين وبغضّ النّظر عن ذلك فإنه لا يمكن استنباط مبدأ المساواة العادلة من فكرة المساواة الأخلاقيّة.

إنّ المساواة المطلوبة في المجال الاقتصادي معقّدة إذا ما أردنا أخذ العديد من المواقف التي قد تبرر العُدول عن المساواة الشكليّة، إذ المشكلة هُنا هي كيفيّة التفرقة بين ما يستحقّ العُدول عن المساواة بسببه – أي الاستثناءات المبرّرة للمساواة الشكليّة في توزيع الناتج الإجماليّ. هذه الاستثناءات مثلاً، تُعدّ مبرّرة لعدم إنشاء مساواة أو معاملة متساوية بين الأطراف، مثل:

  • الحاجة: كالفرق بين مواطن الضعف الطبيعية المختلفة مثل الإعاقة.
  • الاختلاف في الأداء في خدمات خاصّة مثل الجَيش.
  • الاختلاف في كفاءة الأداء.

إن نظرتنا للمساواة لن تكون عادلةً إذًا ما لم نأخذ هذه العوامِل بالحسبان، وحينها يمكن أن تنتج مساواة مطلقة شكليّة لا يقبل بها الإنسان العقلانيّ، المُسلم وغير المسلم على السواء.

المساواة ودعاوى النسوية
إن المرأة لا تساوي الرجل، والرجل لا يساوي المرأة، لا في الحقوق ولا في الواجبات، فقد ضمن الإسلام لكليهما حقوقاً وفرض عليهم واجبات مناسبة لكلٍ منهما، فلا تضادّ في التفاعل بين البُنية الفيزيولوجية أو البدنية وبين البنية النفسيّة عند أيٍّ منهما.

بصرف النّظر عمّا تقدّم من تقسيماتٍ للمساواة إلا أنّ الجمعيات النسويّة أقدمت على تشويه مصطلح المساواة ليكون مطابقاً لعملية المساواة الحسابيّة، وثمة أمثلة متعددة على عدم فَهمِهِم للإسلام – ليس كدينٍ تعبّديّ فقط، بل كنهج حياة ودليل تشريعيّ – كقضيّة الميراث، فإذا ما طبّقنا فهمهم للمساواة في الميراث، فإنه لن يتحقّق عدلٌ في التوزيع كما في الإسلام.

وكذلك الحال حين يدعي النسويون والنسويات، في أنّ الإسلام فَرَض الحجاب على المرأة ظُلماً وجوراً، وأنه لم يفرض على الرّجل فرضاً مشابهاً، وتأويل النسوية ذلك بأن الإسلام يقدّم المرأة في تعاليمه على أنّها قطعة من اللّحم التي يجب تغطيتها وحمايتها من الذكر – الحيوان الشرس ذي الرغبات الجنسية الجائحة.

إن المفارقة هُنا أنّ الحلّ الأنسب الذي وجدوه لهذه المشكلة يوقِعهم في مشكلة أكبر. فالحلّ عندهُم إعطاء المرأة حريّة التعرّي الكامِل، ودعوة المرأة المتحجّبة لخلع حجابها، الذي هو سِمة وعلامة تمثّل عنجهيّة وتعسّف الذكوريّة في الإسلام بحسب افتراءاتهم، حيث إنّ المرأة مجبرة على لبس الحجاب من قبل زوجها أو أفراد عائلتها أو المجتمع. ولأنّ النسويّة تنادي بحريّة المرأة والمساواة بينها وبين الرّجل، فإنّ الحجاب يمنع ذلك، بل ويشكّل خطراً على مجتمع النساء.

تقول الباحثة البريطانية إريكا هوارد: إنّ أبرز الصور النمطية التي تخص المرأة المسلمة هي أنّها ضحيّة دينٍ ذكوريّ كابِت للمرأة، وهي بحاجةٍ للحماية من الأقارب الذكور العنيفين، فهي غير قادرة على مساعدة نفسها في وجه ثقافة ذكوريّة تجبرها على تغطية نفسها. أمّا الصورة النمطية الثانية فهي بارزة في الغرب تحديداً، وهي أنّ المرأة المسلمة “عنيفة” و”هجوميّة” – فتُرى على أنّها مسلمة متعصّبة، تَفرِضُ القِيَم على من لا حول لهم ولا قوّة، ومن لا يريدون رؤية تلك القِيَم في محيطهم. تتابع هوارد فتقول: إنّ هاتَين الصورتَين تناقضان بعضهما. إنّ المرأة المُسلمة بحاجة للإنقاذ من الإسلام، لكن في نفس الوقت، هي مسلمة متعصّبة ويجب إنقاذ الجميع منها.

ما يحدُث في مجتمعنا ليس ببعيدٍ عن ذلك. فالأشخاص الذين يباهون بحريّة النساء اللواتي “تحرّرن” من ظلم الإسلام يدّعون استقلال عقل المرأة وأنّها ملكة أفكارها وقراراتها. لكن حين تقوم امرأة مسلمة ضدّ أفكارهم المسمومة، فإنهم يبادرون لمهاجمة عقلها ووصفه بأنه مملوك أثّرت فيه عقلية الذكوريّة النتنة، أو أنها مجبرة على رأيها من قبل زوجها أو أهلها، ولن يسمعهم أحد يمدحون استقلال فكرها الذي -بحسب حريّة التعبير- ينتقدهم.

وهكذا إذن، فإنه عندما يكون عقلُ المرأة تابعاً للأجندات الغربيّة تكون قد تحرّرت من اتّباع الأجندة الذكورية وبلغت أرقى مستويات الحرية، أمّا عندما تقوم باتّباع دينها وإطاعة ربّها، فإنّ عقلها معطّل أو مغسول، وليس لرأيها المُخالِف لآرائهم أيّ اعتبار.


مصادِر:

Gosepath, Stefan, “Equality”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2011 Edition), Edward N. Zalta (ed.) –  https://stanford.io/33yVTCB

Howard E. Banning Islamic veils: Is gender equality a valid argument? International Journal of Discrimination and the Law. 2012;12(3):147-165. doi:10.1177/1358229112464450https://bit.ly/36oQf7P

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد