النسوية ومعاداة الأسرة.. من المسببات إلى الواقع

image_print

“إن أجندات النسوية لا تسعى نحو المساواة بين الرجل والمرأة فحسب، وإنما هي حركة سياسية اشتراكية مضادة للعائلة وتشجع على تدميرها!”[1] بهذه الكلمات انتقد الواعظ بات روبرتسون الفكر النسوي، وكذلك قام كثيرون غيره ممن وجدوا لمآلات هذا الفكر خطرًا كبيرًا على أصغر وأهم وحدة في المجتمع، فما حقيقة هذه الاتهامات؟ وهل النسوية -فكرً وفلسفةً ونتائج- معادية فعلًا لبُنية الأسرة؟

نماذج من الموجة النسوية الثانية
كانت مطالب الموجة النسوية الأولى (1848) متركزة على تحصيل حقوق أساسية كانت المرأة في أوروبا وأمريكا محرومة منها كحق الانتخاب والتملك والاستدانة، أما الموجة النسوية الثانية –أي ما بعد 1960- فقد كان تركيزها على التحرر والمساواة المطلقين المتضمّنين المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة من حيث الواجبات والمستحقات، وتحرر المرأة والرجل من أي قيود متعلقة بالجسد أو الممارسة الجنسية[2].

سيمون دو بوفوار

كانت سيمون دو بوفوار إحدى أكثر الشخصيات النسوية تأثيرًا؛ تحديدًا كونها قررت كثيرًا من شعارات الموجة النسوية الثانية وأهدافها في كتابها الفلسفي “الجنس الآخر” عام 1949 الذي يعتبره المؤرخون ملهم الموجة الثانية ومشعل فتيلها[3]، فلم تكتف دو بوفوار بمطالباتها مساواة المرأة بالرجل، وإنما قررت ضرورة معاداته ومن ثم الاستغناء عنه كونه أساس النظام الأبوي الذي يمنعها حريتها ويجعلها ملكًا للذكر عبر الدين والقانون، ولكي تتخلص من كل سلطة تمتلك جسدها لم تجد بدًا من التخلي عن الأمومة التي تجبرها على الخضوع لغير رغباتها[4].

يمكن النظر إلى جزءٍ مما كتبته دو بوفوار باعتباره مثالًا على فكرها النسوي، فـ”إن أي دور تقليدي للمرأة ينبغي أن يرفض، فالأمومة لا تحقق ذات المرأة ولا تفتح أي آفاق جديدة للمستقبل، إنما هي مجموعة من المهمات الروتينية التي كانت النساء تفعلها منذ القدم، فلا الإنجاب يقدم للعالم شيئًا ولا الحياة تتوقف على ترتيب السرير ولا ذاك يعبر عن النفس أو يحققها”[5].

الغريب –حقًّا- أن هذا الفكر انتشر في الغرب كالنار في الهشيم وحمله النسويون ونادوا به طوال عقود من الزمن مع أنه يهمل أهمية التربية والإنجاب العظيمة، ويتغاضى عن كون المرأة تنشئ وتبني الجيل الذي سيقوم بكل المهمات في المجتمع في المستقبل من خلالهما ، فأي تحقيق للذات أكبر من هذا؟

والحقيقة أن أي عمل لا يمكن أن يخلو من روتين وتكرار بالنسبة للرجال والنساء على السواء، فمعظم الوظائف لا تحقق الذات بالصورة التي يصفها النسويات -من حيث إحداث التغيير والتعبير عن النفس-، إنما هي عبارة عن روتين لا يسمح للموظف أن يبدي رأيه ولا يغير في بنيته المحددة له مسبقًا، بينما الحلم الذي تقدمه النسويات للمرأة هو أن أي عمل ستحصّله بمجرد خروجها من البيت سيكون مثل الذي تفعله الناشطات اللواتي يقضين يومهن بالكتابة وحضور الحفلات والاجتماعات والمناظرات والظهور في اللقاءات الرسمية وتقديم الندوات والمحاضرات!

بيتي فريدان

وقد وافقت الكاتبة والناشطة النسوية الأمريكية بيتي فريدان على أفكار سيمون من قبلها، وقدّمتها للأمريكيين في كتابها المبسط “الغموض الأنثوي” حيث انطلقت فريدان من فكرة محورية في كتابها وهي كون ربّات البيوت -جميعهنّ- تعيسات مكتئبات، يعانين الملل والإحباط، ولا يقضين يومهُنَّ إلا مشغولات بتوافه الأمور التي تسليهنَّ عن مأساتهن، بينما هنّ جاهلات ومحتاجات إلى منقذٍ يخرجهن من هذه المعاناة إلى النجاة التي تنتظرهنّ في سوق العمل.[6]

تحدّثت فريدان في الكتاب عن تجربتها في الزواج والإنجاب فبيّنت أنّها عاشت مراحل الأنثوية النمطية، لكنها لم تجد ذاتها في أي منها، فقرّرت تركها وتحقيق طموحاتها في تحرير أمثالها عبر النشاط السياسي والاجتماعي.[7]

إن من أهمّ معضلات النسوية -كما نرى- حصرها قضية تحقيق الذات في العمل المدرّ للربح المادي المباشر، حيث اعتبرت أي امرأة لا تمتثل ذلك إنسانةً ناقصة البشرية وسلبيةً فارغة، لا هوية لها ولا طموح ولا أحلام،[8] وأغفلت في هذا كله مشاعر النجاح الكبيرة التي تشعر بها المرأة إن تمكنت من تعليم طفلها القراءة أو رأته يجيد الحساب لأول مرة، وتجاهلت كذلك أن كثيرًا من النساء لا يحتجن العمل خارج البيت ولا يخترنه، وأنّهنّ راضيات وسعيدات بحياتهن البسيطة داخله، يعرفن حق نفوسهن، ويملأن يومهن بما ينفعهن وأسرهن، وههنا لا بد من ذكر ما قالته فريدان -حرفيًا-: “لا أعرف أي امرأة تمكنت من استخدام عقلها، أداء دورها في الحياة، وفي نفس الوقت أنجبت وأحبت أطفالها!”[9]

لا شكّ أنّنا نرى هنا خلطًا واضحًا لهذا الفكر، وتعميمًا كبيرًا يمارَس على النساء جميعهنّ، فقد جعلهن هذا الكلام أشخاصًا فارغين روحيًا يتشابهون في نمط الحياة والنشاطات اليومية، كما خلط بين تحصيل المال وبين الإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى في الحياة كسؤال الغاية والهدف من الوجود.

تقول فريدان: “حتى حين تكون الأم آمنة دافئة في بيتها محاطة بأولادها تلبس الحرير والمخمل والجواهر، فإنها حتمًا ستطلب ما هو أبعد من ذلك.”[10] وفريدان ههنا تشير إلى شعور الغائية الذي لم تتمكّن من تفسيره، والذي لا يختلف فيه رجل أو امرأة ولا يجيب عنه العمل المربح مادّيًّا كما لا تملؤه الأمومة إن لم يكن للإنسان غاية حقيقية يعيش لأجلها –رضوان الله والجنة في الإسلام-، أما جعل تحصيل المال نفسه غاية وتحقيقًا للذات فهذا لا يملأ ذاك الفراغ الذي تصفه النسويات، إنما قد يشغل المرء عنه مؤقتًا لا أكثر.

ولنتأمّل التوازن الذي قدمته المنظومة الإسلامية لحياة الفرد والمجتمع حين لم تطالب أحدًا بالعيش لغيره، فلا الزوج يعمل في سبيل أبنائه، وليس مطلوبًا من الزوجة أن تحترق لأجل أسرتها، بل لفت فكر الناس إلى أن غاية العمل كله رضا الله تبارك وتعالى، وأن لكل فرد واجباته الخاصة المرتبطة بظروفه وابتلاءاته يؤديها مستحضرًا مراقبة الله سبحانه له وحده بصرف النظر عن ناتجها الدنيوي وتقييم المجتمع لها. والمرأة قد تعمل خارج البيت وقد لا تفعل لأسباب خاصة بها، بينما هي في كل ذلك تعرف ما لها وما عليها شرعًا، وتميز بين واجباتها واختياراتها.

هدم الأسرة النووية
لقد رأت رائدات الموجة النسوية الثانية متمثلة بحركة تحرير المرأة في الولايات المتحدة ضرورة تخليص المرأة من سجن الزواج الذي وصفته فريدان بأنه قفص سنجاب مجمّل تدور فيه المرأة دون توقف[11] كما انتشرت مقولة غلوريا ستاينم “المرأة بحاجة للرجل كما السمكة بحاجة لدراجة” ساخرةً فيها من منظومة الزواج والعلاقة التكاملية فيه[12].

وكذلك هاجمت النسوية الليبرالية الحياة الزوجية بطريقة منمقة أو ساخرة، أما النسوية الراديكالية في أصوات مثل كيت ميليت، جيرماين غرير، وشولاميث فايرستون فقد وجهت سهامها نحو بنية الأسرة بشكل مباشر. تقول جيرماين غرير في كتابها “The Female Eunuch”:

“إن الحياة الزوجية قائمة على تعنيف النساء والإساءة إليهن وإهانتهن، ولذلك يجب التخلص من مؤسسة الزواج وإيجاد البديل عنها في حياة لا تجبر المرأة على السكن مع الرجل وفق علاقة محكومة بالقوانين والعقوبات الاجتماعية”[13].

لا شك في أن كثيرًا من مكونات نظرة النسوية للحياة الزوجية منبثقة من أفكار فلسفية راسخة في تاريخها منذ أيام سيمون دو بوفوار التي قدست الحرية الفردية المطلقة المبنية على الاعتبار الوجودي للحياة حيث لا يجد الإنسان الراحة إلا بكونه حرًا بشكل مطلق.[14]

تقول دو بوفوار: إن المرء لا يكون محققًا لماهيته إلا حين يمتلك الاختيار المطلق الذي لا يحده أي وازع خارجي، وهذا شأن الرجل، أما المرأة فإنها تعيش حياتها في خدمة غيرها ضمن أعمال لا تسمو بها ولا تمنحها استقلاليتها ولا تثبت أصالة وجودها، ولذلك فإن على المرأة أن تعيش لذاتها مهتمة بإثبات نفسها متخلية عن قيد الزواج الذي يمنعها من ذلك.[15]

يبدو واضحًا من خلال قراءة أدبيّات النسويّة ونتاجها أن هناك هوسًا متعبًا لدى هؤلاء بالمساواة والمنافسة بين الجنسين في كل السياقات مما أدى بهم إلى إخفاء مفهوم الأنثى والتعويض عنه بمشابهة الذكر، إضافة إلى تجريم الذكورة وما يتعلق بها من صفات ضرورية في الأب والزوج بشكل عام.

يقول سلطان العميري: لقد أصبحت المجتمعات الإنسانية جراء هذا التصور مكونة من معسكرين متحاربين على الدوام، معسكر الرجال ومعسكر النساء، كل منهما يظن في الآخر ظن السوء، ويرى أن حياته معارضة لحياة المعسكر الآخر وحقوقه تتناقض مع حقوقه، وهذا التصور تشاؤمي ناقص، وهو ناتج عن توهّمات باطلة مخالفة لطبيعة الوجود، ونحن لا ننكر أن الصراع موجود في الحياة، ولكننا ننكر تعميمه على كل مظاهرها، والحكم به على العلاقة بين الرجل والمرأة بالخصوص، فمظاهر الوجود متنوعة كثيرًا، منها ما يعيش مع غيره بعلاقة التكامل والتعاضد، ومنها ما يعيش مع غيره بعلاقة التدافع والتصارع.[16]

وتظهر نتائج هذه النظرة جلية واضحة في التفكك الأسري الذي يشهده الغرب اليوم حيث تنتهي 55% من حالات الزواج في فرنسا بالطلاق،[17] ويعيش ربع الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية في أسر أحادية الوالد.[18]  هذه الأسر التي تتفاقم باستمرار تقود الأمهات 86% منها، ويعيش قرابة 3 من كل 10 منها تحت خط الفقر.[19] وتظهر إحصائيات كثيرة أن مستوى سعادة أفراد الأسر أحادية الوالد أقل بكثير منه في الأسر التقليدية، كما أن الأبناء يعانون بسبب غياب الأب وتظهر نتائج ذلك في تحصيلهم العلمي وصحتهم النفسية[20].

إن مهاجمة النسوية لمؤسسة الزواج وتجريمها لكل ما يمكن اعتباره دورًا تقليديًا للرجل أضر بالمرأة أولًا وبالمجتمع كله ثانيًا، فالرجال في الغرب اقتنعوا بضرورة تخلّيهم عن كل دور نمطي عرفوه بعدما صار عارًا وذنبًا لهم، وقبلوا بالتخلي عن مسؤوليتهم التي وصفتها النسوية بالتسلط والأبوية، وبالتالي انقلب الأمر بؤسًا على النساء اللواتي بتن -في كثير من الحالات- مجبرات على لعب دور الأب والأم في ظل مجتمع ظالم لا يعطيهن أيًا من حقوقهن الأصلية تحت مسميات التحرر والمساواة.


الهوامش والإحالات

[1] Elizabeth Schuett, Pat Robertson has odd take on feminism. Seattle Pi. 2004.

Pat Robertson has odd take on feminism (seattlepi.com)

[2] John Olson, Feminism. History. 2019.

Feminism’s Long History – HISTORY

[3] History and theory of feminism. GWA Net Central Asia.

History and theory of feminism (cawater-info.net)

Linda Napikoski, Simone de Beauvoir and Second-Wave Feminism. ThoughtCo. 2019.

How Simone de Beauvoir Inspired Second Wave Feminism (thoughtco.com)

Alice Schwarzer. “After the Second Sex: Conversations with Simone de Beauvoir.” New York: Pantheon Books, 1984.

[4] د. البشير عصام المراكشي، النسوية.

(19) برنامج النسوية – YouTube

[5] Simon de Beauvoir. “The Second Sex.” Trans. Borde, Constsance and Sheila Malovany-Chevallier. New York: Random House, 2010.

[6] Betty Friedan. The feminine mystique. WW Norton & Company. 2010.

[7] (المصدر السابق)

[8]Betty Friedan. The feminine mystique. Page 99-107. WW Norton & Company. 2010.

[9] Betty Friedan. The feminine mystique. Page 99. WW Norton & Company. 2010.

[10] Betty Friedan. The feminine mystique. Page 105. WW Norton & Company. 2010.

[11] (المصدر السابق)

[12] Hollie Petit, A Woman Needs a Man Like a Fish Needs a Bicycle. MuddyUm. 2020.

A Woman Needs a Man Like a Fish Needs a Bicycle | by Hollie Petit, Ph.D. | MuddyUm | Medium

[13] Greer, Germaine, and Andrew Inglis. The female eunuch. London: Paladin, 1971.

Karl Thompson, Feminist Perspectives on the Family. Revise Sociology. 2014.

https://revisesociology.com/2014/02/10/feminist-perspectives-family/

[14] [14] Simon de Beauvoir. “The Second Sex.” Trans. Borde, Constsance and Sheila Malovany-Chevallier. New York: Random House, 2010.

وانظر مقال: ما بعد الحداثة، قسم: الوجودية على موسوعة السبيل، بقلم عرابي عبد الحي عرابي. 2018.

ما بعد الحداثة • السبيل (al-sabeel.net)

[15] Simon de Beauvoir. “The Second Sex.” Trans. Borde, Constsance and Sheila Malovany-Chevallier. New York: Random House, 2010.

[16] سلطان بن عبد الرحمن العميري. ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث. مركز تكوين. 2018.

[17] Abayomi Jegede, Top 10 countries with highest divorce rates in the world. Trendrr. 2020.

Top 10 Countries With Highest Divorce Rate in The World 2020 | Trendrr

[18] Stephanie Kramer, U.S. has world’s highest rate of children living in single-parent households. Factank. Pew Research Center. 2019.

U.S. has world’s highest rate of children living in single-parent households | Pew Research Center

[19] Single Parent Statistics Based on Census Data. Very Well. 2020.

The Single Parent Statistics Based on Census Data (verywellfamily.com)

[20] Mona Charen, Feminism has destabilized the American family. NY Post. 2019.

https://nypost.com/2018/07/07/feminism-has-destabilized-the-american-family/

 

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد