تأثر النسوية بالثورات العربية.. فرصة لإعادة التوازن
إن ما يطفو على السطح الآن من أفكار النسوية في العالم العربي، لم يكن وليد الساعة، بل كنا نتشرب تلك الأفكار منذ الصغر، حتى باتت كثير من الفتيات نِسويَّات دون أن يشعرن. وآخر ما لَفت نظري للتغير الكبير الطارئ على الفتيات والنساء من الأجيال الجديدة ما كتب في مقال مترجم[1] بعنوان “تايلور سويفت تؤكد وجهة نظري عن ضرر النسوية على جيل الألفية”، وذلك بإشارة الكاتبة لردود أفعال الفتيات المبالغ بها على ما كان طبيعياً من مقارنات بين المرأة والرجل، مما أكد لها تأثر فتيات الجيل الجديد بأفكار النسوية تأثراً سلبياً حتى بتن يَرَين عدم المساواة تلوح في الأفق في كل فعل وقول.
تشير بعض الأقوال إلى أن النسوية العربية بدأت منذ قرن أو أقل مع نظيرتها الغربية، بمساعدة برنامج ممنهج لنشر فكرها في العالم الإسلامي والعربي الذي مكَّن من تحقيق الهدف خلسة وساهم في ذلك كثير من العوامل[2]، لعل أبرزها الإعلام[3] والتعليم وساحات التواصل الاجتماعيّ الافتراضية، لأنهم بذلك أسهل وصولاً للنساء، مُستغلين بعض المظالم المجتمعية والقانونية الممارسة عليهن ليتلاعبوا بمشاعرهن وعاطفتهن ويُلوّثوا أفكارهن، وساهموا برسم صورة نمطية للفتاة لا يَسهُل الخروج منها.
الإعلام والنسوية العربية
أشار الأستاذ الهيثم زعفان في بحثه عن العلاقة الوطيدة بين الإعلام والنسوية العربية فكتب: “يعد الإعلام المرئي والمسموع والمقروء من أكثر الأدوات التي تستخدمها الحركة النسوية في العالم العربي من أجل خلخلة المجتمع وهز ثوابته القيمية لصالح الأجندة النسوية، وفي سبيل ذلك يتم الدفع بمئات المسلسلات، الأفلام، البرامج، الإعلانات، المقالات، الحوارات، والتحقيقات؛ وجميعها تصاغ مادتها الإعلامية وفق ماتهدف إليه نشيطات الحركة النسوية” [ظهور الحركات النسوية في العالم العربي ومشروع تحرير المرأة]
فيتمكن الإعلام والمسلسلات خاصة[4] من رسم أنماط معينة للنساء وحصرها بالشكل المنفر من الفتاة المتدينة والمحجبة، وبالشكل الجميل الجذاب للفتاة المراد منها أن تكون قدوة، كما ربطوا القوة بالتخلي عن الدين والتمرد على الأهل والمجتمع وكل ذلك مع التأكيد على عدم حاجتها للرجل البتة.
ولكن مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي ظهرت أنماط أخرى من النساء المراد منهن قدوات، ورُموز نسائية يُسلط الضوء عليها في كل قضية محتدمة[5]، أولئك اللائي يجمعن بين نقيضين من مظاهر تدين إسلامية ومن أفعال وأفكار تخالف هذا الدين.
فوضى النسوية في ظل الثورات العربية
سأنقل أولًا رأي جاياواردينا كوماري (ناشطة نسوية وأكاديمية سريلانكية) ثم رأي المستشرقين الغربيين في النسوية العربية[6] فهم ينظرون للحركة العربية بأنها تَقمّصٌ للنسوية الغربية وقيمها، مما جعلها حركة غير مقبولة في الوسط العربي وغير واضحة الأهداف، لأنها لم تنطلق من حاجات المرأة العربية وقضاياها، ومن ثم تفرض عليها قيماً غربية لا تناسب المجتمع المسلم والشرقي أبدًا.
كما أن الجماعات النسوية العربية ليست موثقة بشكل كامل في المنظمات العالمية على عكس الحركات النسوية الأخرى بسبب صراع الشرق والغرب، وبما أن الحركات النسوية العربية تتلقى دعمها من المنظمات الغربية فهذا يؤثر بالتالي على أجنداتها، فلا يقدم الدعم إلا للأهداف الموافقة لقيم الحركة الغربية، ولا تأخذ قضايا المرأة المسلمة أي اعتبار لديهم.
وبنظر يوليانا ميتزيغر(صحفية وخريجة علوم إسلامية) أن الحركة النسوية العربية تعرضت لأزمة بسبب الثورات العربية ومع أنها ترى ذلك فرصة لتجتمع النسوية العربية تحت سقف واحد، إلّا أن الهيثم زعفان يرى خلاف ذلك لأنها فقدت سيطرتها السياسية مع سقوط بعض الأنظمة وبالتحديد مع تلاشي نموذج السيدة الأولى[7].
ويلاحظ بناء على ما سبق تحَوّل النسوية العربية من حركة غير واضحة المعالم والأشخاص والأهداف إلى فوضى حقيقية عبثية، لجأت إلى تشكيل رموز لا ترقى لأن تكون رموزاً، فلم يعد لها إلا مواقع التواصل الاجتماعي والشاشات للظهور، وأصبحن يعتمدن على المناشير العاطفية لحشد الفتيات وتَوجيههن في مجموعات افتراضية نسائية، التي تتميز بأفكار النسوية الخفيّة والتي يَغيب عنها الرقيب والحسيب، وهي البيئة الحاضنة للسموم المتبنية لفكر واحد والمعارضة للمخالف والمُعينَة للفتيات على التمرد.
تأثير العبثية النسوية
بالرغم من هذه الفوضوية، إلا أن احتلال هؤلاء الرموز لوسائل التواصل الاجتماعي والتضارب الكبير بينهم بالأفكار والآراء، كان له تأثير قوي ليوجد تَصوّراً يوحي بنَسونة جميع النساء، وأنّ العقلانية تَغيب عند عامتهم، حتى يعتقد المرء أنه لا توجد امرأة في فضاء العالم الافتراضي تتحدث بحكمة وحيادية عن النساء، ولا تستخدم العويل وإلقاء اللوم على الآخرين وتُجيِّشُ لحرب ضد الرجل، ولكن ببحث أكثر في ذلك الفضاء تتضح الصورة بشكل أفضل، فنجد أيضاً بعض الفتيات الرافضات لفكرالنسوية، ولكن متطلبات الإعلام والظهورعلى وسائل التواصل الاجتماعي المخالفة لأحكام الشريعة من جهة المرأة، وسياساتهم المُقيِّدة، تجعل ظهور الفتيات المُخالفات خَافتاً مُقيّداً بالكتابة أو محدوداً بمجموعات نسائية صغيرة، بالإضافة إلى قلة الدعم المقدم لهن سواء ماديا أو معنويا، والذي لا يضاهي قوة الدعم للطرف المخالف، ونزيد على ماسبق الخوف من الحرب الشعواء التي تقام من النسويات على الناقد لحركتهن.
ومن المؤسف أن ظهور الصورة الواحدة هذه للنساء لعقد من الزمن مع مُخلَّفات أفكار النسوية قبل تَشَتُّتِهم، وضعف أسس العقيدة الإسلامية عند الكثيرات، أثّر تدريجيًّا وبشكل كبير على الفتيات لتظهر الأزمة الحقيقية مؤخراً في فكر كثير منهن، خاصة بعد موت نوال السعداوي، حيث رأينا الازدواجية في أجلى صورها بإظهار الحزن على من رفضت الإيمان بربهم ورب العالمين، وكَثُر منهن من تُهلِّل لكل من يمجد المرأة بصرف النظر عن خلفيَّته الإيمانية ومُراده من خطاباته.

نوال السعداوي
أسلمة النسوية وتفاقم المشكلة
ولا أعني بهذا النسوية الإسلامية أو المُحافِظة كما تسمى والتي تنادي بإيجاد تفسير جديد للقرآن فقط، ولكن للإشارة أيضًا إلى محاولة جذب الفتيات لدفعهنَّ بعيدا عن الأفكار الغربية بالتركيز على بعض الأحاديث والشواهد الإسلامية، التي تتحدث عن المرأة وقصص الصحابيات المجاهدات والعاملات، ويتجاهلن أحاديث وآيات أخرى عن أهمية التربية وطاعة الزوج والأحكام الأخرى، فهذا مما يزيد الفتاة حيرة وشكًّا لأن خِطَابها يدور في فلك النسوية وينطلق من الطريقة الغربية في تفسير الأمور وتحديد الأولويات، ويبقيها في دائرة التمركز حول النفس والتمجيد بالأنثى حتى أَنسَوها أنها أَمَة لله سبحانه وتعالى ستقف أمامه عز وجل يوم الحساب وستحاسب وستُسأل عن كل قول وفعل وتقصير في حق الله والعباد.
وأما التذكير بحكم شرعي منسيٍّ أو مَسكوت عنه يَخصُّ المرأة، وعلى الرغم من إيجابيته، إلا أن الاكتفاء بذكر الحكم مع عدم التفصيل والشرح أو محاولة مقاربته لعقول الفتيات يزيد الأمر تعقيداً، ويُحوّل الحُكم إلى ألعوبة في أيدي النسويات يفسرنها كما يَشأن[8]، وتُعزى المشكلة في الغالب، بعيداً عمن يكون مستقصداً للتضليل والتشويش بذكر الحكم مَنقوصاً، إلى الفجوة الكبيرة بين الأجيال، فعندما كانت البديهيات والمُسلَّمات عند الجيل السابق ليست محل نقاش، فقد مُسحت عند الجيل المعاصر وتَبدَّلت، لذا بات من الأفضل عند التكلم عن الأحكام الشرعية العامة أو المختصة بالمرأة، مراعاة التغيرات الحاصلة والتطرق للبديهيات والشرح والتفصيل والإلمام بكل الجوانب والأسئلة التي من الممكن أن تخطرعلى بال الفتيات والنساء حتى يُسدّ كل ثغر أمام المُفسدين.
نقيضان لا يجتمعان
الباحث في فكر النسوية يوقن تماما أن أبسط مبدأ فيها لا يمكن أن يجتمع مع الإيمان بشريعة الله، استحالة اجتماع نقيضين متنافرين كالكفر والإيمان، والفتاة المسلمة التي تحمل أفكار النسوية، والكثير منهن غير مدركات لذلك، تعيش بفكرين متناقضين وبصراع حقيقي بين التزامها بأوامر ربها وبين أفكار من المجتمع والمحيط تُفرض عليها، ستصل إلى مرحلة ستنبذ فكراً من أحدهما لتصل للطمأنينة وإما ستنبذ الدين وإما النسوية، وهناك فتيات مؤمنات بالله تأثرن بهذه الأفكار دون معرفتهن بالمشكلة الحقيقية، وبمجرد توضُّح الأمور لهن سيحاولن جاهدات الاقتداء بأوامر ربهن.
مناسبة طريقة الخطاب الديني للمتغيرات
إن حالة التشتت التي تعاني منها النسوية العربية وسهولة إسقاط رموزها مع أول نقاش منطقي عقلاني، وأيضا عدم وجود قبول لهم بين الناس بسبب دعوتهم للفجور والانحلال يجعل مهمة نقدهم وكشف ضعفهم أكثر سهولة، أما النسوية الإسلامية أو المُحافظة التي تشكلت كردّ فعل على النسوية العربية المتقمّصة للغربية، فهي أخطر أثراً وأكثر قبولاً من الفتيات، ولذا لا بد من العودة إلى التأصيل الممنهج في التكلم عن قضايا المرأة وتصحيح المفاهيم ليكون هناك حد فاصل وواضح في تمييز الحق من الباطل[9].
ويتوازى تبيان خللهم وردّ شبهاتهم مع وجود خطاب إسلاميّ موجه للمرأة المسلمة، منطلق من كونها مخلوق خلقه الله وأعطاه نعمة العقل ليَزِن الأمور بنفسه وفرض عليها العبادة والتسليم لأمره، بعيدا عن التعظيم والتمجيد لمجرّد أنها إمرأة وعن مقاربة التفسير والتبيان من الأهواء.
ومن ثم مناسبة طريقة طرح هذا الخطاب للمتغيرات الحاصلة وتقريبه للواقع[10] فعلينا أن نقر بأن نظرة فتيات الجيل المعاصر للأمور ومفاهيمهن قد تغيرت، ولهذا تُقابل كل حركة مضادة للنسوية بهجوم عنيف حتى من الفتيات والنساء المسلمات، وليس ذلك بالضرورة انتصارا للنسوية، ولكن بسبب أثرها المُتجذِّر، فالكثير من الفتيات اليوم لا يقبلن بزواج قبل إنهاء الدراسة الجامعية أو يحددنه بسن معينة، ويَستهجنّ الأمر بطاعة الرجل ويَرين الأمومة عائقا لنجاحهن، فلم يعد الدين هو المعيار والمنطلق.
يجب ألّا تستهين المرأة بدورها في نبذ هذا الفكر وتفنيد الشبهات وتقريب الخطاب للفتيات، والمساهمة في تعزيز مفهوم عدم النظر للواقع بعيون وسائل التواصل الاجتماعي وبأنه ليس المكان الذي يؤخذ منه العلم، وإيجاد حلول لهن من وحي الإسلام ومساعدتهن في تحقيق الطمأنينة في حياتهن والتقرب إلى الله بأي طريقة تجيدها فالمرأة أمٌّ ومعلمة ومربية، فيكون دورها مساعداً مناصراً للرجال الذين لهم الصدارة في هذا الخطاب كونهم الأقدرعلى الظهور، وإن لم يكن الخطاب ذا أثر كبير بين الأجيال المعاصرة فسينقذ فتيات الجيل القادم بإذن الله.
[1] سوزان فينكر – Suzanne Venker. .أثارة
[2] الهيثم زعفان. (2015). ظهور الحركات النسوية في العالم العربي ومشروع تحرير المرأة، التقرير الاستراتيجي الحادي العشر (الصفحات 121-134). مصر: مركز الاستقامة للدراسات الاستراتيجية.
Ameri, د. س. (2019). محاضرة: الغزو الفكري وسبل مواجهته. youtube: رواسخ.
[3] باحثات.مركز باحثات لدراسات المرأة.مقال:الإعلام والأسرة من https://bahethat.com/report/r23465/
[4] د. عبد الله العابد أبو جعفر.(8 9, 2008). المسلسلات المدبلجة..آثار تربوية وثقافية مدمرة. الجزيرة.
[5] أ.أحمد دعدوش. (22 4, 2019). صناعة المرأة الرمز. السبيل. https://www.youtube.com/watch?v=3RtBaZH1jU8
[6] CHAUDHARY, S. (2021, july 23).Idea of Arab Feminisim. the citizen.
[7] المصدر 3.مستقبل الحركة النسوية العربية في ظل ثورات الربيع العربي.
[8] كمثال انتشر: القول بعدم وجود نص يُلزم المرأة بـأعمال المنزل من دون تفصيل وشرح، كان كافيا ليخلق مشاكل عديدة في الأُسر.
[9] بدأت المبادرات الإسلامية الموجهة للمرأة وبوسائط مرئية ومكتوبة ومسموعة وبخطاب تأصيلي متوازن.
[10] سارة سجود طالب.(13 مايو,2020). تأملات في سمات الخطاب النقدي لقضايا “الفيمينزم”. المحاورون.