مقالات

تأثر النسوية بالثورات العربية.. فرصة لإعادة التوازن

إن ما يطفو على السطح الآن من أفكار النسوية في العالم العربي، لم يكن وليد الساعة، بل كنا نتشرب تلك الأفكار منذ الصغر، حتى باتت كثير من الفتيات نِسويَّات دون أن يشعرن. وآخر ما لَفت نظري للتغير الكبير الطارئ على الفتيات والنساء من الأجيال الجديدة ما كتب في مقال مترجم[1] بعنوان “تايلور سويفت تؤكد وجهة نظري عن ضرر النسوية على جيل الألفية”، وذلك بإشارة الكاتبة لردود أفعال الفتيات المبالغ بها على ما كان طبيعياً من مقارنات بين المرأة والرجل، مما أكد لها تأثر فتيات الجيل الجديد بأفكار النسوية تأثراً سلبياً حتى بتن يَرَين عدم المساواة تلوح في الأفق في كل فعل وقول.

تشير بعض الأقوال إلى أن النسوية العربية بدأت منذ قرن أو أقل مع نظيرتها الغربية، بمساعدة برنامج ممنهج لنشر فكرها في العالم الإسلامي والعربي الذي مكَّن من تحقيق الهدف خلسة وساهم في ذلك كثير من العوامل[2]، لعل أبرزها الإعلام[3] والتعليم وساحات التواصل الاجتماعيّ الافتراضية، لأنهم بذلك أسهل وصولاً للنساء، مُستغلين بعض المظالم المجتمعية والقانونية الممارسة عليهن ليتلاعبوا بمشاعرهن وعاطفتهن ويُلوّثوا أفكارهن، وساهموا برسم صورة نمطية للفتاة لا يَسهُل الخروج منها.

 الإعلام والنسوية العربية

أشار الأستاذ الهيثم زعفان في بحثه عن العلاقة الوطيدة بين الإعلام والنسوية العربية فكتب: “يعد الإعلام المرئي والمسموع والمقروء من أكثر الأدوات التي تستخدمها الحركة النسوية في العالم العربي من أجل خلخلة المجتمع وهز ثوابته القيمية لصالح الأجندة النسوية، وفي سبيل ذلك يتم الدفع بمئات المسلسلات، الأفلام، البرامج، الإعلانات، المقالات، الحوارات، والتحقيقات؛ وجميعها تصاغ مادتها الإعلامية وفق ماتهدف إليه نشيطات الحركة النسوية” [ظهور الحركات النسوية في العالم العربي ومشروع تحرير المرأة]

فيتمكن الإعلام والمسلسلات خاصة[4] من رسم أنماط معينة للنساء وحصرها بالشكل المنفر من الفتاة المتدينة والمحجبة، وبالشكل الجميل الجذاب للفتاة المراد منها أن تكون قدوة، كما ربطوا القوة بالتخلي عن الدين والتمرد على الأهل والمجتمع وكل ذلك مع التأكيد على عدم حاجتها للرجل البتة.

ولكن مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي ظهرت أنماط أخرى من النساء المراد منهن قدوات، ورُموز نسائية يُسلط الضوء عليها في كل قضية محتدمة[5]، أولئك اللائي يجمعن بين نقيضين من مظاهر تدين إسلامية ومن أفعال وأفكار تخالف هذا الدين.

النسوية كرمز

فوضى النسوية في ظل الثورات العربية

سأنقل أولًا رأي جاياواردينا كوماري (ناشطة نسوية وأكاديمية سريلانكية) ثم رأي المستشرقين الغربيين في النسوية العربية[6] فهم ينظرون للحركة العربية بأنها تَقمّصٌ للنسوية الغربية وقيمها، مما جعلها حركة غير مقبولة في الوسط العربي وغير واضحة الأهداف، لأنها لم تنطلق من حاجات المرأة العربية وقضاياها، ومن ثم تفرض عليها قيماً غربية لا تناسب المجتمع المسلم والشرقي أبدًا.

كما أن الجماعات النسوية العربية ليست موثقة بشكل كامل في المنظمات العالمية على عكس الحركات النسوية الأخرى بسبب صراع الشرق والغرب، وبما أن الحركات النسوية العربية تتلقى دعمها من المنظمات الغربية فهذا يؤثر بالتالي على أجنداتها، فلا يقدم الدعم إلا للأهداف الموافقة لقيم الحركة الغربية، ولا تأخذ قضايا المرأة المسلمة أي اعتبار لديهم.

وبنظر يوليانا ميتزيغر(صحفية وخريجة علوم إسلامية) أن الحركة النسوية العربية تعرضت لأزمة بسبب الثورات العربية ومع أنها ترى ذلك فرصة لتجتمع النسوية العربية تحت سقف واحد، إلّا أن الهيثم زعفان يرى خلاف ذلك لأنها فقدت سيطرتها السياسية مع سقوط بعض الأنظمة وبالتحديد مع تلاشي نموذج السيدة الأولى[7].

ويلاحظ بناء على ما سبق تحَوّل النسوية العربية من حركة غير واضحة المعالم والأشخاص والأهداف إلى فوضى حقيقية عبثية، لجأت إلى تشكيل رموز لا ترقى لأن تكون رموزاً، فلم يعد لها إلا مواقع التواصل الاجتماعي والشاشات للظهور، وأصبحن يعتمدن على المناشير العاطفية لحشد الفتيات وتَوجيههن في مجموعات افتراضية نسائية، التي تتميز بأفكار النسوية الخفيّة والتي يَغيب عنها الرقيب والحسيب، وهي البيئة الحاضنة للسموم المتبنية لفكر واحد والمعارضة للمخالف والمُعينَة للفتيات على التمرد.

تأثير العبثية النسوية

بالرغم من هذه الفوضوية، إلا أن احتلال هؤلاء الرموز لوسائل التواصل الاجتماعي والتضارب الكبير بينهم بالأفكار والآراء، كان له تأثير قوي ليوجد تَصوّراً يوحي بنَسونة جميع النساء، وأنّ العقلانية تَغيب عند عامتهم، حتى يعتقد المرء أنه لا توجد امرأة في فضاء العالم الافتراضي تتحدث بحكمة وحيادية عن النساء، ولا تستخدم العويل وإلقاء اللوم على الآخرين وتُجيِّشُ لحرب ضد الرجل، ولكن ببحث أكثر في ذلك الفضاء تتضح الصورة بشكل أفضل، فنجد أيضاً بعض الفتيات الرافضات لفكرالنسوية، ولكن متطلبات الإعلام والظهورعلى وسائل التواصل الاجتماعي المخالفة لأحكام الشريعة من جهة المرأة، وسياساتهم المُقيِّدة، تجعل ظهور الفتيات المُخالفات خَافتاً مُقيّداً بالكتابة أو محدوداً بمجموعات نسائية صغيرة، بالإضافة إلى قلة الدعم المقدم لهن سواء ماديا أو معنويا، والذي لا يضاهي قوة الدعم للطرف المخالف، ونزيد على ماسبق الخوف من الحرب الشعواء التي تقام من النسويات على الناقد لحركتهن.

ومن المؤسف أن ظهور الصورة الواحدة هذه للنساء لعقد من الزمن مع مُخلَّفات أفكار النسوية قبل تَشَتُّتِهم، وضعف أسس العقيدة الإسلامية عند الكثيرات، أثّر تدريجيًّا وبشكل كبير على الفتيات لتظهر الأزمة الحقيقية مؤخراً في فكر كثير منهن، خاصة بعد موت نوال السعداوي، حيث رأينا الازدواجية في أجلى صورها بإظهار الحزن على من رفضت الإيمان بربهم ورب العالمين، وكَثُر منهن من تُهلِّل لكل من يمجد المرأة بصرف النظر عن خلفيَّته الإيمانية ومُراده من خطاباته.

نوال السعداوي

أسلمة النسوية وتفاقم المشكلة

ولا أعني بهذا النسوية الإسلامية أو المُحافِظة كما تسمى والتي تنادي بإيجاد تفسير جديد للقرآن فقط، ولكن للإشارة أيضًا إلى محاولة جذب الفتيات لدفعهنَّ بعيدا عن الأفكار الغربية بالتركيز على بعض الأحاديث والشواهد الإسلامية، التي تتحدث عن المرأة وقصص الصحابيات المجاهدات والعاملات، ويتجاهلن أحاديث وآيات أخرى عن أهمية التربية وطاعة الزوج والأحكام الأخرى، فهذا مما يزيد الفتاة حيرة وشكًّا لأن خِطَابها يدور في فلك النسوية وينطلق من الطريقة الغربية في تفسير الأمور وتحديد الأولويات، ويبقيها في دائرة التمركز حول النفس والتمجيد بالأنثى حتى أَنسَوها أنها أَمَة لله سبحانه وتعالى ستقف أمامه عز وجل يوم الحساب وستحاسب وستُسأل عن كل قول وفعل وتقصير في حق الله والعباد.

وأما التذكير بحكم شرعي منسيٍّ أو مَسكوت عنه يَخصُّ المرأة، وعلى الرغم من إيجابيته، إلا أن الاكتفاء بذكر الحكم مع عدم التفصيل والشرح أو محاولة مقاربته لعقول الفتيات يزيد الأمر تعقيداً، ويُحوّل الحُكم إلى ألعوبة في أيدي النسويات يفسرنها كما يَشأن[8]، وتُعزى المشكلة في الغالب، بعيداً عمن يكون مستقصداً للتضليل والتشويش بذكر الحكم مَنقوصاً، إلى الفجوة الكبيرة بين الأجيال، فعندما كانت البديهيات والمُسلَّمات عند الجيل السابق ليست محل نقاش، فقد مُسحت عند الجيل المعاصر وتَبدَّلت، لذا بات من الأفضل عند التكلم عن الأحكام الشرعية العامة أو المختصة بالمرأة، مراعاة التغيرات الحاصلة والتطرق للبديهيات والشرح والتفصيل والإلمام بكل الجوانب والأسئلة التي من الممكن أن تخطرعلى بال الفتيات والنساء حتى يُسدّ كل ثغر أمام المُفسدين.

نقيضان لا يجتمعان

الباحث في فكر النسوية يوقن تماما أن أبسط مبدأ فيها لا يمكن أن يجتمع مع الإيمان بشريعة الله، استحالة اجتماع نقيضين متنافرين كالكفر والإيمان، والفتاة المسلمة التي تحمل أفكار النسوية، والكثير منهن غير مدركات لذلك، تعيش بفكرين متناقضين وبصراع حقيقي بين التزامها بأوامر ربها وبين أفكار من المجتمع والمحيط تُفرض عليها، ستصل إلى مرحلة ستنبذ فكراً من أحدهما لتصل للطمأنينة وإما ستنبذ الدين وإما النسوية، وهناك فتيات مؤمنات بالله تأثرن بهذه الأفكار دون معرفتهن بالمشكلة الحقيقية، وبمجرد توضُّح الأمور لهن سيحاولن جاهدات الاقتداء بأوامر ربهن.

مناسبة طريقة الخطاب الديني للمتغيرات

إن حالة التشتت التي تعاني منها النسوية العربية وسهولة إسقاط رموزها مع أول نقاش منطقي عقلاني، وأيضا عدم وجود قبول لهم بين الناس بسبب دعوتهم للفجور والانحلال يجعل مهمة نقدهم وكشف ضعفهم أكثر سهولة، أما النسوية الإسلامية أو المُحافظة التي تشكلت كردّ فعل على النسوية العربية المتقمّصة للغربية، فهي أخطر أثراً وأكثر قبولاً من الفتيات، ولذا لا بد من العودة إلى التأصيل الممنهج في التكلم عن قضايا المرأة وتصحيح المفاهيم ليكون هناك حد فاصل وواضح في تمييز الحق من الباطل[9].

ويتوازى تبيان خللهم وردّ شبهاتهم مع وجود خطاب إسلاميّ موجه للمرأة المسلمة، منطلق من كونها مخلوق خلقه الله وأعطاه نعمة العقل ليَزِن الأمور بنفسه وفرض عليها العبادة والتسليم لأمره، بعيدا عن التعظيم والتمجيد لمجرّد أنها إمرأة وعن مقاربة التفسير والتبيان من الأهواء.

ومن ثم مناسبة طريقة طرح هذا الخطاب للمتغيرات الحاصلة وتقريبه للواقع[10] فعلينا أن نقر بأن نظرة فتيات الجيل المعاصر للأمور ومفاهيمهن قد تغيرت، ولهذا تُقابل كل حركة مضادة للنسوية بهجوم عنيف حتى من الفتيات والنساء المسلمات، وليس ذلك بالضرورة انتصارا للنسوية، ولكن بسبب أثرها المُتجذِّر، فالكثير من الفتيات اليوم لا يقبلن بزواج قبل إنهاء الدراسة الجامعية أو يحددنه بسن معينة، ويَستهجنّ الأمر بطاعة الرجل ويَرين الأمومة عائقا لنجاحهن، فلم يعد الدين هو المعيار والمنطلق.

يجب ألّا تستهين المرأة بدورها في نبذ هذا الفكر وتفنيد الشبهات وتقريب الخطاب للفتيات، والمساهمة في تعزيز مفهوم عدم النظر للواقع بعيون وسائل التواصل الاجتماعي وبأنه ليس المكان الذي يؤخذ منه العلم، وإيجاد حلول لهن من وحي الإسلام ومساعدتهن في تحقيق الطمأنينة في حياتهن والتقرب إلى الله بأي طريقة تجيدها فالمرأة أمٌّ ومعلمة ومربية، فيكون دورها مساعداً مناصراً للرجال الذين لهم الصدارة في هذا الخطاب كونهم الأقدرعلى الظهور، وإن لم يكن الخطاب ذا أثر كبير بين الأجيال المعاصرة فسينقذ فتيات الجيل القادم بإذن الله.


[1] سوزان فينكر – Suzanne Venker. .أثارة

[2] الهيثم زعفان. (2015). ظهور الحركات النسوية في العالم العربي ومشروع تحرير المرأة، التقرير الاستراتيجي الحادي العشر (الصفحات 121-134). مصر: مركز الاستقامة للدراسات الاستراتيجية.

Ameri, د. س. (2019). محاضرة: الغزو الفكري وسبل مواجهته. youtube: رواسخ.

[3] باحثات.مركز باحثات لدراسات المرأة.مقال:الإعلام والأسرة من https://bahethat.com/report/r23465/

[4] د. عبد الله العابد أبو جعفر.(8 9, 2008). المسلسلات المدبلجة..آثار تربوية وثقافية مدمرة. الجزيرة.

[5] أ.أحمد دعدوش. (22 4, 2019). صناعة المرأة الرمز. السبيل. https://www.youtube.com/watch?v=3RtBaZH1jU8

[6] CHAUDHARY, S. (2021, july 23).Idea of Arab Feminisim. the citizen.

[7] المصدر 3.مستقبل الحركة النسوية العربية في ظل ثورات الربيع العربي.

[8] كمثال انتشر: القول بعدم وجود نص يُلزم المرأة بـأعمال المنزل من دون تفصيل وشرح، كان كافيا ليخلق مشاكل عديدة في الأُسر.

[9] بدأت المبادرات الإسلامية الموجهة للمرأة وبوسائط مرئية ومكتوبة ومسموعة وبخطاب تأصيلي متوازن.

[10] سارة سجود طالب.(13 مايو,2020). تأملات في سمات الخطاب النقدي لقضايا “الفيمينزم”. المحاورون.

البراءة الساذجة بين الدعاية وانتكاس الفطرة

قد تكون العيون ظاهريًّا بريئة متحلّية بملامح الطيبة كما صوّرتها أفلام هوليوود وشبكات الإنتاج الفني، وجعلت من بعض العيون أيقونة في العديد من الأفلام والقصص، مثل عيون البطلة في مسلسل سوبرمان الأشهر “سمولفيل”؛ إلا أنه من الواجب علينا التوقف عند هذا، فقد يكون خلف ذلك كله شر عظيم جرّ ويلات على الآلاف من النساء.

مضت أربعة أعوام منذ الفضيحة المدوّية للمنظّمة السرية في NXIVM ووضع الممثلة الأمريكية الشهيرة (أليسون ماك) رهن الإقامة والحجز في منزلها بكفالة 5 ملايين دولار إلى حين البت في قضية انتمائها للمنظمة التي كانت تدّعي تطوير ذات النساء ومساعدتهن على تنمية قدراتهن في التغلب على مشاكلهن.

لقد كان من الملفت أن شعار المنظمة هو (العمل من أجل عالم أفضل) إلى جانب تعريفها نفسها بأنها (جماعة تسترشد بالمبادئ الإنسانية التي تسعى إلى تمكين الناس والإجابة على أسئلة مهمة عن معنى أن تكون إنسانًا)، لكن حقيقة الأمر أظهرت أن المنظمة داخليًّا كانت أشبه بطائفة لها طقوس يحكمها القائد أو السيد على مجموعة المشتركات مع استعبادهن جنسيًّا.

ما هي منظّمة NXIVM ؟

بدأت هذه المنظمة على يد قائدها كيث رانيير في 1998 وانضمت له أليسون ماك في وقت لاحق فأصبحت أعلى نائبة له، ورأس حربة في التآمر على النساء وتصيُّدهنّ للتجارة بهن ودفعهن لممارسة أفعال مشينة ومنافية للأخلاق والإنسانية.

كيث رانيير مؤسس NXIVM

كيث رانيير

قبل أيام فقط صدر قرار بسجن أليسون لثلاث سنوات فقط، وذلك بعد أن اعترفت بذنبها وقدمت أدلة على تورط رانيير –حكِم عليه أيضًا بقضاء 120 عامًا في السجن- الذي فرت معه للمكسيك عندما افتضح أمرهما في 2018 من قبل إحدى الجرائد التي نشرت اعترافات ضحية من ضحايا المنظمة.

لا ينتهي الأمر ههنا فحسب، بل اعترفت ماك بمحاولتها تصيد الناشطات في الحركة النسوية وتوظيفهن من خلال التغريدات على موقع تويتر من داخل وسطها الفني وخارجه، وأبرز هؤلاء كانت بطلة هاري بوتر إيما واتسون. إن الرسائل التي شاركتها كانت تشير فيها إلى المنظمة بأنها حركة نسوية تهدف لتقديم نسخة أفضل منهن. إلا أن الأمر في واقع الحال لم يكن إلا محاولة من إليسون لتجريد النساء من إنسانيتهن، ودفعهم لارتكاب أشنع الأعمال الجنسية كالبهائم مع رانيير القائد وأشخاص آخرين لا يعلمون من هم بسبب إغلاق أعينهن أحيانًا، وفي أحيان أخرى مع رجال يتم إدخالهم على أساس أنهم زملاء في الدورة التدريبية.

الفكرة هنا أنه كان على المشتركات تقديم الكثير من التضحيات من أجل نيل ثقة القائد والتقرب له، بما في ذلك مشاركة معلومات عن أقاربهن وأصدقائهن، ولو من خلال صورهم العارية ومشاركتهم أرصدة حساباتهم. وقد كان الأسوأ من ذلك كله، الدعم الكبير لهذه المنظمة من قبل مشاهير وأثرياء كثر، مثل المليارديرة كلير برونفمان التي موّلت رانيير على مدى عدة سنين في تجارة تهريب البشر والجنس القسري مع السادية الفظيعة.

الوقوع في حبائل المنظمة

المؤسف في الموضوع كله، أن غالبية الضحايا من النساء كنّ على قناعة تامة ببرامج المنظمة التدريبية التي يمتد بعضها إلى 16 يومًا بمعدل اثنتي عشرة ساعة يوميًّا، مع كلفة اشتراك شهري قدرها 5000$، بهدف تحريرهن من الخوف والكآبة العاطفية، وتقويتهن على التعامل مع مشاكل الحياة بشكل أفضل.

لقد كان الوصول إلى العدد الكبير من النساء معتمدًا على تسويق فصول تدريبية (كورسات) في النظريات الأخلاقية والبرمجة العصبية والتنمية البشرية وغيرها من البرامج السيكولوجية في التعامل مع الألم والشفاء الذاتي وفهم الحب.

بالطبع فإن هذا ما كانت تظهره تلك الإعلانات، إلا أن الواقع خلف الكواليس كان مختلفًا، فقد كانت نساء الجماعة تابعات لأسياد متعددين يحكمهن جميعًا القائد، كما كن يموّلن بشكل خاص حفلة عيد ميلاد القائد السنوية في أفخم الأماكن ويتنافسن على ممارسة الطقوس في حضوره، وتوشم أجسادهن حرقًا بالأحرف الأولى من اسم القائد، علاوة على أنه يُفرَض عليهن تناول طعامٍ شحيح السعرات الحرارية؛ فالقائد يفضّل النحيفات!.

كل هذا -وما خفي كان أعظم- لم يفتضح أمر هذه المنظمة السرية بالرغم من كثرة الضحايا، والسبب أن الكثيرات منهم تمّ ابتزازهن فيما بعد بكثير مما أقدمن عليه، فدُمّرت حياتهن ولم يستطعن الخروج عن صمتهن، ومن ثمّ فضّلن المعاناة من دون البوح بشيء، إلى أن نشرت إحداهنّ تفاصيل تجربتها مع جريدة نيويورك تايمز، فانقلبت حياة طغاة المنظمة وسارعوا للفرار قبل أن يقبض عليهم.

اعتذرت أليسون ماك لضحايا المنظمة في رسائل خاصة عما فعلته، كما اعتذرت كلير برونفمان عن تمويلها قائلة إنها لم تقصد إيذاء أحد وطالبت بتخفيف عقوبتها كونها بعيدة عما كان يدار داخل NXIVM ، لكن أي من ذلك لن يشفع لفكرة تآمر النساء على النساء، فهو أسوأ ألف مرة من تآمر الرجال على النساء.

دعوى تمكين المرأة.. على هامش الفضيحة!

العجيب في هذه الفضيحة التي تضرب الحركة النسوية ومنظري الإنسانوية، طريقة تناول الخبر في تعميم الضحايا من المشاركين على الرجال والنساء، مع أن الغالبية كن من النساء. وأيضًا الإشارة لهذه المنظمة السرية مرارًا بأنها كمنازل طوائف العبادة الدينية المتشددة، من حيث تشابه الابتزاز والاستغلال للنساء ومعاملتهن كعبيد، إلا أنّ رانيير وماك لم ينظّرا لأيّ دين أو تقديس أي رموز دينية، بل كان الأمر على العكس من ذلك، فقد طالبا المشاركات التحرر من كل شيء يحفظ حياء المرأة وخجلها، ويأمران بالتركيز على إنفاذ الشهوات لتحريرهن من سيطرة عواطفهن المكبوتة في الوقت الذي يستعبدن لأجل نزوات الآخرين دون أن يدركن ذلك.

إن كانت هناك وسيلة واضحة بين ثنايا أوراق القضية لإقناع المشاركات بذلك فلم تكن عبر الأديان، بل كانت عبر خطاب تمكين المرأة واعتناق الإنسانوية طريقة عيش بديلة لا تحكمها التشريعات الدينية؛ وهذه نقطة خطيرة لأنها تضع الخطاب النسوي المتشدّد في نفس الميزان مع التشدد الديني، أي أن العلة لم تكن يومًا في الدين بل في التشدّد وتحريفه والتجارة به لأجل مصالح شخصية. وهو الحال ذاته في النسوية المتشدّدة من حيث الانقياد الأعمى وراء المنظرين لها. وهو ذات الأمر في التسامح الإنسانوي المبالغ من حيث مساواة الجلاد مع الضحية، وتقنين الكثير من الممارسات على أنّها حرّيّات شخصية بدعوى عدم الإضرار الظاهر بالآخرين.

إن هذه القضية تطرح تساؤلات كثيرة على الشطح الذي اتخذته الحركة النسوية سبيلًا في خطابها قبل أن تصل نتائجها لمثل هذه الفضائح الجليّة في ظاهرها دون الحاجة للخوض في مضمونها. أي أن الخطاب النسوي لو كان معتدلًا اليوم، لم يكن استدراج النساء لمثل هذه المنظمة ونزع حيائهن كاملًا بالأمر السهل. ولو صحّت هذه الفرضية، فذلك يعني أن الخطاب الديني للمرأة والمتهم في بعض تشريعاته وتفسيراته من قبل النسويات لهو خطاب معتدل منصف يراعي الحقوق ويحفظ النفس بما يتوافق مع فطرتها؛ الأمر الذي يغني عن الحاجة للحركة النسوية من الأساس.

أهمية المرجعية الثابتة

إن تبسيط جميع الأفعال على أنها حريات شخصية لا تضر الغير، يجعل المرء عرضة للتغييب العقلي في فهم طبيعة حريته أمام الجميع وكيف تصبح حريته سلسلة حول رقبته يقاد بها إلى حيث يرغب الآخرون.

وفي هذا السياق يجب القول إن كان في الدين تقييدًا لبعض الحريات الشخصية من باب دفع الضرر عمومًا، فذلك في الحقيقة يهدف لتحرير الشخص من مكامن تقييد الآخرين والإضرار به أولًا، وهو ما حدث فعليا مع الضحايا من نساء المنظمة كما اتضح في هذه الفضيحة، حيث إنه لا يمكننا إغفال مثل هذه القضايا وتناولها بمعزل عن الأسباب المؤدية لها.

وبالمثل فإنه هذه الجرائم لو كانت مرتبطة بجماعات دينية، فبالتأكيد ستنهال     الاتهامات والتعليقات المستنكرة للنصوص الدينية قبل النيل من المجرمين أنفسهم. وحريٌّ بنا أن نفهم التوجهات الخفية في جميع الدعاوي الضالة، خاصة عندما تتعارض مع الدين السماوي.

إن الإنسان لن يفهم نفسه والمغزى من وجوده دون عون، وهذا العون -قطعًا- لن يأتي من إنسان آخر جل همه تلبية رغباته وأهوائه.

 

 

 

تسرب الأجندة النسویة إلى المجتمع الإسلامي عبر الأیقونات النسویة

لا یخفى على ذي عین تغلغل الخطاب النسوي في المجتمعات حول العالم كله، أما في مجتمعنا الإسلامي الذي ما زال یقاوم رغم الكثیر من الھشاشة والضعف، فإن الخطاب النسوي قد وجد العدید من الآذان المصغیة والكثیر من المريدين والمریدات، وتمكّن من بسط سطوته على كثير من مظاهر حیاة المرأة المسلمة والمجتمع المسلم.

وحتى نفتح ذھن القارئ على الوعي والحذر من الخطاب النسوي، الآخذ في الاندماج مع كُل الخطابات والتحركات الموجھة نحو المرأة؛ فإننا سنناقش في ھذا المقال كیفیة تغلغل خطاب النسویات في المجتمع الإسلامي، عبر إحدى الآلیات المھمة، وھي تصدیر وتلمیع الأیقونات النسویة.

تاریخ النسویة

كانت بدایات الحركة النسویة في مطلع القرن الحدیث في أوروبا، إذ سعت العدید من النساء إلى رفع الظلم الاجتماعي والدیني والسیاسي الواقع علیھن، وكان ھذا التحرك في أغلبه ردَّة فعل، فلم تكن تلك البدایات تأخذ شكل الحركة المنظمة، وظلَّ الجدل قائمًا على صحة تسمیتھا بالنسویة حتى بدایات القرن الثامن عشر، حيث لم تشھد تلك الفترة تحسّنًا یُذكَر في وضع النساء، لكنھا أصبحت تمھیدًا لما جاء بعدھا.

بدأت الموجة الأولى للحركة النسویة في نھایات القرن التاسع عشر وبدایات القرن العشرین؛ إذ ركّزت على اكتساب الحقوق القانونیة والسلطة السیاسیة وحقوق الاقتراع والتصویت.

تلتھا الموجة الثانیة في ستینات وسبعینات القرن العشرین، التي سعت للمساواة المطلقة بین الرجل والمرأة، ثم الموجة الثالثة في تسعینات القرن العشرین، والتي ركزت على ضم شرائح أكبر من النساء من مجتمعاتٍ وفئاتٍ مختلفة مثلَ ضم حقوق المثلیات.

تسرب النسویة للعالم الإسلامي

إن أكثر ما تسربت النسویة عبره إلى المجتمعات المسلمة ھو خدعة حقوق المرأة وتحریر المرأة، ومما لا شك فیه أن المرأة الغربیة ذاتھا لم تحقق أي مكاسب، سوى استعبادھا واستقلالھا بما لا یناسب فطرتھا وطبیعتھا، فكان أن أقیمت العدید من المؤتمرات العالمیة في شأن المرأة، ومؤتمرات السكّان التي تتحدّث عن المرأة والأسرة بشكل مباشر وغیر مباشر.

كما صدرت المعاھدات والمواثیق والاتفاقات الدولیة مثل: اتفاقیة “سیداو” الشھیرة والمُسماة بجملة رنّانة هي “اتفاقیة القضاء على كافة أشكال التمییز ضد المرأة” لكنھا في الحقیقة تعمل على تشویه الفِطرة وخدمة النظام العالمي والأجندة النسویة المشوھة.

آلیة المؤتمرات والمعاھدات تخضع لسلطة النظام الحاكم، الذي یخضع لسلطة النظام العالمي والأمم المتحدة، وعادة ما تقاومھا المجتمعات لأنھا آلیات تبدو واضحة -نوعًا ما- في سعیھا لتفكیك المجتمع المسلم، فنجد الاعتراضات والمظاھرات تُقام ھُنا وھناك حین تشرع بعض الدول الإسلامیة في القیام بالتوقیع أو تنفیذ أجندة تلك المؤتمرات.

لكن الآلة الإعلامیة ھي الأخطر، لنعومة السلاح الذي تحمله ولوجودھا في كُل البیوت، ولكونھا تشكل منبرًا لتصدیر أیقونات النسویات في البلدان الإسلامیة، وتطبیع المجتمعات مع خطابھن وإیصال الخطاب النسوي عبرھن إلى كل بیت مسلم من خلف تلك الشاشات.

تفتح أبواب المؤتمرات والمجالس لمجموعة مختارة من النساء اللواتي یحملن الفكر النسوي، سواء حملنه بوعي منھن أو بدونه، فمنھن من اتخذت من النسویة فكرًا وعقیدة وأصبحت تدافع عنھا بكل شراسة وتنشر أفكارھا، وأخریات یسرن تحت مظلتھا دون وعي منھن -على أحسن تقدیر- وكونھن نساءً نشأن في المجتمعات المسلمة ذاتها، وعشن تجارب المرأة المسلمة في تلك المجتمعات، فھن أقرب لإیصال الخطاب النسوي وأوقع في النفوس الضعیفة.

تأخذ وسائل الإعلام التابعة للنظام العالمي على عاتقھا فتح أبواب الشھرة لھن، إذ یتم تصدیرھن كقدوات للمرأة المسلمة وقائدات لركب التغییر والعولمة، لتَلْمَعَ العدید من الأسماء في العالم العربي والإسلامي لنساء بعضھن یحاربن الدین بصورة مباشرة، وبعضھن الآخر یسمین أنفسھن منتمیات للإسلام، لكن لا مشكلة لدیھن في قدح ونقد كلام ﷲ وشرعه، وھدم القیم، والحرص على أسلمة كُل ما ھو غربي، والصدع بتبجیل معاھدات حقوق الإنسان وأیام المرأة العالمية.

دعم لا محدود

مع كُل الأحداث الكبیرة الساعیة للتغییر التي تعصف بالعالم الإسلامي كالثورات والحروب، یسارع النظام العالمي الحاضن للفكر النسوي إلى تلُّقفِ ھذه الفئة من النساء دون غیرھن ليستديرَ مركِب التغییر نحو شاطِئه، فنرى احتفاءه بخروج النساء في مواكب المظاھرات ومواجھتھن للرصاص والقمع، لكن ھذا الاحتفاء عادة ما یُخفي تحته أجندة تختلف تمام الاختلاف عن الأسباب التي دفعت النساء للخروج ومواجھة القمع، وفي النهاية يختار النظام العالمي لذراعه النسوية تلك الشخصيات.

بعد الثورة في مصر عام 1919م، والتي أعادت سعد زغلول للحكم، برز اسم  “هدى شعراوي” كرائدة نسویة تدعو لخلع الحجاب والتحرّر منه، وفي مصر أیضًا نجد الإعلام قد بسط سجادته الحمراء للنسویة المثیرة للجدل”نوال السعداوي” التي مثلت حالة نسویة فریدة وشاذة، ورغم آرائھا الغریبة والمتناقضة مع الواقع والدین الإسلامي ؛ إلا أن أطروحاتھا كانت تُقدّم على أنھا نضالٌ مستمرٌّ لأجل المرأة في وسائل الإعلام.

هدى شعراوي (جهة اليمين) ونوال السعداوي (جهة اليسار)

وفي باكستان نجد الفتاة الباكستانیة “ملالا یوسفزي” قد اكتسبت شھرة عالمیة بین لیلة وضحاھا، والتي یمكن تصنیف بدایة طریقھا تحت قائمة النساء اللواتي تُمرر أھداف النظام العالمي عبرھن دون وعي منھن، فھي لم تكن رائدة نسویة، بل ذكرت في مقابلة لھا أنھا اعتقدت في البدایة أن الحركة النسویة “كلمة مخادعة” لكنھا بعد ذلك أصبحت تعتقد أنه على كل شخص أن یصبح نسویًا.

ما حدث لملالا من باب الصدفة كان فرصة لم یضیّعھا النظام العالمي، فأصبحت أیقونة وتحولت بلمح البصر إلى ناشطة ومدافعة عن حقوق الطفل والمرأة، وھي لم تتجاوز بعد سن المراھقة، لكن حین ینظر الناظر إلى حال النساء في أفغانستان، یرى أن تلمیع الأیقونة ملالا لم یأتِ بخیر على ذلك المجتمع، فتدخل البعثات الأممیة تحت ذریعة تمكین النساء والترویج للمرأة الأفغانیة كأمة مُضطھدة زاد من تعقید الوضع.

في الیمن بعد الثورة الیمنیة نرى الدعم یحیط بتوسل كرمان دون غیرھا من النساء. وفي سودان ما بعد الثورة، برزت صورة لفتاة تُدعى “آلاء صلاح” ترتدي الثوب السوداني الأبیض، واقفة على ظھر سیارة تُردد بعد أھازیج الثورة، ورغم أن الكثیر من الفاعلین في الثورة قد انتھى دورھم بعد انتھاء الحِراك على الأرض؛ إلا أننا نجدُ أن طریق الإعلام والمؤتمرات الخارجیة قد فُتِح أمام ھذه الفتاة، فألقت بيانًا في الأمم المتحدة، وكانت آخر مشاركاتها في مؤتمر باریس لإعفاء دیون السودان.

توكل كرمال (أعلى اليمين)، ملالا یوسفزي (أعلى السيار)، آلاء صلاح (الأسفل)

ولا یھمنا ھُنا إن كان حراكھا مع نغمة النظام العالمي وأجندة الحركة النسویة بوعي منھا أم لا، لكن ما نرید أن نذكره ونوضحه، ھو سعي النظام العالمي بذراعه النسویة إلى اختیار أیقونات نسائیة مثیرة للجدل، أو لا تحمل رسالة معینة ولا ھدف، وإن كُن یحملن فھو ھدف یصُب في مصلحة الحراك النسوي والنظام العالمي الجدید، ولا یصب في مصلحة الإسلام – المنبع الرئیسي للمرأة المسلمة- بقدر ما یبعدھا عنه ویشوھه، ودوننا ما آلت إلیه حال النساء في العالم الإسلامي.

لن نجد أبدًا النظام العالمي والحراك النسوي، یتحدث ویمجد ویمنحُ الجوائز ویفتح أبواب الإعلام، للنساء اللاتي یُضربن ویُحبسن ویُقتلن في فلسطین، أو یُمنَعْنَ من دخول المسجد الأقصى، أو اللاّتي یُحظر علیھن ارتداء الحجاب والنقاب في فرنسا وبعضٍ من دول أوروبا، ولن نجده یتلقّف الفاعلات ضد الظلم في مجتمعاتھن إن كُنَّ یتخذن الوحي كمصدر وموجه لحراكھن.

كیف السبیل إلى القدوات الحقیقیة؟

الآلة الإعلامیة التي تبرز ھذه الأیقونات في الغالب، لن یستطیع المجتمع المسلم وأدھا أو تغییرھا ببساطة، كما أنه غالبًا لا یملك الأمر في إلغاء سیاسات الحكومات التابعة للنظام العالمي بكل سھولة، والمقصود الأساس بالتدمیر ھو الأسرة المسلمة متمثّلة في إحدى أھم لبِناتِھا وھي المرأة، لذلك فالسبیل للنجاة یأتي عن طریق الأسرة المسلمة نفسھا، ومن یحملون ھم الأمة من مربّین ومعلمین ودور تعلیمیة ومؤسسات إعلامیة وغیرھا.

عبر إحیاء التراث الإسلامي ككل والمتعلق بالمرأة على وجه خاص كجزءٍ من الحل، وإبراز القدوات النسائیة الحقیقیة سواءً قدیمًا أو حدیثًا، بدءًا بالصحابیات رضي ﷲ عنھن ومن سبَقْنَھُن كمریم بنت عمران وآسیا بنت مزاحم، وصولًا إلى المعاصرات اللواتي وفّقھن ﷲ لطریق الحق، بتوضیح أدوارھن وقصصھن وأخبارھن، وتعریف الأجیال وملء الواقع بھن ولو في إطار الأسرة الصغیرة، لأن التغییر الحقیقي والعودة للمنبع الأصیل لا یحدث فجأة، لكنه ینشأ تدریجیًا عبر أیام متتابعة وأجیال واعیة ونساء ورجالٍ یتخذون موردھم من أصالة دینھم وسماحته.


المصادر

  • إكرام بنت كمال بن معوض المصري، عولمة المرأة المسلمة “الآلیات وطرق المواجھة”، مركز باحثات للدراسات المرأة، الریاض، 2010م/1431ھـ، الطبعة الأولى.
  • د. سامي عامري، العالمانیة طاعون العصر، مركز تكوین للدراسات والأبحاث، 2017م/1438ھـ،الطبعة الأولى.
  • أحمد دعدوش، مستقبل الخوف، مؤسسة السبیل، اسطنبول، 2021م/1442ھـ، الطبعة الأولى.
  • مثنى أمین الكردستاني، حركات تحریر المرأة من المساواة إلى الجندر، دار القلم للنشر والتوزیع،القاھرة، 2004م/1425ھـ، الطبعة الأولى.
  • محمد أحمد إسماعیل المقدم، عودة الحجاب، دار طیبة للنشر والتوزیع، الریاض، 2006م/1427ھـ،الطبعة العاشرة.
  • (بيان آلاء صلاح في الأمم المتحدة) https://www.unwomen.org/en/news/stories/2019/10/speech–alaa-salah-at-the-open-debate-on-wps

 

كيف تكونين أنثى قوية؟ وما القوة التي تحتاجها المسلمة؟

بينما ما يزال غزو الأيديولوجيا النسوية مستمراً وواضح الأثر في مجتمعاتنا، نجد اليوم على النقيض من الذين تبنّوا النسوية وسعَوا للانطواء تحت جناحها الخبيث، فريقًا آخر من الفتيات بتن يخشين التشبّه بأي صفة تضمّنتها دعاوى النسوية خوفاً من محض الاقتراب منها أو تقليدها، والإشكال في ذلك يكمن في أنّ النسوية نادت بشعارات مبهمةٍ وعامة كثيرة لا يتوجّب على المسلمات تجنّب جلّها والخوف منها لمحض أنّ النسوية رفعتها خداعاً للنساء واستدراجاً لهنّ إلى صفوفها.

في هذا المقال أتحدث عن صفة القوة التي ينبغي أن تمتلكها المسلمة؛ إذ رغم رفضنا للنسوية، إلا أن رفعها لفكرة القوة وتصويرها للمرأة المثالية على أنها “strong independent woman”؛ لا ينبغي أن يرهبنا نحن المسلمين من القوة، إذ هو مفهوم نحتاجه في نساء ورجال أمتنا، كما يجدر أن ننادي بامتلاك القوة المنضبطة التي يحبها الله سبحانه؛ إذ إن (المؤمن القويّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير) [أخرجه مسلم]. ولتكون القوة التي نتحدث عنها هي تلك التي يرضى الله عنها، وبالتالي يجب أن تنضبط وفق مراده سبحانه، فلا نقبل منها ولا نرفض إلا ما ذُكر في ضوء وحيه، ولا نسعى للاتصاف بها إلا تقرباً إليه وسعياً لنيل محبته.

من أنتِ في ميزان الوحي؟

قبل الحديث عن القوة المطلوبة في الأنثى وسُبُل تحصيلها، لنعد خطوة إلى الوراء باحثين عن هويّة الفتاة المسلمة وتعريفها في ضوء الوحي المنزّه الشريف. فنحن إماءٌ لله أولاً، خلقنا تبارك وتعالى والذكورَ من نفس واحدة لتكون خليفةً في أرضه، وهي تلك النفس المخلوقة من طينٍ لازبٍ، حيث نُفِخت الروح فيها بغير اختيار منها، ثم إن الله استرعاها في الأرض وابتلاها وكلّفها، ووعدها بعد كلِّ ذلك رجوعاً إليه ومحاسبةً على ما كان وأجراً بحسب ما أمَر وما عملت في هذه المدة التي حدد لها على وجه الأرض. قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].

ولتلك النفس البشرية صفات عامةٌ يشترك فيها الذكور والإناث كما ورد في كتاب الله وعلى لسان نبيه، وكما يقتضيه كونها مخلوقةٌ مملوكةٌ لمولاها، لا تملك ذاتها ولا نشأتها ولا مماتها، ومن ذاك النقص والحاجة والضعف والفقر، وكذلك النسيان والعجلة والهلع وحب الشهوات وكثرة الجدل، ومع وجود هذه الصفات الأصيلة في النفس فإن تزكيتها بتطهيرها من الكفر والمعاصي وإصلاحها بما يرضي الله، وتنقيتها من الذنوب ورفعها بالعلم هي طرق النجاة ومفاتحه، كما بيّن سبحانه إذ قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9].[1]

أما فيما تختص به المرأة المسلمة عن الرجل بعد كونها شقيقةً له مكلّفةً ومسؤولةً مثله، فإنَّ ذلك يتضمّن بعض الصفات المتعلقة بالأنوثة، والاختلافات التي لديها نفسياً وفيزيولوجيًّا عن الرجل ليكونَ كلٌّ منهما مكمّلًا للآخر ومتممًا له، بلا تقابل أو تنافر، ولتكون الحاجة الفطرية الطبيعية ممكنة بينهما، كما خلق الله الخلق جميعاً وفق هذه الثنائية {ومن كلِّ شيءٍ خلقنا زَوجين} [الذاريات: 49][2]، ولله في ذلك حكم كثيرةٌ يظهر بعضها في حدوث السكن والمودة والرحمة بين الزوجين وكذلك الرغبة في دوام الالتقاء وضمان استمرار الحياة.

ومع وجود الاختلافات، إلا أنّ الخطاب القرآني للمرأة انطلق من مبدأ الخطاب الكلي للإنسان منذ كان خطاب الوجود الأول للنفس الإنسانية، فكان التكليف الكوني العجيب بالأمانة التي حملها الإنسان بعد أن أشفقت منها السماوات والأرض والجبال، فتصدّر الإنسان، وخوطب باعتباره عاملاً سواء كان رجلاً أو أنثى لا فرق بينهما في المسؤولية الوجودية من حمل الأمانة الكبرى {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بعضكُم مِّن بَعْضٍ} [آل عمران: 195].[3] ومن هنا كانت القوة التي يحبّ الله المؤمن المتصف فيها مطلوبة في الذكر وفي الأنثى طالما أنها منضبطة بميزان الشريعة وتسعى لرضوان المولى وحده.

لا يليق بالمسلمة الانهزام!

إن الحديث عن القوة النفسيّة للمرأة ينطلق من كونها فرداً في المجتمع المسلم لا ينفكّ أو ينعزل عنه؛ إذ تحمل في ذاتها صفات المؤمن الراسخ، لا تهزّه نسمة ريحٍ ولا تؤثر فيه كلمة أو شبهة عارضة، فلا يليق بالمؤمنة مثلاً أن تجهل الأحكام المتعلقة بالنساء والتي تحتاجها في حياتها اليومية، ولا يناسبها أن تحمل شبهات لا تعرف ردها ولا تعي خطرها، كما لا يستوي أن تعرف أخبار الموضة وفنون الطبخ وترتيب البيت والعناية بالجمال، وتجهل إجابات الأسئلة التي تتردد في ذهنها كل حينٍ عن مكانتها في شرع الله وخطابه سبحانه لها، وتغفل عن معنى الآيات والأحاديث المركزية في هذا السياق.

مع انفتاح مصادر كثيرةٍ للشكوك والشبهات على النفوس في هذه الأيام، فإن الحاجة لتلك القوة باتت أكبر وأكثر إلحاحاً، خصوصاً والأنثى غالباً ما تكون عرضةً لكثير من التيّارات الفكرية والشبهات العقدية التي تستغل نفسيتها وعواطفها، فهذا يشعرها بالفشل لأنها اختارت عدم العمل خارج بيتها، وذاك ينتقص منها باستخدام حديثٍ لا يفهمه، وذاك يتهمها بالنسوية لأنها بفطرتها الطبيعية لا تحب أن يكون لزوجها زوجة أخرى، والقائمة تطول مما قد يرد على المرأة خلال دقائق معدودةٍ من الإمساك بهاتفها المحمول.

ولما كان الجهل يولّد الخوف، والخوف بدوره ينتج شخصيةً ضعيفةً مهزوزة ومنهزمة[4]، كان طلب العلم أول وأهم طرق الوصول إلى القوة المطلوبة، فالمسلمة التي أكرم الله وتفضل عليها بالإيمان ينبغي أن تعبده سبحانه على علمٍ وفهمٍ وثبات كشجرة عميقة الجذور في تربة الإيمان، ثمرها طيبٌ في كل كلمة تصدر منها وكل فعل، تعرف قدرها في دين الله ولا تثنيها تقلبات الزمان وتغيرات الأحوال عن غايتها والدرب الذي تسلك، فلا تأخذ دور الضحية أمام أمواج الشبهات الهائجة، ولا تقف تنتظر رأي الآخرين بها وتقويمهم لها، إنما هدفها مسدَّد، وعينها مثبَّتة عليه على الدوام، كما وصفها د. فريد الأنصاري: “إنما الفتاة المؤمنة هي التي ترفع راية الإسلام بلباسها الشرعي وخلقها الاجتماعي، فلا تفتنها الأضواء الفاضحة، ولا الدعايات الكاشفة، بل تجاهد في الله من أجل بناء قيم الإسلام في المجتمع من جديد وتسعى لطلب العلم بدينها وتعلّم شرائع ربها، للعمل بها في نفسها أولاً ثم تعليمها لغيرها؛ فكانت مثال الصلاح والتقوى والعفاف، ومنار الهداية لجيلها وللجيل الذي يتربى على يدها”[5].

وقد كان الحرص على العلم ونشره حاضراً جلياً في سيرة أمهات المؤمنين والصحابيات رضوان الله عليهن ومن تبعهن بإحسانٍ كذلك، وقد رَوَت أم سلمة رضي الله عنها: (كُنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوماً من ذلك والجارية تمشُطني فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيُّها الناس. فقلت للجارية: استأخري عني. قالت: إنَّما دعا الرجال ولم يدعُ النساء. فقلت: إنِّي من الناس). [أخرجه مسلم].

كيف نصل للقوة المطلوبة؟

إضافةً لطلب العلم، فإن من المهم معرفة النفس وتقديرها، وفهم مواطن القوة والضعف فيها، انطلاقاً من الوحي أولاً، ثم من التبصّر بها ومراقبتها ودراسة احوالها وتقلباتها، وكذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يحاسبون نفوسهم ويزنون أعمالهم، حتى إن أحدهم يلحظ من ذاته أدنى بعدٍ أو تغيّرٍ أو حاجةٍ للتزكية، وما أجمل ما قام به عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه لما لحظ من نفسه ما يريبه، فدعا الناس أن الصلاة جامعة، ثم قال بعد حمد الله والصلاة على نبيه: يا أيها الناس، لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبضن لي قبضة من التمر أو الزبيب، فأظل يومي، وأي يوم؟ ثم نزل عن المنبر، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن قمّأت نفسك [يعني عبتها]، فقال: ويحك يا ابن عوف! إني خلوت فحدثتني نفسي، قالت: أنت أمير المؤمنين، فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها نفسها[6].

ومن نتائج معرفة النفس تجنب مقارنتها بالآخرين وتقييمها بحسب مكانها بينهم، خصوصاً إن كانت المقارنة دنيوية أو في أمور لا يعلم بواطنها إلا الله، ومع مشاركة الناس كثيراً من خصوصياتهم على مواقع التواصل اليوم، وقدرة أي منا على الاطلاع على أخبار وقصص الملايين ببضع نقرات، فإن ذلك صار أكثر إتعاباً للنفس وأدعى لأن تغلق تلك البوابات عن ذاتها، فرغم أن المرء قد ينشط بالاطلاع على اجتهاد أقرانه، إلا أن جلد الذات بسبب قصورها عن بلوغ ما يفعل غيرها ليس بسبيلٍ صحيح، فالسائرون إلى الله مختلفون فيما يوفّقون له من أعمال، وطاقات كلّ منهم والمسافة التي قطعها في طريقه متفاوتة كذلك، فينبغي توجيه النظرة نحو الاستزادة مما يحب الله من الأعمال، مع اعتبار محدودية النفس وخصوصياتها ليتحول الجلد جرداً.

وإن كان ذاك مما يضبط مقارنة العبادات، فما بالك بمن يتعب نفسه بالنظر لما لدى غيره من متع الدنيا وقد نهى الله صراحةً عن مد العين إلى ما تمتع به غيرنا في هذه الدنيا الفانية؟

ومع التبصّر والامتناع عن المقارنات تتمرّن النفس تدريجيًّا على التركيز على رضا الله وعدم التعلّق أو الانشغال بالخلق، فيكون توجّهها مطلقاً لله، وتصير منافستها مع ذاتها أولاً لتتجاوز عيوبها وشهواتها وأهوائها، فتنضبط معاييرها بما يرضي الله، ولا تتأثر بقول الناس عنها أو رأيهم بسعيها بعد ذلك، لأنها لم تسعَ لنيل رضاهم أساساً، فتتمكن بالتالي من السؤال والتعبير والإبانة عن حاجاتها والقيام بما أمر مولاها بغض النظر عن محيطها.

ختاماً، أقول لكلّ فتاةٍ تقرأ هذه الكلمات، لا نريدكِ نسويّة مبغضةً لنفسها ومحدوديتها، ولا متمردة على خالقها تعيسةً في دنياها، وساعيةً لكسر كل ما هو نمطيٌّ بغض النظر عن ماهيته وواضعه، بل إننا نريدك مؤمنة قويّة صلبة حازمة ثابتة غير جاهلة ولا مهزوزة، تعلمين ما لكِ وما عليكِ، وتنضبطين بشرع الله القويم وتنعتقين من الجاهليات قديمها وحديثها في سبيل التقرب إلى الله ونيل محبته ورضاه.[7]


[1] تفسير السعدي وتفسير الطبري.

[2] أ. د. محمود بن أحمد بن صالح الدوسري، التمايز العادل بين الرجل والمرأة في الإسلام، دار ابن الجوزي. ص29

[3] د. فريد الأنصاري، سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة. ص35-36

[4] د. عبد الرحمن ذاكر الهاشمي، دورة فقه النفس، اقرأ.

[5] د. فريد الأنصاري، سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة. ص 15

[6] المتقي الهندي، كنز العمال، 12/655

[7] استفدت في بعض معاني العامة المقالة من سلسلة محاضرات للشيخ أحمد السيد بعنوان “سوية المؤمن” https://www.youtube.com/playlist?list=PLZmiPrHYOIsS5j5KXnB8xMbSjy_7KYbCq

ومن محاضرة للدكتور عبد الرحمن ذاكر الهاشمي بعنوان ” القوة النفسية: ما هي؟ وكيف أصل إليها؟ | عبد الرحمن ذاكر الهاشمي” https://www.youtube.com/watch?v=DFLgHrdwYdM&t=101s

بين تهمة النسوية ومخاوف الالتزام.. أين تذهب الفتاة المسلمة؟

بعد عدد لا بأس به من الشبهات التي وردتني، والقصص التي اطلعت عليها من صديقاتي ومَن حولي، وجدت إشكالاً متكرراً لدى الفتيات اليوم، فشريحةٌ كبيرةٌ منهنّ واقعةٌ بين تصوّر مغلوط عن الالتزام تخشى الاقتراب منه، وبين تهمة النسوية التي تتجنب أن توصف بها، فتكون الفتاة في مكانٍ ترى فيه المتديّنات متشددات يعِشْن في عالم آخر، والنسويّات منفلتات يدعين إلى الفاحشة والرذيلة، بينما هي ذاتها تحمل أسئلة وشبهات تخشى الإفصاح عنها أمام أحدٍ لئلا يسحبها أيّ من الفريقين إليه.

ولذا رأيت أن أوجّه لهؤلاء الفتيات اللواتي يرفضن الفكر النسوي، ويردن الله ورسوله والدار الآخرة ولا يعرفن كيف السبيل إلى مبتغاهن هذه المقالة، وعسى الله ينير دربنا جميعاً ويتقبل منا.

اعلمي أولاً يا عزيزتي أن مطلبك ليس بالبسيط ولا بالقليل، أنتِ تريدين رضا مولاكِ العليِّ القدير، وجنته التي عرضها السماوات والأرض التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، تريدين في هذه الدنيا حياةً مطمئنة وفي الموت تثبيتاً وفي البعث أمناً وفي النهاية شربة من حوض المصطفى وجواراً له في دار النعيم حيث لأهلها ما يشاؤون والمزيد. فمطلبك إذاً يستحق الجهد والعمل، وتهون لأجله المشقة والألم، فضعي هذا نصب عينيك، ثم امضِ رعاك الله.

أما وقد وضعنا الهدف المرجوّ أمامنا فلنتحدث عن الخيارين الذين تتجنبين الوقوع فيهما.

تصورات مغلوطة عن الالتزام

حين يتخيل كثيرٌ من الناس صورة الشاب المتدين فإنه لا يرى إلا رجلاً متجهماً في ثوبٍ ذي طراز معيّن مع غطاء رأس، لا يبدأ كلامه إلا بـ “يا أخي” أو “يا أختي”، ولا يتحدث إلا بالفصحى المتقعرة، ولا يقضي يومه إلا في المساجد والحلقات، لا يجيد تكوين العلاقات الاجتماعية، ولا هو طيب المعشر ولا يبتسم لغيره ولا يعرف كيف يعيش الحياة الواقعية كإنسانٍ متوازن وسوي. وكثيرٌ من تلك التصورات تنطبق بشكل تلقائي على ما هو شائع في الأذهان عن الفتاة الملتزمة التي اعتزلت الناس واختلفت عنهم بكل شيءٍ ثم لم تعد قادرة على التعامل معهم حتى.

وإن كان التدين والالتزام يدعونا لنبذ العادات والتقاليد الجاهلية، وإعادة التفكير بكثيرٍ من الموروثات الاجتماعية، فإنه من المهم معرفة مصادر ما نحمله من تصورات عن الإنسان الملتزم، فعلى مرِّ عقودٍ من التعرض لضخّ منتجات الإعلام العربي العلماني المؤدلج رُبِط التدين والالتزام بصور نمطية سلبية كثيرة تغلغلت في أذهان الناس، حتى بات من الصعب عليهم الانفكاك عنها أو تخيل الواقع بخلافها، رغم أنها بعيدةٌ عن الحال الحقيقية التي نعيشه ونراها، فكم من طالب علمٍ ملتحٍ بشوشٍ يوزع الحلويات على أطفال حيه كل أسبوع، وكم من فتاة ملتزمة بحجابها الشرعي وحضور حلقات العلم تمكنت من التأثير بأسرتها ومحيطها الضيق وتحبيب كتاب الله وسنة رسوله لهم، وكم من طالب علمٍ يجتهد ليوازن بين مسعاه وبين الارتباط بالواقع ورحمة غيره والاقتداء بخلق نبيه الذي قال: (المؤمن يأْلَف ويُؤْلَف، ولا خير فيمن لا يأْلَف ولا يُؤْلَف) [رواه أحمد وصححه الألباني]، وقال: (المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) [رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه].

وإن كان في المجتمع قلةٌ ممن يشبهون صور الالتزام النمطية ببعض الجوانب، فما ذاك إلا لنقصٍ عندهم، وضعفٍ لديهم يحتاجون للاجتهاد على تجاوزه وسدّه، لأنهم بشرٌ ككل الناس، يخطئون ويصيبون، لم يبلغوا بوصف الالتزام مرتبة الأنبياء ولا تحولوا بها إلا ممثلين عن الدين الحنيف في كل حركاتهم وسكناتهم، لكن اجتهادهم ذاك يظل محموداً لأنه في سبيل الله وسعياً للتقرب إليه، ودربُ إصلاح النفس والمجتمع سواء سمّيناه التزاماً أم طلب علمٍ أم بحثاً عن السنة أو اقتداءً بالصالحين هو الذي نحتاج جميعاً لسلوكه لنكون مؤمنين بالله على علمٍ وداعين إلى دينه في كل مجالات حياتنا كما يحب سبحانه ويرضى.

التجنب المبالغ به لتهمة النسوية

رغم وجود الإشكالات الكبيرة التي سببها الفكر النسوي، وتسرب آثار وانعكاسات هذه الحركات إلى عقول ومشاعر فتياتنا، فإن كثيراً منهنّ لم تعِ من هذا الفكر إلا الخوف من تهمته في أي فعلٍ أو فكرةٍ تحملها، فصارت تخشى الإفصاح عمّا لديها من أسئلة وإشكالات أو التعبير عن التناقض الذي يعتصر دواخلها؛ وذلك لئلا توصَم بتهمة النسوية، أو لئلا تصنّف ضمن زمرة لا تحبها ولا ترضاها.

ولذلك أود هنا تقديم تعريف مختصر للنسوية لأوضح لأي فتاة ذات أسئلة، وفي حاجة للتعبير والإبانة عنها أن ذاك أمرٌ ضروري ولازم ولا علاقة له بالنسوية بغض النظر عما قد يقال أو ينسب للفتاة بسببها.

بدأ ظهور أول موجات النسوية في أواخر القرن التاسع عشر باعتبارها رد فعلٍ نفسي وعمليٍ طبيعي على تهميش النساء وظلمهن في المجتمع الغربي، حيث كنّ يُمنَعْنَ من التملك والانتخاب والتعليم وأيّ مشاركة غير أنثوية في المجتمع، ثمّ تحولت الحركة مع الرفض الذي واجهته والاستغلال الذي تعرّضت له من حركة حقوقية إلى تيارٍ مناهض للسلطوية الذكورية والتحكّم الرجالي، فصارت حركة متعصبة ضد الرجل بجنسه، وتحولت إلى المطالبة بالتسوية والتساوي، والمناداة بالتمرد على الطبيعة الذكورية وخصائصها وأدوارها.[i]

لم يتوقف تعصب النسوية على الرجال، بل امتد ليشمل النساء أنفسهن، والدعوة لتحوير طباعهن الأنثوية وما يوافقها من مهامٍ ليتشبّهن بالرجال الذين صاروا بنظر النسوية مثلاً أعلى وقدوة، فصارت الذكورية ذاتها معياراً للقوة والأهلية، وكلما شابهتها المرأة واتصفت بها كانت نسوية بحق. وانتشرت ظواهر استرجال انساء إمعاناً في المغالبة الجنسية وإثباتاً للكفاءة، وازدادت شراسة مطالب المساواة وخفت صوت مطالب العدل. فلم تعد النسوية تعنى بتحصيل الحقوق المسلوبة أو المشاركة المجتمعية الطبيعية، إنما صار سعيها وراء التكافؤ مع جنس الرجال رغماً عن النساء والوقوف بنديةٍ أمامه بأي ثمن![ii]

أما اليوم فقد تفاقمت عصبيات النسوية حتى صارت في الغرب ولدى تابعاتها في الشرق تطالب بتقديس حرية المرأة المجرّدة، وترى في زواجها وأمومتها وتربيتها لأولادها قيوداً ينبغي تجاوزها عبر إتاحة الزنا المفتوح دون أي التزامات، وتشريع قوانين تسمح بالإجهاض، بل وتغطّيه بالتأمينات الصحية، وتتيح استخدام حبوب منع الحمل للفتيات منذ سن الثانية عشرة بغض النظر عن آثار ذلك المدمرة على المجتمعات بأسرها.[iii]

ومن تلك المسيرةِ وترافقاً معها انطلقت الأدبيات النسوية واستمرّ الفكر النسوي بآثاره المدمرة اليوم، فهو وإن كان له حاجةٌ حين ظهر في الغرب، فتلك الحاجة انتهت حين حقق مساعيه الأولى، أما في ظل شرع الله الذي نريد العودة له؛ فلا حاجة لدعاوى نسوية من أساسها، ولا دور لمطالب التسوية أو استرداد الحقوق انطلاقاً من أهواء أو قيم علمانية سائلة؛ إذ {الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 71]، وحيث المرأة والرجل متكاملان لا يسعيان للتنافس ولا مكان بينهم للندية، وإن كان المجتمع ابتعد عن ذلك فالحل بالعودة إليه عبر رفع شرع الله فوق البشر لا عبر استبداله بمزيد من الجاهليات المستوردة التي لا تناسب زماننا ولا ثقافتنا.

ومن ثم –بعد هذا الشرح عن النسوية- ينبغي أن يكون واضحاً لكل فتاة مسلمةٍ تسعى لرضا مولاها أن سؤالها عن شبهات تسربت إليها لا علاقة له بالنسوية وحقيقتها، فدين الله لا يأمرها بالالتزام بمعايير مجتمعية ظالمة تأمرها بالصمت والقعود عن طلب العلم، ولا يمنعها عن دورها كمربيةٍ ومعلمةٍ وداعية إلى الله بحسب مجالها وقدرتها واستطاعتها.

هذه الأفعال لن تجعلك نسوية

أختم هذا المقال برسالةٍ لكل فتاة مسلمةٍ تسعى لأن تلقى الله بقلبٍ سليم، فأقول لها: أفهم تماماً يا عزيزتي أن حياءك زينة لا تقدر بثمن، وأنَّك تأنفين الجدال، وتترفعين عن لغو الكلام، وتعتزين بأنوثتك عن صغائر الأمور والأفعال، لكن هذا كله ليس مانعاً من السؤال والتعبير والإبانة وطلب العلم الشرعي والبحث والاستشارة عما لكِ وما عليكِ، وعما لا يسعك جهله من واجباتك وحقوقك، فسعيك لتكوني من المؤمنات اللواتي أثنى الله تبارك وتعالى عليهنّ بالغفلة في الآيات الكريمات لا يعني الغفلة عن مكانتك في شرع الله، ولا يعني امتناعك عن المطالبة بحاجاتك التي تتعب نفسك من إنكارك لها وترفّعك عن الاعتراف بوجودها، وكونك مؤمنةٌ تقيّة لا يعني أن تنكري الشبهات التي تدور في خلدك لأنك تريدين أن تطابقي الوصف المشهور للمسلمة التي وُلِدت مطمئنة بالدين الحق، لم تدخل عليها شبهةٌ ولم تسمع بفتنة ولم يساورها شكٌ أبداً.

قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: (نعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ) [أخرجه مسلم]، وسألت امرأة رسول الله: (يا رسولَ اللَّهِ! إنَّ اللَّهِ لا يستَحي مِنَ الحقِّ، هل على المرأةِ غُسلٌ إذا هيَ احتَلَمت؟ قالَ: نعَم إذا رأَتِ الماءَ فضحِكَت أمُّ سلمةَ، فقالت: أتَحتَلِمُ المرأةُ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ: ففيمَ يشبِهُها الولَدُ) [أخرجه النسائي]، وفي مسند الإمام أحمد عن يزيد بن بابنوس أنه قال: (ذَهَبتُ أنا وصاحِبٌ لي إلى عائِشةَ فاستَأْذَنَّا عليها، فألقَتْ لنا وِسادةً، وجَذَبَتْ إليها الحِجابَ، فقال صاحِبي: يا أُمَّ المُؤمِنينَ، ما تقولينَ في العَراكِ؟ قالَتْ: وما العَراكُ؟ وضرَبْتُ مَنْكِبَ صاحِبي، فقالَتْ: مَهْ، آذَيتَ أخاكَ! ثم قالَتْ: ما العَراكُ؟! المَحيضُ، قولوا: ما قال اللهُ: المَحيضُ، ثم قالَتْ: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يتَوَشَّحُني، ويَنالُ مِن رَأْسي، وبَيْني وبَيْنَه ثَوبٌ، وأنا حائِضٌ).

وكذلك كانت نساء خير القرون يطلبن العلم ويعلّمنه ولا يمنعهنّ من ذلك خوف مما قد يقال أو توقف عند أعرافٍ جاهلية جاء شرع الله ليشذبها ولا يبقي منها إلا ما يرضيه. ووجودُ تهمٍ يتناقلها الناس اليوم لا يبدل من ذلك شيئاً، خصوصاً والفتاة باتت في حاجة أكبر لطلب العلم والبحث في الأحكام الشرعية التي تلزم المرأة المسلمة ولا يسعها جهلها ومعرفة الخلاف فيها، إلى جانب دراسة التاريخ الإسلامي من مصادره المعتبرة التي تروي الأحداث كما هي دون تقسيمها إلى أفعال الذكور والإناث، ثم سؤال أهل العلم للوصول إلى الحق ورضا الله، والمتعلّمات كذلك في حاجة أكبر لنشر ما رزقن من علمٍ والدعوة إليه.


الهوامش

[i] د. هدى النمر. قضية المرأة بين الشريعة الإسلامية وسجالات النسوية. ص43

[ii] المصدر السابق

[iii] د. هدى النمر. قضية المرأة بين الشريعة الإسلامية وسجالات النسوية. ص44

وللاطلاع على قصة النسوية بأسلوب سهل ومبسط أنصح ببرنامج النسوية للدكتور البشير عصام المراكشي على يوتيوب

النسوية بين الحقوق والقوانين والواقع

كان لانطلاق فكرة (النسوية) لتخليص المرأة من الاستعباد المجحف كبيعها واستغلالها بعضٌ من الحق في بادئ الأمر، ولكن كأي أفكار وحريات لا تحدّها حدود لا بُدّ أن يشوبها التطرف والغموض، فكان طلب النسويات في الموجة الأولى للمساواة في حق التصويت مغلفًا بطابع من العنصرية، حيث احتجت النسوية إليزابيث ستانتون على إعطاء حق التصويت للرجل الأسود قبل أن يعطى للمرأة بيضاء البشرة، وأعلنت ريبيكا فيلتون إحدى المؤسسات ذلك صراحة عندما قالت: “لايمكنني تحمل رؤية رجل أسود يصوت لحقوقي”.

الجانب المظلم من النسوية

كان ما تقدّم عبارة عن موجة أولى من النسوية المتلفّحة بالعنصرية ضد عرق بعينه، أما الموجة الثانية فقد ركزت على أن تشمل النساء من الأعراق الأخرى والديانات المختلفة وقد حاولت استبعاد الأمهات من نطاقها، حيث اعتبرت سيمون دو بوفوار إحدى أبرز المفكرات النسويات الأكثر تأثيراً في عصرها، أنّ المرأة التي تنجب طفلاً مضطهدةٌ لنفسها.

لعل أكثر ما ميّز الموجتين الثانية والثالثة (التي كانت حركة فردية مُركزة على حقوق المتحولات جنسياً)، هو محاولة تفسير اختلاف الأنثى بطريقة عشوائية، فأقرت سيمون دوبوفوار في كتابها بوجود الاختلافات بين الجنسين الفيزيولوجية والعاطفية والبيولوجية، ولكنها ادعت أنه ليس سببًا كافيًا لتعامَل المرأة بشكل مختلف، وقد كانت منطلقةً من اعتقادها بأن المرأة يمكن أن تختار جنسها بعد مولدها، وبسبب ضعف هذا المفهوم حاولت نسويات الموجة الثالثة تعزيزه بافتراض أن المجتمع هو من يجعل المرأة امرأة، وذلك بوضعها في قالب معين، مما جعل المؤسِسة مونيك ويتتينغ تقول أن المرأة ستعيش باستقلالية إذا كانت كالرجل.

سيمون دو بوفوار من رواد النسوية

سيمون دو بوفوار

ومنذ تلك اللحظات بدأ فكر النسوية بالانحراف عن مساره أكثر وأكثر وهاجمت النسويات بعضهن بعضًا لعدم المنطقية في كثير من أفكارهن، مما دفع فيرجينا وولف (كاتبة انكليزية، معاصرة ومفكرة نسوية) لتقول: “لماذا لا يجب أن نصبح نسويات؟ النسوية مطلوبة عندما لا تستطيع المرأة أن تصنع حياة لنفسها، أما الآن مع وجود الحقوق لم يعد لكلمة النسوية أيّ معنى”

وعلى الصعيد العربي يظهر تناقض هدى الشعراوي رائدة الحركة النسوية عندما كانت أشد المحاربين لزواج ابنها من المطربة فاطمة بسبب الفروقات الاجتماعية واستخدمت نفوذها لتهديدها ومحاولة التأثير سلبا على قضية إثبات نسب حفيدتها لعائلة الشعراوي.

الموجة الرابعة ومشكلة في القياس

   من صحيفة Prospect

كتبت شيريل ساندبيرغ المديرة التنفيذية لشركة فيسبوك في كتابها الأكثر مبيعاً Lean In: “اعتقدت بالمجمل أن النساء في قرون الستينات والسبعينات قد قاموا بالعمل الأصعب في تحقيق حقوق المرأة لنساء جيلي، اعتقدنا أنا وصديقاتي فعلا بل ربما بسذاجة أننا لم نعد نحتاج لحركات النسوية بعد الآن”.

ما زال النقاش في قضايا المرأة مستمراً وقد اضطرت المرأة في القرن الواحد والعشرين من تحويل التركيز على تحقيق المساواة القانونية إلى موجة من محاربة التمييز ضد النساء وتحقيق المساواة المجتمعية، والذي يعد أمراً صعباً، فمع 40 سنة من النضال مازالت المرأة في كثير من الدول الغربية لا تحصّل نفس الأجر ولا حتى نفس فرص العمل التي يحصلها الرجال، وليست هذه المشكلة فقط، فثلث النساء الأوروبيات ما زلن يتعرّضن للعنف المنزلي والجنسي، فضلا عن الضغط الساحق الممارَس على المرأة للالتزام بمعايير الجمال التي تحددها الشركات والإعلام والتي كتبت عنها ناتاشا وولتر “أن كثيرًا من الفتيات والنساء الصغيرات من الجيل الجديد يرين أن المساواة في القوانين لم تترجم إلى مساواة على أرض الواقع”

تعتقد غالبية النساء أن النسوية كانت لفئة معينة كما كتبت ميكي كندال في التايمز: “النسويات ركزن على المشاركة في المناصب وتجاهلن المشاكل الحقيقية لغالبية النساء”، وقد ذكر مارك مانسون مؤلف وصاحب الكتب الأكثر مبيعا في نيويورك تايمز: “كان لانطلاق الحركة النسوية معنىً، والمساواة لايجب أن تكون محل نقاش للجميع، أما النسوية كجمعية أصبحت مؤسسة رجعيّة في كثير من الحالات”، وأكمل في مقاله: “في الموجة الرابعة أصبحت الأمور أكثر تعقيداً، فطلب المساواة في القوانين والعمل كان منطقياً أما المساواة المجتمعية في الأفكار والمعتقدات فإنه أمر معقد وصعب، فهناك مشكلة في القياس لدى فكر النسويات، ولنضرب مثلاً إذا قامت شركة بطرد ثلاث موظفين اثنتان منهم من النساء، فكيف سيحددون السبب فهناك الكثير من الأسباب وكيف سيعرفون ما فكّر به صاحب العمل هل سيعتبرونها مساواة أم عنصرية جندرية؟ يجب الآن على المرأة التوقف عن إطلاق الحملات هنا وهناك والاحتجاج على مواقع التواصل الاجتماعي، إذا أردت فرصا للنساء أكثر في العمل أسسي عملا لك وللنساء”

لنذكر في هذا الإطار دراسة قامت بها جامعة أوهايو لمحاولة فهم عدم وجود كثير من النساء في مواد STEM (العلوم والهندسة والرياضيات) حيث سُئِل ما يقارب 2.700 طالب وطالبة، على أي أساس يختارون المهن، فكان جواب معظم الرجال أنهم يختارون المهن ذات الرواتب العالية، أما النساء فتميل لما يناسبهن أكثر مع تفضيل مساعدة الآخرين، وللمفارقة أيضا فهناك وظائف يكاد وجود الرجال فيها معدوما، فمهما حاولوا التغيير فإنه لا يمكن أن يغيروا الطبيعة التي خلقت وجبلت عليها النساء والرجال.

المنسيون والفئات المهمّشة

ذاك الصوت الضعيف الذي يبحث عن مكانه في قافلة الأصوات المرتفعة والنقاشات المتضاربة، فأعداد المتعرضين للعنف من الشريك مازالت في ارتفاع لتشير إحصائيات في الولايات المتحدة عن تعرض 10 ملايين شخص من الرجال والنساء خلال سنة للاعتداء الجسدي من قبل الشريك، أما أوروبا فقد سجلت أعلى الأرقام لتصل في انكلترا إلى 280 امرأة معنفة مقابل 22 رجل معنف لكل 100 ألف من السكان، و وصلت الأعداد الذروة خلال جائحة كورونا في أغلب دول العالم لتكون النسبة الأكبر من النساء والأطفال، فباتت ملاجئ النساء في ألمانيا مثلا تشتكي من عدم وجود أماكن تكفي للأعداد المتزايدة.

أما الفتيات اليافعات -الذي ضجّ العالم مستنكراً زواجهنّ ليُسنّ قوانين مختلفة لمنع الزواج قبل سن الثامنة عشر في دول عدة- هن أنفسهن الفتيات اللاتي يستخدمن موانع الحمل بنسبة 83% بين عمر15 و19 في الولايات المتحدة مثلًا، وهنّ الفتيات اللواتي اضطررن للعمل بالبغاء –إذ إنّ قوانين الدول الأوروبية التي تسمح بممارسة هذه المهنة- فلوبيّاتها والمُتربّحون منها يجدون في هؤلاء الفتيات والنساء الضعاف والفقيرات صيداً ثميناً، وكانت الأسباب أحياناً أنها مجرد انسياق مع (موضة) منتشرة، مثلما نقلت 24France بالإنكليزية عندما قامت الشرطة الفرنسية بتفكيك شبكة دعارة أغلبها من اليافعات، وذُكر أنه بين 6000 إلى 10000مراهقة تمارس هذا العمل في أنحاء البلاد.

ومشكلة العائلة أحادية المعيل وبالأخص الأم المعيلة التي لم يستطيعوا حلّها إلى الآن ومنها دول غنية مثل الولايات المتحدة وألمانيا، فهم فئة مهددة بالفقر ومنهم من هم تحت خط الفقر بحسب الدراسات، والأسباب تعود غالبا لقلة فرص العمل وعدم المساواة في الأجور ويزداد الأمر صعوبة إذا كانت من النساء غامقات البشرة أو ممن ترتدي الحجاب، فضلا عن حق الرعاية للأم لمدة معينة، وفي محاولة منهم لصنع التوازن بدأ فرض قانون يشمل حق الرعاية للأب حتى تحصل المرأة على فرص أكثر في العمل، إلا أنه لم يتغير الكثير.

يُنسى، يُباع، يُؤجّل، الأطفال المُتخلًّى عنهم والظلال الأخرى للحرية

هذا هو عنوان بحث لجامعة بوخوم شرح مساوئ الحرية على الأطفال، وتحدث تقرير لقناة SPIEGEL عن فاجعة تخلّي الأهل وأكثرهم من الأمهات المعيلات لوحدهن عن أطفالهم بعد انهيار جدار برلين، فقد تم التخلّي تقديريا عن عشرات آلاف الأطفال وأكثر، والمؤسف أن أكثر الأسباب كانت للبحث عن الحرية والحظ في مكان آخر كما ذُكر، ولا يوجد أرقام محددة عن عدد الأطفال المُتخلّى عنهم child abandonment في العالم، إلا أن دراسة أجريت في جامعة نونتغهام لاحظت أن الأغلبية منهم في أوروبا الوسطى والشرقية.

أما بيع الأطفال، فهي أفظع الجرائم، والحديث هنا ليس عن بيعهم من قبل مافيات في السوق السوداء المنتشرة في الصين، بل عن بيعهم من قبل أهلهم، فهذه ظاهرة متصاعدة في دول مثل بلجيكا وبلغاريا، حيث تقوم الأم ببيع طفلها وهو ما يزال جنينا في رحمها حتى تلد فتعطيه للعائلة الجديدة إما لعدم الرغبة به وإما بسبب الفقر.

وما هذا الذي ذُكر إلا غيض من فيض، فمن ينظر لواقعهم عن قرب يجد مشكلات مجتمعية واجتماعية شتى والتضارب في معالجتها.

ماذا فعلت القوانين الوضعية؟

ربما حقّقت بعض القوانين بعضاً من المساواة إلا أن بعضها زاد الأمر سوءاً، فالقوانين ضرورية ورادعة والرقابة مهمة، وهذا ما يدفع كثيرا من الدول لمحاولة تغطية أكبر مساحة ممكنة بالكاميرات ولكن ماذا إن اختفى كل هذا؟ ولم يكن هناك رادع أخلاقي واستشعار لرقابة الله، أو كانت حرية الإنسان بلا نهاية؟

سنجد الجواب فيما يحدث في الولايات المتحدة وبعض الدول، فمع كل انقطاع للتيار الكهربائي ترتفع معدلات الجريمة أثناء انقطاعه بشكل ملحوظ، فلا يمكن التخلص من الجريمة بشكل كامل إلا إن كان للإنسان رادعٌ من نفسه.

وهناك أمراض تنتشر بسبب الفقر والجهل، وعلى المثل من ذلك هناك أمراض أخرى منشأها الحضارة والتمدن والغنى، إلا أنها تبقى أمراضًا يكون حلها الأمثل بالوقاية منها! وهل من الممكن أن يوجد أعظم من الوقاية والدواء الذي كرمنا الله بإعطائه إيانا؟

فلا يمكن لقانون أن يضاهي قوانينه سبحانه لأنه أعلم بخلقه، فقوانين البشر مقتصرة على عقلهم المحدود وقصر نظرتهم وشموليتها، ينتظرون نتائج قوانينهم، ثم يتدارسون قوانين جديدة، ولكن بعد ضياع كثير من الحقوق.

وهل يجتمع قانون أصله باطل بقانون أصله حق؟ فلا يمكن أن تُشاب قوانين الله بقوانين البشر فإن اختلط الحق بالباطل أصبح باطلاً، ولا يُستمدّ هذا من ذاك، فإما اتباع لقوانين البشر التي أصلها في كثير من الأحيان باطل ولا يمكن إلا أن يظلم بها كثير من الناس، أو التطبيق التام لقوانين الله وشريعته، الذي لا يُظلم بها أحد، مع الإقرار الكامل بأنه أعطى كل ذي حقٍّ حقوقه من المرأة والرجل والأسرة والمجتمع، فكان المنظومة الأفضل من العدل والمساواة والحكمة والرقابة، وهنا يجب علينا أن نفرق بين الأعراف والتقاليد وقوانين البشر وبين دين الله وقوانينه التي حاشى له سبحانه أن يظلم بها أحدًا، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب:36].

وصدق الله القائل:} وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً] {الإسراء:81]، فالباطل يزهق لا لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته، بل لأن دعائمه تضعف، وتتخلخل عوامله أمام الحق، فما يكون منه إلا أن يتهاوى وينهار.

أما الحق فإنه يستمد عناصر وجوده من ذاته، وقد تقف ضده الأهواء وتقف الظروف، ولكن ثباته واطمئنانه يجعلان العقبى له ويكفلان له البقاء، فهو الحق من عند الله، وكفل له البقاء ما بقي البشر في الأرض }ومن أوفى بعهده من الله]{التوبة:111 [


المراجع

Everything-about-fourth-wave-feminism-prospect

HIDDEN-DARK-SIDE-OF “FEMINISM”

What’s-the-Problem-with-Feminism?-mark-manson

Why-women-select-college-majors-with-lower-earnings-potential-ohaio

ضحايا-العنف-في-دول-الأوروبية.

احصائيات-ضحايا-العنف-من-الشريك-أمريكا.

ضحايا-العنف-خلال-جائحة-كورونا

أعداد-النساء-المستخدمة-لموانع-الحمل.

نسبة-النساء-المعيلات-لوحدهن-الفقيرات-وأغلبهن-من-الأمهات-العاذبات

Single-mothers-much-more-likely-to-live-in-poverty

البغاء-للفتيات-في-المراهقة

الحجاب-والعمل-في-الولايات-المتحدة

Child-abandonment -University-of-Nottingham

Child-abandonment -University-of-Bochum

الأطفال-المتخلى-عنهم-بعد-انهيار-جدار-برلين

sociology-of-electrical-power-failure

 New-York-power-outage

Roma-mothers-sell-newborn-babies

Parents-sell-babies-on-the-Internet

بين-الحق-والباطل-صحيفة-البيان..

Poverty-rate-of-Black-single-mothers .

من-خالفك-في-المرجعية-فقد-خالفك-في-الدين-(الليبرالية،النِسوية…-د.سامي-عامري

هدى-شعراوي-رائدة-الحركة النسوية-تعارض-زواج-ابنها-وترفض-نسب-حفيدتها

بدون-حماية-كيف-تخلت-ألمانيا-عن-النساء-المعنفات

ميكي-كندال-التايم

 

نوال السعداوي.. خطاب نسوي علماني أم عقيدة شيطانية؟

حفلت مواقع التواصل بالتعليق على وفاة الكاتبة نوال السعداوي، عن عمر يناهز التسعين عاما، ومما لفت نظري أن كل من ينتقدونها استوقفتهم شعارات مكررة في خطابها، تندرج جميعها تحت مظلة النسوية والعلمانية، وهذا ليس بجديد ولا فريد، فأمثالها في المجتمع العربي كُثر، وقد سبقوها إليه قبل أن تولد، وكان يجدر بالنقاد العودة إلى الجذور.

نوال اشتهرت في شبابها بالنضال النسوي من داخل الإسلام، وساعدتها سذاجتها وهوسها بالتحدي على الظهور في دور البطلة التي تتحدى السلطة بكل شجاعة، وكأن الإسلاميين هم الذين حكموا مصر أو أي بلد عربي ولم يكونوا هم ضيوف السجون والمنفى منذ مئة سنة!

من فرط السذاجة التي تمنح الحمقى دور “الشجاعة” قالت في إحدى المقابلات: “أنا أهم من العقاد وطه حسين، أعلم في القرآن أكثر من الشيخ الشعراوي”. هذا التهريج الثقافي يعجب كثيرا وسائل الإعلام، وعندما يكون صاحبها أنثى فهذا أكثر إثارة، وعندما تكون هذه الأنثى سفيرة للفكر الغربي المتغلب فكيف لا ينال الصدارة؟

في منتصف السبعينات، طرحت نوال فكرها النسوي في كتاب “الأنثى هي الأصل”، مكررةً أسطورة نشأة الحضارة على مبدأ تقديس الأنثى في مجتمعات أمومية رومنسية لا تعرف الحرب. وفي منتصف الثمانينات، طرحت نقدها للذكورية في كتاب “إيزيس” لتنتصر للإلهة الأنثى في وجه الإله «رع»، لأنه أمر بالختان والإِخصاء ضد المستضعفين فقط، وهم النساء والعبيد.

كتاب من كتب نوال السعداويفي بداية التسعينات بدأت الصورة تتضح، فمع إصرارها على أنها تريد إصلاح الإسلام من داخله، لا سيما أنها “أكثر معرفة به من الشعراوي”، لكن العقيدة الخفية بدأت بالظهور مع كتاب “جنّات وإبليس”، ﻓجنَّات هي المرأة التي تعاني من القهر وتطرح أسئلتها البريئة عن الدين والمرأة، وإبليس (شخصيا ودون تورية) هو الشاب الذي يعاني من تهمة الشر الظالمة، وما زال يتمرد على والده الذي يرمز للإله، ويظل الصراع قائما حتى يموت الشاب البريء فيعلم والده متأخرا أن ولده لم يكن شريرا بل الناس هم الذين ظلموه.

ظلت نوال تخرّب عقول الأجيال الفارغة، ومن داخل الإسلام، كما يفعل كل الوكلاء عندنا بترديد مطالب المستشرقين والملحدين مع الإصرار على النطق بالشهادتين. وكانت شعاراتها المكررة والطفولية تكفي ليتململ منها بعض العلمانيين، أذكر مثلا صاحبة برنامج ثقافي حواري على قناة أبو ظبي استضافتها في بداية هذه الألفية ولم تستطع كتمان غضبها بعد كل إجابة، حتى أنهت الحوار بطريقة مستفزة، لكن المفاجأة كانت عندما استضافتها في حلقة أخرى لتجلس أمامها كالتلميذة وتسمح لها بطرح كل سخافاتها. استنتجتُ آنذاك أن الأوامر جاءت باستقبالها مرة أخرى وإعادة الاعتبار لأفكارها التي يجب نشرها بأي ثمن.

غطاء النفاق

في 2006 استضافها الإعلامي الدرزي سامي كليب في برنامجه “زيارة خاصة”، وحاول أن يدير الحوار بدبلوماسية، وفي النهاية قالت له إنها ما زالت تحلم بأن تقول كل ما في خاطرها لتكسر “التابوهات” (أي المحرَّمات) التي نخاف منها، فسألها وهو يضحك: هل بقي شيء لم تكسريه؟ فأجابت: هو أنا كسرت حاجة لسه؟

في السنة نفسها، بلغت بها السذاجة -لسبب لا أعرفه- أن تكشف غطاء النفاق، وكتبت مسرحية -لا تمت إلى الأدب بصلة- بعنوان “الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة”، انتصرت فيها نوال لإبليس (لوسيفر) صراحةً، وقدمت الإله في صورة الطاغية. حاول الأزهر أن يقاضيها، لكن -ويا للعجب- لم ينجح في استخدام “سلطته”. زعم أمثالها أنها كانت ترمز للحكومة فانتقدت الإله نفسه كي لا تقع في ورطة، ولم يشرحوا لماذا يكون انتقاد الإله أسهل من انتقاد الطاغية طالما كانت السلطة متواطئة مع الكهنة؟!

الآن، من ستصيبه الدهشة أو يطرح الأسئلة عندما يرى اسم السعداوي في قائمة مجلة تايم الأمريكية لأهم 100 امرأة في العالم؟ هي لم تقف مثل آلاف الفتيات في ميادين سورية ومصر وليبيا واليمن لتطالب بإسقاط الطغاة في مواجهة الرصاص الحي، هي وقفت فقط في وجه الإسلاميين الذين يرميهم الطغاة في السجون حتى الموت.

في آخر مقابلة لها، بثتها القناة الفرنسية الحكومية (فرانس24)، قالت نوال وهي على وشك الموت، وبكل وضوح بعدما تخلصت من نفاقها: إن المرأة مقهورة في كل الأديان. استدركت مُحاورتها -مع أنها تعمل للقناة الفرنسية نفسها- لتقول: “هم طبقوا الأديان غلط”، فأكدت نوال: لا، لن أخدعك في آخر عمري، ولن أدور في الفلك الذي يبرر للدين. تقاطعها المحاورة مرة أخرى، فتؤكد نوال أن الكتب السماوية المنزلة من عند “ربنا” هي الظالمة، وتعترض على المنطق الذي يبرئ الرئيس ويلصق التهمة برئيس الوزراء، وهو الذي نكرره بتبرئة الإله وإلصاق الشر بالشيطان.

مع كل كفرها الصريح، لدينا اليوم أجيال من “النسويات الإسلاميات” المعجبات بشجاعتها، ومعيار الإيمان والكفر ليس على قائمة الأولويات عند هذه الطائفة، فالمهم لديهن هو الانتصار على الذكور، وقريبا ستجدون قناع النفاق يسقط عن وجوه بعضهن واحدة تلو الأخرى. احتفظوا فقط بمقالي هذا واسترجعوه عندما تصدمكم الحقيقة.

الغنوصية الشيطانية

بعد هذا كله سأعود إلى نقطة البداية، فهل ما زالت الصورة مشوشة لدى أصحابنا؟ نحن لسنا أمام خطاب نسوي علماني فقط، ولا حتى أمام حالة إلحادية بحتة. ما قدمته نوال في السنوات الأخيرة هو العقيدة الباطنية الغنوصية الشيطانية التي تتبناها الجمعيات السرية، والتي أخرجتها للعلن مؤسِّسة جمعية “الثيوصوفيا” الروسية هيلينا بلافاتسكي في كتابها “العقيدة السرية” عام 1888، وهو الذي كشفت فيه عقيدتهم الصريحة في الإيمان بألوهية إبليس الندية للخالق نفسه، وبالانحياز لإبليس (لوسيفر) في مقابل الإله الذي خلق الكون وأنزل الشرائع وأرسل الأنبياء.

هذه العقيدة هي التي تتبناها كل الجماعات السرية، الماسونية وأخواتها، وهي التي ينبغي أن ندرك أن التصدي لها لا يقل أهمية عن المعارك مع الإلحاد والمسيحية.

الساحرة بلافاتسكي نشأ على يديها جيل من النسويات “الشيطانيات”، وعلى رأسهن أليس بايلي، مؤسِّسة جمعية “لوسيفر ترست” التي تغير اسمها لاحقا إلى “لوسيس ترست”، والتي تنفذ مشروعًا مشتركًا مع الأمم المتحدة تحت مسمى “النوايا الحسنة”، بهدف التمهيد للعصر الجديد الذي سيقود فيه المعلّم المنتظر “المايتريا” البشرية إلى العصر الجديد. [انظر: http://www.lucistrust.org/world_goodwill%5D.

يمكن الاطلاع على المزيد من التفاصيل في كتابي الجديد “مستقبل الخوف“، علمًا بأن هذه الحقائق منشورة في مواقع رسمية وليست نظريات مؤامرة.

هذه كانت إضاءة عابرة على شخصية عابرة لم يفهمها الكثيرون. وبما أنها هلكت في “يوم الأم”، فسأختم بموقف طريف من ذاكرتي يعود إلى نفس سنة صدور المسرحية (2006)، عندما خرجت ابنتها النسوية المتطرفة منى حلمي بفكرة الانتساب إلى الأم من باب المساواة، وكتبتْ مقالا يعلن أن اسمها صار ينتهي بعائلة السعداوي. وحتى تتحول هذه المهزلة إلى فرقعة إعلامية استضافها أحد الإعلاميين وسألها عما تريد، فملأت الحلقة بالصراخ الذي كان يعلو على أصوات كل الذكور في الاستديو، نجح المُحاور أخيرا في تهدئتها كي تشرح لنا ما الذي تريده، فقالت إنها فكرت في تقديم هدية ثمينة لأمها في يوم الأم، وبدلا من تقديم بطاقة معايدة بخمسين قرشا قررت أن تهديها شرف الانتساب لها، لتفوز بذلك في جولة إضافية على الذكورية الطاغية. كنت أتمنى أن يسألها حينئذ: لماذا يحظى يوم الأم بكل هذا الاحترام في عالم يحكمه الذكور، بينما لا نكاد نسمع بيوم الأب؟!

لطالما أحسست بالشفقة على نساء الغرب

أصبح موضوع حقوق المرأة وحريتها المُتصدّر الأكبر لبرامج الإعلام ومناقشات مواقع التواصل الاجتماعي وحتى ندوات ودورات المنظمات المهتمة بتنمية مجتمعاتنا وبمساعدتها ودعمها، والعناوين الغالبة عند طرح مشاكل النُّسوة هي عناوين كـ “تنظيم الأسرة” و”المرأة والعنف” و”المساواة في العمل” وكأنّ هذا هو أكثر ما تحتاجه النّساء الآن، غير آبهينَ بمحيطهنّ ووضعهن المعيشيّ، فإن نظرنا لحال أكثر الأمكنة التي تُقام فيها ندوات تلكَ المنظّمات مثلاً أو محيطِ تلكَ المرأة المقصودة بعناوين مواضيعهم، نَجدهُ يعاني من الفقر وشحّ المواد والماء والكهرباء، ومن الممكن أن تكون أقربَ مدرسة لهم تبعد عنهم عدداً من الكيلومترات، ويُعاني الجميع في تلك المنطقة من سوء الوضع الصحيِّ وليس فقط النساء، فكيف لشخصٍ أن يُلقي محاضرةً  للمحافظة على الصحّة لآخرَ وهو على شرفات الموت ويَنهشُ جسده المرض.

من الملاحظ أيضاً  أنّ الحلول والمشاكل المطروحة في غالب الأحيان بعيدٌة كل البعدِ عن الواقع، فكَمَن يُطالب شخصاً بالتحرُّر من سجنه، ويداه مُكبَّلتان بالأصفاد، وإن أعطيته المفتاح ليحرّر نفسه إلى حياةٍ ورديَّةٍ تنتظرهُ بزعمهم سَيخرجُ فلا يرى إلا السَّواد.

قضية المرأة حصانةٌ وطريقٌ للشهرة
مما لا شكّ فيه أنّ التركيز الشديد على قضية المرأة ليترَاءى لنا أنّها مُشكلتنا الوحيدة، جعل هذه القضية بمثابة الحَصَانة لكلّ شخص يَتَبنَّاها، بل إن كثيرًا منهم بمجرّد اهتمامهم بها يضعون أنفسهم على أول طريق الشهرة، لذا لا نستغرب كثرةَ المسارعين لركوب هذه الموجةِ،  فكلُّ ما يحتاجه الشخص هو التَعريفُ باختِصاصِه وإردافُهُ بعبارةِ “مهتَمٌّ أو مهتَمّةٌ بقضايا المرأة” ليتصدّر اسمه صفحات مواقع التواصل الاجتماعي ويمتلك ضوءًا أخضرَ عن كلّ ما يقدّمه من مواضيع ومشاريع،  حتى وإن كانت مواضيعه المختارةُ بعيدةً كلّ البعد عن القضيّة المُتبنّاة.

وأولّ وأكثر راكبي هذه الموجة طبعاً هم من النّساء المُعتَدِّات بنجاحهن أو المؤثرات، فتراهم يحملن راية الدفاع عن النساء في كل منشورٍ ومقابلة ومقال، كما أن صفحاتهن على مواقع التواصل الاجتماعي بَاتت المتحدّث الأول والرسميّ في قضايا المرأة.

الشهرة

تخبّط مستمرّ دون أهداف واضحة
كلُّ ما نراه لا يخرج عن كونه منشوراتُ تعاطفٍ وإثارةٌ للقضية، طبعًا مع وصف معارضيهم بالجهل والتخلّف والعداء المرأة، وفي أنفسهم يعيشون حالات من التخبّط، فلا يستطيعون أن يكونوا كالمرأة الغربيّة ولا أن يرضوا الشرقيّة.

يحاولون أن يُقَولِبوا الخطابات المعتادة لتناسب عقولنا فيوهِمُوننا بأنّ أفكارَهم نابعةٌ من الدين، فتراهم يستشهدون بالآيات والأحاديث المُكرِّمَة للمرأةِ تارةً، ثمّ يَنقُضُونها بِحجّة أهميّة تجديد الخطاب الدينيّ، وأنّ التفاسيرَ القديمة ذكوريّة تارةً أخرى، ويتمسّكون بأيّ مفكرٍ وعالم مُدَّعٍ يُفسّر النصوص كما يريدون، فعندما نَاسبوا المتطلّبات الحديثة للمرأة، لم تعد تناسبهم تعاليم دينهم، ووقعوا في ريبةٍ واتّهامات لم يستطيعوا التخلصَّ منها.

لقد وصلَ الأمر ببعضهم ممن تأثّر بهذه الخطابات –وإن بالقليل- أن يقف في صفِّ المرأة حتى لو أخطأت وظلمت وقتلت، ولا يوفّروا جريمةً قامت بها امرأةٌ بحقّ أحد إلا ويلصقها برجل ادعوا أنّه ظلمها وكأنّها لا تستطيع أن تتجاهل مشاعرها فلا تُحق الحق ولا تجتنب الباطل. وما مثلهم إلا كمثل من قال الله فيه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]

هل الرجل هو المشكلة، أم الحلول غير المنطقيّة؟
ظلم الرجال هو المشكلة، هكذا يقولون! إلا أننا نرجح أنهم لا يعرفون جوهر المشكلة ولذا فإنهم يردِّدون المعتاد، وجريًا على ذلك يَنصحون المرأة بتقوية شخصيّتها، والحصولِ على حريّتها عن طريق التمرد وتحصيل الشهادات العلمية والاستقلال المادي، وكأنّ لديهم ضماناتٍ بأنّ كلّ امرأة نالت الشهادات فإن ذلك سيُوصلها لأعلى المناصب، وأن كلُّ عملٍ ستعمله سيكون مُريحاً بعيداً عن الذئاب البشريّة، يُدرّ عليها الأموالَ التي ستكفيها ذُلَّ السؤال.

هذا خلطٌ واختزال، والقائلون بذلك لا يُجيدون سوى إثارة المشكلة وإعطاءِ حلولٍ ليست إلاّ مُخدِّراً يُبعد المرأة عن الواقع قليلاً، كلّما ذهبَ مفعوله زِيدَت الجُرعة وربما تصل به إلى أن تقتل صاحبها أحيانًا.

المرأة الغربية مثالاً أعلى
إن كانت مشكلة النساء هو التسلُّط الذكوريّ، فلماذا لا زالت المرأة في الغرب تتذمّر بعد أن وصلت للمساواة رغم أنها تتقلّد المناصب الكبرى وتحقق استقلالها المادي؟ وبتنا نرى الحملات المضادّة للتحرّر لأنها بعدما وصلت المرأة لمآس متنوّعة في ظل “التحرر”.

والحقيقة أنّه كلّ ما مرت بي السنوات -وأنا أعيش بينهم- ازداد شعوري بالشّفقة على حال المرأة في أوروبا، إذ لم أرَ بعدُ امرأةً سعيدة باستقلالها حقاً، وجلّ ما رأيته نساءً تقدّم بهنّ العُمر نَدمن على ما فاتهنّ من سنين لم يَقضينها مع أطفالهنّ، ولم يستمتعن بأمومتهنّ، إذ كان هَمهنّ منصبًّا على تَحصيلُ المال .

ولن أنسى يوماً نبرة صوت الصحفيّة الممتلئةِ بالحزن عندما تحادثنا قليلًا لتخبرني بأنّها تعمل كثيراً ولا تُحصّل إلّا القليل فهي مُضطرة لإطعام أطفالها الثلاثة بعد أن تَطلّقت، ويوجد مثل حالها الكثير.

فهل شاهدوا الفتاة التي تَحمل الصناديق وهي حاملٌ لأنّه عملها، أم الفتيات اللّاتي يَحمِلن في سنّ المراهقة لتصبح مسؤولةَ عن نفسها وطفلها، فَلِأبِ الطّفل الحقُّ في الانسحاب إن أراد فلا زواجَ قانونيّ في هذا العمر، هل علموا عدم شعورها بالأمان إذ تخرج كثيرٌ من الفتيات من منازلهن بسلاحٍ أبيض، وهل شاهدوا فرحة المسلمة الأجنبيّة عندما يخبرها زوجها أنه سيتكفّل بمصروفها ولن تُضطر للعمل بعد الآن.

أعتقد أنّهم لا يعرفون عن هذا الواقع شيئاً، فإن تَخلّصت الغربيّة من ظلمٍ ظَهر ظلمٌ آخر ومشاكلُ أخرى أشدُّ، حيث تمتدّ لتشملَ المجتمع بأكمله كعدمِ الزّواجِ وانخفاض عددِ المواليد حتّى هُدّدوا بالشيخوخة التي تكاد تفني المجتمع…

إذاً هُم فعلاً لا يعلمون أين المشكلة وهذا لا يَشفع لهم، أو لعلهم يعرفون لكنهم يتجاهلون السبب الرئيسيّ وهذا أشدّ وأعظمُ، فالسّبب الرئيسيّ والمشكلةُ هيَ غياب الدّين وعدمُ مخافةِ الله، وما يتبع ذلك من انتشار الظّلم وضياع الحقوق والعدل كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} [طه:124]

ما الجدير فعله لقضية المرأة؟
أنطلق ههنا من تساؤل: إن كان همُّ النسويين المرأة في بلادنا حقًّا، أفليسَ الجديرُ بهم المُطالبة بتحسين وضعها ووضع عائلتها المعيشيّ؟ أليس الأولى بهم دعمها في المدارس والمواصلات حتى تستطيع التعلّم، أو أَن يَحُثُّوها على التَّفقُّهِ بدينها، والتعرّف على واجباتها ومسؤوليّاتها قبل حقوقها؟

لماذا لا يطالبون ببيئةٍ مناسبةٍ لعمل المرأة تراعي ضَعفها وحاجاتها تُبعد عنها الفتنة وعن أبناء المجتمع؟ لماذا لا يُطالَب بمراكز تَحمي أو توفّر المال والأمان للأرامل والمطلقات اللّاتي ليس لهنّ أحد؟  ولماذا لا يُذَكّرُونَها باتّقاء الله واتّباع أوامره؟ و لماذا لا يُطالب أصلاً بالحقوق للجميع فَفي العالم من الظّلم ما يكفي.. والأسئلة هنا لا تنتهي!

لا.. ليس هذا هَمُّهم، فَما هُم إلّا أدواتٌ لِتَمهيد طريق الفساد، الطَّريقُ الذي مَشى فيه من قَبلنا فَأوصلهم للقاع !!

فإن كون المنتقد من النسوة أو من المهتمّين بشؤونها لا يعني قدرته على حمل رايتها، وتقديم العلاج المناسب لها، ولا يعني ذلك استطاعتهم الإمساك بيد كلّ مُستغيثةٍ لإيصالها لطريق النجاة، ولا يعني أن يكون لهم الحقّ في تحديد سنّ الزّواج، في النُصحِ  بالطّلاق، أو في تحديد عَدد الشّهادات الّتي يَجب للفتاة تَحصيلها، ولا في تَشجعيها على الإجهاض، ولا في أن يَضعوا حدّاً لعدد الأطفال في كلِّ عائلةٍ والفُروق بينهم، ولا أن يَصِفوا كلّ امرأةٍ تخالفهم بالجهل، ولا أن يَرسُموا لكلّ فتاةٍ الطريق الذي يجب أن تكون عليه حياتها.

إن الطريق بيِّنٌ، وحقوقنا -نحن النسوة- وواجباتنا ومسؤولياتنا مستمدّةٌ من شرع الله سبحانه وتعالى الذي وَضَع حُدوداً ليس لأحدٍ أن يَتجاوَزها، وأعطانا حقوقاً لا يحقُّ لأحدٍ أن يَمنعها عنا، ومن يفعل ذلك فحسابه عند ربه الأكبر العادل الرحيم، وقدوتنا هو الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ونتعلّم من سير الصّحابة وأمّهات المؤمنين، ومن ثمّ فإن واجب الوقت أن لا يتكلم بشؤون النّساء إلّا أهلُ الحكمة والعلم ممن يعرف حدود الله ونواهيه ليَقف عندها يُفصّلُ الحقّ والواجب، فلا يحرّم ما أحلّه الله، ولا يأتي بكلامه إلّا من القرآن والسّنّة.

المرأة أساسٌ في بناء الأمّة
مساهمة المرأة في بناء هذه الأمّة تبدأ في تجنّب التفكير بنفسها فقط، فهيَ فردٌ وجزءٌ من أسرةٍ ومجتمعٍ بَل هي عَمودٌ أساسيّ في كل ذلك، يَبتَدئُ الإعمار منها بإصلاح نفسها وتزكيتها أوّلاً، وباهتمامها بِما سَتُسأَلُ عنه يوم القيامة، فَلا تَنهضُ الأُمَم بإعطاء الحقِّ لإنسانٍ دون غيره ولا بالعدل لفئةٍ دون غيرها، فكلُّنا نُبحر في سفينةٍ واحدة.

لا تكوني -أيتها الأخت- أسيرةً لجهلِ البعض الّذين أَضلّهم الشيطان ليُضلُّوا غيرهم، وإن مرَّت بك مشكلةٌ أو شكٌّ فإن أكثر ما تحتاجينه هو الصّبر والحكمة واللّجوء إلى الله وسؤال أهل العلم ومن تثقين بهم من ذوي الفضل، ولا أحد يطيق الظّلم، هذا أمرٌ بدهي! ولكنّه واقعٌ موجود لا يفرّق بين جِنسٍ أو لون، سنبقى نعاني منه ما دام هناك بشر لا يَخاف الله، ولا يتّبع الإسلام وسنة النبيّ صلّى عليه وسلّم.

إن شعورنا بالظّلم لا يعني أن نظلم غيرنا وأَنفسنا، ومن هنا فإنه ينبغي الحذر، كما جاء في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلّاق:1]، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النّحل:118]

 

الحبة الحمراء.. حقوق الرجال بعيونٍ غربية

عنوانٌ مضلّل يوهمنا أن الرجال المتربعين على عروش السيطرة والقوة لم يصلوا بعد إلى كل ما أُتوا من حقوق، ويصرف أنظارنا عن المرأة التي هي الحلقة الأضعف في هذا العالم والمناضلة الأكبر في عالم ذكوري والضحية التي لا نملّ من سماع أسطوانة حقوقها المسلوبة ومساواتها بالرجل التي ما زالت مطلوبة.

لكن هل الأمر حقّاً كذلك؟

هذا السؤال هو ما دفع كاسي جاي Cassie Jaye صانعة الأفلام الوثائقية والنسوية إلى الذهاب لشمال أمريكا ومقابلة قادة وأتباع الحركات المطالبة بحقوق الرجل، لتنتج بعد رحلة عام و١٠٠ ساعة من التصوير ومقابلة ما يزيد عن ٤٠ شخص، الوثائقي الشهير الحبّة الحمراء The red pill

كايسي جاي

الحبّة الحمراء، قصة الشعار
الحبة الحمراء هو شعار الرجال في محاولاتهم لفت الأنظار لمشاكلهم ومعاناتهم حسب قول بول إيلام Paul Elam مؤسس منظّمة صوت الرجال، وفكرة الشعار مستوحاة من فيلم الماتريكس الشهير ١٩٩٩ حين يُعرض على البطل نيو حبتان إحداهما حمراء والأخرى زرقاء، ويُطلب منه أن يختار بينهما، فالحمراء تخرِجه خارج المنظومة المتحكّمة، وتريه الأمور من بعد آخر وزوايا ثانية، أما الزرقاء فتُبقيه في سُبات ليُكمل الحياة بنفس الوتيرة والأفكار المسبقة التي نشأ عليها!

تكميم الأفواه في بلاد الحريّات
يوضّح بعض المنتسبين للحركة أن نظرة المجتمع لهم سطحية وكأنهم فقط ردة الفعل العنيفة على وجود فكر نسوي، ويتم شتمهم بأوصافٍ عدة: مثل (كارهي النساء، والرجعيين، والفاشلين، والنوّاحين، والبشعين، وغير المرغوبين والكسالى، والعنصريّين والنازيّين..إلخ) ويتم إسكات مطالبهم حتى من قبل أن يتكلّموا، كما حدث مع وارن فيرل Warren Farrell مؤلف كتاب (خرافة قوة الرجل) في عام ٢٠١٢ عندما كان سيلقي محاضرةً في جامعة تورونتو في كندا ممثلاً فيها الرجال، الأمر الذي دفع النسويين والنسويات إلى التجمهر أمام أبواب القاعة، متنمّرين بذلك على رجال الأمن وكل من تسوّل له نفسه حضور الندوة، ما أنتج عن اعتداءات لفظية وجسدية من طرف النسوية.

وارن فيرل مؤلف كتاب خرافة قوة الرجل

الأمر ذاته واجه البروفيسورة جانيس فايمينغو في جامعة أوتاوا عندما كانت على وشك إلقاء محاضرة تشكك فيها بادّعاءات النسوية، فلم يقصّر حينها النسويّون من شبابٍ وشابّات في التشويش والقرع على الطناجر داخل المحاضرة والتجمّع خارجها محدثين المزيد من الضجيج، إلى أن انتهى بهم الأمر إلى تشغيل جرس إنذار الحريق، وإلغاء المحاضرة.

وفي مؤتمر آخر عُقد في ميتشيغان عن مشاكل الرجال، سارعت قبله حركات النسويات بما فيهم مجلة ميس Ms magazine بالدعوة للتجمهر والمطالبة بإلغاء المؤتمر.

وهنا يسعنا أن نتساءل إن كانت مقاليد القوة بيد الرجال فعلاً، فمن الذي لا يسمح لأصواتهم بالوصول، ولا لمشاكلهم بالظهور على العلن واجتياح الإعلام الذي يعزف نغمة مظلومية النساء ليل نهار!

أسباب القمع، ما الذي ترفض النسويات سماعه؟
يرى بول إيلام أنّ مشاكل الرجال بتنوعها وخصوصيتها وحتى تعقيدها أشبَهُ بنُدَف الثلج التي تتفرد كل قطعة بشكلها، والأمر أصعب على الفهم من تلخيصه بعدة جمل أو شعارات، ويسرد ههنا أرقامًا صادمة، فالرجال يشكّلون ٩٣% من حالات الوفاة أثناء العمل، ونسبة حالات الانتحار فيهم تصل إلى ٤ من ٥، أما نسبة وصول الشباب لتعليم أفضل فإنها تنخفض منذ عدة سنوات بشكل كبير وقد وصل روّاد الجامعة الذكور إلى نسبة ٣٨%، إضافة إلى لبطالة والعنف المنزلي والتشرّد.

ويوضح الوثائقي نسبة ضحايا الرجال إلى النساء في الحروب الخمسة التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية على النحو الآتي:

  • الحرب الكورية: ٣٦٥٧٢ من الرجال لـ امرأتان بنسبة ٩٩.٩% من الرجال
  • حرب الفيتنام: ٥٨٢١٧ من الرجال لـ ٨ نساء لتكون النسبة أيضاً ٩٩.٩% من الرجال
  • حرب الخليج: ٢٨٠ رجل لـ ١٣ امرأة بنسبة ٩٥% من الرجال
  • حرب أفغانستان: ٩٨% من الجنود الرجال
  • حرب العراق: ٤٣٠٢ رجل لـ ١١٠ امرأة بنسبة ٩٨% من الرجال

ويوضح وارن فيرل بأن اختيار الأدوار ليس خياراً، وكل جنس كان يقوم بدوره الوظيفي، فالنساء تلدن وترضعن وتنشِئن الأجيال، في الوقت الذي يخرج الرجال لكسب الرزق والصيد والتعرض للأخطار سواء في الغابات أو حتى في ساحات وول ستريت، وهذا ما حتّمه الواقع على الجميع.

ويضيف فريد هايوورد Fred Hayward مؤسس جمعية حقوق الرجال، بأن ما نراه الآن اكتساحاً للرجال في الأعمال والشركات وحتى الحكومات سببه أنّ هذا ما كانت عليه الحال منذ بضعة قرون وهذا ما وجد رجال اليوم أنفسهم مجبرون على تتمّته!

ويشير أحد أعضاء منظمة حقوق الرجال في الوثائقي إلى أن المظهر البطريركي السائد (سيادة الرجال) يفرض على الرجل أولاً الكثير من الأعمال الشاقة والخطيرة التي قد تكلفه حياته في بعض الأحيان كما في الحروب.

ومن “امتيازات” هذه البطريركية أن الرجال يشكلون ٩٩% من ضحايا النزاعات، و٩٣% من ضحايا العمل، و ٧٦% من ضحايا القتل، و٧٥% من ضحايا الانتحار، وإن كانت المساواة هي ما يقض مضجع النسويّات، فهل وجدن صيغة مناسبة لقياسها؟

يزيد راتب الرجل بنسبة ٣٠% عن راتب المرأة، وتسجل النساء ٥ سنوات وسطيًّا أكثر في الأعمار من الرجال، وتمضي النساء عقوبة في السجن أقل بـ ٦ مرات من الرجل على نفس التهمة، وفي الوقت الذي تُرفَض فيه امرأةٌ في مقابلة عمل ما، يخسَر أبٌ حضانة ابنه للأبد، فكيف يمكن لنا أن نقيس المساواة؟

مظلومات أم ظالمات
تقول كاثرين سبيلر المديرة التنفيذية لمؤسسة الغالبية النسوية: “حقوق الرجال ليست مهضومة، والقانون يحفظها له.”

وهنا ندخل في ملف الأبوة حيث خسارة حضانة الأطفال هي التحدي الأكبر الذي يواجهه الآباء، وتسجل المحاكم الأمريكية نسبة ٨١.٦% من حالات الحضانة لصالح الأمهات مقابل فقط ١٨.٣% لصالح الآباء، وحتى الحضانة المشتركة تتحول بالنسبة للآباء إلى حق يتوجب عليهم دخول معارك طويلة لتحصيله في الوقت الذي تكون فيه حقاً محفوظاً للأم. ويؤكد وارن فيرل أن هذا الملف هو أكثر ما يثير حفيظة الرجال ويدفعهم للمطالبة بشيء من العدالة.

ولابدّ من الاشارة إلى أنّ تقبّل الأدوار على أساس الجنس هو ما تطالب به النسوية، ومع ذلك يُتَقَبَّل انتصار الأم في محاكم الوصاية على الأطفال دون أي إثارة لملف التمييز الجنسي أو اعتبار ذلك إهانة لمبادئ النسوية!

ويروي الوثائقي قصصًا مؤلمة عن آباء خسروا حضانة أبنائهم لصالح الأم، فقط ليعرفوا بعدها أن الطفل تم إرساله للتبنّي في حياة والده! وآخرين خسروا حضانة أبنائهم ودخلوا معارك لسنوات طويلة فقط لتحصيل زيارة يوم واحد، ويعمد البعض الآخر إلى إنهاء حياته إثر قرارات المحكمة بمنعه رؤية أطفاله.

وقامت كايسي صانعة هذا الوثائقي برسم بياني توضح فيه الاحتمالات المتاحة أمام الأب والأم في حالة الحمل غير المخطط له، مشيرة باللون الأخضر بجانب الاحتمال الإيجابي والمرغوب، والأحمر عند الاحتمال غير المرغوب، وتزيد بأن ما يلفت النظر هو وقوع الأب تحت رحمة قرارات الأم، وهذا ما يأخذنا إلى ملف الخداع بالحمل للحصول على النفقة!

المخطط الذي رسمته كايسي للاحتمالات المتاحة أمام الأبوين في حالة الحمل الغير مخطط له

المخطط الذي رسمته كايسي للاحتمالات المتاحة أمام الأبوين في حالة الحمل الغير مخطط له المصدر: https://bit.ly/3sA6Bmu

تقول كاثرين سبيلر إن على الرجل المقدم على علاقة جنسية دون رغبة منه بإنجاب أطفال أن يتخذ كل الاحتياطات الواجبة وأهمها مشاركة الشريكة برفضه فكرة الأطفال، لأنه هنا ما زال ممسكاً بزمام الأمور -تقصد القيام بالعملية الجنسية أو الامتناع عنها- ولكن ما إن يحصل الحمل وبالرغم من الاحتياطات فالقرار لم يعد ملكاً للرجل، والآن الكلمة الأخيرة للمرأة لأن جسدها هو ملكها.

وهذا ما يمتعض منه الكثير من أعضاء الحركة، كيل الجسد بمكيالين، فجسد المرأة هو حقها وحدها، أما جسد الرجل ونسله فلا يتطرق أحد لمن تعود أحقيته؟!

وهذا ما يسمّونه احتيال الأبوة paternity fraudK، ويلخصون نتائجه بأنه:

  • حين تقرر المرأة أن تحمل وأن يشاركها الاب مسؤولية قرارها رغماً عنه (حتى إن رحل عنها، فالنفقة تلحق به قانونياً)
  • أو أن تمارس المرأة الجنس مع شخص عابر، ثم تقوم بنسبة الطفل لشخص آخر.
  • أو المرأة المتزوجة التي مارست خلال زواجها الجنس مع رجل آخر وأنجبت طفلاً ونسبته للزوج

وهذا ما تستخدم فيه النساء ورقة “جسدي ملكي” للضغط على الأب وإجباره على دفع نفقة طفل قد يكون لهم أو قد لا يكون، بإرادتهم أو لا.

أين الإعلام من هذا؟
ينتقي الإعلام من الأخبار المحلية والعالمية ما من شأنه أن يسلّط الضوء على مظالم المرأة والفتيات، متغافلين عن آلاف القصص التي يُقتل فيها الأولاد أو الرجال، ومكتفين بذكر أعداد يتبعها كلمة “شخص”، فعلى سبيل المثال فإن معدلات الإصابة بسرطان الثدي تقارب كثيراً معدلات إصابة الرجل بسرطان البروستات، ورغم ذلك لا نرى في الأخير نفس الزخم الإعلامي الذي يحظى به سرطان الثدي في جميع أنحاء العالم.

ومن بين كل ثلاث نساء واحدة معرضة للعنف المنزلي، ومن بين كل ٤ رجال واحد معرض للعنف المنزلي، ومع ذلك تنتشر في أنحاء الولايات المتحدة أكثر من ٢٠٠٠ بيت لإيواء ضحيّات العنف المنزلي، بينما يوجد بيت واحد فقط للرجال، أو أن مصيره سيكون الشارع غالبًا!

ويذكر الوثائقي قصة الفتيات اللاتي اختطفن في ٢٠١٤ في نيجيريا على يد بوكو حرام، وكيف ضجت الدنيا بالأمر ورفع شعار “أعيدوا الفتيات” والتي رفعته ميشيل أوباما وغيرها من المشاهير والسياسيين، متجاهلين تماماً أنه فقط قبل بضعة أيام من هذا الحدث المؤسف تم قتل واختطاف عشرات الصبيان.

أين نحن مما يحدث؟
قد يتساءل القارئ بعد أن سافر معنا في هذه الرحلة المزعِجة إلى الطرف الآخر من العالم، ورأى ما آلت إليه الأمور، ما شأننا نحن؟ نحن مجتمعات إسلامية شرقية نختلف بعاداتنا وأُسسنا التي بُنينا عليها عن تلك التي في الغرب؟ ولماذا علينا أن نهتم بحبةٍ حمراء أو زرقاء أو ما يعانيه الرجل في مجتمعات أقل ما يمكن القول عنها: إنها انحلت أخلاقيّاً منذ زمن بعيد؟

الحبة الحمراء والحبة الزرقاء

نعم نحن مسلمون وشرقيّون؛ ولكن أُسُسنا تزداد هشاشة يوماً بعد يوم، سواء بازدياد ابتعاد ولاة الأمر عن دين الله الحق الذي كان لنا المنارة والضياء في الحياة، أو مع تخلفنا وجهلنا وانسحاقنا كشعوب غدت سوقاً استهلاكياً لكل ما يهلّ علينا من مشارق الأرض ومغاربها من السلع أو حتى الأفكار والأيديولوجيات، فما كان بالأمس عندنا موضوعاً لا يكاد يُطرح بين اثنين صار اليوم “ترنداً” له روّاده ومنظروه.

وربما لا أجد أبسط من جواب “درهم وقاية خير من قنطار علاج” على السؤال أعلاه، فكل ما عايناه في هذا المقال من حقوق مسلوبة للرجال ما كان إلا بسبب استناده لحلولٍ بشرية مرجعيتها الهوى والارتكاز على عقل الإنسان، حاولت أن تحل معاناة النساء في الماضي دون أي ضوابط، ورأت في التحرر المطلق الطريق الأمثل، مما جعل الحاضر الآن في أزمة جديدة يواجهها الجنسان معاً!

تعاني المرأة في مجتمعنا من صعوبات كبيرة جرّاء الظلم الذي يطالها ويطال أبناءها وزوجها وأبوها وإخوتها بسبب ظلم السلطات من فوقهم، وهكذا إلى مالا نهاية حيث لا تتسع المقالات لسرد ما تعانيه بلادنا.

إن تحزّب جنسٍ ضد الآخر والانقسام فيما بيننا بين نسوية وذكوريّة لم ولن يأتي بنتيجة، فالأولى هو العمل سويةً على تحديد الحرب الحقيقة، وتضافر جهودنا لتصحيح الانحراف الذي ما ينفكّ يُزيغنا ويميل بأبنائنا وبناتنا عن سبيل الحق، باتباعهم الهوى الذي يضع الأنا في المقدمة، ويستميت في إرضائها متناسياً كلمة الحق سبحانه: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] 

أما تغيّر مركزية العبادة فلا نتيجة له إلا المظالم والظلمات المركبة بعضها فوق بعض لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:39- 40]

ختامًا فإن من كانت تؤمن بالله ورسوله وتعبد الله وحده لا شريك له فسترضى بشرعه وستأتمر بأمره وإن لم يوافق هواها، وستعرف حقّ اليقين أن وجودها في حقبة زمنية تحتوي النقيضين من النساء، مظلومات في طرف الكوكب ومستقلات مستقويات في الطرف الآخر، لن يغيّر من حقيقة أنّه لن يصحّ إلا الصحيح، وأن الشرع البشري المحتكم لحاجات الناس وأهواءهم آيلٌ إلى أن يظلم بشكلٍ أو بآخر، فلا كمال إلا من وحيه عزّ وجل ولا هناء وفوز إلا برضاه، أما مشكلات مجتمعنا فنحن أولى بحلها واحدة واحدة، دون تعميم أحكام أو استيراد فلسفاتٍ خارجية ونصائح لم تنفع أصحابها في المقام الأول.

النسوية ومعاداة الأسرة.. من المسببات إلى الواقع

“إن أجندات النسوية لا تسعى نحو المساواة بين الرجل والمرأة فحسب، وإنما هي حركة سياسية اشتراكية مضادة للعائلة وتشجع على تدميرها!”[1] بهذه الكلمات انتقد الواعظ بات روبرتسون الفكر النسوي، وكذلك قام كثيرون غيره ممن وجدوا لمآلات هذا الفكر خطرًا كبيرًا على أصغر وأهم وحدة في المجتمع، فما حقيقة هذه الاتهامات؟ وهل النسوية -فكرً وفلسفةً ونتائج- معادية فعلًا لبُنية الأسرة؟

نماذج من الموجة النسوية الثانية
كانت مطالب الموجة النسوية الأولى (1848) متركزة على تحصيل حقوق أساسية كانت المرأة في أوروبا وأمريكا محرومة منها كحق الانتخاب والتملك والاستدانة، أما الموجة النسوية الثانية –أي ما بعد 1960- فقد كان تركيزها على التحرر والمساواة المطلقين المتضمّنين المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة من حيث الواجبات والمستحقات، وتحرر المرأة والرجل من أي قيود متعلقة بالجسد أو الممارسة الجنسية[2].

سيمون دو بوفوار

كانت سيمون دو بوفوار إحدى أكثر الشخصيات النسوية تأثيرًا؛ تحديدًا كونها قررت كثيرًا من شعارات الموجة النسوية الثانية وأهدافها في كتابها الفلسفي “الجنس الآخر” عام 1949 الذي يعتبره المؤرخون ملهم الموجة الثانية ومشعل فتيلها[3]، فلم تكتف دو بوفوار بمطالباتها مساواة المرأة بالرجل، وإنما قررت ضرورة معاداته ومن ثم الاستغناء عنه كونه أساس النظام الأبوي الذي يمنعها حريتها ويجعلها ملكًا للذكر عبر الدين والقانون، ولكي تتخلص من كل سلطة تمتلك جسدها لم تجد بدًا من التخلي عن الأمومة التي تجبرها على الخضوع لغير رغباتها[4].

يمكن النظر إلى جزءٍ مما كتبته دو بوفوار باعتباره مثالًا على فكرها النسوي، فـ”إن أي دور تقليدي للمرأة ينبغي أن يرفض، فالأمومة لا تحقق ذات المرأة ولا تفتح أي آفاق جديدة للمستقبل، إنما هي مجموعة من المهمات الروتينية التي كانت النساء تفعلها منذ القدم، فلا الإنجاب يقدم للعالم شيئًا ولا الحياة تتوقف على ترتيب السرير ولا ذاك يعبر عن النفس أو يحققها”[5].

الغريب –حقًّا- أن هذا الفكر انتشر في الغرب كالنار في الهشيم وحمله النسويون ونادوا به طوال عقود من الزمن مع أنه يهمل أهمية التربية والإنجاب العظيمة، ويتغاضى عن كون المرأة تنشئ وتبني الجيل الذي سيقوم بكل المهمات في المجتمع في المستقبل من خلالهما ، فأي تحقيق للذات أكبر من هذا؟

والحقيقة أن أي عمل لا يمكن أن يخلو من روتين وتكرار بالنسبة للرجال والنساء على السواء، فمعظم الوظائف لا تحقق الذات بالصورة التي يصفها النسويات -من حيث إحداث التغيير والتعبير عن النفس-، إنما هي عبارة عن روتين لا يسمح للموظف أن يبدي رأيه ولا يغير في بنيته المحددة له مسبقًا، بينما الحلم الذي تقدمه النسويات للمرأة هو أن أي عمل ستحصّله بمجرد خروجها من البيت سيكون مثل الذي تفعله الناشطات اللواتي يقضين يومهن بالكتابة وحضور الحفلات والاجتماعات والمناظرات والظهور في اللقاءات الرسمية وتقديم الندوات والمحاضرات!

بيتي فريدان

وقد وافقت الكاتبة والناشطة النسوية الأمريكية بيتي فريدان على أفكار سيمون من قبلها، وقدّمتها للأمريكيين في كتابها المبسط “الغموض الأنثوي” حيث انطلقت فريدان من فكرة محورية في كتابها وهي كون ربّات البيوت -جميعهنّ- تعيسات مكتئبات، يعانين الملل والإحباط، ولا يقضين يومهُنَّ إلا مشغولات بتوافه الأمور التي تسليهنَّ عن مأساتهن، بينما هنّ جاهلات ومحتاجات إلى منقذٍ يخرجهن من هذه المعاناة إلى النجاة التي تنتظرهنّ في سوق العمل.[6]

تحدّثت فريدان في الكتاب عن تجربتها في الزواج والإنجاب فبيّنت أنّها عاشت مراحل الأنثوية النمطية، لكنها لم تجد ذاتها في أي منها، فقرّرت تركها وتحقيق طموحاتها في تحرير أمثالها عبر النشاط السياسي والاجتماعي.[7]

إن من أهمّ معضلات النسوية -كما نرى- حصرها قضية تحقيق الذات في العمل المدرّ للربح المادي المباشر، حيث اعتبرت أي امرأة لا تمتثل ذلك إنسانةً ناقصة البشرية وسلبيةً فارغة، لا هوية لها ولا طموح ولا أحلام،[8] وأغفلت في هذا كله مشاعر النجاح الكبيرة التي تشعر بها المرأة إن تمكنت من تعليم طفلها القراءة أو رأته يجيد الحساب لأول مرة، وتجاهلت كذلك أن كثيرًا من النساء لا يحتجن العمل خارج البيت ولا يخترنه، وأنّهنّ راضيات وسعيدات بحياتهن البسيطة داخله، يعرفن حق نفوسهن، ويملأن يومهن بما ينفعهن وأسرهن، وههنا لا بد من ذكر ما قالته فريدان -حرفيًا-: “لا أعرف أي امرأة تمكنت من استخدام عقلها، أداء دورها في الحياة، وفي نفس الوقت أنجبت وأحبت أطفالها!”[9]

لا شكّ أنّنا نرى هنا خلطًا واضحًا لهذا الفكر، وتعميمًا كبيرًا يمارَس على النساء جميعهنّ، فقد جعلهن هذا الكلام أشخاصًا فارغين روحيًا يتشابهون في نمط الحياة والنشاطات اليومية، كما خلط بين تحصيل المال وبين الإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى في الحياة كسؤال الغاية والهدف من الوجود.

تقول فريدان: “حتى حين تكون الأم آمنة دافئة في بيتها محاطة بأولادها تلبس الحرير والمخمل والجواهر، فإنها حتمًا ستطلب ما هو أبعد من ذلك.”[10] وفريدان ههنا تشير إلى شعور الغائية الذي لم تتمكّن من تفسيره، والذي لا يختلف فيه رجل أو امرأة ولا يجيب عنه العمل المربح مادّيًّا كما لا تملؤه الأمومة إن لم يكن للإنسان غاية حقيقية يعيش لأجلها –رضوان الله والجنة في الإسلام-، أما جعل تحصيل المال نفسه غاية وتحقيقًا للذات فهذا لا يملأ ذاك الفراغ الذي تصفه النسويات، إنما قد يشغل المرء عنه مؤقتًا لا أكثر.

ولنتأمّل التوازن الذي قدمته المنظومة الإسلامية لحياة الفرد والمجتمع حين لم تطالب أحدًا بالعيش لغيره، فلا الزوج يعمل في سبيل أبنائه، وليس مطلوبًا من الزوجة أن تحترق لأجل أسرتها، بل لفت فكر الناس إلى أن غاية العمل كله رضا الله تبارك وتعالى، وأن لكل فرد واجباته الخاصة المرتبطة بظروفه وابتلاءاته يؤديها مستحضرًا مراقبة الله سبحانه له وحده بصرف النظر عن ناتجها الدنيوي وتقييم المجتمع لها. والمرأة قد تعمل خارج البيت وقد لا تفعل لأسباب خاصة بها، بينما هي في كل ذلك تعرف ما لها وما عليها شرعًا، وتميز بين واجباتها واختياراتها.

هدم الأسرة النووية
لقد رأت رائدات الموجة النسوية الثانية متمثلة بحركة تحرير المرأة في الولايات المتحدة ضرورة تخليص المرأة من سجن الزواج الذي وصفته فريدان بأنه قفص سنجاب مجمّل تدور فيه المرأة دون توقف[11] كما انتشرت مقولة غلوريا ستاينم “المرأة بحاجة للرجل كما السمكة بحاجة لدراجة” ساخرةً فيها من منظومة الزواج والعلاقة التكاملية فيه[12].

وكذلك هاجمت النسوية الليبرالية الحياة الزوجية بطريقة منمقة أو ساخرة، أما النسوية الراديكالية في أصوات مثل كيت ميليت، جيرماين غرير، وشولاميث فايرستون فقد وجهت سهامها نحو بنية الأسرة بشكل مباشر. تقول جيرماين غرير في كتابها “The Female Eunuch”:

“إن الحياة الزوجية قائمة على تعنيف النساء والإساءة إليهن وإهانتهن، ولذلك يجب التخلص من مؤسسة الزواج وإيجاد البديل عنها في حياة لا تجبر المرأة على السكن مع الرجل وفق علاقة محكومة بالقوانين والعقوبات الاجتماعية”[13].

لا شك في أن كثيرًا من مكونات نظرة النسوية للحياة الزوجية منبثقة من أفكار فلسفية راسخة في تاريخها منذ أيام سيمون دو بوفوار التي قدست الحرية الفردية المطلقة المبنية على الاعتبار الوجودي للحياة حيث لا يجد الإنسان الراحة إلا بكونه حرًا بشكل مطلق.[14]

تقول دو بوفوار: إن المرء لا يكون محققًا لماهيته إلا حين يمتلك الاختيار المطلق الذي لا يحده أي وازع خارجي، وهذا شأن الرجل، أما المرأة فإنها تعيش حياتها في خدمة غيرها ضمن أعمال لا تسمو بها ولا تمنحها استقلاليتها ولا تثبت أصالة وجودها، ولذلك فإن على المرأة أن تعيش لذاتها مهتمة بإثبات نفسها متخلية عن قيد الزواج الذي يمنعها من ذلك.[15]

يبدو واضحًا من خلال قراءة أدبيّات النسويّة ونتاجها أن هناك هوسًا متعبًا لدى هؤلاء بالمساواة والمنافسة بين الجنسين في كل السياقات مما أدى بهم إلى إخفاء مفهوم الأنثى والتعويض عنه بمشابهة الذكر، إضافة إلى تجريم الذكورة وما يتعلق بها من صفات ضرورية في الأب والزوج بشكل عام.

يقول سلطان العميري: لقد أصبحت المجتمعات الإنسانية جراء هذا التصور مكونة من معسكرين متحاربين على الدوام، معسكر الرجال ومعسكر النساء، كل منهما يظن في الآخر ظن السوء، ويرى أن حياته معارضة لحياة المعسكر الآخر وحقوقه تتناقض مع حقوقه، وهذا التصور تشاؤمي ناقص، وهو ناتج عن توهّمات باطلة مخالفة لطبيعة الوجود، ونحن لا ننكر أن الصراع موجود في الحياة، ولكننا ننكر تعميمه على كل مظاهرها، والحكم به على العلاقة بين الرجل والمرأة بالخصوص، فمظاهر الوجود متنوعة كثيرًا، منها ما يعيش مع غيره بعلاقة التكامل والتعاضد، ومنها ما يعيش مع غيره بعلاقة التدافع والتصارع.[16]

وتظهر نتائج هذه النظرة جلية واضحة في التفكك الأسري الذي يشهده الغرب اليوم حيث تنتهي 55% من حالات الزواج في فرنسا بالطلاق،[17] ويعيش ربع الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية في أسر أحادية الوالد.[18]  هذه الأسر التي تتفاقم باستمرار تقود الأمهات 86% منها، ويعيش قرابة 3 من كل 10 منها تحت خط الفقر.[19] وتظهر إحصائيات كثيرة أن مستوى سعادة أفراد الأسر أحادية الوالد أقل بكثير منه في الأسر التقليدية، كما أن الأبناء يعانون بسبب غياب الأب وتظهر نتائج ذلك في تحصيلهم العلمي وصحتهم النفسية[20].

إن مهاجمة النسوية لمؤسسة الزواج وتجريمها لكل ما يمكن اعتباره دورًا تقليديًا للرجل أضر بالمرأة أولًا وبالمجتمع كله ثانيًا، فالرجال في الغرب اقتنعوا بضرورة تخلّيهم عن كل دور نمطي عرفوه بعدما صار عارًا وذنبًا لهم، وقبلوا بالتخلي عن مسؤوليتهم التي وصفتها النسوية بالتسلط والأبوية، وبالتالي انقلب الأمر بؤسًا على النساء اللواتي بتن -في كثير من الحالات- مجبرات على لعب دور الأب والأم في ظل مجتمع ظالم لا يعطيهن أيًا من حقوقهن الأصلية تحت مسميات التحرر والمساواة.


الهوامش والإحالات

[1] Elizabeth Schuett, Pat Robertson has odd take on feminism. Seattle Pi. 2004.

Pat Robertson has odd take on feminism (seattlepi.com)

[2] John Olson, Feminism. History. 2019.

Feminism’s Long History – HISTORY

[3] History and theory of feminism. GWA Net Central Asia.

History and theory of feminism (cawater-info.net)

Linda Napikoski, Simone de Beauvoir and Second-Wave Feminism. ThoughtCo. 2019.

How Simone de Beauvoir Inspired Second Wave Feminism (thoughtco.com)

Alice Schwarzer. “After the Second Sex: Conversations with Simone de Beauvoir.” New York: Pantheon Books, 1984.

[4] د. البشير عصام المراكشي، النسوية.

(19) برنامج النسوية – YouTube

[5] Simon de Beauvoir. “The Second Sex.” Trans. Borde, Constsance and Sheila Malovany-Chevallier. New York: Random House, 2010.

[6] Betty Friedan. The feminine mystique. WW Norton & Company. 2010.

[7] (المصدر السابق)

[8]Betty Friedan. The feminine mystique. Page 99-107. WW Norton & Company. 2010.

[9] Betty Friedan. The feminine mystique. Page 99. WW Norton & Company. 2010.

[10] Betty Friedan. The feminine mystique. Page 105. WW Norton & Company. 2010.

[11] (المصدر السابق)

[12] Hollie Petit, A Woman Needs a Man Like a Fish Needs a Bicycle. MuddyUm. 2020.

A Woman Needs a Man Like a Fish Needs a Bicycle | by Hollie Petit, Ph.D. | MuddyUm | Medium

[13] Greer, Germaine, and Andrew Inglis. The female eunuch. London: Paladin, 1971.

Karl Thompson, Feminist Perspectives on the Family. Revise Sociology. 2014.

https://revisesociology.com/2014/02/10/feminist-perspectives-family/

[14] [14] Simon de Beauvoir. “The Second Sex.” Trans. Borde, Constsance and Sheila Malovany-Chevallier. New York: Random House, 2010.

وانظر مقال: ما بعد الحداثة، قسم: الوجودية على موسوعة السبيل، بقلم عرابي عبد الحي عرابي. 2018.

ما بعد الحداثة • السبيل (al-sabeel.net)

[15] Simon de Beauvoir. “The Second Sex.” Trans. Borde, Constsance and Sheila Malovany-Chevallier. New York: Random House, 2010.

[16] سلطان بن عبد الرحمن العميري. ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث. مركز تكوين. 2018.

[17] Abayomi Jegede, Top 10 countries with highest divorce rates in the world. Trendrr. 2020.

Top 10 Countries With Highest Divorce Rate in The World 2020 | Trendrr

[18] Stephanie Kramer, U.S. has world’s highest rate of children living in single-parent households. Factank. Pew Research Center. 2019.

U.S. has world’s highest rate of children living in single-parent households | Pew Research Center

[19] Single Parent Statistics Based on Census Data. Very Well. 2020.

The Single Parent Statistics Based on Census Data (verywellfamily.com)

[20] Mona Charen, Feminism has destabilized the American family. NY Post. 2019.

https://nypost.com/2018/07/07/feminism-has-destabilized-the-american-family/