مقالات

مفهوم النسوية المتأسلمة والأصول المنسوخة

انتشرت النسوية المتأسلمة كبديلٍ حداثيٍّ ليبراليٍّ غير مصادم؛ فوجدت قبولًا عن النّسوية الراديكاليّة كونها إقصائيّة مصادمة، وأصبحت سلّمًا لنشر الإلحاد النّسويّ، واستهدفت النّساء في الصّفّ الإسلاميّ بشكلٍ دائم.

فما هي النّسويّة المتأسلمة؟ وما صلتها بالنّسويّة الغربيّة؟ وهل نجحت في الانطلاق من رؤية إسلاميّة واضحة، والانتهاء لنتيجة تعبّر عنها كما فعلت نظيرتها الغربيّة؟ سيكون محور المقال الإجابة عن هذه الأسئلة بإذن الله.

بين شرعة الله ونهج من سواه

خلقنا الله ﷻ، وأودع في نفوسنا أسرارًا لا يعلمها إلّا هو، ثمّ أنزل إلينا شريعةً تنظّم جميع علاقاتنا على اختلافها تنظيمًا دقيقًا شاملًا، وبما يتناسب مع أسرار وخبايا نفوسنا؛ قال -تعالى-: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.

فعلاقتنا به -سبحانه- تخضع لأصولٍ بيّنتها الشّريعة بوضوح، كما علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالكون والحياة؛ فمن اتّبع هدى الله وصل إلى العلاقة الأجمل والأشمل مع خالقه ﷻ، ومع أخيه الإنسان، ومع الكون والحياة؛ ففاز فوزًا عظيمًا في الدّنيا والآخرة. لكنّ الله ﷻ إذ خلق لنا الطّريقين؛ طريق الخير، وطريق الشرّ؛ ليميز الخبيث من الطّيّب، سلك من أعرض عن ذكره طريق الشرّ؛ فسعى حينًا لوضع قوانين جديدة تحكم علاقاته ظانًّا بجهله أنّها تحقّق له السّعادة المنشودة، وحينًا آخر تخفّى بالاستدلال بشرع الله استدلالًا خاطئًا يتناسب مع أهوائه، وقرأ النّصّ قراءة فلسفيّة؛ ليخرج بها بقوانين جديدة تنظّم علاقاته على اختلافها، بما فيها علاقته بأخيه الإنسان، لا سيما علاقته بالجنس الآخر؛ فظهرت لنا ما تسمّى بـ (النّسويّة المتأسلمة).

النّسويّة المتأسلمة .. سؤال المفهوم

تتعدّد تعريفات النّسويّة المتأسلمة وفقًا لتصوّرات المنتمين لها، وتعدّد الأيديولوجيّات التي يتبنونها، وقد قامت د. إيمان العسيري في كتابها (النّسويّة الإسلاميّة وصلتها بالفكر النّسوي الغربي) بضمّ المعاني التي أقرّوها في تعريفاتهم في تعريفٍ جامع، عرّفت فيه النّسويّة المتأسلمة على أنّها: “كلّ فكرة انطلقت من اعتقاد مبناه أنّ التّمييز بين الجنسين ظاهرة تسود المجتمع المسلم، فمنهم من عدّ النصّ الدّينيّ قائمًا على التّمييز، ومنهم من عدّ التّمييز طارئًا على النّص الدّينيّ؛ أسقط عليه من خلال علماء الإسلام الذين بيّنوه على نحو ما أرادوا هم لا على نحو ما أراده الله ورسوله”.

والنّاظر إلى التّعريف السّابق يرى فيه اتّجاهين؛ واحدٌ رافضٌ للنّصّ، وآخر مؤوّلٌ له، لكنّ الأوّل -الرّافض للنّصّ- قد خبا صوته، واختبأ في عباءة الثاني -المؤوّل للنّصّ-؛ وذلك لرفض المجتمع المسلم للاعتداء على حروف النّص، وهو ما عدّه أهل الإسلام ردّة صريحة، فنتاج ذلك كان التزام الاتّجاه الثاني، واعتماد القراءة التأويليّة بديلًا عن الرّفض القاطع فكيف قرأت النّسويّة المتأسلمة النّصّ؟ وعلى أيّ الأصول اعتمدت؟

أصول النّسويّة المتأسلمة

قدّمت النّسويّة المتأسلمة قراءة جديدة تأويليّة للنّصّ بناءً على أصول عدّة، أهمّها:

1- الزّعم بأنّ النّصّ تمّت قراءته قراءة لغويّة ذكوريّة (بالاستناد إلى علم الفيلولوجيا).

2- الزّعم بأنّ النّصّ تمّ تأويله ذكوريًّا (بالاستناد إلى علم الهرمنوطيقيا).

3- الزّعم بأنّ النّصّ قد تشكّل تفسيره في بيئة تاريخيّة معيّنة. (بالاستناد إلى التّاريخانيّة).

4- الزّعم بأنّ النّصّ لا يمكن فهمه إلّا من خلال المنهجيّة التّفكيكيّة التي تعطي أولويّة لقارئ النّص لا قائله (بالاستناد إلى التّفكيكيّة).

وبما أنّها تلتقي جميعًا في ذات الخطّ؛ حيث تعتمد على النّتاج الفكري كمرجعيّة لحلّ قضايا المرأة، وتحرّر نفسها من الشّريعة، فسنكتفي ببيان أوّل أصلٍ منها، وهو علم الفيلولوجيا.

فقه اللغة (علم الفيلولوجيا)

اعتماد النّسويّة المتأسلمة على علم الفيلولوجيا (فقه اللغة) كأصلٍ لدراسة التّراث الفقهيّ، وفهم معاني النّصّ فهمًا حداثيًّا؛ جاء بناء على زعمٍ منها أنّ اللفظ في العصور السّابقة كان يؤوّل تبعًا لظروف الزّمان والمكان، وبناءً عليه فإنّ ألفاظ الشّريعة التي اعتنت بجسد المرأة، وحفظته من الامتهان هي خاصّة معنًى بالزمان والمكان اللذين فهمت فيهما.

أمّا في زماننا هذا؛ فتفسير اللفظ بذات المعنى يعدّ سلبًا لإرادة المرأة الحرّة، وتكريسًا لتفوّق الرّجل عليها، وفرض سيطرته الأبويّة.

وهو ما يدحضه النّصّ القرآنيّ حين كرّم المرأة، وجعلها متساوية مع الرّجل في جوانب (كالجانب الإنسانيّ، والمعيار الأخرويّ) رغم اختلافهما في جوانب أخرى (كالقوامة، والطّاعة، والقوّة).

وكأمثلة على جوانب المساواة: أن جعل الله أساس التّفاضل بينهما العمل الصّالح؛ كما في قوله -تعالى-: {يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم مّن ذكرٍ وأنثىٰ وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا ۚ إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم ۚ إنّ اللّه عليمٌ خبيرٌ } [الحجرات: 13]، كما دحضه الفقهاء حين أقرّوا الأحكام الشّرعيّة التي تماثل فيها المرأة الرّجل في أصل التّكليف، وشروطه، وأحكامه؛ كما في أبواب: الصّلاة، والزّكاة، …، إلخ.

والسؤال الآن: لماذا تطالب النّسوية المتأسلمة بالمساواة بشكل كامل؛ رغم أنّ الجوانب الإنسانيّة والمعيار المهمّ هو الآخرة؟ ولماذا تضخّم جوانب المساواة عندما يتمّ الحديث عن جوانب الاختلاف؟ وما المرجعيّة والتّصور الذي يجعلها ترى جوانب الاختلاف قمعًا واضطهادًا؟

النّسويّة المتأسلمة ومرجعيّتها الغربيّة .. هل من فروق؟

النّاظر للنّسويّة المتأسلمة ونظيرتها الغربيّة يجد أن لا فرق جوهريّ بينهما، ولا سواء! فهما يتّفقان في المبدأ، ويختلفان في آليّات التّطبيق. فكلاهما ينطلق من مرجعيّة واحدة هي: ما نصّت عليه المؤتمرات الدّوليّة من توصيات بعدم طغيان العمل بالشّريعة الإسلاميّة على معاهدة حقوق المرأة الدّوليّة المسمّاة (سيداو).

وفي حين تركّز النّسويّة الغربيّة اهتمامها على المرجعيّات الغربيّة؛ تركّز نظيرتها المتأسلمة على الأحكام الإسلاميّة، ونصوص الشّريعة؛ فهي وإن لم تظهر العداء للنّصّ الشّرعيّ صراحةً؛ لكنّ مادّيتها ومرجعيّتها العلمانيّة تظهر جليّةً في تأويلها للنّصّ؛ فهي إذن لا يغيب عنها الحقّ، وإنّما تغيّبه بشكلٍ متعمّد!
فهل وصلت النّسويّة المتأسلمة إلى ما طمحت إليه؟

إلى جانب ذلك حين وجد العلمانيّون رفضًا من المجتمع المسلم للنّسويّة، وما تتبنّاه من أفكار محاربة للإسلام، داعية لتحرير المرأة من أوامر ومبادئ كفلت لها كرامتها، وكفتها أمر دنياها؛ لتتطلّع لأمر آخرتها؛ بحثوا عن أرضيّة مشتركة للنّسويّة والدّين؛ بحيث تحقّق أهداف النّسويّة، ولا تتعارض مع الدّين بشكل واضح؛ فكانت النّسويّة المتأسلمة! فهل خدعتنا النّسويّة الغربيّة المتخفيّة اصطلاحًا بالمتأسلمة؟

وممّا لا ينكره عاقل أنّ لابس ثوب الإسلام المحارب له خفيةً أخطر على الإسلام من المحارب العلمانيّ ذي العداء الظاهر للعيان!

فإن أردت نظرةً موضوعيّةً إلى ما حقّقته النّسويّة المتأسلمة؛ فهاك حقيقةً لا يجوز تجاوزها؛ إنّ النّسويّة المتأسلمة على الرّغم من خروجها عن حدود المرجعيّة الإسلاميّة إلى حدود المرجعيّة النّسويّة -بما فيها من مادّيّة وفلسفات بعيدة كلّ البعد عن الإسلام- إلّا أنّها قد توغّلت في المجتمع المسلم بشكل يدعو للقلق؛ إذ دخلته بلسانٍ عربيّ، وأقلامٍ مسلمة -ظاهريًّا-؛ فكان لها ما سألت!

فهل خدع التيّار النّسويّ المتأسلم المرأة المسلمة؟

شقائق الرجال

تأتي أسماء بنت يزيد ابنة عمّ معاذ بن جبل -رضي الله عنهما وأرضاهما- إلى رسول الله -ﷺ-، فتقول: يا رسول الله، إنّني رسول من ورائي من نساء المسلمين، كلّهن يقلن بقولي، وهنّ على مثل رأيي، إنّ الله بعثك إلى الرجال والنّساء، فآمنّا بك واتّبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مخدرات، قواعد بيوت، ومواضع شهوات الرّجال، وحاملات أولادهم، وإنّ الرّجال فضّلوا بالجمعات – أي صلاة الجمعة-، وحضور الجنازات، والجهاد في سبيل الله، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم، وربّينا أولادهم، أنشاركهم في الأجر؟

التفت الرسول -ﷺ- إلى صحابته الكرام -رضي الله عنهم-، وسألهم” :هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالًا عن دينها من هذه”؟

قالوا: لا يا رسول الله.

فقال -ﷺ-: “انصرفي يا أسماء، وأعلمي من وراءك من النّساء أنّ حسن تبعّل إحداكنّ لزوجها وطلبها لمرضاته، واتّباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرّجال”  فانصرفت أسماء وهي تهلّل وتكبّر؛ فرحًا وبشرًا بما قال نبيّنا الكريم -ﷺ-.

تلك الفصيحة الحكيمة صاحبة حسن البيان، لم تكتف بذلك؛ بل كانت طوال حياتها من المجاهدات في سبيل الله بالكلمة وبالنّفس!

فتتردّد على بيوت زوجات النبيّ -ﷺ-؛ تتعلّم دينها، وتعلّمه للمسلمات.

كما شهدت فتح مكّة، وخيبر، واليرموك؛ فكانت تسقي العطشى، وتداوي الجرحى، وتحثّ على القتال؛ بينما قتلت في معركة اليرموك تسعة من جنود الرّوم بعمود خيمتها![1]

خاتمة

قمنا بفضل الله بمعرفة مفهوم النّسوية المتأسلمة، والفرق بينها وبين الرّاديكاليّة، ولماذا لقيت كل هذا القبول المجتمعي عن نظيرتها الإقصائيّة، كما عرفنا شدّة خطرها على المجتمع لا سيما على النّساء في الصّفّ الإسلاميّ، وتعرّفنا إلى الأصول الغربيّة التي تستند عليها في إعادة قراءة النّصّ، وشرحنا أصل من أهمّ تلك الأصول، ووضّحنا المرجعيّة.

ونستشهد بكلام د. إيمان في خاتمة المقال: “التّوفيق بين النّسويّة والإسلام -الذي يسمى بالنّسوية الإسلاميّة- من خلال مسميّات مراجعة الفقه الإسلاميّ/ وإعادة قراءة النّصّ الدّينيّ وغيره منهجٌ لم يخلص دينه لله، وشابته شائبة نفاق، قال الله -تعالى-:  {وإذا قيل لهم تعالوا إلىٰ ما أنزل اللّه وإلى الرّسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدودًا *فكيف إذا أصابتهم مّصيبةٌ بما قدّمت أيديهم ثمّ جاءوك يحلفون باللّه إن أردنا إلّا إحسانًا وتوفيقًا} [النساء: 62] إنّ المرجعيّة النّهائيّة التي يرجع إليها المسلم هي: {ما أنزل الله وإلى الرّسول}؛ والمرجعيّة النّهائيّة التي ترجع إليها النّسوية هي: طاغوت الحريّة المطلقة المنفلتة الذي أمروا أن يكفروا به. وربّما استغلّت النّسويّة الإسلاميّة بعض أحكام القرآن والسنة التي جاءت في سياق تكريم المرأة؛ ولكن: مهما حصل من التقاء في بعض النّقاط في هذين الطّريقين إلّا أنّ لكلّ طريق غايته، وأصوله، ومعالمه التي يتميّز بها عن الطّريق الآخر، والتّوفيق بينهما منهج نفاق، {إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا}”. [النسوية الإسلامية]

وفي أيّامنا هذه التي يريدون فيها تحرير الحرّة، وسلبها حقوقها التي حفظها لها الإسلام؛ بالمطالبة بمطامعهم فيها؛ تلك المطامع التي تتمثّل في تسليع المرأة، وجعلها كيانًا مستقلًّا عن الوليّ؛ لتكون لقمةً سائغة لذيذة في أفواههم؛  تذكّري أختي المسلمة امرأة ذهبت لنبيّها الذي أوتي جوامع الكلم؛ تسأل بأدبٍ وفصاحة جمّة عمّا لها في الإسلام من جزاء مقابل ما التزمت به ممّا بايعت عليه الرسول -ﷺ- يوم آمنت به؛ فيصفها الذي أوتي جوامع الكلم بأنّه لا امرأة أتت بأحسن من مقالها!

 فالتزامك بأمر ربّك هو الفارق لا جسدك!  فلا تنخدعي؛ وأنت شقيقة الرّجل! وأنّى لهم أن يحرّروك وأنت الحرّة؟


مصدر للاستزادة:

 النسوية الإسلامية وصلتها بالفكر النسوي الغربي – د. إيمان بنت محمد العسيري

[1] عن محمّد بن مهاجرٍ، وعمرو بن مهاجرٍ، عن أبيهما: أنّ أسماء بنت يزيد بن السّكن بنت عمّ معاذ بن جبلٍ قتلت يوم اليرموك تسعةً من الرّوم بعمود فسطاطها.(رواه سعيد بن منصور في سننه، والطبراني في (المعجم الكبير)، (وحسّنه الألباني).

النسوية المتأسلمة بين الأصالة والتبعية

إن المجتمعات العربية والمسلمة -كغيرها من المجتمعات التي شهدت انحداراً ثقافيا- حاولت في مهمتها الإصلاحية أن تقتفي أثر الثقافات الغالبة متبنّية رؤيتها الكونية ومناهجها العلمية، ويشهد على ذلك حقل النسوية الذي لم يسلم من “التّأسلم” كباقي الأيديولوجيات التي احتفى بها بعض المفكرون العرب في القرن الماضي خاصة، على رأسها الماركسية. إذ أمست النسوية الإسلامية من أبرز ما تمخض عن هيمنة الغرب فكريًّا، ونتاجًا للعجز عن التمييز الثقافي أثناء التعريف بالذات المسلمة والعربية أو محاولة تجاوز ما لحقها من تشتت وانحدار.

الجذور التاريخية للنسوية الإسلامية

ترجع بعض الكتابات ظهور مفهوم النسوية الإسلامية في تسعينيات القرن الماضي في تركيا، وبالتحديد مع كتاب “الحداثة الممنوعة” للباحثة التركية نيلوفر غول[1] سنة 1991م، والذي التقطت فيه مقولات نسوية وسط الإسلاميات التركيات، ثم ظهور المفهوم بعد سنة مع مجلة زنان الإيرانية.

توالى ذلك دخول الأفكار النسوية إلى الوسط العربي عبر البعثات العلمية إلى الغرب، وكذلك من الأعمال الذي قدمها رجالات النهضة المثقفين العرب من المسلمين والنصارى، وأيضا عن طريق تقليد الشرائح الاجتماعية شبه الأرستقراطية للثقافة الغربية ومسالكها، والملفت للانتباه أن دعاة النسوية -في بداية ظهورها في العالم العربي- كانوا رجالاً، كرفاعة الطهطاوي[2] وقاسم أمين[3] ومرقص فهمي[4]، ثم توالى ذلك ظهور شخصيات نسائية كهدى الشعراوي[5] ودرّيّة شفيق[6]  وأمينة سعيد[7] وصولا إلى أواخر مراحل استقرار النسوية في العالم العربي على يد نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي، إلخ[8].

في الأعلى من اليسار إلى اليمين :هدى الشعراوي، درّيّة شفيق، أمينة سعيد في الأسفل من اليسار إلى اليمين: نوال السعداوي، فاطمة المرنيسي

منبت الصفة الإسلامية

قد يتبادر للذهن أثناء إطلاق وصف الإسلامية على النسوية، أن هذه الأخيرة تستنبط من الوحي حلولاً لمشاكل المرأة دون خروج عن إطار الشرع، لِما يقتضيه من حاكمية وإلزام. في مقابل النسوية العلمانيّة التي تعدّ الدين –صريحاً- عَقبة تحيل دون تحقيق المستقبل النسوي وبالتالي وجوب الفصل بين الدين والقضايا النسائية والسياسية. وهو أمر نجد له تفسيراً في الوسط الغربي الذي عانت فيه المرأة أشدّ معاناة باسم الدّين وتراث الفلسفة اليونانية، فقد اعتبر أرسطو الأنوثة تشوُّهًا[9] وجعل أفلاطون المرأة في مقام العبيد والأطفال، وجعلها رجال الكنيسة شرّاً لا بدّ منه ومدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، فأجبرها على الصمت في الكنائس وحرمها الميراث وحقها في التعليم، ونظر إليها توماس الأكويني[10] من خلال معيار الذّكورة، فوسمها بالرّجل الناقص، وذلك لأن الرجل -حسب اعتباره- يمثل المقياس الكامل للوجود البشري[11]، فظلت المرأة طوال هذه القرون سبب كل الآثام، حاملة الخطيئة الأولى، الملعونة التي أغوت آدم: “فَوَجَدْتُ أَمَرَّ مِنَ الْمَوْتِ: الْمَرْأَةَ الَّتِي هِيَ شِبَاكٌ، وَقَلْبُهَا أَشْرَاكٌ، وَيَدَاهَا قُيُودٌ. الصَّالِحُ قُدَّامَ اللهِ يَنْجُو مِنْهَا. أَمَّا الْخَاطِئُ فَيُؤْخَذُ بِهَا.”[12]

كلّ هذه العوامل مهّدت لظهور حركة نسوية علمانية في البيئة الغربية، والتي لم تكتفي فقط بإصلاح الدين ولكنها عمدت إلى إلغائه بالكلية، وحاولت إعادة صياغة ذاكرة جماعية تقوم على القوانين العقلية والوضعية فيما يضمن المساواة بين الجنسين ويلغي الفروق بينهما، الأمر الذي عمدت إليه النسوية الإسلامية كذلك فلم تكن مجرّد محاولة لإصلاح الواقع باستنباط حلول من الوحي ولكنها محاولة لإصلاح الوحي انطلاقا من الواقع.

“فمصطلح النسوية الإسلامية يظل عالقا بهن [النسويات الإسلاميات] من جهة واحدة على الأقل، هي أنهن جميعا يصرحن بأنهن يردن إصلاح الإسلام الذي يعني في بعض الحالات الأخذ بعلمانية صريحة، بينما يعني في حالات أخرى رفض الأساس الميتافيزيقي أو اللاهوتي الذي يقوم عليه الإسلام نفسه، وهو الأساس الذي لا يكون أحد مسلمًا على وجه الحقيقة بدون الإقرار به”[13].

أرسطو (اليسار)، توماس الإكويني (اليمين)

الصفة الشّاغِرة

أخذت النسوية صفة الإسلامية لاشتغالها بنصوص الوحي وتأويلها أكثر من كونها تعتمد على هذه النصوص كمرجعية ثابتة، فكان متنُ منهجها التأويلي الانطلاق من الكليات الإسلامية العامة وتطبيقها على باقي الأحكام دون اعتبار لخصوصيتها أو حدودها الشرعية، كاستنتاجهم من عدل الله لزوم تحقيق المساواة التامة بين الجنسين، الأمر الذي يستلزم إقصاء بعض الآيات والأحاديث النبوية التخصيصية كونها لا توافق الكليات أو المثل الأخلاقية العامة.

تقول آمنة ودود: “رغم قبولي بدور النبي سواء فيما يتعلق بالوحي كما هو مفهوم في الإسلام، أو تطور الشريعة الإسلامية على أساس سنّته أو سننه المعيارية، إلا أنني أضع أهمية كبرى على القرآن، وهذا يتطابق مع الفهم القويم لعصمة القرآن بمقابل التناقضات التاريخية الواردة في مصادر السنة، إضافة إلى ذلك أنني لم أسلم بأن المساواة المبنية في القرآن بين الرجل والمرأة يمكن أو يلغيها النبي. ولو وجد هذا التناقض فسوف أكون في صف القرآن”[14] ، وتضيف النسوية أميمة أبوبكر[15] في بيان مركزية القرآن التأويلية مقابل السنة “مركزيّة القرآن هذه والتكليف الإلهي للبشر جميعًا بمسؤوليّة تجسيد وتحقيق المثل الأخلاقية في الحياة الدنيا، هما أساس المشروع التأويليّ للنسويّة الإسلامية”[16] وتحفّظ بعض النسويات الإسلاميات من رفضهن المطلق للسنة نابع فقط من خشية فقدان السند الموضوعي للنسبية التاريخية لأحكام القرآن[17].

تقمّص دور المجتهد

الاعتماد على المبادئ العامة والمفاهيم الفضفاضة دون اعتبار ضوابطها وسياقاتها المحددة جعل النص القرآني قابلاً لاستيعاب جميع القراءات وتجاوز معناه القاطع أو ما يحتمله من معانٍ محدودة خدمةً للمنهج الهرمينوطيقي، أو ربط الدلالات القاطعة بالسياق التاريخي عبر قراءة تاريخية للنصوص.

من التطبيقات التي توضّح مدى هذه التجاوزات التأويلية -إمامة النسوية آمنة ودود صلاة الجمعة في مسجد تزيّن جدرانه أعلام حركة ما يعرَف بمجتمع الميم -أي أصحاب الميول الجنسية غير السويّة- وفي صف مختلط من الرجال والنساء على غير الهيئة الشرعيّة المُقدّرة، وإعادة تفسير مفاهيم من قبيل الحجاب والقوامة بما يضاد التفاسير المتفق عليها بشكل شبه كلّي، وهو ما سماه الإمام رشيد عمر “جهاد الجندر/الجنوسة” « Gender theory »  والذي تبنته أمنة ودود وجعلته عنوان أحد كتبها .[18]

الجهود التأويلية النسويّة

ظهرت المهمة التأويلية موزعة بين رائدات النسوية الإسلامية اللواتي شغلن مناصب علمية وبحثية ذات وزن أكاديمي معتبر، إذ نرى الفكر النسوي في المغرب العربي ينمو على يد أسماء المرابط و”قراءة النماذج النسائية في القرآن الكريم قراءة للتحرّر” وعلى يد السوسيولوجية فاطمة المرنيسي في تبنيها المنهج النقدي لعلم الجرح والتعديل ممثلة دراستها في نموذج حديث “لم يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة”، وفي الحديث كذلك نجد ألفة يوسف ونقدها النسوي –من منطلق التحليل النفسي- لحديث “ناقصات عقل ودين”، ونائلة سليني وتبنيها للمنهج التاريخي في دراسة التفاسير تاريخانيا وصلة ذلك بالإرث، وفي المشرق –مصر تحديداً- نجد أميمة أبو بكر مشتغلة على مفهوم “القوامة” بنفس المنهج التاريخي، واهتمام أماني صالح بالجانب الاصطلاحي والمفاهيمي للنسوية الإسلامية.

وعلى هذا تلخّص المؤرخة مارغو بدران مقاصد الفلسفة النسوية الإسلامية في النقاط التالية:[19]

أولاً: تجديد فهم النصوص القرآنية وفق منهج الهرمينوطيقا القرآنية المعزز لمبدأ المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، مما يجعله تحريفًا صريحًا، إلا أنه السلّم الذي تتبعه النسويات لفرض آرائهنّ حيث تؤكد آمنة ودود أنه لا يتعين على المسلمات أن يمررن بالعلمانية لكي يفرضن حقهن الرئيس في المساواة، الطريق إلى ذلك هو إعادة تأويل النصوص المقدسة.

ثانياً: تأكيد حق المرأة في الاجتهاد وفي إعادة قراءة النص الديني تعزيزا للمبادئ الإسلامية في المساواة والعدل.

ثالثاً: تأسيس المساواة بين الجنسين على مبدأ الخلافة والتوحيد، إذ لا يستقل الرجل بخصوصية –في شأن الخلافة- عن المرأة.

خاتمة

 إنّ عرض هذه المقاصد بيان لحقيقة النسوية الإسلامية التي تختبئ وراء مفاهيم شاغرة كالاجتهاد والتأويل متجاوزة الوحي، حيث تقوم بتصييره لموافقة الأصول الفكرية الكبرى للنسوية من علمانية وليبرالية وجنوسة وتاريخانية ومساواة مطلقة، الأمر الذي يجعل الوصف الإسلامي لا يتعدّى كونه مجرّد غطاء لستر السلوك العلماني المباشر في ردّ النصوص الدينية.

إنّ الوصف الإسلامي يقتضي التأسيس العقدي والقيمي والمعرفي والفكري على دين الإسلام، هذا ما لا ينطبق على النسوية الإسلامية التي لا تهتم بالبحث في الوحي إلا من باعث تبريري، فالأسس الفكرية للنسوية عموما دفعتها لتقف موقفاً معاد من الدين في أغلب حالاتها وموقف الإصلاح في بعضها، الأمر الذي اضطرّ بالنسوية الإسلامية إلى الالتزام بهذا الأساس الفكري مقابل تطويع نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية لتتوافق وَ أسس الفكر النسوي الحداثي، مستندة في ذلك على عدة أدوات ومناهج معرفية متمثّلة في التأويل الهرمينوطيقي والقراءة التاريخية والجندرية لنصوص الوحي، ما يشير إلى أنّ وصف “الإسلامية” لا يتعدّى كونه تحديداً للمجال التي تقوم النسوية بتأويله لتبرير المطالب.


المصادر والمراجع

  1. جدعان، فهمي. خارج السرب: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت-لبنان، ط2، 2012م.
  2. الجهني، ملاك. قضايا المرأة في الخطاب النسوي المعاصر: مركز نماء، بيروت، ط1، 2015م.
  3. جين شيفرد، ليندا. أنثوية العلم: عالم المعرفة، الكويت، العدد 306، 2004م.
  4. الخريف، أمل ناصر محمد. مفهوم النسوية دراسة نقدية في ضوء الإسلام، مركز باحثات لدراسات المرأة، الرياض، ط 1، 1473ه/2016م.

[1]. نيلوفر غول: باحثة تركية وأستاذة علم الاجتماع في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس.

[2]. رفاعة الطهطاوي: (1801م-1873م) عالم وصحفي مصري، يعتبر رائد الحركة الفكرية في مصر.

[3]. قاسم أمين: (1856م-1908م) قاض ومصلح اجتماعي مصري، دعا إلى تعليم المرأة وتحريرها من التقاليد حسب زعمه.

[4]. مرقص فهمي: (1870م-1955م) محامي مصري وكاتب قبطي مصري.

[5]. هدى الشعراوي: (1879م-1919م) ناشطة اجتماعية مصرية في مجال الدفاع عن حقوق المرأة.

[6]. درية شفيق: (1908م-1975م) باحثة مصرية وإحدى رائدات حركة تحرير المراة في مصر.

[7]. أمينة سعيد: (1919م-1995م) أديبة وصحفية روائية مصرية.

[8] . ينظر: الخريف، أمل. مفهوم النسوية دراسة نقدية في ضوء الإسلام، ص77.

[9] . ينظر: جين شيفرد، ليندا. أنثوية العلم، ص28.

[10] . توماس الأكويني: قسيس وقديس كاثوليكي إيطالي من الرهبانية الدومينيكانية، وفيلسوف ولاهوتي مؤثر ضمن تقليد الفلسفة المدرسية.

[11] . ينظر: الخريف، أمل. مفهوم النسوية دراسة نقدية في ضوء الإسلام، ص48/49.

[12] . سفر الجامعة [7: 23]، موقع كنيسة القديس تكلا هيمانوت القبطية الأرثوذكسية –الإسكندرية، مصر، (جا 7: 26): فوجدت أمر من الموت: المرأة التي هي شباك وقلبها أشراك ويداها قيود الصالح قدام الله ينجو منها أما الخاطئ فيؤخذ بها (st-takla.org).

[13]. جدعان، فهمي. خارج السرب، ص87.

[14]. الجهني، ملاك. قضايا المرأة في الخطاب النسوي المعاصر، ص100-99.

[15]. أميمة أبو بكر: باحثة وكاتبة ومترجمة نسوية، تشغل حاليًا منصب أستاذة للأدب الإنجليزي المقارن في جامعة القاهرة، ونائبة رئيسة مجلس أمناء مؤسسة المرأة والذاكرة.

[16]. المرجع السابق.

[17]. ينظر: المرجع السابق.

[18] . انظر: جدعان، فهمي. خارج السرب، ص78.

[19] . ينظر: جدعان، فهمي. خارج السرب، ص78-77.

إصدار كتاب “اعترافات نسوية سابقة”

تعلن مؤسسة السبيل عن جديد إصداراتها كتاب اعترافات نسوية سابقة من تأليف أم خالد وترجمة كوثر الفراوي ومراجعة وتعليق تسنيم راجح.

في هذا الكتيّب نسافر مع الكاتبة عبر محطّاتٍ وتساؤلاتٍ كثيرة وهي تكتشف ذاتها في عالمٍ يريد كلّ شخصٍ فيه وكل مكانٍ منه أن يخبرنا من نحن وإلى أين ننتمي وماذا نريد أن نكون، المسلمة ذات الأصول العربية؟ أم الأمريكية الليبرالية؟ طالبة الثانوية المتمردة؟ أم المرأة الحرة المستقلة؟

نرى كاتبتنا هنا تكبر وتنضج مع كلّ صفحة، تجد إجاباتها وتدفعنا للسؤال عن إجاباتنا..

تقول بكلّ بساطةٍ أنها نِسوية سابقة تقدّم اعترافاتها وتحكي جانباً من قصتها..

لكن ماذا عنا نحن؟ ما هي القصة التي نريد أن تكون قصتنا؟ وما النهاية التي سنسعى نحوها في كتابنا؟

هذه وغيرها من التساؤلات تشعلها في نفوسنا هذه المقالات القصيرة، ونسأل الله أن ينفعنا بها ويبارك في كل كلمة نقرأ منها..

يمكنكم تحميل الكتاب من هنا

ليهلك الحرث والنسل!

انتشرت دعاوى النسوية وأُضرمت أيديولوجياتها كالنار في الهشيم، فهي محاولات تقف على قدم وساق لإعادة صياغة العالم وكتابة تاريخه بمداد عدائي صارخ. عالَمٌ حيث السلطة فيه مُحتَكَرةٌ للمرأة، هي الآمر والناهي، كل الأدوار المركزية، القيادية منها والسياسية تسير وتتحدد وفق ناموسها المقدس الجديد، مجتمع فيه يُنسب الأبناء للأم، وينحصر حق الإرث في فرع الأم في سلسلة النسب، وحتى الزوج يقطن مع عشيرة الزوجة/الأم.

حرب امتلأت صفحات الكتب والمواثيق بزخرفة وتزيين شعاراتها لإنزالها على أرض الواقع، في محاولة لمحاكاة العالم الأصلي الأمومي بحسب ما يزعمون، إذ تقول الكاتبة النسوية مارلين فرينش في كتابها: (الحرب ضد المرأة): “إن التجمّعات السكنية البشرية الأولى كانت تعبد آلهة مؤنثة، وتعيش في تناغم قائم على التساوي، وتنعم بالرخاء المادي حيث كانت المرأة تتمتع بمكانة أعلى من الرجل، وباحترام أكثر منه ثم جاء (النظام الأبوي) ليحل محل هذه المجتمعات وعلى رأس (الملوك الكهنة) الذي خلقوا نظاما طبقيا يُخضع المرأة”.

معاول الهدم

على أساس فرض المساواتية بل وتسليم السلطة للمرأة، فقد سعت أيدولوجيا النسوية بخطوات حثيثة لرفع معاول الهدم والوقوف في وجه كل من يقعِدها عن بلوغ غايتها، فكان السبيل الأوحد  هو تثوير الأنثى ضد الرجل بتقديمه كعدو، وسلطوي، و متآمر لا خير فيه، حتى تنأى وتنفر رويدا رويدا  من كل رابطة يكون هو أحد أطرافها سواء كان أبًا، أخًا كان أم زوجًا، عدا عن تشويه وازدراء كل ميل فطري للأنثى وعلى رأسه: الرغبة في الزواج أو الأمومة! باعتبار الزواج مؤسسة تقوم على مقايضة النساء كسلعة بحسب “جاكلين جيلر”، وبما أنه “مجرد عبودية للمرأة فإن على الحركة النسوية مهاجمته.. والطلاق هو سبيل النساء المحبطات والعاجزات والمغامرات” كما ترى ستيلا كرونان.

أما عن الأمومة، فتجيبنا نانسي شودري بالقول: “الأمومة سجن للمرأة في إطار نوعي تفرضه على نفسها، إذ إنه ليس من الضروري أن تكون المرأة ‘أمّا'”. غريزتكِ، فطرتكِ، جبلتكِ.. ما هي إلا أساطير اختلقها الرجل والضغط المجتمعي لتقييدك بها وسلب حريتكِ! لذا فنحن هنا..الحركة النسوية قائمة قاعدة لا شاغل لها غير تمكينكِ وتحريركِ!. فما هي الوسائل التي اتبعتها النسوية لتجعل لها قدم صدق تدعم قولها؟

تحديد النسل بالورقة والقلم!

لم تأل الحركة النسوية جهدها في تمزيق نسيج الحياة الطبيعي وفطرتها المقتسمة بين الذكر والأنثى، لذا تفننت في تنويع الأساليب والطرق لتوسيع الفجوة بينهما إما عن طريق تثوير المرأة ضده الرجل، أو بتنصيب عقبات وأصنام تخدم أيديولوجيتها الخبيثة على المدى البعيد، وتباعد بين الشباب والزواج أطول فترة ممكنة!
وهو ما تؤكده التقارير الواردة من منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها على دور التعليم في إنجاح هذه النقطة، ومن ذلك ما ورد في تقرير المؤتمر الدولي للسكان والتنمية/ القاهرة(١٩٩٤) من أن زيادة تعليم المرأة تسهم في زيادة تمكينها وفي تغيير سن الزواج، وفي تخفيض الأسر، وهو الأمر الذي تشدد عليه منظمة الأمم المتحدة وتعلنه صراحة بالقول: “إن المرأة المتعلمة أكثر استجابة لبرامج تنظيم الأسرة، وهي تميل إلى المشاركة في التنمية الاقتصادية التي يمكن أن تعيقها (كثرة الإنجاب)، ويؤكد هذا الزعم تلك الدلالات الإحصائية التي تشير إلى أن زيادة تعليم النساء تؤدي إلى (الإقلال من الخصوبة) أكثر من زيادة مماثلة في تعليم الرجال” [المرأة العربية والتنمية، مريم سالم].

وهو ما بذلت في سبيله المنظمة وسائل عدة، لعل أبرزها “التركيز على أهمية التعليم في كل المراحل: الابتدائية، الثانوية والجامعية”، في محاولة منها لإطالة فترة تعليم المرأة بشتى الوسائل حتى لو “اضطرت إلى جعل التعليم الأساسي  يمتد لست سنوات بدل خمس، بالإضافة للتشديد على التعليم العالي كعامل مساعد على تأخير فترة الخصوبة عند المرأة، بحيث بدل أن تبدأ مرحلة الإنجاب في سن مبكرة، لا تبدأها حاليا إلى بحلول الثلاثين، وبالتالي تقليل عدد الأفراد إن لم يحصل العزوف بالأساس” [دور الاتفاقيات الدولية في الوقوف في وجه الزواج المبكر، د.نهى قاطرجي].

كما أكد الباحثون وشددوا على أهمية التعليم في القيام بالدور البديل وخاصة منه التعليم العالي في تحديد النسل وتقليل الخصوبة بفاعلية أكثر من استخدام وسائل تحديد النسل. لذا ورد في وثيقة للجمعية العامة للأمم المتحدة بأنه “ينبغي على الدول إنشاء المزيد من المدارس وتوظيف مدرسين مؤهلين وخصوصا المدرسات الإناث، وتدريبهم فيما يتصل بمواضيع مثل المنظور الجنساني”.. تلك كانت هي وبصورة أضمن بما لا يقاس أفضل “موانع الحمل” على حد تعبير (فيديريكو مايور).

كل هذه الاتفاقيات شغلت المنظمات النسوية القسم الأكبر في إنفاذ بنودها والضغط على الحكومات لمواءمة قوانينها المحلية مع توصيات هذه الاتفاقيات في سياق محاربة الزواج المبكر!

فيديريكو مايور (ويكيبيديا)

تغيير أشكال الأسرة:

بما أن النسوية جعلت العالم كحلبة صراع بين الجنسين فهي بذا لم تترك واديًا لتنحية أو محو معالم الرجل إلا وسلكته، لذا لا غرابة إن تحالفت أو قل كانت الداعم الرئيس للحركات الجنسية المناقضة للفطرة حول العالم، لأنها رأت فيها اللبنة الأساس لإنفاذ مطامحها على أرض الواقع بخطى ثابتة. من خلال الدعوة إلى إيجاد بدائل تُغني عن الأسرة التقليدية -كما أسمتها -المكونة من زوج، وزوجة، وأبناء، معتبرة أنها نمط اجتماعي تاريخي يُمكن تجاوزه! وتشكيل أسر جديدة على رأسها: الأسرة المثلية (أنثى=أنثى/ذكر=ذكر)، وهو مطمع أعربت عنه صراحة الكاتبة والمنظرة النسوية (مونيك ويتق) بالقول: “إن خلاصنا تطلب منا أن نبذل كل ما في وسعنا لتحطيم طبقة النساء التي يستخدمها الرجال لتشكيل النساء وفق رغبتهم. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بتحطيم نظام الزوجية(ذكر/أنثى) بوصفه نظاما اجتماعيا قائما على اضطهاد الرجال للنساء، والذي أنتج الاعتقاد في الفرق بين الجنسين كتقنين لهذا الاضطهاد” [ الأسرة في الغرب، ٢٩٢-٢٩٣].

وبذا بعد أن بُدئ الأمر بالمساواة التامة انتهى بها إلى الاستغناء عن الرجل بالكلية، عن طريق اجتثاث العلاقات الجنسية وخلق علاقات مطموسة المعالم الكل فيها واحد، لا يتفرد فيها هذا عن ذاك! معتبرة أن “القضاء على الأدوار المرتبطة بالجنس لن يتحقق إلا بالقضاء على الأدوار الثابتة التي يقوم بها الرجل والمرأة في عملية الإنجاب” [جدلية الجنس، شولاميت فايرستون].

النسوية على هذا الأساس جعلت من الجندر هو الحجر الأساس في مسيرة دعوتها إلى إلغاء الفوارق بين الجنسين، بعد أن تم اعتماده كأداة تحليلية لفهم أبعاد هيمنة الرجل، واعتباره أداة تفصل ما بين البعد الاجتماعي والثقافي،  أو كما عبر عالم الآثار ف. جوردون تشايلد V. Gordon Childe منذ خمسين عاما عن فكرة عدم وجود طبيعة بشرية سوى تلك الطبائع التي صيغت تدريجيا في داخل التاريخ الإنساني، حين جعل عنوان دراسته الكلاسيكية عن الحياة في العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث والحياة الحضرية الأولى: (الإنسان يصنع نفسه) “واليوم يمكننا أن نقول -بمساعدة حس صقلته الدراسات الأخيرة-: إن التاريخ هو سرد للطريقة التي يصوغ الرجال والنساء بها أنفسهم، مرة بعد”.

ف. جوردون تشايلد (ويكيبيديا)

من تكون: صُنع في الصين!

وسط هذه الدعوات الصارخة للحط من قدر مؤسسة الزواج والأمومة، كان لا مناص من أن تعيش بعض الدول تبعاتها. ولعل على رأسها الصين التي لم تلبث أن خرجت مؤخرا بخبر تعلن فيه تطويرها لأرحام اصطناعية للأجنة البشرية، بعد أن تراجع مستوى معدلات المواليد إلى المستوى الأدنى لها منذ ستة عقود.

ولنقف عند (الأرحام الاصطناعية) فهي عبارة مُخبرة عمّا آل إليه الإنسان، إذ أصبح قاب قوسين أو أدنى من الإجابة ذات يوم عن سؤال من “أنت؟” بـ: “أنا منتَج صُنع في الصين”!

كيف لا والحال أن: المادية الليبرالية، والإلحاد وأخيرا النسوية كلها تتقاذفه مجتمعة من هنا إلى هناك..
كيف بالمرأة وقد أصغت آذانها للنسوية المُغرقة في ازدراء ما اعتبرته مجرد وظائف نمطية للمرأة لا حرية لها إلا بالتحرر منها! أو كما قالت النسوية إيزنشتاين: “إن ثورة الفيمنيزم قد جاءت فقط عن طريق رفض الأسرة البيولوجية.. يجب القضاء عليها من خلال بناء خيار (الإنجاب الصناعي)، وتتشئة الأطفال بمشاركة أفراد المجتمع في ذلك.. فقط بإلغاء كل من المسؤولية الفيزيائية والسيكولوجية للمرأة يكون ممكنا إنجاز تحرير المرأة”. [حركات تحرير المرأة من المساواة إلى الجندر].

(الإنجاب الصناعي) أو قل: المصنع البديل لإنتاج وحدات (أطفال) أرخص، أبخس وأسرع لتدوير عجلة الرأسمالية! منتَج كغيره من المُنتجات والأشياء. معايير على هذه الشاكلة هي التي أفضت الساحة لعناوين على شاكلة: (الصين تختبر أرحاما اصطناعية لتحرير المرأة من آلام الإنجاب)، ومثل (رشاقتكِ أولوية مع الأرحام الاصطناعية سيدتي)..

نعم سيدتي، الكل هبّ لسلخكِ عن فطرتكِ..لا عليكِ فحتى التكنولوجيا سُيِّرت وسُخرت لأجلكِ حد الاقتناع بحقيقة: لا حاجة للرجل أو الأبناء في حياتكِ بعد اليوم!

يكاد العاقل يجزم أن الأرحام الصناعية لو وُضعت في أيام مقبلة بين أيدي النسويات لجعلن منها مقصلة إعدام للرجل. حتى يتسنى لها الوفاء بلاءاتها الخمس: (لا للدين، لا للرجل، لا للحجاب، لا للزواج، لا لختان الرجل)!

شعار كأنه التصديق والتطبيق العملي لقوله تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل} [البقرة: ٢٠٥]، فالنسوية -كما قال د. سامي عامري- ماهي إلا: تحرير للمرأة من الشريعة بعلمنة حقوقها وواجباتها، وتحرير لها من أنوثتها بالتخلص من ما يميزها عن الرجل. وتحريرها من المعنى النبيل للحياة بأن تجعل مناكفة الرجل مطمحها. النسوية اغتيال للأنوثة الجميلة بيد العدميات، بروح داروينية بغيضة!


مصادر للاستزادة:

دور الاتفاقيات الدولية في الوقوف في وجه الزواج المبكر لدكتورة نهى القاطرجي.

مفهوم النسوية دراسة نقدية في ضوء الإسلام.

الصراع الأمومي: حرب الوجود وأوهام الإرادة المسلوبة

تبعًا لعقيدة اليهود والنصارى تحمل حواء وزر إخراج آدم عليه السلام من الجنة، ولأجل خطيئتها تلك عوقبت وبنات جنسها بالحمل وآلام المخاض، في حين جعل فريق آخر من حواء رمزا للتضحية لأنها آثرت العصيان على الطاعة إنقاذا لزوجها من شر مُتَوَهَّم، وما من فريق إلا ويخضع تفسيراته لأهوائه ويجعل من الطرف الآخر سببًا في ظلم يلحق به، فبين مهاجم للأنثى ومدافع عنها حد الغلو، وبين من يجعل الرجل ظالماً تارة ومستكيناً للمرأة تارة أخرى، وفي كلٍّ من الخطابات مذمة للرجل والأنثى معاً دون استثناء.

لنفترض جدلاً أن الحرب الذكورية الأنثوية والتي يعتبرها البعض أزلية، قد بدأت مذ نفخ الله في نبيه وزوجته الروح، فأنّى للبشر أن يزدادوا ويتكاثروا وللأرض أن تُعمر؟ وإن اعتبرنا التكاثر والإعمار سبباً بدهيّاً هادماً لفكرة الصراع الذكوري الأنثوي التاريخي، فسيفقد هذا المنطق قيمته خدمة لنظرية مؤامرةٍ تغذيها شرايين حب الصراع وخطاب الفئة المسحوقة.

المرأة قوية مسلوبة الإرادة

تكاد تكون دعوى “المرأة المظلومة والمسلوبة الإرادة عبر التاريخ” العبارة المفضلة لدعاة تحرر المرأة والتمركز حول الأنثى، ومن وجهة نظر امرأة تُنصّب دعواهم تلك في رأس قائمة الخطابات المهينة للنساء، فمفهوم الإرادة المسلوبة يُجرد الإنسان من مقومات القدرة على التعبير والتغيير ونبذ الظلم، وهي حجة على المرأة لا لها، ودليل ضعف لا قوة، وذلك لاحتمالها عددا من الأوجه المتناقضة في ذاتها:

أما الوجه الأول فيحتمل معنى المرأة غير القادرة على الإدراك -أي نقص في العقل- ويسقط هذا الوجه مع معارضة النسوية له بتصديرهم المرأة كمخلوق ذي قدرات عقلية عالية تفوق الرجل، وهو منفي أيضاً بطبيعة الحال.

 وأما الوجه الثاني فالمرأة ضعيفة بنيويّاً بالمقارنة مع الطرف المقابل الأكثر قوة وشدة، أي عدم تكافؤ القوى فيغلب القوي الضعيف، وقد نفته النسوية بتأكيدهم على قوة المرأة وقدرتها على التغيير، فضلا عن نفي الاختلافات البيولوجية بين الذكر والأنثى. وإن كنا نحن نؤمن بالاختلافات التي وضعها الله بينهما فخلق الرجل أقوى جسديا وأقدر على البطش، إلا أنه ليس من الإنصاف تعميم تهمة تسلّطه وظلمه للمرأة في أصقاع الأرض كلها ومنذ مئات وآلاف السنين، وإن صح ثبوته في جزء من العالم.

والوجه الأخير بعد انتفاء الاحتمالات السابقة، أنها دعوى مشوبة بالخداع، ومحاولة مبتذلة لشحذ الاستعطاف، وسلب العقول، فكيف تجتمع القوة بالضعف؟ وقد بات أتباع النسوية يحتفلون بدراسات الأنثروبولوجيا، الدالة بناء على بعض التماثيل القديمة والأحفورات والرسومات التاريخية، إلى أن بداية الحكم على الأرض كان للمرأة وسميت المجتمعات الخاضعة لحكمها بالبدائية (الأمومية)، وأن الآلهات كن من النساء حتى سلبها الرجل -بقيامه بما يسمى الانقلاب الذكوري- تلك الامتيازات والقدسية بل جعلها مسحوقة وأخفى وجودها، فلماذا التزمت الصمت واختارت الخضوع لآلاف السنين؟

أزمة الهوية والإرادة

مساندة لنظرية المؤامرة الذكورية، تبنت بعض النسويات فلسفة فوكو الذي يفسر خضوع الأفراد للسلطة عبر تشكيلهم جسديا ليكونوا خاضعين، معتبرين أن المرأة إن تخلت عن صفات الخضوع من الناحية الجسدية كالإنجاب والحمل، أي التخلي عن أنوثتها، ستتحرر بذلك من سلطة الرجل والمجتمع، وقد عززت هذا المفهوم جوديث بتلر بدراساتها عن نظرية الجندر (النوع) لتؤكد على مفهوم “الإنسان لايولد بجنس محدد بل يُفرَض عليه”، مما أثار حفيظة بعض النسويات ضد تلك المفاهيم، فمفهوم الإرادة المسلوبة ينفي وجود صفات طبيعية في الإنسان تدفعه للمقاومة والتحرر، وبإلغاء صفة الأنوثة عن المرأة لم يعد هناك جدوى من الدفاع عن حقوقها كامرأة، “فالواجب الانطلاق من سؤال ماذا نريد كنساء، وليس من التساؤل عن ماهيتنا(نوعنا)؟”[1]

حواء وحرية الإرادة

بالعودة لقصة أبينا آدم وأمنا حواء عليهما السلام وإيماناً منا بالإسلام الذي جاء داحضًا للخرافات، مبيناً للحق، حاسماً للصراعات، لابد أن نقف موقف المتأمل في قصة أول بَشريّين في القرآن، قال تعالى:{وَيَٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ فَكُلَا مِنۡ حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِين*فَوَسۡوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ لِيُبۡدِيَ لَهُمَا مَا وُۥرِيَ عَنۡهُمَا مِن سَوۡءَٰتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنۡ هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّآ أَن تَكُونَا مَلَكَيۡنِ أَوۡ تَكُونَا مِنَ ٱلۡخَٰلِدِينَ*وقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ*فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖۚ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞ}[الأعراف:20-23]، كم من اللافت صيغة التثنية التي انفردت بها الآيات من بداية النهي عن الأكل من الشجرة إلى الوقوع في الذنب وطلب العفو والمغفرة، باستثناء آيات أفردت لآدم عليه السلام في غير موضع[2]، وما أدق الأوصاف وأعدلها في الدلالة على حرية الإرادة التي تميز بها آدم وحواء، فلم تؤخذ حواء بذنب زوجها ولم يؤخذ هو بذنبها، وقد خلق الإنسان من ذكر وأنثى حُرَّين في إرادتهما، يتمتعان بمقدرة الاختيار والتغيير والتأثير، فهل يمكن للإرادة أن تسلَب؟

نصف المجتمع ظالم أم مظلوم؟

لا تناضل النسوية من أجل تحرير المرأة بقدر ما تحارب لتحريرها من دورها في المجتمع، فتنفي أن يكون للمرأة أي دور فيه سوى من الناحية المهنية والإنتاجية الوظيفية، وما سواه من مشاركات مجتمعية وأسرية في جانب الإعفاف والإصلاح والتربية، يتحمل مسؤوليتها الرجل ولها الحرية المطلقة في ما تشاء.

وتترافق خطابات النسوية عن الفئة المسحوقة مع خطاباتها المؤكدة على قوة المرأة وأهمية مكانتها في المجتمع، مثيرة لتساؤلات لا تنفك تصطدم بها النسوية، عن دور المرأة في التاريخ؟ وعن الغموض الذي يحيط صمتهن عن الظلم؟ وإن كان جزء من النساء مستضعفات فأين البقية؟ إن إيجاد التفسيرات والإجابات مُرهقٌ لأسباب ناقشناها أعلاه، فنحن نتحدث عن 50% من المجتمع بزعمهم وهو رقم عظيم! ولذا كان لابد من مخرج للمأزق بالاستعانة بنظرية متهاوية تسمى “الجندر”.

وشهد التاريخ لنماذج نسائية مشرفة وأخرى فاسدة، مما يدل على أن المرأة كانت ذات دور في المجتمع، سلبي وإيجابي، لم تكن مغيبة إلى حد منعها من التغيير، وإن كانت فئة من النساء مستضعفات لكنه ليس الحال العام، ولذا من الحكمة ألا تلصق مشاكل النساء بالرجل فقط لأنها قضية متداخلة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومسؤولية مجتمع بأكمله، بنسائه ورجاله، فالنسوية التي تقاد من النساء بحد ذاتها ظلم للمرأة عندما شوهت فطرتها وقتلت أنوثتها، والمرأة كانت ومازالت أما ومربية وأختا و زوجة وابنة ومعلمة، وعليه فيجب أن يحل إصلاح المجتمع مكان التمرد والصراع، والاعتراف بالأخطاء مكان إلقاء اللوم.

تجاذب المرأة بين السلطة الأبوية والأمومية

المفترض من حركة تحرير المرأة تحقيق حرية الاختيار لها وتمكينها في المجتمع، ولكن شرط بقائها ضمن حدودٍ فرضوها ومن ثم جعلوها الحق المبين، فأصبح الحجاب رمزا للعبودية، والدين قاهرًا للمرأة، والإنجاب والتربية عملًا وضيعًا معيقًا للمجد، والزواج مقبرة، ومزاحمة الرجال واجبًا، وإن خالفت المرأة أهواءهم وخرجت خارج حدودهم، فإنهم يندهشون من كونها امرأة ويشكّكون في عقلها واختياراتها، ولايملكون غضاضة في قتل أي مشاعر جميلة مرتبطة بالأنوثة، “ففي الحريم العلماني الليبرالي لا مكان لامرأة ذات اختيار حر، والحرية المقدسة لايدنسها سوى الخيار الديني” [د.ملاك الجهني، من مقال الحريم العلماني الليبرالي] وكان في إجابة إمرأة أمريكية بسيطة نظرة للمستقبل عندما سألت عن رأيها في النسوية: “يريدون أن يخرجوننا من سلطة الرجل إلى سلطة الأنثى وهو أشد خطراً!”، فَضَحيَّة حركات تحرير المرأة هي المرأة أولا.

أسطورة المرأة الخارقة

ومع إعراض النسوية عن كل الدراسات المؤكدة للاختلافات بين الرجل والمرأة وعمّا هو واضح عيانا، كان الإسلام واقعيا في التعامل معها، فلنفترض مثلًا أن أمًّا أتت بأخوين إلى مربِّية، فنبهتها لطبيعة أحدهم الرقيقة الحساسة والمختلفة عن أخيه القوي، فهل يعتبر وصف الأم انتقاصا من الأخ الرقيق؟ أم حرصًا منها وتنبيها للمربية إلى طريقة التعامل معه لأنه أكثر عرضة للأذى؟ وكيف للمربية أن تتنبه لهذا لولا قول الأم؟

إن الإسلام لم يقدم أوهاماً عن قوة المرأة الخارقة للعادة، وبالتالي لم يفرض عليها ما لا تحتمله وخاصة مع ارتباطها بالحمل والرضاع والتربية، وروعيت أشد رعاية في تغيراتها الجسدية والهرمونية، فالمرأة القوية القادرة على كل شيء “وَهمٌ” جعلها تقاصي ما لا تحتمل ويُنتظر منها أكثر مما تستطيع، وكثيرات تهاوين أمام هذا التحدي.

{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ }[يوسف:40]

في الكون لا سلطان إلا سلطان الله، ولا حكم لامرأة ولا لرجل إلا بأمر الله، الذي سبحانه كلف الرجل بالقوامة وأمر المرأة بطاعة الزوج والأب أو الوالدين، فلله ورسوله الطاعة المطلقة وما لغيرهم طاعة مقيدة وجاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف) [أخرجه البخاري في الصحيح][3]، لأن المرأة أمة لله في المقام الأول وكذلك الرجل وكلاهما خاضعان لحكم الله، ولهما على بعضهما حق التناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم المجاراة فيه، وجُعل الإصلاح والدعاء والاستعانة بالقضاء وغيره حلولا للزيغ عن الحق والواجب، وأُكد على معاني المودة والرحمة والاحترام والمعاشرة بالمعروف والإحسان. ومادون ذلك من المعاملات بين الرجل والمرأة الأجانب عن بعضهم تخضع لضوابط الإسلام، والأصل فيها التساوي إلا فيما فصل الشارع، فقال سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71].

بين عمل وضيع وعمل يوصل للجنة

إن التزام المرأة بالطاعة لزوجها لا يلغي عنها صفة الحرية والعقلانية، فالمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عنه، ولعظم هذا الأمر جعل سببا في دخول المرأة للجنة، وإن دل ذاك الإكرام على شيء فإنما يدل على صعوبة تطبيق الطاعة، وأهمية دور المرأة في تحقيقها لخلق التوازن في الأسرة، ولا يمكن لأحد أن ينكر الخير الكثير في النساء وغيرتهن على الدين واهتمامهن بصلاح حال الأمة، لكن لا يجب أن يأخذها الحماس بعيدا فيصرفها عن واجباتها الأساسية، والتي لاتقل أهمية عن أي مهمة شريفة في الإسلام، بل تقترب من كونها من أعظم الأمور وأكثرها مجاهدة في زمن تقتلع فيه من أنوثتها وأسرتها، فالأمر منوط بالتوازن والحكمة.

نساء في القرآن

عند تتبع سير النساء القرآنية، نجد منهن من كنَّ مثالا في الكفر والعصيان كامرأة نوح وامرأة لوط، بينما أخريات كنَّ رمزًا للإيمان باختيارهن العبودية لله على عبودية البشر وما سواهم من العبوديات، فلم يمنعهن تجبر الزوج وطغيانه وكفره عن الإيمان بالله كمثال زوجة فرعون، وغيرهن ممن لم يَردُّها قتل أولادها وحرقهم والتنكيل بهم أمام أعينها عن التصديق بالله رَبّاً كتلك التي جاء ذكرها في حديث رسول الله: (لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة، قلت: ما هذه الرائحة؟ فقيل لي: هذه ماشطة بنت فرعون وأولادُها) [أخرجه الإمام أحمد في المسند]، ومثلهن ممن لم تتكبر عن أن تكون أَمَةً لله وهي صاحبة الملك والرفعة كملكة سبأ، ولا حصر للنماذج النسائية المشرفة اللاتي عرفن معنى العبودية بإخلاص لربهن فما زادهن ذلك إلا رفعة وشرفا وحرية.


مصادر للتوسع والازدياد

-استفدت من:

  • الحريم العلماني الليبرالي، د.ملاك الجهني، مركز باحثات.
  • قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى، د. عبد الوهاب المسيري، دار نهضة مصر.

[1]ترجمات:ميشيل.فوكو-والنسوية

 https://bahethat.com/report/r35506/

[2] حواء.وخروج.آدم.من.الجنة.القرضاوي

 https://www.al-qaradawi.net/node/4034

[3]للاستزادة:

 https://islamweb.net/ar/article/213217/

هل أنا فارغة؟

في عام 2014 نُشر إعلان توظيف في الجرائد وعبر الإنترنت يطلب مدير إدارة عمليات للعمل في مؤسسة تدعى ريهتوم بمؤهلات غريبة لا تتفق مع بعضها البعض؛ مثلًا دكتوراة في علم النفس أو ما يوازيها، مهارات في إدارة الأزمات والكوارث، خبرة اقتصادية…إلخ. تفاعل ما يزيد عن مليوني شخص مع هذا الإعلان لكن في النهاية تقدم فقط 24 مرشح من الرجال والنساء للوظيفة، وتم اختيارهم جميعا لإجراء مقابلة عبر الفيديو. في اليوم الموعود، ظهر رجل ببدلة على شاشة المرشحين وبعد التحية أعطاهم نبذة عن الوظيفة واصفا إياها بأنها أهم وظيفة على الإطلاق ومسؤولياتها متنوعة وأكثر مما يتطلّبه المسمى الوظيفي الحالي، يبدي الجميع اهتماما بهذه المقدمة فيستطرد بمتطلبات عمل لا تطاق، مثل الوقوف والانحناء والتحرك الدائم مع قدرة عالية على التحمل لمدة تتراوح بين ال 135 ساعة المعتادة في الأسبوع إلى 24 ساعة لكل يوم في الأسبوع. تظهر علامات الدهشة على وجوه المرشحين ويحاول غالبيتهم الاحتفاظ بالمظهر المهني في استفسارهم إن كان هناك أوقات للراحة أو الطعام أو عن قانونية هذا المتطلب، فيجيهم المحاور بأنه ليس هناك فترات راحة، وقد يستلزم العمل خلال جميع العطلات الرسمية، وتناول الطعام مسموح به عادة بعد أن يأكل زميلهم في العمل، وهذه بالطبع متطلبات قانونية تماما! وتتواصل طلبات العمل المعجزة بأنهم يبحثون عن شخص لديه قدرة على التفاوض وإلمام بمسائل طبية وإدارة مالية وفنون طهي وباستطاعته المراقبة التامة لزميله خلال نومه في بيئة فوضوية. باختصار هم يريدون شخصا مستعد للتخلي عن حياته والعمل يوميا دون توقف، وكل ذلك مقابل أن تدفع له أو لها المؤسسة صفر دولار مع وعد بأن المشاعر التي ستغمر الموظف بسبب مساعدة زميله لا تقدر بثمن! هنا يتخلى المرشحون عن مهنيتهم وتبدأ اتهاماتهم لهذه الوظيفة بأنها غير إنسانية وقاسية ومجنونة، غير مصدقين أن مثل هذه الوظيفة موجودة ودون دفع مقابل أيضا. فيصدمهم المحاور بأن هذه الوظيفة حاليا مشغولة وهناك المليارات من النساء في العالم يمارسنها، ويطلق عليها اسم (الأم).

عمل بلا مقابل مادي

كانت هذه مقابلة خادعة روجت بها وكالة إعلانات في بوسطن تسمى (مولن) دعاية قوية لبطاقات معايدة في يوم الأم ونشرتها تحت وسم #أصعب_وظيفة_في_العالم، وقامت الوكالة التي ابتدعت (ريتهوم – عكس كلمة أم بالإنجليزية) بتسجيل انطباعات المرشحين المستهجنة ومشاعرهم ودموعهم الحقيقية بمجرد ما تراءت في مخيلتهم صور أمهاتهم من خلال ما وصفوه بأنه مستحيل تماما.

تقول الوكالة إن الفكرة جاءت بعد أن زارت إحدى موظفات قسم الإبداع -ليس لها أولاد- منزل أخيها لتقضي بعض الوقت مع عائلته وتابعت انشغال زوجته المتواصل بأطفالها لدرجة أنها لم تستطع التوقف للراحة. وعندما عادت للعمل من رحلتها قالت لزملائها: حقًّا إن أصعب وظيفة في العالم هي وظيفة الأم، وهكذا، زادت أرباح موكلي الدعاية وكانوا سعداء بالفكرة وتطبيقها، حتى أن منافسي الوكالة أغدقوا عليها بالثناء.

الأمومة والنسوية .. المواجهة العاصفة!

لكن لم تكن الحال كذلك مع حركة النسوية وتمكين المرأة وإلغاء التمييز الجنسي. أظهر تأثير هذه المقابلة على الناس الوجه البشع لهذه الحركة. وانطلقت موجة من آراء النسويات المتفاوتة في التطرف في مقالات الصحف والمجلات مستمرة حتى اليوم في مهاجمة دور الأم غير العاملة بشكل غير مباشر عبر التقليل من شأنها وتضحيتها. النقاط الأساسية لجدالهم في أن الأمومة ليست أصعب وظيفة، سواء من حيث إن دور الأم هو عمل شأنه شأن أن تكون زوجة أو ابنةً، وليست وظيفة لها رب عمل ومردود مالي، ومن ناحية أن الترديد بتضحية المرأة من أجل أطفالها هو عبارة مستهلكة وضعها الرجال في عقول النساء حتى يلازمن المنزل، لكنها ليست تضحية هي فقط تشريف للأم واحتفال بجسدها الأنثوي؛ إضافة إلى أن الاعتناء بالأطفال مسؤولية مشتركة بين الأب والأم، أو (الأبوين) أو (الأمّين) وأنه لا مجال للطموح والمنافسة في العناية بالأطفال وتربيتهم كما هو الحال في الوظيفة، بمعنى أن حياة الأمهات فارغة!

إذا اطلعت على بعض هذه المقالات سترى أيّ تخبط وتناقض في الطرح والجدال، وأيّ جحود ما بعده جحود للأمهات وفضائلهن! يقولون العناية بالأطفال هو عمل للمرأة والرجل بالتساوي لكن النسويات يطالبن بدعم الأمهات بإجازات أمومة طويلة وساعات عمل مرنة للتوفيق بين هذا (العمل) والوظيفة!

يقولون الأمومة ليست أصعب وظيفة، لكنهن يصفنها بعمل مرهق جسديا ومتعب نفسيا! يدعّين أن أغلب الأمهات لا يشتكين من هذا العمل لكن الأطفال يدفعون الأمهات للجنون أحيانا ويطلبون دعما لحق الأم في التعبير عن مأساتها! يوضّحون أنها ليست وظيفة بالمعنى المتعارف عليه، حتى لو كان هناك من يعمل في دور الحضانة بالأطفال بمقابل مادي كي تعمل الأمهات بمقابل مادي أكبر!

يتشدقون بأن الأمومة لا تشبع الطموح الأهم في منافسة الرجال وتحديهم لكن المرأة تحتفظ بحقها في الإنجاب متى شاءت لإشباع غريزة الأم لديها فهي عميقة الأثر ومُرْضية! يريدون تمكين المرأة وإظهار قوتها في مضمار الرجال، بإخراجها من التربية المنزلية لتتفرغ لاختراع علاج لسرطان ما، أو تفكيك متفجرات، أو إطفاء حرائق آبار النفط، لكن في سبيل حصول ذلك تزج مئات الملايين من النساء للانضمام إلى الطبقة العاملة الكادحة بأجور زهيدة وبالكاد تكفي معيشتهن بعد تحصيل الضرائب؛ فكانت المحصلة أن النسويات لا هنّ استطعن تربية أطفالهن على النحو المطلوب ولا حصّلن أجورهن بالقدر الذي يبرر مشقة التوفيق بين العمل والمنزل.

النسوية .. حركة تحرير أم منتَج رأسمالي؟

لا شك أن هناك أمثلة على نجاحات فردية، وإنجازات حقيقية للبشر لكن ماذا عن عموم النساء وماذا تخسر المجتمعات في المقابل ومن المستفيد حقا من هذا التشتت؟

في مقال نشرته صحيفة الغارديان بعنوان “كيف أصبحت النسوية خادمة للرأسمالية؟”، النسوية نانسي فريزر -بروفيسورة الفلسفة والعلوم السياسية والاجتماعية- فكان لها تصريحات خطيرة عن انحراف مسار النسوية وتواطؤها مع النيولبرالية، حيث اعترفت الفيلسوفة الأمريكية أن حركة النسوية الأولى كانت تتوقع نتائج أخرى بانتقاد سياسة الرأسمالية في (أجر الأسرة) التي تعتمد على الزوج كمعيل رئيسي للأسرة والزوجة كربّة منزل؛ مثل ازدياد دخل الأسر والأفراد على حد سواء وتضامن الجميع في وجه طبقية الرأسمالية بحيث يعم الخير وتزدهر المجتمعات دون استثناء. لكن هذا الانتقاد أساءت استغلاله الرأسمالية، لتصنع من النساء (العازبات، الزوجات، الأمهات، المطلقات) عاملات بالأجرة تحرك الدولة نحو اقتصاد وسياسة خارجية أقوى دون اعتبار للأجور الزهيدة، أو الأمان الوظيفي، أو الاضطرار لعدة نوبات عمل بساعات طويلة. فكانت النتيجة ازدياد فقر الأسر ذات المعيل الواحد وتزايد مشاكلها الاجتماعية.

وعلى ما يبدو، الحركات النسوية الجديدة صادقت على ذلك لتصبح نيولبرالية متناقضة مع أهداف الحركة الأصلية، وهنا تقول فريرز: “أخشى أن تكون حركة تحرير المرأة متورطة في ارتباط خطير مع الجهود النيولبرالية لبناء مجتمع السوق الحرة. هذا من شأنه أن يفسر كيف حدث أن الأفكار النسوية التي كانت تشكل في يوم من الأيام جزءًا من رؤية عالمية راديكالية أصبح يتم التعبير عنها بشكل متزايد بمصطلحات التفرد. كانت النسويات ينتقدن فيما مضى مجتمعًا يشجع النزعة في التطور الوظيفي على حساب كل شيء، فإنهن الآن ينصحن النساء بأن يقدمن مصالح الشركات دعما لطموحهن المهني. الحركة التي كانت ذات يوم تعطي الأولوية للتضامن الاجتماعي تحتفي الآن برائدات الأعمال. إن المنظور الذي كان ذات مرة يُقدّر الرعاية والاعتماد المتبادل يشجع الآن التقدم الفردي والجدارة”.

بين الحلم الأمريكي .. والهدف الإيماني!

هناك فرق أساسي في تربية الآباء والأمهات لأولادهم وبناتهم في الغرب المتحرر عن التربية في الإسلام. ويعد هذا الفرق من تداعيات الاقتصاد على بنية وعلاقات الأسرة التقليدية. فالأسرة المتحررة تسعى بشكل رئيسي على تربية الطفل بهدف الاستقلال عنها ماديا في سن مبكرة واختبار الحياة بمفرده. ويترتب على ذلك إفراد خصوصية للطفل وتشجيعه على العمل لزيادة مصروفه، في خطوات حثيثة لانفصاله وتحقيقه لنفسه ما يدعى بـ “الحلم الأمريكي”.

ولأن الدولة العلمانية الرأسمالية لها حق الوصاية على الأطفال في تنشئتهم على احترام القانون وتشريعاته الليبرالية في المناهج التربوية، فليس هناك الكثير من الأخلاق والفضائل التي يمكن للفرد أن يوليها اهتماما في ظل التحرر من الأديان وتقدير قيم الماديات بالدرجة الأولى، ومن هنا تصبح العلاقة الأسرية بين الأبناء والآباء تحكمها مصلحة العيش بحجة الاعتماد على النفس، فلا يتنازل فيها طرف عن مال للآخر.

ويظهر ذلك جليا في إحكام التصرفات الأخلاقية وفقا للمنظور المادي وليس التربوي. وأبسط مثال على ذلك أن التهذيب من متطلبات العمل مع الزبائن لضمان الوظيفة ومقابلها المادي وليس تربية منزلية يفترض أن يحملها المرء أينما ذهب. وهذه نقطة فصل جوهرية بين الأخلاق والمادة، تستوي فيها التصرفات اللاأخلاقية وتتعاظم بتعاظم المردود المادي. خاصة بعد أن يرى الفرد ظلم القانون الرأسمالي في الفجوة المادية طبقيا، فتنهار أهم أسواره التربوية ويستحل كل شيء لنفسه إلا شيئا واحدا، مقاومة هذا النظام الطبقي وتغييره. بل يصبح جزءا من منظومة تطبيقه على الجميع محاولا التسلق على أكتافهم كيفما سنحت له الفرصة.

تربية الأم الإسلامية هي حصن الأطفال من فساد المجتمع ومكمن تطهيره. إن قوة المرأة الحقيقية التي يعجز عنها الرجال تكمن في حماية بنية الأسرة وتهيئة جيل ينهض بالمجتمع ويحارب الطواغيت. إنهم يحقّرون حملها أعباء المنزل ويقولون عنها فارغة لأنها فقط أم ومربية منزلية، بل هم الفارغون عقلا وهي المتفرغة فعلا لهدف وطموح أسمى من مجرد أمجاد فردية تصفق لها الأنظمة الرأسمالية وتجمع المال من خلفهن.

حقًّا

ملأى السنابل تنحني في تواضع *** والفارغات رؤوسهن شوامخ!

يخشون من تفرغ الأم المتعلمة لتربية الأبناء والبنات على الفضائل والأخلاق، على الالتزام بتعاليم الدين، على رفض ابتزازهم في شهواتهم وابتداع أهواء خاوية يتبعونها أبداً، على رفض الظلم والانتقام للمظلومين، على تقدير حريتهم والتصدي لمن يستعبدهم.

ألم يقتل فرعون أطفال بني إسرائيل خشية أن يربى في كنف أمه من يطيح بعرشه؟ أليست عاطفة الأمومة من منعت فرعون من تنفيذ مخططه؟ ألم يقدّر رب العزة تربية موسى عليه السلام في كنف أمه آسية بنت مزاحم دون أن يؤثر عليهما طغيان فرعون وزبانيته؟ إنها الأم بعاطفتها الجياشة ورأفتها بعثرات أطفالها، تحميهم بنفسها ولا تبالي، تشعرهم بالأمان وتشجعهم على الحق في كل أمر. ضعاف هم الأطفال لكنهم كامنون تحت أجنحة أمهاتهم حتى تأتي لحظة انطلاقهم في المجتمع، فيرتقون به وعلى رأسهم الأمهات، كل يؤدي دوره في الإصلاح، فـ “الأم مدرسة إذا أعددتها؛ أعددت شعبا طيب الأعراق”.

لماذا تهدر هذه الطاقات الإصلاحية في وظائف من السهل إيجاد من يشغلها من الرجال؟ قد يفرض واقع الحياة العمل على المرأة، لكن يجب ألا يطغى ذلك على دورها الأساسي فيصبح خيارها الأول الاستقلال بذاتها حتى بعد الزواج والإنجاب، ففي ذلك تفويت لأجر عظيم وفرصة لتصحيح هذا الواقع للجميع. وقد تفرض الحياة على صاحبة المهنة تركها من أجل تربية الأطفال، أفلا نعطيها نحن الرجال فرصة لتظهر طاقتها في تغيير المجتمع للأفضل داخل مضمارها دون مقارنتها بالأخريات وإطلاق أحكام على مظهرها ولباسها، وتجاوز أي تقصير في مهامها، ومد يد العون لها، وتشجيعها؟ نحتاج فعلا لتقدير هذه الجهود ومباركتها والتذكير بأهميتها دون القياس على المدخول المادي. كما يتوجب علينا بحث حلول عملية تدعم الأسر ذات الدخل الفردي بحيث تعين المرأة على اعتناق دور الأم الحقيقي فهو حمل عظيم..


مصادر ومراجع للاستزادة

https://www.salon.com/…/motherhood_isnt_the_worlds…/

https://www.mic.com/…/why-that-viral-world-s-toughest…

https://www.nytimes.com/…/motherhood-family-sexism…

https://motherwellmag.com/…/is-raising-children-the…/

https://time.com/65207/viral-video-worlds-toughest-mom/

https://www.theguardian.com/…/feminism-capitalist…

https://www.mullenlowegroup.com/…/the-worlds-toughest-job/

تأليه الإنسان والمعايير السائلة!

تشكّل النسبية موضوعًا مهمًا في مختلف المدارس الفلسفية المعاصرة، كما أنه موضوع يناقَش باستمرار خارج نطاق الفلسفة كما هو الحال عند السياسيين –على سبيل المثال- إلا أن نشر النسبية في مختلف المجالات لا يوحي بمزيد من الصلابة المعرفية والأخلاقية والفلسفية بقدر ما يوحي بمزيد من السيولة وغياب المعيارية، وربما الاندفاع المستمر في تأليه آراء الإنسان وإقصاء أوامر الله في رسالاته إلى البشرية.

تظهر سيولة المعايير المعاصرة في كثير من الأفكار التي بدأت تغزو عقول الشباب ومنازل الآباء والأمهات، كما هو الحال في الدعوات لتقبل الشذوذ، أو تجديد الفكر الإسلامي ليتطابق مع معايير معيّنة من تيارات النسوية!

القوامة بمنظور نسوي تجديدي!

لو أننا سألنا أي نوع من النسـويات أفضل؟ وضربنا مثالًا بين زوج يدعم زوجته ويشجعها على ” تحقيق ذاتها” واستقلالها المادي، وآخر يمنعها من العمل –إلا لضرورة- لأنه يؤمن بمركزية الوحي الذي أمر النساء بالقرار في البيت، وعزز من أهمية دورها الذي خلقت له، وبه تستقيم الأسرة؟
أو بين زوج يتقاسم مع زوجته الأعمال المنزلية كالتنظيف وإعداد الطعام والغسيل والكيّ… إلخ، ويشاركها في المصاريف كنظام مساواتي، وآخر يُعيل زوجته في كافة شؤونها إلا أنه لا يؤدي معايير المساواة في تدبير المنزل داخليًّا؟

ما الجواب الذي ستقدمه نسويّات الزمن المعاصر –من ذوات النفَسِ الديني-؟

على الأغلب فإنها سترى أن من يشجع زوجته على العمل ومن يشاركها في أعمال المنزل أفضل من النماذج المقابلة، لكنك –على أي حال- ستجد أنها لا توافق على النظام المساواتي كاملًا، فهي تريده خاضعًا لرؤية النسوية في مشاركته لها بالتنظيف والطبخ، بينما –على الأغلب- لا توافق على مشاركتها له في التكاليف المنزلية، وستحتكم هنا إلى الأصول الدينية في المجتمع الذي تنتمي له، وهي ذاتها ستوافق على العمل في بيئة تناقض نفس الأصول الدينية، بل إنها تخالف فطرتها وصفاتها الأنثوية تلبية لشعارات “صنم الاستقلال المادي”، وسنراها تُقحِم النصوص الشرعية وتحرفها لتؤكد على صواب رؤيتها، فتستشهد بعمل السيدة خديجة –مثلاً- لكنها لن تمر بعين الرضا على ما كانت تفعله السيدة خديجة مع الرسول صلى الله عليه وسلم من رعاية للمنزل وتدبير لشؤونه وهي التي قد بلغت من العمر قرابة 60 عامًا، فكانت تذهب له بالطعام إلى غار حراء رغم وجود بناتها، وقد جاءه جبريل بالبشارة لها بالجنة كما في الحديث، (أتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام، أو شراب، فإذا هي أتتْك فاقرأ عليها السلام من ربها، ومنِّي، وبشِّرْها ببيت في الجنة مِن قصب، لا صخبَ فيه ولا نصب) [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وسنده رجال الصحيح].

هذه النسوية التلفيقيّة ستأتي بآراء ترفض خدمة الزوجة لزوجها، وستسعى لتضع مفاهيم جديدة لفكرة القوامة بهدف جعلها أكثر مناسبة لمعايير العصر النسوي، إلا أنها للأسف ستخرج بصورة نافرة عن الخط الذي في الإسلام وأكثر قربًا أو أقل مصادمة للثقافة الغربية “التمركز حول الأنثى”.

لا تدري أيهم أقرب إلى الله .. “الخلل في المعيار”

لعلك أيها القارئ الكريم تسأل دعاة النسوية “المتأسلمة” من الأفضل برأيك، المرأة المنتقبة أم المتبرجة، أو تتساءل أمامها عن الأفضلية بين الشخص الملتحي الذي ظاهره التدين والشخص غير المتدين؟

وهنا أخبرك أن كثيرًا منهن ستُجيبك ألّا أحد أفضل من الثاني، بل إن منهن من ستتهم الذي ظاهره التدين بالنفـاق وأنه يمكن للمنتقبة أن تأكل مال اليتيم وتخطف الأطفال وتتاجر بأعضائه.

وربما تخبرك أن المتدين الملتحي قد يكون متشدِّدًا أو تكفيريًّا أو عضوًا في جماعة مصنّفة على القوائم السوداء، أو أنه ممن يضرب زوجته بسلك الكهرباء وأنه شهوانيٌّ يميل للتعدد -لا سمح الله- وأنه رجل ظالم –إذ لا رجلَ يعدّد ويعدل أصلاً- وهكذا إلى غير ذلك من الأفكار التي لم تكُ يومًا إلا ثمرة من ثمار تغلُّب العولمة والثقافة الليبرالية، ولعلها ستقول لك إنه ينبغي عدم التعرض لحرية المــرأة سواء من حيث حرية الجسد، أو أكّدت على نسبية الأخلاق.

أصول ومبادئ

بعد ما تكلمنا عن تلك النماذج يبقى لنا فهم الأصول لتلك المبادئ، فالنسـوية تقلل من القيم والأخلاق، وتصفها بأنها نسبية، وأنها يمكن أن تتغير إن غيّرنا في المجتمع، لذا تسعى النسوية بالمجهودات الجماعية في تغيير القوانين والتصورات والهيكلية الأسريةـ حتى وإن كان ذلك سيسبب ضرر أكبر لها ولمن حولها وللمنظومة الأسرية!

ولأنها متمركزة حول ذاتها فهي تريد ما تهواه نفسها ولو كان ذلك مناقضًا للفطرة والأخلاق، ولهذا لم تضع حدودًا، وإنما أظهرت أفكارها وما تريده من انفلات الضوابط ثم حاربت الحدود ورفعت السقف! وذلك المبدأ أو تلك المبادئ الثلاث تعارض الإسلام، لأنه وضع ضوابط للإنسان فيها الصلاح له، وإن كان لا يهواها.

نعلم أن ضروريات الدين تتركز حول حفظ النفس والعرض والمال والعقل والنسل، فما يخالف هذه الأصول الخمسة فإنه مرفوض ولا يعتد ولا يحتج به إلا لدى من يسود هواه على عقله وقلبه!

مشكلة تأليه الإنسان

إن المعضلة هنا تكمن في تأليه الإنسان وتعظيم دوره وجعله مركزًا للكون، مقابل تحجيم مركزية المعايير المطلقة و”الإله” و”الوحي” أو ربما أنسنتها لتوافق المعايير الغربية، فنغض الطرف عن أوامر الله ونواهيه و نخترع أوامر ونواهي من عندنا عامة ما تتناسب مع النسوية والإنسانوية والليبرالية ونستبدل دين الله بها، ونُلبسها  قدسية ننزعها عن دين الله نفسه.

صورة تعبر عن تأليه الإنسان

تحت شعارات أن الله هو من يحاسب ولا تنصب نفسك إلها للكون، يناقض  أمثال التنويري والليبرالي أنفسهم ويعطونها حق محاسبة الناس حقًّا فيدخلون الجنة من يريدون حتى ولو كان ملحدًا أو محاربًا لدين الله ولمز نبيه عليه الصلاة والسلام، وذلك لمجرد أنه معتنق للفكر النسوي أو اللبيرالي، ويدخلون النار من يريدون رغم أنف الأدلة والبراهين اتباعا للهوى الخاضع لثقافة السلطة الغالبة، وهنا نستذكر قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الجاثية: 23- 24] يقول الإمام البغوي في تفسير الآية: إن الموصوفين بأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا، إنما جاء لبعدهم عن طريق الحق رغم وضوحه، فالبهــائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها الذين يتعهدونها، بينما لا يعرف الكفار طريق الحق، ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم.

وهنا نرى أن النسوية “المتأسلمة” يتبعون هذا السبيل الذي وصفته الآية على نحو مختلف، فهذه النسوية تأتي بالمبادئ الغربية ثم تعمل على أسلمتها، ثم إنها تتدثر بالتراث رغم ذلك، فتسعى بكل الطرق والبحث في التراث والأصول، لإخراج تلك المبادئ من الإسلام نفسه، فتقع في التحريف والتأويل، والتعطيل، والتمسك بالشذوذ وتشذيب الإسلام.

إن دين الله لا يخضع لأهواء الناس، وتعاليمه تتوافق مع الفطرة السليمة التي لم تحرفها دعاوى العصور المتغيرة، بل إن تعاليمه تريد من الحضارات الإنسانية الحرة أن تتخلص من عبودية غير الله –أي الهوى- وأن كل ما دون وحي الله باطل.

“إن إنجازات حركة التحرير النسائية لم تكن إلا انتصارات كاذبة، فقد فقدت المرأة كل ما تمتلكه في سعيها إلى الوصول إلى هذه المساواة الوهمية”. [كتاب المساواة المطلقة ليست عدلًا، ص82]

الخضوع للثقافة الغالبة

كل ما نحن فيه الآن ليس من كثرة الشبهات وتأثيرها وإنما التأثر بسلطة الثقافة الغالبة والإنهزامية، وقد جاء إشارة إلى ذلك في الحديث النبوي الشريف، (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ) [متفق عليه]

لذلك يروج المبشرون بما عند الغرب كالأعمى الذي لا يرى ماذا جنى الغرب من معيارية الهوى وحرية الجسد التي خلفت فشو الزنا والإجهاض والعلاقات، وكيف انحدر الأمر إلى مبادئ الجندر والعلاقات المثلية والبيدوفيليا قريبًا، ناهيك على ماخلفته تلك المعيارية إلى هدم الأسرة وعجز الغرب عن سد تلك التجاهات، وازدياد من مشاكل تزعم النسوية حلها مثل التحرش.

إن النسوية الإسلامية تستند إلى مرجعية مادية نفعية تساعدها لتكون متمركزة حول ذاتها، ترى كل شيء نسبي ولكنها ترى الحرية المطلقة، والأعجب هو أنها تحاول التوفيق بين تلك المبادئ والإسلام! وتحصرها بكل سطحية في الدفاع عن التحرش لحشد النساء بشكل سطحي، وكأن مبادئها قللت من التحرش في منبع الفيمنزم، لكنها تسعى سعيًا حثيثًا إلى تمرير تلك المبادئ وغيرها عن طريق تلك القضايا: فربما شخص رآك عطشانًا يقول لك “تفضل اشرب ولا أريد منك أي مقابل”  فيعطيك كوب ماء به سُم، فتموت. لكن {اللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27] أي أن دعاة الشيطان يريدون من الناس أن ينحرفوا عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين. يريدون أن يصرفوهم عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، وعن التزام حدود من السعادة كلها في امتثال أوامره، إلى مَنْ الشقاوةُ كلها في اتباعه. فإذا عرفتم أن الله تعالى يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم، وأن هؤلاء المتبعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية الخسار والشقاء، فاختاروا لأنفسكم أوْلى الداعيين، وتخيّروا أحسن الطريقتين.

هل كانت أم المؤمنين خديجة سيدة أعمال نسوية؟

كثيراً ما نسمع نسويات مسلمات يستشهدن على أهدافهن ويبررن مسارهنّ عبر توظيف قصص متنوّعة من عصر الصحابيات رضوان الله عليهن؛ ليقلن بأنهنّ أيضًا كنّ نسويات أو ممثّلاتٍ عمليّات لبعض شعارات النسوية التي يدعون إليها، فيقال –مثلاً-: إن ردّ أمّنا عائشة رضي الله عنها لبعض الأحاديث كان خروجًا على السلطة الذكورية، وأن دفاع نسيبة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد كان كسراً للأدوار الجندرية، وأن الصحابيات طالبن بالمساواة مع الرجال، وصولاً إلى القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذاته كان نسوياً[i] بهدف تسويغ أسلمة النسوية ونيل موافقة الفئات الملتزمة على كل أفكارها.

وفي هذا المقال أنظر في هذا النوع من التوظيف لقصص الصحابيات بعين ناقدة ليتبين صوابه من خطئه مع التركيز على ما أظنّه أشهر نموذج منه، والمتمثل في سيرة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وتجارتها ونمط حياتها.

الطاهرة، الزوجة، الأم، والتاجرة.

ولدت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسْد القرشيَّة في بيت عز وثراء وجاه في مكة، وكانت في الجاهلية تلقّب بالطاهرة، وقد تزوجت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي هالة بن زرارة التميمي الذي توفي عنها وتزوجت بعده عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم الذي توفي عنها كذلك، وقد أنجبت منهما ثلاثة صبيان وبنتاً[ii]، ولنسبها وزواجيها دورٌ في امتلاكها للثروة الكبيرة التي كانت تتاجر بها على عادة العرب، فكانت ترسل الرجال على مالها إلى الشام كل عام، وكذلك استأمنت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وعرفت خلقه وخصوصيته عبر غلامها ميسرة، ومن ثم كان زواجها منه.

وبعد الزواج المبارك استمر عليه الصلاة والسلام بالتجارة على مالها، وأنجبت له ستة من الولد، وكان بيتهما سكناً ومودةً ورحمة مدة خمسة عشر عاماً إلى أن بعث عليه الصلاة والسلام، فكانت خديجة أول من صدّقه وآمن به وساندته بمالها وعاطفتها وجهدها، حتى إنها دخلت الحصار معه في الشعب ولاقت في سبيل دعوة الإسلام الجوع والقلة وهي ابنة الكرام ذوي العز والجاه.

تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يوماً فقلت ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عز وجل بها خيراً منها، قال: ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء). [أخرجه أحمد في المسند]

فأمنا خديجة رضي الله عنها لم تكن تعرّف نفسها “سيدة أعمال” أولاً كما يُصوَّر لنا، وإن كانت بلا شك ذات مال وتجارة فهي كانت قبل ذلك الطاهرة التي تستأجر الرجال على تجارتها لتنأى بنفسها ما أمكن عن مخالطتهم والخوض بينهم، وإن تميّزت عن معظم أقرانها بعملها فإننا لا تجدها تحاضر عليهنّ حول سبق الرجال ولا عن كسر السقف الزجاجي ولا عن استعلائها عليهن بما “تساهم به للمجتمع عبر مهنتها” ببنما هنّ “عاطلات” في بيوتهن، وهي التي مع تجارتها تزوّجت وأنجبت وربّت وصبرت على أعباء النبوة التي أضاءت أنوارها من بيتها الشريف.

لقد رسمت الخطابات النسوية المسلمة صورة مشوهةً لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها في أذهان الفتيات كسيدة خارجة للتو من فيلم هوليوودي -وحاشاها- ببذلة رسمية ضيقة وكعب عالٍ تتجول في شركة ضخمة وتدير اجتماعات الرجال فيها ولا تكترث إلا بالأرباح والأسهم والإنتاج[iii][iv]، وهذا ما يخالف تماماً واقع حياتها الذي تعاملت فيه رضي الله عنها مع ظروفها بحكمة وحنكة ومهارة، وعملت وسعها لتحافظ على مالها الذي رزقها الله دون أن تخسر شيئاً من أنوثتها أو تتخلى عن حاجاتها وطبيعتها في الطريق.

الانتقائية غير البريئة!

إن الناظر في طريقة تعاطي النسويين والنسويات في الأوسط المسلمة مع محتوى تراثنا يلاحظ بوضوح كمية الانتقائية التي يمارسونها لتسويغ توجهاتهم وأسلمتها، فهم لا يحكون إلا أجزاء من القصة، ولا يأتون إلا بالأمثلة التي تخدم أهدافهم وإن أشبهت الاستثناء في سياقاتها، ثم يحاولون جعلها حالات عامة ينبغي الاقتداء بها.

فقد جعلوا السيدة خديجة “CEO” أو مديرة شركتها الضخمة بغض النظر عن بقية مكونات شخصيتها وأحداث حياتها وقلة مثيلاتها في نساء زمانها، ثم جعلوا هذه الصورة غير الدقيقة والمقتطعة من حياتها نموذجاً ينبغي على الفتاة السعي لبلوغه وإلا كانت فاشلة واقعة تحت سلطة الذكور الظالمة التي تحتاج لفعل المستحيل والتضحية برغباتها الحقيقية للخروج عنها، وبنفس الطريقة يتم الحديث بإفراط عن الصحابيات اللواتي دخلن ساحات الجهاد في أوقات الاضطرار لا للثناء على فعلهن واستخراج الفوائد من سيرهن، وإنما للقول بأن هذا الفعل الذي يحقق قيمة المساواة الدارجة اليوم هو العمل الخيّر الذي ينبغي على المسلمات في كل زمان ومكان اتباعه.

فحين يذكرون أم عمارة رضي الله عنها وجهادها في غزوة أحد – على سبيل المثال – لا يقولون بأنها حالة خاصة ونادرة بين الصحابيات، ولا يقولون بأن خروجها ذاك كان في وقت حرجٍ تهدد فيه أمة الإسلام والمسلمين، بل يجعلونها سابقة لزمانها لأنها وقفت بين الرجال ونالت شرف القتال بينهم، بينما هدفها كان الدفاع عن أمتها ونبيها، وبينما الصورة الغالبة لخروج النساء للغزوات كانت بأن يقمن على تضميد الجراح وإعانة الجيش من ورائه بالماء والغذاء.

والواقع أن ما تقوم به الخطابات النسوية الإسلامية هو إسقاطٌ لأفكار مستحدثة على الشخصيات التاريخية وإخراج للأحداث من سياقها وتحليل لمجرياتها وفق ما تراه المنظومات العلمانية خيراً وشراً وهدفاً ونجاحاً و فشلاً، بينما الشخصيات التي نتحدث عنها عاشت لقيمٍ مختلفة وعملت لأسباب مغايرة لما تريد الخطابات الحديثة إلباسها له، فالصحابيات رضوان الله عليهن علمن تماماً لماذا يعشن وإلى أين يمضين، فلم يكن سؤالهنّ إن سألن عن أعمالهن أو قارنّ نفوسهن بالرجال بحثاً عن المساواة أو الأهواء التي باتت رائجة اليوم، إنما سعياً لرضى الله ونيل الدرجات العلا عنده وتحصيل ثوابه، وهذا ما نلمسه في كلام أسماء بنت يزيد رضي الله عنها إذ أتت النبي صلى الله عليه وهو بين أصحابه فقالت: (بأبي أنت وأمي إني وافدة النساء إليك، وأعلم نفسي -لك الفداء- أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي، إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أموالكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟

فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مُساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يا رسول الله! ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها ثم قال لها: انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته، يعدل ذلك كله. فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشاراً). [أخرجه البيهقي وابن منده وابن عساكر وآخرون]

ولنتوقف ملياً هنا مع ثناء النبي على خطاب الصحابية الجليلة، ومع انصرافها نهايةً وهي تهلل وتكبر استبشاراً بقدرتها على نيل ذات الأجر، فسبحان الله ما أبعد مجتمعهم عما وقعنا فيه من ضلالات نريد إنزالها عليهم، وما أوضح الغايات في عيونهم إذ لم يريدوا شيئاً من شعارات فارغة ولا علواً في الأرض ولا فساداً.


[i] قال الكاتب جيم غاريسون في مقال لصحيفة Huffington Post  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول نسوي في التاريخ.

Jim Garrison, Muhammad Was A Feminist, Huffington Post, 2017.

https://www.huffpost.com/entry/muhammad-was-a-feminist_b_12638112

[ii] الإصابة، ٣٤٧/٨

سير أعلام النبلاء، ١١٢/٢

[iii] انظر هذه المقالات لأمثلة ذلك:

أول نسوية في الإسلام: https://msmagazine.com/2010/03/16/islams-first-feminist/

الإسلام وأول نسوية: https://mg.co.za/article/2018-04-13-00-islam-and-the-first-feminists/

٧ أشياء عظيمة عن خديجة: https://www.huffpost.com/entry/7-remarkable-things-about_b_7097606

النسويات ومعضلة أميرات ديزني

يعتقد الكثيرون أن أفلام ديزني الكلاسيكية جسدت قصص الأميرات العالمية بطريقة ساحرة خلابة تظهر فيها شخصية الأميرة بشكلها الرقيق الطيب الحالم، ومن ذلك أن باكورة أفلام ديزني للأميرات (بياض الثلج) محفوظ في السجل الوطني للأفلام بعد أن اعتبرته مكتبة الكونجرس الأمريكية عملًا هامًّا يستحق الاحتفاظ به، إلا أنّ التيار النسوي لم ينظر يومًا لهذه الأفلام بنفس الطريقة التي ينظر إليها هؤلاء؛ فقد كان -وما زال- يمقتها ويعمل حثيثًا على تغييرها لتتماشى مع أجندته.

بدأت معضلة أميرات ديزني مع النسويات عندما خرجت تلك الأفلام الموجهة للأطفال لتمثّل الصفات المثالية للفتاة حتى تصبح أميرة حقيقية يتنافس عليها الأمراء للزواج بها، لكنها جسّدت صورة نمطية مرفوضة لدى النسويات عن دور المرأة في المجتمع في ذلك الوقت، ففي حين ترى أنت الأميرة فتاة رقيقة مرهفة الحس والأنوثة، فإنهم يرون فتاة كل آمالها في الحياة أن تعتمد على شاب أمير ووسيم، وبين أن ترى فتاة طيبة لا تؤذي مخلوقًا، فإنهم يرون فتاة بلا مهارات أو قدرات ومحل تقديرها فحسب جمالها الذي يتحدث عنه الجميع، وبين أن تكون فتاة تستحق تضحية فارسها الشجاع من أجلها، في حين أنهم يرونها ضعيفة مستسلمة لقدرها بأنها امرأة وتنتظر من ينقذها، لذلك ليس غريبًا أن تحارب النسويات من أجل قلب صورة الأميرة في قلوب الكثيرات لتعكس الكيفية التي يرين المرأة من خلالها -كما سأبين لاحقًا-.

أفلام أميرات ديزني بين الطبيعي والنسويّ!

في دراسة كمية أجرتها المتخصصتان في اللغويات (كارين آيزنهاور) و(كارين فاوت) عام 2016 على أفلام ديزني للأميرات، وجدتا أنه يمكن تقسيم الحقبة التي أنتجت فيها بحسب التغير الطارئ على شخصية الأميرات ودورهن في القصص. قيل إن الدراسة كانت بهدف بحث تأثير الأميرات في طريقة كلام الأطفال كل بحسب جنسه –جندر-؛ إلا أن البحث كشف عن إحصائية مثيرة للسخرية فيما يخص دور المرأة ومقارنته بدور الرجل في قصة تدور بالأصل عن المرأة.

أطلقت الدراسة على البداية مسمى الحقبة الكلاسيكية بين عامي (1937 -1959) والتي أخرجت (بياض الثلج) و(سندريلا) و(الجميلة النائمة). وجدت الدراسة أن نصيب النساء من الحوار في هذه الأفلام مساوٍ أو أكثر من نصيب الرجال لكنها أشارت إلى الدور المحدود للمرأة بالتأثير في مجريات الأحداث، إلى جانب تركيز الفيلم أكثر على صنائع الرجال في القوة والشجاعة والتصدي للأشرار والعبث المضحك. وأكثر من ذلك، فإن نسبة توجيه الرجل للمرأة في القصص (سواء كان أمرًا أو طلبًا أو نصحًا) مرتفعة جدًّا مقارنة بنسبة توجيه المرأة للرجل. وهو أمر استهجنته الدراسة في قصة تدور عن فتاة لكن يتصدر الأحداث الشيقة والمضحكة الرجل ويتحكم بمجرياتها.

بياض الثلج، من أميرات ديزني

بياض الثلج

ثم جاءت حقبة النهضة (1980-1999) عبر دور الأميرات في أفلام (الحورية الصغيرة)، (الجميلة والوحش)، (علاء الدين)، (بوكاهانتوس) و(مولان)، حيث ظهرت صفات جديدة للأميرات مثل التفكير باستقلالية والتمرّد على التوجيهات بتصرفات معاكسة وهو ما نال مباركة النقاد في حينها. لكن الدراسة أظهرت تراجع النصيب الكلامي للنساء في الحوار بدرجة كبيرة لحساب الرجال، كما ظلّت المرأة تبحث عمن يتزوّجها دون أن توجّه أحدًا أو تقود أحدًا أو حتى تخترع شيئًا.

وتشير (آيزنهاور) أن جزء من المشكلة في ذلك هو الشخصيات العاملة في هذه الأفلام غالبًا من الذكور، وأدى ذلك إلى أن تظهر أمثلة أنثوية قليلة عن طاقة النساء وقدرتهن ونفعهن في المجتمع. وفي حين توضح الدراسة نسبة تفوق 55% في إطراء النساء على مظهرهن في الأفلام الكلاسيكية وبالكاد تتجاوز نسبة 11% لقدراتهن، تراجعت نسبة إطراء مظهر النساء إلى 38% في أفلام النهضة مقابل زيادة إلى 25% لقدراتهن. وهو ما عدته الدراسة مؤشرًا جيدًا على تحسن شخصية الأميرات عن الصور السابقة.

مولان، من أميرات ديزني

مولان

أما الحقبة الأخيرة فهي الحقبة التي حُطِّمت فيها الصورة النمطية للأميرة للأبد، حقبة العصر الجديد والتي ابتدأت في 2009 بـ(الأميرة والضفدع)، مرورا ب(متشابكة) و(شجاعة) وأخيرًا (متجمّدة)، حيث إن هذه الأفلام قلبت الموازين في النص، وأظهرت نسبةً عاليةً لإطراء المرأة على قدراتها ومهاراتها وإنجازاتها بنسبة 40% وتراجع الإطراء على الشكل بنسبة 22%. الفضل في ذلك يعود إلى أن فكرة قصص الأفلام في كتابتها وإخراجها جميعها جرى تحت إشراف طاقم نسائي بالمجمل كما نشرت صحيفة واشنطن بوست في مقال تكلم عن نتائج أبحاث (آيزنهاور وفاوت) وقد أضاف إلى ذلك ما صرحت به الكاتبة (بريندا تشابمان) مسبقًا بأن شخصية الأميرة (ميريدا) في فيلم (شجاعة) قد صممت خصيصًا لتحطيم الصورة النمطية عن أميرات ديزني. (ميريدا) التي خالفت الأعراف بتصرفاتها الصبيانية ورفضت أن ينحصر دورها في الزواج والإنجاب والتربية كأمها، ونزلت ميادين الرجال لتنافسهم في الشجاعة وقوة الرمي وغيرها مما يفعله ضخام الأبدان، قد أعطت نموذجا آخر للصغار عن شخصية الأميرة الجامحة والمستقلة بقدراتها عن الرجل. ثم أتت أميرة الثلوج (إلسا) لتتوج ذلك بقيادتها وتوجيهاتها الحكيمة لقومها.

ميريدا، من أميرات ديزني

ميريدا

الأميرات والأمراء، هيّا لنسخّف القضيّة!

بعد أن تحقق الإنجاز المشار إليه، لم يكن هناك مانع من احتفال بسيط للنسويات عبر جمع كل النسخ السابقة من الأميرات والاستهزاء بقصصهن في أحد المشاهد من فيلم ديزني (رالف يكسر الإنترنت). فقد أشار كاتبا الفيلم (فيل جونستون وباميلا ريبون) عن فكرة هذا المشهد وتحدثا بأنهما أرادا تفكيك شخصيات الأميرات وابتكار مشهد نسوي تقدمي في إطار مضحك.

يبدأ المشهد بظهور الشخصية الرئيسية في الفيلم (بينولبي) والتي تطلق على نفسها أميرة لكنها لا تشبه الأميرات في شيء، تظهر في غرفة تجمع الأميرات الاثنتي عشر بفساتينهن الشهيرة، وهنا تتأهب جميع الأميرات في وقفة قتالية مع تعابير الوجه الغاضبة مستخدمات أسلحة رمزية من قصصهن، أما الأميرة (كاثرين – من فيلم الجميلة والوحش) فتحمل كتابها التي علّمت عنه أميرها لتضرب به، والأميرة (ياسمين – من فيلم علاء الدين) تحمل مصباحها دون الاستعانة بالجنّي الذي ساعد أميرها للوصول إليها، أما (سندريلا) فتمسكك بحذائها الزجاجي الذي كان يوما ما أملها الوحيد في تعرف الأمير عليها وتكسره بشكل حاد ليتحول إلى سلاح قاطع، وهنا تحاول (بينولبي) إقناع الأميرات أنها أميرة مثلهن، لينهال وابل من الأسئلة السخيفة تطرح فيه كل أميرة مقارنة عن واقعها السابق لتقابله (بينولبي) باستغراب شديد. لكن الجميع يتفق على أنها أميرة عندما يُطرَح عليها سؤال المليون كما يقال (هل يفترض الناس أن جميع مشاكلك ستحل لمجرد ظهور رجل ضخم قوي في حياتك؟) وتجيب (بينولبي) باستنكار: (نعم ما بال هؤلاء!).

ويستمر تسخيف تصرفات الأميرات السابقة خلال المشهد من تأملات الطبيعة والشدو بالغناء لبث همومهن. وبعد أن تستبدل الأميرات ملابسهن التقليدية لتشابهن (بينولبي) بملابسها العصرية، تقوم الأميرة (أورورا – الجميلة النائمة) بالارتماء على فراش حديث واصفة هذا الرقاد المريح بأنه الحب الحقيقي وكأنها تستغني عن حب من حارب الشريرة لأجلها وأيقظها من غيبوبتها.

أما الأميرة (بياض الثلج) فتلبس قميصا مطبوع عليه التفاحة المسمومة على هيئة جمجمة، وكأنها أصبحت قادرة على التلاعب بهذا الخطر الذي هدد حياتها يوما وأحوجها لإنقاذ أميرها. أي أن جميع الأميرات لم يعد يحتجن حب الرجال وتضحياتهم فهن قادرات على التكفل بأمرهن دون عون، بل أثبتن أنهن من ينقذن الرجال كما يأتي في مشهد لاحق من الفيلم نفسه، يتجلى فيه ازدراء دور الرجل المتهم بتحجيم دور المرأة سابقا. فها هو (رالف) الرجل الضخم يسقط من برج شاهق لتصيح إحدى الأميرات (رجل ضخم قوي يحتاج للإنقاذ!) فتظهر كل أميرة مهارتها في الإغاثة لينتهي (رالف) لابسًا فستان (بياض الثلج) وغائبا عن الوعي في سرير. وكأن النسويات يقلن (نم أنت أيها الرجل فلا حاجة لك بعد اليوم).

ديزني وطغيان التمركزُ الأنثوي

قد تظن أن الأمر توقف هنا، لكن يؤسفني إخبارك أن الأمر ليس كذلك! فما زالت عملية تصيّد شخصيات النساء في الأعمال الناجحة السابقة لأفلام ديزني وإظهار أدوارهن في أجزاء لاحقة بطريقة فوقية على الرجال تهمش دورهم. هن أصحاب القرار، هن محركات الأحداث، وهن من يصنعن الحلول عندما يعجز الرجال.

لنقف على سبيل المثال عند شخصية راعية الأغنام (بو-بيب) الهادئة اللطيفة في فيلم (حكاية لعبة 1995)، حيث تظهر في الأجزاء الأولى متعلقة بالشرطي (الشريف وودي)، تخشى عليه دائمًا وتعتبره حلال المشاكل، وتشجعه دائمًا وتدفعه للخير، لكنها لم تبق كذلك في الجزء الرابع من الفيلم عام 2020، حيث تنزع تنورتها وصدّارها الريفي وتظهر بالملابس الأساسية تحتها، واضعة رباطا طبيا على ذراعها وقد حولت عصاها من رعي الغنم لسلاح تحارب به.

يلتقي (وودي) بـ (بو-بيب) فيندهش من جرأتها ومهارتها، وبعد أن يعجز (وودي) في اقتحام محل خردوات لينقذ صديقه، تقوم (بو-بيب) بتنفيذ مجازفة خطيرة لإدخاله ومساعدته في حل مشكلته.

ولنقف عند مثال شخصية المرأة المطاطية في فيلم (الخارقون 2004)، حيث كانت في الجزء الأول الزوجة التي تعتني بالمنزل والأولاد وتحاول حل مشاكلهم، وتضطر حينها لخوض القتال بعد أن تجرّها غيرتها على زوجها، وتحاول طوال الوقت حماية عائلتها بينما زوجها يقارع الشرير، أما في الجزء الثاني عام 2018 فإن الصورة تنقلب إلى الضد، فتصبح هي البطلة التي تحارب الجريمة وزوجها يجالس الأطفال في المنزل ليساعدهم في واجباتهم ويتدبر أمور حياتهم المعيشية.

وبينما تتفانى المطاطية في تتبع الأشرار بحرفة وذكاء وتحل ألغازهم دون عناء، يزول غرور زوجها السيد الخارق سريعا في المنزل ليظهر مُجْهَدًا مُتعَبًا بعد ليلتين فقط، فيطلب المساعدة من العمة (إدنا) في رعاية الطفل (جاك) كي تخفف عنه عبء مسؤوليات المنزل.

وثمة مثال أخير في شخصيات ديزني النسوية، ففي فيلم عائلة (كرودز 2013) حيث الحبكة الأساسية تكمن في تعارض قوة الأب (جورج) وخياره في الاختباء في كهف بحنكة الشاب (جاي) وتطلّعه لمكان أفضل للعيش، ولم يكن هناك دور للنساء في القرار سوى الاتباع والاعتماد على قوة المجموعة للبقاء، إلا أن في الجزء الثاني عام 2020، تفشل قوة (جورج) وتنتهي حنكة (جاي) ويُختطَفُ الرجال جميعًا ويعجزون حتى عن الفرار، لتأتي عصبة نسائهن (أخوات الرعد) كما أطلقن على أنفسهن، ليقمن حرفيًّا بكل شيء من تتبع أثر الرهائن وهزيمة جيش القردة، ودحر البابون العملاق وتحرير الرجال قبل أن يصبحوا طعام موز، ويختتم الفيلم بمشهد الرجال وهم يخبزون للنساء.

ثم ماذا؟ مخاطرُ وآثار!

ربما كان هناك حاجة فعلًا للتغيير وإظهار الدور الفعال للمرأة في المجتمع، لكن لماذا حصل ذلك على حساب الصفات الحميدة الموافقة لفطرة المرأة؟ ولماذا يجب أن يكون دورها الفعال منافِسًا للرجل ومستقلًّا عنه؟ أليس جزًءا من المشكلة هو شذوذ بعض النسويات ودفعهن في هذا الاتجاه المنفصل؟ إلى أين سينتهي المطاف في هذه التغيرات التي يشاهدها الأطفال ويعالجون تصرفات الشخصيات ويستنتجون منها الفروقات بين الجنسين؟

هناك عدة دراسات تبين أن ديزني في طريقها للوصول إلى نسخة أكثر وضوحًا من الأميرة (الأندروجية– المخنثة التي تجمع بين العضلات والأنوثة)، وهي نتيجة بديهية إذا ما أخدنا في الاعتبار التطورات المستمرة على دور المرأة، فقد انحرفت لمجاراتها الرجل في كل شيء بدعوى نيل حقوق المرأة، وفي ذات الوقت صادقت على اعتراف ضمني بحقوق الجندر في تقرير مصيره الجنسي.

كما تبحث تلك الدراسات ما يطلق عليه ترميز الشذوذ في بعض شخصيات أفلام ديزني الشريرة بحيث لا يكون جنس الشخصية واضحًا أو طبعه غير متفق مع جنسه. وبالرغم من جميع هذه الدراسات فإنه ليس هناك عدد وافٍ من الدراسات التي تبحث تأثير شخصيات هذه الأفلام في هوية الطفل الجنسية. لكن من الواضح أنه لن يصعب على الولد في المستقبل القريب بعد مشاهدة فيلم ديزني أن يقول: “أريد أن أصبح قويًّا كتلك الفتاة”، أو تقول بنت: “أريد أن أصبح فاتنة مثل ذاك الشاب”.

وقد لا يبدو في ذلك مشكلة إطلاقًا لدى الغرب الداعم لحقوق الشواذ، بل هو في رأيه الحق المطلوب اليوم للأطفال في تحديد هويتهم الجنسية عند المتحررين من الدين، لكن ماذا عن أطفال أمة الإسلام التي غمرتهم منتجات ديزني في بلادنا بشخصياتها الخيالية على الملابس والألعاب والأدوات المدرسية؟

نحتاج لوقفة مطولة مع الجهود اللازمة لتوعية أطفالنا عن أفلام قيّمت بأنها صالحة لمشاهدة جميع العائلة، وربما توعية الكبار قبل الصغار.


المصادر

http://www.kareneisenhauer.org/wp-content/uploads/2017/06/Eisenhauer-Capstone-Excerpt.pdf?fbclid=IwAR0SMhZ07JuzrD4EZeF-n0BnWUKVHz8_G71ht9I2VBWGcNzi73spVbP8HAQ

https://grad.ncsu.edu/wp-content/uploads/2017/04/EisenhauerPoster17.pdf?fbclid=IwAR1NWpzLKAB-uVFgVGy7GCXLBZ6y2vjcxLuyBEo04tbfgHfR0sl8TyFnyJg

Disney Princess Movie Marathon: How to Watch These Movies in Chronological Order

https://www.washingtonpost.com/news/wonk/wp/2016/01/25/researchers-have-discovered-a-major-problem-with-the-little-mermaid-and-other-disney-movies/?fbclid=IwAR2cmzvwUIjK5VhQoSCxfq47deMmDWMRVvaKXHjSZkcJNiEkfQJqIs73vrc

The Rise of the Androgynous Princess: Examining Representations of Gender in Prince and Princess Characters of Disney Movies Released 2009–2016

Vanellope meets the Disney princesses

Disney Princesses save Wreck-It-Ralph

https://web.archive.org/web/20170312175257/http://www.marginsmagazine.com/2015/12/18/fabulously-fiendish-disney-villains-and-queer-coding/

 

النسوية: حريّة أم عبوديّة؟

تعجّ مواقع التواصل بأخبار الحركة النسوية وفعاليّاتها، بين مطالبة بتعديل قوانين، وإلغاء تشريعات، ورفض أحكام إلهية، في إطار ما يقال: إنه مطالبة بحقوق المرأة وتحريرها من الظلم الواقع على عاتقها.

لكن، قبل أن نشرعَ في تعريف هذه الحركة والإجابة على ما إذا كانت هذه الحركة تحريراً للمرأة فعلاً أم عبوديّة لها، ينبغي أن نعرفَ سياق تأسيس وتطور هذا التيار، بدءًا من نظر المرأة الغربيّة للنّصوص الدينية المحرّفة التي لديها، حيث يتقرّر عليها أن تصمت وتخضع لزوجها –فهي جزء من أملاكه- ولا يحقّ لها أن تتعلّم أو أن تخالفه.

لقد كان هذا الفكر متجذّرًا في السياق النصراني عمومًا وفي الغرب خصوصًا، باعتبار أن المرأة هي أصل الخطيئة، وأنها التي أغوت آدم وكانت سبباً للشقاء البشري، ونتيجة ذلك الربّ عاقبها بالحمل والولادة والتبعيّة للرجل؛ ومن هنا، انطلقت ثورة “تحرير المرأة الغربيّة” التي كان مردّها نظام وضعي لا يعترف بوجود الدّين، فبات الدّين خصماً لا مردّاً وحكماً.

مُخادَعَةُ النفس

معلوم أنّ أيّ نظام وضعي لا يحتكم إلى الدين، مصيره التّخبّط والضّياع والضلال. فالإنسان مهما بلغ من العلم، ومهما كانت مكانته وأصله ومكانه وخلفيّته، لا بدّ له أن يخضع لهواه، فيخطىء تارة ويصيب تارة. وعلينا أن نفقه مصطلحًا في غاية الأهميّة لما له من ارتباط بالحركة النسوية -سيُذكر لاحقاً- ألا وهو “مخادعات النّفس”.

يمكن أن نقول إن مخادعات النّفس مصطلح شرعي، وهو بصيغته العلمية قريب من “آليّات الدّفاع” التي تحدّث عنها فرويد ومن بعده ابنته آنا، وهي آليّات يقوم بها الإنسان للتخلّص من التوتر أو لتخفيض الشعور بالألم، فتُوهم الإنسان أن الأمور على ما يُرام.

حين يحتكم الإنسان لأهوائه فإنه يخادع نفسه في حقيقة الأمر، ويندرج تحت هذه المخادعات الكثير من المغالطات المنطقيّة -سأضع مقالاً عنها في نهاية المقال للاستزادة-، وما يهمّنا هنا أن نعرف أن أنظمة الإنسان الوضعيّة لا شكّ ستشوبها المخادعات والمصالح الشخصيّة فيُظلم البعض وتتحقق مصالح البعض الآخر في المقابل.

أما المنظومة الإلهيّة الذي يأتي بها الوحي، فهي منظومة ومرجعيّة ثابتة تراعي الجميع وتحفظ حقوق القويّ والضعيف، والغني والفقير، والذكر والأنثى.

النسوية وأبرز مبادئها

إن الثورة على ظلم المرأة والنص الديني الذي أنتج ذلك الظلم، سرعان ما تحوّلت إلى “حركة نسوية” لها فلسفتها ومبادئها، وهذه الحركة كما يُوحي اسمها ترمي إلى تحقيق مصالح النّساء في زعمهنّ.

إلا أنها قائمة على الندّيّة والخصام مع الذكور وتُطلق على المجتمعات التي لا تراعي حرية المرأة بأنها مجتمعات “ذكورية”. ولديها عدّة مطالب بلَبوس المبادئ، هي:

  1. الرجل لا يؤتمن أبداً (men are not to b trusted)، وبناءً على ذلك فإن المرأة ندٌّ له وتنافسه في كل شيء.
  2. على المرأة ألّا تضحّي من أجل أيّ شخص.
  3. رفض أيّ سلطة على المرأة، فالمرأة حرّة ومسؤولة عن نفسها، وتتضمّن هذه السلطة أي رجل سواء كان أباً أم زوجاً ام ابناً.
  4. مركزيّة الاستقلال المادّي للمرأة، فهو وسيلتها للخروج على الرجل وعدم الخضوع له.

وأحب أن ألفت هنا إلى ملاحظة جوهرية –استفدتها من قراءتي لفرويد بحكم تخصّصي-، حيث يمكن عدّ النسوية المعاصرة ثورةً على أفكار فرويد ونظريّاته، فأفكار النسوية ومنطلقاتها تناقض أقواله، ففرويد -مثلاً- يعتبر أن المرأة ناقصة، لعدم امتلاكها العضو الذكوري، وهنا ظهر لنا تياران داخل النسوية، -وقد شاهدتُ آثار هذين الحزبين أثناء دراستي وانخراطي في مجتمع الجامعة الأميركية- أما الحزب الأول فلا يتفق مع فرويد باعتبار المرأة ناقصة، ويرى أن المرأة قوية باعتبار مفاتنها، والرجل يخضع لفتنتها، حيث إن قوّتها بمفاتن جسمها وبما توقعه من إثارة للرجل من خلال ذلك.

هنا تصاعدَ داخل هذا التيار دعوة النّساء لارتداء الملابس الغريبة والمُثيرة للغرائز، وتسريح شعورهنّ وتلوينها بطريقة غريبة، بهدف قهر الرجل بالقوة التي بين أيديهن.

أما الحزب الثاني فيتّفق مع فرويد ويرى أن المرأة ناقصة بالفعل، لذلك ترى نساء هذا الحزب يرتدين لباساً فضفاضاً وقاتماً أقرب إلى لباس الرجل، وتراهنّ يقصصن شعرهنّ لتكون قريبة من تسريحة الرجل. إضافة إلى عدم اهتمامهنّ بنظافتهنّ الشخصية في كثير من الأحيان، ولذلك نرى بعض الشعارات التي تُرفع على مواقع التواصل مثل “no shaving November”، فيكنّ بذلك أقرب إلى جسم الرجل. ويبرّرن ذلك بأن المرأة ليس عليها أن تبذل جهداً لتكون جميلة، فهي لا تريد أن تكون وجهاً جميلاً، -سنأتي على هذا التناقض فيما بعد- والجدير بالذكر أن هذا التبرير والتناقض الذي يقعن فيه من مخادعات النفس التي تحدثنا عنها.

جسد المرأة .. حريّة شخصيّة أم قَيدٌ ثقيل؟

تعني الحرية الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق، وهي على مراتب ومنها مرتبة التحرّر من الشهوات، [التعريفات، الشريف الجرجاني]. ونظير ذلك، فإن الحرية هي “أفعال وأخلاق محمودة لا تستعبدها المطامع، والأغراض الدّنِيَّة، وألّا يجري على الإنسان سلطان المُكوَّنات”، [معجم مقاليد العلوم، الإمام السيوطي].

والحرية في الإسلام -بمعنى أشمل- تعني التحرر من سلطان كلّ شيء سوى الله، وألّا يكون الإنسان عبداً إلا لله، والرسول صلى الله عليه وسلّم إنّما أُرسِل لتحرير الناس من عبودية الخلق إلى عبودية الخالق وحده، وهذا مقتضى معنى توحيد الألوهية (لا إله إلا الله) وهي فرعٌ من الإيمان بالله تعالى. فالحرية الشخصية –اللانهائية بحسب مقاييس البشر- لا مكان لها في ديننا الإسلامي.

إنّ مبدأ “دع الخلق للخالق” مُستبدلٌ في شريعتنا بـ”ادعُ الخلق للخالق”، وهذا منوط بركيزة مهمّة في ديننا ألا وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي لها أصول وضوابط بحثها علماء الإسلام في مؤلفات وموسوعات مطوّلة، -وليس هنا المقام للتفصيل في بحثها-.

تؤمن الفلسفة النسوية المعاصرة بأن جسد المرأة حرية شخصية، وأن لها حق التصرّف فيه كيفما شاءت، فهي وكيلة أمرها وتستطيع ارتداء ما شاءت من الثياب، سواء كانت مُحتشمة أم كانت شبه عارية، والعجيب ههنا أن اللباس المحتشم تُشنّ عليه –بشكل مستمر- الهجمات الإعلامية والسياسية، بحجة أنه رجعي –وربما- إرهابي، أما التعري فهو حرية!

ولكن، إذا كانت من حرية المرأة أن تلبس ما شاءت، إذاً، أليس من حرية الرجل أن يفعل ما يشاء؟

قد يُردّ على هذا أن المرأة لا تؤذي غيرها بلباسها، أما الرجل فيفعل، لكن هذا التفكير يكشف لنا جهل هؤلاء النّساء بالتكوين البيولوجي لجسم المرأة وجسم الرجل والذي له علاقة مباشرة بسلوكهما، وأقتبس هنا من المفكّر الكندي جوردان بيتيرسون: “إن النساء اللاتي يضعن مساحيق التجميل كأحمر الشّفاه على سبيل المثال لا الحصر والذي يصبغ ثغر المرأة باللون الأحمر، هم يضعنه لأنّ ثغرهنّ يتحوّل للحُمرة أثناء الإثارة الجنسية”.

نظير ذلك، بعض الدراسات التي أثبتت أنّ النّسوة اللاتي يردن علاقات –جنسية- عابرة، فإنهن يرتدين ملابساً فاضحة، وأكدت دراسات أخرى أن النسوة اللاتي يلسبن اللباس الجنسي يفعلن ذلك طلباً لإقامة العلاقات، وسأكتفي هنا بذكر آية واحدة تكشف لنا الكثير {وخُلِق الإنسان ضعيفاً} [النّساء: 28]. حيث فسّر البعض ضعف الإنسان في هذه الآية بأنه لا يصبر على فتنة النّساء.

هذه الطبيعة البشرية الجبليّة التي فطرها الله تعالى في الذكر تفسّر لنا انجذاب الذكر للأنثى الشديد رغم إنكار النساء لذلك واتهامه بـ”الشهوانية”، والعجب كل العجب كيف يُتهم الإنسان بشيء ليس له يد فيه، إلا أن ذلك لا يبرر له الاغتصاب وإقامة العلاقات المحرّمة، ولذلك ضبط الشرع هذه الشهوة بغض البصر سداً للذرائع ودرءاً لمقدّمات الزنا. وكذلك المرأة ضبط فطرتها المُحبّة للتزيّن بفرضية الحجاب، فالشرع لا يأتي موافقاً لأهوائنا، وإنما يُشرع الأحكام بما يحفظ حقوق الجميع ويحفظ المقاصد.

 

تناقض النسوية في الواقع

على الرّغم من زعم النّسويّات أنهن لا يكترثن بالمظهر ويطالبن أن يُعاملن مثل الرجال وأن يُخاطبن بعقلهن لا بجسدهن -وهذا ما يؤول إليه الحجاب-، إلا أنّهنّ يقعن في تناقض في الأقوال والأفعال ولا يصدُقْن مع أنفسهن.

فمثلاً، حين تخرج امرأة إلى العمل أو للتسكع، تراها لا تترك مكاناً إلا و تضع عليه مساحيق التجميل -التي تكلّف مبالغ مالية باهظة، وقد تدّخر بعض المال من مدخولها فقط لشراء هذه المساحيق-، ثمّ تراها تمكث ساعة وأكثر أمام المرآة للتبرج وانتقاء الثياب المناسبة والتي تليق بالشخص المراد مقابلته وبالمكان المقصود، ولا سيما طلاء الأظافر التي –ربما- لن تنسى أن تضع منه على أصابع رجليها إذا أرادت إظهارها عمدًا.

وهنا لا نقصد أن الاهتمام بالنفس غير محبّذ، بل إنه مقصد شرعيّ في حال وضعه في المكان والشخص والمجتمع المناسب كالمحارم والزوج والنّساء، إلا أني أسوق هذا المثال لتبيين التناقض الذي تقع فيه “إمّعات” النسوية، فهنّ يردن أن يكنّ إنساناً بلا تسليع أو تشييء، لكنهن في الوقت نفسه يركّزن جلّ اهتمامهن للاعتناء بمظهرهن بالذريعة الشهيرة: أنا حرة بجسدي ومظهري. في إطار تقديم المخادعات التي يندرج تحتها التناقض والتبرير.

إن التّشييء أو التسليع (objectification) لا يكون إلا حين ترتدي الإناث ما يستدعي رؤيتهنّ كشيء أو سلعة، وهذا ما أثبتته الدراسات -سأحيل إليها أسفل المقال-. فهي من جهة لا تُريد أن يُنظر لها أنّها “جميلة” كما أشرنا سابقاً، لكنها في المقابل تبذل الجهد لإظهار جمالها، واجتماع النقيضين يتنافى مع العقل السليم، فالجسد الجميل لا يمكن أن يُعامل إلا بنوع من الشهوة أو الانجذاب ونحوه.

الحجاب ونظرة الرجل للمرأة

عزيزتي النسوية، أنت واللهِ أصبحتِ سجينة لكل نظرة من ذَكَر عابر، ولكل نظرة تكاد تخترق جلدك عند التدقيق بكِ حتى تكادي أن تتلقفي بثيابكِ كي تسدّيه عن النظر المحرّم. لكنّكِ فضّلتِ أن تدّعي أنّكِ قوية ورفعتِ شعار النسوية “أنا حرة”، دون أن تفقهي أنك أنتِ من تركتِ الباب مفتوحاً على مصراعيه ليدلف إليه من يشاء وينظر فيه ما يشاء.

وكما أن احتشامكِ يحميكِ من هذا كله، ويحررك من نظرة ثاقبة لمفاتنكِ، فإنه “واجب” عليكِ -ليس باعتبار الدين-؛ ما دمتِ تؤمنين بالعقل والعلم وما يندرج تحته، أن تتصرفي بما يمليه منطق الرافض للتسليع، فكما أنك تريدين أن يُنظر إليكِ إنسانةً لا سلعة -وهذا من حقكِ طبعاً-، فإنه بالمقابل من حق الذكر عليكِ في أي مكان أن لا تدعيه ينجرف لغريزته بسبب إظهاركِ للمفاتن التي تثيرُ –لا شعوريًّا- الشهوة لديهِ، وبذلك تحمين نفسكِ وتُعينينه بنهي نفسه عن الانجراف والانصياع لهواه، مما قد يؤدي -قطعاً- إلى تقليل حالات الاعتداء الجنسي.

وكما أن قوانين السير وُجدت لتقليل الحوادث -وليس العكس- فإننا لا نستطيع منع الحوادث قبل وضع القوانين والضوابط كإشارات المرور وغيرها-، فكذا أيضاً الاحتشام وُضع للتقليل من حالات التحرش والاعتداء. فقبل رفع شعار المساواة والحرية، “ترفّعن” عن التناقض والجهل، بعدها قلن ما تردن.

إن دور الحجاب –في النتيجة- يكمن في إقامة المساواة بين الرجل والمرأة التي يسعين لها النّسويات. فالحجاب يجعل المرأة إنساناً طبيعيًّا شأنه شأن الرجل، ولا يقوم بجنسنتها لانّه يقتضي إخفاء المرأة لزينتها. وكذلك، يُعين الرجل على التعامل مع المرأة دون إثارة جنسية لعدم وجود الباعث الذي يُثيره، ويُعينه على غض البصر.

والحجاب أو الزي الشرعي هو منظومة تحمي كلا الجنسين وتحفظ حقوقهما. والجدير بالذكر، أن المرأة والرجل -سواء في العقائد والعبادات والأخلاق- مطالبان بالسعي والعلم والعمل والاجتهاد. فلا خشونة الرجل تهب له فضلاً من تقوى، ولا نعومة المرأة تنقصها حظًّا من إحسان [الشيخ محمد الغزالي، قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة]. وهذا إن أشار إلى شيء، فإنما يشير إلى مبدأ المساواة في العبودية والفضل في منظومتنا الإسلامية، فلا أحد فوق الشريعة! وما يُحتّم هذه النتيجة، هو التزام كلا الرجل والمرأة بالفرائض خاصة المنوطة بالجنس الآخر، والتي تؤثر فيه.


مصادر ومراجع إثرائية:

مشهد من سلسلة المرأة د. إياد القنيبي استفدت منه في هذا المقال:

https://youtu.be/r2M_YyM8dpU

مقطع جوردان بيتيرسون عن مساحيق التجميل:

https://youtu.be/S9dZSlUjVls

  • دراسات ذكرتها في المقال:

دراسة أثبتت أن النسوة اللاتي يردن علاقات على المدى القصير يرتدين لباسًا فاضحًا، والنسوة اللاتي يردن العلاقات على المدى طويل يرتدين لباسًا أكثر حشمة:

https://link.springer.com/article/10.1007%2Fs10508-013-0188-8

وهنا دراسات أثبتت أن النسوة اللاتي يرتدين لباسًا فاضحًا أو ذا طابع جنسي هن الوحيدات اللاتي يتعرض للتشييء objectification. وأشعة الfMRI أثبتت أن الذكور على الرغم من اشتهائهم لهن إلا أنهم يرونهن مقززات وأشياء، مقارنة مع المحتشمات.

الدراسة:

https://www.mitpressjournals.org/doi/abs/10.1162/jocn.2010.21497

وهنا دراسة أخرى أثبتت بواسطة أشعة الfMRI أن كلًّا من الذكور والإناث يروون هؤلاء النساء كمجرد أشياء، ووجدوا أنهم لا يشعرون بالشفقة تجاه هؤلاء النسوة عند رؤيتهم في حالة ألم. بينما رأوا النسوة المحتشمات كبشر.

الدراسة:

https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0010945217304045

وهنا دراسات أخرى أثبتت أن النساء اللاتي يرتدين اللباس الفاضح أكثر تعرضًا للتحرش الجنسي وأكثر تعرضًا للتشييء وعدم الأنسنة dehumanisation. ووجدوا أن الذكور يجدون متعة في التحرش بهن.

الدراسة:

https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/0146167212436401

 

Portfolio Items