مقالات

مسؤولية الاستحقاق .. قف وارجع للأرض!

أبتدئ هذا المقال بقوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] وأنسلّ من هنا لأشير إلى أن انتشار الفردانية في مجتمعنا أدّى لانتشار مبدأ الاستحقاقية الذي أصبح البشر يتعاملون به مع رب العالمين! فنرى أحدهم يقول: “يا رب أنا لا أستحق هذا!” “يا رب ماذا فعلت لأستحق هذا؟” “يا رب أنا فعلت وسعيت فإنني أستحق هذه النتيجة لمَ لم أحصل عليها!” إلى جانب جُمل أخرى مغلّفة بالزخرف كـ”أنت تستحق الأفضل دائمًا، فكر هكذا وستحصل على حياة سعيدة!”

ويالانعدام مفهوم الحياة الدنيا! وكأن ما فعله الذين كفروا من بني إسرائيل يتكرر اليوم!

المفاهيم انقلبت ونسي العبد أنه عبد، نسي أنه يُسأل ولا يسأل، نسي حقيقة الحياة الدنيا!

من وقع في شباك هذا المبدأ؛ طبيعي أنه سيصل للسخط على رب العالمين، لأن نظرته المشوّهة جعلته يرى الدنيا كفردوس أرضي، وتكون نظرته أنا عملت إذًا -وبشكل طردي- سأحصل على كل ما أتمنى لأني أستحق! متناسيًا أن الحياة هي دار ابتلاء واختبار وليست دار الجزاء {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]

لو كانت الدنيا دار الجزاء؛ لكان الأنبياء أحق برغد الحياة، ولكانوا أحق بتحقق جهودهم في الحياة، ولكن الأنبياء يبعثون ومعهم واحد أو إثنين وبعضهم يبعث وليس معه أحد اتبعه!

لو أن الدنيا ستكون رغدًا للمُطيع لكان الأنبياء أولى، ولكنهم أكثر الناس بلاءً!

لو كان الجزاء في الدنيا لكان الصحابة أولى بهذا، ولكن منهم من قضى نحبه قبل الهجرة كسمية وزوجها رضي الله عنهما، ومنهم من قضاه قبل الفتح وقبل أن يرى ثمرة جهاده في الدنيا، ولكنهم علموا أن الجزاء في الآخرة، وأنهم سيجزون على سعيهم لا على النتيجة! {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 39-41]

ولو تأملنا في سورة الصف سنجد أن الله تعالى يخبرنا أن الجزاء هو جنّات عدن، ولكن الأخرى التي تحبونها هي جزاء معجّل لأنه شكور، وليست الجزاء الحقيقي!

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:10-13].

يعبد الله على حرف!

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]

بعض الناس يعامل الله سبحانه وكأنه يمّن عليه بإسلامه، فإن تعرض لمصيبة أو كربٍ أو لم يتحقق له ما كان يطمح له سخط على الله، بل وربّما شكك في وجوده! وهو ما يسمى في العصر الحديث (هشاشة الإيمان) وفي المصطلح القرآني (عبادة الله على حرف) وحرف تعني لغة الطرف والحافة؛ أي كمن يقف على حافة الجبل؛ أي شيء سيوقعه، وهذا من خسِر الدنيا والآخرة.

 من يعامل الله كأنه يستحق لم يفهم معنى العبودية وحقّها، فالله لم يوجب الرحمة على نفسه ولم يشترِ من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة لأننا نستحق، بل لأنه هو الرحمن الرحيم الوهّاب الودود اللطيف بعباده، فإن وصلت لمرحلة تفكر فيها ب: أنا لا أستحق كل نعم الله هذه بدلاً من: أنا أستحق أكثر! فاعلم أنك اقتربت من تحقيق العبودية لأن إدراك النعم ورؤية أنك لا تستحقها وإنما هي من فضل الله عليك هو مقام من مقامات العبودية الحقّة.

وهذا الخلل ينشأ من سوء فهم للابتلاءات، فيعتقد الشخص أن الابتلاء هو المصائب فقط والنقص في الأموال والأنفس، رغم أن الله سمّى العطاء ابتلاءً أيضًا {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر:15-17]

فالله سمّى سعة الرزق ابتلاءً، ليرى ماذا يفعل العبد في نعمته، هل سيشكر أم يكفر؟ والله يخبرنّا بأن البسط في الرزق والقدر فيه ليس محددًا لحب الله ورضاه من عدمه، فالله يبسط الرزق لمن يشاء لحكمة، والله يبتلي ويعاقب من يشاء لحكمة.

 ومن الكفران استعمال النعم في معصية الله، ولقد توصّل لهذه الحقيقة النبي سليمان عليه السلام، حينما جيء بعرش سبأ إليه فقال: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40] لم يقل لأنني نبي وأستحق! بل أدرك أن كل شيء عنده من فضل الله ونعمته وأنه بلاء.

وفي الجهة المُقابلة كان قارون، لمّا فتح الله عليه بالمال قال: {إنما أوتيته على علم عندي} أي أوتيتها لمقدرتي ولعملي ولأني أستحقها! فكفر فخسف الله به وبداره الأرض. وكان هنالك فريقٌ ممن كانت نظرتهم دنيوية مادية بحتة، وفريق ممن منّ الله عليهم بالبصيرة، تأمل بنفسك:

{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)} [القصص:79-82]

وقد ذكرت بالفعل أننا أصبحنا نفعل كبني إسرائيل، فوجب أن أوضح، فبنو إسرائيل كانوا يقولون إنهم أحباء الله، وأن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودة، وكل هذا وهم لم يقيموا التوراة ولم يتبعوا حكم الله ويعبدوه حق عبادته، بل كان مبدؤهم (الاستحقاق).

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿80﴾ بَلَىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:80-81]

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:18].

ما المخرج إذًا؟

إذا كنت ممّن وقعوا في هذا الشباك فلا تقلق، أول الحلول هو الاعتراف بالمشكلة.

في البداية يجب أن تدرك أن الله مستحق للعبادة والمحبة لذاته ونحن مُلكه، لأنه سبحانه الخالق الذي خلقك ولم تكن شيئًا، يجب أن تدرك أن الله الحكيم، وأنك لن تدرك جل حكمته لأنك مخلوق لست الخالق، ولكنك تؤمن أنه الحكيم والمدبر وإن لم تعلم الحكمة بنظرتك القاصرة، وهذا معنى التسليم {وَلَوۡ أَنَّهُمۡ رَضُواْ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤۡتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَرَسُولُهُۥٓ إِنَّآ إِلَى ٱللَّهِ رَٰغِبُونَ} [التوبة:59]

يجب أن تتأمل بنعم الله حولك وتعمل بالوصية النبوية “انظروا إلى من هو أسفل منكم”

وقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: “عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ.” رواه مسلم.

ويجب أن تدرك مفهوم الحياة الدنيا والنعم والابتلاء، وأن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة!

وأن بلاء الله رحمة للمؤمن لكي يطهره من ذنوبه، فعذاب الدنيا لا يساوي مثقال ذرة من عذاب الآخرة.

بل وأيضًا يكون رحمة للكافر حتى يعود إلى الله {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21]

وفي الختام وبمّا أنّك عُدت إلى الأرض.. تذكر {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]

فالله قد يختبرك بقدر رزقك، بتأخير في الوظيفة، الزواج، الإنجاب، تعثر في الدراسة، وقد يختبرك ببسط الرزق عليك وتسهيل كل شيء لك، فمعرفتك لهذا تجعلك تحسن التحضير ليوم الجزاء، تجعلك تعرف معنى أن تجاهد نفسك، لأنك {كادحٌ إلى ربك كدحًا فملاقيه} [الإنشقاق:6] يوم تجزى على صبرك وحسن عملك. {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط” حسّنه الترمذي.

الكَيِّس والعاجز

هل يمكن للحياة أن تستمر وتنمو في طريق التطور من دون أن يكون هناك تقويم مستمر لمساراتها؟

ندرك الجواب مسبَقًا، ومنه نعلم أننا بحاجة للتقويم المستمر، فإننا لن نجد تاجراً ناجحاً إلا ونراه مراقباً عمّاله فيما يصنعون، داعماً المصيب منهم في الاستمرار على النهج الذي انتهجه، مقوماً المخطئ آخذاً بيده إلى ما عليه فعله، وكذلك عمل العبد المسلم مع ربه، فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة، وهو الذي نقدم له العمل الصالح فيضاعفه لنا بالأجر والثواب أضعافاً كثيرة.

الحياة في سبيل الله

إنّنا نتعامل في هذه الحياة الدنيا مع الله، فالغاية الكبرى من وجودنا هي عبادته وأن نتقيه ونخافه وألا يمنعنا ذلك من أن نرجوه وندعوه، وقد خلقنا الله فأنزل علينا شريعةً واضحةً، وبين لنا أوامره ونواهيه، وما ذلك إلا لأنه أراد صلاح مجتمعاتنا وسعادتها، إلا أن الإنسان كان قد جُبل على الخطيئة، إذ كل ابن آدم خطّاء، فالعبد في طريقه إلى الله قد تزل قدمه، فيجدر به حينها أن يتوب ويرجع ويواصل المسير، لا أن يغرق نفسه في الذنوب والشهوات ويحيد عن الطريق الذي أراده الله للبشر.

ليست المشكلة الكبرى في أن يذنب الإنسان وتزل قدمه، بل في ألّا يعرف العبد أنه يذنب! وكيف يعرف أنه يذنب وهو لا يراقب نفسه؟

مثل ذلك الشخص كمثل تاجرٍ افتتح مشروعاً ضخماً وموّله بمئات الملايين وقد مضت عليه السنون دون أن يحصي ماذا دفع لأجله وماذا جنى، ولا جرد بضائعه ولا أحصاها، ومن كان هكذا حاله فقد يكون رابحاً ولكنه قد يكون خاسراً أيضاً، وحين يكون خاسراً فإن لن يقوى على تحمل الخسائر التي مني بها إذ سيكون حينها قد فاته الأوان.

حاسب نفسك تسلَم

ومثل هذا كمثل العبد في تعامله مع الله إما أن يحاسب نفسه على كل كلمة نطق بها لسانه وكل نظرة أطلقتها عينه وكل مجلس قد حضره وكل فعل قد فعله، ويراجع نواياه فينظر أيها كانت خالصةً لوجه الله وأيها قد داخلها رياء أو عجب أو كبر، حيث يسلط بصره على قلبه فيفتش في أمراضه فيعالجها بالتزكية، من قرآن وأورادٍ ودعاء، أو يترك نفسه على هواها فلا يبالي بعرض من قد خاض ومن اغتاب وكم من المرات قد كذب وخدع، وأين أطلق بصره، وهل المجالس التي يحضرها ترضي الله أم أنها مبنية على اللهو المحرم.

أما أمراض القلوب فحدث ولا حرج، إذ هي أشد من الذنب الظاهر للعيان، فما القول إن كانت الذنوب الظاهرة للعيان غير مهمّة لكثير من الناس، فكيف بالذنوب التي لا يدركها إلا صاحبها؟ كأن يداخل قلبه عجب بعمله الذي يظن أنه صالحاً، أو أن يرى نفسه خير خلق الله، أو أن يتصدق عندما يحاط بأناسٍ بينما يكون إخراج روحه أهون عليه من إخراج الصدقة عندما يكون لوحده.

لكل مجتهد نصيب

إن الأولى للمحاسب نفسه أن يقف عند كل صغيرة وكبيرة، بهدف أن يخاف الله خوفاً صحياً لا مرضياً، وهذا الخوف هو الذي يتبعه أمناً يوم القيامة، فالطالب الذي يخاف من صعوبة الامتحان خوفاً يؤدي به إلى الاجتهاد في الدراسة يصل للنجاح في خاتمة المطاف، أما الذي يخاف خوفاً كبيراً لا مسوغ له فإنه قد ينتهي به الحال في المشافي أو المصحات العقلية أو الموت في بعض الأحيان!

هذا ما يحدث في كل عامٍ لعدد من الطلبة الذين يخافون من الامتحان أكثر من اللازم، وهذا ما لا يطلب من الطالب فعله ولا من العبد كذلك، إذ على الإنسان العمل وعلى الله الجزاء، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وفي المقابل فما دام الخوف في بعض الحالات النادرة قد يؤدي إلى فقدان العقل أو الموت، فهل نقول للطالب عليك ألا تخاف مطلقاً من الامتحان وأن تأمنه؟ بالطبع لا، بل نقول له: ادرس واجتهد وافعل ما بوسعك فعله ثم لا تلامُ بعد ذلك، إذ حينها تكون قد أديت ما عليك أداؤه.

هذا عينه ما نقوله لذاك الذي يدّعي أن الله محبة وأن الله غفور رحيم ودود، وأن علينا ألا نخاف الله، متجاهلاً أن الله لا يجمع على عبده أمْنَين، فإن أمنه العبد في الدنيا أخافه الله يوم القيامة، وإن خافه في الدنيا أمنه الله يوم القيامة.

إن من أمن الله في الدنيا –بمعنى الغرق بما حرمه الله عليه- ولا يبالي بالظلم الذي يوقعه بحق نفسه أو بحق العباد لترديده مقولة:  إن الله غفور رحيم! فإنه ولا ريب لن يكون كذلك الذي يخاف الله في الدنيا، حيث يقوده خوفه لئلا يظلم نفسه ولا يظلم خلق الله بل يسعى جهده إلى أن يكون عبداً صالحاً راجياً بعد ذلك أن يرحمه الله يوم القيامة.

الكيّس من دان نفسه

لقد لخّص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حال هذين الفريقين بجملتين قصار واصفاً حال كل منهما، ومرشداً إيانا إلى أي فريق ننحاز وعن أي فريق نبتعد، فقال: “الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني” [أخرجه الترمذي في السنن] وقد أعطانا الحسن البصري -الذي قيل إن كلامه أشبه بكلام الأنبياء- تطبيقاً عملياً لأفعال هذين الفريقين، فقال: “إن المؤمن -والله- ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمة كذا؟ ما أردت بأكلة كذا؟ ما أردت بكذا؟ ما أردت بكذا؟ وإن الفاجر يمضي قُدماً قدماً ولا يحاسب نفسه ولا يعاتبها” [مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين، ابن قيم الجوزية، ج2: 6]

التأصيل المعرفي لمصادر الشريعة الإسلامية

تعتمد مصادر التشريع الإسلامي في الأصل على مصداقية القرآن والسنة وتحكيمهما في كل تفاصيل الأحكام الدينية وترد إليها التعاملات الدنيوية، إلا أن المراد بيانه دور العقل المهم في هذه العملية، حيث يبرهن على مصداقية النقل وصحة ثبوته ثم مطابقة دلالته لمناط الاستدلال المستخرج منه.

الاستهداء بالقرآن

أما العقل فله في الاستدلال طريقان: الاستدلال المباشر وغير المباشر، وينقسم الاستدلال المباشر إلى ثلاثة طرق، الاستدلال بالقياس والتمثيل والاستقراء، كما أن الاستدلال غير المباشر له ثلاثة طرق أيضًا، حيث الاستدلال بـالنقيض وعكس النقيض والعكس المستوي.

إن المسلم يعتنق الإسلام لاقتناعه بصحته عقلًا إذ لابد من مقدمة تسبق النتيجة –أي صحة الإسلام- حتى لا تكون النتيجة مجرد دعوى لا برهان عليها.

وطبعا فإنه من غير المعقول أن يكون البرهان على صحة الإسلام هو الجانب النقلي منه إذ أن ذلك يُعدّ استدلالًا بالدّور فيكون النقل استدلاًلا على صحة نفسه فلزم أن يكون النقل مقدمة ونتيجة في آن واحد وذلك ممتنع لعلة التناقض.

وبما أن العقل هو الذي يبرهن على صحة الإسلام فإنه يكون من حيث ترتيب المقدمات والنتائج سابقًا للنقل، ولكن بما أن العقل حكم على المنقول الإسلامي بالصحة بعد النظر إلى الحجج العقلية الواردة في هذا المنقول فإن هذا الخبر الذي حُكِمَ عليه بالصّدق المطلق يصبح حُجّة على العقل الذي حكم عليه بذلك.

وعندها لا يمكن للعقل أن يطعن في صحة أي جزئية فيه كأن يقول: (أخطأ الله في هذا الموضع) لأنه بذلك يناقض حكمه الأول إذ أن الجزئية السالبة تنقض الكلّية الموجبة، ولذلك صار لزاما على العقل الإيمان بكل ما قاله الله عز وجل.

السنة النبوية وضرورة الاعتراف

من جملة ما أنزل الله في قرآنه قوله: {فإن تنازعتم في شيءٍ فرُدّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا} [النساء: 59]

وبعد أن جعَل العقلُ القرآنَ حكمًا عليه ومصدرا أولا في التشريع صار لزاما عليه أن يُدخل في مصادر التشريع ما أُمِر به في القرآن، وهو ردّ النزاع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا مما يعني إدخال سنّته في مصادر التشريع، وبذلك تكون أهم مصادره هي “القرآن والسنة”.

إلا أننا نتساءل .. ما هي السنة؟

السنة هي كل ما أضيف للنبي صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل أو وصفٍ أو تقرير، وقد حكم العقل على صحة ثبوت القرآن عن الله عز وجل من البداية، فبقي أن يعرف العقل طريقةً للوصول إلى السنة الصحيحة حتى يميز بينها وبين الضعيفة أو المكذوبة.

هنا توصّل العقل إلى شروطٍ لصحة الحديث من حيث الثبوت ثلاثة منها تدرُس الأسانيد وهي:

“اتصال السند، وعدالة الراوي: أي ترجيح صدقه ونزاهته وعدم كذبه، وضبطُه والضبط نوعان ضبطُ حفظٍ وضبطُ كتابةٍ وذلك لضمان عدم خطئه ولو بحسن قصد” واثنان منها تدرسُ المتون وهي “الخلو من الشذوذ أو العلل” وهذه الشروط كلها عقليّةٌ محضة إذ لا يوجد في القرآن ولا السنة اشتراطها لصحة المنقول كما لم يكن ممكنا أن تكون السنة حكما على ثبوت القواعد والقواعد حكما على ثبوت السنة في آن واحد فهذا دور سبقي ممتنع كما سبق بيانه.

وبناءً على ما سبق نعلم جيدا أن قواعد علم الحديث التي بها نميز بين الصحيح والضعيف والمكذوب قواعد عقلية، وليس الأمر مقتصرا على ذلك فحسب وإنما شرطان منهما يناقشان المتن مباشرة، أما شرط الشذوذ فعند مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، ويمكن الاعتماد على السند فيه.

أما العلل فجلّها علل عقلية تمسّ المتن نفسه فيُحكم عليه بالنكارة إن كان ظنيا مخالفا للعقل للقطعي.

والعقل القطعي لا يحكم على القضية بالاستحالة إلا إن كانت مركبة من قضيتين متناقضتين قد توفرت فيهما وحدات التناقض الثمانية (الاتحاد في: الموضوع والمحمول والكل والجزء والمكان والزمان والقوة والفعل والشرط والإضافة، أو كان مناقضا لقضية واجبة الصحة، وليس كل حديث يستعصي فهمه على القارئ يرميه بحجة مخالفة العقل، فيجب التفريق بين العقل الذي يعمل وِفقَ قواعد وأصول متسلسلة في مقدماتها ونتائجها وبين العقل المعتمد على الهوى المحض، فقال الله {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون: 71].

سبيل للإيضاح

نضرب هنا الآتي مثلاً، فإنه لا يقال: هذا الحديث ضعيف لأني لم أقتنع بالقصة التي وردت فيه.

وإنما على المعترض أن يبيّن وجه الاستحالة في القصة، فليست كل قصة مخالفة لما تعوّد الناس عليه تكون مستحيلة بالضرورة إذ أن باب الممكنات العقلية أوسع من باب المشاهدات الحسيّة، وليس عدم العلم بالشيء يعني العلم بعدمه.

فهناك من أنكر قصة الإسراء والمعراج لمجرد أنها تبدو غير مألوفة لديه ولم يتعود البشر على مشاهدة مثلها، ولكن لو عرضناها على العقل لوجدناها ممكنة لذاتها إذ إنها غير مركبة من نقيضين ولا هي مناقضة لقضية واجبة الصحة، بل هي مؤيدة لذلك إذ أن العقل أثبت وجود الخالق التام الذي يقدر على كل شيء وبما أنها من الممكنات لذاته فما المانع من أن يرجح الله وجودها على عدمه إن هو أراد ذلك؟ فيكون العقل هنا حجة على من ينكر الحادثة لأن المنكر يتهم الله من غير أن يشعر بالعجز عن نقل نبيه إليه وإعادته لمكانه في ليلة واحدة.

فهنا لا يصح أن يوصف المتن بأنه مخالف للعقل أصلا، ومن ثم إذا أردنا فهم دلالات النص وجدنا أنفسنا بحاجة إلى قواعدَ وأصولٍ توصل العقل إليها لغرض فهم المنقول ومعرفة دلالته، وهذا العلم يُصطلح عليه باسم “أصول الفقه”.

معظم قواعد هذا العلم عقلية ولغوية ومنها ما استُقرئ من مجموع النصوص النقلية بعد استعمال العقل آلةً لفهمها، لذلك اختلفت العقول في بعض قواعده فتأسست مذاهب فقهية كلٌّ منهم يريد الوصول إلى مراد الله ورسوله فمن اجتهد منهم فأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد.

هل كانت أم المؤمنين خديجة سيدة أعمال نسوية؟

كثيراً ما نسمع نسويات مسلمات يستشهدن على أهدافهن ويبررن مسارهنّ عبر توظيف قصص متنوّعة من عصر الصحابيات رضوان الله عليهن؛ ليقلن بأنهنّ أيضًا كنّ نسويات أو ممثّلاتٍ عمليّات لبعض شعارات النسوية التي يدعون إليها، فيقال –مثلاً-: إن ردّ أمّنا عائشة رضي الله عنها لبعض الأحاديث كان خروجًا على السلطة الذكورية، وأن دفاع نسيبة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد كان كسراً للأدوار الجندرية، وأن الصحابيات طالبن بالمساواة مع الرجال، وصولاً إلى القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذاته كان نسوياً[i] بهدف تسويغ أسلمة النسوية ونيل موافقة الفئات الملتزمة على كل أفكارها.

وفي هذا المقال أنظر في هذا النوع من التوظيف لقصص الصحابيات بعين ناقدة ليتبين صوابه من خطئه مع التركيز على ما أظنّه أشهر نموذج منه، والمتمثل في سيرة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وتجارتها ونمط حياتها.

الطاهرة، الزوجة، الأم، والتاجرة.

ولدت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسْد القرشيَّة في بيت عز وثراء وجاه في مكة، وكانت في الجاهلية تلقّب بالطاهرة، وقد تزوجت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي هالة بن زرارة التميمي الذي توفي عنها وتزوجت بعده عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم الذي توفي عنها كذلك، وقد أنجبت منهما ثلاثة صبيان وبنتاً[ii]، ولنسبها وزواجيها دورٌ في امتلاكها للثروة الكبيرة التي كانت تتاجر بها على عادة العرب، فكانت ترسل الرجال على مالها إلى الشام كل عام، وكذلك استأمنت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وعرفت خلقه وخصوصيته عبر غلامها ميسرة، ومن ثم كان زواجها منه.

وبعد الزواج المبارك استمر عليه الصلاة والسلام بالتجارة على مالها، وأنجبت له ستة من الولد، وكان بيتهما سكناً ومودةً ورحمة مدة خمسة عشر عاماً إلى أن بعث عليه الصلاة والسلام، فكانت خديجة أول من صدّقه وآمن به وساندته بمالها وعاطفتها وجهدها، حتى إنها دخلت الحصار معه في الشعب ولاقت في سبيل دعوة الإسلام الجوع والقلة وهي ابنة الكرام ذوي العز والجاه.

تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يوماً فقلت ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عز وجل بها خيراً منها، قال: ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء). [أخرجه أحمد في المسند]

فأمنا خديجة رضي الله عنها لم تكن تعرّف نفسها “سيدة أعمال” أولاً كما يُصوَّر لنا، وإن كانت بلا شك ذات مال وتجارة فهي كانت قبل ذلك الطاهرة التي تستأجر الرجال على تجارتها لتنأى بنفسها ما أمكن عن مخالطتهم والخوض بينهم، وإن تميّزت عن معظم أقرانها بعملها فإننا لا تجدها تحاضر عليهنّ حول سبق الرجال ولا عن كسر السقف الزجاجي ولا عن استعلائها عليهن بما “تساهم به للمجتمع عبر مهنتها” ببنما هنّ “عاطلات” في بيوتهن، وهي التي مع تجارتها تزوّجت وأنجبت وربّت وصبرت على أعباء النبوة التي أضاءت أنوارها من بيتها الشريف.

لقد رسمت الخطابات النسوية المسلمة صورة مشوهةً لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها في أذهان الفتيات كسيدة خارجة للتو من فيلم هوليوودي -وحاشاها- ببذلة رسمية ضيقة وكعب عالٍ تتجول في شركة ضخمة وتدير اجتماعات الرجال فيها ولا تكترث إلا بالأرباح والأسهم والإنتاج[iii][iv]، وهذا ما يخالف تماماً واقع حياتها الذي تعاملت فيه رضي الله عنها مع ظروفها بحكمة وحنكة ومهارة، وعملت وسعها لتحافظ على مالها الذي رزقها الله دون أن تخسر شيئاً من أنوثتها أو تتخلى عن حاجاتها وطبيعتها في الطريق.

الانتقائية غير البريئة!

إن الناظر في طريقة تعاطي النسويين والنسويات في الأوسط المسلمة مع محتوى تراثنا يلاحظ بوضوح كمية الانتقائية التي يمارسونها لتسويغ توجهاتهم وأسلمتها، فهم لا يحكون إلا أجزاء من القصة، ولا يأتون إلا بالأمثلة التي تخدم أهدافهم وإن أشبهت الاستثناء في سياقاتها، ثم يحاولون جعلها حالات عامة ينبغي الاقتداء بها.

فقد جعلوا السيدة خديجة “CEO” أو مديرة شركتها الضخمة بغض النظر عن بقية مكونات شخصيتها وأحداث حياتها وقلة مثيلاتها في نساء زمانها، ثم جعلوا هذه الصورة غير الدقيقة والمقتطعة من حياتها نموذجاً ينبغي على الفتاة السعي لبلوغه وإلا كانت فاشلة واقعة تحت سلطة الذكور الظالمة التي تحتاج لفعل المستحيل والتضحية برغباتها الحقيقية للخروج عنها، وبنفس الطريقة يتم الحديث بإفراط عن الصحابيات اللواتي دخلن ساحات الجهاد في أوقات الاضطرار لا للثناء على فعلهن واستخراج الفوائد من سيرهن، وإنما للقول بأن هذا الفعل الذي يحقق قيمة المساواة الدارجة اليوم هو العمل الخيّر الذي ينبغي على المسلمات في كل زمان ومكان اتباعه.

فحين يذكرون أم عمارة رضي الله عنها وجهادها في غزوة أحد – على سبيل المثال – لا يقولون بأنها حالة خاصة ونادرة بين الصحابيات، ولا يقولون بأن خروجها ذاك كان في وقت حرجٍ تهدد فيه أمة الإسلام والمسلمين، بل يجعلونها سابقة لزمانها لأنها وقفت بين الرجال ونالت شرف القتال بينهم، بينما هدفها كان الدفاع عن أمتها ونبيها، وبينما الصورة الغالبة لخروج النساء للغزوات كانت بأن يقمن على تضميد الجراح وإعانة الجيش من ورائه بالماء والغذاء.

والواقع أن ما تقوم به الخطابات النسوية الإسلامية هو إسقاطٌ لأفكار مستحدثة على الشخصيات التاريخية وإخراج للأحداث من سياقها وتحليل لمجرياتها وفق ما تراه المنظومات العلمانية خيراً وشراً وهدفاً ونجاحاً و فشلاً، بينما الشخصيات التي نتحدث عنها عاشت لقيمٍ مختلفة وعملت لأسباب مغايرة لما تريد الخطابات الحديثة إلباسها له، فالصحابيات رضوان الله عليهن علمن تماماً لماذا يعشن وإلى أين يمضين، فلم يكن سؤالهنّ إن سألن عن أعمالهن أو قارنّ نفوسهن بالرجال بحثاً عن المساواة أو الأهواء التي باتت رائجة اليوم، إنما سعياً لرضى الله ونيل الدرجات العلا عنده وتحصيل ثوابه، وهذا ما نلمسه في كلام أسماء بنت يزيد رضي الله عنها إذ أتت النبي صلى الله عليه وهو بين أصحابه فقالت: (بأبي أنت وأمي إني وافدة النساء إليك، وأعلم نفسي -لك الفداء- أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي، إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أموالكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟

فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مُساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يا رسول الله! ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها ثم قال لها: انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته، يعدل ذلك كله. فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشاراً). [أخرجه البيهقي وابن منده وابن عساكر وآخرون]

ولنتوقف ملياً هنا مع ثناء النبي على خطاب الصحابية الجليلة، ومع انصرافها نهايةً وهي تهلل وتكبر استبشاراً بقدرتها على نيل ذات الأجر، فسبحان الله ما أبعد مجتمعهم عما وقعنا فيه من ضلالات نريد إنزالها عليهم، وما أوضح الغايات في عيونهم إذ لم يريدوا شيئاً من شعارات فارغة ولا علواً في الأرض ولا فساداً.


[i] قال الكاتب جيم غاريسون في مقال لصحيفة Huffington Post  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول نسوي في التاريخ.

Jim Garrison, Muhammad Was A Feminist, Huffington Post, 2017.

https://www.huffpost.com/entry/muhammad-was-a-feminist_b_12638112

[ii] الإصابة، ٣٤٧/٨

سير أعلام النبلاء، ١١٢/٢

[iii] انظر هذه المقالات لأمثلة ذلك:

أول نسوية في الإسلام: https://msmagazine.com/2010/03/16/islams-first-feminist/

الإسلام وأول نسوية: https://mg.co.za/article/2018-04-13-00-islam-and-the-first-feminists/

٧ أشياء عظيمة عن خديجة: https://www.huffpost.com/entry/7-remarkable-things-about_b_7097606

انهزامية بالسُكَّر

قرابة قرنٍ من الزمان مرّ على سقوط آخر دول الخلافة الإسلامية، حيث أصبحت الأمة الإسلامية في آخر القائمة الأمميّة سياسيًّا بعد تخلّفها فكريًّا، فكانت الخاتمة الطبيعية للبعد عن سنن الله في الحضارة والصعود والهبوط، فبينما كانت أراضي المسلمين تمتد من الأندلس غربًا الى الهند شرقًا، أضحى ذلك الحال تاريخًا يُروى ولم تعُد للدول الإسلامية مكانتها السابقة، بل لم يبق لها من الأمر شيءٌ، وإنما أصبحنا أمةً منقادةً فكريًا وحضاريًا وثقافيًا.

ابن خلدون وقانون العمران

وضع العالم المسلم ابن خلدون في مقدمته الشهيرة قانونًا اجتماعياً مستنبطًا من تاريخ الأمم في العمران، حيث اعتبر أن الأمة المهزومة تقلّد وتتبع الأمة الغالبة التي هزمتها أو احتلتها، وعلّل ذلك بقوله: “والسبب في ذلك أن النفس أبدًا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إمّا لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي وإنما هو لكمال الغالب”.

فالسبب في تلك الانهزامية النفسية والاقتداء بالأمة الغالبة هو ظن المغلوب أن الكمال مع الغالب، وهذا -لشديد الأسف- ما نراه في أحوال الأمة الإسلامية التي لم تسلم من تحقّق ذلك القانون السُنَني والمجتمعي فيها.

ولا شك أن مظاهر التغريب الثقافي حاضرةٌ بقوةٍ في مجتمعنا المعاصر، من تقليد لملابسهم وهيئتهم، وحتى في اتخاذ قصات شعرهم وتقليدها كنوع من أنواع اتباع الصيحات العالمية المنتشرة المسمّاة بـ “الموضة”.

وليتوضح لك أن هذا التقليد والاتباع نوع من أنواع الهزيمة النفسية التي أشار لها ابن خلدون، عُد بالزمن قليلًا مدة عشر سنوات أو خمس عشرة سنة وانظر الى منظور المجتمع العربي والإسلامي بشكل خاص الى إطلاق اللحية وارتداء السراويل (البناطيل) القصيرة، حيث ستجد أنه شيءٌ غير مقبول على المستوى العرفي وممنوعٌ في كثير من أماكن العمل ولا يتصف بهذه الهيئة إلا “الملتزمون دينيًّا” كما يطلق عليهم، ثم ألقِ نظرةً على الوقت الحاضر وكيف أصبح عددٌ كبيرٌ من الشباب ممن يرتدون تلك (البناطيل) القصيرة ولهم لحىً كثيفة، وذلك فقط لأن الغرب تسامح مع هذا المظهر واتخذه نوعًا من أنواع “الموضة” فانساق كثير من الشباب المنهزم نفسيًا وراءهم وقلدهم –وإن كان بلا وعي أو شعور لهذا التقليد-.

التأثر بالتغريب الفكري والسياسي

من الطبيعي أن انكسر المسلمون عسكريا وثقافيًّا وسياسيًّا أن يغيبوا عن ساحة الفعل والتأثير، خاصّة أن مشاريع النهوض الفكرية لا تلقى الدعم المناسب لإنجاحها، وكذا فإن الواقع السياسي أوهنَ المجتمعات الإسلاميّة وفتح أبوابها على مصاريعها أمام الانحطاط الثقافي والمعرفي والتخلف في جميع مناحي الحياة، فضعفت المناعة الذاتية والفكرية أمام الأمم التي لها الغلبة، وأخذوا يشربون من أفكارهم ظنًا منهم أن هذا التقليد سيوصلهم إلى ذلك التقدم والازدهار المدنيّ والعمراني والتقني الذي تعيشه تلك الأمم.

لقد كان من مظاهر تلك الانهزامية النفسية هو التأثر العميق بالتيارات الفكرية الغربية، كالتأثر المعاصر بالحركة النسوية التي تدعو إلى المساواة الكلية بين الرجال والنساء في إطارٍ من التمرد الواضح لدعاة النسوية على الاختلاف الواضح بين الجنسين، وهنا لم تعدم بلاد المسلمين ظهور بعض من النسويات –في مواقع التأثير- لتدعو إلى التمرد الداخلي ضد العرف والمجتمع والدين، فكانت الدعوة للمساواة المطلقة في الميراث وإلغاء القسمة الشرعية التي تنص -في بعض حالاتها- على أن نصيب الرجل ضعف نصيب المرأة، ولا عجب أن يتمّ إصدار قانون ينص على المساواة في الميراث بين الجنسين في عدة دول –كما في تونس سنة 2018 وإن لم يتم التصديق عليه بعد-.

وهنالك من تأثر بالتيار الوجودي الذي يعظّم من شأن الإنسان كوحدة الوجود، فزعموا أنه تزداد قيمة الإنسان بمقدار خدمته للإنسانية فقط، حتى أن بعض شباب المسلمين ترحّموا على العالم الملحد “ستيفن هوكنج” بعد وفاته، وذلك تقديرًا لمساهماته العلمية (الإنسانية) الكثيرة، مع أن ذلك شرعًا غيرُ جائزٍ، ولكن الإنسانية أو الوجودية تركت في نفوسهم أثرًا، أدركوا ذلك أم لم يدركوه، ولستُ هنا لبيان ضلال تلك الفكرة ولكن لتوضيح تداعيات ذلك على الأفراد وإظهار مدى تأثر البعض الفكر الغربي المهيمن.

ونجد على سبيل المثال -أيضًا- تصاعدًا واضحًا للنزعة العِلموية التي تقدس من التجارب الحسية وكل ما يقدمه العلم المادي فقط، إلى جانب التفاخر بإمكانية التحدث باللغات الأجنبية –على أهميتها- مقابل الاستهزاء بالعربية، حيث إنه من المفترض أن تكون تلك اللغات مجرد آلةٍ أو أداةٍ يُستعان بها على تحصيل العلم، ولكن الوضع تغير وأصبح تعلمها غايةً في حد ذاته، لما له من آثار في إظهار هالة معيّنة لأصحابها.

زاد انبهار المسلمين بحضارات الغرب المهيمن حتى ظنوا أن اتباع أنظمتهم السياسية والاقتصادية سيؤدي لنفس النتيجة التي انتهى إليها الغرب، فرفع البعض شعار الاشتراكية التي تحلم بالقضاء على الطبقات الاجتماعية بهدف منح الفقراء حياة كريمة وإعطاء طبقة العمال الكادحة حقها المسلوب، ورأى البعض أن العلمانية حلٌ لدولة متقدمة متحضرة يتساوى فيها كل الأفراد ويحكمها قانون مدني يفصل الدين عن إدارة وسياسة البلاد، وهنالك الكثير من التيارات الفكرية والسياسية التي تم استجلابها من الغرب، كالليبرالية وغيرها، وذلك سعيًا -من أصحاب النفوس المنهزمة- لنهضة الأمة الإسلامية والعربية على نفس المسار الذى اتخذه الغرب سابقًا، عسى أن يصلوا إلى ما وصل إليه الغرب، ولكن “ما هكذا تُورد الإبل”.

انهزامية بالسُكّر

إذا أزعجتك مرارة القهوة، فما عليك إلا أن تضيف عليها القليل من السُكّر!. وهكذا الأفكار المرّة، تحتاج إلى القليل من الإضافات أو السُكّر ليتقبلها المجتمع.

هكذا سعى المنظّرون لتطويع الإسلام بما يناسب أفكارهم ومنطلقاتهم التي اكتسبوها بهزيمتهم النفسية وتقليدهم للغرب الغالب، حيث كان ذلك أكثر خطرًا من أن تُنشر تلك الأفكار مجردةً دون إدخال أي رابط إسلامي بها، فالفكرة المجردة يمكن تبيين ضلالها إذا ما قورنت ووُزِنَت بميزان الشرع، أما إذا ما خلطتها أو شرعنتها بالدين فذلك تلبيسٌ لكل أهل هذا الدين وإضلال لهم، لاعتقاد الشخص المتبنّي لها أنه لا يعارض الشرع، ويصعُب بعد ذلك إيضاح ضلال تلك الأفكار.

ومن النماذج التي يمكن التمثيل بها هذه القضية هي ظهور بعض النسويات اللواتي يرتدين -مجازًا- عباءة الإسلام ويستدللن على أفكارهن بمقتطفات القصص النبوية التي تظهر قيمة النساء ومكانتهن في الإسلام، أو قصص النساء اللاتي خرجن مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات، وإذا وجدن ما يخالف فكرهن أوّلوه أو ادّعوا أن ذلك الحكم كان لفترة زمنية معينة وانتهى بانتهاء تلك الفترة.

ولا ريب أن هذا الاستشهاد وما لحقه من التأويل هو السُكّر الذي يوضع في مقالتهن ليسهل على الناس تقبل أفكارهن.

وقسْ على ذلك كل ممثلي التيارات الفكرية من مختلف الخلفيات الإسلامية؛ فالتيار الوجودي يدعمه الإسلام الذي اهتم بحرية الإنسان في عقيدته، ويستشهدون بقوله تعالى: {لكم دينكم ولي دينِ} [الكافرون: 6] أو قوله: {لا إكراه في الدّين} [البقرة: 256]، وأن الإسلام هو دين العفو والسلام والكرامة، وكل هذه القيم تُعلي من قيمة الإنسان والإنسانية.

وجاء غيرهم ليزعم أن الاشتراكية إسلامية المنشأ؛ فالإسلام يحث على دفع الصدقات للفقراء، وفرض الزكاة على الأغنياء أو الطبقة الرأسمالية، وكانت تلك الأموال تُقسّم على طبقة الفقراء الذين هم من طبقة العمال حسب ما يدّعون، أما عن العلمانية التي تُقرّ بفصل الدين عن سياسات الدولة، فإن بعضهم يسوّغها بأنها مهمّة لحفظ الدين المقدس بعيدًا عن ألاعيب السياسة القذرة!

وهكذا يستمر بعض متبنّي هذه الأفكار في إضافة القليل من السُكّر لإيجاد قبول لها في أوساط المجتمعات الإسلامية.

الإسلام متبوعٌ لا تابعًا

من الضروري الاعتقاد بأن الإسلام دين متبوعٌ وليس تابعًا لغيره من الأفكار، وأن الأصل يكون باتباع ما جاء به، فإذا عارضه أمر ما فمن التسليم -الذى هو أساس الإسلام- أن نترك ذلك الأمر ونتجنّبه، ومن الخطأ الكبير أن ينحاز المرء لفكرةٍ ما أولًا ثم يحاول البحثَ والتنقيبَ في السنة والقرآن عمّا يناسب تلك الفكرة ليسوّغها ويدعو لشرعنة ما افترضَ من صحتها مسبقًا.

إن الأصل –إذًا- بأن نجعل نقطة البداية والميزان في الإسلام والشريعة؛ فنزن عليهما كل الأفكار المستحدثة، فإن وافقت الإسلام فلا حرج وإلا وجب رفضها والنهي عن اتباعها.

الاستعلاء بدين الله

ومن البديهي هنا أن نسأل بعض الأسئلة: مثل، كيف تنهض أمتنا دون الاستعانة بعلوم الغرب الحديثة؟ وما المقدار الذي يكفينا من تلك العلوم دون أن ينعكس بالسلب على أمتنا؟!

الحقيقة أني لست هنا لأسرد لك خطةً خمسينيةً تستطيع بها الأمة أن تعود لمجدها السابق، ولكن يمكنني أن أشير لك على فترةٍ زمنيةٍ مرّ فيها المسلمون بما مررنا به الآن من ضعفٍ وتشتتٍ، ولكن قاموا وأقاموا الدنيا عمارةً وحضارةً دون التخلي عن مبادئهم الأولى، وتمسكوا بمعتقداتهم التي تعلموها على يد خير معلمي الناس الهدى محمد صلى الله عليه وسلّم، وأقتبس هنا من كلام الأستاذ محمد قطب –رحمه الله-:

“لقد كان المسلمون في نشأتهم الأولى في طور من البداوة لا يملكون شيئًا مما يملكه المتحضرون من حولهم من أسباب الحضارة المادية أو من العلوم، وكان لزامًا عليهم إذا أرادوا الحضارة المادية والعلم أن يأخذوا أسبابها من الدولتين العريقتين عن يمين وشمال، فارس والروم. وقد صنعوا ذلك بالفعل.. ولكنهم لم يحنوا رؤوسهم أبدًا، ولم يشعروا بالانبهار، وكانوا هم الأعلَين؛ لأنهم كانوا هم المؤمنين”[محمد قطب، واقعنا المعاصر]

وهنا يتضح الفارق بين أمةٍ منهزمةٍ نفسيًا تبحث عمّا ينتشلها من التيه ولو كان في جحر الضبّ، وأعينها مذهولةٌ منبهرةٌ بالغرب المهيمن، وبين أمةٍ مستعليةٍ بدين الله؛ فرغم حاجتهم لعلوم الكفار المادية ولكنهم لم ينكسروا تحت سطوة التقدم المادّي فأخذوا منهم ما ينفعهم وتركوا ما يعارض عقيدتهم وإيمانهم.

وهذه المنهجية في أخذ علوم الغرب هي التي نحن بحاجةٍ لها الآن، فينبغي أن ننتقيَ من العلوم التي تُعين على قيام إقامة المجتمعات والمقاصد الإسلامية، وترك كل ما يخالف عقيدتنا ومبادئنا الإسلامية، وهذا لا يتم -في وجهة نظري- إلا بتأسيس القاعدة الشرعية السليمة على فهم سلف الأمة، والتي تؤهل الأفراد لتنقيح ما يتم استيراده من أفكارٍ تؤثر بالسلب ولا تنفع عامّة المسلمين، وعلى العلماء الشرعيين دورٌ كبيرٌ في الاطّلاع على تلك الأفكار من أجل تبيان أضرارها وتحذير الناس منها.

في الختام فإني أؤكد على ضرورة الاعتزاز والاستعلاء بدين الله، وبدلًا من البحث عن أسباب التقدم المادي في ظل السلطة الغربية الماديّة والثقافية المهيمنة، فإنه ينبغي علينا أولًا أن نرجع إلى الوراء قليلاً لنتلقّى العلم بمنظور ومنهجية سلفنا الصالح، الذين عمروا الأرض وأقاموا الدين والدنيا بلا تعارض، فقد علِموا أنهم على حق وأن ما يوحى إليهم هو النظام الإلهيّ الذي له العزّة وليس لأنظمة الأمم المهيمنة، فلم ينكسروا أمام سطوة الأقوياء، ولم ينساقوا خلف أفكارهم، ولم يهنوا ولم يحزنوا، لأنهم كانوا هم المؤمنين. فالله تعالى يقول: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 139]

 

الفلسفة الدينية و”نظرية المؤامرة”

إن كنت مؤمنًا بالله تعالى وما جاء في كتابه المقدس، فأنت حتمًا ستؤمن بالتآمر على دينك الحق، وإن لم تكن مؤمنًا، فأعتقد أنك لست بحاجة لقراءة هذا المقال.

بهذه البساطة، أختزل جدالًا طويًلا بين من يعتقد بوجود خطط من قبل أطراف قوية –دولٍ ومنظّمات- لتحقيق مصالحها على حساب الأطراف الضعيفة، وبين المنكرين لوجود هذه الخطط.

نقصد ههنا أولئك الذين يسمون هذه الظاهرة بـ “نظريات المؤامرة” التي تهدف -كما يبدو- لإخضاع البشر والسيطرة عليهم كما يروج لها، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنه لا يعني أن كل نظرية هي حقيقة بغض النظر عن سخافتها، وأيضًا لا يعني إنكار جميع ما يندرج تحت نظريات المؤامرة.

إبليس وآدم .. من هنا كانت البداية!

لأوضح المسألة دعونا نرجع للبداية، أي إلى فجر تاريخ الوجود البشري، حيث نشأت عداوة بين آدم عليه السلام وإبليس، حيث يحدثنا الله عمّا دار بينهما في قرآنه الكريم.

يقول الله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ} [البقرة: 36]. لقد جاءت عداوة الشيطان لآدم عليه السلام بسبب تكريم الله له بسجود الملائكة له، حيث قال إبليس -كما أخبر الله تعالى- {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62].

لقد وعد من إبليس بأن يسعى لإضلال أغلب ذرية آدم عليه السلام كي يثبت أن ابن آدم لا يستحق الخلافة في الأرض ولا الجنة من بعدها، ليأتي تحذير الله تعالى آدم وزوجه وذريته ليرشدهم {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ} [طه: 123].

أصرّ الشيطان على وعده وموقفه، بل إنه وضّح مخططه وأدواته، فيقول كما ذكر الله تعالى {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} [النساء: 119].

الضلال ثم الأماني ثم الأمر وكأنه المعبود والولي من دون الله تعالى، فيرد الله تعالى عليه {قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 64].

ويحذر الله بني آدم من تولي الشيطان وعبادته مبينا هدفه {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].

كما يخبر لله تعالى كيف يتنصل إبليس من أوليائه يوم القيامة {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].

إن هذه الآيات القليلة تدل على حقيقة وجود بني آدم على الأرض والخطر المحدق بكل فرد منهم بغض النظر عن إيمانه أو دينه؛ فالله تعالى قد حذر جميع بني آدم من إبليس، ووعد المؤمنين بالمفازة من العذاب. فإن كنا نعرّف المؤامرة بأنه مخطط لجماعة تهدف لتحقيق أمر ضد مصلحة الجموع مدفوعة بأحقاد أو أطماع خفية، سنجد أن كل مقومات المؤامرة موجودة في مخطط إبليس وزبانيته وأعوانه من البشر ضد بني آدم على هذه الأرض. وهي أكبر مؤامرة مستمرة منذ البداية وحتى النهاية ولن تتوقف إلا بقيام الساعة، حين يصبح الشيطان هو المعبود من دون الله تعالى. ويبقى مصطلح (نظرية) المضاف للمؤامرة مرتبطًا بإيمان العبد بالله. فإن كان مفتونًا بعمل الشيطان وأولياؤه، قال إنها نظرية بلا دليل، وإن كان يؤمن بالله تعالى والآخرة، استطاع أن يميز الحق وسط الضلال السائد.

إنها خطة وليست تصرفًا ساذجًا

لا يمكن لعموم هذا الضلال العام المتصاعد أن يكون عشوائي الظهور بسبب حالات فردية أو صنيعةً لأهواء النفس فقط، أي أن الأمر لا يقتصر على وسوسة الشيطان لأفراد لا شأن لهم فحسب، بل إن الأمر يتعدى ذلك للإنابة، فالهدف عظيم عندما يكون جميع بني آدم إلا قليلا منهم، وهو بكل تأكيد يستوجب الجهد والمتابعة في تحقيق ما خطط له مسبقًا. ولن يقصّر أولياء الشيطان جهدًا في تحقيق مراده، باستخدام كل الأدوات المتاحة من علوم وتكنولوجيا ومعرفة سيكولوجية في التأثير على قناعات العامة وتغيير ثقافتهم وتصرفاتهم بما يرجح الكفة لإنكار الوجود والسببية، والتعلق بالأنانية والصدفية من باب تهيئتهم لقادم أعظم.

حقًّا، من كان يظن أن عداوة الشيطان للإنسان تقتصر على إفساد عمله الشخصيّ فقط فهو واهم، فمن الناس عبيد للشيطان، منكرون للإله الأوحد، وقعوا على عقد بيع أرواحهم بالدم ليكسبوا نعيم الدنيا وما فيها من شهوات زائلة. وطبعًا ذلك لا يكون إلا بمقابل، كالترويج للفاحشة أو الإلحاد مثلًا فذلك يجعل الناس أقرب لتولي الشيطان. فلا يتوقف فساد عبد الشيطان عند نفسه فقط بل يتعدى ذلك لفتنة الآخرين واستمالتهم نحو ولاء جديد بعد إلحاد، يكونون فيه جميعًا عونًا للشيطان في تحقيق مخططه على البشرية.

إذًا فإن مسألة التآمر على البشر محسومة في القرآن، وإن خفيت خيوطها، فلا يعني ذلك أنها لا تحاك ضدهم. وما يظهر من عُقد الحياة بلا شك هو من تلبيس إبليس مستعينًا بمن والاه من بني آدم كي يحكم هو فيهم حتى تحين الساعة.

وهنا فإني لست أسعى لتفنيد أو تأكيد أيٍّ من نظريات المؤامرة المنتشرة في مختلف الفضاءات والتيارات، إلا أني أبتغي توضيح الصورة الأكبر لمن يتبع دين الله ويؤمن بالحساب والعاقبة.

الثبات في وجه الفتنة

نحتاج فعلًا للثبات على الدين في مواجهة مؤامرة إبليس ومن والاه وفتنة الحياة؛ إذ إن الاقتناع بأن هذا العالم تحكمه الإنسانية وخير البشرية دون مؤثر ما، إنما هي فكرة ساذجة للغاية تخالف واقع الحياة المزري والمتردي في معظم البلاد التي خضعت للاستعمار في القرون الأخيرة، فهي تعاني من الديكتاتورية والفساد واضطهاد الشعوب.

وهي نفس الفكرة الساذجة في حال تصديق الحرية المطلقة المزعومة في الدول المتقدمة، فحرق راية “ألوان الطيف” الخاصة بالمثليين تواجَه بقسوة بالغة كالسجن لـ ١٠ سنوات، وكذلك فإن إدراج كلمة (صانع) في بحث نظرية التطور سبب كافٍ لرميه وصاحبه في غياهب التصنيف والإقصاء والسخرية، وكذلك فإن مجرد التشكيك في عدد ضحايا الهولوكوست وإن كان مبنيًّا على نتائج علمية ومخبرية كفيل بأن يعاني من المحاكمة –كما جرى مع روجيه غارودي سابقًا- وأن تسحب الشهادات العلمية من صاحبها.

يحق للمؤمن الواقعي أن يرفض نظرية المؤامرة بدون أدلة، لكنه يجب أن يكون واقعيًّا أكثر في لمس الشر المتزايد في بقاع الأرض بما يثبت اقتراب قيام الساعة على شرار الناس، والكثير من هؤلاء قطعًا لا يعملون بشكل فردي لأطماع شخصية، بل عصبة كبيرة منهم مجتمعة في عملها وهدفها أنت ودينك، وكل ذلك إرضاء لإبليس الذي وعدهم بالخلود كما وعد أباكم آدم عليه السلام.

ما دمت مؤمنًا يا أيها الإنسان، فأنت هدف أوّلي ومهم أكثر من الملحدين، لأنك ما زلت تذكر الله، والله تعالى يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].

الإسلام وفقه إعمار الحياة

إن الهيكل التراتبي لفقه العمارة في الإسلام، يقدّم أساسَي الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، على عمارة المسجد الحرام، قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19]؛ فمنزلة عمارة النفس بالله في سلّم الوحي، أفضل حتى من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، فما بالك بمن جعل من العمران أو تأسيس الحضارة، مقصدًا قرآنيًّا!.

لقد اعتنى القرآن عناية بالغة بقضية عمارة النفس بالله والاستسلام له، فلا تكاد تجد موضعًا، إلّا وفيه ذكرًا لقضايا متعددة من دلائل وحدانية الله واثبات اليوم الآخر وقصص الأنبياء، والأهم ربط التشريع والعبادات والمعاملات في القرآن برابط واحد يجمع كل هاته المواضيع ببعضها، وهو عمارة النفس بالله والخضوع له، أما الحضارة والعمران فهي أثر ثانوي يتحقق تباعًا، لا كما يحتج كثير اليوم، على وجوب تقديم العمارة قبل تحقيق التزكية والتربية، بناء على قوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 61]، إذ الواقع أن العمارة هنا جاءت في سياق الامتنان الإلهي، ثم الأمر بالاستغفار والتوبة، نظير نِعم الله لا الكفر والجحود، وهي لم تأت في سياق الحثّ والطلب، أو كونها مقصدًا قرآنيا لتحقيق الاستخلاف، ولو كان تحقيق الاستخلاف بمحض العمارة والبناء المادّي، لما أنزل الله عقابه على أمم غابرة، كانت أشد قوة، وبرعت أيّما براعة في استخراج الأرض وعمارتها، إذ أمرنا بالسير فيها والنظر في عاقبتهم، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 30].

الرسول بين هداية الحيارى وإقامة الحضارة

تسللت عديد المفاهيم الليبرالية الفجة إلى الداخل المسلم، ثم تلقفها العامة بحسن نية، رغم ما تحمله من تلوث فكري عميق، إذ يتم التصدير لنا، أن أهم وظيفة ومُنجز قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أنه باعث لحضارة إسلامية من عمق البدو والصحراء! وليس باعتباره رسول الله إلى الناس جميعًا، جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وفضلا على أنه ما لتأسيس دولة الإسلام، من الأهمية الشرعية والسياسية، وكذا تحصيل أسباب القوة، إلا أنّ ذلك لا يجب أن يتخطى سلّم أولويات الوحي، فتأسيس دولة الإسلام وحضارته، هو تَبَع للغاية الكبرى وهي التبليغ عن الله وهداية الخلق، وليس العكس.

تحت الاستخدام المهول للأدوات الناعمة لهذا العصر، الممزوج بشيء من الغرائز الإنسانوية، تمّ النفخ في قضية الحضارة والعمران وتحميل معاني القرآن ما لا تحتمل، وطبعًا تحت أثر تعظيم الحضارة المادية والمغالاة فيها، تسرب في اللاوعي الجمعي، الاعتداد بالحضارة الغربية والانبهار بها، حتى صارت قِبلة وهمّ شباب المسلمين اليوم، ولا يعلم كثير من الناس أن هذا الانقلاب الفكري والمفاهيمي، يعزز في الداخل المسلم قبل الخارج، ويبعث فيه رسالة سلبية، مفادها: طالما أن إقامة الحضارة المادية هي الغاية في نهاية المطاف! فما الذي يجعل الداخل المسلم لا يفِد للآخر الغربي؟ وما الذي يجعل الآخر لا يستغني عن الإسلام، طالما حقّق مراده وغايته المتركزة حصرا في الحضارة المادية؟

جواب ذلك، أنّ أوّل ما يجب أن تعلّق به القلوب وتوطّن عليه، إحياء النفس الجمعية للمسلمين والاعتزاز بها، والتأكيد على أن الحضارة الغربية، مجرد حياة بهيمية منحطة ومادية بائسة، تجهل أعظم مطلوب وهو العلم بالله، ينطبق عليها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12]، كما أن أبلغ ما ترسّخ به العقول، هو أن معيار خيرية الأمم عند الله عز وجل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}]آل عمران: 110[، أما أصحاب الحضارات، المنبَهَر بهم، فقد قال الله فيهم: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم} [آل عمران: 110]، وأنّ ما ننشده من حضارة كمسلمين، هي الحضارة التي تعلي ما أعلاه الإسلام وتخفض ما أخفضه، قال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].

الطريف في الأمر، أنه ورغم ما حفِلت به الأطروحات المغرضة، من تطويع للنصوص وخطابات حداثية سيّالة، لم يتحقق منها شيء!، وأنى لهم أن يحققوا شيء؟ إذ كيف لمن يشعر بهزيمة من الداخل أن ينهض؟

في هذا يقول بن نبي في كتابه دور المسلم: “لماذا استطاع ذلك أولئك الأعراب الفقراء في عهد محمد صلى الله عليه وسلم؟ لماذا قام أولئك الأعراب الفقراء الأميون بإنقاذ الأمة الإنسانية وشعروا أنهم جاؤوا من أجل إنقاذها؟ فقد كانوا يعلنون هذا في أقوالهم ومخاطباتهم للآخرين، سواء من أهل الفرس أو من أهل روما، كانوا يقولون لهم: لقد أتينا لننقذكم، إنهم لم يشعروا بمركب النقص، فلماذا لم يشعروا بمركب النقص؟، لأن الإمكانيات الحضارية المتكدسة أمامهم في فارس أو في بيزنطة أو في روما لم تفرض عليهم النقص، وبعبارة أخرى لم تبهرهم”[1].

مالك بن نبي

علاوة على ذلك فإن المتأمل لما يقدمه القرآن من هدايات وتصورات من جهة، وما تقدمه كثير من الأطروحات المحايدة بزعم أصحابها، من جهة أخرى، يرى تباينًا صارخًا، فالأطروحات المغرضة لا تنفك تصدّر لنا أنّ غاية المدنية هي تحقيق الرفاه للبشرية، بينما نقرأ في القرآن: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، فالغاية مما حبانا الله إياه من نعم، إنما هو الابتلاء، فهل نغير مقتضى الوحي وفحواه ليتوافق مع مزاجنا الليبرالي، أم نفتش في دوافعنا عمّا يرجعنا إلى حاضرة القرآن ومآرب الوحي؟

الاستهداء بالقرآن

الدعوة لاستنطاق مقاصد القرآن وفق مراد الله، وما يتطلب مبدأ عبوديته، ليست سذاجة في التصور، ولا سطحية في الطرح، ولا باقي الإطلاقات الصحفية غير المسؤولة، والحث على عمارة النفس بالله أولا والاستسلام له، قبل تأسيس الحضارة والعمران، ليست دعوة إلى التقوقع والانكفاء على الذات، فالإسلام لا يدعو إلى السلبية والانسحاب من الحياة العامة، بل على العكس فقد ضاعف الأجر على العمل، وحثّ على الضرب في الأرض والمشي في مناكبها، قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]، لكن الانتفاع الحسي من متاع وماديات، هو ما شغل الإنسان عن مراد الله ووحيه، فأصبح يفتّش في القرآن عمّا يوافق انتفاعه وهواه، مغلبا جزأه المادي عن الروحي، رغم أنّ داخل ذات هذا الإنسان شعث، يورثه كل حين شعورا بالتيه والوحدة وفقدان معنى الحياة، ولا يجبر هذا الشعث ويسده، إلا الإقبال على الله والقرآن.

إن هذا الدواء ثابت بنص الكتاب، قال تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71]، فالقرآن لا يعطينا بيانا شافيا في التصور الصحيح لقضايا جوهرية كهاته فحسب، بل يلهمنا كيفية التصرف معها، وبيان حالنا ومآلنا إزاءها، فسبحان القائل في كتابه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 39].

إن العبودية الخالصة – إذًا- هي أم المقاصد وغايتها، وقصد القراّن إلي تحصيل العلم وحصول الإيمان والعمل الصّالح هي أسس هذا المقصد، وقصده إلى إيجاد الوازع، والتذكير، والوعظ، والإحسان، والصبر، هي أعظم ما يُتوصّل به إلا إقامة تلك الأسس، وذلك المقصد، وتلك هي عناصر المنظومة المقصدية في القراّن.


[1]مالك بن نبي، دور المسلم، دار الفكر، دمشق-سورية، الطبعة الأولى (1991) ص49

فلسفة التفرّد في الإسلام

أبتدئ مقالي هذا بالسؤال الآتي: هل هناك أسمى من رسالة الإسلام لكي تصل عموم البشر وتخرجهم من الضلال إلى الهداية والنور؟

بالنسبة لنا –نحن المسلمين- فإننا لا نظن بغير ذلك. لكن هل يبرر لهذه الغاية النبيلة أن تعمّم عبر إغواء الناس بمن يعظّمونهم ويقتدون بأفعالهم وقراراتهم؟ ومن يقرأ في حادثة ابن مكتوم الأعمى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجد أن الجواب “لا”، حتى إن كان ذلك يعني الوصول لأعداد غفيرة في وقت قصير ودخولهم الإسلام جميعًا، فلم تشفع غاية الرسول في دعوة أشراف مكة ليتبعهم أهلها، في دفع العتاب الرباني على عبوسه وإعراضه عمن قصده في السؤال ليهتدي إلى دين الله بنية صادقة.

ولعلّ الحكم في هذا، أن دخول هذا الدين يبدأ بتزكية النفس أولاً من الاتباع، اتباع الشهوات والهوى وما ينطوي فيهما من رجاء وابتغاء في الآخرين، فذلك جوهر تسليم الأمر كله لله تعالى، في رد الشر وجلب الخير.

هي العبودية الأمثل والأجدر للاعتناق، لأنها تحترم مشيئة الإنسان فتدعوه بمخاطبة عقله وإجابة أسئلته ومن ثم تستميل الإيمان في قلبه حتى يبلغ اليقين. إنها ليست عبودية رِقٍّ تسلب الإنسان حريته، بل عبودية رُقِيٍّ تضبط النفس البشرية وتهذبها بما يتوافق مع تكليفها.

عِبَرٌ لا بدّ منها!

نمرّ على هذه الحادثة التي خلّدها الله تعالى في كتابه العزيز، ونغفل عن ماهية تفرد كل إنسان في اختياره المكفول له حتى يلقى حسابه.

إن كل طفل يولد، يتعلّم مفتاح الحرية في كلمة (لماذا؟)، ويستمر الأطفال بممارسة هذه الحرّيّة في السؤال حتى يتوقف بعضهم في مرحلة ما، أهمّ الأسئلة بدأت بهذه الكلمة، وأعظم الاكتشافات نتجت عنها.

لماذا سقطت التفاحة؟ وكأن التفاح لم يسقط قبل ذلك من شجرته! إنه استفهام السببيّة الذي يُظهِر حرية عقلك في التفكير، ويدل على أنك لست خاضعًا لفهم من حولك، والذي يمكن أن يكون قاصرًا أو منحرفًا أو متقاعسًا ومؤدٍّ لعللٍ عديدة أخطرها أنه ليس هناك قدرة على الالتزام بمتطلبات التغيير أو حتى الرغبة في ذلك.

يمكننا أن نرى انعكاس أبعاد هذا الهدي الرباني في قصة الأعمى على ما وصلنا إليه من ضعف في هويتنا الإسلامية. ولا أقول بسبب قوة التأثير، بل هو ضعف حقيقي بدرجات متفاوتة تصل للافتتان التام.

أتباع الثقافة الغالبة

هم فئة يدينون في تصرفاتهم لما يملى عليهم بشكل غير مباشر، فيتابعونهم عبر التقليد والإجابة عن سؤال المظهر لديهم، كيف يلبسون؟ ماذا يأكلون؟ كيف يتكلمون؟ من يصادقون وينصرون؟.

يظنون أنهم عبيد لله تعالى ويدينون بحقه وعلى صراطه المستقيم فيما يفعلون لكنهم تابعون للمؤثرين حاملي لواء الثقافة المشوهة من الغرب على أنها جزء من حضارته. وأدهى من ذلك اعتقادهم أنهم أحرار في خياراتهم ومتفردين في اتخاذها.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، يا معلّمنا وقدوتنا لو كنت بيننا اليوم، فكيف نقول ونوضحُ لجنابك –حتى- أصغر خيارات المسلمين في حياتهم؟

تضع بعض الفتيات الطلاء على أظافرهن، وتخالف لون البنصر عن بقية الأصابع. تسأل إحداهن لماذا اخترت ذلك؟ فتقول: لا أعلم، قد رأيت هذا الشكل على أظافر غيري فأعجبني، ففعلت! فإن أعلمتها أن هذا الفعل يعرف أساسًا بـ(Femme Flagging)  في الثقافة الغربية بأنه كان سائدًا كإشارة بين الشاذين والشاذات لرغبتهم في ملاقاة نفس الجنس، فحينها –قد- تشعر بالخجل.

بمثال آخر، فإنك قد تتكلّم مع أحد الفتيان، فيحدّثك بفخر عن عمل قام به ثم يتبعها بحركة (Dabbing)، فتسأله لماذا اخترت هذه الحركة تحديدا فيقول: لا أعلم، حركة رائعة يفعلها الجميع. فإن أعلمته أنها إشارة رمزية لتدخين الحشيش بين مغنّي الراب، لربما شعر بالخجل.

والشعور بالخجل -على الأقل- أمر محمود؛ إذ إنّه مرتبط بالهوية الدينية ويضعها فوق الاعتبار. أما أولئك الذين ينكرون المعلومة، ويستخفّون بضررها، ويحفظون القاعدة الفقهية القائلة: “الأصل في الأشياء الإباحة” دونما تحرٍّ في البحث، فإن مفتاح الحرية لديهم يتحوّل من (لماذا)؟ إلى (لِمَ لا)؟ في كل جديدٍ طارئٍ مستحدَث.

بكل تأكيد فإن هناك فرق بين السؤالين ولو بدا ظاهرا الحرية فيهما، إلا أنّ الأول متحفِّظٌ والثاني متحرر. وبينما يتحقق الأول من الموانع والضوابط، نجدُ الثاني دافعًا للترغيب بالمنفعة واللذة كيفما اتفق. وهؤلاء “المتحررون” من الضوابط أولُ من يسارع لاتهام المحافظين بالتشدّد، وشعارهم في الحياة لكل بدعة جديدة أن “الدين يسر” وأن مضمون الرسالة الإسلامية العقدية أهم من هذه الشكليات المرمّزة. ولو أنك اقترحت عليهم جدلًا تزيين الأظافر بشعار الحزب النازي، أو حيَّيْتَهم بتحية هتلر، لرأيت الزجر والتشدد في الهوية الإنسانويَّة المستحدَثة!

حين يتحوّل التهديد الناعم إلى وحشٍ شرس!

تهديد الهوية الإسلامية هنا تحديدًا ليس في اتباع المسلم للسمت العام المتحرر وتعرضه للزلل في السلوكيات الناجمة عنه، فكل امرئ –غير معصوم- ضعيف أمام المغريات وقد يقع في الأخطاء، وإنما التهديد هنا بارتضاء التبعية وما تبطنه من قناعات قد تتعارض مع الإسلام دون التثبّت منها، بحيث يتأثر تدريجيًّا بأفكار ما بعد الحداثة التي يهمين على محتوى قنوات التواصل الاجتماعي، والتأثر بالبيئة الخصبة لترويج الاستهلاكية واللحظات الآنية والسخرية.

فوق ذلك، نرى أولئك وجوه الإعلام الافتراضي المؤثرين -ممن يرسّخ هذا الفكر- يسعون لإضفاء طابعهم الشخصي المتفرّد في كل أمر عن علم ودون علم، وفي أحيان كثيرة يصبح رأيهم بمثابة التشريع لمتابعيهم.

إن المفارقة هنا أن القول السديد عند غالبية المؤثرين يفصّل على قياس سعة قبول المتابعين، فلا أحد يريد أن يخسر متابعيه. وفي غياب المرجعية الدينية وتحت وطأة اعتناق هذا الفكر اللقيط والمضطرب ذاتيًّا، سواء من المؤثر أو المتابع، لا مناص من انتقاد الإسلام بنفس كيفية التشكيك في جزئيّات العقيدة والعبادات والمعاملات، وتغليب أجزاء على بعضها؛ وهكذا يغدو من الطبيعي الإيمان بأن الله الرحيم سيدخل الملحد الخلوق الجنة! وأن في بعض مناسك الحج مظاهر وثنية يجب أن تلغى! وأن الاقتراض مع وجود أضرار الربا تَحِلُّ للمحتاج! وغير ذلك مما يقدّمه هؤلاء المؤثرون، وكل هذا على فرض أن المؤثر الجاهل يقدِّم فكره بحسن نية، فكيف لو كان مدفوعًا لتغيير فكر المتابعين؟!.

إن المصيبة الحقيقية تكمن في أن عمل المؤثر على المنصات الافتراضية معرّضٌ دائمًا للاستغلال من قبل أجندات كثيرة تخدم مصالح الساعين لإفشال أي محاولة نهضويّة أو إصلاحية في مجتمعاتنا، وتلك المصالح التي تقتضي تغيير فكر العامة في إنشاء انطباعات بديلة، واستحسان بِدَعٍ جديدة، وتبنّي آراء غريبة …إلخ، بما يمتلكون من أساليب إعادة التوجيه وإحكام السيطرة.

وهذا الأمر مارسته الشركات الرأسمالية في الإعلانات بصفاقة قبل أن تعتمده الحكومات. إذ ما معنى أن يدعو لاعب رياضي محبيه لأكل الدجاج المقلي، ورقائق البطاطس المهدرج زيتها، وأن يشربوا المياه الغازية المحلّاة في الوقت الذي يمتنع هو عن ذلك لدواعي الصحة واللياقة؟

وفيكَ انطوى العالَم الأكبر

هناك شيء ما في فطرة الإنسان يدفعه في قرارة نفسه للاعتقاد بأنه مميز ومتفرد كبصماته. أليس عجيبًا أن نتشابه في الأسس التشريحية للأجساد ونتمايز في تفاصيل البصمات البيولوجية؟ وكأن الله تعالى يقول لك إنك متفرد لديه، فلا تظننّ نفسك نكرة بين الناس.

إنّ تَفرّد الإنسان في فلسفة الوجودية يكمن في حريته التامة في التفكير والاختيار والإرادة، دون قيود مادية أو معنوية، ولعل ذلك ما يلتبس على البعض فينزع صفة التفرّد عن العبودية لله في الإسلام، مستندين على تلقين الله الدين لعبده. لكن في ذات الوقت هذه الحرية التامة (الخيالية) تقتضي عدم التأثر بحوافز وأحكام ومنافع… إلخ مما يجعل وجودها في الإنسان يعدُّ ضربًا من الخيال، لأنه مجبول على حب الشهوات، ويُسأل عما يفعل، ويحتاج لوجود الآخرين.

إن ذلك يقودنا إلى أن حرية الإنسان تحتاج لأن تكون مقيدة بشكل أو بآخر كي تكون واقعية؛ أي أن تكون متأثرة بضوابط معيّنة سواء بتعاليم الدين أو القانون أو العرف الاجتماعي أو غير ذلك. وهنا نستطيع أن نقول: إن تفرد المرء لا يتعارض مع الحرية المقيدة إن كان من يفرض القيود ذو حرية تامة مطلقة.

يتمثل هذا التفرّد –في الإسلام- بحرية المرء في مقاومة هوى النفس. بمعنى آخر، حتى لو وحّدنا الدين على الناس جميعًا لبقي كل إنسان متفردًا في عمله الصالح وتقربه لله تعالى؛ لا يطغى عمل عبد على آخر، ولا يجزى عبد دون الآخر، ولا يؤاخذ عبد بعمل الآخر.

وهذا هو التفرّد الحقيقي القيّم بمعزل عن التفرّد الظاهري في خيارات الناس وتصرفاتها المتأثرة ببعضها البعض. وهو ما يحقِّقُه الله تعالى لكل عبد وضع دينه نصب عينيه في تفكيره وخياراته، وابتغى مرضاة ربه في عمله.

علمنة الإسلام المشروع الفاشل

كان الكاتب الروسي العظيم ليو تولستوي رجلًا غنيًّا، يمتلك الكثير من القرى والأراضي، لكنه لم يكن كأمثال النبلاء والأغنياء الروس، فقد عُرف عنه عطفه على الفقراء والمعدومين، فبنى لهم المدارس والكنائس، اقتناعًا منه بأن سعادته تنبع من سعادة الآخرين.

رغم كل هذا فقد وصل الأديب الروسي إلى منزلق خطير للغاية، حيث وصل به الأمر إلى التفكير في الانتحار، إلا أنه ضعُف أمام الموت، وعاش كئيبًا لفترة طويلة من حياته هائمًا لا يعرف لنفسه طريقًا واضحًا، فكان يصرخ “يا إلهي رحمتك، أنقذني، أرني الطريق”، واستمرّ على حاله هذه حتى اختار في النهاية أن يخرج من الكنيسة الأرثودوكسية وأن تتبعه لعنات رجال الدين إلى قبره، وقبل موته بفترة ليست بالقصيرة بدأ جديا يقترب من الإسلام، بل أصبح مدافعًا عنه، وكتابه “حكم النبي محمد” شاهد على هذا، كما  كان بينه وبين الشيخ محمد عبده علاقة صداقة وتبادل للرسائل ومناقشات مختلفة، إلى أن مات، ويقال إنه أسلم بحسب ما اشتُهِر عنه، فقد طلب ليو تولستوي ألّا يقرأ عليه أي قسيس وألا يدفن في مدافن المسيحين وألا يوضع على قبره صليب ودُفن كما يدفن المسلم.

قصة هذا الأديب الروسي مع الإسلام مثال واحد فقط من قصص العظماء مع هذا الدين العظيم، الذي ما إن يعرفه المرء حقًّا حتى تسكن روحه إليه وتذوب جوارحه فيه، وهذا ما حدث مع الكثير من المثقفين الأوربيين؛ ولو أنهم لم يسلموا إلا أنهم ظلوا يكنون للإسلام الاحترام الكبير.

ليو تولستوي (مصدر الصورة ويكيبيديا)

وإذا ما عدنا إلى بلاد المسلمين وجدنا قومًا يرون في تعاليم هذا الدين تناقضًا، وفي سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم رجعية، وقرأنا أنهم يطالبون بتجديد الدين ووضع تفسير جديد للقرآن الكريم دون ضوابط تقيم الحقّ؛ ومراجعةً للتاريخ الإسلامي واعتذارات عما فعله الصحابة والمسلمون من فتوحات. وللسخرية، فإن هؤلاء في نظر البعض “قواد التنوير”.

الإسلام الجديد أو الإسلام الإنساني

في 1933 ظهر البيان الإنسانوي الأول على يد روي سيلرز وريمون براغ، وتحدث هذا البيان عن دين جديد وعرَّف الإنسانوية باعتبارها حركة دينية تهدف إلى التعالي وتجاوز الأديان السابقة ذات الأصل الإلهي [إبراهيم بن عبد الله الرماح، الإنسانوية المستحيلة، ص22]، وفي خمسينات وسيتنات القرن العشرين، بدأت موجات هذا الفكر تصل إلينا بشكل لافت، وكان من تجليات الوصول، ظهور كتابات إنسانية أو إنسنة عربية؛ ويقصد بالأنسنة ما هو مرتبط تاريخيا بفترة عصر النهضة في إيطاليا، والأنسنة تعني عمومًا جعل الإنسان موضوع كل شيء ومرجع كل شيء، انطلاقًا من الفكر الإغريقي  المعروف بتمجيده للإنسان.

كتب الكثيرون أمثال حسن حنفي ومحمد أركون وسيد قمني -وغيرهم كثيرون- بأقلامهم أفكار المستشرقين، وحاولوا تطبيق فكر الأنسنة على الإسلام، واستغلوا جهل الناس فاعتبروا نقلهم إنجازات شخصية،  وفي هذا الصدد يقول  الدكتور أحمد إدريس الطعان: “تلقف بعض الباحثين العرب النظريات الفلسفية الوضعية حول الأديان وطفق بعضهم يعرضها  بين المسلمين على أنها من إبداعها مستغلا في ذلك جهل السواد الأعظم  من الأمة باللغات الأجنبية” [أحمد  إدريس الطعان، العلمانيون والقرآن الكريم، ص: 314].

وعلى خطى العَلمانيين الغربيين الذين استطاعوا تحرير الأوربيين من قيود الدين وحصر النصرانية والرجوع بأوربا نحو الوثنية كما يذكر الدكتور عبد المجيد الشرفي في كتابه (لبنات) [ص 54] “أصبحت العلمانية تعني -حسب موقع كل طرف- إما التحرر من قيود الدين وسلطة رجاله، وإما انحسار النصرانية والرجوع إلى الوثنية” سار بعض المفكرين المعجبين بالفكر الغربي، وعلى رأسهم محمد أركون، الذي لا ينفك طيلة كتابه “القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني” يذكر المستشرقين وكتبهم حول القرآن وحول الإسلام، وهو ينطلق حسب قوله من أفكارهم ويطبق ما وصلوا إليه من معارف وطرق تحليلية وخاصة “الفيلولوجيا” على النص القرآني وعلى التراث والمجتمع الإسلامي عمومًا.

يقول: “لقد حاولت أن أطبق النظريات الأنثربولوجية للعالمين كاردينير ولينتون على دراسة الفكر والمجتمع والسياقات الإسلامية” [ص: 43]

وطبعًا -كما واضح ومعروف- فإن استخدام هذه الطرق والمناهج في التحليل والتأويل لا تؤدي إلى تفريغ النص الديني من محتواه فحسب، بل إلى إزالة القدسية عنه وتحويله من كتاب إلهي ووحي إلى كتاب تاريخي -حسب أركون-، وبالتالي إضفاء صبغة بشرية على القرآن وتعاليمه وهو ما يعني عدم قدسيتها وإمكانية تكذيبها ووضعها جانبًا على الهامش كما حدث مع الإنجيل مثلاً.

وكما كتب “لودفيج فويرباخ” عن ظاهرة الدين أو كون الدين اختراعًا بشريًّا، أعاد حسن حنفي وكرّر ذلك في كتابه “التراث والتجديد” [ص 127-130] فيقول: “إن الله لفظة نعبر بها عن صرخات الألم وصيحات الفرح، إنه تعبير إنشائي أكثر منه وصفًا خبريًّا، هو رد فعل على حالة نفسية” ونحسب أن المعنى واضح في هذا الكلام، ومثل هذا نراه في كتابات فويرباخ وتلميذه ماركس وغيرهم، فالله ليس سوى سلوة للضعفاء والمساكين، والجنة ليست سوى تعويض عن جحيم الأرض وألمها، وهكذا دواليك.

إذًا، نرى هنا ونكتشف أن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم مفكرين ينتمون للإسلام، يسعون وبكل الوسائل إلى إفراغه من كل قيمة إلهية مقدّسة، وتحويله إلى ترانيم وكلمات جوفاء تقال في الاحتفالات، وهم يأملون أن يتنازل الشيوخ عن تمسكهم بالشرع والفقه، كما حدث وتنازل الباباوات والقساوسة، وعوض أن نسعى لإدخال العالم في الإسلام يقولون: لماذا لا ندخل الإسلام في العالم كما حدث مع المسيحية؟!

إسلام على المقاس

في الحقيقة يصعب تحقيق ما يصبو إليه العلمانيون العرب وذلك لوجود اختلاف تام بين الإسلام، والذي لا يمكن أن نطلق على لفظ  “الدين” –بمعناه الغربي المضيّق- لكونه يتجاوز هذا الإطار الضيق، وينطلق ليمسّ مجالات الحياة البشرية جميعها، وبذلك يتجاوز النظرة المادّيّة للدين؛ كما أن الإسلام ذاته يقدّم رؤية مختلفة لكل من الدنيا والآخرة بخلاف ما عليه الدين المسيحي، حيث إن من تعاليمه ما يحمل مبادئ أولية للعلمانية “دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر” وهنا فإن الإسلام يرفض هذا التقسيم، ففي نص القرآن: {لله ما في السموات والأرض} [البقرة: 284] و{إن الحكم إلا لله} [يوسف: 40]، وبذلك فأي فكرة تبيح فصل منهج الدين عن مختلف المجالات اليومية -كالسياسة مثلا- فإنها قطعًا لا مستند صريح لها في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية.

يبقى الأمر إذًا محصورًا أمام العلمانيين في محاولة علمنة حياة المسلمين وبالتالي علمنة تديّنهم -لا دينهم-، وهذا حدث بالفعل ونجح بمقدار هائل، وذلك راجع بالأساس لثقافة التي يتلقفها المسلمون من قنوات الاتصال مع الغرب، وكذا لسيطرة الفكر الليبرالي على الحياة العامة، كما أن تأثير الاقتصاد مما لا يمكن إغفاله.

إن التعامل اليوم بمبادئ الليبرالية والبراغماتية خاصة توقع المسلم ضحية لانفصام خطير، فهو من جهة يؤمن بدين يقر بوجود الأخلاق والمبادئ السامية، ومن جهة أخرى فإن كل ما حوله معلمَن يتجاوز هذه المبادئ ويعوضها بمبادئ أرضية. وهنا يختار مكرها أو دون أن يشعر العلمنة والطريق الليبرالي أو الأخلاق الرأسمالية، ولعل الأمر يذكرنا بالحركة البروتستانتية التي حللت المعاملات الربوية، وانقلب الدين المسيحي من دين يشجع على الرهبنة إلى دين يحفز على الاستثمار والربح، وهذه كانت اللبنة الأولى للفكر الرأسمالي، [يُراجَع: ماكس فيبر، أخلاق البروتستانية وروح الرأسمالية] فيرى ماكس –في كتابه- أن الإسلام لم يشجع على التجارة لإيمان المسلمين بأن الرزق بيد الله وأن كل شيء يرجع إليه، وهو بذلك أخطأ كما ما يزال الكثيرون يخطئون في هذه النقطة، فالإسلام لم يدعُ للتواكل والكسل البتّة، بل حثّ على العمل والاتجار ضمن ضوابط الشرع والمرحمة، والدليل أن معظم الصحابة كانوا تجارًا؛ والرسول صلى الله عليه وسلم اتّجر قبل البعثة، والذي وقع فيه ماكس فيبر هو ربطه الإسلام بدعوة من دعوات “المرجئة” –إحدى الفرق الإسلاميّة غير المنضبطة والقديمة-.

نخلص من هذا إلى أن الحديث عن علمنة الإسلام غير ممكن إلا باختراع تعاليم جديدة له وقراءات شاذة، وما دون ذلك فإن الأمر بالغ الاستحالة.

قراءات شاذة

على ضوء ما تقدّم فإنه ليس من الغريب أن نرى اليوم نسخًا مستَحْدَثَةً -من مسمّى الإسلام- تبيح كل المحرمات وتدافع عنها؛ نسخًا تسوق لحِلّ الزنا وتدعو الناس إلى الإقبال عليها بدعوى أنها مما لم يحرم الله ولا رسوله وإن حصل وحرمها فإن ذلك حكم خاصّ بزمانه لا أكثر.

نرى اليوم (إسلامًا) يجعل  كل إنسان –مهما بلغ من فساد عقيدته ودينه- مسلمًا، بل  مهما كانت ديانته ولو عبد الحجر والشجر وسجد للشمس، إسلاماً نخاف أن نصبح في يوم على فتوى تبيح الصلاة بالترانيم أو بشعر عنترة وقيس!!

يتكئ دعاة الإسلام الجديد أو إسلام السوق الجديد على تأويلات شخصية لآيات القرآن تعتمد تجديداً للخطاب الديني ونشراً للتسامح برأيهم، وهذا أمر حسن -ظاهرًا- فمن هذا الذي يرفض التسامح؛ إلا أن  التسامح المقبول ليس الذي يعمد إلى لي عنق الآيات لتناسب أهواء الناس وأفكارهم، فالإسلام لم يأتِ ليساير هوى الناس بل جاء ليضادّ أهواءهم البشرية الناقصة، وكذلك سيبقى، ومن هنا فإن التلاعب بمعاني الآيات ليس انتصارًا للتنوير كما يظن ويتوهم من  يلقب بالمفكر الإسلامي، بل هو تغيير للدين وإحداث دين جديد لا علاقة له بالدين الإسلامي الحقيقي،  وإن كان هدفهم التسامح فتاريخنا مليء – بفضل الله- بالتسامح مع الآخر بناء على توجيهات الدين ونصوصه، ومن ثم فإننا لا نحتاج خطاباً يغير ملامحه ليرضي نزوات مختلفة مبنية على جهل طافح بأحكام الشرع الحكيم.

محمد شحرور

من المضحك والمبكي -في آنٍ معًا- أن إحدى الممثلات المصريات خرجت بتفسير جديد لقوله تعالى {وأما بنعمة ربك فحدِّث} [الضحى: 11] وادّعت بأنّ ظهور بعض أجزاء الجسم بشكل ملفت أمرٌ لا مشكلة فيه، بل هو مقبول ومرغوب به، وذلك عملاً -بحسب ادعائها- بهذه الآية، وهذا التفسير يذكّرنا بمنهجية القراءات المعاصرة للقرآن والتي كان أحد أبرز أبطالها المهندس المتوفّى محمد شحرور، ولعلّ هذا التفسير بناء على منهجه مقبولٌ!

ينسب لسيدنا علي قوله لابن عباس حينما كان متوجها لمناقشة الخوارج (لا تُخاصِمهم بالقرآن؛ فإنَ القُرآن حمَّال أوجه، تقول ويقولون، ولكن حاجِجهم بالسنَة؛ فإنَّهم لن يَجدوا عنها مَحيصًا) [الدر المنثور، السيوطي، ج1، ص:40] ورغم وجود عددٍ من العلماء شككوا بصحة نسبة هذه المقولة عن علي رضي الله عنه، إلا أن مغزاها صحيح، فإن تأويلات القرآن قد تنفتح إلى ما لا نهاية في حال عدم اللجوء للسنة النبوية التي فسرت القرآن، وإلا فإن الإنسان سيجد نفسه في ربوع إسلام آخر، وهذا ما وقع فيه للأسف جماعة من المسلمين يلقبون أنفسهم بـ”القرآنيين” وهم غير مدركين –أو لعل الأرجح أنهم مدركون- لكونهم حين يقدمون هذه التجديدات والرؤى فإنهم يؤسسون لدين جديد مختلف عن الإسلام الذي أنزل الله، وبالتالي فإن عمليتهم هذه، عملية إنزال للسماء -كما قال ماركس-.

خلاصة القول

إن البحث في الدين والتساؤل فيه بهدف فهمه حق لجميع الناس إذا كانت الغاية الوصول للحق لا إثارة الشبه، ومن ثم فإنه كذلك لا يحق لهؤلاء المتسائلين أو الباحثين منع الناس من انتقادهم والتعبير عن رأيهم بحرية وبهذا تتقدم الأفكار في الأمم.

إنا نرى أن من يدعو لغير ما عُرف عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو لا يدعو إلى دين الله، فعوض أن يدعو العالم لاتباع للإسلام يدعو الإسلام لاتباع العالم، ولو كان هذا العالم وتعاليمه باعتراف حتى أشد الملحدين يسير بالإنسان نحو الهاوية، والإسلام لم يأتِ ليساير أهواء الناس وخيالهم -كما قلنا- بل العكس، فقد تحدى قريشًا وأخلاقها وقلب مفاهيمها وهذا ما شجع الصحابة الذين كانوا قد ملوا مدنية قريش المزيفة، وهو الذي ما زال يشجع الكثيرين على اعتناقه، كونه يخلصهم من الزيف والوهم لأنه جاء بالعلم وباليقين.

من مظاهر العبودية في حياة سيدنا إبراهيم عليه السلام

لم يعتمد القرآن الكريم أسلوبًا واحدًا لإيصال رسالته إلى الناس، بل تعدّدت أساليبه وتنوعت، فهو حينًا يعتمد أسلوب الحوار، وحينًا آخر يعتمد أسلوب ضرب المثل، وتارة يعتمد أسلوب التربية النفسية والتوجيه الخلقي، إلى غير ذلك من الأساليب التي لا تخفى على من تأمل وتدبر كتاب الله العزيز.

لقد كان أسلوب القصة من الأساليب التي اعتنى القرآن الكريم بها عناية خاصة؛ لما فيها من عنصر التشويق، وجوانب الاتعاظ والاعتبار. وقد ألمح القرآن إلى هذا في أكثر من آية من ذلك قوله تعالى: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} [الأعراف:176]، إلى غير ذلك من الآيات التي تبين اعتماد القرآن أسلوب القصص، تحقيقاً لمقاصد وأغراض عديدة.

العيش تسليمًا لله

لقد كانت قصةُ نبي الله إبراهيم عليه السّلام أطول القصص القرآنية بعد قصة نبيه موسى عليه السّلام، وقد نزلت آياتها مبكرًا في المرحلة المكيّة واستمر نزولها حتى أواخر المرحلة المدنيّة، وهذا يعني أن قصة إبراهيم التي أخذت هذه المساحة الكبيرة في القرآن الكريم لها، وأخذت هذه المدة في نزول الوحي، وسميت سورة في القرآن باسمه هي سورة إبراهيم، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، كلّ ذلك يؤكد أن لها دورًا كبيرًا في تحقيق أهداف القرآن الكريم ومقاصده.

قف عند قوله تعالى: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] –على سبيل المثال- متأمِّلاً- وتخيل أحدًا ما يأخذ طفله الرضيع وزوجته ليتركهما وحدهما في صحراء جرداء قاحلة، لا ماء فيها ولا زرع، ولا بشر يستأنس بهم، ولا وجود لشيء يعد مقومًا من مقومات الحياة بين أيديهم، ثم يغادرهم ويذهب دون شرح أو توضيح.

هذا ما فعله سيدنا إبراهيم عليه السلام، حيث ذهب بزوجته هاجر ورضيعها إسماعيل إلى صحراء مكة في الموضع الذي تفجرت فيه زمزم، فقد تركهما وحيدين دون راعٍ أو مؤنس، امتثالًا لأمر ربه تعالى، في صورة من صور التسليم المطلق، ثم مضى في طريقه تاركًا لهم قليلًا من الماء والزاد، فتسأله هاجر ثلاثًا: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس؟! فلم يلتفت إليها. فقالت هاجر: آلله أمرك بهذا؟ فيرد عليها عليه السلام: نعم. فتقول المؤمنة بربها في غير تردد ولا قلق: إذن لا يضيعنا. [أخرجه البخاري في صحيحه].

انصرف نبي الله إبراهيم عليه السلام وهو يدعو ويقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [سورة إبراهيم:37-38].

هكذا فقط: آلله أمرك بهذا؟ فيرد: نعم. إذًا لا حاجة لنقاش أو تبرير. الله أمرك بهذا، فلا إجابة سوى السمع والطاعة. إبراهيم ينفذ ما أمره به ربه دون تردد، وزوجه معه لم تناقشه حتى في فعله. مهما بلغت المشقة، والحيرة من خفاء الحكمة في الأمر، ولكن التجرّد من حول المرء إلى حول الله وقوته أكبر وأمكن، ويقينهم في الله أعلى وأعظم.

الإقرار بالفداء

في موقف آخر يظهر عظمة التسليم نرى إبراهيم عليه السلام يبثّ لولده أمر الله بتقديمه قربانًا، {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قال يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }، [الصافات: 102].

لقد قال له ولده: يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكففْ عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء، فتراه أمّي فتحزن، وأَسْرِعْ مرّ السكين على حَلْقي؛ ليكون أهون للموت عليّ، فإذا أتيت سارَة فاقرأ عليها مني السلام; فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه، حتى استنقع الدموع تحت خدّه، ثم إنه جرّ السكين على حلقه، فلم تَحِكِ السكين، وكأنّ ضرب الله صفيحة من النحاس عليها، هنا نودي يا إبراهيم (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) بالحق فالتفت فإذا بكبش، فأخذه وخَلَّى عن ابنه، فأكبّ على ابنه يقبله، وهو يقول: اليوم يا بُنَيّ وُهِبْتَ لي; فلذلك يقول الله: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [تفسير الطبري بتصرف].

إن إبراهيم هنا -بعد الاختبار الأول- يختبره اختبارًا ثانيًا ليكون في مآله خيرٌ للبشرية وإبطالٌ لعادة التقرّب بدماء البشر، ومرة أخرى يحقق إبراهيم العبودية الكاملة لله تعالى ومعه ابنه، فيمتثلان للأمر دون اعتراض أو مناقشة. (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أسلما أمرهما لله واتفقا على التفويض إليه، وبالفعل لما باشر إبراهيم الذبح، ناداه ربه: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا). وتلك قصة الفداء المعروفة.

ذلكم مثالين من أمثلة كثيرة في قصة إبراهيم عليه السلام، وهي وحدها غنية بالأمثلة، وقد وردت في عدة سور كالبقرة وآل عمران والأنعام وهود وإبراهيم والحجر والنحل ومريم والأنبياء والحج والشعراء والعنكبوت والصافات والزخرف والذاريات والنجم. وفي أكثر هذا المواضع أمثلة على ما ذكرنا. ولما رأينا من هذه الأمثلة فإن العبودية لله تكون بالانقياد والطاعة التامة لأوامره سبحانه، وما صح عن نبينا عليه الصلاة والسلام دون اعتراض أو مناقشة، حتى لو خفيت الحكمة من وراء الأمر، فسلم لله تسلم.

أن يترسّخ الإيمان في القلوب!

يقول الصحابي الجليل جندب بن عبد الله رضي الله عنه: (تعلمنا الإيمان قبل القرآن)، وذلك في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيمانا). [صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه] -ومعنى حزاورة: جمع الحزور، وهو الغلام إذا اشتد وقوي وحزم- أي أنهم كانوا يتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم بالقدوة والمشاهدة والإرشاد والتطبيق العملي أصول دينهم وعقائده، فيأخذون منه الأصول التي ينبني عليها بعد ذلك، وينقادون لأمره صلى الله عليه وسلم انقيادا تاما وهو الذي لا ينطق عن الهوى، ثم يحفظون ما تيسر من آيات القرآن الكريم  ما يقوى ويزداد به إيمانهم.

وبالتأكيد فإنه ليس المقصد هنا التقليل من أهمية حفظ القرآن الكريم وتعلمه، وإنما التنبيه إلى ضرورة وجود خطوة مهمة تسبقه، وهي ترسيخ الإيمان واليقين بالله في القلب، فذلك جوهر العقيدة، ومن هنا تنبعث العبودية الكاملة لله تعالى والانقياد المطلق لأوامره فكرًا وممارسةً، وتعلّم ذلك أدعى إلى التمسك بما يجيء في كتابه سبحانه وتعالى وعدم رفضه أو النأي عنه، أو الصد عن ما قد يشكل على أفهامنا منه، ولنا في تطبيق العبودية لله خير مثل، أزكى الناس وأعلاهم منزلة، الأنبياء المختارون من قبل الله عز وجل، ففي سِيَرهم جميعًا كل الهدي للعبودية الصحيحة الكاملة كما يريد الله تعالى منا، والمطالع لسيرهم لن يعدم أن يتنبه للأمثلة والعبر، حيث يقول الله تعالى: {لقدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ]سورة يوسف: 111] وهذا ما تظهره لنا حقيقةً مواقف نبي الله إبراهيم –التي عرضناها-، فاللهم انفعنا بذلك يا أكرم الأكرمين.