image_print

التشفير لغة العصر

أظهرت لنا الأحداث المنصرمة قدرة شبابنا على تجاوز معضلة التقييم والمعايير التي تفرضها إدارات ومالكو وسائل التواصل الاجتماعي، سواء من حيث الكتابة بالأحرف غير المنقوطة، أو تغيير بعض الحروف من لغة إلى أخرى، أو فصل الحروف بعضها عن بعض بطريقة دالّة على تعمّد ذلك، وغير ذلك من وسائل وطرق التشفير المتعمّد..

لعله من المناسب القول: إن لغة التشفير هي اللغة المناسبة لهذا العصر، سواء كان ذلك من حيث النص المكتوب، أو الصورة المنشورة، فلكل نص وصورة أكثر من تأويل، لا يدركه إلا من امتلك خلفية واختصاصًا معيّنًا، وذلك بسبب الانفتاح الحاصل بين الشعوب والثقافات.

الحقيقة بين الظاهر والباطن

يقودنا هذا الكلام إلى البحث في المقولة الآتية: وهي أن القدرَ المسلّم به من ظاهر الحقيقة “قد لا يكون كل شيء”، حيث إن خلف ذلك باطن يدركه المختصون ويفهمه المدققون المحقّقون، فقد تعدد الدوائر الثقافية واتسعت، وقلّ -أو كاد يكون إلى الندرة أقرب- وجود المختصين الذين يهتمون لدقائق الأمور، ومن هنا ينبغي الإشارة إلى أن تيارات ما بعد الحداثة قد زادت من حدة هذه التصورات المبطّنة غير المنضبطة، وذلك لعدم وجود معيارية محددة ولا مدرسة فكرية ثابتة تتمحص الحقائق من خلالها.

التشفير

يعمل التبديل والتشفير على فتح مدارك جديدة في الوعي، ويضع المتلقي في حالة ذهول لكبر وعمق الظواهر التي أمامه، وبالتالي يعلم أن الذي أمامه ليس بالشيء البسيط وإن بدا كذلك.

يزعج التشفير -على الأقل- الإنسان؛ إذ يجعله يتخلى عن مسلّماته المسبَقة، ويعمل على تحريك وتبديل أماكن وجود الحقائق في دماغه، فعلى سبيل المثال، لو أن أحداً قام بتحريك جهازك النقال على الطاولة وأنت مشغول بالحديث، فإنك عندما تتفقّده مرة أخرى ستكتشف أنه ليس بالمكان الذي تصوّرت أنه فيه. وليست المشكلة في محض “التحريك”، إذ إنها ليست أمرًا عظيمًا، إلا أن المشكلة تأتي من كونك قد فقدتَ السيطرة على ما تمتلك.

دعنا نتساءل!

ماذا نمتلك من حياتنا هذه في نهاية المطاف؟ ما مدى سيطرتنا على البيئة من حولنا؟ ماذا إن كانت البيئة المصنوعة من حولك هي التي تسيطر على مقتنياتك وحتى تصوراتك؟

نعود ونكرر، إنها ليست نهاية العالم لو أن أحدهم استطاع تحريك جهازك النقال، دون أن تنتبه، فربما حرّكه لمصلحتك، أو ربما كان الجهاز على وشك الوقوع وهو قام بتحريكه حتى لا يقع مثلاً، أي ليبعد الضرر عنك من شيء لم تنبته إليه أو تعلمه، إلا أن المشكلة في ذلك كله هي أنك فقدت السيطرة على ما تمتلك.

لنفكّر الآن في الموضوع من مبدأ أهميّة التشفير؛ إذ إن حدثًا بسيطًا كتحريك الجهاز النقال من الطاولة يمكن تأويله بطرق كثيرة، تجعلنا كل واحدة منها نعاود النظر في كيفية عيشنا لحياتنا اليومية، وتدفعنا لتحليل كمية الرموز التي نتلقّاها من كل فعل أو كلمة نفعلها ونقولها.

ضرورة الدقّة والتخصّص

ماذا إن كان لعامة الناس مطلَق الحق في تفسير الظواهر وجعل آرائهم مهما تناقضت بمثابة القول النهائي الفَصل؟

كثيرٌ من الناس يتسوّر على الاختصاصات الأكاديميّة وينزعج من الدقة التي تقوم عليها، ويسوَّق أن الأمر ليس كما نظن أننا نراه، بل إن بعض الناس يظن أن الأكاديمي قد يخادع الناس بالتقاطه للفروق في مختلف القضايا الأكاديمية الدقيقة، وإبراز ورقة المصطلحات التي قد تكون معقدة للغاية، كما هو الحال في تخصصات الفلسفة وفلسفة اللغة والتأويل.

هنا ينبغي علينا القول: -إنها على الأرجح- ليست بذلك التعقيد وينبغي علينا محاولة فهمها، وإن تطلب ذلك وقت وجهد مثل تعلّم أي علم.

من المؤكّد أن ترك المحترف يقوم بعمله على الوجه الذي يتقنه أفضل وأجدى، إذ إن صاحب الخبرة والاختصاص أكثر دراية فيه منا، ولا ينبغي علينا التذمر من الظواهر التي نراها؛ إذ إن غير المتخصص لا يدرك التفاصيل المختفية تحت الظاهر، فعلى سبيل المثال، نحن نرى أن البنائين يصدرون الجلَبة والضوضاء في عملهم، وأن المكان يغطّى بالإسمنت والتراب وبعض الروائح غير المستساغة.. إلا أننا لا نبني على ذلك حكمًا سلبيًّا، إذ إنهم إنما يفعلون ذلك من أجل إنجاز البناء بشكلٍ متينٍ وهيئة أفضل، وعليه فإننا لا نتذمر من وجود الاسمنت أو الضوضاء الصادرة، إذ إنه من دون ذلك لن يتحسّن البناء.

بالتوازي مع ذلك، فإن لنا الحق في طرح الأسئلة ونقد وتكسير التصورات المسبقة التي بناها لنا أشخاص آخرون في وعينا دون استئذاننا، حتى لو تحجّجوا بالقول إنهم فعلوا ذلك لمصلحتنا، أي ربما نود تحسين المكان بمادة أخرى غير الاسمنت، خاصة إن امتلكنا القدرة على فهم البديل أو إنشاء تصوّر عنه.

جاك دريدا

قد يكون للفيلسوف جاك دريدا وجهة نظر في رؤيته التي تقوم على تفكيك الأبنية الفكرية واللغوية من دون أخذ الإذن من أصحابها، خاصة إذا ما استخدام أفكاره في وجه كلِّ منتَج مليءٍ بالغرابة والخيبة وفقدان المعنى والغاية من حولنا، وحين نفهم الواقع الذي نعيش فيه، ونمتلك الكيفية الصحيحة للتعامل والتفاعل مع ما يحيطنا، من تغيرات في الزمان والمكان، حينها نعلم حقيقة غايتنا من الوجود والمعنى من كل ما نفعله.

كيف تكونين أنثى قوية؟ وما القوة التي تحتاجها المسلمة؟

بينما ما يزال غزو الأيديولوجيا النسوية مستمراً وواضح الأثر في مجتمعاتنا، نجد اليوم على النقيض من الذين تبنّوا النسوية وسعَوا للانطواء تحت جناحها الخبيث، فريقًا آخر من الفتيات بتن يخشين التشبّه بأي صفة تضمّنتها دعاوى النسوية خوفاً من محض الاقتراب منها أو تقليدها، والإشكال في ذلك يكمن في أنّ النسوية نادت بشعارات مبهمةٍ وعامة كثيرة لا يتوجّب على المسلمات تجنّب جلّها والخوف منها لمحض أنّ النسوية رفعتها خداعاً للنساء واستدراجاً لهنّ إلى صفوفها.

في هذا المقال أتحدث عن صفة القوة التي ينبغي أن تمتلكها المسلمة؛ إذ رغم رفضنا للنسوية، إلا أن رفعها لفكرة القوة وتصويرها للمرأة المثالية على أنها “strong independent woman”؛ لا ينبغي أن يرهبنا نحن المسلمين من القوة، إذ هو مفهوم نحتاجه في نساء ورجال أمتنا، كما يجدر أن ننادي بامتلاك القوة المنضبطة التي يحبها الله سبحانه؛ إذ إن (المؤمن القويّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير) [أخرجه مسلم]. ولتكون القوة التي نتحدث عنها هي تلك التي يرضى الله عنها، وبالتالي يجب أن تنضبط وفق مراده سبحانه، فلا نقبل منها ولا نرفض إلا ما ذُكر في ضوء وحيه، ولا نسعى للاتصاف بها إلا تقرباً إليه وسعياً لنيل محبته.

من أنتِ في ميزان الوحي؟

قبل الحديث عن القوة المطلوبة في الأنثى وسُبُل تحصيلها، لنعد خطوة إلى الوراء باحثين عن هويّة الفتاة المسلمة وتعريفها في ضوء الوحي المنزّه الشريف. فنحن إماءٌ لله أولاً، خلقنا تبارك وتعالى والذكورَ من نفس واحدة لتكون خليفةً في أرضه، وهي تلك النفس المخلوقة من طينٍ لازبٍ، حيث نُفِخت الروح فيها بغير اختيار منها، ثم إن الله استرعاها في الأرض وابتلاها وكلّفها، ووعدها بعد كلِّ ذلك رجوعاً إليه ومحاسبةً على ما كان وأجراً بحسب ما أمَر وما عملت في هذه المدة التي حدد لها على وجه الأرض. قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].

ولتلك النفس البشرية صفات عامةٌ يشترك فيها الذكور والإناث كما ورد في كتاب الله وعلى لسان نبيه، وكما يقتضيه كونها مخلوقةٌ مملوكةٌ لمولاها، لا تملك ذاتها ولا نشأتها ولا مماتها، ومن ذاك النقص والحاجة والضعف والفقر، وكذلك النسيان والعجلة والهلع وحب الشهوات وكثرة الجدل، ومع وجود هذه الصفات الأصيلة في النفس فإن تزكيتها بتطهيرها من الكفر والمعاصي وإصلاحها بما يرضي الله، وتنقيتها من الذنوب ورفعها بالعلم هي طرق النجاة ومفاتحه، كما بيّن سبحانه إذ قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9].[1]

أما فيما تختص به المرأة المسلمة عن الرجل بعد كونها شقيقةً له مكلّفةً ومسؤولةً مثله، فإنَّ ذلك يتضمّن بعض الصفات المتعلقة بالأنوثة، والاختلافات التي لديها نفسياً وفيزيولوجيًّا عن الرجل ليكونَ كلٌّ منهما مكمّلًا للآخر ومتممًا له، بلا تقابل أو تنافر، ولتكون الحاجة الفطرية الطبيعية ممكنة بينهما، كما خلق الله الخلق جميعاً وفق هذه الثنائية {ومن كلِّ شيءٍ خلقنا زَوجين} [الذاريات: 49][2]، ولله في ذلك حكم كثيرةٌ يظهر بعضها في حدوث السكن والمودة والرحمة بين الزوجين وكذلك الرغبة في دوام الالتقاء وضمان استمرار الحياة.

ومع وجود الاختلافات، إلا أنّ الخطاب القرآني للمرأة انطلق من مبدأ الخطاب الكلي للإنسان منذ كان خطاب الوجود الأول للنفس الإنسانية، فكان التكليف الكوني العجيب بالأمانة التي حملها الإنسان بعد أن أشفقت منها السماوات والأرض والجبال، فتصدّر الإنسان، وخوطب باعتباره عاملاً سواء كان رجلاً أو أنثى لا فرق بينهما في المسؤولية الوجودية من حمل الأمانة الكبرى {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بعضكُم مِّن بَعْضٍ} [آل عمران: 195].[3] ومن هنا كانت القوة التي يحبّ الله المؤمن المتصف فيها مطلوبة في الذكر وفي الأنثى طالما أنها منضبطة بميزان الشريعة وتسعى لرضوان المولى وحده.

لا يليق بالمسلمة الانهزام!

إن الحديث عن القوة النفسيّة للمرأة ينطلق من كونها فرداً في المجتمع المسلم لا ينفكّ أو ينعزل عنه؛ إذ تحمل في ذاتها صفات المؤمن الراسخ، لا تهزّه نسمة ريحٍ ولا تؤثر فيه كلمة أو شبهة عارضة، فلا يليق بالمؤمنة مثلاً أن تجهل الأحكام المتعلقة بالنساء والتي تحتاجها في حياتها اليومية، ولا يناسبها أن تحمل شبهات لا تعرف ردها ولا تعي خطرها، كما لا يستوي أن تعرف أخبار الموضة وفنون الطبخ وترتيب البيت والعناية بالجمال، وتجهل إجابات الأسئلة التي تتردد في ذهنها كل حينٍ عن مكانتها في شرع الله وخطابه سبحانه لها، وتغفل عن معنى الآيات والأحاديث المركزية في هذا السياق.

مع انفتاح مصادر كثيرةٍ للشكوك والشبهات على النفوس في هذه الأيام، فإن الحاجة لتلك القوة باتت أكبر وأكثر إلحاحاً، خصوصاً والأنثى غالباً ما تكون عرضةً لكثير من التيّارات الفكرية والشبهات العقدية التي تستغل نفسيتها وعواطفها، فهذا يشعرها بالفشل لأنها اختارت عدم العمل خارج بيتها، وذاك ينتقص منها باستخدام حديثٍ لا يفهمه، وذاك يتهمها بالنسوية لأنها بفطرتها الطبيعية لا تحب أن يكون لزوجها زوجة أخرى، والقائمة تطول مما قد يرد على المرأة خلال دقائق معدودةٍ من الإمساك بهاتفها المحمول.

ولما كان الجهل يولّد الخوف، والخوف بدوره ينتج شخصيةً ضعيفةً مهزوزة ومنهزمة[4]، كان طلب العلم أول وأهم طرق الوصول إلى القوة المطلوبة، فالمسلمة التي أكرم الله وتفضل عليها بالإيمان ينبغي أن تعبده سبحانه على علمٍ وفهمٍ وثبات كشجرة عميقة الجذور في تربة الإيمان، ثمرها طيبٌ في كل كلمة تصدر منها وكل فعل، تعرف قدرها في دين الله ولا تثنيها تقلبات الزمان وتغيرات الأحوال عن غايتها والدرب الذي تسلك، فلا تأخذ دور الضحية أمام أمواج الشبهات الهائجة، ولا تقف تنتظر رأي الآخرين بها وتقويمهم لها، إنما هدفها مسدَّد، وعينها مثبَّتة عليه على الدوام، كما وصفها د. فريد الأنصاري: “إنما الفتاة المؤمنة هي التي ترفع راية الإسلام بلباسها الشرعي وخلقها الاجتماعي، فلا تفتنها الأضواء الفاضحة، ولا الدعايات الكاشفة، بل تجاهد في الله من أجل بناء قيم الإسلام في المجتمع من جديد وتسعى لطلب العلم بدينها وتعلّم شرائع ربها، للعمل بها في نفسها أولاً ثم تعليمها لغيرها؛ فكانت مثال الصلاح والتقوى والعفاف، ومنار الهداية لجيلها وللجيل الذي يتربى على يدها”[5].

وقد كان الحرص على العلم ونشره حاضراً جلياً في سيرة أمهات المؤمنين والصحابيات رضوان الله عليهن ومن تبعهن بإحسانٍ كذلك، وقد رَوَت أم سلمة رضي الله عنها: (كُنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوماً من ذلك والجارية تمشُطني فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيُّها الناس. فقلت للجارية: استأخري عني. قالت: إنَّما دعا الرجال ولم يدعُ النساء. فقلت: إنِّي من الناس). [أخرجه مسلم].

كيف نصل للقوة المطلوبة؟

إضافةً لطلب العلم، فإن من المهم معرفة النفس وتقديرها، وفهم مواطن القوة والضعف فيها، انطلاقاً من الوحي أولاً، ثم من التبصّر بها ومراقبتها ودراسة احوالها وتقلباتها، وكذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يحاسبون نفوسهم ويزنون أعمالهم، حتى إن أحدهم يلحظ من ذاته أدنى بعدٍ أو تغيّرٍ أو حاجةٍ للتزكية، وما أجمل ما قام به عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه لما لحظ من نفسه ما يريبه، فدعا الناس أن الصلاة جامعة، ثم قال بعد حمد الله والصلاة على نبيه: يا أيها الناس، لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبضن لي قبضة من التمر أو الزبيب، فأظل يومي، وأي يوم؟ ثم نزل عن المنبر، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن قمّأت نفسك [يعني عبتها]، فقال: ويحك يا ابن عوف! إني خلوت فحدثتني نفسي، قالت: أنت أمير المؤمنين، فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها نفسها[6].

ومن نتائج معرفة النفس تجنب مقارنتها بالآخرين وتقييمها بحسب مكانها بينهم، خصوصاً إن كانت المقارنة دنيوية أو في أمور لا يعلم بواطنها إلا الله، ومع مشاركة الناس كثيراً من خصوصياتهم على مواقع التواصل اليوم، وقدرة أي منا على الاطلاع على أخبار وقصص الملايين ببضع نقرات، فإن ذلك صار أكثر إتعاباً للنفس وأدعى لأن تغلق تلك البوابات عن ذاتها، فرغم أن المرء قد ينشط بالاطلاع على اجتهاد أقرانه، إلا أن جلد الذات بسبب قصورها عن بلوغ ما يفعل غيرها ليس بسبيلٍ صحيح، فالسائرون إلى الله مختلفون فيما يوفّقون له من أعمال، وطاقات كلّ منهم والمسافة التي قطعها في طريقه متفاوتة كذلك، فينبغي توجيه النظرة نحو الاستزادة مما يحب الله من الأعمال، مع اعتبار محدودية النفس وخصوصياتها ليتحول الجلد جرداً.

وإن كان ذاك مما يضبط مقارنة العبادات، فما بالك بمن يتعب نفسه بالنظر لما لدى غيره من متع الدنيا وقد نهى الله صراحةً عن مد العين إلى ما تمتع به غيرنا في هذه الدنيا الفانية؟

ومع التبصّر والامتناع عن المقارنات تتمرّن النفس تدريجيًّا على التركيز على رضا الله وعدم التعلّق أو الانشغال بالخلق، فيكون توجّهها مطلقاً لله، وتصير منافستها مع ذاتها أولاً لتتجاوز عيوبها وشهواتها وأهوائها، فتنضبط معاييرها بما يرضي الله، ولا تتأثر بقول الناس عنها أو رأيهم بسعيها بعد ذلك، لأنها لم تسعَ لنيل رضاهم أساساً، فتتمكن بالتالي من السؤال والتعبير والإبانة عن حاجاتها والقيام بما أمر مولاها بغض النظر عن محيطها.

ختاماً، أقول لكلّ فتاةٍ تقرأ هذه الكلمات، لا نريدكِ نسويّة مبغضةً لنفسها ومحدوديتها، ولا متمردة على خالقها تعيسةً في دنياها، وساعيةً لكسر كل ما هو نمطيٌّ بغض النظر عن ماهيته وواضعه، بل إننا نريدك مؤمنة قويّة صلبة حازمة ثابتة غير جاهلة ولا مهزوزة، تعلمين ما لكِ وما عليكِ، وتنضبطين بشرع الله القويم وتنعتقين من الجاهليات قديمها وحديثها في سبيل التقرب إلى الله ونيل محبته ورضاه.[7]


[1] تفسير السعدي وتفسير الطبري.

[2] أ. د. محمود بن أحمد بن صالح الدوسري، التمايز العادل بين الرجل والمرأة في الإسلام، دار ابن الجوزي. ص29

[3] د. فريد الأنصاري، سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة. ص35-36

[4] د. عبد الرحمن ذاكر الهاشمي، دورة فقه النفس، اقرأ.

[5] د. فريد الأنصاري، سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة. ص 15

[6] المتقي الهندي، كنز العمال، 12/655

[7] استفدت في بعض معاني العامة المقالة من سلسلة محاضرات للشيخ أحمد السيد بعنوان “سوية المؤمن” https://www.youtube.com/playlist?list=PLZmiPrHYOIsS5j5KXnB8xMbSjy_7KYbCq

ومن محاضرة للدكتور عبد الرحمن ذاكر الهاشمي بعنوان ” القوة النفسية: ما هي؟ وكيف أصل إليها؟ | عبد الرحمن ذاكر الهاشمي” https://www.youtube.com/watch?v=DFLgHrdwYdM&t=101s

الصورة الرئيسية لمقال الصدمة الحضارية

رويدا رويدا.. لا تنصدم حضاريا!

لا شك أن الإنسان أياً كان جنسه أو بيئته أو انتماؤه يَنشُد العيش في مجتمع تكون القيم الحضارية فيه من عدالة وحرية وكرامة للإنسان محميةً مرعيةً لها مركزيتها وأولويتها في الدائرة التي يعيشها، إضافة إلى تطلّعه الدائم لحياة أفضل وظروف معيشة مريحة ونمط منظّم.

ولعل جميعنا من المعجبين أشد الإعجاب بكل قيمة حضارية مطبقة أو تقدم تقني حاصل وصل إليه من كان، أينما كان، وليس هدف الكلام -في هذا المقال- إنكار أو تبخيس النموذج الحضاري الذي يتصدر المشهد في العصر الحديث، إنما يستعرض سريعاً ما قد يجنّبنا التسرع في الحكم على الحالة الحضارية التي يقدمها منسوبوها على أنها النموذج الأمثل للعيش.

لا شك بالإطار العام أن الدول التي يطلق عليها وصف (العالم المتحضر) في هذا العصر يقدمون القِيم -كالعدالة والحرية والكرامة الإنسانية والسعي المستمر للحياة الأفضل- على أنّها أهم أولوياتهم، لكن مع غض النظر عن تفنيد المعنى المتصور عندهم للقيمة الحضارية أو حدود تطبيقها التي قد تنفلت أحيانا من ضوابط عقلية وأخلاقية محددة، أو أولويات تطبيقها التي قد تَضعُف في العديد من القضايا، خاصة عندما تتعلق بأفراد من المناطق البعيدة عن مراكز التحضر! -وأقصد المعنى العملي للكلمة وليس المعنى القاموسي المدون في تنظيراتهم وفلسفاتهم-.

بغض النظر عن ذلك كله، فإن علينا التحري أكثر عن هذه الحضارة التي تصدم زوّارها حتى لا يكاد إنسان يخلو من لوثة “الانصدام” إلا القليل ممن نظروا ملياً وتمهّلوا قبل أن يعاجلهم الانبهار فيصوغ نظرتهم ونظريتهم حول الحضارة والتحضر!

مرض الصدمة الحضارية

بدايةً إن أهم ما ينبغي التركيز عليه حول الحاصل عند مصدومي الحضارة أن تقييم الحالة الحضارية عندهم ينطلق من تحسس الحلقة الزمانية الأقرب إلينا في تجربة الحضارة الغربية، ثم يضربون صفحاً عن سياقها التاريخي وحلقاتها السابقة التي ضحى فيها الإنسان “المتحضر” بقدر متزايد من القيم، يتناسب طرداً مع حجم المكاسب والمغانم التي سيحصل عيها في تلك البلاد التي قصدها احتلالاً واستغلالاً ونهباً لثرواتها ومقدراتها، فكانت الحملات والحروب العسكرية المباشرة، ثم تبعتها حروب الوكالة ودعم الديكتاتوريات والأنظمة القمعية مع تأمين الغطاء العسكري والاقتصادي والسياسي لمستلزمات هذه الحروب حسب متطلباتها، والأمثلة أكثر من أن تذكر في هذا السياق وهي لا تبدأ بإبادة السكان الأصليين في طرفي العالم المعاصر.

مروراً بأفعال وسياسات الأنظمة الغربية المعاصرة في القرن المنصرم، مما أفاض به على سبيل المثال الكاتب البريطاني المعروف روبرت فيسك لما عاصره بنفسه من أحداث في مجلداته الثلاثة التي جمعها في كتابه (الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة) والتي يعبر عنوانه عن مضمونه بشكل جليّ، وليس انتهاءً بما شهدناه بأعيننا في السنوات العشر الأخيرة من ازدواجية فظَّة مارستها الدول المتحضرة في ملفات منطقتنا الساخنة.

يظن مرضى الصدمة الحضارية أن المنتَج الحضاري حكرٌ على الدول الموسومة بالتحضر وكأن خامة عقول أبناء المجتمعات الحضارية تفوق نظيراتها في المجتمعات الخارجة عن هذا التصنيف!

ماهية المنتَج الحضاري

إن المنتج الحضاري في كل حضارة سائدة أو بائدة هو منتَج العقل الإنساني بعمومه عبر الحضارات المتناوبة، وهو تراكم لما أنتجته الحضارة الإنسانية على مر العصور، فهو لا يحمل ختم البقعة الجغرافية المنتجة له وإنما يحمل ختم الإنسان المعمَر آلاف السنين على اختلاف هويته ولونه وتنقلاته!.

ألا نرى أن مراكز البحث حول العالم تمثل نماذج لافتة لاجتماع العقول والأعراق والانتماءات والثقافات تحت سقف واحد؟ فمراكز البحث الكبرى ومصانع المادة الحضارية من علوم إنسانية أو تقنية أو ثقافية …إلخ المتمركزة في الدول المتقدمة ليست إلا حاضنةً لهذه العقول ومراكز استقطاب لها من شتى بلدان العالم المتحضر والنامي على حد سواء، ويُبذل في سبيل ذلك الاستقطاب ما تجاوز في حالات شتى السعي لاستقدامهم أو الاحتفاظ بهم بل تعداه لتصفيتهم عند إصرارهم على عودتهم إلى بلدانهم التي تقع خارج دائرة العالم المتحضر!

لعل غياب البديل الحضاري أو السعي لتغييبه وتشويهه في عصر العولمة والقطب الواحد قطع الطريق على عقد المقارنة بين نموذجين مختلفين لإدارة المجتمع البشري بحيث تُظهر لنا هذه المقارنة عَوَرَ أو تميز أي من النموذجين على حساب الآخر، بل أخذ بعض مرضى الصدمة الحضارية بسذاجة استحضار قوالبٍ من الماضي ثم إسقاطها على معطيات حياتية محدثة فوجد أن هذه القوالب لا تستطيع التعامل مع المستجدات! فخَلَصَ إلى أنه لا شيء يصلح لإدارة العالم سوى الطرح الحالي! وهذا قصور في النظر من عدة زوايا نحتاج شرحه في غير هذا السياق.

لا شك أن مسحة الإعجاب التي تمس زوار الدول المتحضرة لها ما يبررها، وحقٌ هو إبداء الإعجاب بكل ما هو حضاري، لكن الذي لا نجد له مبرراً عند البعض استفحال الحالة المَرضية حتى تتجاوزَ به الإعجابَ بمظاهر التحضر التي يعيشها إلى نسف التجارب الحضارية السالفة وقد تجلّت فيها القيم الحضارية بأبهى معانيها وأعظم تطبيقاتها وشهد بذلك أعلامٌ من رواد الحضارة التي أخذت بلبِّ الرجل، وذلك فقط لأن صاحبنا انتقى -مع اطلاعه الضحل على التاريخ- مشاهد مسيئة وأحداث مشينة مرت بها تلك الحقب، وهي التي تكاد لا تخلو منها تجربة إنسانية.

ولو أنه كال التجربتين بنفس المكيال لعادت عافيته إليه ووضع الأمور في نصابها الحقيقي. ولكنه انتقى من مشاهداته السطحية لصور التحضر أفضلها وجعلها معبرة عن التجربة الحضارية الحالية ناطقة باسمها! ثم انتقى من اطلاعاته التاريخية المحدودة أسوأ الصور وجعلها معبرة عن تلك المرحلة ناطقة باسمها!

ختام القول

ليس الكلام السابق تبخيسًا لتطور حاصل وتقدم ملموس في مجالات شتى فيما يسمى بـ (العالم المتحضر) ولكنه دعوة للتحرر من هذه النظرة الأنانية والتي تتبلور من منطلق أن الحضارة الحالية جعلت حياتنا أكثر سهولة وأكثر رفاهاً، كالمأخوذ بجمال قَصرٍ يقطنه؛ إذ فيه من الرفاهيات والـمُشتهيات ما يُنسيه النظر في مقدمات إشادته: كيف؟ وأين؟ ومن أين؟

إنه اجتزاءٌ للمربع الجميل من الصورة المركبة ثم إطلاق الحكم على كامل الصورة!

 

احرص على ما ينفعك

يقف الإنسان أمام وسائل الإعلام مُتابعاً لما يحدث في هذا العالم، فكم حصد الوباء من أرواح، وكم هُجّر أشخاصٌ من أوطانهم، وما آخر الكوارث التي حصلت، وماذا عن أخبار الإلحاد والعالم الغربيّ الذي تنتكس فطرته شيئاً فشيئاً، ماذا عن التفاهة المنتشرة في مواقع التواصل، وعن ضياع الأجيال، ماذا عن الحروب، ثُمّ يتساءل، ما الذي عليّ فعلُه؟

في البداية لابُدّ أن نعلم بأنّنا نعيش على هذه الأرض لمدةٍ محدودة، وبأنّ مدة الإقامة ستنتهي مهما طالت، والله تعالى قد وزّع الابتلاءات على البشر، كُلٌّ حسبما يُطيقُه، وقد أعلَمَنا في كتابه بوضوح بأنّه تعالى لا يُكلّف نفساً إلا وسعها، ونتيجة الامتحان في تمايز الناس ما بين صابرٍ وشاكر، وساخطٍ وغافل.

مِمّا لا شكَ فيه، أنّ المسلم يهتم لأمر إخوانه المستضعفين، ويهتم لأمر أُمته في صلاحها وفسادها، ومن واجبه أنه لو كان يستطيع المساعدة أو الإصلاح بقدر استطاعته أن يفعل ما يستطيعه، وإن لم يستطع فعليه أن يتذكرهم في دعاءه.

ثُمّ ماذا بعد؟

بعد ذلك عليه أن يتذكّر الحقيقة التي تقول: إنّ كل بلاءٍ يقع بالمسلمين، ليس في قدرتك رفعه؛ فإنّ الله لن يسألك إن لم ترفعه[1].

وهنا، نستحضر قصة آل ياسر في بداية دعوة الإسلام، حيث كان المسلمون قلّة قليلة، يُخفونَ إسلامهم عن المشركين، قال جابر رضي الله عنه: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمّار وأهله وهم يعذَّبون فقال: (أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ، وَآلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةُ) [أخرجه الحاكم في المستدرك برقم: 5666]، والشاهد هنا بأنّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد أرجَأ أمرهم إلى الآخرة، فلم يكن حال المسلمين آنذاك يسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم، وكذا أمرُ بلال بن رباح، وسؤال الصحابة للرسول -عليه الصلاة والسلام- ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصرُ لنا؟

ففي الحديث: عنْ أبي عبدِاللَّهِ خَبَّابِ بْن الأَرتِّ قَالَ: (شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟

فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) [أخرجه البخاري في صحيحه برقم: 6943]

فالرسول -عليه الصلاة والسلام-  هنا يأمرهم بالصبر، ويُكرر على مسامعهم حقيقة البلاء في الدنيا، وحقيقة عدم بقاء الدُنيا على حالٍ واحد، حيث تتعاقب الأحوال مع مرور السنين، والأهم من ذلك أنّهم لم يتوقفوا عن العمل ولم يتراجعوا عن دينهم وعن الدعوة إليه رغم القلّة والضعف، ورغم أنّهم غرباءٌ بين الناس، والغربة مع الخوف ومع رؤية الإنسان للطريق الطويل المُظلم الذي لا يرى النور في آخره، كُلُّ هذا قد يُقعِد الإنسان عن العمل، ورُبّما يُقعِده عن الدعاء، وقد يدفعه للهرب بالاتجّاه والطريق المُعاكس للحق، حتى يدفع عن نفسه الشعور بالغربة، فيذهب إلى السراب يحسبه ماءً يروي به عَطشَه، حتى إذا جاءَهُ لم يجدهُ شيئاً.

هروبٌ إلى الله أم هروبٌ إلى الوهم؟

وسط هذه الظروف وأنواع البلاء المختلفة في الدين والدنيا، تتعدّدُ طرق هروب البشر، ما بين هاربٍ إلى الحقّ وهاربٍ إلى الباطل، إلا أنّ طريق الحقّ واحد، وطرق الباطل كثيرةٌ مُتعدّدة.

خُلق الإنسان وهو يُدرك بفطرته أنّ الدنيا هي ليست دار المقام، ففي داخله شيءٌ يُخبره أنّ هذا المكان لا يمكن تحصيل السعادة الكاملة فيه، وبأنه لابُدّ من الكدر والهمّ فيه، ومن هذا المُنطلَق، يبدأ الإنسان رحلته في الهروب.

بعض الناس يظنون أنّ النجاة تكون بتحصيل المال، أو بالهجرة إلى إحدى دول الأحلام، حيث اللذة التي لا تنتهي والانفتاح والأموال، ثمّ إن رحلوا إليها لا يلبثون إلا أن يعلموا بأنّها لم تُحقّق لهم فردوساً أرضيًّا كما ظنّوا فيعاودون الركض والهرب ويطلبون المزيد، يريدون رفع سقف اللذة، إلا أنه مهما ارتفع لا يجدون شيئاً يشفي مرادهم، إن هو إلا سرابٌ وغمٌّ وخوفٌ من فقدان الدنيا يؤرّقُ مضاجعهم.

وبعض الناس يهربون للشهرة ومواقع التواصل، وكذا حالهُم كحال مَن في المثال الأوّل، وليس بالضرورة أن تكون طُرق الهروب مُكلفةً كهذه، بل لعلّ كثيراً من الناس يهربون إلى إدمانٍ مجانيّ، يظنّونه هيّناً، وهو في حقيقته خطيرٌ جداً.

الهروب إلى السجائر، أو إلى مواقع التواصل الاجتماعيّ، أو إباحية المقاطع الفاحشة، الهروب إلى الأفلام والمسلسلات ومجالس اللغو، أو إلى عيادات التجميل، إلى الألعاب الإلكترونيّة والأسواق، اللجوء إلى الأغاني، الإمعان في الاستهلاك والتعلّق بالبشر، يدمنون ذلك كله ويطلبون المزيد والمزيد منها، فلا تزيدهم إلا خوفاً من فقدان اللذّة، ولا تزيدهم إلا تعاسة حتى وإن كان ظاهرها السعادة، وطُرق الباطل لا تنتهي كما أسلفنا.

ولأنّ الإنسان بفطرته يبحث عن الجنّة، فالطريق الحقيقيُّ للوصول إليها واحدٌ فقط، جاء الرُسُل فوجّهوا البشر إليه، وهو طريق العمل والتعب والمُجاهدة، مُجاهدة النفس عِلماً وعملاً، عملٌ مستمرٌ يشمل أعمال القلوب والجوارح من خلال الطاعات وترك المعاصي بعد العلم بما لا يسع المسلم جهله من الدين، جدولٌ يوميٌّ يضعه الإنسان لنفسه فيه أقلّ القليل مِمّا ينبغي للمسلم فعله، وحينما يُردّد الأذكار يُدرك معانيها فلا ينسى الهدف من وجوده في الدنيا، ولا ينسى أنّهُ سيُحاسب عن كلّ دقيقة تمضي من وقته، وعن جميع تفاصيل عمله وعِلمه وماله وأهله ودوائره القريبة، وعن أمره بالمعروف وإنكاره للمُنكر ولو بقلبه.

يقول الله تعالى على لسان نبيّه: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: ١٥٣]

هذه هي معركة الإنسان الحقيقيّة، سواء أَخرَج من تحت الأنقاض فاقداً أهله، أم دخل السجن مظلوماً، أم عاش حياةً مطمئنةً آمنة، أم عاش في أوضاعٍ اقتصاديّةٍ سيئة، فمعركة الإنسان أينما كان، في أن يختار طريق الهروب الصحيح، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: ٥٠].

الزم ثغرك

يقول عليه الصلاة والسلام: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها) [أخرجه الإمام أحمد في المسند، والبخاري في الأدب المفرَد]، من هنا نعلم بأنّ الله سيُحاسبنا على أدوارنا وأعمالنا، حتى وإن كانت الدنيا في أسوأ الأحوال، فحين تقوم القيامة أيختار الإنسان البكاء والتوجُّع على الأطفال الجرحى في الحروب في منشورٍ ما، ثُمّ يُغلق التطبيق لينتقل إلى مشاهدة فيلم، يحسبُه مُهدّئاً، أم يدعو للضعفاء في الأرض ثمّ ينتقل إلى معركته الحقيقيّة وميدان عَمله؟ أم هل يستمر بالشكوى من القرارات الظالمة من المسؤولين ومن سوء الأوضاع الاقتصاديّة، ثُمّ يهرب إلى سجائره، ويسوّغ هروبه؟ أم يترك أمر الظلم والظالمين لِله ويمضي في طريق الحقّ رغم جميع الظروف؟

وكذلك نقول في أوضاعنا الفكرية والسلوكية، عندما يتعرض الإنسان لانتكاسة الواقع والسلوك والفطرة، هل الواجب عليه أن يبقى في صراعٍ مع نفسه وقَلقٍ مستمر مِمّا يحُلّ من إشكالاتٍ في تفكير الشباب وعقائدهم وضياعهم لأوقاتهم، مع يأسٍ ودون عملٍ حقيقيّ في إصلاح نفسه، أم يحاول الإصلاح بقدر ما يستطيع وقد هدأَت نفسُه، وعَلِمَ أنّ هداية القلوب وإصلاح الأمم بيد الله، ويبدأ من مجاهدة النفس أولاً؟

لعل الأغلب يقول: نعم، لابُدّ أن من الانتقال إلى ميدان العمل، وهنا لا ندعو إلى عدم الاهتمام بشأن المسلمين، بل على العكس، يتألّمُ الإنسان لألمِ أخيه المُسلم، ويتألّم الإنسان لسوء الأحوال إجمالاً في بلاد المسلمين، لكنّنا الآن لا نملك حكمًا إسلاميًّا عادلاً صحيحاً في أغلب بقاع العالم، بل إن الواقع يقول إنّنا في حالة ضعف، وهنا لا يملك المسلم سوى أن يبذل بقدر استطاعته من السعي لتنمية فكره ووعيه ودعم نهضة الأمة وإن بعمله اليومي المستقيم إلى جانب اللجوء والدعاء، مع التسليم والإذعان بحقيقة توزيع البلاء على الناس من قِبَل الله تعالى، وبحقيقة أنّ الأُمم تضعف وتقوى ولا تبقى على حال، لأنّ الله هو الأعلمُ بما يحتمله عباده، وبما يُصلحُ به عِباده، وبأنّ هذه سُنّة الحياة.

أقتبس ههنا للأستاذ أحمد سالم إحدى نصائحه الثمينة، يقول: “إذا لم تُضع واجباً أوجبه الله عليك ينصرون به أو يخفف عنهم البلاء تخفيفاً حقيقياً فلا بأس عليك، ووالهم بقلبك ودعائك وواسهم بما تستطيع، ولا تنصرف عن غاياتك التي اخترتها لتخدم بها دينك.

وإني والله شهدت في العشرين سنة الأخيرة أناساً ينتقلون هكذا من حادثة إلى حادثة لا هم يؤثرون في تلك الوقائع تأثيراً ملموساً يقابل أوقاتهم وجهودهم التي ينفقونها، ولا هم صنعوا شيئاً حقيقياً في التحديات القريبة منهم التي كانوا مؤهلين بالفعل للتغيير والإصلاح فيها.

إياك أن يدخل لك واحد من الناس من هذا الباب فيلفتك عن عملك لدين الله فيما تحسن وبما تحسن فيحيلك إلى ثرثار تجعجع بلا طحين، لا أنت رفعت البلاء ولا أنت عملت لدين الله صالحة تقرب الناس إلى ربهم وتقربك إلى رضاه.”[2]

ولنا أن نزيد هنا ونقول أيضاً حتى الدوائر القريبة من أهلٍ وأصحاب، من بعد نُصح الإنسان لهم ومحاولاته المستمرة في الإصلاح بكافّة الطُرُق وبكُلّ ما يستطيع، وبالدعاء بعد بذل الأسباب؛ لن يُسألَ بعدها عن النتيجة، فالإنسان مسؤولٌ عن السعي فقط، ولا يملك أحدٌ قلوب العِباد، بل إنّ معركة كل إنسان الحقيقيّة تبدأ من تزكيته لنفسه.

والآيات التي تدور حول إصلاح النفس وتزكيتها أوّلاً كثيرة، نورِدُ بعضها ههنا، كقوله تعالى: {منِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: ١٥] وقوله تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: ٦] وقوله جل في علاه: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [الأنعام: ١٠٤].

فلا بُدّ إذن للإنسان أن يلزمَ ثغره مهما تغيرت الظروف وتعاقبت، ولا يهرب إلا باتجّاه الحقّ بعيداً عن الباطل.

مهما بدَت صور الباطل أسهل وأجمل وألذّ، ومهما حاول الأعداء من الجنّ والإنس تزيينها، فليعلم الإنسان أنّها راحةٌ كاذبة، ولذّةٌ مؤقتة، بل إنها تحمل ألماً شديداً في طيّاتها، وليتأكّد كذلك بأنّ طريق الحقّ وإن بدا صعباً، وإن كان يبعث الشعور بالغربة ففيه الراحة الحقيقيّة، وفيه اللذّة التي لا تنتهي ولا تموت “فأريحوا أنفُسكُم بالتعب”[3].


[1] . من جملة ما نشره أ. أحمد سالم، على قناته في تيلغرام.

[2] من منشورات أ. أحمد سالم في قناته على تيلغرام.

[3] مقولة للدكتورعبد الرحمن ذاكر الهاشمي.

تجليات العنصرية الغربية.. من وحدة الوجود إلى النظام العالمي الجديد!

لم يكن ما قام به هتلر أمراً استثنائياً في الحضارة الغربية، أو شذوذاً في نظرتها الإنسانية إلى بقية البشر وحضاراتهم ككائنات أدنى في مقابل التفوق المزعوم لعرق الرجل الأبيض، فقد سبق هتلر إبادة ما يزيد عن 70 مليون من السكان الأصليين للقارة الأمريكية على يد الرجل الأوروبي المهاجر، فضلاً عن استعباده لأضعاف هذا الرقم من أفريقيا مات معظمهم في طريقهم إلى أوروبا وأمريكا، فضلاً عن استعباده الشعوب التي احتلها سواء أكان احتلالاً حلولياً يمتاز بالفصل العنصري كما في استراليا وجنوب أفريقيا وأخيراً فلسطين، أو احتلالاً استعمارياً يستنفذ الثروات الطبيعية للبلد المحتل كما كان في الهند ومصر وبقية المستعمرات القديمة في العالم، التي انطلق الأوروبي إليها حاملاً شعلة أنواره الإنسانية إليها..

هتلر ومآلات وحدة الوجود

كل ما فعله هتلر أنه دفع عقيدة تفوق العرق الأبيض إلى منتهاها، تلك العقيدة التي دعمتها فلسفة هيجل التي هي في حقيقتها إعادة إنتاج لعقيدة وحدة الوجود الفرعونية والهندوسية وما شابهها من عقائد في الفلسفات الشرقية القديمة، وتأثرت بها الفلسفة اليونانية على يد فيثاغورس وأفلاطون وأفلوطين، ومن بعد ذلك انتشرت كتعاليم سرية (سحرية) يسمونها الحكمة القديمة أو الهرمسية، والتي أثرت بشكل مباشر في معظم علماء وفلاسفة عصر النهضة والتنوير مثل (دافنشي، ونيوتن، وبالتأكيد هيجل)؛ تلك الفلسفة التي تنتهي عند من لديه تصور لمآلها المنطقي؛ إلى أن الإنسان الأوروبي بوصفه -كما يزعم الأوروبي- صاحب أرقى فكر بين أجناس البشرية هو التجلي الأعلى للإله أو الروح المطلق.

هيجل (مصدر الصورة: ويكيبيديا)

في الحقيقة فإن هذا الاعتقاد لا يختلف كثيراً عن الفرعونية حين كانت حضارتها هي السائدة والتي انتهت إلى أن الفرعون هو التجلّي الأعلى للإله إذ قال: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24]، فهذه نتيجة طبيعية لفكرة إله هو الموجودات نفسها أو الموجودات عبارة عن ظاهريات لروحه، وهو ينمو ويتطور عبر التاريخ ويتجلى من خلال هذه الظواهر الوجودية وأعلاها الإنسان وعقله، والإنسان الأعلى هو الأوروبي -كما في سياق نزعة الأنسنة الغربية- بلا جدال وبالتالي فهو الذي يحل محل ادعاء فرعون “الربّ الأعلى”.

إن من يتأمل مقولة “وحدة الوجود” فإنه سيجد أن مآلها الحقيقي هو أن لا وجود للذات الإلهية أصلاً وأن الوجود الفعلي للمخلوقات بجمادها وكائناتها الحية وكونها وقوانينها، أو ما يسمونه “الطبيعة” وبالتالي فهي رغم تسميتها بالفلسفة المثالية التي لا اختلاف بينها وبين الفلسفة المادية سوى الزعم بأن الطبيعة الحية العاقلة للكون والمادة فإنها مرادف للرب الخالق عندهم، وهي فكرة تبنتها معظم الفلسفات المثالية وأصحاب وحدة الوجود، وهي باطلة بهذا الوجه دون أدنى شك، ولسنا هنا في مجال تفنيدها، ويمكن التوسع في ذلك من خلال مطالعة عدة ردود صُنّفت خصيصًا للرد عليها، كردود ابن تيمية رحمه الله تعالى في ردوده على فلسفة أرسطو ونظرية الفيض والقائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد

تعود هذه الفلسفة إلى أصول مشرقية وفرعونية وأخرى اختلطت بالروحانية الصوفية الهندية والعربية المتأخرة عنها والمتأثرة بها، ثم عادت لتختلط بالمنطق الأرسطي ونظريات الفيض وتطوراتها في عصور التنوير والحداثة، وانتهت عند هيجل كمثالية مطلقة فيما سماه ظاهريات الروح والعقل المطلق وتطور عنها مدارس مختلفة وتطبيقاتها في حركات العصر الجديد والثيوصوفيا وغيرها، التي ترى أن هناك مجموعة من البشر مصطفاة بالحكمة الإلهية (والتجلي الأعلى للإله هو الأوروبي ومن تحالف معه في هذه الحالة) وهي وحدها الجديرة بحكم البشر وتحديد مصير هذا الكوكب.

ثم ماذا؟

قد تظن أن في الكلام المتقدم مبالغة، إلا أن هذه جزء من الحقيقة، ولن يكون من المدهش أن تعلم أن معظم صناع قرارات الغرب الحقيقيين بشقيه الأوروبي والأمريكي ينتمون لهذا الفكر المتعالي بتياراته ومدارسه المختلفة، والذي ساهم في تغذيته بجانب الهيجلية أفكار الفيلسوف الألماني “نيتشه” بثلاثيته الشهيرة: الإنسان الأعلى وإرادة القوة كغاية تنتهي إليها كل إرادة حرة، وأخيراً العود الأبدي الذي تنتمي أصوله لعقيدة التناسخ، والذي استبدَل اليوم الآخر في الشرائع السماوية بتكرار لكل ما قمت به في حياتك وإعادة تكرار ذلك للأبد، وبالتالي إذا امتلكت زمام العالم مرة فستظل تكرر هذه الملكية إلى الأبد.

نيتشه

ثم جاءت “الداروينية الاجتماعية” لتنهي أي صراع أخلاقي داخل هذا الكيان المتغطرس، وتحوله إلى حيوان مفترس ذكي، يسعى للاستيلاء على موارد بقية البشر الأضعف كرتبة أدنى في التطور، والقضاء على أولئك الذين لا يستحقون الحياة لا لشيء إلا لأن هذه هي طبيعة الحياة؛ فالأقوى يسود، والبقاء للأصلح ومن وجهة نظر الرجل الأبيض فهو الأصلح للبقاء؛ إذ هو الأقوى والأذكى والأكثر تقدما ومالاً، وعلى بقية البشر أن يختاروا أحد اثنين؛ إما الموت جوعاً وقتلاً ومرضاً، أو الدخول في زمرة عبيد الرجل الأبيض ويعملون كبطاريات تزود آلة بقائه بالوقود.

والشاهد من عرض هذا كله؛ إيضاح مقصدنا بأن صنائع هتلر والحلفاء الذين قاموا بجرائم لا تقل بشاعة عن جرائمه لم تكن في بشاعتها مجرد ظاهرة شاذة في الفلسفة الإنسانية الغربية، وكذلك الاحتلال الصهيوني لفلسطين لا يتعارض عقدياً أو فكرياً مع الرجل الأبيض فهما كيان متقارب منسجم، وكلاهما ينتمي لنفس النطاق الفلسفي والفكري، وإن كان الصهيونية -يهوداً كانوا أو من يعتنقونها كعقيدة من غيرهم، وفيهم عربٌ للأسف- أشد عنصرية ودناءة وغدراً حتى بشعوب الغرب نفسه.

صراعات وحروب.. ما الدوافع؟

في الواقع فإن ما يحدث في العالم من حروب، هو نتيجة مباشرة لهذه الفلسفة التي تلبس ثوب الحملان والدفاع عن حقوق الإنسان، وستتطور استراتيجياتها قريباً -كما تقول بعض الآراء- إلى عمليات إبادة جماعية إذا تسنّى لمن يقودونها وسائل ذلك دون الإضرار بأنفسهم، وتبرير ذلك سيكون الندرة وقلة موارد كوكب الأرض خصوصاً الطاقة، وأنه قريباً لن يكفي ذلك الجميع، ولابد من اتخاذ قرار بمن يمكنه أن يبقى ومن لابد من التخلص منه، وهذا الخفض في عدد سكان الكوكب جاء كتوصيات في مؤتمرات النخبة كـ”نادي روما”-.

منذ عام 1972 بدأ يتردد اسم نادي روما كمنظمة علمية عالمية مرموقة، خصوصاً حين أصدر تقريره الأول الذي جاء بعنوان (القيود على النمو [1]The Limits to Growth) إذ اقترح التقرير أن النمو الاقتصادي لا يمكن أن يستمر إلى أجل غير مسمى بسبب استنفاد الموارد- وكذلك في تقرير هنري كسينجر بخصوص الدول الفقيرة عالية الكثافة السكانية المسمى ” مذكرة الأمن القومي“NSSM-200″، والتي تسمى أيضًا بتقرير كيسنجر. كان موضوعه “آثار النمو السكاني في جميع أنحاء العالم على الأمن الأمريكي والمصالح الخارجية.”[2]  وهذا كذب وافتراء على كوكب الأرض ولكن كل الدراسات الرسمية تدعم هذا الزعم، لكن هناك دراسات أخرى محترمة تنفيه تماماً مثل كتاب [صناعة الجوع: خرافة الندرة، فرانسيس مورلابيه].

هنري كسينجر

الثورات والحروب والأزمات العالمية.. استراتيجية النظام العالمي الجديد

أمر خيالي وموهوم لدرجة المرض بنظرية المؤامرة (التي يغالي فيها البعض لدرجة نسبة كل الأحداث إليها، ويزدريها البعض نفياً لها تماماً، متجاهلين الواقع والحجم الهائل لمجموعة الوثائق والدلائل وتطابقها مع أحداث هذا الواقع في كثير من الأحداث) أليس كذلك؟؛

ولكنها عملية قد بدأت آلياتها تدخل حيز التنفيذ بالفعل منذ عهد الثورات الإنجليزية والفرنسية والأمريكية التي قام بها من يحكمون عالمنا من وقتها حتى اليوم من داخل اتحاد منظمات وجمعيات سرية (بدأت قريباً في الإعلان عن نفسها)، فمعظم ما يحدث الآن في تحولات العالم ونظمه السياسية واقتصادياته هو آليات نتجت عن هذه الثورات وما وقع خلال أحداثها من تغيير في بنية النخبة التي تحكم هذا العالم، وتقوم بتحويل أنظمة الحكم في دوله من وقتها لدمجها داخل نظام عالمي واحد.

لعله من المهم والمفيد أن تدرَس تواريخ الثورات بما فيها الملونة الحديثة والربيع العربي وأحداثها والحروب التي وقعت بعدها، كحروب نابليون والحربين العالميتين، والنظم السياسية والاقتصادية التي تلتها، والديون التي نتجت عنها وأصبحت دول العالم وأولها الولايات المتحدة وانجلترا وفرنسا وألمانيا بسببها في أسر خدمة مديونية ربوية ضخمة للنخبة المالية خصوصاً آل روتشيلد وأذرعهم في أوروبا وأميركا والعالم، والمتمثلة بشكل أساسي في البنوك المركزية برئاسة الاتحاد الفيدرالي الذي يتولى كمؤسسة خاصة طباعة الدولار الذي يعتمد علية اقتصاد العالم كله، وقد تم تحويل معظم احتياطي ذهب العالم إلى خزائنها بعد اتفاقية ”بريتون وودز ” عام 1944م التي جعلت الدولار المعيارَ النقدي الدولي لكل عملات العالم، حيث تعهدت أمريكا بموجب تلك الاتفاقية وأمام دول العالم بأنها تمتلك غطاءً من الذهب يوازي ما تطرحه من دولارات.

المقر الرئيسي للاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأمريكي)

لقد استُبدل احتياطي الذهب بتلك العملة التي لا تساوي الورق الذي طبعت عليه، حتى خرج الرئيس نيكسون في السبعينات على العالم فجأة في مشهد لا يتصوره أحد حتى في أفلام الخيال العلمي ليصدم كل سكان الكرة الأرضية جميعًا بأن الولايات المتحدة لن تسلم حاملي الدولار ما يقابله من ذهب، وليكتشف العالم أن الولايات المتحدة كانت تطبع الدولارات بعيدًا عن وجود غطاء من الذهب وأنها اشترت ثروات الشعوب وامتلكت ثروات العالم بحفنة أوراق خضراء لا غطاء ذهبي لها!

ثم أضف إلى دراسة ذلك التحولات التي تبعت تلك الثورات والحروب في النظام العالمي بداية من القضاء على النظم الملكية وتشكيل عصبة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى ثم الأمم المتحدة بعد الثانية، ثم سقوط الاتحاد السوفيتي وتحول النظام العالمي فعلياً إلى حكم اتحاد شركات عملاقة عابرة للقارات بقوة القطب الأوحد (الولايات المتحدة) ثم الآن وما يحدث من انهيار للنظام الديمقراطي داخل الديمقراطيات الكبرى وتغول الشركات والحديث عن نظام عالمي جديد بعد أن أصاب الشلل النظام الحالي؛ كل هذا ستجده إن تأملته بتفاصيله منتج استراتيجية طويلة المدى، وقد يختلف التكتيك والخطوات والأدوات من وقت لأخر، لكن الإطار العام ثابت وفي اتجاه واحد، وهو تحقيق هدف إقامة سلطة عالمية تشكل الدول فيها ما يشبه الاتحاد العالمي، حيث تعمل حكومات الدول مديرين تنفيذيين للنخبة المالية والصناعية والتكنولوجية في العالم والقوى القديمة التي تولدت عنها هذه النخب! ومن يقاوم ذلك يوضع في جدول الدول المارقة.

هذا التحول بحاجة إلى أزمات كبرى تنتهي بحرب كبرى، أزمات بدأنا نسمع عنها كالأوبئة العالمية وتلوث البيئة العالمي وانهيار الاقتصاد العالمي وضعف نظام الأمم المتحدة، أزمات تحتاج لتحالف وتنسيق دولي ونظام عالمي أقوى فاعلية يمكنه تطبيق القرارات الدولية ولو بالقوة على الدول المارقة والكيانات التي لا تلتزم بقرارات الحكومة العالمية، ديكتاتورية عالمية شمولية ستجعلها الأزمات الطاحنة والحروب العالمية واسعة النطاق مطلباً شعبياً لمعظم سكان الأرض، ولكن يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.


[1] https://www.clubofrome.org/publication/the-limits-to-growth/

[2] https://rawabetcenter.com/archives/107655

حديث خالَف القرآن ظاهرُه، هيا لنردّه!

ليس من الغريب أن تنتشر في زمن السوشيال ميديا مقولات ردّ الأحاديث التي يخالف ظاهرها القرآن، وبالرغم من أن عرض المرويات الحديثيّة على كتاب الله الكريم للفحص والتمحيص له جذورٌ قديمةٌ نسبيًّا إلا أن أسباب جدّته وانبعاثه في هذا الزمن مرة أخرى لا يعود لأهل التخصّص، بل هو مما تعالت به أصوات الحداثيين وجمهرة المناهضين لمنهج المحدّثين، فصار ردّ الحديثِ المخالف لظاهر القرآن عمومًا منهجًا من مناهج الحكم على الحديث صحة وضعفًا متّبعًا لدى طيف واسعٍ من المفكرين المعاصرين، ووصل بانتشار تأثير السوشيال الميديا إلى أعداد كبيرة من الشباب الذين وقعوا في هذه القضية بلا وعي سديد أو استدلال قويم.

إنه زمن السرعة، هذا ما يوصف به عصرنا، طبعًا إلى جانب صفات أخرى كسرعة الوصول إلى المعلومة بضغطة زر، وإمكان تداول الآراء ونشرها، وكسب التعليقات وفتح النقاشات للجميع، ومن ثمّ فإنه يمكن لشخص في هذا العالم الافتراضي المفتوح أن يناقش حديثًا ما أمام جماهير افتراضيّة غفيرةٍ، فيقنعها بضرورة ردّه لأن ظاهره يوهم بمخالفة القرآن.

مخالفة الحديث للقرآن، مثال نظري وتطبيقي

فكرة نقد متن من الأصول النظرية والتطبيقية المهمة في علم الحديث، ومن المؤكد أنّ فقهاء الحنفية كان لهم نظرٌ خاصٌّ في ردّ الأحاديث التي خالفت القرآن والأصول الإسلامية الكبرى، وكانت تطبيقاتهم في هذا المجال مندرجة تحت مسمى “الانقطاع المعنوي”، كما أُلِّفت كتب عديدة لمحاولة فهم الأحاديث النبوية ونقدها ضمن الصور الكلية للدين مثل كتاب: “شرح معاني الآثار” للإمام الطحاوي، إلى جانب الكتب العديدة الأخرى التي أُلِّفت لإظهار التوافق بين الحديث وبين القرآن وعدم إمكان التعارض الجوهري بينهما..

هذا كلّه مما يدل على وجود إحساس عند علماء المسلمين بأن الحديث لا يمكن أن يخالف القرآن؛ وذلك لأن القرآن وحي من الله، إلى جانب الاعتقاد بأن الحديث صادر عن الرسول عليه الصلاة والسلام الخاضع لأمر الله ومراقبته في كل ما يتعلّق بتبليغ الوحي والرسالة، فإن حدث أن يكون ثمّة حديثٌ لا يمكن التوفيق بينه وبين القرآن، فقد نصّ العلماء على أن العقل يحكم برد الحديث المروي.

لكن مهلًا من يحكم، وكيف يحكم، وما المقصود بالمخالفة هنا؟ وهل ما نراه اليوم في البرامج الدينية، أو منشورات المجتمعات الافتراضية -كالفيسبوك وما شاكله- من ادعاءات بأن حديثًا ما مخالفٌ للقرآن وبالتالي يجب رده، هو الوسيلة لتطبيق القاعدة؟

ثمّة أثرٌ مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ابن القيم في كتابه “المنار المنيف” يصحّ أن يكون تمثيلاً لما نحن بصدده، يقول الأثر: (الدنيا سبعة آلاف سنة ونحن في الألف السابعة).

عقّب ابن القيّم على هذا الأثر المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم بالآتي: “وَهَذَا مِنْ أَبْيَنَ الْكِذْبِ لأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ عَالِمًا أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ لِلْقِيَامَةِ مِنْ وَقْتِنَا هذا مئتان وأحد وخمسون سنة والله تعالى يقول: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 187] وقال الله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا اللَّهُ)”.

من المهمّ لفت الانتباه إلى أن ابن القيّم أوردَ هذه الرواية في الأحاديث الموضوعة في كتابه المشهور “المنار المنيف” ضمن الروايات التي حكم بوضعها “صريح القرآن”، علمًا أن كتابه هذا وُضِع في الأساس ليحويَ تطبيقات نظريّة وعمليّة لما اصطلِح عليه لدى علماء الحديث بـ (نقد المتن)، وهنا نلاحظ أن ابن القيّم نقد الحديث المذكور بعرض آيات كثيرة وأحاديث أخرى تخالفه معنىً وواقعًا، ورأى أنه لا وجه البتّة للتوفيق بين هذا الحديث وبين المرويات الأخرى من القرآن والأحاديث الصحيحة والواقع.

منهجيّة الردّ عند علماء الحديث

يجدر بنا الوقوف قليلًا عند هذه المسألة، فردّ الحديث ورفض العمل به خاضع لمنهجيّة دقيقة من دراسة الأسانيد والروايات والمتن، والقول بأن الحديث مخالفٌ للقرآن أمر ليس محكومٌ بالهوى، وكذلك فإن الحكم على الحديث خاضع لمنهجية أصولية وعلمية وليست ضربًا من التخمين أو إبداء الرأي الذي لا يستند إلى منهجية..

ردّ الحديثِ ليس أمرًا سهلاً شأنه كشأن منشورٍ تشاركه أو خطبة عصماء يوردها مقدّم تلفزيوني أو يوتيوبر شهير وهو يتباكى على تسرّب هذا الحديث إلى كليات الحديث الكبرى ولم يُنتَبَه إليه متناسيًا أن العلماء قاموا بتأليف كتب كثيرةٍ لغربلة ما نسبِ إلى ميراث السنّة النبوية من الأحاديث الموضوعة والمعلولة، وبالتأكيد فإنه هذا لا يعني أن العمل في هذا الحقل قد انتهى، إلا أنه في نفس الوقت لا يعني إتاحة المجال لغير المتخصصين ممن أراد أن يصدر أحكامه لمجرد أنه لأمر ما لم يفهم الصلة بينه وبين القرآن.

استفاض الإمام الشاطبي في أثره المشهور الباقي “الموافقات” في الحديث عن ارتباط السنة بالقرآن، أي أنها عائدة إلى الكتاب الإلهي، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام عندما كان يسنّ سننه فإن هذه السنن لها أصل في الكتاب.

إنّ الإشكالية الأساسية هي في كشف هذه الرابطة التي قد تكون خفية في بعض الأحيان، وعدم إدراك شخص ما للعلاقة بينهما لا يعني انعدامها، وهذا ما تقرره القاعدة المشهورة (عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود).

خلطٌ كثير، وأخطاء منهجية

من يحاول أن يردّ حديثًا بناء على ادعاء أن الحديث يخالف القرآن قد يقع في الخلط بين نوعين من الأحاديث، أولهما: حديث مخالف للقرآن، أما النوع الثاني: فعدم ورود موضوع الحديث في القرآن مع وجود أصل له.

لنضرب على ذلك مثالا يتقنه الجميع، حيث لا يمكن لأحد رد أحاديث مواقيت الصلاة أو الأحاديث التي تتكلم عن تفصيلات الحج بدعوى أنها مخالفة للقرآن أو غير موجودة فيه، لأن الموضوع ببساطة أن الحديث فصل الأمر المُجمَل في القرآن.

ولزيادة في التفصيل، يجب التنبّه إلى أن من يحاول رد الحديث بناء على ادعاءات المخالفة يقعون في أخطاء عدة، يمكن إيضاحها في الآتي:

  1. الخطأ في فهم وظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول ليس بساعي بريد يوصل رسالة ثم يذهب، بل إنه مكلَّف بمهمة التبيين وذلك من خلال قول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فالرسول عليه الصلاة والسلام مكلّف بالبيان، والبيان هنا نقل الجانب النظري إلى الجانب التطبيقي، ويؤيد هذا قول السيدة عائشة لمَن سألها عن أخلاق الرسول، (كان خُلُقه القرآن) [أخرجه أحمد في المسند].
  2. الخطأ في الخلط بين الحديث والسنة، وهذا مما يقع فيه كثير من الناس، فالحديث هو الرواية لما قاله الرسول أو فَعَلَه أو قَرَّرَه، غير أن السنة ما رسمه النبي عليه الصلاة والسلام من الهدي والتصرّف ليحتذى ويقتدى به، فالسنة تشير إلى الأمر المطلوب فعله من قِبَل المؤمنين، وبتعبير آخر فإنّ في الحديث ما لا يكون سنّة، إلا أن كل ما في السنّة من الحديث، وهذا مما يعرف بالعموم والخصوص الوجهي لدى علماء الأصول، وعليه فإن الحديث أشمل من السنة لأن الحديث مصدر من مصادر السنة، كما أن هناك مصادر أخرى للسنة كعمل الصحابة.
  3. عدم إدراك طبيعة اللغة العربية، إضافة إلى عدم فهم خصوصية الأساليب اللغوية التي يستعملها النبي عليه الصلاة والسلام، فاللغة العربية بطبيعتها تعتمد على المجاز والأساليب البلاغية التي يجب ألّا تفهَم فهمًا ظاهريًّا محضًا، وهذا الأمر موجود في كثير من أقوال النبي عليه الصلاة والسلام، فكما أننا لا نفهم قوله عليه الصلاة والسلام: (رفقًا بالقوارير) [أخرجه البخاري] على ظاهره من دونِ الغوص في سياقه والمجاز الذي بُنيَ عليه، فكذلك يجب ألا نفهم: قوله (خُلِقَت المرأة مِن ضِلَعٍ) [متّفق عليه] على ظاهره؛ إذ إن أخذ كلا الحديثين ظاهريًّا دون فهم السياق والمرام سيوقعنا في إشكال واضح.

يضاف إلى ما تقدّم أن دعوى رد الحديث ليست دعوى قائمة على ملاحظة ظاهرية بمعنى أنها ليست قائمة على رد الحديث بمجرد أن العقل رأى اختلافًا ما، بل لا بد من فهم الحديث والآية ضمن كلية الموضوع الذي يوضحانه ويتكلمان عنه، ومن بعد ذلك يمكن فهم الحديث والآية في ضوء الصورة الكلية التي تنتج عن الدراسة، ومن ثم يكون إصدار الحكم، وعند ذلك يُقبَل الحكم على أنه حكم اجتهادي قد يصيب المرءُ فيه أو يخطئ.

نقدُ المتن أم نقدُ السند، ما المطلوب؟

ثمة خطأ شائع بين الذين يبادرون لرد الحديث لمخالفة ظاهره القرآن، وهو أن المحدثين لم يهتموا بنقد المتن كما اهتموا بنقد السند، ولذلك ينادون بأنه لا بد من عملية نقد جديدة لنقد المتن!.

إن قائل هذه العبارة –على الأغلب- لا يدرك ذهنية النقد أو الفكر النقدي الذي اتبعه المحدثون في دراسة الأحاديث والحكم عليها، ومع اعترافنا بأن الباب ما زال مفتوحًا لنقد الأسانيد والمتون ذاتها وفق الضوابط العلمية وأصول منهج علم الحديث، إلا أن نقد السند مُنبَنٍ في جزء منه على نقد المتن، فلكي يُعرَف أن شخصًا ما ثقة وضابطٌ -وفق تعريف المحدثين- لا بد أن تكون أحاديثه صحيحة، وهذا يقتضي أولًا غربلة ما رواه وفحصه، إلى جانب متابعة ما يصدُر عنه من مقولات وتصرفات على حدٍّ سواء.

من ناحية أخرى فإن النقد الحديثي ذاته بدأ مع عصر الصحابة، ومن الطبيعي أنه لم يكن في ذلك الوقت إسناد طويلٌ، وبذلك فقد انصبّت الجهود كلّها على نقد جوهر الكلام المرويّ، وقد قدمت السيدة عائشة رضي الله عنها أمثلة عديدة على نقد المرويات التي سمعتها، وقد جمع الإمام الزركشي كتابًا لطيفًا في هذا الموضوع سمّاه “الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة”.

ختامًا، إن مبدأ ردّ الحديث المخالف للقرآن ينتسبُ لمنهج أصيل وقاعدة مهمة في فهم الدين والسنة وفق الأصول العامة والصورة الكلية للدين، إلا أنه لا بد من تحقّق شروط معيّنة ومهمة حتى نحكم بهذه المخالفة، أهمها: تحقّق مفهوم المخالفة حقيقةً، ويظهر ذلك من خلال عدم إمكانية الجمع بين الحديث المذكور وبين الآية أو بين الصورة الكلية المستنبطة من الأدلة المختلفة، إضافة إلى وجود خلل حقيقيٍّ في السندِ الراوي لذلك الحديث، وهذا كله لا يتحقق إلا وفق جهد علمي رصين مع تدقيق وحذر شديدين، إضافة إلى التأكيد على خطورة رد الأحاديث تنفيذًا لأيدولوجيات معينة، والأجدر والحال هكذا أن يترَك هذا الأمر لأهله، فأهل مكة أدرى بشعابها..!

التفكيكية وتعدد الأوجه الوظيفية في نمط المعمارية زها حديد

تُعَدّ المعمارية الراحلة زها حديد -رحمها الله- واحدةً من بين أكثر المعماريات تأثيراً في العمارة المعاصرة حول العالم. وبطبيعة الحال فإن الجدل يكثُر حول ما قدمته من تغييرٍ في مفهوم العمارة والفضاء المعاش والذي ما زال مثير للجدل والنقاش، حيث إن هناك فئة من المفكرين والمعماريين يرون أن أعمالها تفكيكية لا سياق محدد لها، في حين أن باحثين وناقدين آخرين يرون أن أعمالها حالمة للغاية وغير واقعية، بل إنها -إلى جانب ذلك- مكلفة اقتصادياً وأشبه بشراء تحفة فنية بدلاً من بناء مبنى.

هذا الكلام من ناحية عملية مقبول، إذ إن الدول بالفعل تتباهى بوجود مبنىً من تصميم معماري عالمي –كأعمال زها حديد- وكأنها تحفة فنية صُمّمَت لتعرض للناس، إلى جانب ذلك يرى البعض أن أعمالها مقتصرة على الجانب الجمالي من التصميم دون اعتبار كبير للوظيفة من المبنى أو الجانب الاقتصادي، ولا حتى التاريخ الخاص بالمكان والتقاليد والثقافة الخاصة بموقع المبنى وما يحيطه من سياق.

المصدر: aletihadpress.com

 

هل عند زها حديد رؤيا منعشة ومجردة أم رؤيا أيديولوجية؟

وقد تكون بعض هذه الدعاوى صحيحة وقد تكون مقبولة وصالحة للنقاش، إلا أنه من الجيد دراسة توجهات زها حديد الفكرية والفنية ومعرفة سبب اتجاهها لهذه التصاميم.

في مقابلة لها مع الإعلامي ريكاردو كرم -وكانت تفضل فيها التكلم بالانجليزية مع أنها تفهم اللغة العربية- كانت توضح أنها لا تتقيد بالتقاليد الموروثة. (1)، إلا أن من يدرس كلامها وأعمالها يدرك أن توجهها ليس تفكيكيًّا بالكامل، ومن ثمّ فإنه من غير الإنصاف وضع كل أفكارها في خانة التفكيكية العبثية، نظرًا لكون أعمالها التفكيكية موضوعة لهدف وغاية ووظيفة معينة وليست أعمالاً عبثية لا معنى لها، كما سنرى في هذا المقال، إلى جانب ذلك فإن بعض آرائها المعمارية تعد منطقيّةً للغاية وتفتح الأذهان لطرق جديدة في التفكير الهندسي.

ينبغي علينا -قبل الشعور بالتهديد من التفكيك- تعريف كل من “التقليدي”  وتبيين معنى “الإرث الثقافي” وأهميته وأي جزء منه يستحق الاحتفاظ، قبل البدء بتصنيف الأفكار ما بين (تقليدي) و(غير تقليدي).

ربما يمكننا الانطلاق من تحديد (ما هي الثقافة) وما هو الإرث الثقافي، قبل الغوص في ضرورة تقديس التراث وعدم السماح بمساسه.

 

مطار بكين داشينغ الدولي، المصدر: architizer.com

 

ردة الفعل الفكرية للمعماريين فيما بعد الحداثة

لقد كان توجه زها حديد للنزعة التفكيكية طبيعياً في الوقت والظروف التي كانت فيها؛ إذ إنه مع مشارفة تيار الحداثة Modernism على الأفول، ومحاولة بعض المعماريين إعادة إحيائها، أدركت زها حديد مع معلميها ومعماريين آخرين أن تاريخ الفن الحديث توقف عن النمو، فقالت: لقد أحبِطَ تاريخ الحداثة

(The History of Modernism was aborted).  وبالتالي فإنه كان لا بد من القيام بقفزة تالية وإنجاز أعمال معمارية تفسّر الفن الهندسي وغيره من الأمور بطريقة مختلفة، إذ إن تحدي الواقع يتطلب إعادة ابتكار الرسوم والتصورات والتكنولوجيا وتجارب الفضاء المعاش، وكل هذه الخطوات والتوجهات كانت لتطوير منهج ومشروع نظري لفهم الواقع وفهم العصر بشكل مخالف لما كانت عليه تيارات الحداثة.

من المبادئ المهمة لإيجاد معنى حقيقي ومؤثر للمكان، ألّا يكون مبنيًّا على الرتابة المتكررة التي تم اعتمادها في العمارة الحديثة، وبالتالي فإن فكرة التجاور Juxtaposition كانت في غاية الأهمية لتوليد طرق جديدة لفهم الفضاء المعاش وتغيير نمط وسلوك الناس في تصورهم للمكان، من خلال كسر النمط المعتاد ودمج القديم بالحديث وبالتالي إنشاء تصادم كبير وهدم للمقاييس عبر التفكيك.

أي أن التفكيك كان لهدف محدد، وهو إيجاد معنى وتجربة جديدة مختلفة عن النمطية الصناعية التي خلفتها العمارة الحداثية الوظيفية.

من المثير للاهتمام أن في تصميم المبنى الواحد للمعمارية زها حديد، تكون طوابق المبنى مختلفة عن بعضها البعض، والتالي فإن وجود طوابق عديدة في المبنى الواحد لا يعني أن التجربة المعاشة ستكون نمطية في كل الطوابق، وهذا بالضبط هو عنصر المفاجأة في إيجاد معاني ووظائف جديدة للمكان التي يستشعرها المستخدم ويدرك أن المبنى –وحتى الوجود- لا يقتصر على وظائف جامدة محددة مسبقاً.

ME Dubai hotel, the Opus, Dubai, UAE. Source: architizer.com

رأي زها حديد عن العمارة الإسلامية

من الجدير بالاهتمام أن زها قد سُئلت في مقابلة معها عن رأيها في العمارة الإسلامية -بما أنها عراقية الأصل- وقد يتصور للكثيرين أنها بعيدة كل البعد عن الهندسة المعمارية الإسلامية الشرقية التقليدية، إلا أنه كان مهمًّا فهم رؤيتها لهذا الفن الهندسي.

تقول المعمارية: إنها ليست منفصلة عنه كثيراً؛ لأن الكثير من المهندسين العصريين تأثروا بالهندسة المعمارية الإسلامية. وأوضحت أنها ليست متأثرة بطريقة واضحة وشكلية بفن الخط والكتابة إلا أنه لا شك أن فكرة سلاسة الخط وسيولته موجود في رسوماتها وتصاميمها. حيث إنها تستلهم الأفكار التجريدية والتنظيمية بدلاً من النتائج الشكلية. وبالتالي فثمة تأثير من العمارة الإسلامية في أعمالها، فهي توضح أنها تتعلم وتتأثر بطريقة واستراتيجية التصميم وتنظيم المساحات بدلاً من التعلم والاستلهام مما تسميه بـ”الهندسة المعمارية الإسلامية الفولوكلورية والتقليدية”.

الهندسة تعكس لغة العصر

تكمل حديثها وتقول إن الهندسة تعكس العصر الذي نعيش فيه الآن، ونحن الآن لا نعيش بالطريقة ذاتها التي كنا نعيش فيها قبل 3 آلاف سنة. تنبّه مُحاور المقابلة لهذا الكلام وقال لها “لكن هذا هو إرثنا”، إلا أن المعمارية كانت ثابتة في تأكيد أن الحفاظ على التراث يكون عند الضرورة وبوجود وظيفة معينة له، وهي ليست مقتنعة بالفلوكلورية وربطها بالطراز الإسلامي. وتؤكد ذلك وتقول: “أنا آسفة لكن إن لم يكن كلامي صحيحاً فإن هذا يعني أنه لا يمكن للعالم الإسلامي التقدم لأنه متمسك بتراثه، لا يمكن الجمع بين الإرث والحداثة إلا من خلال استخدام أفكار التراث في تنظيم المساحات الحديثة”.

Niederhafen River Promenade, Hamburg, Germany. Source: architizer.com. Photographer: ©PietNiemann. Source: architonic.com

 

أما عن رأيها بالمعماريين العرب الذين يحاولون الدمج بين الحداثة والتراث، مثل المعماري رفعت جادرجي و د. راسم بدران وحسن فتحي وعاصم سلام، فقد أشادت أنها قد تعجب ببعض أعمالهم إلا أن انتقادها هو لتوجههم الفكري وليس لأعمالهم بشكل تقني، فقد يحترف أحدهم في إعادة تصميم التراث لكن مع ذلك فإن النقد هو ليس للعمل بعينه بل للتوجه. فليس كل ما هو قديم يعني أنه جيد في النهاية، وتظن أن اتجاه الكثير من المعماريين في هذا العمل فظيع ومريع.

نقد توجهات العمارة الإسلامية

لتأكيد وجهة نظرها بطريقة موضوعية ولتثبت أنها ليست معادية للطراز الإسلامي وأنها تحاول توضيح طريقة ومنهج فكري لإنقاذ الطراز الإسلامي من حصره بشكل ونمط معين، تقول: إنه من الجيد التعلم من التراث في فهم كيفية تنظيم المدينة وكيفية العيش وفقاً لطرق واستراتيجية التنظيم، وحتى تتكون أفكار ملهمة ذات معنى مناسب للعصر وناجحة لا تناقض فيها.

ترى أن هذا التوجه أفضل من جعل الإرث أداة للتزيين، وذلك لئلا تبنى ناطحات سحاب عليها أقواس خارجية بهدف تسمية ذلك بـ”الطراز الإسلامي”، إذ إنها ترى أنه لا يمكن حصر الطراز الإسلامي بأشكال معينة وإن كانت بعض الأشكال المعهودة جزءًا من الطراز بصورة عامة، وذلك بهدف التجديد وعدم الجمود، إذ ليس الهدف هو التخلص من الجماليات أو التخلص من الطراز الموروث، وإنما إعادة النظر في الاجتهاد البشري المعماري الذي فرضت أشكالاً كبيرة منه الأحوال التاريخية والبشرية ووضعته موضع التقديس.

CityLife Shopping District, Milan, Italy. Source: architizer.com

في ختام المطاف، فإن اجتهادات زها قد يوافقها البعض، ومن الطبيعي أن ينتقد آراءها آخرون، فهي تقول وجهة نظرها وهي قابلة للأخذ والترك. إلا أنها تفتح آفاق للنظر بكيفية ربط تصورات الإنسان الحديث بالمكان وكيفية إنشاء معنى للوجود وتوضح الطرق التي ينشأ بها هذا المعنى، وتقربه في الوقت ذاته لفهم المسلم المعاصر بطريقة تجعله يتقبل تراثه ويحترمه، مع حرصها على ألّا يحصره بأنماط أو أشكال وأزمان محددة.


الإحالات:

(1) مقابلة في برنامج Zaha Hadid | وراء الوجوه – مقابلة مع زها حديد: https://www.youtube.com/watch?v=Av__gx3i8vc&t=1817s

كيف تبنى الخديعة في قضية فصل الدين عن السياسة؟

لا يمكن وصف مسألة (فصل الدين عن السياسة) بوصف أدقّ من أنها (وهم) وتلاعب بالألفاظ؛ ذلك أن هذه المقولة بحد ذاتها بمثابة الاعتقاد الديني إلا أنه من منشأ دنيوي (عالماني) لمن يعتنقها، ومن نافلة القول الإشارة إلى أن هذه الفكرة قد نشأت وتصاعدت ردًّا على الارتباط الوثيق بين حُكم رجال الكنيسة الكاثوليكية وبين طبقة الحكّام في أوروبا وتوليهم أمور السياسة في أوروبا، كما أنها كانت نتاجًا لتحول في عقيدة المجتمع قاده فلاسفة أرادوا للعقل البشري أن يكون المصدر الأول للتشريع، بعد قرون من ممارسات لا عقلانية من رجال الدين في شؤون السياسة والمجتمع ومحاربتهم لكل خروج عن تفسيراتهم للحق الإلهي، واحتكارهم علوم الدين وما ينبغي للعلوم الطبيعية أن تصرح به وما يجب اعتباره هرطقة وتجديف لمخالفته الكنيسة من تلك العلوم حتى لو ثبت صحته بالتجربة العلمية، فظهرت فلسفة الحق الطبيعي ضد الحق الإلهي، وسادت الفلسفة الإنسانية العالمانية التي نصَّبت العقل الإنساني كمرجعية نهائية للتشريع والسلوك والحكم إلهاً دنيويا ليحل مقام الميتافيزيقي المتعالي الإلهي الكنسي، في ثورة جددت شروط العقد الاجتماعي ونظم السياسة في الحضارة الغربية.

إن المطالب بهذا الفصل مُطالَب هو أيضًا بتطبيقه كما يفعل من يطالب بتطبيق الشريعة، فكلاهما يطالب بتطبيق ما يؤمن أنه الأصلح للحكم، والتلاعب اللفظي في الجملة واضح، إذ المقصود فصل (الشرائع السماوية) التي لا يؤمن بها دين العالمانية عن سياسة الشعب، فهو دين يريد أن يحتل مكانة دين آخر في مصادر التشريع..

الدين والسياسة، هل من فَصْلٍ؟

في واقع الحال فإنه من المستحيل الوصول إلى فصل للدين -أي دين- عن السياسة، فكل التشريعات والقوانين البشرية الوضعية السياسية، مصدرها الأصلي ما يدين به ويعتقده المشرعون، وما تلتزمه الدولة من عقيدة سواء أكانت سماوية أو بشرية مصدرًا للحكم، وعلى أساسها يقوم بناء الدولة كله وبه ينظّم مجتمعها، فالزعم بأن العالمانية ليست ديناً ينبعث من أحد سببين: إما القُصور في فهم ماهية الدين أو التلاعب لفظي.

إلى جانب ذلك فإن الزعم بأن العالمانيّة تقف على حياد موضوعي من كل الديانات هو زعم –آخر- أفضل ما يقال عنه إنه خيالي ومستعلٍ لا يمت للواقع بعلاقة أو صلة؛ إذ أن العقيدة العالمانية تتغلغل بالفعل في صميم المجتمعات العالمانية، بدءًا من المناهج التعليمية التي تشكل وعي الأطفال حتى الأطر والقوانين التي تنظّم العلاقات الاجتماعية، وقوانين الاقتصاد والتجارة وكل شؤون الفرد والأسرة والمجتمع.

لترسيخ ذلك كله، فإن الماكينة الإعلامية لدول العالمانية تعمل ليل نهار على ترسيخ مفاهيمها، وكل خروج عنها أو محاولة نشر قيم دينية مخالفة لها يقابَل بالقمع من قبل الدولة (كما هو مشهور في مسألة النقاب في بعض الدول العالمانية واعتباره مظهراً يتناقض مع قيم المجتمعات العالمانية، وخصوصاً اللائكية الفرنسية)، ولن يغيب عنّا أن الممارسات العنيفة التي تتبعها دول العالمانية قد تتجاوز حدود الخيال، فالحروب الدموية وعمليات الإبادة التي تمت في حق المؤمنين بالكنيسة بعد الثورة الفرنسية، وتلك التي كانت بعد الثورة البلشفية في حق المؤمنين بالديانات السماوية معروفة ومسجلة ولا أحد ينكرها من الباحثين والمؤرخين، ومن ثم فإن الزعم الساذج بسماحة العالمانية وقبولها لجميع الأديان تدحضه أحداث التاريخ القديم والحديث. فإذا لم تعتبر تلك الممارسات ديناً يحارب ديناً آخر، فإنما هذا من تلبيس بعضهم في تعريف الدين وحصره فقط في الشرائع السماوية.

مفهوم الدين

للدين معان متعددة وتعريفات مختلفة، إلا أن مفهومه العام يتأطر في الإذعان لوجودٍ أو تصوّر ما، وبذلك فإن مفهوم الدين ليس مفهوماً ينطبق فقط على الشرائع السماوية، بل أنه كل ما يدين ويؤمن به المرء في أمور الدنيا والآخرة ويشكّل منظومة معتقداته والسلوك والأخلاق والتعاملات التي تنتظم بها حياته، سواء أكان مؤمناً بالله واليوم الآخر أم لا، كما قال تعالى لمن كفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ]الكافرون: [6فسمى ما هم عليه بـ “الدين” بالرغم من عدم إيمانهم.

إن الدولة حتى في ادعاء حياديتها فهذا الحياد المزعوم هو دين وأيديولوجيا دنيوية تتعالى على الدين بمفهومه السماوي وتفرض عقيدة تزعم سماحتها مع جميع الأطراف، لكن تطبيقاتها الواقعية تثبت أن هذه السماحة والحيادية تنتهي إذا ما انتشرت عقيدة مخالفة لعالمانيتها في المجتمع _أحداث فرنسا الأخيرة وإجراءات ماكرون دليل صارخ على ذلك_ فلا توجد عقيدة تعتنقها دولة يمكن أن تسمح بانتشار أخرى!

ففصل الدين عن السياسة بل وعن كل جوانب الحياة ممتنع في ذاته، ونظرية خيالية تفترض أن السياسات والقوانين والتشريعات الوضعية موضوعية وبمعزل عن عقيدة المشرع الذي وضعها وعن إيمان أولئك الذين يسوسون المجتمع.

وعليه فإن دعاوى فصل الدين عن السياسة والسياسة عن الدين، أمر لا وجود له في الواقع، ولو تم زعم إمكانية تحقيقه فهذا جهل أو خداع، فكل سياسة لابد وأن تنطلق من عقيدة (دين)، فلابد من إيمان بغاية ما للسياسة؛ تلك الرؤية الاجتماعية التي يتم بها هندسة المجتمع، والغاية التي تنشدها السلطة للمجتمع ورضي المجتمع بالانصياع للسلطة لأجل تحقيقها؛ سواء قلت دولة مدنية عالمانية ليبرالية تعددية ديمقراطية، أو اشتراكية شمولية فاشية نازية شيوعية؛ أو إسلامية ومسيحية ويهودية؛ فهذه كلها غايات دينية عقائدية لحركة المجتمع، تندرج تحت المعنى العام للدين، فالدين بشكل عام هو رؤية شاملة للحياة، سواء كانت رؤية تؤمن بالله واليوم الآخر وتحكم بالشرائع السماوية، أو كانت رؤية دنيوية ذات مرجعية ديمقراطية ليبرالية فردية أو اشتراكية شيوعية شمولية؛ جميعهم يحدد اتجاه حركة المجتمع وغاياته وآليات حركة تدفق العلاقات والتعاملات فيه والمرجعية الشرعية التي سيحتكم إليها كل فرد ينتمي لهذا المجتمع!

المدنية بين الدين  والعالمانية، رديف أم مناهض؟

إن محاولة جعل الدين -بوصفه ديناً سماوياً- ضد الدولة المدنية -التي تُعرف بكونها نقيضًا للدولة ذات المرجعية الدينية- هو نوع من الخداع! بل هما دين سماوي ضد دين دنيوي وهذه هي حقيقة الصراع.

من ناحية أخرى فإن ادعاء أن المدنية تقتصر على تعريف العالمانية لها هو ادعاء باطل، لأن المدنية غاية اجتماعية مشتركة وليست رديفاً للعالمانية، فشرائع الأديان السماوية إنما هي لتحقيق المجتمع المدني المنظم السليم وتوفير ما يضمن حفظه وأمنه واستقراره الديني والثقافي والأخلاقي والسلوكي، وضمان نموه بتنفيذ تلك الشرائع السماوية، بينما في المقابل تزعم العلمانية رؤية نقيضة إنسانية تمنح الشرعية للحق الطبيعي لا الحق الإلهي. فهل سمعت أي اعتراض على تسمية الدولة الإسلامية الأولى (دولة المدينة) وصرخ “لا بل نريدها دولة الدين؟ لأن المدينة من المدنية وهي مصطلح كافر”؛ لن تجد أبداً مثل ذلك لأن المدينة والمدنية ليست بالأساس ضد الدين، وإنما عمل الدين في المدينة هو تنظيمها وفق أحكامه وشرائعه! كمثل ما تدعي العلمانية فعله في المجتمع.

كما ارتبطت العالمانية بالعلم لا لأنها مشتقة منه كما يحسب البعض، فالعالمانية من الدنيوية والدهرية والعالَم لا من العِلم، لكن الحكم بها واكب نهضة علمية في مقابل قمع الكنيسة للعلماء المخالفين لتعاليمها في نتائجهم وملاحظاتهم العلمية التجريبية، حتى تم الانقلاب على الكنيسة التي وصلت لحالة من الاستبداد والتخلف والحرص على نشر الجهل لم يعد أحد يستطيع تحملها. فظن البعض لدينا ونتيجة ترجمتها المغلوطة ب (العِلمانية) بكسر العين أنها حركة علمية في مقابل تعسف الدين ورفضه للعلم، وليس صحيحاً ف Secularism تعني دنيوية أي المرجعية هي العالم أو الدنيا ومادتها وقوانينها، فالصحيح أنها (عالمانية) لا عِلمانية والأصح أنها وكما سماها علماؤنا من السلف الصالح (دهرية) لكونها في نسختها الأصلية أو كما يعرفها البعض بوصفها عالمانية شاملة في مقابل عالمانية جزئية؛ هي نفس عقيدة من قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24].

ومن المهم وضوحه في هذا الصراع الدائر الأبدي منذ هبط آدم وزوجه وانتشرت ذريتهما في الأرض؛ أن العالمانية ليست دينًا أوروبيًّا جديدًا، وإنما هي نفسها دين “الدهرية” التي هي ملة معروفة منذ شهد التاريخ عملية تدوينه، ولها في كل مرحلة اسم اشتهرت به، وهي ليست مرادفة للمدنية، فالمدنية غاية أي مجتمع يترقى من البداوة للحضر ثم المدنية، فهي مرحلة اجتماعية يكون فيها المجتمع في ذروة نموه وتطوره وازدهاره. وإنما ارتبطت بالعالمانية وظهرت كنقيض للدين، لأن الحكم السائد قبل ظهور المدنية الغربية كان لرجال دين الكنيسة في أوروبا، والتحول للحالة المدنية والعقد الاجتماعي صاحب الثورات العالمانية الإنجليزية والفرنسية والأمريكية والبلشفية وغيرها.

بين تهمة النسوية ومخاوف الالتزام.. أين تذهب الفتاة المسلمة؟

بعد عدد لا بأس به من الشبهات التي وردتني، والقصص التي اطلعت عليها من صديقاتي ومَن حولي، وجدت إشكالاً متكرراً لدى الفتيات اليوم، فشريحةٌ كبيرةٌ منهنّ واقعةٌ بين تصوّر مغلوط عن الالتزام تخشى الاقتراب منه، وبين تهمة النسوية التي تتجنب أن توصف بها، فتكون الفتاة في مكانٍ ترى فيه المتديّنات متشددات يعِشْن في عالم آخر، والنسويّات منفلتات يدعين إلى الفاحشة والرذيلة، بينما هي ذاتها تحمل أسئلة وشبهات تخشى الإفصاح عنها أمام أحدٍ لئلا يسحبها أيّ من الفريقين إليه.

ولذا رأيت أن أوجّه لهؤلاء الفتيات اللواتي يرفضن الفكر النسوي، ويردن الله ورسوله والدار الآخرة ولا يعرفن كيف السبيل إلى مبتغاهن هذه المقالة، وعسى الله ينير دربنا جميعاً ويتقبل منا.

اعلمي أولاً يا عزيزتي أن مطلبك ليس بالبسيط ولا بالقليل، أنتِ تريدين رضا مولاكِ العليِّ القدير، وجنته التي عرضها السماوات والأرض التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، تريدين في هذه الدنيا حياةً مطمئنة وفي الموت تثبيتاً وفي البعث أمناً وفي النهاية شربة من حوض المصطفى وجواراً له في دار النعيم حيث لأهلها ما يشاؤون والمزيد. فمطلبك إذاً يستحق الجهد والعمل، وتهون لأجله المشقة والألم، فضعي هذا نصب عينيك، ثم امضِ رعاك الله.

أما وقد وضعنا الهدف المرجوّ أمامنا فلنتحدث عن الخيارين الذين تتجنبين الوقوع فيهما.

تصورات مغلوطة عن الالتزام

حين يتخيل كثيرٌ من الناس صورة الشاب المتدين فإنه لا يرى إلا رجلاً متجهماً في ثوبٍ ذي طراز معيّن مع غطاء رأس، لا يبدأ كلامه إلا بـ “يا أخي” أو “يا أختي”، ولا يتحدث إلا بالفصحى المتقعرة، ولا يقضي يومه إلا في المساجد والحلقات، لا يجيد تكوين العلاقات الاجتماعية، ولا هو طيب المعشر ولا يبتسم لغيره ولا يعرف كيف يعيش الحياة الواقعية كإنسانٍ متوازن وسوي. وكثيرٌ من تلك التصورات تنطبق بشكل تلقائي على ما هو شائع في الأذهان عن الفتاة الملتزمة التي اعتزلت الناس واختلفت عنهم بكل شيءٍ ثم لم تعد قادرة على التعامل معهم حتى.

وإن كان التدين والالتزام يدعونا لنبذ العادات والتقاليد الجاهلية، وإعادة التفكير بكثيرٍ من الموروثات الاجتماعية، فإنه من المهم معرفة مصادر ما نحمله من تصورات عن الإنسان الملتزم، فعلى مرِّ عقودٍ من التعرض لضخّ منتجات الإعلام العربي العلماني المؤدلج رُبِط التدين والالتزام بصور نمطية سلبية كثيرة تغلغلت في أذهان الناس، حتى بات من الصعب عليهم الانفكاك عنها أو تخيل الواقع بخلافها، رغم أنها بعيدةٌ عن الحال الحقيقية التي نعيشه ونراها، فكم من طالب علمٍ ملتحٍ بشوشٍ يوزع الحلويات على أطفال حيه كل أسبوع، وكم من فتاة ملتزمة بحجابها الشرعي وحضور حلقات العلم تمكنت من التأثير بأسرتها ومحيطها الضيق وتحبيب كتاب الله وسنة رسوله لهم، وكم من طالب علمٍ يجتهد ليوازن بين مسعاه وبين الارتباط بالواقع ورحمة غيره والاقتداء بخلق نبيه الذي قال: (المؤمن يأْلَف ويُؤْلَف، ولا خير فيمن لا يأْلَف ولا يُؤْلَف) [رواه أحمد وصححه الألباني]، وقال: (المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) [رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه].

وإن كان في المجتمع قلةٌ ممن يشبهون صور الالتزام النمطية ببعض الجوانب، فما ذاك إلا لنقصٍ عندهم، وضعفٍ لديهم يحتاجون للاجتهاد على تجاوزه وسدّه، لأنهم بشرٌ ككل الناس، يخطئون ويصيبون، لم يبلغوا بوصف الالتزام مرتبة الأنبياء ولا تحولوا بها إلا ممثلين عن الدين الحنيف في كل حركاتهم وسكناتهم، لكن اجتهادهم ذاك يظل محموداً لأنه في سبيل الله وسعياً للتقرب إليه، ودربُ إصلاح النفس والمجتمع سواء سمّيناه التزاماً أم طلب علمٍ أم بحثاً عن السنة أو اقتداءً بالصالحين هو الذي نحتاج جميعاً لسلوكه لنكون مؤمنين بالله على علمٍ وداعين إلى دينه في كل مجالات حياتنا كما يحب سبحانه ويرضى.

التجنب المبالغ به لتهمة النسوية

رغم وجود الإشكالات الكبيرة التي سببها الفكر النسوي، وتسرب آثار وانعكاسات هذه الحركات إلى عقول ومشاعر فتياتنا، فإن كثيراً منهنّ لم تعِ من هذا الفكر إلا الخوف من تهمته في أي فعلٍ أو فكرةٍ تحملها، فصارت تخشى الإفصاح عمّا لديها من أسئلة وإشكالات أو التعبير عن التناقض الذي يعتصر دواخلها؛ وذلك لئلا توصَم بتهمة النسوية، أو لئلا تصنّف ضمن زمرة لا تحبها ولا ترضاها.

ولذلك أود هنا تقديم تعريف مختصر للنسوية لأوضح لأي فتاة ذات أسئلة، وفي حاجة للتعبير والإبانة عنها أن ذاك أمرٌ ضروري ولازم ولا علاقة له بالنسوية بغض النظر عما قد يقال أو ينسب للفتاة بسببها.

بدأ ظهور أول موجات النسوية في أواخر القرن التاسع عشر باعتبارها رد فعلٍ نفسي وعمليٍ طبيعي على تهميش النساء وظلمهن في المجتمع الغربي، حيث كنّ يُمنَعْنَ من التملك والانتخاب والتعليم وأيّ مشاركة غير أنثوية في المجتمع، ثمّ تحولت الحركة مع الرفض الذي واجهته والاستغلال الذي تعرّضت له من حركة حقوقية إلى تيارٍ مناهض للسلطوية الذكورية والتحكّم الرجالي، فصارت حركة متعصبة ضد الرجل بجنسه، وتحولت إلى المطالبة بالتسوية والتساوي، والمناداة بالتمرد على الطبيعة الذكورية وخصائصها وأدوارها.[i]

لم يتوقف تعصب النسوية على الرجال، بل امتد ليشمل النساء أنفسهن، والدعوة لتحوير طباعهن الأنثوية وما يوافقها من مهامٍ ليتشبّهن بالرجال الذين صاروا بنظر النسوية مثلاً أعلى وقدوة، فصارت الذكورية ذاتها معياراً للقوة والأهلية، وكلما شابهتها المرأة واتصفت بها كانت نسوية بحق. وانتشرت ظواهر استرجال انساء إمعاناً في المغالبة الجنسية وإثباتاً للكفاءة، وازدادت شراسة مطالب المساواة وخفت صوت مطالب العدل. فلم تعد النسوية تعنى بتحصيل الحقوق المسلوبة أو المشاركة المجتمعية الطبيعية، إنما صار سعيها وراء التكافؤ مع جنس الرجال رغماً عن النساء والوقوف بنديةٍ أمامه بأي ثمن![ii]

أما اليوم فقد تفاقمت عصبيات النسوية حتى صارت في الغرب ولدى تابعاتها في الشرق تطالب بتقديس حرية المرأة المجرّدة، وترى في زواجها وأمومتها وتربيتها لأولادها قيوداً ينبغي تجاوزها عبر إتاحة الزنا المفتوح دون أي التزامات، وتشريع قوانين تسمح بالإجهاض، بل وتغطّيه بالتأمينات الصحية، وتتيح استخدام حبوب منع الحمل للفتيات منذ سن الثانية عشرة بغض النظر عن آثار ذلك المدمرة على المجتمعات بأسرها.[iii]

ومن تلك المسيرةِ وترافقاً معها انطلقت الأدبيات النسوية واستمرّ الفكر النسوي بآثاره المدمرة اليوم، فهو وإن كان له حاجةٌ حين ظهر في الغرب، فتلك الحاجة انتهت حين حقق مساعيه الأولى، أما في ظل شرع الله الذي نريد العودة له؛ فلا حاجة لدعاوى نسوية من أساسها، ولا دور لمطالب التسوية أو استرداد الحقوق انطلاقاً من أهواء أو قيم علمانية سائلة؛ إذ {الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 71]، وحيث المرأة والرجل متكاملان لا يسعيان للتنافس ولا مكان بينهم للندية، وإن كان المجتمع ابتعد عن ذلك فالحل بالعودة إليه عبر رفع شرع الله فوق البشر لا عبر استبداله بمزيد من الجاهليات المستوردة التي لا تناسب زماننا ولا ثقافتنا.

ومن ثم –بعد هذا الشرح عن النسوية- ينبغي أن يكون واضحاً لكل فتاة مسلمةٍ تسعى لرضا مولاها أن سؤالها عن شبهات تسربت إليها لا علاقة له بالنسوية وحقيقتها، فدين الله لا يأمرها بالالتزام بمعايير مجتمعية ظالمة تأمرها بالصمت والقعود عن طلب العلم، ولا يمنعها عن دورها كمربيةٍ ومعلمةٍ وداعية إلى الله بحسب مجالها وقدرتها واستطاعتها.

هذه الأفعال لن تجعلك نسوية

أختم هذا المقال برسالةٍ لكل فتاة مسلمةٍ تسعى لأن تلقى الله بقلبٍ سليم، فأقول لها: أفهم تماماً يا عزيزتي أن حياءك زينة لا تقدر بثمن، وأنَّك تأنفين الجدال، وتترفعين عن لغو الكلام، وتعتزين بأنوثتك عن صغائر الأمور والأفعال، لكن هذا كله ليس مانعاً من السؤال والتعبير والإبانة وطلب العلم الشرعي والبحث والاستشارة عما لكِ وما عليكِ، وعما لا يسعك جهله من واجباتك وحقوقك، فسعيك لتكوني من المؤمنات اللواتي أثنى الله تبارك وتعالى عليهنّ بالغفلة في الآيات الكريمات لا يعني الغفلة عن مكانتك في شرع الله، ولا يعني امتناعك عن المطالبة بحاجاتك التي تتعب نفسك من إنكارك لها وترفّعك عن الاعتراف بوجودها، وكونك مؤمنةٌ تقيّة لا يعني أن تنكري الشبهات التي تدور في خلدك لأنك تريدين أن تطابقي الوصف المشهور للمسلمة التي وُلِدت مطمئنة بالدين الحق، لم تدخل عليها شبهةٌ ولم تسمع بفتنة ولم يساورها شكٌ أبداً.

قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: (نعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ) [أخرجه مسلم]، وسألت امرأة رسول الله: (يا رسولَ اللَّهِ! إنَّ اللَّهِ لا يستَحي مِنَ الحقِّ، هل على المرأةِ غُسلٌ إذا هيَ احتَلَمت؟ قالَ: نعَم إذا رأَتِ الماءَ فضحِكَت أمُّ سلمةَ، فقالت: أتَحتَلِمُ المرأةُ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ: ففيمَ يشبِهُها الولَدُ) [أخرجه النسائي]، وفي مسند الإمام أحمد عن يزيد بن بابنوس أنه قال: (ذَهَبتُ أنا وصاحِبٌ لي إلى عائِشةَ فاستَأْذَنَّا عليها، فألقَتْ لنا وِسادةً، وجَذَبَتْ إليها الحِجابَ، فقال صاحِبي: يا أُمَّ المُؤمِنينَ، ما تقولينَ في العَراكِ؟ قالَتْ: وما العَراكُ؟ وضرَبْتُ مَنْكِبَ صاحِبي، فقالَتْ: مَهْ، آذَيتَ أخاكَ! ثم قالَتْ: ما العَراكُ؟! المَحيضُ، قولوا: ما قال اللهُ: المَحيضُ، ثم قالَتْ: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يتَوَشَّحُني، ويَنالُ مِن رَأْسي، وبَيْني وبَيْنَه ثَوبٌ، وأنا حائِضٌ).

وكذلك كانت نساء خير القرون يطلبن العلم ويعلّمنه ولا يمنعهنّ من ذلك خوف مما قد يقال أو توقف عند أعرافٍ جاهلية جاء شرع الله ليشذبها ولا يبقي منها إلا ما يرضيه. ووجودُ تهمٍ يتناقلها الناس اليوم لا يبدل من ذلك شيئاً، خصوصاً والفتاة باتت في حاجة أكبر لطلب العلم والبحث في الأحكام الشرعية التي تلزم المرأة المسلمة ولا يسعها جهلها ومعرفة الخلاف فيها، إلى جانب دراسة التاريخ الإسلامي من مصادره المعتبرة التي تروي الأحداث كما هي دون تقسيمها إلى أفعال الذكور والإناث، ثم سؤال أهل العلم للوصول إلى الحق ورضا الله، والمتعلّمات كذلك في حاجة أكبر لنشر ما رزقن من علمٍ والدعوة إليه.


الهوامش

[i] د. هدى النمر. قضية المرأة بين الشريعة الإسلامية وسجالات النسوية. ص43

[ii] المصدر السابق

[iii] د. هدى النمر. قضية المرأة بين الشريعة الإسلامية وسجالات النسوية. ص44

وللاطلاع على قصة النسوية بأسلوب سهل ومبسط أنصح ببرنامج النسوية للدكتور البشير عصام المراكشي على يوتيوب

أمسِك عليك نفسك ودينك!

ما كان لله سبحانه وتعالى بعد أن خلق عباده وصورهم وكرمهم ورزقهم أن يتركهم في تيه أو حيرة من خلقهم، أو أن يتركهم عُميًا عن نفوسهم التي ستكون لصيقة بهم طوال رحلتهم، وإنما بيّن لهم هذه النفس، وفصّل لهم أحوالها وآمالها وضعفها، وكذا عرّفهم أن هذه النفس قد تلتزم طريق الله فتسعد، أو أن تحيد عنه فتشقى. فكانوا على معرفة بها وبطريق هدايتها، والأدوات التي ستساعدها على التزام هذا الطريق، فالله سبحانه يقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس، ٧]، {وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَيْنِ} [البلد، ١٠]، والذي سواها سبحانه وتعالى وهو أعلم بها منها، وألهمها فجورها وتقواها، وخلق فيها القدرة على إتيان ما تشاء منهما، وأن تسلك أي النجدين تريد، قد قرر لها دِينا تتنزل منه شرائع متتالية بحسب الزمان والمكان.

البحث عن الحق

إن من مقاصد الشرائع الربانية ورسالات الأنبياء أن تَعْلم النفوس الخير فتطلبه، والشر فتحيد عنه، وأن تقف على عوامل التزكية والتقوى فتسعى لملء كيانها بها، وتقوم على سياسة النفس الإنسانية وترويضها، لئلا تطغى وتُجرم في حق نفسها أو في حق غيرها، فإن لم تتهذّب الأنفس بترغيب في الثواب، هُذبت بتخويف من العقاب، وإن لم يُجْدِ التخويف بعذاب الآخرة، عوقبت في الدنيا بما يزجرها ويمنعها عن تكرار الخطأ.

فإذا رفضت النفس الالتزام بالدين الذي يضبط أفعالها وأقوالها، ويأخذ بفطرتها إلى حيث تنفع وتنتفع، ويحد من جموحها ويهذب نياتها وإرادتها، ويحدد لها أهدافا عالية، تترفع بها وتمتاز عن غيرها من المخلوقات، اضطرت في أحسن الأحوال إلى تقنين قوانين تحاول بها ضبط معيشتها، وتنزلها منزلة المأمور المطيع، فما خلق العبد إلا ليكون في ميدان الامتحان، مطيعًا ساعيًا للخلاص في أدنى المراتب، وطالبًا للتميّز والقرب في أعلاها، فإذا حاول العبد أن يتملّص من عبوديته لله، فإن خلاصه من هذه العبودية لن يكون بالإنكار أو السعي للتملّص كما يظن، إذ إن الإنسان لن يجد بُدًّا من العبودية لشيء ما آخر غير الله الخالق، طوعًا أو كرها، إذ إن هذا ما جُبل عليه الإنسان، فإما أن يكون مخبِتًا لله، أو أن تستعبده تفاصيل أخرى في هذا الوجود، وما أكثر ما يستعبد الإنسان في هذه الدنيا.

يقول الله سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم، ٣٠]. ومما ورد في تفسير هذه الآية ما ذكره الطبري في تفسيره بأن الله ينادي النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسدد وجهه نحو الوجه الذي وجهه إليه ربه ليكون رهن إشارته وطاعته، ومدار ذلك كله هو (الدين)، {حَنِيفًا} مستقيمًا لدينه وطاعته. {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، أي صنعة الله التي خلق الناس عليها، أي أن الله يقول للنبي صلى الله عليه وسلم أقم وجهك للدين حنيفا فإن الله فطر الناس على ذلك فطرة وجعلها في أصل تكوينهم.

{ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، إن إقامتك وجهك للدين حنيفا غير مغير ولا مبدل هو الدين القويم المستقيم الذي لا عوج فيه عن الاستقامة، {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، بأن الدين القيّم هو الدين الحق دون سائر الأديان غيره [جامع البيان عن تأويل آي القران، ج٦، ١٠٤].

ضبط أوتار الحياة

لنسأل أنفسنا، لو لم تكن هناك رسالات من الله إلى البشر، ولو لم يكن هناك أنبياء يبلّغون ما آتاهم الله للناس، فكيف ستكون أحوالهم وعباداتهم وعاداتهم؟

إن الناس بالرغم من وجود الرسل عاندوا وضلّوا وأضلوا، وسيكون حالهم بدون الدين أشد وأدهى، إذ سيكون تعاطي النفس البشرية مع المُجريات والظواهر حولها إما بضعف شديد أو بفجور شديد، وضعفها ينبع من هامشيتها في هذه الحال وعدم استنادها إلى منهاجها الذي قرره الله لتكتسب به القوة، فتكون منفعلة ومتأثرة على الدوام، بلا أثر ولا تأثير. ويكون فجورها نتيجة لأناها الكبيرة التي لا تعرف طريقا غير إرضاء شهواتها، فتفسد في الأرض وتقرر منهاجها الخاص الذي لا يرتضي إلا بالإنسان حكما وحاكما، ما يراه صوابا فهو الصواب وما يراه خطأً فهو الخطأ، وهذه هي بداية تشويه الفطرة والإفساد في الأرض.

إن خير دليل على ذلك، ما يُرى في أخلاقيات الإلحاد والملحدين ونزعات الإنسانوية المتطرفة وغيرها من انحرافات الإنسان عن هدي ربه، فكلها فضفاضة مائعة، تشكل الخير والشر والصواب والخطأ حسب رؤية الإنسان المتغيرة باستمرار بما يطوّع للإنسان تحقيق شهواته، ووضعه في المركز بعيدًا عن أي قبس إلهي، وهكذا فإن غياب الدين من حياة الناس يحط بهم إلى أسفل دركات الانحطاط، فلا هم يحيون الحياة على مراد الله، ولا هم يحيونها على مرادهم، فأي خير في ذلك؟