image_print

من تحت الأنقاض أخبركِ “لم أمت بسبب حجابي”

مع تفشي متلازمة المثقف العصري في الأوساط الإعلامية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، برزت الحاجة الملحة لإثارة الجدل والرأي العام، أو محاولة جذب الأنظار، من خلال تصدير أفكار مثيرة للاستغراب أو مستهجنة على الصعيد المجتمعي. ولتحقيق ذلك نرى اتجاهات عدة، تتمثل في مهاجمة أي شيء يمت للدين الإسلامي بصلة، كالتعرض لرمز من رموزه أو قضية جوهرية تتعلق به، فيما يتجه البعض ليظهر بمظهر المثقف الحداثي، لنهج آخر يتعلق بتأييد ما يسمى بـ”الحريات الشخصية” كالترويج لقضايا الميول الجنسية المناقضة والمحاربة للفطرة وخلع الحجاب، ويعمد في ذلك لاستخدام الألفاظ “التلطيفية”، كاستبدال عبارة صريحة بأخرى حمّالة أوجه بدلاً عنها في الترويج للباطل، ومن هذه الدعاوى أيضًا، المناداة بالإنسانية وفصلها عن الدين، وترويج مفاهيم تتعلق بتقديم الإنسانية في السلوكيات والمعاملات على الالتزام الديني، وجعلها الأعلى مرتبة..

توظيف الكارثة

كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريّة، وخلف عشرات آلاف الضحايا والمشردين والجرحى والثكلى والمصابين، كانت مطية أيضاً -أو صيداً ثميناً- لعدد من هؤلاء، ليجدوا من خلالها مدخلاً لمهاجمة الحجاب، فكتبت إحداهن مقالاً بعنوان “في ليلة الزلزال.. متّ بسبب حجابي”، فيما يدرج مهنياً في إطار الصحافة الصفراء.

إنه من المسلمات في عالم الصحافة، وجوب أن يدل العنوان على المحتوى والمضمون، لكن فيما يظهر للعيان بعد الاطلاع أن العنوان والمحتوى لا يمتان لبعضهما بصلة.

دعني أشرح لك بوضوح أكثر أخي القارئ:

جاء في المقال -على لسان إحدى الضحايا التي قضت جراء الزلزال- على سبيل المجاز “في ليلة الزلزال.. مت بسبب حجابي”، وحين عَرَض لي عنوان المقال، أول ما تبادر لذهني إن الحجاب كان السبب في موت هذه السيدة، مما أثار فضولي لأعرف كيف قتل الحجاب المرأة، فقد تخيلت تبعاً للعنوان، أن نساء مُتن أو قُتِلن بسبب كونهن محجبات، وقفزت إلى مخيلتي صورة لنساء محجبات مصفوفات يتعرضن للرصاص على سبيل التخيل..

ولكن المشهد كان على الشكل التالي، رجل يجلس على أطلال منزله منتحبا، يندب حظه ويقول “أنا السبب في موتها.. أنا قلت لها ادخلي واجلبي حجابك”، ليتبين أن السيدة حين دخلت لجلب حجابها انهار عليها السقف وفقدت حياتها.

فهل يصح أن نقول: كان الحجاب سببًا فقدان المرأة لحياتها؟ إذا أرادت المتوفاة الرد من تحت الأنقاض، لصرخت وقالت: لم يقتلني الحجاب ولم يتسبب بموتي.. ربما -بمنطق بشري بحت ستقول-: قضيت لأنني وزوجي لم نقدّر الموقف بشكل سليم من هول المفاجأة.

في أسوأ الأحوال، قد تكون ماتت بسبب انصياعها لأوامر زوجها، وهو ما ستصفه النسويات بأنه المتسلط والذكوري الأحمق وسيئ التقدير.. وحتى في هذا المنطق فإنه حتماً لم يتعمد قتلها، والأهم من ذلك كله أنها ماتت بسبب انقضاء أجلها..

أين الخلل؟

نحن هنا أمام صورتين.. الأولى حين وقع الزلزال وما بعده، وكما الجميع، حينما كنت أتحدث مع أبنائي عن إجراءات النجاة في حال تكرر الزلزال، كان أول ما قاله ابني -غير الملتزم- “حطّي طقم الصلاة قريب منك”، وهنا أشير إلى أن الأعراف المجتمعية، جزء لا يتجزأ من حياتنا، لا لأنها صحيحة بالمطلق، ولكن لأننا اعتدنا فعلها..

أما الصورة الثانية فهي ما ذكرته الصحفية في مقالها، من وجود نساءٍ كثيرات قضين تحت الأنقاض مكشوفات الرأس، لأنهن -من وجهة نظرها-، خفن من الخروج والمثول عاريات أمام الكاميرات والمنقذين.. وهنا أتساءل: أين الخلل في ذلك؟

إن الدين الإسلامي يجعل من نجاة الإنسان بنفسه أولوية شرعية، فالمسألة إذًا لا علاقة لها بالحجاب، أو التستر بموتهن، وبالفعل فإن هناك سيدات سيفضلن الموت تحت الأنقاض على الخروج عاريات، ليس لأنهن يشكلن عاراً على رجالهن على الصعيد المجتمعي، بل لأننا نعرف تماماً أن بعض الإناث سيدات أو فتيات، يتغلب الحياء عليهن، وهي صفة فطرية لا يد لهن فيها، ولا وقت لإعمال عقولهن للتخلص منها ساعة وقوع القضاء، مع احتمال أن يكن غير محجبات وغير مسلمات بالأصل، ومن المحتمل أنهن كن يستحممن وقت الزلزال.

صورة أخرى أغفلتها الصحفية.. ألا يوجد بين القاضين تحت الأنقاض رجل كان عاريا، ففضل عدم الخروج بهذه الصورة، توقعاً منه بأنه ربما ينجو، علماً بأن الزلزال أمر مفاجئ لا يمكن توقعه، وبالتالي لا يمكن توقع ردة الفعل حياله، مع مراعاة الفروق الفردية النفسية والبديهية..

مشهد آخر نقلته الصحفية لطفلة يبدو أنها صغيرة محجبة، عَلِقت هي وأسرتها تحت أنقاض منزلهم المهدم، وكانت الأقرب إلى فتحة النجاة، مما جعل والدها يطلب منها أن تخرج وهي مكشوفة الرأس، لعلها تستطيع إنقاذ أي من أفراد أسرتها، أو على الأقل تنجو بنفسها، وهنا أتحدث بصوت الوالد الذي كان حبيس الأنقاض، والذي صورته الصحفية على أنه ذلك الأب المتوحش الأناني، الذي سمح لفتاته بالخروج من تحت الأنقاض بدون حجاب، قائلا لها إن الله سيسامحها.. وهنا تزعم الكاتبة أن قدسية الحجاب في هذه اللحظة سقطت، وباتت مغفرة الله متاحة، فالوالد منح نفسه سلطة تقديم فتوى تدعم موقفه!..

ما الغريب في ذلك؟

إذا كنا نحن من نؤمن أن الحجاب واجب وفرض على المرأة المسلمة، فيمكنني أن أعيرك منظارنا لدقائق، نعم.. للحجاب قدسية تسقط حين يكون المقابل أن تنقذ عائلتها أو تنجو بنفسها، فالوالد لم يخطئ، فنحن المسلمون، نؤمن بفرضية الحجاب ووجوبه، ولكن في فقهنا الضرورات تبيح المحظورات، فالوالد لم يخطئ في تصرفه، ولم يستغل سلطته الأبوية التي تعتبرها الكاتبة مصدر تلقين الشريعة، والتي أيضا نؤمن نحن بأنها مصدر تلقين الشريعة والأخلاق ومهارات الحياة أيضا، والدها فقط وضح لها أنه يمكنها الخروج وليست مذنبة، فنحن في حياتنا نحتكم لشريعة الإسلام، وهذا لا يعيبنا..

سأستعيد المنظار من الكاتبة.. وأتساءل: هل سمعت بالمثل القائل “اللي استحوا ماتوا”؟. لا بد أنك سمعت به.. ولا بد أنك -بوصفك صحفية متمرسة- تعرفين قصة السيدات اللائي كُنَّ في حمام السوق، حين نشب حريق، وكن عاريات بحكم أنهن في الحمام، وفضلن عدم الخروج عاريات، فقيل: “اللي استحوا ماتوا”، ولم يُقَل “اللي ما لقوا حجابهن ماتوا”، فلم نكن هناك ولم نكن أيضاً تحت الأنقاض والأسقف التي انهارت على هؤلاء السيدات، ولكن ألم يكن ضمن هؤلاء وهؤلاء سيدات ليس لهن رجالٌ.. أرامل.. مطلقات.. ولم يخرجن لا لئلا يحرجن رجالهن، بل لأنهن لا يستطعن تخيل أنفسهن في هذه الصورة..

سأعيرك المنظار مجدداً.. حين تنهار الأسقف على رؤوسنا، لا تمهل الصدمة إحدانا، لتفكر ماذا تفعل وماذا تجلب وبم تنجو، وإنما تتصرف وفقاً لآليات كثيرة وأولويات تختلف من سيدة لأخرى، فليست الأولويات بالنسبة لي ولك واحدة، ستختارين ربما النجاة بنفسك عارية، وسيختار غيرك ربما الخروج نصف عارية، وستختار ثالثة ألا تخرج بدون حجابها، وهنا ليست أداة الاختيار عقولنا، ففي هذه اللحظة كل عقولنا معطلة، نحن فقط نستجيب لأولوياتنا المترسخة داخلنا، والتي تختلف من امرأة لأخرى، ومن رجل لآخر، هذا على اعتبار أن الرجل أيضاً كائن يصنَّف من فئة البشر، ستنتابه الحيرة ولو لحظة، حين يوقن أن السقف سينهار، هل يخرج عارياً أم لا.

على سبيل الختام

للمرة الأخيرة سأعيرك منظاري، لترَي أن الحجاب ليس دوماً إرثاً تقليدياً، مع أنني لا أنكر كونه كذلك عند بعض النساء، وليس وليد سلطة ذكورية -وإن كان ذلك صحيحًا في بعض الحالات-، مع احتمال أن يكون الالتزام به ناتجًا عن ذلك، ولكن الكثير منا يرتبط بمعتقداته ارتباطاً وثيقاً، لا يمكن حلّه، وهو أقوى من السلطة والموروثات، أنتِ فقط يا عزيزتي لا تستطيعين رؤية هؤلاء، ولا تؤمنين بوجودهن، فأنت تختزلين كل صور المحجبات، بالمقهورات اللائي يخضعن لسلطة ذكورية أو موروث تقليدي، فيما أخبرك أنا إحدى المحجبات أن هذا ليس صحيحاً، هذه إحدى زوايا المشهد، وهي الأكثر قصوراً، ولكن هناك زوايا أخرى أنتِ لا تعرفينها ولا تعترفين بوجودها.. الآن.. أعيدي لي منظاري.. وخذي تهيؤاتك وانسحبي من عقولنا.. فعذراً.. لم تمت بسبب حجابها..

المؤثرون المسلمون والمنابر الإلكترونية.. مُعترك العصر

مع دخول عصر “وسائل التواصل الاجتماعي”، واكتساحه العالَم أجمع؛ بدأت الكثير من معالم الدعوة الإسلامية، وحركات الوعي الإسلاميّ تتغيَّر؛ تأثُّرًا بهذا العصر التواصلي وتماهيًا مع آليَّاته التي فرضها فرضًا على الكافَّة. ومن هذه التمظهُرات التي استجدَّتْ هذه الظاهرة التي سأعرض لها هنا، وسمَّيتها بالمنابر الإلكترونية، أقصد بذلك الإشارة إلى المنبر الحقيقيّ في المسجد.

ما هي ظاهرة المنابر الإلكترونية؟

أقصد هنا بظاهرة المنابر الإلكترونية تلك النشاطات الإسلامية من الحسابات والقنوات التي ظهرت بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعيّ؛ سواءً الدعوية أو الثقافية أو العلمية. ولا أقصد بالمنابر الإلكترونيَّة الحسابات والقنوات العامة (كحسابات الأزهر، والهيئات الشرعية المعروفة) التي تتبع المؤسسات، فهذا أمر طبيعيّ لا يدخل في نطاق الحديث هنا؛ لسبب واضح: أنَّ هذه الحسابات والقنوات العامة هي انتقال من مظهر النشر الورقيّ والتلفازي إلى مظهر إلكترونيّ، أيْ أنها ليست نشاطات جديدة، بل أحدثت نقلة في وسيط النشر فحسب.

على خلاف ما قصدته بالمنابر الإلكترونية؛ التي هي منصات الأفراد بأعيانهم والمؤسسات الصغيرة أو متناهية الصغر التي يمكن تصنيفها تحت قائمة النشاط الفرديّ لا الجماعيّ. وهي نشاطات ما كانت موجودة من قبل، بل هي الوافدة الجديدة على مُعطيات الثقافة الإسلامية المعاصرة، تلتزم وتستوطن وسائل التواصل الاجتماعي (التي هي نفسها مواقع بالغة الضخامة كفيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، وانستجرام، وتيليجرام، سناب شات، وغيرها).

وتشمل هذه المنابر فئات مُتباينة. أهمها:

● المُؤثِّرون المسلمون: وهؤلاء أشخاص من المشاهير في النشاط الإسلاميّ، قد اختاروا التقليد لظاهرة المُؤثِّرون (influencers) على وسائل التواصل الاجتماعي. وهؤلاء الأخيرون الأكثر انجرافًا وراء تلك النشاطات التي نراها على الفضاء العام، والتي في غالبها مباينة للفكرة الإسلامية، وللقيم الإسلامية، وأقرب ما تكون -بل هي بالفعل- تستنسخ ظاهرة “المُؤثِّرون” في الغرب، وتتبع منهجيَّتهم القِيَميَّة. ثم أتت هذه الطائفة من الناشطين في العمل الإسلامي، واتبعت طريق المؤثرين -الذين تأثروا بالغرب كما سبق-، وصاروا يفعلون أفعالًا تلتزم حدَّ الشُّهرة والظهور؛ فيهتمون بلباسهم ومظهرهم العام، ومكان التصوير -إن كان تصويرًا-، وينشرون الكثير من الصور والتفاعلات المظهرية فحسب. فإذا وصفتهم على وجه الحقيقة فوصفهم أنهم “نجوم مجتمع”، لا ناشطون في العمل الإسلامي. ومن هذه الفئة مَن كان نشيطًا قبل دخول عصر التواصل الاجتماعي، فغيَّر الوسيط الواقعيّ إلى الوسيط الإلكترونيّ وحسب، ومنهم من نجح في استغلال معطيات هذا العصر للظهور من حال العدم. وهُم -بين فئات ظاهرة المنابر الإلكترونية- الأقل عُمقًا، والأزهد في مجال النفع الحقيقيّ، وإنْ كانوا الأعلى صوتًا، والأكثر من حيث أعداد المتابعين.

● المنابر الشخصيَّة: وهؤلاء أشخاص بأعيانهم، يخروجون على الجمهور من حسابات شخصيَّة (صفحات أصلية أو حسابات عامة بأسمائهم)؛ تحمل اسمهم الحقيقيّ أو اسمًا تعبيريًّا أو لقبًا. وهم الأكثر جديَّةً، بل هُم الجادُّون، المُريدون النفع، وليست إرادة النفع أو الجديَّة تعنيانِ الانضباط أو الصحَّة؛ فهذا شيء، وذاك آخر. وكأنهم بالفعل على حالتهم هذه؛ قد أسَّس كلٌّ منهم منبرًا (كالمنبر الحقيقيّ في المساجد)، وأخذ يخاطب الجمهور من خلاله. وبعض هؤلاء يهتمون بالدعوة بشكل صريح، وبعضهم يهتم بالعلوم الإسلامية على اختلافها وتنوعها، وبعضهم يركز على منظومة علمية بعينها (كالتاريخ مثلًا أو الفقه أو العقيدة)، وبعضهم يزاول بين جميع ألوان الثقافة الإسلامية.

● المنابر الصغيرة ومُتناهية الصغر: وهذه تشبه السابقة، لكنها تتمظهر في مظهر الجهة أو الجماعة أو الطائفة؛ لا مظهر الشخص كسابقتها. مثل: منبر أهل السُّنَّة، عشق الكُتُب، شئون الإسلام (هذه الأسماء ليست على وجه الحقيقة، بل على وجه المُشابهة لنمط الأسماء فحسب)، وشيء من هذا القبيل. وقد يكون المسئول عنها واحدًا أو أكثر يباشرون نشاط منبرهم.

أهمية ظاهرة المنابر الإلكترونية

قد يبدو للقارئ أن هذه الظاهرة شأن طبيعي، وأمر هيِّن. وفي الحقيقة فإن لهذه الظاهرة أهمية عظمى في الوضع التوعويّ الإسلاميّ الحاليّ. وتكتسب أهميتها في عنصر “مُباشرتها للجمهور العام”. فهذه الفئات من المؤثرين المسلمين صارت هي التي تباشر المسلم المعاصر -وغير المسلم- في يومه وليلته، صارت هي وسيلته لرؤية الأمور، ونقل الأحداث، وهي أسرع المُشكِّلات لوعيه تجاه ما يجري. وما ذلك إلا لأنها أوَّل ما يلجأ إليه، وما تُسارع عينه إلى إبصاره. كما أنها مُصاحبة له، مُلازمة موجودة في الوقت الذي يختاره هو أن يراها. كما أن جميع القضايا تُطرح عليها، بما في ذلك القضايا التي لا يصح طرحها على المنابر الحقيقيَّة -لحرج سياسي أو اجتماعي أو غيره-، ويشارك فيها الجميع؛ مما يجعلها وكأنها مؤتمر دائم الانعقاد، به حرية أن تطرح، وأن ترد على طرح الغير. ولعلَّ هذا يشير إلى افتقار الواقع الحقيقيّ إلى المُمارسة الفاعلة التي لا يجدها المُشارك إلا على الفضاء!

ومن طغيان هذه الظاهرة أنْ صارتْ مَطمَع الجميع؛ حتى أصحاب المنابر الواقعية صاروا يطمعون في الحصول على نصيب في العالم الافتراضيّ؛ فلا يكتفون بمكانهم في الدرس العلمي، أو النشاط العلمي الواقعي، أو البرنامج التلفازي؛ بل يزاحمون السابقين عليهم إلى مواقع التواصل، ينشئون حسابات وقنوات؛ ليظهروا فوق ظهورهم الواقعي الأساس. وما ذلك إلا لما رأوه من التأثير البالغ لهذه الظاهرة في الجمهور، لدرجة هوَّنتْ أمامهم مُشاركتهم الأساس التي يؤدونها.

أسباب انتشار ظاهرة المنابر الإلكترونية

تتعدد الأسباب العامة والخاصة في انتشار هذه الظاهرة. ويمكن أن أجمل الأسباب -بغضّ النظر عن تصنيفها- في الآتي:

● فرضٌ فرضَه العصر الإلكترونيّ المُعاش الآن؛ وهذا التغيُّر الذي يُسميه البعض حكم العصر حدث ويحدث وسيحدث، فهو ليس بالأمر الجديد، يجري على الأحياء فيُحيل سلوكهم.

الاستبداد المفروض على الواقع الدَّعَويّ، أو الدعوة في أرض الواقع. من تضييق على الخُطُب والدروس في المساجد، والحد من الأنشطة الدَّعويَّة في محافل المجتمع، والتضييق على دور النشر التي تنشر المؤلفات الإسلامية -خاصةً المتعلقة بالوعي الجمعي الإسلامي، وقضايا الأمة-. كل هذه الوسائل وغيرها؛ أدَّى التضييق عليها إلى الرغبة في إيجاد ساحة أخرى للدعوة والثقافة الإسلامية.

● التضييقُ في الإعلام التلفازيّ والفضائيّ في نقل الأخبار، والانتقائيةُ في هذا النقل؛ بما في ذلك التضييق على أخبار المسلمين في العالَم لمصالح سياسية مُؤقتة، أو التضييق في نقل بعض الأخبار التي لا تدعم الرؤية العامة للذين يتولون أمر الإعلام التلفازي والفضائي.

● محدوديَّة الأماكن الحقيقية الواقعية في الدعوة والعلم. فكم من شخص لم يستطع اللحاق بأي من هذه الفرص الواقعية في مجالي الدعوة والعلم! فلم يجد أمامه إلا اللجوء لهذا الواقع الافتراضي، والمنصات الإلكترونيَّة. وكم من شخص سُرقت فرصته في الواقع؛ فهرب إلى العالم الافتراضي يشق طريقًا!

● تلبية الرغبات الشخصية لأصحاب هذه المنصات؛ فمنهم من هو حماسيٌّ يغار على دينه وأحوال أمته؛ فيُدشِّن هذا النشاط الذي يستطيعه، ثم يستطيع من خلاله أن يجذب المتابعين ويكبر؛ ليصير منبرًا إلكترونيًّا ضخمًا. ومنهم من يريد الظهور بين الناس لهدف الظهور نفسه، وجلب أكبر عدد من التفاعُل. ومنهم الصادق في علمه ودعوته الممتلك لأدواته الذي يريد النفع العام لا يعبأ بزيادة التفاعل ولا نقصانه، إنما يعبأ بتصدير ما يريد.

إسهامات الدعاة والعلماء والناشطين المسلمين من أهل المَهجَر؛ فهناك آلاف منهم يقطنون أراضي الحضارة الغربية، وغيرها. هؤلاء -بحُكم الضرورة- لا يجدون متنفسًا للإسهام في العمل والحراك الإسلامي؛ وبحُكم الضرورة لا يجدون سوى هذه المنابر الإلكترونية للشخوص من خلالها، وأداء أدوارهم التي يريدون أداءها.

● مَورد للكسب، ونشاط ذو ربح. وهو هنا لا يختلف عن اكتساب الرزق من وسائل التواصل في الوسط العام. ويكون الكسب عن طريق المشاهدات، والإعلانات، والشراكات، والدعايات للكتب ومراجعاتها من دُور النشر أو الكُتَّاب أنفسهم، أو لجهات معينة يكونون لسانًا ناطقًا لها، أو يشيرون إليها ليثق الجمهور فيها. والكثير من موارد الكسب الأخرى.

إيجابيات ظاهرة المنابر الإلكترونية

● سدَّتْ فراغًا ناقصًا من العمل المؤسسي؛ فجهود الأزهر والجهات الرسمية المماثلة له في بقية العالم محدودة رغم اتساعها، وستظل محدودة مهما اتسعت؛ لأن القاعدة الجماهيرية أوسع وأضخم. فجاءت هذه الظاهرة من المنابر الإسلامية الجزئية الفردية لتسدَّ نقصًا في الجسد التوعوي الإسلامي؛ ما كانت لتسده غيرها. وليس على سبيل كَمّ الدُّعاة فحسب؛ بل على سبيل الكيفيَّة الزمانيَّة والمكانيَّة أيضًا. فالدروس والخطب لها مواعيد يحضرها المستطيع في أوانها، والبعض منها كان يُسجَّل على شرائط. أما الآن فالدرس أو التدوينة أو الخطبة أو…، بات ميعادها متى فتح الواحد من الجمهور التطبيق الذي يريد، دون تقيُّد؛ فصارت هي التي تنتظر الجمهور، لا الجمهور ينتظرها. ولا شكَّ أن هذا سدَّ نقصًا شديدًا في نطاقه.

● احتوت قدرات القادرين والمُقدِمِين على تقديم هذه الأعمال. فالله قد وهب الكثير العلم والدعوة وطريقة الإرشاد، لكنَّ كثيرًا لم يكن يجد الفرصة السانحة لهذا. ولعلَّ هذه من أعظم إيجابيات هذه المنابر الإلكترونية.

● بثَّتْ رُوحًا جديدة في الجسد الدعويّ والثقافيّ الإسلاميّ. ومع كل عصر به الجديد، يحاول المسلمون المخلصون أن يواكبوا هذا العصر، ويُقولِبوا مادتهم في القالب الجديد.

● وازنَتْ كفَّة الممارسات قليلة الأهمية التي تملأ هذه المواقع التواصليَّة. وما زال هذا الميدان به الكثير من الفُرص؛ فكَمُّ المحتوى التافه -بل الساقط الهازل الهادم- أضخم من أي محتوى هادف سليم مُحترِم للإنسان وعقله. هذا الوضع في العالم كله، ليس خاصًّا بالعالَم الإسلامي.

● وسَّعت التضييق الذي أصاب الدعاة الواقعيين في الممارسة الواقعية. وبذلك فتحت طاقة أمل للدعاة وللجمهور في استمرار هذه الممارسات الدعوية رغم التضييق.

● ساهمت بنشر المعرفة عن العلوم والكتب، وعن قضايا الأمة، وماضيها وحاضرها، ونبهت على قضايا المستقبل.

سلبيات ظاهرة المنابر الإلكترونية

● تعاظُم دور الجمهور بشكل غير مسبوق. في السابق كان الكاتب بينه وبين الجمهور ستار؛ لأنه يكتب وحده في مكتبه، ليس أمامه إلا الورقة والقلم. وصحيح أن الكاتب ذا الشعبيَّة كان يخشى جمهوره، وردَّة فعله، فيصير الجمهور قيدًا عليه؛ حيث أراد المكانة والمكان. لكن الموقف الآن غير الموقف في الماضي؛ فلا حائل بين مَن يكتب وبين جمهوره. وقد كان الداعي يلقي الخطبة؛ فتَحُولُ بينه وبين الجمهور هيبةُ الموقف وهيبة المكان (في الغالب المسجد)؛ أما الآن قد صار هذا سرابًا، وصار الجانبانِ كأنهما يقفانِ مُتقابلينِ، وبينهما زجاج الشاشة المُضيء.

وهنا نصل إلى حال من حالات السلطوية المتبادلة بين المُؤثِّر وصاحب المنبر (الذي يملك حق التعبير الأول، وتشكيل المواقف بما يقوله للجمهور)، وبين الجمهور (الذي يمتلك حق الردَّ؛ الذي قد يكون هادئًا، وقد يكون عنيفًا؛ وقد يكون عقلانيًّا، وقد يكون هوجائيًّا؛ وقد يكون مُهذَّبًا، وقد يكون غير مُهذب). فإنْ كان الجمهور عبئًا بعيدًا في الماضي؛ فقد صار عبئًا قريبًا في الحاضر، وإن كان الجمهور أقصى ما كان يفعله أن يرسل للجريدة خطابًا به تعليق على المقال أو المكتوب؛ فقد صار أمام الكاتب أو المُدوِّن يرجمه بالحجارة متى شاء بالحق أو بالباطل. ولعلَّ هذا يفرض على الكاتب أو المُدوِّن أن يقول للجمهور ما يريد، لا يما يجب عليه أن يقول؛ مخافة ردَّة فعل، أو خسران أتباع. ولعل هذا العنصر يشكِّل طورًا جديدًا من أطوار في المشهد التوعويّ الإسلاميّ.

● تفتيت المشهد الإسلاميّ: فبعد أن كانت المركزية هي الأصل والأساس في العمل الثقافي والمعرفي والدعوي الإسلامي؛ صارت اللامركزية هي المسيطرة على المشهد. كان الأزهر مأذنة واحدة تُعلِّم الناس وتدعوهم، ثم صار هناك ألف أزهر وأزهر. وعالم التواصل الإلكتروني واسع أشدّ الاتساع؛ واسع إلى الحد الذي قد يكون لدى المنبر ملايين المتابعين وليس معروفًا خارج دائرتهم، وفي كثير من الأحيان داخل دائرتهم (حيث تكون مجرد متابعة جوفاء بلا إرادة في المتابعة الحقيقية). وقديمًا كان العالم أو الداعية يظهر على التلفاز فيعرفه أكثر الناس؛ بسبب “مركزيَّة مَنصَّة التلقي”. أما الآن فتفتت المشهد بشدة، وصرنا كأننا في جزر منعزلة، كل مجموعة من القوم لهم داعيهم الخاص.

● الفوضى المعرفية، وأن كل شخص يعمل بغضِّ النظر عن مؤهله (أقصد هنا مُؤهِّله العلمي الحقيقيّ لا مجرد الشهادة؛ فكثير من أصحاب الاختصاص لم يغنِ عنهم اختصاصُهم شيئًا)، كما أن كلَّ مُؤثِّر ومنبر يعمل ولا رقيب عليه، فالجمهور ليس رقيبًا؛ بل السلطة هي التي تقوم بدور الرقيب، ولا مُصحِّح له، فالجمهور ليس جهة تصحيح، بل الخبير هو جهة التصحيح. ومن مظاهر الفوضى هي حالة الشعبيَّة (الشعبويَّة) في تقديم العلم وفي تلقيه؛ التي تنشأ عن هذه الظاهرة.

● المعرفة الجزئية المُشخصَنَة؛ حيث يقدم كل صاحب قناة أو حساب العلمَ أو الفكرَ حسب منظوره هو. وليس منظور الشخص في كل الأحيان صحيحًا؛ فتتسرَّب من خلال هذه المُمارسات العلمية والدعوية علومٌ مبتورةٌ جزئيةٌ مطبوعةٌ بطابع الشخص المُقدِّم. وهذه النوعية من المعرفة ليست بالضرورة ضارَّة، لكنَّ ضررها الحقيقيّ أنها لا تراعي تقديم المنظور الأشمل الذي به تكون المعرفة الصحيحة “الكاملة”، وبه يكون الفكر “الهادئ” المتزن الذي لا ينظر للآخرين (وهؤلاء الآخرون ليسوا الأعداء؛ إنما هُم منَّا، لكنهم مخالفون لصاحب المنبر فحسب) على أنهم مختلون عقلًا ونفسًا، أو أنهم أعداء للدين خائنون له، أو.. أو… دون تحقق وتدبر. وفي الغالب نقف للتحقيق؛ فنجد أنهم مخالفون لصاحب المنبر شخصيًّا أو فكريًّا، لا أعداء كما وجَّه، ولا مُرتابين كما شكَّك.

● الممارسات الشاغلة للمسلم عن هدفه الحقيقي؛ مثل صناعة “المعارك الوهمية” بين بعض أصحاب المنابر بعضهم بعضًا. ويهوِّل كل واحد منهم في الأمر، ويُعلي أصوات الصراخ حتى يظنّ المُتلقي أنها معركة حقيقية يجب أن يلتفت إليها. ومثل الاهتمام بمواد تافهة (كتب، أو موضوعات، أو غيرهما) لا تستحق الاهتمام، بل صناعة حالة من “النجوميَّة” لها. وكل هذا بسبب غياب الرقيب والخبير عن هذه النشاطات.

بعض التقويمات لظاهرة المنابر الإلكترونية

يُرى صاحب المنبر الإلكتروني قدوةً في تصرفاته؛ لا في أقواله فقط. فهو مَن عرَّض نفسه لهذه الحال من الاقتداء؛ حينما قرَّر توجيه الخطاب الإسلامي للكافَّة. وهذا التوجيه قوَّم حاله؛ فلم تعد حالًا عموميَّة، بل صارت على نمطٍ وذاتَ هيئةٍ. وعلى فهم هذه المقدمة؛ يجب على صاحب المنبر أن يراعي هذه الحالة الاقتدائية في كل ما يوجهه للكافة.

● عدم الاغترار بالإعجابات والتفاعلات. وهنا يجب العلم أن فتنةً من أعظم الفتن للإنسان هو التعرُّض للإعجاب من الناس، وكم من رجل وَرِع تقيّ هلك إثر هذه الفتنة! وبالقطع كذا فتنة تحول النشاط إلى نشاط تجاري. بل يجب أن يكون الهدف أمامهم واضحًا. فهُم لا يعبدون الإعجابات، ولا يُقدسون الأموال، ولا يسجدون أمام الشهرة. بل هُم عباد لله وحده لا شريك له. وإذا كانوا على غير هذه الحال المستقيمة؛ فإن الناس تنظر إليهم على هذه الحال المستقيمة؛ فعليهم ألا يخونوا هذه الأمانة (فإن هذه النظرة بالثقة أمانة في عُرف الشارع، وأداؤها أداء للأمانة).

تحرِّي ما يُصدَّر للجمهور، والتأكد منه قبل عرضه على الناس؛ بالرجوع إلى المصادر الموثوقة، وسؤال أهل العلم والخبرة، بل الأَوْلَى إنشاء جهة صغيرة من شخص أو أكثر لتكون جهة استشارة وإرشاد؛ فيخرج العمل جديرًا بالعرض أمام الجمهور. وليعلمْ صاحب المنبر أن المحتوى الخاطئ سيُسأل عنه أمام الله، ولا سبيل لدفع السؤال بالجهالة (أيْ بأن صاحب المنبر جَهِلَ خطأ هذا الأمر).

الاهتمام باللغة الفصحى والالتزام بها. ولأصحاب المنابر هنا دور ضخم، أضخم من أية جهة أخرى. حيث هم الملاصقون للناس، المُباشرون لهم في ليلهم ونهارهم، والفرصة على يديهم في تنمية رقعة استخدام الفصحى أكبر من أية فرصة أخرى. فهي أكبر من فرصة حفظ الطالب واضطراره لأداء امتحان ما؛ فهنا حياة حقيقية، وحالة متحركة مُشكِّلة للغة الجمهور. وهذا من أوجب الواجبات عليهم.

الإسلام والنشء الجديد.. عناية لا تنضب

عُنِي الإسلام بالإنسان عمومًا وبالنشء الجديد -خصوصًا- أيما عناية واهتم بهم؛ لأنهم ركيزة المجتمع وعماده ورواد المستقبل وصناعه، وتتجلى تلك العناية في القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ فنرى الاهتمام بالنشء فيهما من قبل أن يكون نطفة في الرحم، وأثناء ما هو جنين في بطن أمه، وبعد ولادته، والحرص على بناء شخصيته في جوانبها النفسية والعقلية والاجتماعية والأخلاقية؛ لأجل أن يتحقق الهدف الذى خلق من أجله- وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له- فتتحقق بذلك العدالة الفردية والاجتماعية، التي معها يكون المجتمع صالحًا في دينه ودنياه، وباقيًا على الفطرة السليمة التي فطرها الله عليها {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: ٣٠] ومن هنا ندرك أن أحد أهم أسباب الإخفاقات والمشكلات الاجتماعية هو اتباع سنن من كان قبلنا شبرا بشبر وذراعا بذراع.

مظاهر عناية الشرع بالطفل

عناية الشريعة ههنا كانت في أدقّ التفاصيل قبل جليلها، ولعل من أبرز مظاهر تلك العناية هو حث المسلم على الزواج من المرأة الصالحة حتى من قبل أن يكون نطفة في الرحم؛ لينشأ الطفل في جو وبيئة إسلامية نظيفة لا تشوبها أي شائبة كما في قوله {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: ٢٢١] وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: (تخيروا لنطفكم وأنحكوا اﻷكفاء) [أخرجه ابن ماجه في السنن] وقوله أيضًا: (الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة) [أخرجه مسلم في الصحيح] وكذلك أن يستعيذ الرجل من الشيطان إذا أتى أهله؛ حتى لا يصاب النشء بأذى أو مكروه لقوله ﷺ: (لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبد) [متفق عليه].

عندما يكون الطفل جنينًا فإن الشريعة قد تعهّدت برعايته ورعاية أمه؛ فأجازت لها بالإفطار في رمضان؛ حتى ينمو نموا جسديا سليما خاليا ومعافى من الأمراض، عناية لم تنقطع حتى بعد تفرّط عقد الزواج إذ يقول الله عزّ وجلّ في حالة الطلاق: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: ٦].

وبعد ولادته تأمر السنة بالأذان في أذنه اليمنى وإقامة الصلاة بأذنه اليسرى؛ ليكون أول ما يقرع سمعه كلمات الأذان الدالة على وحدانية وعظمة خالقه الله عز وجل. وتسميته -أيضًا- بالاسم الحسن لما لذلك من تأثير على نفسيته إذ قال ﷺ: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وبأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم) [أخرجه أبو داوود] وقوله أيضا: (إن أحب أسمائكم إلى الله- عزوجل- عبدالله وعبدالرحمن) [أخرجه مسلم]

وكذلك أوجب لهم الرضاعة، وسنّ العقيقة، والختان، وتعويذهم من الشيطان، وغيرها من مظاهر العناية التى اهتمت بها الشريعة بالنشء؛ ليكون فردا صحيح البدن والفكر، بل واﻷبعد من ذاك كله هو تنظيم الشريعة لشكل العلاقة الزوجية واﻷسرية حرصا على سلامة النشء، وخاصة إذا ما كان هنالك شقاق بين أبويه؛ فحثتهما الشريعة على حسن المعاشرة لئلّا يؤثر ذلك على سلوك ونفسية الطفل، فقال الله عزوجل: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: ١٩] آية ذُيِّلَت بقول تعالى: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرًا} وبالنظر في كتب التفسير نجد أن الخير الكثير هو كأن يرزق منها ولد ويكون في ذلك الولد الخير الكثير.

نماذج من النشء حول رسول الله

وللنشء احتياجات ورغبات؛ إذا ما صيغت وأشبعت بطريقة صحيحة لصانته وصانت العباد والبلاد، وسنبحث في صفحات السيرة التي تؤيد صحة ومصداق ذلك:

فمن مواقفه العجيبة ﷺ وهو يتعامل مع النشء من حوله؛ أنه كان غلام يدعى طلحة بن البراء شديد الحب لرسول الله، حتى إذا كان النبيّ مرة في ديار قومه لقيه طلحة وجعل يلصق به ويقبل قدمه، (وقال: يا رسول الله مرني بما شئت لا أعصي لك أمرا، فعجب رسول الله وتبسّم فقال له : “اذهب فاقتل أباك” فتولّى مدبِرًا ليفعل فقال له النبي: “إني لم أبعث بقطيعة رحم”، ومرت اﻷيام فمرض هذا الغلام وجاء النبي يعوده، فلما انصرف قال لأهله: “إني أرى طلحة قد حدث فيه الموت، فإذا مات فأذنوني حتى أصلي عليه” ولكن طلحة قال لوالديه: ادفنوني وألحقوني بربي، ولا تدعوا رسول الله؛ فإني أخاف عليه اليهود أن يصاب بسببي -وروي أنه قد مات ليلا- فلما أتى الصباح وأخبر رسول الله بذلك، جاء قبره وصلى عليه) [أخرجه الطبراني في الأوسط وهو ضعيف]

هنا علّمنا رسول الله كيف كان يعود الغلام، وأن الصغار لديهم حاجة للشعور بالانتماء، وكيف هو دأب الصّغار في تقليد المتصدرين واتخاذهم قدوات يسيرون على ضوئهم، موقف بسيط علّمنا من خلاله سيد بني آدم عليه الصلاة والسلام أن اﻷحداث في السن لديهم اندفاع عجيب، اندفاع يتطلّب حكمة في الاحتواء والتّصويب، حتى لا يُترك لما يضرّه فتُستغلّ براءته في زيادة الباطل واستفحاله في المتجمع كما هو الحال في البيئات التي يطغى عليها الجشع ورفع الأسهم.

ومن تلك المواقف الحكيمة أيضا بعد عودته ﷺ من حنين، وخروج أهل مكة -المشركين- وسماعهم للمسلمين يؤذنون بالصلاة فصاروا يقلدونهم ويستهزئون بهم نكاية لهم، وكان منهم فتى يقال له أبو محذورة وكان أجملهم وأنداهم صوتا؛ فلما رفع صوته بالأذان سمعه رسول الله؛ فأرسل إليه وأجلسه بين يديه ومسح على ناصيته ودعا له بالبركة ثلاثا؛ فانشرح صدره وامتلأ باﻹيمان، فعلم أنه رسول الله فألقى عليه الأذان وعلمه وأمره أن يؤذن لأهل مكة وكان عمره ست عشرة سنة [أخرجه النسائي في السنن].

هنا علمنا رسول الله أنه كيف تعامل مع النشء غير المسلم، وعلمنا مداخل الحوار المثمر، وعلمنا كيف نوظف تلك المواهب الناشئة ونستفيد منها ومن طاقاتهم في صالح المسلمين-في زمن أهدرت فيه هذه المواهب والأعمار فيما تفسد على العباد والبلاد دينهم ودنياهم- وإعطاؤهم كذلك الثقة وتكليفهم ببعض المهام والمسؤوليات فيما لا يخرجُ عن استطاعاتهم.

إن الشريعة الإسلامية خير ملاذ، ومنبع الأمن الصافي للطفل في جميع أطواره، وما تحمله من مسؤولية وتكليف لا ينتهي عند مجرّد نزوة عابرة، يُترك بعدها الطفل ببراءته وطاقاته لحبال الرأسمالية تجبذه في الهاوية حيث شاءت!

الأنمي وخطورات التأثير السلبي!

أشرنا في مقال سابق إلى أن أخطر أضرار الأنمي بناء اعتقادٍ مشوّه عن الله سبحانه وتعالى، وإلى جانب هذا الضرر العظيم ثمة أضرار وتأثيرات سلبية أخرى يجب التوقّف عندها.

الأنمي وعقائد حركة العصر الجديد

يحتوي الأنمي على الكثير من عقائد القبالاه اليهودية والغنوصية وأفكار حركة العصر الجديد وخرافات الطاقة، فتجد كثيرًا من طقوس السحر ورموز العين الواحدة والنجمة الخماسية، وختم الأرواح والشياطين في أجساد البشر، وتطبيع العلاقات مع الشياطين وإبليس، بل إن الأمر يتكرر بشكل مكثف في جميع سلاسل الأنمي كأنها وحدات ناظمة لكل قصص الأنمي لجعلها أمورا مألوفة لدى الأجيال، وجعل أمر قبولها على أرض الواقع أمرا واردا عند كثير من الشباب والراشدين والجيل الصاعد كذلك..

فعلى سبيل المثال: ختم وحوش البيجو في أجساد بعض الأشخاص المتميزين ببعض الصفات، حيث كان من نصيب ناروتو أن يُختم فيه أحد أقوى وحوش البيجو وهو الثعلب الشيطان ذو الذيول التسعة، كما أن حضور اليوغا في أنمي ناروتو ملحوظ، واستدعاءه لبعض الوحوش من عالم آخر مواز للاستعانة بهم في القتال حاضر كذلك..

ورموز السحر وحجر الفلاسفة والخيمياء التي تعرض بشكل جذاب في قصة جذابة شهيرة وهي قصة: (الخيميائي المعدني الكامل) Fullmetal Alchemist، وحضور خرافات الطاقة بمسميات مختلفة في الأنمي ففي ناروتو استُعملت الكلمة السنسكريتية (التشاكرا)، و في Hunter x Hunter استعملت كلمة (النين) وغيرها، وفي  دراغون بول Z استعملت كلمة (الكي) أي الطاقة الروحية الموجودة داخل كل كائن حي، والطاقة الروحية التي اكتسبها البطل (كوروساكي إتشيغو) في أنمي (بليتش) من الشينيغامي (إله الموت)… وغيرها، ولا يخفى الآن الكم الهائل من المواد الدعوية أو المتعلقة بالتنمية الذاتية التي تُضخ في اليوتيوب المروجة لخرافات الطاقة والتي لاقت قبولا كبيرا من شريحة واسعة!

عالم الأنمي والترويج للانحلال الأخلاقي

هناك فئة من الأنمي تصنّف على أنها جنسية بالكامل، وصُنِعت لذلك حصرا، ولن أذكر اسم هذه الفئة حتى لا يتعرف عليها البعض من خلال هذا المقال، وقد يظن البعض أن المشاهد الإباحية حِكر على هذه الفئة من الأنمي وأن في باقي فئات الأنمي غُنية وكفاية لمن لا يريد الوقوع في النظر المحرم، إلا أنّ الإشكال أنّ الجرأة في عرض اللقطات الانحلاليّة ليس حكرًا على هذه الفئة من الأنمي فقط، بل الأمر يتعداها إلى فئة الشونن  والتي تكون موجهة للمراهقين والشباب، وفئة السينين- Seinen الموجهة للبالغين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 إلى 40، والتي غالبا ما يكون الدافع من مشاهدة هذه الفئتين الحصول على الإثارة والمتعة من مشاهد القتال والمغامرات في الأولى، والتعقيد والذكاء  ومواضيع اجتماعية وفلسفية في الثانية، إلا أن هذه الأحداث يتخلل سيرها الكثير من الإيحاءات الجنسية واللقطات المُخِلّة!

وهو إجراء متبع في الكثير من الأنمي لجلب قدر كبير من المتابعات، وكذلك الترويج للثقافة الغربية في تسليع المرأة التي أصبحت اليابان إحدى أبواقها بعد الحرب العالمية الثانية.

إلى جانب هذا فقد تُعمِّد وضع المشاهدين في حالة حيرة من جنس بعض أبطال القصص في الأنمي، كما أن شكلهم يوحي أحيانا بالذكورة وأحيانا أخرى بالأنوثة، وكذلك التطبيع الممزوج بشيء من الفكاهة والمرح مع شخصيات شاذة كما هو الحال في جزيرة الشواذ في One Piece، وكذلك اليد اليمنى لقائد الجيش الثوري: (مونكي دي دراغون)، إفانكوف الذي قام بتدريب أحد أبطال القصة (سانجي)، كما أن القوة التي حصل عليها من (فاكهة الشيطان) أعطته القدرة على التحكم في هرمونات الأعداء بتغيير جنسهم، أو التلاعب بمظهرهم كما شاء، كما أن الأنمي يجعل منه أحد أنصار القضايا العادلة ذلك أنه كما سبق وذكرنا يمثل أحد الأفراد المبرّزين في الطاقم العسكري الملقب بالجيش الثوري الذي يهدف إلى إسقاط حكومة العالم والتنانين السماوية من أجل شعارات العدالة: الحرية، والقضاء على الطبقية..

 وكذلك جعل المتابع يألف النمط المخنث من الذكور، والعكس صحيح أيضا بالنسبة للإناث، حيث يتم الترويج لنمط ذكوري منهن كشخصية (ميكاسا) من أنمي هجوم العمالقة. وكذلك الصورة النمطية للمرأة في الأنمي التي يُعمل على تسليعها جنسيا من خلال الطريقة المبالغ فيها في رسم مفاتن الشخصيات الأنثوية، والتركيز على المسألة جاذبيتهن وإثارتهن للذكور في الأنمي.

تعقّد الشخصيات.. بين الجد والهزل!

من الأمور التي تعتبر حجر الزاوية في تفوق الأنمي وتأثيره على شريحة واسعة من الشباب، الطبيعة المعقدة للشخصيات والابتعاد عن الصورة التقليدية المثالية للبطل حيث يُعرض هذا البطل بصورة توحي بالغباء مليئا بالنقائص، فأحيانا يكون سكيرا، وأحيانا تافها، وأحيانا زير نساء، وأحيانا أخرى يكون جبانا لا يتحلى بصفات المسؤولية وهو بطبيعة الحال مع كل ما سبق يمثل الجانب الخيِّر من شخصيات الأنمي، في حين يأتي الشرير في مظهر جذاب، صاحب شخصية كاريزمية، وفي بعض الأحيان صحاب نوايا حسنة يريد تنزيلها على أرض الواقع بغض النظر عن مدى كون الوسيلة التي يتبعها شريرة أو مدمرة، على سبيل المثال الشخصية الأسطورية لأنمي ناروتو شيبودن Naruto-Shippuden : مادارا- Madara..

ولا تخفى خطورة هذا الطرح الأخلاقي في تلبيس الحقيقة وضياعها على المتابع، والترويج لفكرة مفادها أن الإنسان معذور في إجرامه الناتج عن عوامل نفسية، أو اجتماعية أو غيرها.. وهو فتح لمجال واسع أمام الشباب في التماس الأعذار لكل ما يصدر عنه من أخطاء، أما الخير فلا حق له في محاكمة الشر، ولا سُلطة له عليه، لأن الظروف التي تهيئت للإنسان الخيّر وصنعت منه ذلك الإنسان، لم تتوفر للشرير.

كما أنه وفي الكثير من سلاسل الأنمي يتم تسليط الضوء بعناية على الشخصية الشريرة بعرض ماضيها وعواطفها الداخلية والتماس الأعذار لجرائمها البشعة، حتى إن المتابع ليشعر أحيانا بأنه متعاطف مع الجانب الشرير أكثر من الجانب الخيِّر.

ونادرا ما تجد بطلا من أبطال الأنمي الأخيار، متكاملا حسب معايير القوة في الأنمي إلا إذا كان الأنمي مصنفا على أنه كوميدي لتجنب الرتابة والملل الناتج عن مثالية شخصية البطل، على سبيل المثال أنمي One Punsh Man .

غالبا ما تكون قصص الأنمي -خصوصا الشونن- التي تستهدف المراهقين بدرجة كبيرة تُركز على أنّ الثقة بالنفس وتقدير الذات يحققان المستحيل، وغالبا ما يظهر البطل بمظهر العاجز الفاشل الذي سينتصر في آخر المطاف، بل وأحيانا يمتد فشل البطل لحلقات كثيرة يعيش معها المتابع جميع لحظات اليأس والإحباط، ثم فجأة يستجمع البطل قواه أو ينتبه إلى أمر يمكِّنه من النصر لم يكن قد انتبه له قبل ذلك، نجد هذا في Dragon Ball، و Naruto، و One Piece،  HxH ،Bleach… وهلم جرا.. وهذا يُكسب الـمُشاهد شعورا مُرضِيا بظروف حياته التي كان يراها في بعض جوانبها يائسة لا تستحق عناء التغيير، لكن إصرار البطل وثقته بنفسه، والقوة المتولدة عن ذلك، والنتيجة، كل ذلك يبعث الأمل من جديد، إلا أن هذا الأمل للأسف أمل نابع من ثقافة ينعدم فيها مفهوم التوكل على الله، أمل يقنعك أن النجاح يبدأ منك أنت وحدك، ثم يلي ذلك العمل والقتال من أجل هدفك، ولا مكان للتوكل في هذه المعادلة التي نكتسبها من الأنمي بدون وعي أحيانًا!

التأثر والانبهار

بلغ تأثير الأنمي في كثير من الشباب إلى تغيير تسريحات شعرهم وترجيل الشعر بطريقة غريبة لموافقة شكل بعض شخصيات الأنمي، بل بلغ الأمر بالبعض إلى تقليد الهيئة الغريبة لمشية وجلوس بعض الشخصيات التي يتم التصريح في حلقات ذلك الأنمي بغرابتها ومخالفتها للمألوف، كهيئة مشي وجلوس الشخصية العبقرية للمحقق (لاو ليث) المشهور بـ: L، من مسلسل مذكرة الموت

والأخطر من هذا، تقليد الشخصيات في طريقة الحياة وطبيعة النظر للأشياء، فتجد من ينظر إلى الحياة على أنها عبث بلا معنى له وأنها لا تستحق الاكتراث، ومنهم من يستسهل الوقوع في الكبائر والمحرمات لإعجابه الشديد بشخصية تمثل جانب الخير في أنمي معين، لكنها منغمسة في ملذات الحياة والعلاقات المحرمة، ولابد أن التأثر بشخصيات الأنمي ومن تم تقليدهم نابع عن حب شديد وتأثر بالغ، ولذلك نجد من الصحابة كعبد الله بن عمر مثلا من كان يحاول مطابقة هيئة لباس رسول الله ﷺ فيلبس نعلا لا شعر فيه يشبه نعل النبي ﷺ، أو يضع على رأسه عمامة مسدلة يمرر طرفها المتبقي بعد عصبها على رأسه إلى الكتف الآخر، فيُسأل فيقول أنه يفعل ذلك لأنه رأى رسول الله ﷺ يفعل ذلك، وكذلك يلبس عثمان بن عفان رضي الله عنه إزارا إلى نصف الساق فيقول رأيت صاحبي ﷺ يفعل ذلك. ولقد علِمتَ أن العمامة والنعل لا تعبُّدَ في التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في لُبسهما، إذ كما قرر علماؤنا أنه لا يصح في فضل العمامة حديث، إلا أن شدة الحب دفعت الصحب الكريم إلى موافقة الظاهر من الملبس والمأكل والمشرب بشكل مثير للدهشة والعجب!

أما عن ظاهرة الوايفو، وهي ظاهرة أصبحنا نراها بصفة متكررة وهي وقوع بعض الشباب في حب فتاة من عالم الأنمي وإعلانه الزواج بها، فهو منتهى ما يصل إليه الهوس والجنون في عالم الأنمي

أما عن ضياع الوقت والعمر في مشاهدة الأنمي فكثير من الشباب اليوم غارقون في متابعة سلسلة بعد سلسلة، ويتنافسون في معدل الحلقات المتابع يوميا، وكذلك في الوقت الوجيز الذي شاهد فيه سلسلة تقع في زهاء 400 حلقة تزيد أو تنقص، وكثير منهم يعيش حالة من السبهللية -الاستهتار المبالَغ فيه- لا يُراعى فيها قضاء مصالح الدنيا ولا مصالح الآخرة، فتجدهم منغلقين على أنفسهم، وفاشلين دراسيا، لا مكان للعمل للآخرة في حياتهم، فماذا يكون الخسران إن لم يكن متمثلا في هذه الحالة؟!

النسخ في القرآن وفلسفة الإصلاح

النسخ في معناه العام هو أن تنزل آية من القرآن ثم تستبدل آية أخرى، ويكون استبدالها إما استبدالًا كُليًّا أو جزئيًا، ويتضمن هذا الاستبدال -على الأغلب- رفعًا لحكمٍ شرعيٍّ سابق، بحكمٍ شرعيٍّ مُتأخرٍ عنه في زمن نزول الوحي.

وقد ذُكِر النسخ في القرآن الكريم في سورة البقرة، في قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 106- 107] وفي الآيات إشارة لطيفة إلى أن منزل القرآن هو خالق الكون، وكما أن الإله الخالق للكون هو المدبر الأول فيه ويتصرف فيه كيف يشاء، فهو أيضًا متصرّف في نزول كتابه كيف يشاء، من ترتيب النزول وموعد النزول ونسخ الآيات ببعضها بعضًا.

استيضاح لمفهوم النسخ

ربما يتساءل أكثرنا، ما المقصود بالنسخ وكيف يقع؟

يقول الإمام ابن كثير في تفسير الآية آنفة الذكر: “وذلك أن يتحول الحلال حرامًا، والحرام حلالًا، والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، فأما الأخبار فلا يكون منها ناسخ ومنسوخ” [مختصر تفسير ابن كثير]

ومن هنا نستشفّ أن النسخ يقع في الأحكام؛ فهو تبديل في التشريع، إلا أنه لا يقع في الأخبار، وذلك -حاشا لله- يعني أن القائل غير متأكد من مقالته فغيّرها، أو أنّه شاكٌّ فيما يقول، أو أنه خاف من قوله فغيّره، وكل تلك الاحتمالات تنبع من الخوف والتردد ومحض النقص والنقض، وربنا سبحانه وتعالى منزه عن كل هذا بكمال علمه وحكمته.

وفي القرآن أمثلة كثيرة من نسخ الأحكام، سواء في فرض الفرائض أو في طلب اجتناب النواهي، ومنها على سبيل المثال، فرضية الصيام، حيث كان ثلاثة أيام من كل شهر فقط في أول الأمر، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ثم نزلت الآية التي تحدد مدة الصيام وشهره في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وهكذا غُيِّر الحكم في الصوم من أيام قليلة شهريًّا إلى شهر رمضان كاملًا.

وجاء تحريم الخمر بتدرُّجٍ بدءًا من قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وصولاً إلى التحريم النهائي في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وجاء تحريم الربا تدرُّجًا كذلك، بدءًا قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] لذمّ الربا ومدح الزكاة، ثم منع الربا وحرّمه قطعيًّا في آيات سورة البقرة: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وهكذا.

 ما وراء النسخ

قد يسأل سائل: لو كان الحكم الشرعي الأول مختصًّا بمرحلة زمنية معنية في عصر نزول الوحي، ثم حصل نسخٌ ما، بحيث لن تعمل الأمة الإسلامية إلى يوم القيامة بالحكم السابق اكتفاءً بنص الحكم اللاحق، فلم لا تحذف تلك الآيات من القرآن، بل إن معظم الآيات المنسوخة يبقى المسلمون يرددونها في تلاوتهم أبد الدهر.

يقول الأستاذ فريد الأنصاري في كتابه (مجالس القرآن): “إن هذه الآيات المنسوخة حكمًا، الثابتة تلاوة، علاوة على فائدتها التعبدية من ثبوت أجر القارئ لكتاب الله، هي علامات ظاهرة جعلها الله في كتابه لفائدة التدبر والتبصر، ومعرفة كيف كانت مسيرة الوحي في بناء الأمة الإسلامية تربية وتزكية وتشريعًا. حتى يستفيد الداعية الحكيم قواعد تجديد الدين وأسرار الصناعة في إعادة بناء صرح الأمة، ومعرفة خطوات ذلك خطوة خطوة، من النفس إلى المجتمع، ومن الفرد إلى الجماعة، ومن الشتات إلى الوحدة. إنها معالم لمنهج إعادة البناء والتركيب للمحرك الإيماني الذي به تستأنف الأمة حياتها الشاهدة على الناس. ولذلك كان بقاؤها مرسومة في كتاب الله – رغم نسخ حكمها – كبقاء المفتاح على الأقفال ” [3/317]

ولعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا: إن السيرة النبوية ليست مجرد تدوين تاريخي جاف لحقبة من الزمن، بل إننا نرى في السيرة فقهًا في أسرار الإصلاح وكيفية احتواء النفوس المعجونة بالشهوات وإقناع العقول المتتبعة للشبهات، وإن نجاح سيدنا رسول الله ﷺ في تحويل مجموعات من أعراب بدو الصحراء ممن يعبدون الأصنام إلى قدوة دينية أبد الدهر ليس مجرد نجاح يُبهر كل منصف مدرك لحجم التحديات والصعوبات التي كانت في طريقه، وإنما شيء أعظم من ذلك وأكبر.

لقد كانت السيرة النبوية بكل ما فيها عبارة عن وصفة إصلاح لكل مصلح شرع في تغيير الناس والتأثير فيهم؛ وإن نجاح المصلح في انتشال عبَدَة الأصنام من ظلمات جاهليتهم إلى نور الإسلام ونقاءه يعني أن أي مصلح بعد سيدنا محمد ﷺ ستكون مهمته أسهل من مَهَمَّته، لأن حجم التحدّيات -بلا شك- ستكون أهون وأسهل.

وهكذا، فإن السيرة يجب أن تتحول في عين المصلح من أحداث تاريخية إلى دورس وعبر تستخلص من بين السطور، ترسم ملامح الطريق، وتوضح سبل الإصلاح، فلن يفهم المرء سبل إصلاح النفس البشرية تلك إلا إذا تأمل كيف تعامل معها الوحي الإلهي بالتدرج، إذ إن الوحي نزل ممن خلق النفس وألهمها فجورها وتقواها!

فريد الأنصاري

 

فلسفة الإصلاح في الإسلام

إن الوقوف عند ظاهر السيرة وحدود النصوص، مع الغفلة عن الرحلة التشريعية فيها وحِكَم الله في تنزيل القرآن منجّمًا ومفرَّقًا على مدار ثلاث وعشرين عامًا وتدرّج أحكامه، ينتج لنا نماذج من البشر يعانون من (تدين المراهقين)، وهي حالة من الحماسة الدينية الزائدة والزائفة في وقت واحد.

هذه الفئة من البشر كثيرو التصادم مع الواقع، لأنهم أبعد الناس عن فهم الحاضر واستخلاص العبرة من الماضي، فهم يحلمون بوجود تغيير لحظي في المجتمع حولهم دون امتلاكهم الحِلم والاصطبار على الرحلة الطويلة من مسايسة شرور النفوس وحظوظها، بل ويغفلون تمامًا عن مبدأ (تدرج التشريع) في الإسلام.

إن المطلوب ليس تطبيق بعض الشريعة دون بعض، أو في تدرج بعض أحكامها في تحليل الحرام حينًا من الدهر، لأن الشريعة قد اكتملت ووجب تطبيقها بشكل كامل بصريح القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 208]، فإن تدرُّج التشريع في حالة الأزمان المعاصرة، من المحال لأنه غير مبرر شرعًا، وإنما المطلوب هنا هو تدرّج الإصلاح!

إن النصيحة الدينية في الكثير من الأحيان لا يمكن أن تكون معممة، والخطاب الديني الذي يناسب شخصًا قد لا يناسب آخر، فإن لبعض الناس أهواء أرهقت قلوبهم فلا يكادون يخرجون من وحول الشهوات، وإن توقُّعَ تغيُّر حالهم في زمن قياسي أشبه بتوقع تعافي مدمن مخدرات في بضعة أيام.

ولو أننا أمعنا النظر في نبع التوقعات اللاواقعية والجهل بطبيعة العملية الإصلاحية فسنراها على الأغلب قد جاءت ممن غفل عن مبدأ النسخ القرآني وتدرج التشريع، وإن المصلح الحق هو من يقف عند النفس العليلة فيحاول أن يخرج ما فيها من خير حتى يغلب خيرها شرها، ولو التبست عليه الطرق، فها هو القرآن به من الآيات التي نتلوها ولا نعمل بها حُكمًا، ولكن في وجودها رغم تعطيل حُكمهًا حِكمًا كثيرة. فيكفي أن يمر قارئ القرآن على آيات تتلى ولا يعمل بها حتى يتذكر في كل مرة كيف كانت النفوس العليلة تشفى بجرعات متفاوتة من العلاج.

إن النفوس التي خرجت من الجاهلية لم تكن لتطيق العلاج الثقيل مهما كان نافعًا لأنها غير مؤهلة لاستيعابه، وإن الشريعة لم تُنزَل كاملة إلا بعد سنوات من حمل الناس عليها رويدًا رويدًا، وإن الإصلاح الذي ينبع من رؤية لاواقعية سيفشل لا محالة لأنه ينبع من سذاجة، والإصلاح الذي ينبع من واقعية النظر ومبدأ التدرّج هو إصلاح متين وأقرب للثبات من الانتكاس، لأنه ينبع من طريقة القرآن التدريجيّة في الإصلاح، ويتعامل مع نفوس البشر كما تعامل معها من يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.

الناشئة بين رأسمالية هوليود ورحمة الإسلام

لعلّنا جميعا مرّت بنا مقاطع لمشاهد تمثيلية تسير على خطى هوليود لأطفال صغار، ذاك النشء الموشّح بالبراءة والعفوية الصادقة، هناك حيث طُلِبت منهم من وراء آلة التصوير إملاءات بعينها تكسر عفويتهم وتغلّفها بالتّكلّف حتى يُحسنوا تقمّص الأدوار بما فيها من مشاعر حزن عامرة بذرف الدموع، وربما أتبعوها بأنين شجي مصطَنَع، أو فرَح أو سذاجة وبلادة كل ما يهمّ فيها هو ملء الجيوب وتحصيل الأرباح من ورائهم، في خضوع أو انسياق مطلَق لمنطق السوق الرأسمالي في الاستفادة والاستثمار المادي في كل شيء ولو كان طفلاً صغيرًا.

من الطبيعي أن النفس البشرية لها قابليّة عالية للتعاطف مع الطفل -حتى من دون سبب وجيه- إن تألّم أو اشتكى، فكيف الحال والمشهد ههنا يفيض بالمشاعر الجيّاشة لكنها مزيّفة، وربما نذرف الدمع معه ونردفه قائلين: “لقد كان حقًّا في المستوى، مدهش ورائع هذا الطفل كيف أتقن دوره”.. أو عبارات أخرى كلها تتحدث بذات اللسان.

لكن أليس لنا أن نتساءل بعد ملحمة البكاء أو الفرح تلك: هل هذا ما يجب أن يكون عليه طفل في سنّه؟ ألن تتلف مشاعره وتضيع بين وهم هوليودي اتخذ من براءته بضاعة فحنّطها وشكّلها لتزيد الأرباح والأسهم وبين واقع يحتاج أن يعيشه ويحياه؟ ترى هل ترسو النجومية بالطفل عند ميناء السعادة حقًّا أم أن الكواليس تخفي كوابيس مسكوت عنها؟

ووسط كلّ هذا الصخب كيف اعتنى الإسلام بالفرد المسلم نسمة في الرحم، طفلا، ومكلفا؟ وما مسؤوليتنا الجماعية والفردية أمام هذه السيول الجارفة لحقن النشء الصاعد بجرعات الزيف التلاعب؟

أسئلة نحاول-مستعينين بالله- من خلال هذا المقال تسليط الضوء عليها والإجابة عنها.

هوليود: مسرح الطفولة المُستَلبَة!

خلف ستارة الكواليس يقبع الفصل المسكوت عنه والمطوي خلف الأفواه من قصة النجومية التي تراود كل حالمٍ بالشهرة، لكن جودي جيرلاند قررت تعريته وكشف مخبوءاته في مذكّراتها التي وُجدت عقِب موتها بجرعة مخدرات زائدة عن عمر يناهز السادسة والأربعين، حيث كتبت تقول: “كنت على خشبة المسرح منذ أن كنت في الثانية من عمري.. فاتني الكثير، إنها حياة وحيدة للغاية.. لقد كنتُ ومَن معي في استوديو MGM (إليزابيث تايلور ولانا تورنر وديانا دوربين وميكي روني) مرهقين، مسجونين ونعاني من نقص التغذية، كانوا يجوعونني كلما اعتقدوا أن وزني ازداد عن المقاس المطلوب [….] عندما اقتحمت عالم السينما في سني الصغيرة شعرت بالحرج والغموض وأني غير مرغوب فيّ”

وقالت عن دورها المُشتَرك مع ميكي روني -الذي اقتحم هو الآخر عالم التمثيل في سن السادسة وحاز على جائزة الاوسكار-: “أعطونا أقراصًا منشطة لإبقائنا على أقدامنا فترة طويلة، بعد أن استنفدنا طاقاتنا، لم نتمكّن من النوم، فأخذونا إلى مستشفى الاستوديو ومنحونا أقراصًا منومة ثم بعد أربع ساعات، أيقظونا وأعطونا حبوبًا منشطة مرة أخرى حتى نتمكن من العمل لمدة 72 ساعة متتالية، نصف الوقت كنا نتداعى وننهار، لكنها كانت طريقة حياة بالنسبة لنا” [1].

لم تكون جودي وحدها ضحية هوليود في إدمان المخدرات، فهناك أيضا بوبي دريسكول الطفل الحاصل على جائزة الأوسكار في سن التاسعة، والذي مثّل بصوته دور البطولة في بيتر بان أحد أشهر إنتاجات ديزني إلى جانب أدوار بطولية أخرى فيها، فقد كان أول شخص على الإطلاق يتم وضعه بموجب عقد شخصي من قبل والت ديزني، لقد عاش دريسكول حياة الشهرة الساطعة بكل معانيها، لكن ما هي إلا سنوات حتى أفل نجمه ولفظته ديزني كالحلس البالي؛ إذ كان جرمه الوحيد آنذاك هو ظهور حب الشباب المصاحب لفترة البلوغ وادّعت مبررة أنه سيكون من المستحيل إخفاء هذه الحبوب بالمكياج، فانتهى بذلك الحال بالبطل الصغير مدمنًا للهيروين ومنه إلى عالم الجريمة والسّطو، وكانت آخر عبارة في حكاية نجوميته ما قاله هو عن نفسه: “حُمِلت على طبق من فضة، ثم أُلقِيت في علبة القمامة”[2]. وقد وُجد دريسكول ميتا وحيدًا في مسكنٍ مهجور عن عمر يناهز ٣١ سنة!

إنها هوليود وهؤلاء حفنة وعيّنات من نجومها الصّغار الذين استعبدتهم باسم الشهرة والفن وحياة التّرف، والحال أنها اقتاتت على براءتهم وساقتهم إلى سكة مجهولة العاقبة حيث الإدمان والخوف والأمراض النفسية والجريمة كذلك، فكانت أبلغ صورة جسّدتها لوحش الرأسمالية الجائع!

من أضواء الشّهرة إلى قيعان الإدمان

كانت هذه بعض نماذج هوليود القديمة الكلاسيكية الغارقة في الاستغلال، التي قد تبدو لمعظمنا انها مجرّد حقبة وانتهت، ولأن الإحصاءات حول هذا الجانب شحيحة -ولنسلّم عرَضًا أنها كذلك-، لكن أليس مِن المؤسف وضع النشء بما فيه من هشاشة على مضمار ذاق مَن عاقروه مرارته؟

كيف لعقل الطّفل أن يحتمل مشاعر الأضواء التي تغذّي فيه الإحساس العارم بالنشوة والسعادة وكونه مرغوبًا من الكل ثمّ ولسبب ما يجد نفسه منبوذًا لا قيمة له كأنه شريحة مشاعر مُستهلكة؟

أما عن واقع الإدمان في هوليود فإنه لا يزال قائما وحوله قالت د. ريف كريم، المختصة في معالجة الإدمان في (كنترول سنتر لوس أنجلوس) “إدمان الكوكايين ينخفض بشكل عام في أمريكا، ولكنه في هوليوود لم يزل يصعد بقوة. لم تزل ترى الكوكايين في كل مكان في هوليوود”.

ووفقًا للدكتور إريك برافرمان، أخصائي الإدمان ومؤلف كتاب “أصغر منك”، فإن الأنا الكبيرة والمال الذي يجب حرقه يمهدان الطريق لإدمان الكوكايين، ويتابع قائلًا: “يميل المشاهير إلى أن يكونوا نرجسيين، لذا فإن الكوكايين يمنحهم إحساسًا بالسلطة والقوة، كما يعتمد الكثيرون على الكوكايين لملء الفراغات في حياتهم” [3].

وحول إذا ما كان النجوم الصغار عندهم قابلية أكبر للإدمان على الكوكايين أجابت د. دونا: “قد يدمن النجوم لأي سبب من الأسباب التي يدمن معها غيرهم مثل: التعرّض للإساءة، أو التجارب القاسية، ولكن مع النجوم الصغار فإن أدمغتهم تكيفت مع القدر الكبير من الإعجاب والاهتمام وأصبحت جزءًا من تركيبها العصبي. الأمر الذي يمهد الطريق لأنواع أخرى من الإدمان كالكحول والمخدرات” [4].

نتساءل مجددا ألأجل هذا العالم الهوليودي الخرِب تُهدى فلذات الأكباد لعالَم رحى القوى فيه -كما هو ديدن الرأسمالية- يسحق قويه ضعيفه؟ عالم الصناعة والتمثيل حيث القوى متنافرة بين جوع المنتجين وبين النجوم الصغار، ألن يكون خطر الاستغلال أشدّ وأرعن؟

ماذا عن السينما العربية؟

لعلّ الفجوة بين ما بلغته هوليود من تدمير والتمثيل في شاشات ومنصات العالم العربي أكبر من مقارنتها إلى حدّ ما، لكن يبقى المشترك بينهما هو العالم الداخلي لذاك الطفل الصغير في مرحلة عمرية المُفترض أنها تأسيسية للمركزيات والأوليات، مرحلة تكون النفس كالإسفنجة بقابلية عالية على تشرب معاني بعينها: ما الذي يجري في داخله؟ كيف يواجه الفصام بين مشاعره الحقيقة ومشاعر طُلب منه النزول عندها؟ كيف يمكنه رسم الحد الفاصل حين يُطلب منه مثلا رؤية مشهد مرعب كالقتل وعيش مشاعر الفقد او استحضار مشاعر الموت؟ ما الفرق بين أن يكون مهذبًا واقعًا وفي الآن ذاته يعيش شقيًّا تحت الأضواء؟ ما هي حدود الصّدق والكذب؟ وحين يُسحب بساط الشهرة من تحت رجليه بعدَ أن عاش دهرًا كل العالم وما فيه يدور حوله كيف سيتخطّى ندوب هذه التجربة إلا باللجوء إلى المخدّرات كما تكرّر مرارًا!

ثم إن كان عالم السينما نفسه يوجّه المتلقي والذوق العام إلى قضايا معيّنة ألن تكبر هي ذاتها في نفسه فيتبناها ويخدمها ويدافع عنها-أي الطفل-؟

فالإشكال على هذا يبقى قائمًا وإن اختلفت درجاته بين الشّرق والغرب؛ لأن ثمة بناء هناك تُنقض عراه شيئا فشيئا، كان مِن المفتَرض أن يعيش كونه طفلا لكنّه حرق أعواما ومراحل ليكون نجما له وظيفة وراتب إلى جانب الكثير من الأزمات النفسية والتردد على العيادات عندما يفيق من سكرة الشهرة للإقبال على الحياة!

كل هذا علينا استحضاره قبل أن نعلق بعبارات التميز والدهشة والذهول من مشهد احترافي في دقائق يحوي خلفه الكثير من الظّلام!

آباء يتغذون على أبنائهم!

لكن كيف وصل هؤلاء الأطفال أو على الأقل معظمهم إلى مسارح الأضواء إن لم يكن خلفهم مَن أصابه عمى الشهرة وحياة التّرف؟ إنهم الآباء في الغالب!

تقول الممثلة الطفولية السابقة ميليسا جوان هارت، 37 عامًا: “ترى هؤلاء الآباء يريدون أن يعيشوا حياتهم من خلال أطفالهم، برواتبهم الضخمة وما يحصّلونه، وينالهم أيضا نصيبهم من الأضواء فيبدأون في الظهور بمظهر أكثر بريقًا ويقودون سيارات فارهة أكثر من النجم المشهور نفسه”[5].

وبذا تنقلبُ الأدوار فيغدو الطفل هو الراعي والمعيل لوالديه فيدفعونه دفعًا للاستمرار مهما كان الثّمن. تقول الممثلة تيا موري: “عندما كنت أقوم بعمل الإعلان لباربي كانت هناك فتاة أخرى لا تريد هذا العالم، لكن والدتها كانت تدفعها قسرًا للمواصلة” ثم تتابع قولها: “أنت طفل يعمل، لديك وظيفة. هذه الوظيفة هي عمل شاق. يعتقد الجميع أن كونك نجمًا طفلًا هو أمر ساحر. ولكن عندما تكون في عرض، غالبًا ما تقدم عرضًا كاملاً وأنت تعلم هذا، عليك أن تعرف خطوطك.. فهناك مَن يكسب المال منك”[5].

اي قسوة تلك أن تتجاذبكَ حبال الاستغلال عن كل جانب، مجرّد صرّاف آلي والأقسى أن يكون أحد هذه الأطراف أمّك أو أبوك!

أما اليوم فقد ازدادت فُرص الاستغلال وعلمنة براءة الطّفل من قبل والديه لهثا خلف الشهرة والمال، الكاميرا ملك اليد وما عليهم سوى فتحها لدخول عالم الشهرة الماجن.


مصادر الاقتباسات والإحالات:

[1]https://www.express.co.uk/celebrity-news/529490/Judy-Garland-unpublished-memoirs-revenge-Hollywood-film-industry

[2]https://www.cinephiled.com/31-days-of-oscar-the-juvenile-academy-awards-and-the-tragedy-of-bobby-driscoll /

[3]https://www.foxnews.com/entertainment/addicted-in-hollywood-stars-problems-with-cocaine-still-going-strong

[4]https://www.cheatsheet.com/entertainment/are-child-stars-more-likely-to-use-drugs-and-alcohol.html /

[5] https://www.usatoday.com/story/life/people/2013/08/06/child-star-issues/2609493/

[6]https://www.sasapost.com/dark-side-of-the-lives-of-young-hollywood-stars

ماذا عن الأنمي.. أيقظوا الوعي يا شبابَ الأمة!

أتذكر جيدًا ذلك الشعور الرهيب الذي شعرت به أول مرة أشاهد فيه مسلسلا من مسلسلات الأنمي Anime -الرسوم المتحركة التي تُنتجها اليابان- مسلسل (مذكرة الموت Death note) سنة 2012، حيث كان هذا المسلسل بوابة عبوري إلى عالم الأنمي والهوس بشخصياته وحبكة أحداث قصصه..

كانت قصة مذكرة الموت تدور حول شاب حصل على مذكرة جعلته قادرا على تحديد آجال المجرمين من خلال كتابة أسمائهم فيها، مع إمكانية تحديد سبب الوفاة. وقد حصل عليها بعد أن أسقطها أحد (آلهة الموت) -كما يوصف في المسلسل وهو (إله) شاب يُدعى ريوك- في كوكب الأرض من أجل تحقيق بعض المتعة من خلال الدمار الذي يتوقع أن تحدِثه المذكرة في عالم البشر وكذلك للقضاء على رتابة عالم (آلهة الموت) والملل المترتب عن طول أعمار آلهة الموت وفقدان المعنى والغاية من الوجود!

وقعت المذكرة بين يدي هذا الشاب لتبدأ القصة بحصوله على قدرة خارقة سيحاول من خلالها تحقيق العدالة في عالم لا عدالة فيه، لينتهي به الأمر في آخر المطاف مقتولًا بعد أن استطاع الذكاء البشري عبر أجهزة الأمن والشرطة القضاء على هذا التهديد الخطير الذي يحرم البشر من حق الحياة لمجرد وقوعهم في بعض الأخطاء المصيرية، والمتمثل في هذا الشاب العبقري الذي أصبح يظن نفسه إلهًا يُنزل عقاب الموت على المجرمين، والذي لم يستطيعوا النيل منه إلا عبر جهد مرير وخسائر بشرية ومادية هائلة.

لماذا يجذبنا عالم الأنمي؟

إن الإشباع الخيالي للمُشاهد في هذا الأنمي وفي غيره لا حدود له، والأفكار العبقرية التي تكسر حدود المألوف في منتجات المنصات الكبرى للأفلام والمسلسلات كهوليود ونتفلكس تجعل من الأنمي ملجأ لمن أراد تجاوز حدود السينما ذات الشخصيات البشرية الحقيقية والتأثيرات البصرية التي لا تجاري الأفكار المجنونة في الأنمي.

لن أتكلم هنا عن الانبهار الذي يصيب المشاهد، من خلال إبداع “المانغاكا” -رسام القصص المصورة والذي غالبا ما يكون صاحب القصة- في رسم الشخصيات، والعبقرية السردية، أو سعة اطلاع كاتب القصة على الأديان والمعلومات التاريخية والعلم التجريبي وكذلك المعرفة الدقيقة بمشاعر النفس البشرية والقدرة على تجسيدها في قالب إبداعي.. كل هذا مُسَلّم به، وتتفوّق فيه اليابان على أمريكا والغرب بمراحل، رغم أن صناعة الرسوم المتحركة بدأت في الغرب قبل اليابان، بل إن اليابان نفسها استوحت تجربة المانجا من قصص (الكوميكس) الأمريكية، ثم تفوّقت عليها بعد ذلك.

في هذا الصدد يقول دوريون تشونج كبير المشرفين على متحف M+ في هونغ كونغ للثقافة المرئية: “لدى الأنمي خيال سردي غير مسبوق، وهذا هو أساس نجاحه العالمي”[1]

إن فئة المراهقين بالذات هي الفئة الأكثر هوسًا بالأنمي، نظرًا للخلطة التي تلمس في المراهق الجانب الطفولي فيه من خلال شخصياته المرسومة والمتحركة ذات المستوى الجمالي الأخاذ، حيث يُراعى في هذه الشخصيات ضخامة العينين وبريقهما وصغر الأنف والفم مع صفاء البشرة وتسريحة شعر مميِّزة لبطل الأنمي عن غيره من الشخصيات الأخرى، كما أنها تلمس الجانب الناضج فيهم، من حيث الأفكار العميقة والمعقدة ومعالجة القضايا الفلسفية والأخلاقية بطريقة فنية تجعل مدارك الشاب تنفتح على آفاق معرفية تجعل له حضورًا بين من يجالسه يشارك فيه برأيه ونظرته للأشياء من خلال ما تشكل له من وعي من خلال الأنمي.[2]

ويزداد انجذاب المرء إلى الأنمي لمراعاته مسألة لطافة شكل الشخصيات عبر ما يُعرف بـ: Kawaii وتعابير الوجه التي تزيد من إيضاح أحاسيس الشخصية  وتبالغ في التعبير عن مشاعر الحزن والفرح مما يلامس عمقا عاطفيا شديدا لدى المتابع، بالإضافة إلى موسيقى الخلفية المرافقة للأحداث والتي تكون على مستوى عالٍ من الإبداع حتى أنها تُعقد لها حفلات للسيمفونية تعزفها الأوركسترا تزيد المشاهد المعروضة تأثيرا على عاطفة المشاهد، ومن ذلك سمفونيات الأنمي الشهير Hunter x Hunter 2011 الذي دُبلج إلى العربية باسم: القناص، وغيره..

ويصل تأثير شخصيات الأنمي في المتابعين إلى حد ظهور بعض الحالات الغريبة في المشهد الرقمي على مواقع التواصل الاجتماعي، كالصراعات حول أفضلية أنمي معين، ونشوب حروب في المنصات الرقمية تصل إلى التعصب والسب والشتم والسخرية، وأشهر مثال على ذلك الصراع القائم على الأنمي الأكثر إثارة للجدل هجوم العمالقة Attack on Titan.

كما يظهر هوس المتابعين من خلال تنظيم مهرجانات التنكر بأزياء شخصيات الأنمي واستعمال مساحيق التجميل والأكسسوارات، للتشبه التام بها فيما يُعرف بـ: Cosplay، وتُعقد هذه المهرجانات بشكل متكرر في الكثير من الدول العربية وغيرها، وبالنسبة للمغرب فيسهر على تنشيطها Manga Expo Maroc بالإضافة إلى إنشاء معارض وأنشطة عبر دور الشباب، وعادة ما يُدعى هؤلاء المهووسين بالأنمي الحاضرين لفعاليات هذه المهرجانات بـ: الأوتاكو Otaku، وكذلك الأمر بالنسبة للدول العربية الأخرى نجد مهرجانات شبيهة كالتي تُعقد في السعودية من طرف سعودي أنمي إكسبو Saudi Anime Expo، وكذلك الإمارات وغيرها..

قوة ناعمة ودعم سياسي

إن هذا النجاح الذي حققه الأنمي في خلق مهووسين به وبشخصياته، وبالثقافة اليابانية وأطعِمتها، جاء في سياق سعي اليابان في تحسين صورتها بعد ما مارسته من جرائم وحشية في العديد من الدول على رأسها الصين في مذبحة نانجينغ -عاصمة الصين آنذاك- سنة 1937م والتي استمرت لأربعين يوما وخلفت أكثر من 300 ألف قتيل بين المدنيين والجنود العزل الصينيين في نانجينغ و20 ألف امرأة مغتصبة[3] .

يقول خبير الأنمي في جامعة ميجي بطوكيو (كيشيرو موريكاوا): “نجحت شعبية الأنمي اليابانية في غرس صور أكثر إنسانية لليابان”[4]، وهكذا يُصبح الأنمي قوة ناعمة لليابان تسعى من خلالها إلى تلميع صورتها دوليا.

إلى جانب ذلك فللأنمي إيرادات اقتصادية ضخمة على الاقتصاد الياباني، مما جعل صُنّاع القرار في اليابان يسعون إلى تنشيط صناعة الأنمي دوليا، فوصلت الإيرادات المجملة للسوق المحلي والسوق الخارجي لصناعة الأنمي إلى رقم قياسي بلغ حوالي 2.51 تريليون ين ياباني في عام 2019، قبل أن تنخفض بشكل طفيف إلى حوالي 2.43 تريليون ين في عام 2020 نتيجة لفيروس كورونا. (كوفيد -19) جائحة[5].

بين الإيجابيات والسلبيات

يسعى الكثير من المدافعين عن الأنمي إلى عدِّ إيجابياته التي منها إكساب الشاب وعيا بأهمية العلاقات الاجتماعية، العلاقة بالأسرة، العلاقة بالقائد، العلاقة بالأصدقاء، وتعزز معاني الوفاء والصدق والإخلاص والتضحية والإيثار، وفي الحقيقة نجد أن هذه المواضيع الأخلاقية تمثل خلفيات أحداث العديد من سلاسل الأنمي خصوصا منها فئة الأنمي الموجه للأطفال الصغار وهذه الفئة تُعرف باسم كودومو، ونجد ذلك أيضا بدرجة متفاوتة في السلاسل التي تنتمي لفئة الشونن-Shōnen التي تستهدف الأطفال ما بين 14 إلى 18 سنة والتي يكون مدارها على الأكشن والمغامرات والقتال، كما أن للأنمي المعرّب الذي كان يُعرض على سبيستون فضلًا على أبناء جيلنا في حب اللغة العربية وممارستها، والتحدث بها بطلاقة.

بالرغم من ذلك فإن الأنمي بشكل عام لا يخلو من مخاطر وانتقادات، من أهمها:
تسخيف مسألة وجود إله واحد حاكم كامل العلم والقدرة، حيث تجد في الأنمي خليطًا محيرًا من العقائد التي اختلطت على أرض الواقع في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تجد عقيدة تعدد الآلهة على الطراز اليوناني أو الشرقي  مع حضور كثيف للصليب المسيحي مع أنسنة للإله وغوص في مشاعره البشرية وكشف عن قدرته المحدودة في التعامل مع الأخطار المهددة له أو للأرض أو للبشرية، وفي بعض الأحيان إظهار الإله بصورة العابث الذي لا يتحمل مسؤولية أفعاله وألّا حكمة من أفعاله وإنما يُحركه فيها نزواته الشخصية الشريرة، وفي أحيان أخرى قدرة البشر على تملك قدرة إلهية  أو بلوغ مرتبة الإله كما هو الأمر في شخصية (ياغامي لايث) من أنمي (مذكرة الموت)، أو شخصية كوروساكي إتشيغو من أنمي (بليتش)، ولا يخفى تأثير هذه الأفكار في توليد إشكالات لدى النشء وجمهور المراهقين وغيرهم ممن لم تتشكل لديهم حصانة عقدية إسلامية، فتنبثق عن تلك الإشكالات أسئلة وجودية تكشف عن نزعة إلحادية تراكمت عبر أفكار الأنمي، من قبيل: لماذا يطلب الله من البشر عبادته؟ مَن خلق الله؟ وهذان السؤالان بطبيعة الحال نتجا عن مقدمة يُسلم بها هؤلاء وهي أنسنة الله، أي اعتباره مشابها للإنسان في ذاته وأفعاله وإرادته.

كوروساكي إتشيغو

وكذلك ولّد ارتباط الإله بالشر في عالم الأنمي لدى الكثيرين سؤال: لماذا يوجد شر في العالم؟ هل الإله شرير بطبعه؟ بل وأصبحنا نجد من يحاول إعادة قراءة القصة الأهم في تاريخ البشرية، قصة عصيان إبليس لله سبحانه في امتناعه عن السجود لآدم وإعلانه الحرب على ذرية آدم، قراءة ترى أن إبليس هو المظلوم في كل ما جرى، وهذا بطبيعة الحال عند الكثير من الشباب القائلين بذلك نتيجة تلميع صورة الشياطين في كثير من سلاسل الأنمي والأفلام التي تنتجها المنصات السنيمائية الكبرى اليوم.

يحب بعض الشباب -المنزعج من التحذير من مخاطر الأنمي- التهوين من الأمر مقدما أي انتقاد للأنمي في صورة كاريكاتورية بقوله: أتظنني سأصبح بوذيا أو ماسونيا إذا شاهدت الأنمي، لماذا تضخمون الموضوع، الأمر لا يعدو كونه تسلية!.

إن الإشكال أعمق من ذلك بكثير، وهو في كثير من الأحيان يتجاوز كونه تسلية إلى تسرب مفاهيم وتصورات عن الله لا تمت للاعتقاد الذي قدمه الإسلام عن الله بصلة، هذا التصور الذي يجهله الكثير من المسلمين اليوم بطبيعة الحال!


[1] https://sasapost.co/translation/japan-anime-global-identity-hnk-intl/

[2] من وحي: الأنمي وتأثيره في الجيل العربي، لحيدر محمد الكعبي، المركز الإسلامي للدراسات الاجتماعية، 74

[3] مقابلة: باحثون يابانيون يقولون إن الحقيقة حول مذبحة نانجينغ لا يمكن إنكارها_Arabic.news.cn

[4] كيف غير الأنيميشن صورة اليابان وأصبح صناعة بمليارات الدولارات؟ – CNN Arabic

[5] Anime industry in Japan – statistics and facts | Statista

عالم الجن والسحر بين الحقيقة والكذب

حوار مطول يجمع أحمد دعدوش وصهيب بوزيدي للحديث عن: – مصادر البحث في المسائل المتعلقة بالجن وعالمهم. – الرقية وتأثيرها ومصادرها. – إمكانية رؤية الجن والتواصل معهم. – حقيقة السحر وتأثيره. – الطاقة والقوة النفسية أو الروحية. – حقيقة وجود مواهب وقدرات روحية وما يسمى بالزوهريين وظواهر الباراسيكولوجيا. – التحذير من دخول هذه العوالم من باب الفضول.

زلزال تركيا وسورية.. حكمة الابتلاء ومعنى الحياة

عشرات آلاف الضحايا فقدناهم في زلزال تركيا وسورية، وتساءل البعض لماذا تحل المصيبة مرة أخرى بالسوريين المنكوبين؟ أسئلة كثيرة عن حكمة الابتلاء، وهل الكوارث عقوبة إلهية؟ وكيف نتعامل معها؟ إعداد وتقديم أحمد دعدوش

وقعت بنا كارثة.. كيف نتعامل مع الابتلاء؟

لا يمكن أن يمر على الإنسان حياة كاملة دون عذابات متنوّعة يعايشها ويعاينها كل فرد منا، مادية كانت أو معنوية، بل إن الإنسان ذاته لم يخرج من الجنة إلا ليوضع في الابتلاء والامتحان، أيتعبّد ربّه بالصبر والخضوع، أم يطيش عقله وتلتهب عاطفته بأسئلة الشك والتمرّد!

أرأيت صنوف الابتلاء وأنواعها، بما جدَّ منها وقدم، فإنها -على ما فيها من اختلافات ظاهرة- قديمةٌ قِدَم الحياة البشرية، ووجودها مرتبط بوجود الإنسان، فهي تتوالى على الإنسان منذ خلق اللهُ  تعالى أبانا الأول، فقال لنا محدّثًا مبيّنًا: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف: 27]، ثم تتابعت الابتلاءات في نسله من بعده، فأصابت الأنبياء والصالحين وأممًا بأكملها، فقال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}[الأنعام: 42-44].

بحثًا عن الابتلاء.. سياقاته وأسبابه

يتعدد الابتلاء في أنواع وأشكال مختلفة، وقد يكون ما في إنسان من ابتلاء غايةً عند آخرين، فيطمح الفقير لقصير منيف يختبر الله صاحبه به، ويطمح العقيم لولد يراه عند أخيه وقد ابتلاه الله به.

ولعلنا رأينا جميعًا أن القرار في المنزل أثناء انتشار وباء كورونا يحتوي أمانًا نسبيًّا من وصول العدوى، لكن هذا الأمان يتحوّل إلى خوف إذا ما جاءت الزلزلة واهتزّت الأرض، فيغدو حينها ساكن خيمة التهجير في أمان أكثرَ مما يسكن في قصر منيف..

إن تعدّد أنواع الابتلاء في كل شيء بين أيدينا -المادّي والروحي والنفسي والجسديّ- يبصّرنا بعِظَم الامتحان وضرورة إقامة حقّ الله بعبادته، والتسليم له مع الصبر والرضا، فلا يركن الإنسان إلى قلق اليأس الذي يدفع الإنسان إلى القنوط والحيرة واليأس، فالباري يقول: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وهذا -بطبيعة الحال- بعيد عن قلق الضعيف الذي يرى في ضعفه قوّة لإيمانه، فلا يغيب عن طرق أبواب المولى طرفة عين، بل يستمسك بضعفه عند الخالق ليمدّه بالصبر والقوة.

ولنرصد بعضًا من الآيات القرآنية التي تشير إلى الابتلاء صراحة في متنها، سنجد أنها تزيد عن ثلاثين آية عدا الآيات التي فيها ما يرادفها من الفتنة والاختبار والامتحان.

تشير هذه الآيات إلى سياقات متعددة للابتلاء، بين الشر والخير وكلاهما معًا، وينصّ كلٌّ منها على دلالة مباشرة، فما هي تلك الآيات، وما دلالاتها؟

نبتدئ من قوله تعالى: {وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، حيث وردت في سياق الشر، وتشير دلالتها إلى اختبار مقدار الصبر والأناة على المصيبة، وفي قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] فقد وردت في سياق الخير، وتشير دلالتها إلى اختبار التكليف، أما قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] فقد وردت في سياق الشر، وتشير دلالتها المباشرة إلى اختبار الصبر على المصائب الدنيوية، أما في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7] فكانت في سياق الخير والشر معًا، وأشارت دلالتها إلى اختبار العمل بين الصلاح والفساد، والإحسان والإساءة، وقوله تعالى {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] فكانت كذلك في سياق الخير والشر، ودالّة على عِظم ما نراه في حياتنا من خيرات ومسرّات ومكاره وشرور، وأننا نُختَبَر بها كلّها بموقفنا منها وتصرفنا إزاءها.

ولعل أعظم ما في هذه الابتلاءات المشار إليها في القرآن ما عُبّر عنه بالزلزلة فقد قال تعالى -حكايةً عن حال المسلمين- {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] فكان السياق سياق شر، والاختبار دائرًا حول الصبر والثبات.

وبالنظر إلى جميع ما يمكن رصده من سياقات الابتلاء كافة، فإننا نراها تكاد لا تتجاوز هذه القيمة العظمى -أي الصبر والثبات- وعليه مدار السياقات والدلالات المباشرة التي يفهمها أي إنسان ذي لغة عربية سليمة، مثل دلالة اختبار الثبات على الإيمان من عدمه، واختبار الأخلاق والضمائر ما فيها من خير أو شر، واختبار الصبر على الفقد، وكيفية اختيار طرق الخير وأضدادها، واختبار صدق الإيمان وغير ذلك.

إن غاية أنواع الابتلاء كلها -سواء كانت لغاية الإنعام أو الإضرار- بثّ العبرة واقتناص الموعظة {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، والإنسان بطبعه يحتاج إلى تثبيت وتوفيق من الله ورضًا يحكم قلبه في كلا الابتلاءين.

إنه شرٌّ مجّاني.. هكذا يقول المشككون!

تشير موسوعة ستانفورد للفلسفة إلى وجود مفهومين -على الأقل- عن الشر، أحدهما عام موسّع، وآخر خاص مضيَّق، ومن العجيب أن المفهوم العام يستوعب أي تصرّف سيئ، أو أي فعل خاطئ أو أي عيب في الشخصية أو التكوين أو الخِلقة أو الكوارث، فربما يتساوى -في الوصف على الأقل- وجع الأسنان مع كارثة كبرى[1].

قُسّم الشر بمعناه الواسع في مقال الموسوعة إلى فئتين: الشر الطبيعي والشر الأخلاقي، ومن اللافت للنظر أن الشر الطبيعي هو ما يطلق عليه الشر المجّاني لدى منتقدي الأديان من رؤوس الإلحاد -كريتشارد دوكنز-، حيث لا نوايا عاقلة خلفها، مثل الإعصارات أو وجع الأسنان كأمثلة على الشرور الطبيعية. في المقابل، تتمخض الشرور الأخلاقية عن نوايا أو إهمال الفاعلين الأخلاقيين؛ كالقتل والكذب كأمثلة على الشرور الأخلاقية[2].

يستدل هؤلاء القوم على أن وجود الشر المجاني يعني عدم وجود إله للكون، لأن الإله لا يفعل الشر على زعمهم -وقد أشرنا لتفكيك هذه الشبهة في مقال عن مشكلة الشر سابقًا– وبما أن مفهوم الشر الضيق ينطوي على إدانة أخلاقية، فإنه يُنسَب فقط للفاعلين الأخلاقيين من البشر وأفعالهم المباشرة[3].

أقتبس من كتاب د. سامي عامري [مشكلة الشر] النص الآتي: “يقوم المشككون في مسلك ساذج للتهييج العاطفي، بتجميع جميع الشرور في العالم باعتبارها كتلة شرّ واحدة حتى إن عددها يبدو للوهلة الأولى مفزعًا؛ للإيحاء أنّ الشرور في العالم بالغة الكثرة إلى درجة بالغة المعاندة لدعوى الحكمة والرحمة في الخلق.. وهذا منطق متكلف؛ لأن الصواب أن نتحدث عن الشر الذي يصيب الفرد الواحد باعتباره محنة للإنسان كفرد من جنس، أما جمع الشرور جميعًا فإنّه يخرج الدعوى من المعقولية إلى المبالغة والعاطفية. وكما قيل فإنّ كلّ شرور العالم لا تزيد على ما يعانيه كائن واحد يعاني أعظم البلاء؛ فإنه لا يوجد فرد يعاني كل شرور الدنيا. وإذا صحت الحكمة في معاناة أشدّ الناس بلاء، صحت في غيره من باب أولى. كما أن هذا المنطق يعتبر خاطئًا حسابيًا؛ لأنّ الأصل في هذا الكون الخير والانتظام لا الشر والفوضى؛ فإنّ عدد الأصحاء الذين لا يعانون آلاما تتجاوز المعدل المتوسط لتحمّل الأذى، أعظم بكثير ممن يعانون الأمراض التي تحرم الإنسان لذة الحياة والكوارث الطبيعية الكبيرة استثناء في الوجود لا أصل.. ولو أننا حسبنا الأمر بالنسب المئوية، فلا ريب أن نصيب الأذى سيكون بالغ الضعف. ثم إن أصل دعوى الشرّ المجاني هو النظر إلى كل شر كوحدة منفصلة، في حين أنه لو نظر إلى هذه الشرور كأجزاء من صورة العالم في كليته، فستتضح حكم لا تدرك إذا عزلنا كلّ جزء على حدة. [مشكلة الشر، ص: 150]

عند التفكير في “مشكلة الشر” كما يعرضها الملحدون والمشكّكون، نرى أن مكمن الخلل الأساسي قائم على تصوّر مشوّه للإله والكون، فهم يتصورون الإله بناء على خليط متراكبٍ من مفاهيم رحمة مبادئ حقوق الإنسان، وتقبّل الآخر، والآلهة الأسطورية التي تفنى في سبيل إرضاء عابديها.. فهم يريدون إلهًا حسب الطلب، يخدم الجماهير، ويغير رأيه مع تغيّر أمزجتها، وهكذا يمضي الزمان والإله يخدم رغبات الأسياد التي خلقها، وهكذا فإن الملحدين لا يصورون لنا إلهًا حقيقيًّا، وإنما إلهًا استقال من كونه واجب وجود إلى موجودٍ يسعى للمساواة مع الإنسان.

فما بالك بزلزلة الساعة؟

لا يملك المؤمن بالله إلا أن يسلّم بحكمته وعدله، ولا يقف أمام الاختبار إلا موقف الضعيف اللاجئ إلى ربه، فيرضي قلبه بأن ما جرى إنما جرى لأمر يريده الله، وأنه إن صبر فسيكون له الجزاء العظيم، اختبارًا لصبره، أو رفعًا لدرجاته، أو إعدادًا له لأمر أعظم، إيقانًا بالعدالة الإلهية الكاملة، فلا يكون هذا الكون بكل خيره وشروره إلا اختبارًا يبحث عن تجاوزه بما يرضي الله عنه فيه.

{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].

إن الإلف حجابٌ، فالإنسان قد لا يتوقف متأملاً الأشياء التي ألِفها؛ حتى يحدث انقلاب في معهود الأشياء، حينئذ يشعر الإنسان بحقيقة نعم الله، ولنأخذ كارثة زلزال تركيا وسورية على سبيل المثال، فقد جرى في أقل من دقيقتين ما يشيب له رأس الوليد.. ومبعث ذلك أن الناس لم يشعروا بنعمة قرار الأرض إلا حينما مادت من تحتهم وأسقطت بيوتهم وآمالهم، فشعر الجميع بضَعفهم الشديد أمام مخلوق من مخلوقات الله..

ألا يستوجب هذا أن يقف الإنسان لأجله معتبرًا لنفسه فيحثّها على الفوز في هذا الامتحان، بالصدقة والتطوّع والتعبّد والتعلّم وكل ما يمكن أن يكون سببًا في نهضة إنسان أو مجتمع أو أمة..

ما بال الإنسان يفزع لزلزلة لحظات، ما الذي سيقاسيه حين تُضرب الأرض من شرقها إلى غربها فتخرج أثقالها إيذانًا بساعة الحشر ووضع الموازين للقسط.

{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 1 – 8].


[1] ينظر: مفهوم الشر، موسوعة ستانفورد للترجمة، رابط المادة الأصلية: https://stanford.io/3xnOuVu ، رابط المادة بالترجمة العربية على موقع مجلة حكمة: https://bit.ly/3YUHlaV

[2] المرجع السابق ذاته.

[3] المرجع السابق ذاته.