image_print

في كل محنة بشرى خير ومنحة

قد يَنظر الإنسانُ إلى الظواهر ويَترك البواطن، فينظر إلى آلام المخاض ويَنسى فرحة الميلاد، فما الفائدة التي يجنيها إن لم يقبل التضحية الآنيّة للوصول إلى فرحة مستدامة، إن الذهب حينما يُستخرَج مادة خامًا لا بد أن يُوضع في النار حتى يُنقَّى مِن الشوائب، فيَصبح بذلك ذا قيمة غالية، فهل يجدي أن نتركه بين التراب أو في أعماق المجهول لئلا يتعرض للنار كذلك تَفعل المحَنُ بالمسلم، تنطوي على القهر والألم، إلا أنه يعقبها التمحيص والخير، قال تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 141]. فكل شيء في هذه الحياة يحدث لحكمة ولله الحكمة البالغة.

أين مكمن الخير؟

لا يعلم الإنسان من أي مكان أو سبب قد يأتيه الخير، ترى نفسك في كل يوم ساعيًا في شؤون تعتقد أنك ستجني من ورائها شيئا يهدّئ نفسك التي بين جنبيك، إلا أنك قد لا تحصّل شيئًا مما ترغب أو تسعى إليه.

إن الأمر الذي يكاد يتفق عليه معظم ذوي الخبرة من البشر هو أن الخير غالبًا يأتينا من حيث لا نحتسب، وبطرق ما كانت لتخطر لنا على بال، وعلى أيدي أناس ما توقّعنا يوما أنه سيأتينا من جهتهم خير، وأن الشر أحيانا يأتينا من تلك الطرق التي نسلكها بأنفسنا ظانّين أنه سيأتينا من ورائها خير وسعادة، أو قد يأتينا من أولئك الذين قصدناهم بخطى واثقة معتقدين أن خلاصنا مما نعاني سيكون على أيديهم.

لعل طريقة نظرنا للأمور خاطئة منذ البداية، وربما اعتراها البطلان، وما بني على باطل فهو باطل، وما كان للقاعدة أن تكون قوية ما دام أساسها مهترئًا، أو لعل الطريقة نفسها صحيحة، إلا أن وقت تنفيذها غير مناسب فأثَّر خطأ اختيار الوقت في صحة الطريقة، مما أنتج عنها سوء الفهم والحاصل.

تجربتي مع مرض السرطان .. ابحث عن ضعفك!

إن ضعف الإنسان وعجلته التي جبل عليها وحرصه على تهدئة نفسه وإرضائها، أمور تدفعه للوقوع في الكثير من الأخطاء التي يعض أصابعه ندمًا على مجرد تفكيره فيها لأول وهلة، ومن ثمّ فإن على المرء إعادة التفكير في نظرته إلى الحياة ووزنه للأمور.

على المرء -ما دام مؤمنا بالله- وضع الحسابات الأخروية نصب عينيه؛ حيث إن الغفلة عن هذه الحسابات سبب خساراته التي لا يجد لها تفسيرًا واضحًا.

عندما أرغب في الحديث عن الجانب المشرق من مرض السرطان، وأحاول التعبير عن الخفايا الوجدانية في الخلايا السرطانية أجد صعوبة في ترتيب الأفكار وصعوبة في إخراجها بأسلوب يليق بها، فلو لم يكن في السرطان من فائدة سوى أنه يكشف لك أيها الإنسان حجم ضعفك، وكم أنك محتاج لربك فقير إليه! لكفى بها فائدة عظيمة تغنيك طيلة عمرك عن الدنيا وما فيها، وتجعلك عزيزًا بحب الله فخورًا بدينك، مشتاقًا لوجه الكريم المتعال، ومن دون هذه الحقيقة لن يقرّ لك في الأرض قرارٌ، وستعيش فيها ضيِّقًا حرجًا متكدرًا مغمومًا ضائعًا حائرًا لا تعرف لك وجهة مأمونة ولا سبيلًا مستقيمًا.

إن حقيقةً جليّةً تثبت أنك ضعيف أيها الإنسان لهي هزةٌ عميقة، إذ بإمكان خلية عابرة لا ترى بالعين المجردة إخراجك من قصرك رغم أنفك ورميك على سرير في مستشفى تتلقّفك أيدي الأطباء والممرضين وأنت مستسلم لهم لا حول لك ولا قوة..

إنها الحقيقة التي تؤكّد أنك عبد للقوي العزيز، الله الذي رفع السماوات ومهد الأرض وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار الخافض الرافع المعز المذل، إنها الحقيقة التي تؤكد أن الطبيب ودواءه لن يشفياك إلا بإذن الله، ولو اجتمع أطباء الأرض وأدويتهم على علاجك فإنك لن تشفى إلا بإذن الله وأمره..

لهذا كله، لم أعتمد الأطباء بشكل كلي، بل علّقت القلب بالله رضًا بما اختار لي، وكنت أتتبع نصائحهم أخذًا بالأسباب وفي قلبي يقين راسخ بأن الله الذي خلقني هو يهدين، وإذا مرضت فهو يشفين، فهذه الخلايا السرطانية من خلق الله، وكما ظهرت بأمر الله فإنها ستزول بأمر الله رفعت الأقلام وجفت الصحف.

تمهّل .. لستَ الوحيد الممتحَن

من الخبايا الإيمانية في هذا المرض وغيره من الابتلاءات، أنه يذكرك بمِحَن الأنبياء خاصة مرض أيوب عليه السلام الذي تلقّى ابتلاء ربه صابرًا راضيًا بقضائه وقدره، يدعوه ويتضرع إليه، ويذكرك بدعائه وتردده قائلا: {رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83]، فتحس للحظات أنك تشارك نبيًّا من أنبياء الله في بلائه وألمه، وتقتدي به في توكّله على الله عز وجل، فتجد لذة في المناجاة ولذة في الصلاة.

تلك الركعات والسجدات التي تؤديها وأنت متعَب ضعيف لا تقوى على الوقوف، تُشعِرك بالصدق في دعائك، وبأنك تصلي لله بخشوع وبنفس متجردة من كل شواغل الحياة الدنيا، حينها ستسأل الله الشفاء وإن بلغ بك اليقين مبلغًا رفيعًا ستنسى نفسك ومرضك ومعاناتك وألمك، وستسأل الله أن يغفر لك ويرضى عنك ويجعل آلامك مكفرات لذنوبك، وسترى حقيقة الحياة الدنيا، وستتذكر تقصيرك وخطاياك ودينك الذي فرطت فيه، وسترى الصحة تاجًا على رؤوس الأصحاء خاصة حينما تحتاجها لتعبد الله وتخدم نفسك بنفسك وتستغني عن منن الخلق مهما أبدوا سرورهم بمساعدتك، لأن شعورًا بأنك عالة عليهم سيلازمك طيلة أيام عجزك، فتتمنى العافية لتتخلص من ذلك الشعور البغيض، ذلك أن الحاجة للناس تورث ألمًا نفسيا لا يطاق.

سوف تشعر بذوي الاحتياجات الخاصة وأنت نائم على السرير لا تتحرك إلا بجهد وعناء، ستشعر بآلامهم وتفهم إحساسهم تمامًا، وستكره نظرات الشفقة وتفهم لماذا يكرهونها، وستحاول أن تبدو بخير وسعيدًا وراضيًا وستفهم لماذا يبدون كذلك، وستحترمهم أكثر عندما تجرب شيئا من أحوالهم وأنت تعلم أنه مؤقت بالنسبة لك، ستتمنى لو أنك تمتلك عصًا سحرية كتلك التي في الرسوم المتحركة ما أن توجهها لمُقعد حتى يقوم ماشيا على قدميه، ولأنك لا تملك من أمرك ولا من أمرهم شيئًا ستكتفي لنفسك ولهم بالدعاء، حينها ستكون أكثر إنسانية ورحمة.

لماذا يطغى التشتت الذهني في حياتنا؟

لا تسير الحياة على نمط واحدٍ أو خطٍ مستقيم، فهي في تفاصيلها متعرجة، وفي أحداثها مختلفة، فلا تدوم على فرح مستقرٍّ أو حزنٍ دائم، ومن ثمّ فإن طبيعة الحياة التقلّبُ على أنماط عديدة وأشكال مختلفة، مما قد ينشأ عنه ضغوطات تؤثر في حياة الإنسان وأفكاره تدفعه للتخبّط والتشتّت.

وليستوعب الإنسان ما حوله ويدركه، ويكون بمُكنته التفاعل معه برصانة وفاعليّة، والاستجابة للتحديات المحيطة به دونما ضياعٍ، فإنه يجب أن يكون في حالة ذهنية مستقرة؛ إذ من المؤكّد أنه بمقدار التشابك والتداخل على أي شيء في حيز التركيز، فإنه سيؤثر في مدى تركيز الإنسان ويشتته وبالتالي يقل استيعابه أو ينعدم.

تخيل أنك تجلس مع طفل يمسك بهاتف ذكيٍّ في يده وعيناه ثابتتا النظر والتحديق في شاشته، وعقله سابح في تفاصيل الألعاب أو الفيديوهات أو التطبيقات التي يتابعها، فإنه من المؤكد أنه لن يستطيع جمع شتات تركيزه ويصبر ليركّز فيما تقول في تلك اللحظة.

إن صفة “التشتّت الذهني” باتت ظاهرة طاغية بين أبناء هذا الجيل، ولا تقتصر على الأطفال وإنما تتعدّاهم إلى مختلف الفئات العمرية، ولن يكون من المبالغة الزعمُ بأن جزءًا يسيرًا من الناس تقريبًا قد سلم من ظاهرة “التشتت الذهني” والفكري

مفهوم التشتت الذهني

لنبدأ الكلام في هذه الظاهرة ضمن نطاقها الضيّق micro-level أي على الصعيد الفردي؛ حيث عرّفت جمعية علم النفس الأمريكية التشتت الذهني -mind-wandering- بأنه حالة لا يظل فيها التفكير مركزًا على المهمة المطروحة، بل يكون متنوعًا وعفويًّا وغير مستقر1))

في دراسة أجراها كلٌّ من  أولريك نيسرUlric Neisser،  وروبرت بيكلين Robert Becklen في إطار التشتت الذهني، اختبرا الانتباهَ المركَّز على شيء واحد بوجود مؤثرات أخرى في المجال البصري، حيث أُجري البحث على أربع وعشرين طالبًا، فكان الاستنتاج الأهم في هذه التجربة أنه لا يمكن نفي الأشياء الموجودة في المجال البصري من الانتباه، وأنها تزيد التشتّت بكثرتها، وحتى إن كانت غير مركّز عليها من خلال المشارك في التجربة، كما خلصت الدراسة بناء على التجربة ذاتها أن التركيز يقل إلى النصف عند تعدّد المهام (2)، فكيف إذًا سيكون مستوى التشتت في ذهن يتعامل مع العديد من الألعاب وقنوات التواصل في الأوقات نفسها، وكم مقدار التركيز والثبات الذهني اللازم لتغطية كل تلك المهام؟

صورة تعبيرية عن التشتت الذهني

يوضّح علم الأعصاب أنّ المناطق التي تتحفّز في المخ عند تعاطي المخدرات ولعب القمار وأي إدمان، مثل اللوزة amygdala هي نفسها التي تُحفَّز عند استخدام وسائل التواصل وألعاب التقنية(3)، كما أن هذا العالم الافتراضي يزيد من احتمالية الاكتئاب والقلق والوحدة عند مستخدميه بكثرة (4).

إن من أعظم احتياجات الإنسان التي تدفع عنه الكآبة هو احتياجه إلى حس الجماعة والانتماء، والأنس بالآخر، وإذا ما تأملنا واقع اليوم فإننا نرى أن الأنس بالآخر الافتراضي قد طغى على الأنس بالأخ الحقيقي، بل إنه أصبح متنفَّسًا وذريعة للاستغناء عن أي شيء يمكن أن يعكّر مزاجه، فالبديل دائمًا متوفر، ولا تحتاج سوى ضغطة زرٍّ للوصول إليه(5).

من التشتت الأصغر إلى التشتت الأكبر

نتطرق الآن إلى المجال الأكبر macro-level  من أنواع التشتت، ونقصد به التشتت الفكري، الذي هو –في الحقيقة- المظلّة الجامعة للتشتت الذهني، وإن كان الاثنان يؤثران في بعضهما البعض، إلا أن تأثير التشتت الفكري في التشتت الذهني يشابه تأثير الكبير في الصغير، والعكس صحيح.

إن قنوات التواصل والتطور الهائل في التقنية جاءت على جسد مهيأ للتماهي معه، فلتغيّر العالم جدًا في مجال التواصل والاتصال تأثير كبير في ذلك، فمثلًا، وقوع خبر في أقصى الشرق يحتاج فقط إلى بضع دقائق إن لم يكن ثواني ليصل إلى أقصى الغرب، والوصول إلى المعلومة سهل جدًا والتواصل الافتراضي زاد في يسر ذلك، لكن هذا الانفتاح الهائل لم يكن محمودًا دائمًا، فكما نقلت السلع الأفكار قديمًا، مثل الوجبات السريعة والجينز وغيرها، ينتقل الإنسان من حيز التعامل مع السلع، لأن يصبح نفسه سلعةً أيضًا..

لنقف –على سبيل المثال- عند مصادر المعرفة وإصدار الأحكام للأجيال السابقة كجيل الثمانينات، فقد كانت أكثر ارتباطًا ومعرفة بالدين الإسلامي ممن جاء بعدهم (6) إذ إن الأجيال التي بعد هذا الجيل منفتحة على كثير من مصادر العلوم والمعرفة، بحيث إنها بدأت تشكك كثيرًا منهم في مصادر التلقي الأولى لدى المسلمين، أي القرآن والسنة.

ويعود السر للتأثر المتصاعد بأفكار الحداثة التي غطّت السطح، حيث بات من الطبيعي أن تجدَ العشرات من الناس ناقدين لكل شيء، ومؤمنين بأن النسبية المطلقة هي القول الفصل وأنه ليس هناك قطعيات للإيمان بها، وأن البشر قد تجاوزوا فكرة الحقيقة، فما بعد الحداثة أسهم أيضًا في تعزيز ما يسمى -post truth- ببعد الحقيقة(7)،

كل هذه الأفكار لاقت التعزيز من خلال قنوات التواصل وألعاب الفيديو، فكانت –من ناحيةً- مسببةً للإدمان والجهد العقلي واستنزاف طاقاته، وعلى صعيد آخر ناقلًا مهمًّا لأفكار وتصورات زائفة، تترسّخ يومًا بعد اليوم في أذهان الناس لطول الألفة والتكرار.

السعي للاستقلال

حين ننتقد وسائل التواصل فإننا لا ندعو إلى القطيعة الكاملة معها، ولكننا نحث على تقنين كيفية استعمالها بالطريقة التي لا تجعل منها إدمانًا وشهوة جامحة، أو نمطًا حاكمًا طاغيًا، وقد نستخدمه للوصول إلى المفيد منها الممكن منها وترك غير ذلك، ولكن يجب علينا ألّا ننسى أننا في واقع ليس من صنعنا -كما قال الدكتور عبد الوهاب المسيري- وعليه فإنه يجب علينا فهمه ومن ثم التأثير فيه.

هذا يقودنا إلى ملاحظة مهمة وهي أنه باستطاعة المسلمين السير نحو الاستقلالية الاجتماعية والثقافية من خلال قنوات التواصل الاجتماعي، فإذا كان الاستقلال السياسي غير ممكنًا حاليًا فإن الاستقلال الاجتماعي ممكن جدًا، ويمكن باختصار وببساطة إنشاء مواقع تواصل اجتماعية ضخمة تكون فيها اليد العليا للمسلمين وهم من يسنون القوانين فيها ويضعون فيها معايير ما هو قابل للنشر وما هو غير قابل له، فعلى سبيل المثال إن أكبر مكتبة لمحاضراتنا المرئية والصوتية نحن المسلمين هي اليوتيوب، وبذلك فإنا قد وضعنا أهم ما نملك في أيدي غيرنا، وليس في هذا ضير إن نفع الناس، إلا أن المشكل هو أن المتحكم فيه يضع قال الله وقال رسوله، مع ذات السوية التي يضع فيها جماعات LGBT بل ربما يكون لهم أفضلية التقدّم والترويج والدفاع، وما إلى ذلك من التفاهات، وفي الأحداث الأخيرة التي جرت في فلسطين رأينا أن كلًّا من يوتيوب وسناب شات وانستغرام وغيرهم من مواقع التواصل الاجتماعية، حاولت حجب الأصوات المدافعة عن فلسطين وإسكاتها!

ألا تستطيع أمة فيها قرابة ملياري إنسان أن يكون لها يوتيوبها الخاص بها بحيث ان المشاهد والمتابع لا تؤذى عيناه بالإعلانات الخادشة، أو دفعه لمشاهدة ما لا يريد بالاطلاع على خصوصيته واستخدام الخوارزميات algorithms لمحاولة التحكم به، على خلاف لو كان “يوتيوب” موجها بقيم الإسلام فإنه سيهدف لبثّ أكبر عدد ممكن من الفوائد سواءً العلمية والاجتماعية أو المادية.

ولو قمنا بحسبة يسيرة وقلنا إنه يوجد في العالم الان قرابة ملياري مسلم، وعلى أقل تقدير أيضًا يتوفر لثلث هذا العدد الامكانية للوصول إلى الانترنت، إضافة إلى وجود خمسين مليون على الأقل نشطين في مجال الانترنت والتواصل، وعليه فإن احتمالية نجاح مشروع مثل هذا كبيرة جدًا خصوصًا، إذا تعاون الشباب المسلم في مشارق الأرض ومغاربها للوصول الى هذه الاستقلالية التواصلية الاجتماعية الثقافية.

بكل تأكيد هناك تحديات كبيرة أمام مثل هذه المشروع، مثل توفير الريسيفيرات الخاصة المشغلة لها، إلا أنها تبقى تحديات في حيز الممكن.

ما الذي يمكن فعله؟

إضافة إلى حاجتنا في الاستقلالية الاجتماعية والفكرية، فإنه للمساهمة في التخفيف من وطأة التشتت الذهني والفكري ينبغي علينا أولًا تعزيز الهوية الإسلامية لدى الأطفال والشباب وتكثيف الجهود للتعريف بالقرآن الكريم قراءة وحفظًا وتفسيرًا وتدبرًا، إضافة إلى تقوية ارتباطهم بالسنة النبوية والنبي صلّى الله عليه وسلم، صورة وسيرة وسريرة، وتعليم أبنائنا أن ينظروا لما حولهم بعيونهم وما أخذوه من صافي الإسلام وصحيحه، وتشجيعهم على التفكير الناقد، لأن أغلب الأفكار المستوردة تحمل في طياتها هشاشتها، إلا أن لتأثير سلطة الثقافة الغالبة دور في ترسيخها.

وهذا يقودنا الى جزئية مهمة وهي معرفة التاريخ وفلسفته والجغرافيا، وأهميتها في صناعة التاريخ، وقد قيل: إن الجغرافيا أم التاريخ، والتاريخ هو منبع الأفكار المؤثرة في العالم حاليًا، وخصوصًا وليس –حصرًا- دعاوى ونظريات الليبرالية الغربية، والنيوليبرالية، والرأسمالية، والداروينية.

في هذا الإطار لا بد –أخيرًا- من التأكيد على أهمية وضرورة تنشيط دور الآباء والمربين في زيادة الوعي لدى الأطفال، خصوصًا  عبر التعليم والتدريب على تنظيم الوقت وإدارة المهام، وإعطاء فرصة للتعلم بالترفيه والاستكشاف الذاتي “الموجّه”.

ختامًا، فإن التشتت بشقيه الذهني والفكري موجود وله تأثير على جميع الفئات العمرية، خصوصًا الأطفال والشباب، إلا أنه يمكننا السعي لفهمه ومعرفة أسبابه ونتائجه، وتقديم حلول له بحول الله وقوته.


الإحالات

https://dictionary.apa.org/mind-wandering

Selective looking: Attending to visually specified events https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/0010028575900195

Excess social media use in normal populations is associated with amygd… https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0925492717302159

 

https://www.google.com/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=&ved=2ahUKEwjx3dOl84vvAhVBXxoKHZ56DaUQFjAJegQIBxAD&url=https%3A%2F%2Fcreativematter.skidmore.edu%2Fcgi%2Fviewcontent.cgi%3Farticle%3D1011%26context%3Dsocio_stu_stu_schol&usg=AOvVaw3oo4_1Rp2iygnfnrdwmwAB

 

https://doi.org/10.1177/0973258617708367

الجيل الصاعد، أحمد السيد

https://www.philosophytalk.org/shows/postmodernism-really-blame

تسرب الأجندة النسویة إلى المجتمع الإسلامي عبر الأیقونات النسویة

لا یخفى على ذي عین تغلغل الخطاب النسوي في المجتمعات حول العالم كله، أما في مجتمعنا الإسلامي الذي ما زال یقاوم رغم الكثیر من الھشاشة والضعف، فإن الخطاب النسوي قد وجد العدید من الآذان المصغیة والكثیر من المريدين والمریدات، وتمكّن من بسط سطوته على كثير من مظاهر حیاة المرأة المسلمة والمجتمع المسلم.

وحتى نفتح ذھن القارئ على الوعي والحذر من الخطاب النسوي، الآخذ في الاندماج مع كُل الخطابات والتحركات الموجھة نحو المرأة؛ فإننا سنناقش في ھذا المقال كیفیة تغلغل خطاب النسویات في المجتمع الإسلامي، عبر إحدى الآلیات المھمة، وھي تصدیر وتلمیع الأیقونات النسویة.

تاریخ النسویة

كانت بدایات الحركة النسویة في مطلع القرن الحدیث في أوروبا، إذ سعت العدید من النساء إلى رفع الظلم الاجتماعي والدیني والسیاسي الواقع علیھن، وكان ھذا التحرك في أغلبه ردَّة فعل، فلم تكن تلك البدایات تأخذ شكل الحركة المنظمة، وظلَّ الجدل قائمًا على صحة تسمیتھا بالنسویة حتى بدایات القرن الثامن عشر، حيث لم تشھد تلك الفترة تحسّنًا یُذكَر في وضع النساء، لكنھا أصبحت تمھیدًا لما جاء بعدھا.

بدأت الموجة الأولى للحركة النسویة في نھایات القرن التاسع عشر وبدایات القرن العشرین؛ إذ ركّزت على اكتساب الحقوق القانونیة والسلطة السیاسیة وحقوق الاقتراع والتصویت.

تلتھا الموجة الثانیة في ستینات وسبعینات القرن العشرین، التي سعت للمساواة المطلقة بین الرجل والمرأة، ثم الموجة الثالثة في تسعینات القرن العشرین، والتي ركزت على ضم شرائح أكبر من النساء من مجتمعاتٍ وفئاتٍ مختلفة مثلَ ضم حقوق المثلیات.

تسرب النسویة للعالم الإسلامي

إن أكثر ما تسربت النسویة عبره إلى المجتمعات المسلمة ھو خدعة حقوق المرأة وتحریر المرأة، ومما لا شك فیه أن المرأة الغربیة ذاتھا لم تحقق أي مكاسب، سوى استعبادھا واستقلالھا بما لا یناسب فطرتھا وطبیعتھا، فكان أن أقیمت العدید من المؤتمرات العالمیة في شأن المرأة، ومؤتمرات السكّان التي تتحدّث عن المرأة والأسرة بشكل مباشر وغیر مباشر.

كما صدرت المعاھدات والمواثیق والاتفاقات الدولیة مثل: اتفاقیة “سیداو” الشھیرة والمُسماة بجملة رنّانة هي “اتفاقیة القضاء على كافة أشكال التمییز ضد المرأة” لكنھا في الحقیقة تعمل على تشویه الفِطرة وخدمة النظام العالمي والأجندة النسویة المشوھة.

آلیة المؤتمرات والمعاھدات تخضع لسلطة النظام الحاكم، الذي یخضع لسلطة النظام العالمي والأمم المتحدة، وعادة ما تقاومھا المجتمعات لأنھا آلیات تبدو واضحة -نوعًا ما- في سعیھا لتفكیك المجتمع المسلم، فنجد الاعتراضات والمظاھرات تُقام ھُنا وھناك حین تشرع بعض الدول الإسلامیة في القیام بالتوقیع أو تنفیذ أجندة تلك المؤتمرات.

لكن الآلة الإعلامیة ھي الأخطر، لنعومة السلاح الذي تحمله ولوجودھا في كُل البیوت، ولكونھا تشكل منبرًا لتصدیر أیقونات النسویات في البلدان الإسلامیة، وتطبیع المجتمعات مع خطابھن وإیصال الخطاب النسوي عبرھن إلى كل بیت مسلم من خلف تلك الشاشات.

تفتح أبواب المؤتمرات والمجالس لمجموعة مختارة من النساء اللواتي یحملن الفكر النسوي، سواء حملنه بوعي منھن أو بدونه، فمنھن من اتخذت من النسویة فكرًا وعقیدة وأصبحت تدافع عنھا بكل شراسة وتنشر أفكارھا، وأخریات یسرن تحت مظلتھا دون وعي منھن -على أحسن تقدیر- وكونھن نساءً نشأن في المجتمعات المسلمة ذاتها، وعشن تجارب المرأة المسلمة في تلك المجتمعات، فھن أقرب لإیصال الخطاب النسوي وأوقع في النفوس الضعیفة.

تأخذ وسائل الإعلام التابعة للنظام العالمي على عاتقھا فتح أبواب الشھرة لھن، إذ یتم تصدیرھن كقدوات للمرأة المسلمة وقائدات لركب التغییر والعولمة، لتَلْمَعَ العدید من الأسماء في العالم العربي والإسلامي لنساء بعضھن یحاربن الدین بصورة مباشرة، وبعضھن الآخر یسمین أنفسھن منتمیات للإسلام، لكن لا مشكلة لدیھن في قدح ونقد كلام ﷲ وشرعه، وھدم القیم، والحرص على أسلمة كُل ما ھو غربي، والصدع بتبجیل معاھدات حقوق الإنسان وأیام المرأة العالمية.

دعم لا محدود

مع كُل الأحداث الكبیرة الساعیة للتغییر التي تعصف بالعالم الإسلامي كالثورات والحروب، یسارع النظام العالمي الحاضن للفكر النسوي إلى تلُّقفِ ھذه الفئة من النساء دون غیرھن ليستديرَ مركِب التغییر نحو شاطِئه، فنرى احتفاءه بخروج النساء في مواكب المظاھرات ومواجھتھن للرصاص والقمع، لكن ھذا الاحتفاء عادة ما یُخفي تحته أجندة تختلف تمام الاختلاف عن الأسباب التي دفعت النساء للخروج ومواجھة القمع، وفي النهاية يختار النظام العالمي لذراعه النسوية تلك الشخصيات.

بعد الثورة في مصر عام 1919م، والتي أعادت سعد زغلول للحكم، برز اسم  “هدى شعراوي” كرائدة نسویة تدعو لخلع الحجاب والتحرّر منه، وفي مصر أیضًا نجد الإعلام قد بسط سجادته الحمراء للنسویة المثیرة للجدل”نوال السعداوي” التي مثلت حالة نسویة فریدة وشاذة، ورغم آرائھا الغریبة والمتناقضة مع الواقع والدین الإسلامي ؛ إلا أن أطروحاتھا كانت تُقدّم على أنھا نضالٌ مستمرٌّ لأجل المرأة في وسائل الإعلام.

هدى شعراوي (جهة اليمين) ونوال السعداوي (جهة اليسار)

وفي باكستان نجد الفتاة الباكستانیة “ملالا یوسفزي” قد اكتسبت شھرة عالمیة بین لیلة وضحاھا، والتي یمكن تصنیف بدایة طریقھا تحت قائمة النساء اللواتي تُمرر أھداف النظام العالمي عبرھن دون وعي منھن، فھي لم تكن رائدة نسویة، بل ذكرت في مقابلة لھا أنھا اعتقدت في البدایة أن الحركة النسویة “كلمة مخادعة” لكنھا بعد ذلك أصبحت تعتقد أنه على كل شخص أن یصبح نسویًا.

ما حدث لملالا من باب الصدفة كان فرصة لم یضیّعھا النظام العالمي، فأصبحت أیقونة وتحولت بلمح البصر إلى ناشطة ومدافعة عن حقوق الطفل والمرأة، وھي لم تتجاوز بعد سن المراھقة، لكن حین ینظر الناظر إلى حال النساء في أفغانستان، یرى أن تلمیع الأیقونة ملالا لم یأتِ بخیر على ذلك المجتمع، فتدخل البعثات الأممیة تحت ذریعة تمكین النساء والترویج للمرأة الأفغانیة كأمة مُضطھدة زاد من تعقید الوضع.

في الیمن بعد الثورة الیمنیة نرى الدعم یحیط بتوسل كرمان دون غیرھا من النساء. وفي سودان ما بعد الثورة، برزت صورة لفتاة تُدعى “آلاء صلاح” ترتدي الثوب السوداني الأبیض، واقفة على ظھر سیارة تُردد بعد أھازیج الثورة، ورغم أن الكثیر من الفاعلین في الثورة قد انتھى دورھم بعد انتھاء الحِراك على الأرض؛ إلا أننا نجدُ أن طریق الإعلام والمؤتمرات الخارجیة قد فُتِح أمام ھذه الفتاة، فألقت بيانًا في الأمم المتحدة، وكانت آخر مشاركاتها في مؤتمر باریس لإعفاء دیون السودان.

توكل كرمال (أعلى اليمين)، ملالا یوسفزي (أعلى السيار)، آلاء صلاح (الأسفل)

ولا یھمنا ھُنا إن كان حراكھا مع نغمة النظام العالمي وأجندة الحركة النسویة بوعي منھا أم لا، لكن ما نرید أن نذكره ونوضحه، ھو سعي النظام العالمي بذراعه النسویة إلى اختیار أیقونات نسائیة مثیرة للجدل، أو لا تحمل رسالة معینة ولا ھدف، وإن كُن یحملن فھو ھدف یصُب في مصلحة الحراك النسوي والنظام العالمي الجدید، ولا یصب في مصلحة الإسلام – المنبع الرئیسي للمرأة المسلمة- بقدر ما یبعدھا عنه ویشوھه، ودوننا ما آلت إلیه حال النساء في العالم الإسلامي.

لن نجد أبدًا النظام العالمي والحراك النسوي، یتحدث ویمجد ویمنحُ الجوائز ویفتح أبواب الإعلام، للنساء اللاتي یُضربن ویُحبسن ویُقتلن في فلسطین، أو یُمنَعْنَ من دخول المسجد الأقصى، أو اللاّتي یُحظر علیھن ارتداء الحجاب والنقاب في فرنسا وبعضٍ من دول أوروبا، ولن نجده یتلقّف الفاعلات ضد الظلم في مجتمعاتھن إن كُنَّ یتخذن الوحي كمصدر وموجه لحراكھن.

كیف السبیل إلى القدوات الحقیقیة؟

الآلة الإعلامیة التي تبرز ھذه الأیقونات في الغالب، لن یستطیع المجتمع المسلم وأدھا أو تغییرھا ببساطة، كما أنه غالبًا لا یملك الأمر في إلغاء سیاسات الحكومات التابعة للنظام العالمي بكل سھولة، والمقصود الأساس بالتدمیر ھو الأسرة المسلمة متمثّلة في إحدى أھم لبِناتِھا وھي المرأة، لذلك فالسبیل للنجاة یأتي عن طریق الأسرة المسلمة نفسھا، ومن یحملون ھم الأمة من مربّین ومعلمین ودور تعلیمیة ومؤسسات إعلامیة وغیرھا.

عبر إحیاء التراث الإسلامي ككل والمتعلق بالمرأة على وجه خاص كجزءٍ من الحل، وإبراز القدوات النسائیة الحقیقیة سواءً قدیمًا أو حدیثًا، بدءًا بالصحابیات رضي ﷲ عنھن ومن سبَقْنَھُن كمریم بنت عمران وآسیا بنت مزاحم، وصولًا إلى المعاصرات اللواتي وفّقھن ﷲ لطریق الحق، بتوضیح أدوارھن وقصصھن وأخبارھن، وتعریف الأجیال وملء الواقع بھن ولو في إطار الأسرة الصغیرة، لأن التغییر الحقیقي والعودة للمنبع الأصیل لا یحدث فجأة، لكنه ینشأ تدریجیًا عبر أیام متتابعة وأجیال واعیة ونساء ورجالٍ یتخذون موردھم من أصالة دینھم وسماحته.


المصادر

  • إكرام بنت كمال بن معوض المصري، عولمة المرأة المسلمة “الآلیات وطرق المواجھة”، مركز باحثات للدراسات المرأة، الریاض، 2010م/1431ھـ، الطبعة الأولى.
  • د. سامي عامري، العالمانیة طاعون العصر، مركز تكوین للدراسات والأبحاث، 2017م/1438ھـ،الطبعة الأولى.
  • أحمد دعدوش، مستقبل الخوف، مؤسسة السبیل، اسطنبول، 2021م/1442ھـ، الطبعة الأولى.
  • مثنى أمین الكردستاني، حركات تحریر المرأة من المساواة إلى الجندر، دار القلم للنشر والتوزیع،القاھرة، 2004م/1425ھـ، الطبعة الأولى.
  • محمد أحمد إسماعیل المقدم، عودة الحجاب، دار طیبة للنشر والتوزیع، الریاض، 2006م/1427ھـ،الطبعة العاشرة.
  • (بيان آلاء صلاح في الأمم المتحدة) https://www.unwomen.org/en/news/stories/2019/10/speech–alaa-salah-at-the-open-debate-on-wps

 

ما هي عوامل النهضة المنشودة؟

يدعو الإسلام إلى إقامة مجتمع فاضل تسوده الأخلاق الحسنة والمعاملات الطيبة، ويسهم المؤمن في بنائه بما يتصف به من أخلاق حميدة، وبما يؤثره مع غيره في نفوس أبنائه وأسرته، وذلك نابع من وعي الإنسان المؤمن بدوره في الحياة.

في حالة المسلمين المعاصرة، فإن المسلم الواعي مسكونٌ بهمّ النهوض الحضاريّ بمجتمعه وأمته من جديد، وتوحيد صفوف الناس من حوله للعمل بمبادئ الإسلام والاصطفاف حول شريعته، فالمجتمع عبارة عن تجمّع بشري يمتلك أفكاره ومبادئه الخاصة، وله صفاته وشخصيته التي تُمثله وتُحدد معالمه، وقد نَجد مجتمعات كثيرة زاخرة بأفرادها والمنتسبين إليها، إلا أنها فقدت الشخصية والتعاليم التي كانت سببًا في تطوره، وهذا عائد لانحلال أفكاره في ثقافة المجتمعات الغالبة.

الانفصال عن الهوية الإسلامية

هذا بكل اختصار ما نعيشه اليوم في مواجهة زحف الثقافة الغربية علينا وتقليدنا الأعمى لها، فقد أصبح الواحد منا يعيش في انفصال بين هويته الإسلامية التي يؤمن بها وبين نمط العيش الغربي الوافد عليه، بين نظام الحياة القائم المتصف بالعلمانية ونبذ الدين من مختلف القوانين المنظمة لحياة الأفراد، وبين تشريعات الدين الرباني، وهنا يَصْدق الوصف الإلهي الجلي على واقعنا حين يقول الله عز وجل: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].

ولو أجلنا النظر في هذا المثل الكريم لوجدنا أطرافًا منه في حياتنا، فالمبادئ والقيم الوافدة علينا المزيّنة بعناوين الحرية وقبول الآخر، مشاكسة للقيم الإسلامية التي تبيّن الحق والباطل والحلال والحرام وما يتوافق مع الفطرة ويرفضها.

كثير من المسلمين يجدون أنفسهم مشتتين بين مختلف الدعوات والقوانين الغربية، لا يدرون ماذا يأخذون منها وماذا يتركون، ضائعون بين نمط العيش الذي يتحوّل يومًا بعد يوم إلى باطل محضٍ، وفساد مكين في مختلف القطاعات، فغدا الحرام بشتى صوره في حياتنا حرية شخصية يجب احترامها، بل وعدم نقد تعلق الآخر واتصافه بها، وكأن الانتماء للإسلام بات صورة شكلية لا أثر عملي له في واقع الحياة.

يعلم الفرد المسلم في داخله حرمة الكثير من الكبائر كالربا والزنا والخمر والميسر والغش بمختلف أشكاله كالرشوة والتزوير والسرقة بمختلف أنواعها والخيانة والظلم في الأعراض والأموال والدماء إلخ.. إلا أن كثيرًا من المسلمين رغم ذلك يُقْبلون على مختلف هذه الحرمات مدفوعين بانبهارهم بالحداثة والحياة العصرية وتقليد المجتمعات الغربية وثقافتها الغالبة، ويبحثون لها عن التفاسير والتعليلات مُحاولين إقناع غيرهم بها.

وأما المثل الثاني في نفس الآية فهو يُمثل الفرد المخلص لربه والمُتمسك بمبادئ دينه فله رُؤية واضحة في الحياة وله مصدر واحد يستمد منه قوانين الحياة فلا يزيغ عنه ويُصبح كل تركيزه في أداء رسالته التي وُكل بها ويَشعر في داخله بسلام وراحة لوضوح معالم الطريق الذي يَسلكه، وبمثل هؤلاء الأفراد يستطيع المجتمع الحفاظ على كيانه وشخصيته من الطمس والضياع، ولو هلك جيل من أجيال هذا المجتمع فإنه سيُحافظ على مبادئه ومعالمه وسيحافظ على رسالته ودوره، وسيكون الجيل الجديد ملتزمًا بتعاليم الآباء والأجداد متمسكًا بثوابته.

وسائل النهضة

أشرنا في مقالٍ سابق إلى عاملي القدوة والقرآن في بناء المجتمع، وهنا نؤكد على أن التكامل مع هذين العاملين يبتدئ بالوسائل المناسبة لذلك، بدءًا من الإعلام، الذي يزيد قوة الكلمة وتأثيرها، بل إنه صار الوسيلة المُتاحة الأهم للسيطرة على العقول وصياغة أفكارها، فما إن يجلس أحد ما أمام التلفاز إلا وتوجّه له الرسائل إما بهدف تفريغه من القناعات المسبقة أو تعزيز بعضها أو إنشاء قناعات أخرى جديدة.

جميعنا يعلم أن الإعلام سلاح ذو حدّيْن، فعندما يستغله أهل الباطل فإنهم سيَسعون لنشر أفكارهم داخل المُجتمع وفرض نفوذهم مُحاولين طمس هوية المُجتمع وتغييرها وفق أهوائهم، وإشغال أفراده بتوافه الأمور وتغييبهم عن أهم قضاياهم ومشاكلهم ومنعهم من النهوض أو مُحاولة كسر قيود الجمود والجهل والتخلف.

وفي ظل انكماش أهل الحق وانعزالهم في مزاحمة أهل الباطل إعلاميا، فإنه لن يكون لهم تأثير في واقع الحياة، ولن يستطيعوا نشر الوعي واليقظة داخل المُجتمع، ولن يقدروا على تقويم سلوك الأفراد وتغييرها، فنحن نحتاج اليوم إلى صناعة الكلمة القوية والمؤثرة على أن تكون مُستمدة من روح القرآن ومبادئه، لإظهار الحق ونشر ثقافة القرآن داخل المجتمع، ومن أجل ذلك يجب توحيد الجهود المادية والعلمية حتى نتمكّن من صناعة مادة علميّة مُؤثّرة تجذب المُستمع والمشاهد لها وتُغيّر من نفسه.

و من الوسائل المُهمة أيضًا مُحاولة إقامة مجالس قرآنية داخل كل بيت، فعلى الأب والأم تأسيس حلقات تعليمية لدراسة القرآن وتدبّره، وحتى لو ظنّا أنهما بعيدين عن تعاليمه وجاهلين بعلومه فيُمكنهما اعتماد أحد كُتب التفسير المُتاحة والإقبال على كتاب الله مع أبنائهم والسعي لتلاوة الآيات آية آية، ومُحاولة فهم المُراد منها وكيفية تطبيقها، وفي هذا حفظ للأسرة وتوطيد للعلاقات داخلها وضمان تربية قرآنية سليمة للأبناء وطَبعهم على قيمه وأخلاقياته، ولا ننسى أيضًا أهمّيّة المجالس القرآنية المنظّمة داخل المساجد أو خارجها مع الحرص على فهم الآيات التي تُتلى فليس الهدف من القرآن حفظه بلا فهم ودراية وعمل والتزام بمبادئه أو تبيين المنهج العملي لمُختلف أحكامه.

ومن الوسائل أيضًا الحرص على تكوين المُسلم القائد والمؤثر من خلال الاستعانة بخبراء ومُختصين في مجال علم النفس والاجتماع وغيرها من العلوم المُهتمة بتكوين شخصية الإنسان وتربيته على المبادئ المُثلى، ويُمكن للجمعيات الناشطة داخل المجتمع التكثيف من الدورات المجانية في هذا المجال، وفتحها للعموم وإيصالها للجميع، بهدف بناء الإنسان المُسلم القادر على تحمل المسؤوليات والمُبادر بالتغيير والمُستعد لخدمة رسالته في الحياة.

المجتمع ودوره في النهضة

إذا ما توفرت عوامل القدوة وتدبر القرآن والوسيلة الملائمة، فإننا بحاجة إلى عامل أخير، إنه العلاقات الاجتماعية، فقيمة كل مُجتمع مُرتبطة بأفكاره ومبادئه وأهدافه التي يحملُها ويُؤمن بها، فما نعيشه نحن اليوم هو توفر الفكرة والمبادئ المُتمثلة في الإسلام وشريعته، ولكن هل يُوجد في مُجتمعاتنا من يأخذها بقوة ويُقيمها في واقع الحياة؟ أم أننا أصبحنا مُجتمعًا يعيش على هامش الحياة يأخذ قيمه وتصوراته في الحياة من مصادر مُتناقضة؟

إن المعادلة الناجحة لنا هي الإسلام وشريعته مع وجود فئة مؤمنة به وعاملة بأركانه ومٌلتزمة به كمنهج للحياة مع إرادة الأفراد في النهوض وتطوير مُجتمعهم مع الانسجام والتوافق والتعاون بينهم والاستعداد لبذل أقصى الجهد من أجل تحقيق هذه الغاية، وأن تكون روح الأخوة جامعة بينهم لحمل أمانة الرسالة وتحقيق مبادئها، وهذا ما فعله رسول الله عليه الصلاة والسلام عند بناء المجتمع بالمدينة بالمؤاخاة بين الأنصار والمُهاجرين فكانت علاقتهم متماسكة متينة، وبالتالي كان المجتمع على قلب رجل واحد من ناحية، وذو تصور واضح ومنهج واحد في الحياة من ناحية أخرى.

من جملة مُشكلاتنا اليوم انتشار الاحتقان الاجتماعي النابع عن التعصب، فكل فريق يُريد فرض رأيه على الآخر، وكلٌّ يرى نفسه الأحق بالاتباع وعلى الآخرين السماع له وتنفيذ أمره، وهذا المُجتمع المنقسم لن يكون قادرًا على تغيير مجرى التاريخ وصناعة مُستقبله، ونحن بأمس الحاجة اليوم لأن نعيش مفهوم الأخوة الإسلامية، وأن يكون هدفنا واحدًا نتشارك فيه جميعًا، وأن نكون مُنسجمين ساعين للتطور والعمل والتغيير وعلينا نبذ الدعاوي العصبية العمياء القائمة على الجنس والعرق والانتماءات الحزبية والطبقية، وألّا نقع في فخاخ أعداء الأمة الساعية لتفريقنا وتشتيتنا وإدخالنا في صراعات لا تزيدنا إلا هلاكًا وتخلّفًا، فنحن مُجتمع مُسلم ولن ننهض من جديد إلا بالعودة إلى الإسلام كمنهج كامل للحياة.

ولا ننسى أيضًا كيد أعداء الأمة الناهبين لثرواتنا والذين يتمنون استمرار حالة الركود والجمود عندنا، فهم يتبعون سياسة “فرق تسد”، فأعداؤنا يدرسون مُجتمعاتنا ويضعون الخطط اللازمة لتفتيتها، وأما نحن فما زلنا عاجزين عن التحرك للحفاظ على وحدتنا أو الدفاع عن المجتمع في وجه الانقسام والانحلال على الأقل، كما أننا مُطالبون بدراسة مُجتمعنا بطريقة علمية ووضع الاستراتيجيات المُناسبة للنهوض به وإخراجه من سجن التخلّف الذي يُلاحقنا منذ قرون.

خلاصة القول

وما نستخلصه هنا أن المجتمع يَحتوى في داخله على صفاته الذاتية التي يُمثلها أفراده الذين يقومون بتحديد شخصيته، ولا يكون ميلاد مجتمع ما إلا تلبية لنداء الفكرة التي يؤمن بها أفراده الذين اجتمعوا من أجل تحقيقها وجعلوا علة وجود مجتمعهم وغايته واستمراره قائمة على القيم والمبادئ التي اجتمعوا حولها وأنشأوا من أجلها مجتمعهم، وعندما يفقد الأفراد داخل المجتمع هذه المبادئ وتتشتت الأفكار والمفاهيم فإنهم سيدخلون مرحلة الجمود والخمول، وهذا إعلان واضح بزوال هذا المجتمع وانحلاله.

وإذا حاول أفراد المجتمع النهوض من جديد والدخول في حركة الحضارة وصناعة تاريخهم فعليهم الأخذ بعلة البقاء المُتمثلة في تحدي الواقع وتغييره ومواجهة مختلف الصعوبات المُنتظرة وتَحمّل المسؤولية وعدم الفرار منها لإعادة بناء شخصية مجتمعهم وترسيخ مبادئه، فلو كانت رغبة هذا التحدي ذات فاعلية قوية داخل نفوس الأفراد فستكون استجابتهم للتغيير والعمل والنهوض إيجابية، وفي المقابل إذا كانت القُوى التحفيزية ذات تأثير ضعيف داخل نفوس الأفراد فلن يكون هنالك تأثير على واقعهم.

صناعة التجميل .. والاستغلال الأنيق للأنثى

في متجر مستحضرات التجميل أو طابقها من المحلات الكبيرة، تنتشر ماركات المكياج على مد البصر على الرفوف المضاءة البراقة، محاطةً بالصور العملاقة للمشهورات أو أجزاء من وجوههن المنقّاة من أي شائبة طبيعية لضمان اقتناع المشتري بفعالية المنتج المعروض.

هذا المكان الذي يبيع وعود الشركات وأحلام الزبائن يقنعك أن كلّ آمال الجمال ومشابهة الفنّانات ممكنة وبميزانية أقل بكثير من تلك التي تتطلبها عمليات التجميل، فعبر آلاف آلاف الأنواع من المواد المصنّعة التي لا غاية منها إلا تزيين وجه الأنثى وتغييره ليوافق أحدث صيحات الموضة وابتكاراتها الرائجة تبيع هذه الأماكن ثقافتها الخاصة الممعنة في تقديس الجسد وتهويل أي عيبٍ طفيف في البشرة المغطية له لينتهي الأمر بالزبون وهو يدفع مبلغاً كبيراً مقابل بضع عبوات من الكيماويات الخدّاعة فحسب.

فكيف اقتنعت النساء بأنهن لا يوافقن المقبول إلا إن راكمن عشرات الكيماويات على وجوههن كلّ صباح؟ وأيّ ثقافة هي التي تنشرها محلات مستحضرات التجميل وصناعاتها؟ وهل أنصفت النساء وأوصلتهنّ إلى التحرر التي تدعيه المنظومة الغربية؟ أم أنها حوّلتهنّ إلى مستهلكاتٍ ضعيفاتٍ معرّضات ٍعلى الدوام للاستغلال والانتقاص والتلاعب؟

من كحلٍ وحِنّاء .. إلى آلاف الكيماويات

يعزو الباحثون بدايات المستحضرات التجميلية المبكرة إلى أيام الفراعنة، حيث كانوا يستخدمون الكحل بكميات كبيرة ليرسموا عيونهم وكذلك الحِنّاء لتزيين أيديهم وطلاء أظافرهم وبعض الأصبغة لتلوين حواجبهم. لقد كان الكحل شائعاً في الثقافات القديمة، حيث كان يحضر من بودرة الرصاص والنحاس المؤكسد واللوز المحروق والرماد[i]، وتظهر الكشوف التاريخية انتشار استخدام المواد التجميلية البسيطة والمحضرة منزلياً في غالب الأحيان في معظم الحضارات القديمة، كالصين والهند وفارس وقبائل الجزيرة العربية التي كانت تنسب فوائد طبّية للكحل على العينين[ii].

أما تجارة مستحضرات التجميل وانتشارها وتسويقها كصناعة كبيرة ذات وارد اقتصادي هائل، فإنها لم تبدأ حتى القرن التاسع عشر تزامناً مع بدء الإنتاج الإعلاني وعرضه قبل الأفلام السينمائية وربطه بمشاهير الأفلام المحبوبين[iii]، وقد كان لظهور هوليوود كهيئة إنتاج سينمائي الأثر الأكبر في انتشار مساحيق التجميل ورغبة النساء بها نظراً لتعاقد الشركات مع الممثلات والمغنّيات وعملهم معهنّ على صناعة الموضة التي صارت تختار للنساء رسم العينين الرائج، أو لون أحمر الشفاه المطلوب.[iv]

ولعل أبرز مثال لتغيير الشركات للموضة واستخدامها لرسم الجمال وتغيير فكر الزبائن وقناعاتهم يتجلى في ترويج المستحضرات الخاصة بتسمير البشرة، فبعد أن كانت هيئة التأثر بالشمس سمةً مميزة لعمال المزارع، اختارت شركة Coco Chanel أن تركب منتجاً خاصاً بالتسمير، فحوّلت بإعلاناتها الهائلة وتوظيفها للمشاهير فكرة الاحتراق بالشمس إلى جزء من اتباع الموضة لحيازة ما سموه “sun-kissed look”، بعد ما كان الشحوب الزائد ومستحضرات تفتيح البشرة هي الرائجة والمعنونة للجمال لعقود!

أما اليوم، فقد تعدّت إيرادات الصناعة التجميلية بلايين الدولارات في الولايات المتحدة وفي عام واحد فقط، حيث بلغت مبيعاتها 49.2 بليون دولار في عام 2020 في ارتفاعٍ بحوالي 20 بليوناً عن عام 2003.[v]  ومن ناحية المستهلكين قد أظهرت دراسة على 3000 امرأة أمريكية أنهنّ ينفقن 300 ألف دولار وسطياً على المستحضرات التجميلية التي تطبق على الوجه على مرّ أعمارهن، ووجدت الدراسة أن المرأة في نيويورك تنفق 11 دولار وسطياً كل يوم على مستحضرات التجميل الخاصة بوجهها، في حين تستخدم الشريحة المدروسة وسطياً 16 مستحضراً تجميلاً كل يوم قبل الخروج من البيت، وتقضي الواحدة منهنّ حوالي 20 دقيقة لتطبيق تلك المواد على وجوههن.[vi]

صورة عن مجلة Allure توضح المستحضراًت المستخدمة يومياً من قبل الشريحة المدروسة

الجو العام والانهزام

إن زيارة محلٍّ لمستحضرات التجميل ليست تجربة بسيطة مباشرة على حد قول الباحث الماليزي G.I. Bok، فالبيئة العامة التي تعبد الجمال تجعل من المرأة واعيةً جداً بشكلها الخارجي، وبكلّ تفصيل دقيق من مكونات وجهها الذي خلقه الله لها في أحسن تقويم، مما يضعها في حالة من القلق والانزعاج[vii]، وكما تقول الكاتبة نانسي إتكوف في كتابها “نجاة الأجمل: علم الجمال” فإن نساء اليوم بتن معذّباتٍ بأقل عيبٍ شكليّ يمتلكنه، فهنّ لا ينظرن لغيرهن بعينٍ مجردة موضوعية، إنما بمقارنة مستمرة بين صورة أجسادهن وبين تلك التي لدى الأخريات من ناحية المميزات الشكلية، فيحاكمن ذواتهنّ للآخرين، وتنتج لديهنّ عن ذلك غيرة مؤلمة وشغفٌ بالتقليد في ذات الوقت.[viii] وهذه التفاعلات تكون في حالةٍ حيةٍ محفّزة ومستمرةٍ في محل التجميل، لا بين الزبونة والصور المعلقة في كل مكان فحسب، إنما بينها وبين البائعة التي تحاول رسم صورة المنتج في ذاتها على الدوام[ix].

وفي النتيجة فإن الأنثى التي تدخل هذا المكان لا تقتنع بحاجتها لشراء المنتج المعروض فحسب، إنما تحسّ ببغضٍ لذاتها حين تقف أمام واحدة من مرايا المتجر العملاقة، وتشعر بنقصها ودونية شكلها في جو الجمال والمثالية المفرطة المحيط بها، والذي لن تقترب منه أو تلمس سرابه إلا بعد أخذها للمواد التي تمليها عليها “الخبيرة” التي تقف وراء طاولتها الأنيقة وتحدّثها بتفصيل كبير عن بعض المسامات المفتوحة التي تعيب وجهها أو مواصفاتٍ خاصةٍ ينبغي العناية بها في بشرتها، أو بثرةٍ صغيرةٍ لم تلحظها ولا يمكنها العيش بها يوماً آخر، مما يبدو مقنعاً ومنطقياً جداً للزبونة ههنا وهو يأتيها مرفقاً بابتسامة البائعة المهتمّة ورغبتها البريئة بالمساعدة.

وفي هذا من الاستغلال والخداع ما لا يخفى، فالبائعة لن تبيع إلا وقد أقنعت الزبونة بنقصها دون ذاك المنتج وحاجتها الملحة له، وهذ ما تسهم به ثقافة الشركة ذاتها وهي تموّل ظهور عارضات الأزياء المتزيّنات في المجلات والإعلانات، وكذلك كثيراً من سيدات الانستغرام اللواتي يتأثر بهن ملايين الفتيات في أيامنا هذه.

من زاوية العاملين

إن النظر لهذه الصناعات بعين عاملاتها يعطي بعداً أوسع لفهم إشكالاتها وآثارها، فقد أظهرت دراسة على هؤلاء الموظفين في ماليزيا وسيدني أن إحساسهم المستمر بالحاجة للكذب على الزبون وإقناعه بأنهم مستهلكون مثله قد جربوا المنتج وأعجبهم وصاروا في حاجته، يولد لديهم شعوراً بالغربة والعزلة وتأنيب الضمير والتناقض بسبب تعقيد عملهم وجانبه العاطفي الواضح.[x]

من ناحية أخرى فإن متطلبات عمل الموظفات التي تحتم عليهن وضع كمية مبالغ بها من مستحضرات التجميل كل يومٍ والمحافظة على مثالية بشرتهن ليكنّ الوجه الممثل للشركة التي يعملن فيها تضع إحداهن تحت كثيرٍ من الضغط النفسي، وإن كانت بطبيعتها تحب إبداء زينتها وتجميل ذاتها. تقول إحدى عاملات بيع المستحضرات (Wanita): صعبٌ جداً أن أنجح في عملي إن كانت بشرتي متعبة لسبب ما، فالزبائن يفترضون مباشرةً أنني أستخدم المنتج الذي أبيع وبالتالي ستكون أول فكرةٍ تخطر في بالهم هي “ماذا سيحدث بوجهي إن اشتريت منها؟ هل سأمتلك بشرةً سيئة كالتي لديها؟”[xi]

الوهم في صناعة التجميل

وبغضّ النظر عن تسليع الأنثى الواضح في هذه المهنة وفي بنية الصناعة بحد ذاتها، فإنّ الحاجة إلى الكذب والتألم من الانزعاج منه في الحياة اليومية للموظفات يستحق التوقف ملياً، فالشركة لا تأبه من الموظفة إلا بالرقم الذي سيأتي منها للدرج في آخر اليوم، ولتذهب صحتها وراحتها وحتى القيم التي تؤمن بها حيث تذهب!

ختاماً..

ولنا حين نتأمل في تلك الأرقام والحقائق أن نتفكر في مَن المستفيد من ذاك كله فعلاً، ونسأل: مَن المنتفع من الحال التي وصلت إليها المرأة الغربية اليوم من هَوَس إبراز الزينة والتزام معايير الجمال والعناية بشكل الجسد الذي سيتمتّع به المحيطون بها وينتفع بمستلزماته رؤوس الشركات التي أقنعتها عبر ملايين الإعلانات والصور أن خروجها من البيت دون الكثير من المستحضرات الكيماوية يعدّ خروجاً عن المألوف؟

وأي تحرّر ذاك الذي يدّعي الغرب أنه أوصل المرأة إليه وهي الآن مستعبدة لعشرات المساحيق التي لا تملك أن تخرج من دارها دونها؟ هذا عدا أحذية الكعب الالي واللباس الكاشف (المسمى باللباس الرسمي)، وغير ذلك مما يمتهن المرأة ويحط من كرامتها بشكلٍ بات معتاداً، كما في عمل مضيفات الطيران وكثير من النادلات والعارضات، وقد أظهرت دراسةٌ حديثة أن حوالي 61% من مدراء الاعمال يعتبرونها ميزة مطلوبة في الموظفة أن تلبس ما يبرز جاذبية جسدها في العمل![xii]

ولله الحمد أن جعل قيمتنا كبشرٍ منفصلة عن هيئتنا الخارجية أو معايير الناس الجمالية المتقلّبة والمرهقة للنفوس، وصلى الله على نبيه صلى الله عليه وسلّم القائل: (نَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ) [أخرجه مسلم] وله سبحانه المنة والفضل أن أمرنا بالحجاب والستر الذي يرضيه عنا.


الهوامش والإحالات

[i] Chaudhri, S. K., & Jain, N. K. (2014). History of cosmetics. Asian Journal of Pharmaceutics (AJP): Free full text articles from Asian J Pharm3(3).

[ii] المصدر السابق

[iii] Briot, E. (2011). From industry to luxury: French perfume in the nineteenth century. Business History Review, 85(02), 273-294.

[iv] Chaudhri, S. K., & Jain, N. K. (2014). History of cosmetics. Asian Journal of Pharmaceutics (AJP): Free full text articles from Asian J Pharm3(3).

[v] Beauty industry: revenue in the U.S. 2020 | Statista

https://www.statista.com/statistics/243742/revenue-of-the-cosmetic-industry-in-the-us/#:~:text=The%20revenue%20of%20the%20U.S.%20cosmetic%20industry%20is,been%20controlled%20by%20a%20handful%20of%20multi-national%20corporations.

[vi] How Much the Average Woman Spends on Makeup In Her Life | Allure

https://www.allure.com/story/average-woman-spends-on-makeup

[vii] Bok, G. I. (2018). Relations over the Cosmetic Counter: A Space of Identification, Distance or Hostility? E-BANGI Journal, 15(4), 1–12

[viii] Etcoff, Nancy. “Size Matters, CH. 6 In: Survival of the Prettiest: The Science of Beauty.” (1999). P.67.

[ix] حوالي 89% من عاملي محلات المواد التجميلية هنّ من النساء

Employed persons by detailed industry, sex, race, and Hispanic or Latino ethnicity (bls.gov)

https://www.bls.gov/cps/cpsaat18.htm

[x] Im Bok, G. Beauty Retail Workers: and Alienated.

http://www.ipedr.com/vol42/006-ICKCS2012-K00018.pdf

[xi] المصدر السابق

To be Pretty or Not to Be: The Psychology of Beauty in the Workplace – psychologistmimi [xii]

https://psychologistmimi.com/2013/02/27/to-be-pretty-or-not-to-be-the-psychology-of-beauty-in-the-workplace/

 

 

ثم لم يرتابوا

يعيش عدد لا يستهان به من المسلمين في حالة من الشك بدينهم ورَيبٍ من صحة بعض التشريعات والأحكام والفرائض الإسلامية، فتراهم يتأثرون بكل شبهة تعرَض عليهم يقفون أمامها حائرين لايعرفون كيفية الخلاص منها، في زمن كثرت فيه الشبهات والفِتَن، والتي أصبحت تحيط بنا وتصل حتى عقر دارنا.

يكفي أن نتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، أو ندير التلفاز لبضع دقائق، حتى نرى الشبهات تنهال علينا كالسيل فتغرقنا، إلى جانب المحاولات المستمرة لتشويه صورة الإسلام؛ إذ لم يتوانَ أعداء الإسلام يومًا عن وصم المسلم بصفات مقيتة هو بريء منها، فأساءت للمسلم المعتز بدينه، وأثرت في جموعٍ ممن لم يتشبّع بتعاليم الإسلام حتى بات مائلًا للغرب وانفتاحهم بكل ما فيه من فسادٍ، واتباعه لأفكارهم من دون نبذ السيّئ المخالف لشريعة الإسلام منها.

لا يمكن إنكار أن كثيرًا من المفاهيم الإسلامية قد مُيّعت لعوامل عديدة، وبات الشغل الشاغل لبعض الدعاة والمفكرين إيجاد دينٍ عالمانيٍّ تنويريٍ منفتحٍ ليُعجَب الجميع به!، ولا عجب في ذلك، فهذا زمن يعيش فيه المسلم المؤمن غريبًا، ولعلّه الزمن الذي حذر منه رسولنا الصادق الأمين، حين قال صلى الله عليه وسلم: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل، المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر) ]أخرجه أحمد في المسند، وقريب منه رواية أخرى في صحيح مسلم[ وبِتنا نرى من يبدل دينه بين ليلة وضحاها بعرض من الدنيا لشُهرة أو مال أو كِبر، فيصبح مسلماً ثم يمسي متلفّظاً بأقوال الكفر.

إن أسباب الشكوك وتمييع الدين الموصلة لبعض المسلمين إلى الإلحاد كثيرة لا يسعنا ذكرها كلها، ولكن الانفتاح الكبيرعلى المفاسد والشبهات من دون حصن منيع وقلب متيقن مؤمن بخالقه وبشريعته أتم الإيمان وعالم بعظمته وصفاته يجعل من السهل التأثربالشكوك والشبهات.

الشكوك والوساوس في الدين

الشك مرض من أمراض القلوب، فهو كالظلام الذي يغشى نور القلب شيئًا فشيئًا، فيشلّ كل ما في الجسد عن رؤية الحقيقة الساطعة ويمنع المسلم من التلذّذ بحلاوة الإيمان، ويُبقي المرء حائراً بين أمرين لايجزم بصحة واحد منهما.

الشكّ خلاف الوسوسة، فالوساوس تأتي على قلب وعلم متيقن يستطيع المرء طردها والتعوذ منها، وذلك كما يقول الإمام النووي رحمه الله في الأذكار: “الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه فمعفوٌّ عنه باتفاق العلماء، لأنه لا اختيار له في وقوعه ولا طريق له إلى الانفكاك عنه، وهذا هو المراد بما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ) [متفقٌ عليه]”.

من الممكن أن يخرِج الشكُّ الإنسان من الملّة فهو التذبذب وعدم الثبات والاطمئنان، إلا أننا يجب أن نؤكد أن التردد في كون الإسلام هو الحق أو بوجود الله وعدم الجزم بذلك، ناقض من نواقض الإيمان، وعلامة من علامات أهل النفاق الذين وصفهم الله بقوله: }مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً{ ]النساء: 143[

وما الشكّ إلا من الشيطان الذي لاينفك عن إغواء ابن آدم ليضلّه، إن استسلم له المرء عمى بصره وقَسا قلبه حتى لا يتأثر بكلام الله، وعليه يجب أن يختار الإنسان طريقًا من اثنين، فلا يمكن للإنسان أن يعيش بمرض الشك طوال عمره.

استحالة البقاء عند مفترق الطرق

الشك سلاح ذو حدين، إما أن يوصل إلى الهلاك باتباع طريق الشيطان، وقد ينتهي هذا الطريق في بعض الأحيان إلى الإلحاد، وهذا شأن الشك المذموم، يقول الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر] {النور:21].

وإما أن يوصل إلى طريق الحق واليقين، وهذا شأن الشك المحمود، ولا يُقصد بالمحمود أنه يجب على المرء أن يشك ليُبصر؛ إذ إن الشك يبقى مرضاً منهكاً للنفس، ولكن يقصَد به بأن تكون نهايته موصلةً للطمأنينة بالإسلام وتحقيق اليقين به.

فالمطلوب للإبصار الصحيح بدلًا من الوصول للعمى، البحثُ عن الحقيقة في مكانها الصحيح، فالبحث عنها بين المضلِّين لايوصل إلا إلى ضلال، وعندما يبحث الإنسان عن أجوبة لأسئلة ما، يذهب إلى أهل الاختصاص، وهكذا يجب على الشاكّ إن يذهب بأسئلته إلى أهل العلم ويبحث في كلام الله، وعليه أن لا يستسلم للشكوك ويترك تفسيراتها للعقل والرأي والهوى، فما الاستسلام لها  اب الميزان لما نراه من بل يجب التفقه لب متيقن مؤمن بخالقه وبشريعته حا ليعجب الجميع موع من المسلمين  ولا يمكإلا زيادة في الجهل وقلة في العلم بدين الله، فلا توجد شبهة  إلا ولها جواب داحضٌ من الكتاب والسنة وأقوال وردود العلماء، وذاك مصداقٌ لقوله تعالى: }ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ{{البقرة:2}.

كيف أبعِدُ الشك؟

الشكُّ ابتلاء من الله سبحانه ليَميز به الخبيث من الطيّب، وهو يحتاج للصبر والثبات والتوقف عن الخوض بهذه الأفكار واللجوء لله سبحانه وتعالى بالدعاء والاستغفار، وإن كان الشاكّ خجِلًا من الله مما يفكر فيه، فإنّ الله قريب مجيب الدعاء قابلٌ لمن يلجأ إليه تائبًا باحثًا عن الحق، وهذا مما لا شك فيه، وإن بقيت تَحيك في الصدر الشبهات ولم يُتخلَّص منها، فسؤال أهل الذكر وطلب المساعدة من أهل الحكمة جزءٌ من عين الصواب.

كلما كان الإنسان للشيء أحوج، سهَّل الله طريقه إليه، وكلما كان الإنسان للحق أحوج، دعا الله فيّسر له الطريق، فيعينه الله في رحلة البحث عن الحقيقة والوصول لليقين، فيجب على الإنسان أن يجتهد في البحث عن الحقيقة ولايخضع لخطابات المشككين.

إن كثرة التعرض للشبهات والمعاصي والذنوب ومصاحبة رفاق السوء تقسِّي القلب وتفسد الفطرة السليمة وتعطل قدرة العقل على استيعاب الحقيقة وفهمها، فلا بدّ من المحاولة المستمرّة لإغلاق أبواب الشك والشبهات والمشتتات أولا، ثمّ اللجوء للعلم في محاربة الجهل وعدم المعرفة التي تبقي الإنسان في حيرة وتشكيك، فهو أفضل طريق للإنابة إلى الرحمن الرحيم بقلب سليم.

بناء اليقين

وهذا مايسعى إليه المسلم وحتى إن لم يكن شاكّا، فالوصول لليقين بالله يقي الإنسان من الانحراف عن الحق عند التعرض للكوارث والمصائب والشبهات حتى لو لم يجد جواباً لكل سؤال، ويبقي القلب مطمئناً متشرباً حب الله ورسوله، ومسلّماً تسليماً تاماً لشريعته وأوامره، فيكون من أولئك الموقنين، الذين امتدحهم الله تعالى في كتابه، فقال سبحانه: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا{ ] الحجرات:15[.

قال القرطبي في تفسيره عن قوله ( ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ): “أي لم يدخل قلوبهم شيء من الريب، ولا خالطهم شكّ من الشكوك”، وقال السعدي في تفسير الآية: “وشرَط تعالى في الإيمان عدم الريب، وهو الشك؛ لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني، بما أمر الله بالإيمان به، الذي لا يعتريه شك، بوجه من الوجوه”.

نسأل الله أن يثبتنا على دينه و يجعلنا من أهل اليقين الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمنزلة الرفيعة في الآخرة؛ حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ لاَ يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ) ]صحيح مسلم[..


مراجع للإفادة:

كيف يُحصِّن المرء نفسه من الفتنة في دينه ؟

كيفية الثبات في زمن الفتن

فتن آخر الزمان والثبات على الحق

الشكوك النفسية المعاصرة ومعالجتها عند الشباب للأستاذ. أحمد السيد

https://www.youtube.com/watch?v=MPhRDy0BBu8

‫اليقين بالله l الدكتور محمد راتب النابلسي

https://www.youtube.com/watch?v=gj7XtqNrIDw

وننصح الإخوة الذين تساورهم بعض الشبهات، ويبحثون عن طريق لمواجهة ما يلقى إليهم من شكوك، أن يتوكلوا على الله ويقصدوا توفيقه لردّ ذلك كله، فبفضل من الله يوجد برامج كثيرة وكتب وفيرة، والعشرات من المواقع التي تعين المسلم على التخلص من الشكوك، وتؤمن له زادًا يصحبه في رحلة الوصول لليقين نذكر بعضا منها:

مقالات موقع السبيل وقناة الموقع على اليوتيوب

https://al-sabeel.net/

موقع المحاورون لرد الشبهات

https://almohaweron.com/

https://islamqa.info/ar

https://www.islamweb.net/ar/

كما يوجد برامج لتعزيز اليقين والعلم الشرعي مثل أكاديمية زاد للعلوم الشرعية، وبرنامج صناعة المحاور

https://www.zad-academy.com/

https://almohawer.org/

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دور  العمارة البنيوية في تعزيز هوية المكان

ثمة –في حقل العمارة- عدد من النظريات المستخدمة، شأنها شأن بقية الحقول التجريبية والنظرية، وإذا ما أردنا رصد قائمة بنظريات الهندسة المعمارية، فسنجد النظرية الوظيفية واحدة من أبرز نظريات العالم المعماري عبر التاريخ، ومُنذ أن بدأ ما يُعرَف بعصر الأنوار أو عصر العقل مطلع القرن الثامن عشر صار ينظَر إلى المجتمع على أنه منتَج عقليّ محض بعيدًا عن العوامل النفسية والعاطفية، كما أن الآلات التي شكّلت جزءًا أساسيًّا من ثورة الصناعة صارت الملاذ الأهم لأصحاب رؤوس المال، حرصًا على الوصول للاستفادة القصوى من المال من جهة والآلات الصناعية من جهة أخرى..

إلى جانب ذلك ظهرت نظرية الاستفادة أو العمارة الوظيفيّة في العمارة، وقد كان المعماري السويسري/الفرنسي شارل إدوار جانيريه-كري -المشهور بلقب لو كوربوزييه- أحد أهم روّاد عمارة الحداثة في القرن العشرين، وقد كان أبرز من طبق هذه النظرية في كُل مبانيه وأحد أهم المطورين والداعمين للوظيفية في كل مبادئها .

أدّى مبدأ الوظيفية المحضة في الهندسة المعمارية إلى مشاكل عدة، منها أن مفهوم الوظيفة للمكان أو الآلة أو المبنى قد يختلف من شخص لآخر ومن بيئة لأخرى، فلا يمكن تحديد مفهوم واحد للوظيفة؛ إذ إن لكل سياق خصوصية مكانية وزمانية، ولكل مجموعة من الأشخاص أولويات مختلفة في استخدام الآلة أو المبنى، وبالتالي فإن عبارة (الشكل يتبع الوظيفة Form follows Function) المتداوَلة بين المعماريين العقلانيين الحداثيين بدأت تترجم نتائج تناقضاتها في الواقع الحي.

بوستر يحمل شعار (الشكل يتبع الوظيفة). المصدر: digitalbeauty.com

البنيوية في العمارة

يمكن التأكيد على أن البنيوية في العمارة أقرب لأن تكون ردة فعل على الحداثة، لكن على عكس حركة ما بعد الحداثة، فإن البنيوية تطوّرت بشكل أبطأ وأقل وضوحًا خلال عدة فترات في العقود الماضية.(1)

في عام 2012 قُدِّم السؤال الآتي -حول جائزة المعمارية البريطانية المعروفة اختصارًا بـ RIBA-: “هل ينبغي منح الـ Venturis الميدالية الذهبية الملكية RIBA لهذا العام؟” ويُقصَد بذلك روبرت فينتوري وزوجته دنيس براون اللذان يعدّان من أشهر منظري العمارة في تيار ما بعد الحداثة-.

إلا أن المثير للدهشة هو أن لجنة RIBA لم تمنح Venturis الميدالية، وبدلاً من ذلك، أعطت المعماري الهولندي هيرمان هيرتزبيرجر الجائزة لهندسته القائمة على النظرية البنيوية ومساهماته النظرية.

المعماري هيرمان وأحد تصاميمه المعمارية. المصدر: architectureandeducation.org – alchetron.com/Structuralism-(architecture)

شعور الاغتراب في العمارة المعاصرة

ثمة تحوّل عجيب يلاحَظ في تركيز المعماريين في تيارات ما بعد الحداثة، فمع أن العقلانية الحداثية كانت شديدة الحزم في تعريف العمارة على نحو صلب، إلا أن السيولة التامة في أفكار فينتوري لم تكن لتنقذ الموقف، مع أهمية أفكار النقدية التي قدمها.

لقد كان تعليق جاك برينجل، الرئيس السابق لـ RIBA أن “الميدالية الذهبية الملكية، أرقى جائزة بريطانية، يجب أن تذهب إلى مهندس معماري يدفعنا إلى الأمام، وليس إلى الوراء”.(2)

لقد كان المعماري الهولندي هيرمان هيرتزبيرجر متأثرًا بالفكر البنيوي على نحو واضح وجذري، وكانت القضية الرئيسية لهيرتزبيرجر هي مشكلة تفاعل المستخدمين مع المبنى وكيفية منع الشعور بالاغتراب الذي تنطوي عليه اللغة المجردة للهياكل النحوية الموجودة في بنية العمارة.(3) وكنا قد تكلمنا عن ذلك سابقًا في مفهومه للتأقلم والاستجابة للتغيير، ونظرياته التي توضح الفرق ما بين المرونة وتعدد الأوجهFlexibility vs Polyvalence .

المشاركة في البنيوية المعمارية

الفكرة الرئيسية التي ترتكز عليها البنيوية المعمارية هي مبدأ المشاركة، حيث إن المستخدمين يكون لهم دور في تحديد هوية المكان، كما يكون تحديد وظيفة المبنى مبنيًّا على حاجات المستخدمين الأساسيّة، فشخصية المستخدمين وهويتهم غير ممسوحة في البنيوية المعمارية وذلك على عكس العمارة الحداثية، وبالرغم من أن هذه المباني صلبة ومجردة مثل العمارة الحداثية، إلا أن ما يجعلها مختلفة عن العمارة الحداثية هي أنها أكثر قابلية لإعادة التأويل في الزمان والمكان، ففيها مساحات كبيرة (حيز مكاني) ومسامات واسعة (في الوظيفة) تسمح بالتغيير وعدم التشدد و تعطي فراغ للمستخدمين لإضفاء على المكان طابع خاص على حسب السياق والوقت (حيز زماني).

إلى جانب ذلك فإن العمارة البنيوية متأسسة على نظام الكبسولات المتعددة، التي تنتشر بحسب السياق وحسب الحاجة، فتكون مثل النسيج المتماسك بخلاياه المتفردة، وبالرغم من أن كل كبسولة تعَدّ كيانًا خاصًّا، إلا أنها مترابطة ومتلاحمة مع الكبسولات الأخرى لتنتج نسيج يجمع ما بين المساحات العامة والخاصة بطريقة تسمح بإضافة جدران إضافية عند الحاجة أو توسيع الفراغات بين الكبسولات لإيجاد أماكن لها طابع خاص.

يجب التنبه هنا إلى أن الكبسولات قد تنتج هوية عامة متماسكة قابلة للتعريف، حيث إن هذه الطريقة في توزيع المساحات والبناء تضمن وجود أماكن عامة وأماكن أكثر خصوصية، ومن الأمثلة على ذلك هو برج كبسولة “ناكاجين” في طوكيو عاصمة اليابان؛ إذ إن البرج متكون من كبسولات منفردة ومتراكبة بشكل متفاعل مع السياق الموجود، فوجود الكبسولات بأمكان واتجاهات محددة يكون بحسب عوامل عدة يتم تقييمها وإيجاد حلول متأقلمة مع العوامل.

برج كبسولة ناكاجين في طوكيو. المصدر: https://www.archdaily.com

التأقلم بين العالمية والمحلية

تكمن أهمية العمارة البنيوية في أنها تجمع ما بين العالمية والمحلية، فهي قابلة للتغير والتأقلم بحسب السياق وتستلهم الحلول من الواقع المحلي، وتعدّ مباني جامعة قطر –من وجهة نظر هندسيّة بحتة- مثالًا واضحًا على قدرة العمارة البنيوية على استلهام النموذج المحلي وترسيخه، فقد صمّمت مباني الجامعة ونفّذت من قِبَل المهندس د. كمال الكفراوي، وتتميّز الأبنية بالتصميم التجميعي لوحدات متكررة مع استخدام الحلول التقليدية المحلية المتمثلة في البراجيل (ملاقف هواء خليجية) والمشربيات والتظليل والحوائط المزدوجة والأفنية الداخلية.(4)

 وهذا يقودنا لضرورة دور فهم خصوصية المكان في استيعاب الواقع؛ حيث إن مبدأ “هوية المكان” صار مهمًّا جداً في فكر ما بعد الحداثة لدى أطياف مختلفة، وذلك لأهميته في حياة الإنسان، فالإنسان يحتاج الشعور بمكانه في هذا العالم ليتمكن من هضم الواقع واستيعابه، وإلا فإنه سيكون تائهًا طوال الوقت دون القدرة على الربط مع المحيط المادي وما يدور حوله من تغيرات.

علاقة الوعي الإنساني بالمكان

من الجدير بالاهتمام وجود الكثير من التركيز على مفهومي الزمان والمكان في العصر الحالي. فإن كنا نعيش في عصر السرعة وتغير الزمان على الدوام، فإن علينا التساؤل: ماذا عن المكان؟ وكيف يمكن أن نفهمه، وكيف نربط وعينا به؟

قد تكون العمارة البنيوية بابًا للإجابة عن هذه الأسئلة، وقد تكون أجوبة غير شافية بالضرورة، نظرًا لكون البنيوية تستلهم نظريّة متشابهة بشكل عام، لكنها تقدم حلولاً قد تبدو مناسبة للبعض، كما أنها تضعنا في قلب الواقع المعاش حتى ندرك حجم الإشكالية وثقلها، وبذلك فإنها تفتح مجالًا لأسئلة وإشكاليات أخرى، تتطلب منا مداومة البحث والنظر، أي أنها تنتظر مبادرة الفردِ ووعيه الخاص لتعطيَ نمطًا مغايرًا، كما أنها تبقى صماء عند غياب شخصية الإنسان.

إن أغلب التصميمات المعاصرة للمباني في عصر ما بعد الحداثة غير واضحة في مدخلها ومخرجها، وفي بدايتها ونهايتها، كأنما تترجم الواقع السريع الذي نحن فيه، حيث كل شيء مؤقت وغير ثابت، لا أهمية له إلا في اللحظة الراهنة.

تعتمد البنيوية المعمارية على وجود الإنسان حتى تنجح، وبدون الإنسان يبقى التصميم غير ناجح ولا يؤدي وظيفته تماماً، فالبنيوية بطبيعتها تهتم بتكوين وحدات مصممة ومتعددة الأوجه شكلياً في جميع مستويات الوجود الإنساني (سواء كان الوجود يتعلق بغرفة أو مبنى أو مدينة). فقط عندما يستحوذ المستخدمون على الهياكل من خلال الاتصال أو التأويل الفوري أو ملء التفاصيل، تحقّق الهياكل وضعها الكامل وتكون قد أثبتت نجاحها.(5) وهنا يمكن لنا إنهاء المقال بهذا الاقتباس من المعماري هيرمان “في البنيوية، يميز المرء بين هيكل ذو دورة حياة طويلة والجيوب بدورات حياة أقصر.”(6)


الإحالات والمصادر:

لكتابة هذا المقال، تم الاستفادة من مقال (ما بعد الحداثة) على موسوعة السبيل. تاريخ الزيارة 11/05/2021 https://cutt.ly/5bSp9f8

  • مقال حول العمارة البنيوية. تاريخ الزيارة 11/05/2021 https://cutt.ly/QbSpUDY
  • المصدر السابق نفسه
  • تم الاستفادة من التغريدة التالية عن عمارة البنيوية لدى هيرمان هيرتزبيرجر https://cutt.ly/sbSpAPv
  • تم الاستفادة من المنشور التالي عن مباني جامعة قطر https://cutt.ly/ybSpDJJ
  • Arnulf Lüchinger, Structuralism in Architecture and Urban Planning, Stuttgart 1980. Structuralism as an international movement. Including original texts by Herman Hertzberger, Louis Kahn, Le Corbusier, Kenzo Tange, Aldo van Eyck and other members of Team 10.
  • مقال حول العمارة البنيوية. تاريخ الزيارة 11 /05/2021 https://cutt.ly/xbSpGRp

 

الحضارة الإسلامية وعقدة الخواجة

لا يمكن أن نعتبر الحديث عن المركزية الغربية تَرَفًا فكريًّا قد يروق لمفكر ما ويرفضه غيره، إذ إن هذه المركزية النظرية قد غدت منذ أمد بعيدٍ أمرًا مسلّمًا به في الفكر الغربي ومفروضًا في وسائل الإعلام العالمية وغدت ظاهرة في الطابع اليومي لوسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم فإن الحديث عنها مسؤولية نقديّة ينبغي تحمّلها وتبيانها وأداؤها.

أثناء قراءتي للكتاب “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، لفت انتباهي ما مهّد به الكاتب كتابه حين قال: “باستثناء الغرب، فإنه ما من حضارة تمتلك كيمياء عقلانية، وكذلك الأمر بالنسبة للفن، فربما كانت شعوب أخرى تتمتع بحس موسيقي، غير أن الموسيقى المتكاملة عقلانيًّا وائتلاف الأصوات، كل ذلك لا يوجد إلا في الغرب” [الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية: ص 5-6]، بل إن كثيرًا من المثقفين الغربيين يرون أن الحضارات إنما جاءت ممهّدةً لقدوم الحضارة الغربية.

كيف تسللت هذه الفكرة؟

نجد هذه النظرة الأحادية والفكرة الإقصائية عند كثير من المستشرقين الذين درسوا الحضارات الأخرى، بمنهج عقلاني من جانب أو بعقدة النقص من جانب آخر، إلا أن هذه النظرة ليست حكرًا على الغرب وأهله، بل هي إرث يشترك فيه الكثيرون، فثمة أناس كثيرون –من بني جلدتنا وأفكارنا ومدننا- ينفون عن المسلمين الحضارة، بل ويصفونهم بأنهم أمة الجهل والتخلّف.

لنعد قليلاً إلى كتاب “وعود الإسلام” للمفكر الفرنس روجيه غارودي، حيث يقول فيه: “الغرب عارض، وثقافته مسخ فقد بترت من أبعاد جوهرية، ومنذ قرون ادعت هذه الثقافة بأنها تنحدر من إرث مزدوج: يوناني-روماني، ويهوديمسيحي، في الحقيقة لقد انبثقت أسطورة “المعجزة الإغريقية” لأن هذه الحضارة بُترت عمدًا من جذورها الشرقية. [وعود الإسلام، ص: 15].

بهذا القدر من التعمّد أيضًا، يحاول كثيرون قطع التاريخ الإنساني من سياقه ومحو التراكم الذي جرى فيه واقتلاعه من جذوره، في محاولة لتعزيز وتدعيم النظريات التي تحوم حول تفوق العرق الأبيض على باقي الأجناس الأخرى، والتأكيد على أن الإنسان الغربي هو الأكثر تطورًا من الناحية العقلية والنفسية.

أين الإنصاف؟

يلقى هذا الخطاب صدى متكررًا لدى المستلبين ذهنيًّا، كما أنه يلقى الرفض لدى الباحثين المنهمكين بالبحث في التاريخ الإنساني والمستشرقين المنصفين الذين يجدون في كشف الحقائق متعتهم، ومن هؤلاء نذكر المؤرخ الفرنسي “غوستاف لوبون” والألماني “شبنجلر” والبريطاني “كارين” وغيرهم.

غوستاف لوبون ممن أنصفوا الحضارة الإسلامية

غوستاف لوبون

قبل مدة من الزمن انتشر مقطع مصوّر لأحد المدونين الذين يبسّطون العلوم المعاصرة، تحدث فيه عن موضوع معين، وفي معرض حديثه قال: “لقد أسس فرنسيس بيكون المنهج التجريبي”، وفي هذا مصيبة لا تخفى!

قد يسلّم شخص لم يدرس التاريخ بهذا الأمر، إلا أنه بالنسبة لمن درس التاريخ وخاصة تاريخ العلوم -ليس بتاريخها الذي يراد له أي التاريخ الإغريقي وحسب-، بل التاريخ الإنساني، فإنه أمر عسير التقبّل؛ حيث يدرك أن فرنسيس بيكون لم يسبق أبداً العالم المسلم ابن الهيثم، بل العكس؛ إذ للعالم المسلم فضل السبق في المنهج التجريبي، ولا يحتاج ذلك منا سوى الرجوع إلى كتب القوم واستحضار الشهود، بل إن الأمر أبين من ذلك، فقد احتفلت اليونسكو بالعالم المسلم ابن الهيثم باعتباره مؤسس المنهج التجريبي.

يشير الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه “من تاريخ الإلحاد في الإسلام” إلى موضوعنا هذا، فيبدي رأيه لأولئك الذين يعتبرون أن المسلمون لم يخرجوا من عباءة الحضارة اليونانية وأنهم مجرد مقلدين، قائلاً – غفر الله له-: “يجب ألّا نُخدَع إذاً -بعد فشل الادعاءات- بتأثير الحضارة في الحضارات، بل يجب أن نقوّمه التقويم الصحيح على أساس أن لكل حضارة روحها الخاصة، وأن الاشتراك في التراث لا يدل على شيء بالنسبة إلى روح من يشتركون هذا التراث. لكن ليس معنى هذا أن الحضارة الإسلامية حضارة قائمة بذاتها تكون دائرة حضارة مغلقة، وإنما هي جزء من حضارة كبيرة، الحضارة العربية هي أهم جزء في هذه الحضارة الكبرى” [من تاريخ الإلحاد في الإسلام، ص 24].

ضياع الهوية الثقافية!

أعتقد أن فكرة الدكتور عبد الرحمن تغلق كل المنافذ على المتهافتين من مختلف الجهات –حيث يناقش هنا  آراء مؤرخين أوربيين لا آراء المتعلمين الجدد -كما يقول مالك بن نبي رحمه الله- سواء كانوا من الجانب الذي يقول: إن الحضارة الإسلامية نسخة من الحضارة اليونانية، أو الجانب الذي يرى أنها حضارة خرجت من اللا شيء.

مالك بن نبي

على كل حال، فإن ما يهمنا هنا هم أصحاب القول الأول الذي ينتشر في فضاءات الميديا ويقول به كثير من مبسطي العلوم في العالم العربي، وقد يتضاعف أثر هذا الأمر حين نرى بعض شباب المسلمين والعرب ينافحون عن هذه العقيدة وكأنهم أحد أبناء الأوربيين المتعصبين لأوطانهم وما حيك حولها من نظريات التمجيد للغرب، وربما احتقر هؤلاء ذواتهم وتاريخهم، حتى بات الواحد منهم يعلنها صراحة ويجاهر بعداءه لمجتمعه وأبناء بلده، فيحتقر كل شيء يذكره بنفسه فهو لا يريد اسم “مجيد” راغبًا عنه في أن يسمى بـ “جورج”، ولعله كان يرغب في أن يصبح ذات يوم صاحب شعر أشقر وعيون خضراء ووجه جميل، وحين لا يحدث ذلك يلعن صباحه ومساءه، ويفرغ حقده على نفسه وأبناء قومه.

الغزو الفكري

تظهر السذاجة –أو الجهل- التي يمارسها مبسطو العلوم سواءً عن إدراك واستثمار مربح، أو عن غفلة لا مقصودة، حين نقف عند تعريف الغزو الفكري: فهو –بحسب الشيخ عبد الرحمن حبنّكة الميداني- “كل فكرة أو معلومة أو منهج يستهدف صراحة أو ضمنًا تحطيم مقومات الأمة الإسلامية: العقَديّة والفكرية والثقافية والحضارية، أو يتحرى التشكيك فيه، والحط من قيمتها، وتفضيل غيرها عليها، وإحلال سواها محله، في برامج الإعلام والتثقيف، أو النظرة الكلية للدين والإنسان والحياة” [الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، مؤتمر الفقه الإسلامي في الرياض عام 1396ه، ص 507]

إذا ما تمعّنّا جيدا في المحتوى الذي ينشره بعض مبسطي العلوم الذين لا يؤمنون بالقيمة التي قدّمتها حضارتهم الإسلامية للبشريّة، فإننا نرى السير نحو تعزيز الغزو الفكري والسير لدعمه سيراً جاداً، ولهذا نقول: إن مبسّط العلوم يجني على نفسه -حين يمسي بمثابة العميل الفكري عن علم أو جهل- وعلى مجتمعه ودينه بتشكيك الناس في نظم المجتمع وتعاليم الدين، والأدهى من ذلك أنه يزيّف التاريخ فيعلي تاريخ الغرب المستحدَث، ويتغافل عن تاريخ الإسلام المبهر والعظيم، والذي لولاه لما وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه، فلولا جهود الخوارزمي الرياضية –مثلاً- ما كتبتُ هذه الأسطر ولا قرأتَها أنت.

شواهد وأمثلةٌ

نستشهد بسبق المسلمين على العالم الغربي ببضع أسطر هي عندنا تعادل كتابًا، يقول روجيه غارودي في كتابه وعود الإسلام:  “وقد مارس العرب التلقيح ضد الجدري بإدخال قليل من قيح دمل متجرثم بمرض الجدري قليلًا، من شرطه في الجلد وذلك قبل ” جيينر  “Jennerبعشرة قرون، ودرس الطبيب الجراح الأندلسي أبو القاسم (المتوفي 1013) مرض السل في الفقرات ” مرض بوت “، قبل بيرسيفال بوت (1713-1788) بسبعة قرون ونصف ومارس ربط الشرايين في حالة البتر قبل امبرواز باريه Ambroise Paré (1517-1590)  بتسعة قرون.. لقد استند علماء الطبيعية الكبار في العصور الوسطى على أعمال العرب” [ص: 107]

إن كثيرًا من الناس لا يحب أن يسمع حقيقة كون الإسلام بانيًا لحضارة عظيمة، فهم لا يعرفون عنه سوى وجود بعض التنظيمات العنيفة التي يصوّرها الإعلام وكأنه المسيطرة على العالم الإسلامي، أما فلسفته وشريعته ونظمه السياسية والاقتصادية التي لا ينكر فضلها المنصفون من الغربيين، فإنهم يكادون لا يعلمون عنها شيئًا.

لقد بنى الإسلام مجتمعات متماسكة وقوية ودولًا تحكُم ولا تسيطر، وذلك مقابل الدولة العلمانية التي خنقت الإنسان وأمسكت بزمام الأمور وانتهت بمجتمعات هي أوهن من بيت العنكبوت، هذا ما لا يعرفونه أو يتجاهلونه.

إننا بحاجة لإعادة تشكيل العقل المسلم، وبرمجته بما يتناسب وتراثه العريق وتاريخه التليد، رغم أن الحال كما قال ابن خلدون: “المغلوب مولع بتقليد الغالب”.

القدوة والقرآن .. وأثرهما في نهضة المجتمع

اتصف المجتمع العربي قبل الإسلام بالجمود والبعد عن التقدم الحضاري المحيط به، ولم يسعَ أفراده للتغيير وتطويره، فأصبح مُجتمعًا بعيدًا عن روح الحضارة، لا يمتلك هدفًا واضحًا لوجوده، إلا أن النقلة العملية والروحية والفكرية لهذا المجتمع كانت عن طريق رسالة الإسلام التي أنتجت ميلادًا جديدًا له، فعلَّمَ العالم المعنى الحقيقي للحضارة، وأنار العقل الإنساني بمفاهيم ومبادئ جديدة أخرجته من ظلمات الجهل والظلم.

لنا أن نتساءل هنا: لماذا حقق المسلمون الأوائل هذه النقلة الناجحة داخل مُجتمعهم بينما يعايش المسلمون منذ قرون عدة التقهقر والتراجع الحضاري بالرغم من أننا نملك -مثل السابقين- الرسالة ذاتها ومفرداتها من القرآن والسنة النبوية، فما سر هذا التغيير الذي جرى على أيديهم ونرجو أن نراه واقعًا في حياتنا نُعايشه ونكون جزءًا منه؟!

حين يُشعِل الإيمان الشرارة!

إن طبيعة رسالة الإسلام هي التي تُقدم لنا الإجابة الواضحة عن هذا التساؤل، ومبدأ الرسالة الإسلاميّة هو الإيمان الذي يحيي الضمير الإنساني ويقذف فيه البصيرة لمعرفة الحق واتباعه والالتزام به، وقد كان هذا دور رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، حيث نجح في إزالة غشاوة الجاهلية عن ضمائر العرب الذين آمنوا به وحرر نفوسهم من النزعات الضالة التي سيطرت عليهم، وعندما سرى نور الإيمان في كيانهم تغيّرت نظرتهم للحياة، وأصبحوا يعون دورهم والأمانة التي كلفوا بها لتحقيق الاستخلاف الإلهي في الأرض وحمل الرسالة للناس جميعًا، وهذا هو سر النقلة التي حدثت في حياة العرب ما بعد الإسلام.

حينما يفقد الإنسان يقظة الضمير والقوى النفسية التي تجعله يرتقي بنفسه وبمجتمعه، فإنه سيلجأ لإرضاء الباطل، وسيتقبله نظامًا لحياته وتتغلب عليه شهواته، وبذلك يرى نفسه ضعيفًا أمام مختلف تحديات الحياة، وبالتالي لن يقدر على حمل أعباء الرسالة، ولن يقدر من تغيير سلوكياته أو يكون مؤهّلًا لتغيير واقعه والنهوض به، ولنصل لهذه اليقظة في ضمائرنا فإن علينا تفعيل أدوات بناء المجتمع والنهوض الجديد.

القدوة الصالحة وغرسُ القيم في النفوس

عاش رسول الله صلى الله عليه سلم بالقرآن ومن أجل تحقيق مبادئه في واقع الحياة، وقد كان صلى الله عليه وسلم قدوة للصحابة في كل شيء، فكانت أخلاقه القرآن، يمشي بين الناس يلتزم بأحكامه ويأتمر بأمره وينتهي بنهيه مُلتزمًا بتعاليمه، ثابتًا على الحق راسخًا به، ولا أدلّ على ذلك شيء أكثر مما قاله رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما حاولت قريش مُداهنته وإيقافه عن دعوته والضغط عليه عن طريق طلب ذلك من عمه الذي يَكفله: (يَا عَم ، وَاَللهِ لَوْ وَضَعُوا الشمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتى يُظْهِرَهُ اللهُ ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ ، مَا تَرَكْتُهُ) [السيرة النبوية (ابن هشام)، (ج1/  266). ] إنها قوة الثبات على الحق والتضحية من أجله مهما حاولت الأطراف الأخرى تهوينه عن طريق تهديد أصحابه الداعين له ومُحاولة قمعهم وإغرائهم وتشويههم والكيد لهم ومُداهنتهم.

لقد كان صلى الله عليه وسلم وما زال وسيبقى إلى نهاية الحياة النموذج الذي يُقتدى به في فهم القرآن ومُختلف شؤون الحياة، وهذا عين ما نحتاجه اليوم في مُجتمعاتنا، أي أن يكون الدعاة والعلماء والمُصلحون عاملين ومُجتهدين قُدوة حقيقية للمجتمع المسلم، فيؤثرون في حياة الناس ويُظهرون لهم أخلاق الإسلام ومبادئه في سلوكياتهم وأقوالهم وقراراتهم، ولا يخافون في الله لومة لائم، ولا يُداهنون الظالمين والمُستبدين والمُفسدين من حكام ومسؤولين في مُختلف المجالات، بل يكون هدفهم نصرة الحق والالتزام به ودعوة الناس له وتبيينه لهم مع مُعادات الفساد والباطل ومُقاومته.

من الواضح أن من أشدّ ما نعانيه في زماننا هذا هو غياب القدوة الحقّة من ناحية، وارتكاس كثير ممن تصدر للدعوة والتعليم الشرعي من ناحية أخرى، بل ربما يحق لنا القول: إن ما نعيشه اليوم هو فرع عن أزمة القُدوة، حيث أصبح عامة المُسلمين لا يثقون في مُفكريهم وعلمائهم ودُعاتهم، بل كيف يكون ذلك وأغلبهم يقف مع مصالح الطغاة، يفتون بما يوافق أهواءهم ويُنسي الناس جرائمهم، ويسكتون عن ظُلمهم وغيهم ويُحلون ما حرم الله ويُحرمون ما أحله الله، حتى أصبحنا نرى منهم من يُبارك للتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين المسلمة، ويراه تحقيقًا للمصالح الاقتصادية وسبيلاً إلى السلام والتسامح الذي يأمر به الإسلام!!

ومن هنا ابتعد عامة المُسلمين عنهم، لا يسمعون لهم ولا يتبعون أوامرهم ولا يثقون فيهم، حتى أصبح الفرد منا يشعر بأن الدين أصبح تجارة دنيوية يتخذها البعض من أجل الشهرة وكسب المال زنيل الترف وتحقيق المصالح الدنيوية، ومع غياب الإخلاص والصدق في العمل وإصلاح مُجتمعاتنا، ترك ذلك كله أثرًا سلبيّا في حياة الأفراد الذين فقدوا الأمل في التغيير واستسلموا لواقعهم ورضوا به ولم يجدوا من يُوقظ ضمائرهم من جديد ويُعيد إشعال نور الإيمان المُنطفئ داخلهم.

إننا نحتاج اليوم إلى أفراد يأخذون بزمام المُبادرة ويقتحمون مُعترك الحياة وهم واثقون بدينهم ومُلتزمين به ويُقدمون الحلول البديلة لمشاكل مُجتمعاتهم على أن يكونوا هم البادئين بالعمل وبالالتزام بما يقترحونه من أفكار وبدائل وأن يكون هدفهم إيقاظ الهمم وإحياء الضمائر وإزالة غبار الجهل والجمود والتخلف عن نفوس باقي أفراد المُجتمع وليُحافظوا في ذلك على صدقهم وإخلاصهم لربهم ولدينهم، وإذا لم تنهض فئة منا من أجل إحداث تجديد داخل المُجتمع بالعودة لنبع الإسلام الصافي وإيجاد القدوة الصالحة فسنبقى في سُباتنا ونومنا ولن يتغير واقعنا.

من هو القدوة؟

من مشاكلنا اليوم أننا نعيش انفصالاً بين ما نؤمن به من مبادئ وقيم وبين ممارساتنا اليومية، فتجد الواحد منا ملتزمًا بصلاته داخل المسجد مُحافظًا على أوراده من الأذكار والقرآن وقد تراه خاشعًا لربه ولكن ما إن يغادر المسجد حتى يبدأ بأذية الناس بكلامه وبأفعاله، ويُبيح لنفسه المال الحرام، ويمتنع عن بذل المال في أوجه الخير رغم قدرته على ذلك، فمثل هؤلاء الأشخاص سيتركون أثرًا سلبيا داخل المجتمع، ويجعلون الآخرين يظنون أن المشكل في الإسلام لا في المسلمين الذين لا يطبقونه، فلا بد لنا من العمل على تصحيح أعمالنا وأن نُقيم حياتنا كما يُحبها الله أن تكون عن طريق مراجعة النفس وتزكيتها وتربيتها على الالتزام بدينها أينما كانت.

ليس بالضرورة أن تكون القدوة المُؤثرة من العلماء والدعاة بل يُمكن أن يُمثلها كل فرد مؤمن صادق يجعل نفسه قدوة لغيره ولمن حوله من أهله ومن أصدقائه ومن يتعامل معه عن طريق إظهار أخلاق الإسلام في حياته اليومية، فيكون صادقًا في كلامه، مُخلصًا في عمله، مُوفيًا بوعوده، مُلتزمًا بآداب دينه، فلا يسرق ولا يغش، ولا يخدع ولا يخون أحدًا، وبالتالي يستطيع كل واحد منا أن يُصبح مُؤثرًا في بيئته التي يعيش فيها كل حسب قُدرته واجتهاده.

إن السياسي الصادق والمُتمسك بدينه والمخلص له مع حرصه المُتواصل في تحقيق مصالح مُجتمعه ومُحاربة الفساد داخله سيكون قدوة لغيره من الساسة ومن أبناء مُجتمعه، وكذلك المُوظف النزيه المُجتهد والمُتقن لعمله الرافض لكل مظاهر الفساد في مؤسسته سيكون قدوة لزُملائه في العمل، والمُعلم الذي يبذل أقصى جهده والمُستشعر لقيمة الأمانة في تربية الناشئة وصقل مواهبهم وتطوير معارفهم العلمية سيكون قُدوة لمن حوله ولتلاميذه، والأب والأم المتمسكين بتطبيق تعاليم دينهم والباذلين لأقصى جهدهم في تعلم فنون التربية من أجل إنشاء جيل صالح سيكونون قُدوة لأبنائهم ولمن حولهم من الآباء والأمهات، وهكذا، فكل مسؤول أو راعٍ يجب أن يكون قدوة لمن يليه من الناس.

دور القرآن الكريم في حياتنا

بالقرآن نهتدي ونبدأ بناء طريقنا في النهضة، هذا ما يمكن البدء به في التعرّف لدور القرآن في حياتنا، إذ إننا لا يُمكن لنا إيجاد القدوات وبناء الإنسان المُصلح والمُؤثر داخل مُجتمعاتنا إلا عن طريق العامل الذي ينشئه والمُتمثل في القرآن الكريم، ومن ثمّ فإنه بجب علينا الانشغال به وفهم آياته وتدبرها والعمل بها، وهنا يظهر سر التغيير الذي أحدثه القرآن في المسلمين الأوائل من الصحابة والتابعين، فقد تأثروا به وغيّروا به من أنفسهم ونهضوا به وغيروا مجرى التاريخ به وبنوا حضارتهم به، فلماذا لم ننجح نحن مع أن القرآن هو هو ذاته، محفوظ من التحريف والتبديل؟

السر هنا يكمن في كيفية التعامل مع كتاب ربنا، ومن ثم فإن علينا أن نتعرف إلى حقيقة علاقتنا بالقرآن، لنرى إن كنا نُعطي أولوية له في أوقاتنا وساعات يومنا، فنخصص له وقتًا يوميا لمراجعته وتدبر آياته وفهمها؟ وهل نَحْتَكم إلى قوانينه ومبادئه وقيمه في تعاملاتنا اليومية؟

إن الإجابة واضحة للغاية، فقد أهملنا فقه العمل بكتاب الله، وضعفت علاقتنا به، فكانت النتيجة عموم الفوضى وتصاعد التخلف والضياع، وقد ذكرنا رسول الله عليه الصلاة والسلام بضرورة التمسك بالكتاب والعمل به وجعله منهاج حياتنا حتى نُحافظ على كيان مُجتمعاتنا وبقائها في الريادة، فَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِي قَالَ : (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ فَقَالَ : أَبْشِرُوا أَبْشِرُوا أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلا اللهُ وَأَني رَسُولُ اللهِ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِن هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ فَتَمَسكُوا بِهِ ، فَإِنكُمْ لَنْ تَضِلوا وَلَنْ تَهْلِكُوا بَعْدَهُ أَبَدًا) [صحيح ابن حبان]

إن أول ما نحتاجه في منهج التعامل مع القرآن أن نستشعر به كأنه نزل علينا لتوّه، فهو كلام الله الموجه لنا، وأن نوقن بأن رب العالمين يُخاطبنا به ويُوجهنا به في مُعترك الحياة ويرسم لنا من خلاله طريق النجاح والتفوق، فيجب علينا إذًا أن نقبل على آياته آية آية مُحاولين تدبرها وفهم المُراد منها ومُجاهدة النفس بالإلتزام بتعاليمه ومُحاولة تربيتها على قيمه.

بالقرآن يُمكننا اكتشاف بواطن نفوسنا عن طريق عرضها على آياته وإصلاح عيوبها والانشغال بتزكيتها وتطهيرها من مختلف أسقام التخلف والكسل والجمود التي أصابتنا، وبالقرآن نتعرف على دورنا في الحياة وما علينا فعله من أجل تحقيق الخلافة في الأرض وإقامة العدل والمساواة فيها، وبالقرآن نتعرف على طبيعة علاقاتنا بمن حولنا وكيفية التعامل معهم من مسلمين وغير مسلمين ومن مُسالمين ومن مُحاربين لنا، وبالقرآن نتعرف عل ربنا ونتعلم مبدأ الطاعة المطلقة له وكيفية إقامة حياتنا كما يُحبها سُبحانه وتعالى أن تكون، وبالقرآن نتعرف على حقوقنا وواجباتنا في الحياة وكيفية الموازنة بينها ونتعرف أيضًا على حرياتنا وحدودها، فالقرآن منهج حياة كامل تنهض به الأمة جميعها إذا أقبلت عليه بصدق وأخلصت لربها في تعاملها معه.

إن الواجب علينا هو البدء بتدبر القرآن وألّا نُبرر سوء علاقتنا به بسبب قلة زادنا العلمي، فلنا الاستعانة بكتب التفسير المُتاحة للجميع، وأن نبحث في صفحاتها لفهم آيات كتاب ربنا وتعلّمها، ومن ثم يُصبح كل واحد فينا –رويدًا رويدًا- على علم ودراية بكلام الله وآياته، وبذلك تتطبّع النفس على فهمه والالتزام بقيمه، ومن ثم سنرى أثر التغيير في حياتنا اليومية، فالقرآن الكريم ليس لغزًا.. وما علينا إلا أن نقبل عليه وننهل من علومه وحِكمه ونستجيب لمبادئه.

 

 

الصورة الرئيسية لمقال "المفكر الحق .. دوره وصفاته"

المفكر الحق.. دوره وصفاته!

كل إنسان مفكر بطبيعته، فالإنسان العادي دائم التفكير في كيفية تحقيق مصالحه ومتطلبات نفسه، بداية من إنجاز المهام اليومية، كتأمين حاجيات أسرته المعيشية، مرورًا بأهدافه العلمية أو الوظيفية، ثم تحقيق طموحاته وأحلامه المستقبلية البعيدة، إلى جانب ذلك، ثمة طائفة قليلة من الناس تكرّس جل طاقتها وأوقاتها في التفكر في أحوال الجماعة أو الأمة التي تنتمي إليها أكثر من اهتمامها بشؤونها الخاصة، فتتأمل في أسباب انحطاط أمتها، وتبحث عن أسباب نهضتها، وتحاول تشخيص أمراضها ومعرفة مكامن الضعف فيها، وتحديد نقاط قوتها ومكامن الطاقة فيها وما شابه ذلك.

من هو المفكر؟

إذا كان الإنسان البسيط يحرص بفطرته على التواصل مع محيطه، فالمفكر يتأمّل في طبيعة الوشائج بين عناصر المجتمع وسمات النظام الاجتماعي الناتج عن هذه العلاقات، وإذا كان كل فرد في المجتمع يسعى إلى الحصول على عمل أو وظيفة يؤمّن بها رغيف الخبز لأولاده، وأجرة المسكن الذي يعيش فيه وما إلى ذلك، فإن المفكر يدرس طبيعة النشاط الماليّ، وسمات النظام الاقتصادي المتشكّل من هذه الحركة، ويسعى إلى استنتاج القوانين التي تحكمه، وقد يدعو إلى ابتكار أدوات جديدة تنعش الحركة الاقتصادية وتنمّيها، بما يعود بالنفع على عامة الناس، وهكذا الحال بالنسبة للمفكر في سائر المجالات.

المفكر –إذًا- هو الذي يشغل نفسه بقضايا أمته الكبرى، ويسعى لاستخراج السنن والعبر من حركة التاريخ، ويطوّر الرؤى والمفاهيم، ويرتقي من مستوى الجزئيات التخصصية إلى الكليات الحاكمة لسير الحياة وتطور المجتمعات، وينصّب نفسه الحارس الأمين على تحقيق قيمها في النفوس، وفاعلية مبادئها الأساسية في شعاب الحياة، كما أنه يسعى إلى استشراف الأحوال المستقبلية من مصائب وانتكاسات محتملة، فيحذّر منها قبل وقوعها، ويصف العلاج للوقاية منها.

لكن لا يحصل هذا إلا بعد أن تصغر نفسه في عينه، ويمتلئ كيانه بالشوق إلى المجد المنتظر، فيسعى إلى البحث عن أسبابه بالقراءة المتفحصة والدراسة المتأنية دون كلل أو ملل، مُفنيًا بذلك نفسه ومتصدّقًا بعمره، مُفتديًا ليالي الأنس والسمر، والنزهات بين خضرة الشجر، بسهر الليالي بين الكتب، وتجرُّع كؤوس الكدّ والتعب.

المفكر الحق يرى نفسه نقطة في بحر أمّته، ولكنه في الواقع المنارة التي تهتدي بها في مسالك الترقي بين الأمم. وإنّا لن نجد أمة لها حظ من التقدير والاحترام تخلو من مفكرين عظماء رسموا لها خارطة الطريق، ووضعوا خلاصة أيّامهم في ورقات من نورٍ كُتبت في سجلات الخلود عبر العصور. في المقابل لا تتنكّر هذه الأمم الواعية لهؤلاء الكبار، ولا تنسى أفضالهم عليها، بل يصبحون الأيقونات الشهيرة، والأسماء المنيرة في مسيرة تاريخها، حتى تقترن أسماؤهم باسمها، فإذا ذُكرت ذُكروا والعكس بالعكس.

من إشكالات الواقع الفكري المعاصر

ومن المؤسف أننا صرنا نرى انحراف بعض المفكرين عن الدور المنوط بهم في توعية الجماهير وتثقيفهم، وتوسيع آفاق النظر والتفكير عندهم بما يمهّد لتقبّل الرأي المخالف ومعذرة صاحبه، وبالتالي تقريب الناس من بعضهم، وتوحيد جهودهم في خدمة قضايا الحق والعدل، حيث أصبح خطاب البعض منهم سببًا في إحداث اللبس والفتن والخصومات بين العامة، لا سيما مع وجود وسائل التواصل وحرص بعض المثقّفين على الحضور والتأثير، وبالتالي ضرورة التواصل اليومي مع المتابعين.

وقد صرنا نشاهد يوميًّا الكثير من المنشورات المتسرعة والأفكار الطائشة التي صارت مناسبة للمناكفات بين المتابعين وتبادل الشتائم وتعزيز الفرقة، وقد طالت هذه الانحرافات كافة المجالات، من المجال السياسي المتعلق بالأحداث السياسة اليومية إلى المسائل العقائدية والإيمانية، ولذا فإنا اليوم بأمس الحاجة لوضع أصول أدبية ومنهجية ضابطة للتعامل مع وسائل التواصل، سواء للمؤثرين أو المتابعين.

ومن الإشكاليات الواضحة هي الفجوة السائدة منذ عقود بين الخطاب الثقافي والفكري من جهة وعامة الناس من جهة أخرى، وذلك يرجع إلى عدة عوامل وإلى أسباب متداخلة، منها يرجع إلى السياق التاريخي والحضاري، والواقع الذي نعيشه وما يتعلق به من مؤسسات تعليمية وتثقيفية وإعلامية وما سوى ذلك، ومنها ما يتعلق بالمثقف نفسه، ومنها يعود إلى الفرد العادي باعتبار تركيبته الثقافية والنفسية.

صفات المفكر الحق

تُعنى هذه المقالة بإلقاء الضوء على بعض سمات المفكر الحق والتذكير بها، بما يشكل لبنة في سبيل هدم هذه الهوة، وإصلاح الانحرافات المذكورة. وسيساعد ذلك في تحصيل نوع من النضج المعرفي في التمييز بين المفكر الحق، وغيره من أصحاب المآرب والغايات الشخصية. وهذه الصفات اخترتها – بما يناسب المساحة المتاحة هنا – من بين كثير من الصفات الضرورية، وذلك لأهميتها ولتأثير فقدانها على إنتاج الإشكاليات العويصة التي أشرت إليها.

  1. الربانية

نحن المسلمون نؤمن بأننا لم نأتِ إلى هذه الدنيا عبثًا، ولكن وجودنا القصير فيها له غاية واضحة وأمر محدد، وهو تحقيق العبودية لله تعالى أولًا، ثم تحقيق عمارة الأرض والقيام بواجب الاستخلاف فيها على الوجه الذي يرضي الله تعالى، كما بينّه في شرعه الحكيم. إذاً نحن هنا لا لندعو الناس إلى أنفسنا، ولا لنضيّع أوقاتنا المحدودة بكثرة السجالات وبترف الأفكار والأقوال.

إن المفكر الحق يعرف ماذا يريد، وإذا اضطُر إلى خوض المعارك الكلامية فإنه لا ينسى غايته، ولو كان تحت ظلال السيوف، ولا تزيغ الرؤية عنده في أي ظرف من الظروف.

وعليه فإن المفكر الحق هو الذي يسخّر فكره وإنتاجه العلمي والأدوات المنهجية التي يتقنها وكل ما حوى وعاؤه العقلي في سبيل الدلالة على رب الأرباب، وهداية الناس إلى المنهج الحق، والدفاع عنه وتبليغه للخَلق، وتطوير العلاجات لأسقام الإنسانية التائهة، وكل ما يفضي إلى ذلك من تذليل العقبات المركوزة في رؤوس المعاندين، ونسف الكِبر الثاوي في قلوب المتكبرين.

ولكن كيف يقدُر المفكر على هذا إذا كانت صلته منقطعة بمالك القلوب والعقول، وغفل عن المداومة على الوقوف بين يدي المولى عز وجل والالتجاء إليه؟

ستلاحظ عند المفكر الغافل انحراف البوصلة بكثرة الجدل والسجالات، واللدد في الخصومة ومخالفة الآداب، والتربص بالمخالف، والغرق في الموضوعات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا ينبني عليها عمل في حياة الناس، فتجده كالذي يمشي بين الأشواك واضعًا قربة الماء على رأسه، وإذا وصل إلى بر الأمان كسرها بيديه!

فلا تتعجب، إذ هو يريدك أن ترى مهاراته في الموازاة الدقيقة والتحليلات العميقة، فلا تحسبنّ أنه يريد منك الريّ والهدى، إنما يقول ليسقي غروره ويُشبِع تطلّعات نفسه.

إنّ شرب الروح من مناهل الوحي الصافية تُكسِب المفكر الحق نفاذ البصر ووضوح الغاية، ونبل الأخلاق والهمة العالية، وصدق اللسان والنية الصافية، إذ ليس هناك أصفى من الفكرة الممزوجة بالأنوار المتسلّلة إلى الإنسان من وراء ستائر المحاريب، والمتمخّضة من نظرات العقول المتأملة، فهي النور الخالص!

  1. بين المشروع الخاص والتشتت

لا يوجد مفكر دون مشروع خاص به، يعمل عليه ويسعى إلى نشره بين الناس، فهل يمكن أن ترى ساعي البريد دون رسالة يحملها؟ وكذلك شأن المفكر كذلك لا يمكن أن يكون حائرًا فاقدا للهدف؛ إلا أن المشروع حصيلة السنين، وخلاصة الفكر الذي يسعى المفكر لينتشل به أمته من براثن الظلمة. كما أن المشروع لا بد أن يشمل معالم كبرى، ووصفة عملية في أحد المجالات الحيوية لتكون الركن الركين في بناء المستقبل المكين.

قد ترى بعض المثقفين يكتب في كل شيء، ويعلّق على كل حادثة! والسؤال الذي نسأله إياه: أليس عندك مشروع تعمل عليه؟! وهل عندك الوقت بلا حساب لكي تشتّت نفسك بين سراديب اللانهاية.

إن المشروع يحتم على صاحبه أن يحدد مسارات معينة يمشي ضمن إطارها معظم الوقت، ولا يخرج عنها إلا قليلا، ثم يسابق الزمن لتشييده على أسس ثابتة ومتينة، والموقع الذي يأخذه بعض الكتاب، وهو ردة الفعل على مجريات الواقع هو التشتت بعينه، إذ لا يمكن مجاراة الأحداث اليومية، والإحاطة بتفاصيلها لكثرتها وتشعبها وتنوعها. وهكذا يلزم المفكر بعد أن يحصّل جمعيّة قلبه (الربانية) أن يحقق جمعية فكره وعقله، من خلال تجلّي مشروعه الخاص.

لقد اضُطر بعض المفكرين إلى عزلة مؤقتة ابتعدوا فيها عن متابعة الأحداث والانخراط فيها لينجزوا مشاريعهم الأساسية، وليستطيعوا التحرر من إكراهات النظرة الجزئية المنقوصة التي تفرضها تطورات الأحداث اليومية. ومن ذلك ما رواه الدكتور عبد الوهاب المسيري –رحمه الله- في سيرته، إذ صرح بأنه توقف عن قراءة الأخبار في الصحف اليومية في فترة من فترات العمل على موسوعته الشهيرة عن اليهودية والصهيونية، كما أنه امتنع عن متابعة الأخبار وقت اندلاع الانتفاضة الفلسطينية – وهو المتخصص في اليهودية والصهيوينية – مسوّغًا ذلك بأنه لو سلّم نفسه لسيل الأخبار الجارف لما استطاع إنجاز هذه الموسوعة الفريدة.

عبد الوهاب المسيري

إن العزلة الدائمة مبدأ سلبي بحد ذاته، لكن العزلة المؤقتة قد تكون ضرورية في بعض الأحيان لصفاء الفكر والحد من تشويش مجريات الواقع، وهنا نشير –للفائدة- إلى كتاب “الماجريات” للشيخ إبراهيم السكران الذي يعالج هذه القضية، حيث يعرض فيه خمسة نماذج لكبار علماء عصرنا ممن خاض العزلة المؤقتة.

  1. تيسير لغة الخطاب

بعض المفكرين يجعل بينه وبين الناس حاجزًا، من خلال استغلاق لغته وصعوبة مصطلحاته وتعقيد تراكيبه اللغوية. ومنهم من يريد أن يبهرك باقتداره اللغوي، فيأتي بالعبارات المنمقة والديباجات المطوّلة، إلا أن كثيرًا من ذلك يحصل على حساب المعنى فيكون مبتَذلًا مكرَّرًا، لا إضافة فيه للقارئ سوى المعاناة وتضييع الأوقات.

مقابل ذلك ثمة مفكرون يخبئون في جعَبِهم جواهر مكنونة، لكن بعضهم يعرضها بصور مشبّعة بالرموز الغامضة والإيحاءات المحيّرة، فتصير كبعض اللوحات التي تعرَض في المعارض الفنية، يفسرها الزوّار كلٌّ حسب رؤيته، ولا أحد يدري ماذا أراد الرسام بلوحته، وإن على وجه التقريب.

ماذا يستفيد من يعرض فكره داخل أقفاص الغموض سوى ظلم نفسه، وتضييع فكرته، وحرمان الناس من الاستفادة من تجربته!.

أما عند عظماء المفكرين فإنا نرى العكس تماما، حيث الحرص على تبسيط الفكرة قدر المستطاع مع الحفاظ على عمق الطرح.

إن الجمال اللغوي مطلوب لا محالة، والفكرة التي تُصَبّ في قالب أدبي أنيق تتناقلها الألسن وتحفظها الذاكرة بيسر وسهولة، مثل الأمثال الشعبية والأشعار والمتون (وإن من البيان لسحرًا)، لكن الجمال والفصاحة لا تنافي البساطة، بل البساطة هي من أنواع الجمال. والله تعالى قد جعل كتابه ميسرا وهو الغاية في البلاغة والفصاحة {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 22]، وإنك لتجد عبارات النبي صلى الله عليه وسلم – وقد أوتي جوامع الكلم – مفهومة ميسرة بعيدة عن الوحشي من العبارات. وإن وجدنا بعض الكلمات الغريبة، فهي غالبًا كلمات موجودة وشهيرة في عصره إلا أنها اندثرت في أيامنا، فهي إذًا مسألة اختلاف أزمنة لا علاقة لها بالصعوبة أو السهولة اللغوية.

ولا بد من الإشارة إلى أن هناك بعض الكتابات التي قد يستعصي فهمها على معظم الناس، لكن الصعوبة فيها مبررة على الرغم من ذلك، إذ قد تكون دراسات علمية تتطلب ذكر مصطلحات معينة غير متداولة إلا في مجالاها، وقد تكون متونا كُتبت بتكثيف في المعاني واختصار في المباني ليسهل حفظها واستظهارها وما سوى ذلك. وهذا نستطيع أن تقبله ونتفهمه، إذ فيه فائدة وإعانة لطالب الغاية.

صفات أخرى

وهناك أيضا غيرها الكثير من الصفات العلمية والأدبية التي يجب على المفكر الحق أن يتحلى بها -أذكر بعض منها بإجمال دون تفصيل لضيق المقام- مثل: (شمولية المعرفة) أي إدراك تكامل المعارف والعلوم، والسعي إلى استنباط العلاقات بينها، وتوحيد الجهود والربط بين الإسهامات المختلفة، فلا إقصاء لمجال من المجالات على أنه غير مهم، أو الادعاء بأهمية مجال بعينه دون سواه، وهذه خطوة أولية في سبيل تجاوز خلافاتنا وفرقتنا، مثل الخلافات التاريخية المعروفة بين المتكلمين والفلاسفة، والمتكلمين والفقهاء، والفقهاء والمحدثين وما شابه.

والتنبّه لـ (تركيبية الإنسان): فالإنسان مخلوق مركب، يحوي عقل وعاطفة، روح وجسد، ولكي يفلح الإنسان يجب أن تعمل كل مكوناته بالتوازي في الإطار المحدد لها، ولا نؤيد الذين يقطّعون الإنسان إلى مجالات موضوعية معزولة عن الكل، ويحاولون إصلاح الإنسان بإصلاح إحدى مكوناته بمعزل عن الأخرى.

إضافة إلى (الانفتاح) المحمود: أي الاطلاع على فكر الآخر (أفرادا وحضارات) وتجاربه ومحاولة الاستفادة منها، ولكن مع مراعاة الخصوصية للمجال التداولي للبيئة العلمية والاجتماعية التي نعيش فيها وننتمي إليها، و(التخلّق بالصبر) على المخالفين وعفة اللسان والتحلي بأخلاق الإسلام، و(الواقعية): أي الاهتمام بالمباحث النافعة من العلوم، وما يتصل بحياة الناس العملية. ولا بد هنا من الإشارة إلى الإشكالية الكبرى في تحديد العملي والنظري، أي ما يبنى عليه عمل، وما هو من قبيل التَرَفِ الفكري، حيث يمارس الكثير من العوام نوع من الشغب في حق المفكرين والعلماء، وكيل الاتّهامات بالتنظير والفلسفة، غير مدركين خطورة بعض الأفكار النظرية، التي تولد في رؤوس شياطين الإنس، ولكنها قد تحتاج مئة عام ليراها الناس انحرافًا سلوكيًّا أو أخلاقيًّا جارفًا، يقتلع الفضيلة من جذورها، ويعصف بالمجتمعات الآمنة، ويُسقِط دولًا برمّتها. وهذه مسألة تحتاج إلى التفصيل وتحرير القول، وليس هذا مكانه هنا.