image_print

ظاهرة التعقيد في تصميم المدن الإسلامية القديمة

في كثير من الأحيان نجد ربطًا مباشرًا بين ضياع الإنسان وتشوّش أفكاره وبين الروحانية في بعض الأعمال الأدبية والفنية والمعمارية الحديثة، ويتجلّى ذلك في اعتماد تصميم مساحات معقّدة ومتداخلة التي يشار إليها بمصطلح المتاهة Maze)) وتوصف في بعض الأحيان بمصطلح ((labyrinth الأكثر توصيفًا في الفلسفة الغربية، مع وجود اختلاف في تطور أنواع المتاهة على اختلاف تأويل فكرة المتاهة والهدف منها.

توضيح لمفهوم الجذمور والفطريات. المصدر: literariness.org

أشير لهذه المصطلحات في الأدب والفلسفة الغربية الحديثة بكثرة، كما نرى عند الفيلسوف جيل دولوز وعالم النفس فيليكس غوتاري، اللذان طوّرا المفهوم الفلسفي للـ “جذمور” (تعدّد الوجوه في إطار الجذر الواحد) في مشروعهما للرأسمالية والفصام (1972-1980)، فوفقًا لدولوز وجوتاري، فإن ثقافة ما بعد الحداثة تشبه “الجذمور” [مصطلح في علم النبات يقصَد به الجذر المتفرّع] أكثر من الشجرة.

إن الجذمور أو الفطريات كائن حي من ألياف حية مترابطة ليس لها نقطة مركزية أو أصل مؤكّد، ولا شكل أو وحدة أو بنية معينة. لا يبدأ الجذمور من أي مكان أو ينتهي في أي مكان؛ بل ينمو من كل مكان، وعلى هذا النحو، فإنه لا يوجد للجذمور مركز، مما يجعل من الصعب اقتلاعه أو تدميره(1)؛ لأن “الجذور” ليس لها بداية أو نهاية؛ إنه دائمًا في الوسط، بين الأشياء، فهو اللحن الفاصل كما أنه نقطة البداية، فالحركة المستمرة من الجذمور تقاوم التسلسل الزمني والتنظيم، وبدلاً من ذلك فإن الجذمور يفضل نظام الترحّل للنمو والانتشار.

الجُذْمورُ وشتات ما بعد الحداثة

قد يكون هذا الشرح مناسبًا لمفهوم الهوية الفردية والجمعية للثقافات المختلفة في عصر ما بعد الحداثة، وقد يكون الجذمور الوجه الأمثل لتشبيه المقاومة الحاصلة لرفض التمركز الحاصل في الحداثة، وأيضاً يمكن التخمين أنه قد يكون رد فعل لمن لا يعرفون تاريخهم أو لا أصل واحد محدد لهم. فيكون جوهر وجود هؤلاء الأشخاص مبنيًّا على ربط الظواهر وتفسيرها اللحظي والتأقلم مع اللحظة الراهنة.

لقد أعطت الحداثة صورة شمولية للواقع بغض النظر عن السياق أو الظروف، إلا أنه تبيّن أن الوصف لا يغطّي جميع تجارب البشر، وهذا ما دعا بعض البشر إلى تطوير التشابُك الخاص بهم، ليكون مبنيًّا حصراً على التجارب الشخصية والتفاعلات مع البيئة، كما هو حال الجذمور، فيكون هذا التشابك مرتبطًا بشكل مباشر مع التكيّف اللحظي بالسياق الدقيق والخاص، وقد يكون من دون اعتبارٍ مباشر للنظرة الشمولية للواقع.

هل بنيت المدن الإسلامية على نظام المتاهة العشوائية؟

من الممتع حقيقة التوسّع في موضوع الجذمور والظواهر الفكرية القريبة منه، ومن الجميل فهم الواقع بناء على هذه النظرة المتشعّبة، إلا أننا قد نحتاج معرفة نتائج هذه الفلسفات قبل ربطها بأنماط محددة، فمثلاً نجد الربط الدائم ما بين مفهوم المتاهة labyrinth وبين تصميم المدن الإسلامية القديمة لدى بعض المستشرقين أو الناقدين(2)، وبالرغم من أن تصميم المدن القديمة كان معقداً ومتداخلاً بالفعل، إلا أن هذا لا يعني أن ذلك التعقيد والتداخل نابع عن العشوائية كما في حال ما بعد الحداثة أو مفهوم الجذمور، بل لأنها مصممة على نمط معيّن من المدن الإسلامية، بل إن المدن الإسلامية بريئة من ربطها بالعشوائية!

وأيضاً قد يكون هذا المنحى عند الربط بين ما هو طبيعي وعفوي وبين ما هو بدائي. فمع أن الإسلام مبني على الفطرة والطبيعة الأصلية للبشر، إلا أنه ينبغي التأكيد أن الإسلام لا يقبل أن نكون بدائيين، وبذلك فإن الواقع الإسلامي لا يكون مبنيًّا فقط على حالة البداوة بمعناها البسيط من حيث الاستجابة المباشرة للواقع دون تخطيط، بل إنه يطلب منا أن نتخذ القرار بشكل تنظيمي وغير عشوائي.

جمعت الحداثة الغربية كل ما هو غير (حديث) –بالمعنى الاصطلاحي- في خانة واحدة تحت مسمى (exotic) أي الغريب والشاذ وغير المألوف، وبهذا فإن تصميم المدن الإسلامية قد يكون متشابها مع المتاهة كما في تصميم المقابر الأوروبية القديمة، أو المتاهات الشيطانية المستوحاة من الأساطير اليونانية.(3)

مسقط رأسي لأحد أحياء المدن الإسلامية القديمة. المصدر: urbanplanningschool.blogspot.com

أين الإنصاف في هذا الادعاء؟

إلا أن التأكيد على أن المقصود بهذا التصميم هو العشوائية فإنه أمرٌ غير دقيق وبعيدٌ عن الإنصاف، وقد أفاض البروفيسور مصطفى بن حموش في الحديث عن ظاهرة عدم إنصاف المستشرقين في ربطهم المدن الإسلامية بالعشوائية وخضوعها للتصرفات الآنية للأفراد، وعدم وجود نظام هندسي تقوم عليه(4) فأكد بطلان الربط بالعشوائية، حيث إن العمران هو وعاء تتشابك فيه حقوق الأفراد والجماعات وتتدافع فيه المصالح(5).

إن الكثير من الأشكال الهندسية المعقدة يمكن تفسيرها عبر التفاعل بين الأحكام الفقهية والمعطيات المتميزة لموقعٍ ما في المدينة، وذلك مثل استقبال القبلة، والتعلّي في البنيان، ومنع التكشّف وغير ذلك مما نجده من مسائل في كتب الفقه الإسلامي والنوازل والفتاوى(6).

ومن الجدير بالاهتمام أن نرى العمران الإسلامي من منظور آخر، فيكون أخذ قرار في البناء أو الهدم أو التعديل أشبه بإصدار فتوى شرعية مناسبة لذلك السياق، حيث إن من فقه العمارة الإسلامية الاعتماد على مبدأ نفي الضرر.

لكن السؤال هو: هل المعماريون المسلمون الآن مؤهّلون لإصدار هذه الفتاوى؟

بالرجوع لمفهوم المتاهة في البناء فإننا نرى أن المتاهة نتيجة وليست منهجًا، ومن هنا فقد يكون الاطلاع على مخططات وخرائط المدن الإسلامية القديمة مرجعًا مهمًّا لحل شيفرات كثيرة، ومعرفة كيف توصلوا لهذه التصاميم المعقدة، وهذا الأمر –كما يرى مالك بن نبي (7)- إن تحقق فإنه سيعيننا في إدراك ميكانيكية الظاهرة وتصوّر المنهج.


المراجع:

  1. المفهوم الفلسفي للجذمور: https://cutt.ly/jvZ5rKF. تاريخ الزيارة 23/04/2021
  2. في كتاب للباحثة سمية فلاحات، والذي هو رسالة بحثية تجمع بين الاستشراق والاستغراب، ولعلنا نخصص لها مقالًا منفصلًا. Falahat, S. (2014). Re-imaging the City. Springer: Berlin
  3. مقال عن أساطير يونانية وعلاقتها بمفهوم المتاهة. https://www.worldhistory.org/Daedalus/. تاريخ الزيارة 23/04/2021
  4. د. مصطفى بن حموش، فقه العمران الإسلامي من خلال الأرشيف العثماني الجزائري، دبي، 2000، دار التراث وإحياء التراث، ص 7
  5. المصدر نفسه. ص 29
  6. المصدر نفسه. ص 30
  7. مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، دار الفكر، ص 62

المجتمع الغربي والتغيرات اللاهثة

أنهيت منذ فترة مطالعة رواية “فوضى الأحاسيس” للروائي النمساوي الشهير “ستيفان زيفايج”، وقد أعجبتني وأعجبني بناؤها الفني والأدبي البسيط والعميق، لكنني لن أتعرض لها هنا من الناحية الفنية؛ لأن ما لفت نظري فيها هو جانب فكري يتعلق بطبيعة عمليات التغيير المجتمعي بشكل عام وفي الغرب بصورة خاصة.

نشرت الرواية في ثلاثينات القرن العشرين، أي من حوالي 90 عامًا، وهي تتعرض ضمن أحداثها لقصة أستاذ أكاديمي في الأدب الإنجليزي يعاني من الشذوذ الجنسي، وما تفرع عن ذلك من طبيعة رفض المجتمع الأوروبي له في ذلك الوقت، وكيف أن ذلك البروفيسور المرموق الذي له وجاهة كبيرة في المجتمع آنذاك كان يضطر إلى الاندساس داخل مناطق نائية مطيَّنة تفوح منها رائحة النتن والعفونة في مدينة “برلين” الألمانية ليمارس شذوذه مع أفراد قذرين مخنثين غير متقبّلين في المجتمع.

واللافت للنظر هنا أن تجد أوصافًا لفعل الشذوذ داخل الرواية من قبيل: “رغبات شاذة، احتقار، اشمئزاز، نفور، شخص منبوذ، رذيلة مخزية، ضرب من الجنون، ملطخة بالقرف، مسممة بالخوف، الرفاق المشبوهون، عالم الرذيلة، المغامرات المخزية، ميوله المنحرفة، شعور خانق بالخزي والعار والخوف من الذات، العادات المشبوهة، فتيان فاسقين، التلوث بالرجس والقذارة، مخلوقات شبحية ودنيوية نتنة”… كل هذه وغيرها كانت الأوصاف الحرفية للرواية عن الشذوذ الجنسي وممارسيه والحالة التي تتلبسهم حال ممارسته.

تعرض الرواية كيف أن حياة البروفيسور تحولت في الرواية إلى جحيم نفسي حقيقي بسبب ممارساته المنحرفة وعدم تقبل من حوله لها، كان يتعرض لعمليات ابتزاز وتهديد تخلف وراءها أحيانًا هلعًا ورعبًا بلا حدود، فضلاً عن سخرية الآخرين منه ومن ممارساته المشبوهة. لم يكن ينام في الليل إلا قليلاً بفعل سوء حالته النفسية التي سببتها حالة التناقض التي يعيشها، بل ربما ناداه داعيه الداخلي مساءً فتسلل من المنزل تاركًا زوجته الحسناء ومغادرًا بالأيام ليخوض مغامرة دنسة جديدة، ليعود بعدها وقد علت جسده وملابسه جميع مظاهر الانحراف والقذارة.

لم يلفت نظري تدوين “زيفايج” هذه الممارسة القبيحة التي كان غارقًا فيها هذا البروفيسور، فهذا مما قد يوجد في كل مجتمع بنسبة ما، وربما يكون الكاتب أراد تسليط الضوء على هذا الشخص من باب الاستثناء الذي يلتفت إليه الأديب في كتاباته، فالفن بالأصالة تدوين لحالة من الاستثناء، والحياة العادية لا تلفت نظر المبدع لتدوينها، وإنما اللافت لنظره هو الغريب، الغريب في حاله أو طبعه أو شخصه، أو حتى الغريب في موقفه الطارئ الذي لا يسير وفق العادة اليومية المطردة. ومن هنا قد تكتسب بعض الأعمال الأدبية والفنية صفة الملالة والسأم حينما تلتفت فقط إلى ما يلتفت إليه الناس يوميًا، وتشير بأصابعها إلى ما يعتاد الناس الإشارة إليه. أما الإبداع فيهتم بما لا يهتم به الآخرون، ويركز على جوانب مظلمة من الحقائق لا يلتفت إليها الناس، أو على الأقل يعبر عما يعتاده الناس لكن بأسلوب لم يعهدوه أو يعتادوا رؤيته أو سماعه. ومن هنا يكتسب صفة الجدة والابتكار، “فالفن تدوين للاستثناء” كما قلنا.

كيف عرض زيفايج للشذوذ وحياة المجتمع الأوروبي؟

إلا أن الفاصل بين أديب وآخر يكمن في كيفية تدوين هذا الاستثناء وعرضه؛ فـ”زيفايج” استعرض القبح الكامن في هذا الاستثناء، ونجح في خلق صورة مستبشعة ومنفرة عنه. لكن الأعمال الأدبية المعاصرة تروج لهذا السلوك وتجعله اختيارًا مقبولاً ومتاحًا، بل ومحببًا في أحيان كثيرة. وإني لأتوقع لو كتب هذه الرواية الروائي العربي “فلان” لاستبدل جميع الألفاظ الآنفة الذكر، وحالة الفصام التي أتعبت ذلك البروفيسور المريض والتي كان يعيشها بين حالته وسط طلبته صباحًا في الجامعة ومساءً بين الأراذل في المواخير والمشارب ليجعل منها حالة تحفزه لمزيد من الإبداع والتميز المهني والحياتي والأكاديمي!!

ما لفت نظري في هذه الرواية هو تصور المجتمع الأوروبي في ذلك الوقت لهذه الرذيلة واستنكاره لها ووصفها على لسان هذا الكاتب الكبير بأقذع الأوصاف وأقساها، ولن تخطئ عينك حالة الإدانة التامة التي سببتها هذه الأوصاف لهذا الفعل الشنيع في الجزء الأخير من الرواية.

أوروبا في هذه الفترة كانت تدين الشذوذ، وتراه فعلا مستقبحا مخالفا للفطرة السوية، ولا يمارس هذا الفعل منهم سوى الحقراء والمنبوذين، الذين خصصوا لأنفسهم أقذر الأماكن وأبعدها عن العمران ليمارسوا أفعالهم بعيدا عن أعين الناس الذين يرونهم مرضى أو كائنات متدنية. ومن كانت تراوده نفسه من أهل المدينة ليلطخ سمعته بهذا الفعل الشائن كان عليه أن يتكبد عناء الانتقال إلى هذا المكان القذر ليدنس حياته برجسه خُفية ودون أن يعلم به أحد. والويل له إن انكشف سره وافتضحت حقيقته! هذا ما كان عليه هذا الوضع في أوروبا وقتها.

التطبيع مع الانحراف

حين طالعت هذه الأوصاف السابقة في الرواية قفز في ذهني فورًا الصورة الحالية لهذه الممارسة المنحرفة في الآداب والفنون الغربية المعاصرة، كيف حدث هذا التحول الرهيب في المجتمع الغربي -ويجري على قدم وساق في المجتمع العربي بالمناسبة- تجاه تقبّل الشذوذ بدءًا من تغيير التسمية الصادمة للأذن “الشذوذ الجنسي” بوصف آخر مهذب ومستساغ “المِثلية الجنسية”، ومرورًا بعرضه علانية وبفخر في الإعلام والأعمال الفنية والأدبية، وانتهاءً بإعلانه رسميًا في كثير من دول العالم الغربي والأوربي بديلاً أو طريقًا موازيًا للزواج الطبيعي، واستخدامه ورقة سياسية أحيانًا من قبل الساسة والحكام.

فبات من الطبيعي جدا أن تطالع يوميا في صفحات الجرائد والمجلات زواج امرأتين أو رجلين داخل كنيسة، زواجًا رسميا معلنا وموثقا من قبل الدولة، بل ومع التطور اليومي تطالع إعلان بعض رجال الدين والقساوسة لشذوذهم الجنسي وفخرهم بذلك! وبات طبيعيا أيضا أن يقتحم عليك منزلك مشهد أو عدة مشاهد في عمل درامي يقبِّل فيه رجلان ذوا لحية كثيفة ومكتملا الرجولة بعضهما البعض، ليستبدل الصورة النمطية القديمة عن الشاذ جنسيًا في الدراما بأنه شخص مخنث يتمايل بضحكات رقيعة، في إدانة واضحة لفعله. فالآن يمكنك أن تكون رجلا شهما ومسؤولا وعلى أعلى درجات الاحترام وقوة الشكيمة في العمل، وشاذًّا في نفس الوقت بلا غرابة أو تأنيب ضمير!!

الفاصل بين هذه الأوصاف المستقبحة لهذا الفعل الشائن في الرواية وبين الواقع الحالي المبيح والمروج هو 90 عامًا فقط (وقت نشر الرواية)! 90 عامًا تحولت فيها البشاعة والانتكاس الفطري إلى واقع طبيعي يحظى بالقبول المجتمعي!! وهذا أمر مرعب في حد ذاته. منذ مهد التاريخ البشري لم يحدث هذا الغزو البشع للكرة الأرضية والإغراق الرهيب بالمحتويات الشاذة والمنحرفة على هذا النحو الذي يقع الآن.

إلا أن رقم 90 هذا يعد رقمًا كبيرًا نسبيًا، فطوال هذه الأعوام التي تقترب من قرن من الزمان لم يشهد العالم هذا التسابق المحموم على النشر اللاهث للشذوذ إلا في آخر 15 أو 20 عامًا على الأكثر، ولنا أن نتخيل أن آلافًا أو عشرات أو مئات الآلاف من السنوات من عمر البشرية لم تتغير خلالها هذه الصورة الفطرية السوية في نفوس البشر حتى وإن مارس بعضهم الشذوذ، لكن عقدا أو عقدين من الزمان كانا كافيين في تشويه وإتلاف هذه الفطرة وإحداث تدهور حاد في التصورات المستقرة سلفًا. فماذا يحدث؟!

الطفرة الكونية التي يعيشها العالم الآن في مجالات السياسة والإعلام أحدثت حالة من اللهاث المتعجل نحو التطبيع مع الانحراف. والعلمانية والإلحاد اللذان سيطرا على المجتمع الغربي وبدأتا تغزوان المجتمع العربي والإسلامي صارتا المتحكم الرئيس فيما يعرض على الشعوب في الإعلام والدراما، بل نصَّبتا نفسيهما مهندس الأخلاق الكوني للعالم، فتقرران ما يناسب البشر وما لا يناسبهم من الأخلاق والمعتقدات بناءً على المتطلبات الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والفكرية للإلحاد والعلمنة.

حتى الرسوم المتحركة الخاصة بالأطفال لم تسلم من ذلك، فالمحتوى الغربي المرسِّخ لقبول الشذوذ وزرع فكرته في عقول الناشئة، سواء بالإشارة أو بالمباشرة، صار أكثر وأكبر كثافة من أن يحصى. وهذا يتطلب حالة من التحفز والانتباه المضاعف لأخذ الأهبة والتدرّع بمختلف وسائل المقاومة.

الفنّ وسيلة لإفساد الفطرة

لم تعد الدراما والفنون الروائية والقصصية الغربية مجرد أداة ترفيهية بريئة كما كانت أول نشأتها، بل صارت سلاحا حربيا كئيبا ربما يفوق في تأثيره مفعول القنابل والمجنزرات والآليات المعقدة، سلاح فكري انتكاسي ضد الفطرة والقيم والأخلاق، وبكل أسف تمكن الطرف المناوئ من حيازة أسباب التفوق فيه، ولم نتمكن نحن حتى هذه اللحظة من الهجوم واستخدام أساليبه بذات البراعة التي يقاتلنا بها، وكان جل ما نفعل هو الصراخ من الألم والاستكانة بزاوية رد الفعل. ولا ننكر أن هناك جهدًا فكريا نخبويًا يصاغ على صفحات الكتب وقنوات الأثير، إلا أنه غير كاف في مواجهة هذا السيل الجارف من الدراما القبيحة، فطبيعة الشعوب البعيدة عن حالة النخبوية الثقافية لا تتأثر بالأطروحات الفكرية المصبوبة في المؤلفات العلمية بقدر ما تتأثر بالدراما البسيطة التي تنفذ إلى العقل اللا واعي، وربما يتجاوز تأثير فيلم أو مسلسل واحد العديد من الكتب والمحاضرات التي يتلقاها الإنسان البسيط في عمر مديد؛ لأن الأول يحفر في قلبه وعقله الباطن، والثاني يخاطب عقله وتفكيره.

ما العمل؟

إننا مطالبون -وبسرعة لا تحتمل التأجيل أو التقاعس- بإعداد مشروع درامي أخلاقي وقيمي يواجه المشروع الإعلامي الغربي المتضحة معالمه التخريبية المنحرفة، ولم يعد ذلك من رفاهية الأعمال أو الأفكار والمشروعات، بل بات أمرًا ملحًا كعلاج “الغرغرينا” التي ما لم يتخذ الطبيب قرارا صارما وسريعا فسوف تنتشر في الجسد المنهك كله، ولن يغني حينها العلاج ولا البتر. مشروع إعلامي قادر -ولو نسبيًا- على المنافسة، فكثير من التجارب السابقة في الدراما والرسوم المتحركة القيمية والأخلاقية كانت ساذجة وعلى مستوى فقير مهنيًا وتفتقد لعناصر الإبهار والقصة والجودة، فكانت تكرارًا لما سبقها في الأسلوب والمعالجة المباشرة المفتقدة للحبكة، وطغا عليها الخطاب الوعظي النصائحي، لذا كانت مثار سخرية واستهزاء لا محط اهتمام وشغف.

الهوية الفرعونية وخيوط العنكبوت

بعد تلك الزفّة الهائلة التي تَمَّت في مصر لما يسمى بالمُومْياوات المَلَكيّة وما صاحبها من حشد إعلامي قبل الحدث وبعده، تعالَت أصوات الكثيرين منادية بضرورة الرجوع إلى ماضينا العريق والعودة إلى هُويتنا المفقودة، وتجدّد الجدل القديم حول حقيقة الهوية المصرية هل هي الفِرْعَوْنِيَّة أم الهويّة العربية الإسلامية؟

إنّ ما وصَلَنا من الحضارة الفرعونية أو على الأقل ما يُدَرَّس منها في المدارس والجامعات إنما هو خليط من الوثنية والإيمان بآلهة الطبيعة، والرمز لها برموز مختلفة واعتقاد تأثيرها في الكون، ثم الإيمان بنوع من الحياة بعد الموت يَمْثُلُ الميت بِحَسَبِه أمامَ مجلسٍ من الآلهة يحاسبه على أعماله، ويفحص مدى إيمانه بالآلهة والتزامه بتقديم القرابين لها.

نُقِلَتْ لنا تلك الثقافة الدينية مع جملةٍ من تاريخ مصر القديم مدونةً على أبنية المعابد ومِسلّاتها الشاهقة وتماثيلها محكمة الصنع والبنية، أو مدفونة في مقابر تَضُمّ مع جسد الميت المحنّط جزءًا كبيرًا من ثروته وأدوات معيشته التي كانوا يعتقدون أنها لازمةُ للحياة بعد الموت. كل ذلك في حِزْمة من الأساطير تدور حول صراع الآلهة وإيقاع بعضها ببعض ومحاولة بعضها الاستئثار بالإلهية دون البعض الآخر([1] ).

ومن المؤسف أن البعض قد أثلج صدورَهم ما رأَوْه في الموكب المذكورِ من ترانيمَ وأناشيد وثنيّة ورقصات تحتوي على إشارات شركيّة، فكل هذا من وجهة نظرهم رجوعٌ إلى الأصل، وتمسُّك بالهُوية التي ضاعت مع الزمان، فضاع بها المصري بين أمم الأرض، وتحوّل من المصري القائد والراعي والإله والعالِم والفنان وصانع الحضارة إلى المصري المتسوّل على موائد الحضارات المُتَفَتِّتِ في فضاء الهُويات.

 أرضُ الحضارات

لقد تَكَوَّنَتْ على ضفاف النيل العديدُ من الحضارات بدايةً من الحضارة المصرية القديمة بعصورها المختلفة والتي كان الوجود العربي مكوِّنًا أساسًا من مكوناتها، “فلقد عرفت مصر قبل الإسلام فرعي العرب الكبيرين: القحطانيون الزُرَّاع كانوا يعبرون البحر ويستقرون في الوادي ويختلطون بسكانه، والعدنانيون كانوا يجوبون الصحراء الشرقية بدوًا رُحَّلًا، ولهذا لم يختلطوا كثيرًا بالمصريين، وهم الذين حاربهم الفراعنة طويلًا. ومعنى ذلك بوضوح أن تعريب مصر سبق في بدايته الفتح العربي والعصر الإسلامي، وأنه قديم في مصر مثلما كان قديمًا في السودان، وإنْ كان الفتح نفسه هو الخطوة الحاسمة”([2]).

ثم كانت مصر امتدادًا مؤثرًا للحضارة اليونانية والرومانية، وعلى أرضها نشأتْ الحضارة القبطية ثم ازدهرت الحضارة العربية الإسلامية. وفي كل هذه الحضارات كان التعدد الديني سمة من سمات النسيج البشري المصري، خاصة الوجود اليهودي، ثم الانتشار المسيحي الذي طبع مصر بطابعه الثري في كل جوانب الحياة الروحية والمادية قرونًا عديدة امتدت حتى بعد الفتح الإسلامي لها، “وثمة هنا مفارقة طريفة: وهي أن درجة انتشار كل من الأديان الثلاثة في مصر تكاد تتناسب عكسيًّا مع درجة ارتباط رسولها بمصر. فموسى أشدهم ارتباطًا بمصر، ولد وعاش وربي بها، بل يعدّه البعض مصريًّا بالأصل، ومع ذلك فلم تنتشر اليهودية في أوجها إلا انتشارًا جزئيًّا محليًّا جدًّا. أما عيسى فقد جاءها طفلًا وأقام بها بعض الوقت، ولم تنتشر المسيحية في أوجها إلا نصف انتشار على الأكثر. أما النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهو وحده من بين أصحاب الرسالات الثلاث الذي لم يجئ إلى مصر، وإن كان وحده الذي أصهر منها، ومع ذلك فقد قُدِّرَ للإسلام أن ينتشر بها الانتشار الأكمل والأشمل”([3]).

استوعب المصريّون كل هذه الحضارات وأثَّروا فيها وتأثّروا بها، واحتضنت أرض مصر من كل حضارة أعظم فلاسفتها وأقواهم فيها أثرًا، ففي الزمن القديم عاش فيها هرمس الهرامسة الذي يُعتَقَد على نحو واسع أنه كان نبي الله إدريس -عليه السلام-([4]).

مع تشوه رسالة إدريس، أعاد الوثنيون المصريون تقديمه في صورة إله أو حكيم يحمل صفات إلهية اسمه “تحوت” Thot

وحين حطَّتْ المسيحية في مصر رحالها نبغ فيها أوريجين الفيلسوف السكندري الكبير (185 ـ 254م) منحدرًا من أسرة وثنية اعتنقت المسيحية وتحمّلت أشد الأذى والاضطهاد في سبيلها، وقد تركت تلك الحوادث أثرًا عميقًا في نفسه فأقبل على الكتب الدينية دارسًا وشارحًا لعباراتها كاشفًا لغوامضها محاولًا التوفيق بينها وبين الأفكار العريقة لمدرسة الإسكندرية الفلسفية. وقد بلغ أوريجين في ذلك الغاية القصوى حتى أضحى من المؤكد أنه ليس هناك أحد ترك أثرًا واضحًا في اللاهوت المسيحي بعد القديس بولس مثلما فعل أوريجين([5]).

كما احتضنت مصر واحدًا من أعظم فلاسفة اليهود على الإطلاق، موسى بن ميمون، الذي كان طبيبًا خاصًّا للملك الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي، وكتب العديد من الكتب في الدين والفلسفة، مما خلَّدَ اسمَه ضمن كبار فلاسفة العصور الوسطى وكان محل تقدير من العامة والخاصة، ويَعدُّه اليهود أكبر فلاسفتهم على الإطلاق حتى قال ناعيه: من موسى إلى موسى لم يقم مثلُ موسى([6]).

التغير المصري الأعمق والأتمّ

تفاعل المصريّون مع كل هذه الحضارات تفاعلا واعيًا وعميقًا، لكن تفاعلهم مع الحضارة العربية الإسلامية كان أشد عمقًا وأكثر شمولًا، حتى أنهم ككثيرٍ غيرِهم قبلوا الإسلام دينًا وثقافةً ولغةً، فصارت مصر إحدى الحواضر الإسلامية التي مثَّلتْ في تاريخ الإسلام نبعًا صافيًا فياضًا لعلوم القرآن والسنة واللغة، ولعلوم الفلسفة والطب والفلك والفيزياء كذلك، وأضحت حصنًا حصينًا ضد كثير من الحملات العسكرية العاتية التي استهدفت بيضة الإسلام وشأفته بل سلامَ العالم وأمنَه.

إنّ مَرَدَّ هذا القبول التام للإسلام هي أسباب ثلاثة: التسامح الديني، وإدارة المسلمين الرفيقة والعادلة لشؤون البلاد، وقرب التصور الإسلامي للإله من تصور الكثير من المسيحيين غير المؤمنين بالتصور الرسمي الكنسي([7]).

وهذا يؤكده ما قام به عمرو بن العاص حين فتح مصر إذ أمَّنَ نصارى مصر على كنائسهم وأديرتهم ثم سمح للبابا آنذاك بنيامين الأول أن يعود ليباشر عمله في أمان بعد أن ظل مختفيًا لسنوات هربًا من الرومان وبطشهم.

وحتى وإن جرَتْ سياسة الولاة بعد ذلك تجاه جموع الشعب على العسف أحيانًا والعدل أخرى إلا أن العلاقات بين طوائف الشعب كان فيها من التسامح والتعايش القسط الوافر. يقول صاحب كتاب (تاريخ الأمة القبطية)([8]): “ومن حسن الحظ أن علاقاتهم الشخصية مع أفراد المسلمين المتوطنين بينهم لم تكن غيرَ مُرْضِيَةً وأنَّا لَمْ نر في التاريخ ما يدل على وجود تعصُّبات دينية بل ربما وجد بين المسلمين مَنْ أنصفَهم وذبَّ عنهم”.

آثارٌ لا تُمْحَى وهُوِيَّةٌ لا تزول    

من بين الآثار العريقة الكثيرة العجيبة التي تَعُجُّ بها أرض مصر تبقى آثار الحضارة الإسلامية شاهدة على تَشَرُّبِ كل شبر من تلك الأرض المباركة حضارة الإسلام وثقافته، فبينما تتركّز آثار الحضارات الأخرى في منطقةٍ مَّا هنا أو هناك تنفرد آثار الحضارة الإسلامية بتوزعها على جميع الأنحاء والنجوع والقرى في القطر المصري، وتلك الآثار التي تتنوع بين مساجد ومدارس وزوايا وتكايا وخوانك ما زال الكثير منها إلى الآن يَعِجُّ بالحياة والحركة مواصلًا دوره الثقافي والديني دون أن يتنكّر لماضيه أو يبخل على حاضره، أو يتحول لبناء صامت يحكي عن فترة قد انقطعت عنها الحياة أو انقطع هو عنها فلم يعد قادرًا على مسايرتها. وفي حِسْبة رياضية بسيطة يقارن جمال حمدان بين المدة الزمنية لتاريخ مصر القديم وتاريخها العربي الإسلامي فيخرج بنتيجة حاسمة هي أن طول تاريخنا العربي يعادل نحو ثلث إلى نصف تاريخنا الفرعوني تقريبًا، ونحو ربع تاريخنا كله([9]).

جمال حمدان

لكن هل يعني ذلك انقطاعًا تامًّا بين الحضارة الإسلامية والعربية وبين غيرها من الحضارات التي سبقتْها على أرض مصر؟

يحلو للبعض أن يعتقد هذا موهمًا أن مصر تعيش مرحلة من الغربة عن ثقافتها وماضيها منذ الفتح الإسلامي إلى الآن، متنكرًا بقوله هذا للواقع والتاريخ. فلم يُؤْثَرْ عن المسلمين أنهم حطموا تمثالًا أو خربوا معبدًا أو طمسوا أثرًا ينتمي لحضارات سابقة بل تركوها مصدرًا للمعرفة والثقافة والعبرة والعظة. وما زالت اللغة المصرية المتداولة تحمل في طياتها كلمات تُنسَبُ إلى اللغة المصرية القديمة تزيد على ألف كلمة([10]). فالقول بالاستيعاب وليس بالانقطاع هو الأقرب للقَبول تاريخًا وواقعًا. فمصر كما وُصِفَتْ بحق “وثيقة من جلد الرِّقِّ، الإنجيلُ فيها مكتوب فوق هيرودوت، وفوقَ ذلك القرآن، وخلف الجميع لا تزال الكتابة القديمة مقروءةً جلية([11]) “.

لعل ممّا ساعد وزاد من وتيرة ذلك الاستيعابِ الثناءُ المستمر على مصر وذكرُها بالمحامد في النصوص الدينية الإسلامية فالقرآن يذكرها تصريحًا وتلميحًا مرات عديدة ويذكر أنها كانت مبعث الرسل وملجأ الأنبياء. ولئن ذكر الله أن أشهر فراعنة التاريخ فرعون موسى كان جاحدًا مكذبًا فلقد ذكر أن زوجَهُ كانت مسلمة موحدة وأنه كان من ملئه مؤمن يكتم إيمانه وأن الجدة الكبرى لخاتم الأنبياء كانت من صميم أهل مصر وأن يوسف وقومه لقوا فيها الحفاوة والتكريم. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم النيل والفرات ينبعان من أصل سدرة المنتهى. [البخاري: 5610] وسيناء هي التي شرفت بحديث موسى إلى ربه، وهي أول موطن للشجرة التي أثنى الله عليها بقوله: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ} [المؤمنون: 20]. كل هذا الثناء وذكر مصر دائمًا في موضع المدح في القرآن والسنة فضلًا عن مكانتها المكانية والزمانية ميزها بمحل رفيع في الثقافة الشعبية المصرية حتى غدا كل مصري يؤمن إيمانًا عميقًا بأن مصر جزء لا يتجزأ من أرض الإسلام وتاريخه وحضارته وتراثه وثقافته، بل يؤمن أنها درة بلاد الإسلام وكنانة الله في أرضه والحصن الحصين التي يجد فيها كل مسلم الأمن والأمان والسرور والترحاب، فأضحتْ مصر بذلك مركزًا من المراكز الكبرى للحضارة الإسلامية يؤمها العلماء والفلاسفة والفقهاء من كل حدب وصوب فيلقَوْن بها والتقدير والحفاوة. وقد عبَّر الشافعي عن ذلك أحسن بيان وأبلغه حين كتب إلى ابن عمه يخبره عن مصر وأهلها: وسألتَ عن أهل البلد الذي أنا به، وهم كما قال عباس بن مرداس السلمي:

إذا جاء باغي الخير قلن بشاشةً له بوجوه كالدنانير: مرحبًا
وأهلًا ولا ممنوعَ خيرٍ تريده ولا أنت تخشى عندنا أن تُؤنَّبَا([12])

إن الدعوة إلى انسلاخ مصر من عروبتها وإسلامها واحتمائها بحضارة قديمة ميتة ـ مهما كان بهاؤها وبريقها ـ لهي دعوة إلى تحويل مصر إلى عضو مقطوع عن تاريخٍ وثقافةٍ وتراثٍ حافلٍ وعن جسد عربي وإسلامي فائرٍ بالحياة والتجدد، ودعوة لتحول مصر إلى بلد ضعيف ضئيل الحجم والتأثير وفقدِه شيئًا فشيئًا لقواه الناعمة التي تحلق به حول العالم ومن أهمها الأزهر الشريف بماله من امتداد روحي وثقافي على مستوى العالم الإسلامي أجمع. إن أمثالَ تلك الدعوات تشبه من يدعو ساكنًا مقيمًا آمنًا لهجر قصره الحصين المنيف والاحتماء ببيت نسج من خيوط العنكبوت! وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.


(1) انظر مثلًا: والاس بدج، آلهة المصريين (ص321 وما بعدها)، ترجمة: محمد حسين يونس. طبعة مكتبة مدبولي ـ القاهرة ـ 1998م.

(2) جمال حمدان، شخصية مصر (ج4/ص643). طبعة مكتبة الأسرة ـ القاهرة ـ 2020م.

(3) المرجع السابق (ج4/ص418).

(4) انظر: د. مصطفى النشار، مدرسة الإسكندرية الفلسفية (ص114)، طبعة دار المعارف ـ القاهرة ـ 1995م.

(5) المرجع السابق (ص103).

(6) د. إسرائيل ولفنسون، موسى بن ميمون ـ حياته ومصنفاته ـ (ص26)، طبعة دار العلوم ـ القاهرة ـ 1936م.

(7) انظر: د. مراد هوفمان، الإسلام في الألفية الثالثة (ص68)، تعريب: عادل المعلم ـ يس إبراهيم، طبعة دار الشروق ـ القاهرة (بدون تاريخ).

(8) يعقوب نخلة روفيله، تاريخ الأمة القبطية (ص81)، مطبعة متروبول (الطبعة الثانية سنة 2000م).

(9) جمال حمدان، شخصية مصر (ج4/ص645). ـ مرجع سابق ـ.

(10) جمعها وشرحها سامح مقار في كتابٍ من ثلاثة أجزاء بعنوان: أصل الألفاظ العامية من اللغة المصرية القديمة.

(11) انظر: جمال حمدان، شخصية مصر (ج4/ص590) ـ مرجع سابق ـ.

(12) انظر: ياقوت الحموي، معجم البلدان (ج5/ص162). طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت (بدون تاريخ).

انتفاضة الأقصى وأسفار اليهود الدينيَّة

“إنَّ الحوادث هي أكبرُ مُعلِّم” .. فليس أمعن في الدلالة من حادث حقيقيّ، لا يعتمد على تخيُّل أو تصوُّر مُجرَّد. وإذا أردنا إثبات شيء فأوَّل وأقوى درجاته هي رؤيته بالعيان. فما الذي سيثبُتُ في ضميرنا ومعرفتنا إذا رأينا مشاهد من التي تجري الآن في فلسطين؛ من أحداث توالتْ عقب محاولات الاحتلال إجلاءَ سُكَّان حيّ الشيخ جرَّاح، وانتقال الهبَّة إلى كَنَف المسجد الأقصى نفسه؟

هذه الحالات الجُنونيَّة الهِستيريَّة الصُّهيونيَّة التي رأيناها في اليوم الثامن والعشرين من رمضان المُبارك عام 1442هـ، وما قبله؛ من تهجير أرض وأخذها أمام ناظر أهلها، وهؤلاء الشُّهداء الذين لقوا الله صائمين، وهؤلاء الجَرحى الذين وقفوا مُتصدِّينَ للاحتلال أمام مسجدهم، وغيرها من مشاهد الاقتياد والعُنف تفرض علينا النَّظر بتمعُّن، ثمَّ اكتشاف أصول هذا الجنون الصهيونيّ. فتعالوا ننظر إلى المَشاهد ونؤصِّلها من نفسيَّة الجماعة اليهوديَّة.

نظرة عن كَثَب

إذا رأيتَ ما يحدث الآن على أرض فلسطين من انتفاضة؛ فلا تنظر إلى العرب أو المُسلمين! بل انظر وتمعَّن في جانب الاحتلال الصهيونيّ؛ سواء في ذلك رعايا الاحتلال أو عناصر شرطة الاحتلال. انظر إلى تلك العيون الهادئة المطمئنَّة في حلقات الذِّكر الدِّينيّ اليهوديّ من الرَّعايا؛ هؤلاء الذين يرتدون قبعة اليهود، ويلتفُّون حول بعضهم في حِلَق، ويقف بجوارهم رجال لهم لِحى طويلة.

فرِحُون كأنَّهم أطفال في يوم عيد! فرحون لأنَّهم سيقتحمون مسجد المُسلمين الأقصى، فرحون لأنَّهم سيقتلعون أبوابه، فرحون لأنَّهم سيسمعون صرخات المُسلمين واستغاثاتهم، فرحون لأنَّهم -من وجهة نظرهم- سيطأُونَ ما يُقدِّسه المُسلمون بأقدامهم، وسيدخلون على تلك المحلات التي يعتبرها المُسلمون طهورًا يحنون هاماتهم فوقها، وسيرون المُسلمين عاجزين عن فعل أيّ شيء أمام أفعالهم.

شرطة الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنون يقتحمون باحات المسجد الأقصى المبارك صباح 23/05/2021

انظر إلى عزيمتهم وهُم يقفزون مُتجاورين، وهُم ينزعون أبواب المسجد الجانبيَّة بكُلِّ ما أُوتوا من طاقة. ثمَّ انظر إلى جُرأتهم وهم ينظرون إلى المُسلمين الذين يصورونهم بهواتفهم، وكأنَّهم يقولون: نعم، نحن الجُناة الفاعلون ونفتخر! ثمَّ انظر إلى قسوة ما يأتون من أفعال وتشنُّجات أجسادهم وهُم يؤدُّونها.

وانظر إلى هذا الجنون الأعمى الذي يدفع أحدهم لأنْ يقود سيَّارته ليُحطمها ويحوِّل بها مُسلمًا مُرابطًا أمام مسجده إلى أشلاءٍ دهسًا في صخرة! يا له من مشهد يستحقُّ التأمُّل! الصهيونيّ لمْ يعبأ بملكه وسيَّارته -رغم ما يُعرف عن اليهود من حرص عن الأموال-، ولمْ يعبأ ببقيَّة المُسلمين من حوله، لمْ يفكِّر في شيء إلا في “تحطيم” و”مَحو” هذا المُسلم من أمامه!

ثمَّ انقُل نظرك قليلاً إلى هذا الشُّرطيّ الذي يحميه.. انظر إليه إنْ استطعتَ تمييزه أصلاً من كثرة الدُّروع، والحاميات في الساق والكتفَيْنِ والرأس، والأسلحة التي يتسلَّح بها، والمتاريس التي يقف وراءها ليحتمي -فوق كلّ ما على جسده-! رغم أنَّه على حسب ادِّعائه على أرضه!.. انظر إليه وهو يقتاد شابة -أو قُل بالأحرى طفلة- بين ذراعيه يكاد يسحق عنقها؛ وهي عزلاء إلا مِن لباسٍ يستر جسدها، لا تهدِّد أمنًا له ولا سلامًا. وانظر إلى غضبه أمام الكاميرات الذي سرعان ما يتحوَّل إلى هلع وفرار من حجارة وعِصيٍّ يتقاذفها شباب الأرض وشيوخها عليه. انظر إلى إكماله العنف والتعنيف على مَن أسر واقتاد رغم أنَّه صار أسيره وفي حوزته!

إنَّ مثل هذه المظاهر -كـالتشنُّج والتسارع والهوجائيَّة- كلُّها مظاهر طبيعيَّة في حال الحرب، لا ينكرها نظر الإنسان حين يراها. وحال الحرب تكون قوَّتَيْنِ بينهما أقلّ درجة من درجات التكافُؤ؛ حتى يصلح أنْ تدخَل في تصنيف “الحرب”. لكنَّ ما نراه هنا ليس حربًا؛ بل اعتداء من جهة تمتلك كلَّ شيء تجاه أخرى لا تمتلك إلا أجسادها وحقها في الثبات على أرضها.

وبالقطع يرى الجميع أنَّ الفلسطينيّ الذي يقف صارخًا لا يمثِّل أيَّ تهديد على المُحتلّ؛ ويكفي أنْ نستدعي هذا المشهد الذي نجد فيه مُدرَّعات ومُجنزرات تحمل جنودًا تملك كافَّة أنواع الأسلحة، أمام رجال لمْ يجدوا ما يمسكونه في أيديهم فأمسكوا بألعاب ناريَّة!.. صاروخ يستخدمه الأطفال في الأعياد أمام رصاصات من كافَّة الأقيسة والأعيرة المتاحة!

دلالة ما رأينا، وبعض تفسيره

فما الذي تدلُّ عليه تلك المشاهد؟ لا تدلُّ مشاهد اليوم إلا على مزيدٍ مِمَّا أثبتَتْه مشاهد الأمس القريب والبعيد؛ تدلُّ على أنَّها حرب دين من جهةٍ تُجاه جهةٍ. جهة تعتقد في نفسها أنَّها شعب الله المُختار منه، وأنَّ سائر شعوب الأرض مُسخَّرة لها، وأنَّ هذه الشُّعوب هُم أغيار -أيْ غير يهود في مُصطلح شريعتهم- يستحقُّون أنْ يُجتثُّوا من الأرض، حتى إنْ بقوا عليها بقوا خَدَمًا لهذا الشِّعب المُختار، لا مُساوين لهم، بقوا من غير أرض ولا عرض؛ فالأغيار لا يستحقُّون التملُّك لهذه الأرض المُقدَّسة التي وعدهم الربُّ إيَّاها -وقت أنْ كان اليهود طائعين لله، ليس يهود اليوم-، بل لا يستحقُّون الوجود فوق “أرضه”.

رجاء جارودي

وسوف ندلِّل على ما يأتي به اليهود اليوم من أفعال بأحد أسفار كتابهم “التَّناخ” -الذي يُسمِّيه المسيحيون “العهد القديم-؛ هو “سِفر يَشُوع” لما له من خصوصيَّة قي مسألة تعامُل اليهود مع غيرهم. ولعلَّ هذا هو ما دفع “رجاء جارودي” أن يُخصِّص له فصلاً خاصًّا في كتابه الشهير “الأساطير المُؤسِّسة للسياسة الإسرائيليَّة”.

وسِفر “يَشُوع”، الإصحاح الأوَّل: “الرَّبُّ قال ليَشُوعَ بن نُون؛ خادمِ مُوسى: مُوسى عبدي قد مات. فالآنَ قُمْ اعبُر هذا الأُردُنَّ أنت وكلُّ هذا الشعب إلى الأرض التي أنا مُعطيها لبني إسرائيل. كُلُّ موضع تدوسُهُ بُطونُ أقدامكُم لكُم أعطيتُه كما كلَّمتُ موسى (يقصد في العهد). من البَرِّيَّة ولُبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفُرات، جميع أرض الحِثِّيِّيْنَ، وإلى البحر الكبير نحو مَغرب الشَّمس يكون تُخُمُكُم (حدودكم). لا يقف إنسانٌ في وجهك كلَّ أيام حياتك”.

وها هو ذا اليهوديُّ يستدعي أمر ربِّه في كتابه الحاليّ -وكأنَّه هو اليوم يهوديٌّ مُؤمنٌ مُسلِم الوجه إلى الله كما كان اليهوديّ الذي كلَّمه الله-، ويُشجِّعه على استدعائه هذا كلُّ صاحب منفعة في وجود اليهود على هذه الأرض، وفي نفي المُسلمين من هذه الأرض.

وعلى هذا؛ كيف ينظر هذا اليهوديّ المُختار من الله إلى هؤلاء العبيد وهُم يحتلُّون أرضه التي وعده الله؟! لا تتعجَّبْ فاليهود حقًّا يقولون هذا القول في كلِّ مَحفَل، ويعتبروننا مُغتصِبِين لأرضهم، ويُعلِّمون أولادهم هذه العقيدة .. بل كيف يهدأ وهو يرى مساحةً كبيرةً من الأرض لا يحتلُّها المُسلمون وحسب، بل يُسمِّيها المُسلمون مسجدًا، يحاربون عليه بأرواحهم؛ وكيف يُجاريه المُسلمون -وهو يرى نفسه (ابن الله)- وقد خلقهم الله ليكونوا خدمه وتحت قدمَيْه؟!

ولا يكتفي اليهوديّ باستدعاء عقيدة ترسمها له كُتُبُه، بل إنَّه يرى فينا نحن صورة تلك الأُمم التي أمره الله باقتلاعها من الأرض المُقدَّسة، وبما أنَّ اليهود يعتقدون أنَّهم الشعب المُختار؛ فكلُّ شعب دونهم هو شعب غير مُختار. غير أنَّ الذاكرة الشعبيَّة تقرأ الكتاب وتُلبس المُسلمين الموجودين الآن لباس “الكنعانيِّين” -وهُم قوم من العرب كانوا أهل فلسطين، وتجبَّروا على أمر الله. وجاء اليهود بأمر الله ليمتلكوها من أولئك القوم القُدامى. وهذا اللباس في الصورة هو العنصر المفقود فيها؛ حيث يُمثِّل نصف الصورة الأخرى، فاليهود الآن لا بُدَّ وهُم يحاربون أنْ يُحاربوا عدوًّا لله؛ هُم نحن!

فكيف يأتي إلى هذه الأرض مُحتلاً وعليها أهلها؟! يجب أنْ يُشيطنهم في ذاكرة رعاياه، ويلبسهم لباس الكُفَّار القدامى الذين أمر الرَّبُّ بقتلهم وطرد الباقي منهم. وهؤلاء الآخرون -نحن في هذه الحالة- كانوا يرهبون اليهود قديمًا، ففي السِّفر نفسه، الإصحاح الخامس: “وعندما سمع جميع مُلُوك الأَمُورِيِّين الذين في عَبْر الأُردُنّ غربًا، وجميع مُلُوك الكنعانيِّينَ الذين على البحر أنَّ الرَّبَّ قد يبَّسَ مياه الأُردُنِّ من أمام بني إسرائيل حتى عبرنا؛ ذابتْ قلوبُهم، ولمْ تبقَ فيهم رُوحٌ بعدُ مِن جرَّاء بني إسرائيل”.

وانتبه أنَّ اليهود العُصاة اليوم الذين كفروا بنبيّ الله “عيسى”، ثمَّ من بعده “محمَّد” -عليهما السلام- ليسوا هُم عباد الله المَوعودينَ؛ لذا تراهُم خائفين مَذعورين من أقلّ كرٍّ وفرٍّ مع أطفال بيدهم حجارة أو إطارات سيَّارة! فلمَّا بدَّلوا الإيمانَ كُفرًا أبدل الله حالَهم خوفًا وذُعرًا. فها هُم يبنون حصنًا ودروعًا مضادة للصواريخ، وقُبَبًا حديديَّة في السماء، ويُقيمون المتاريس في كلّ مكان على الأرض، ويتسلحون بكُلّ الأسلحة، ويتدرَّعون بدرع ثقافيّ هائلة -إعلام الغرب يكاد يكون كاملاً-؛ ثمَّ ما لهم يصيحون صيحة الموت من أقلَّ صوت يسمعونه، ثمَّ يكتشفون أنَّه صوت إطار سيَّارة أحدهم قد انفجر؟! أليسوا على أرض الله التي وعدهم إيَّاها؟! أمْ أنَّ وعد الله قد تبدَّل بتبديل الحال؟!

ثمَّ ها هو اليهوديّ اليوم يستدعي ما فعله يهود أمس مع أهل هذه الأرض. وهذه بعض اقتباسات من السِّفر نفسِه في إصحاحه العاشر تُريْكُم كيف كان الأمر: “وحارَبَ لِبْنَةَ … فضربها بحدّ السيف، وكلَّ نفس بها. لمْ يُبْقِ شاردًا … ثمَّ اجتاز يشوع وكلُّ إسرائيل معه من لِبْنة إلى لَخِيشَ، ونزل عليها وحارَبَها … وضربها بحدّ السيف وكلَّ نفس بها حسب كلِّ ما فعله بلبنة … ثمَّ اجتاز يشوع وكلُّ إسرائيل معه من لَخِيشَ إلى عَجلُون فنزلوا عليها وحاربوها. وأخذوها في ذلك اليوم وضربوها بحدّ السيف، وحرَّمَ كلَّ نفس بها …”. وهكذا يرى اليهوديّ اليومَ ما يأمره كتابه -الحاليّ هو الآخر- به في تعامُله مع أهل المنطقة؛ من أنْ يُبيد كلَّ نفس فيها ولا يُبالي.

ولعلَّ هذا يفسِّر لك هذه الجُرأة النَّفسيَّة البالغة التي يمتلكها هؤلاء لقتل وسفك دماء العُزَّل غير المُحاربين. فإنَّ قتل النِّفس -بالحقّ أو بغير الحقّ- في الأصل فعل ذو رهبة بالغة على النفس البشريَّة، وتجاوُز تلك العقبة الهائلة لا بُدَّ له من مُحفِّز قويّ، يستطيع أنْ يُحيل هذا الفعل إلى أمر هيِّنٍ على النفس. وهنا أنوِّه إلى أنَّ كسر هذا الحدّ النفسيّ يُساعد النفس على قبول القتل؛ فمتى اعتاد الإنسان على القتل استَمرَأَه. فإذا أكلمنا لنشهد بقيَّة فعل بني إسرائيل بأهل البلاد فُوجِئْنا بفعلٍ صُوِّرَ كثيرًا من جُنُود الاحتلال؛ وهو دهس الرقاب والرؤوس بالأقدام.

يقول السِّفر في إصحاحه العاشر: “ولمَّا انتهى يشوع وبنو إسرائيل من ضربهم ضربةً عظيمةً جدًّا حتى فنوا … قال يشوع: افتحوا فم المَغارة، وأخرجوا إليَّ هؤلاء الخمسة المُلُوك من المغارة. ففعلوا كذلك؛ وأخرجوا إليه المُلُوك الخمسة من المغارة: مَلِك أورشليم، ومَلِك حَبْرُونَ، ومَلِك يَرْمُوتَ، ومَلِك لَخِيشَ، ومَلِك عَجْلُونَ. وكان لمَّا أخرجوا أولئك المُلُوك إلى يشوع؛ أنَّ يشوع دعا كلَّ رجال إسرائيل. وقال لقُوَّاد رجال الحرب الذين ساروا معه: تقدَّموا وضعُوا أرجُلَكم على أعناق هؤلاء المُلُوك. فتقدَّموا ووضعوا أرجُلهم على أعناقهم. فقال لهم يشوع: لا تخافوا، ولا ترتعبوا. تشدَّدوا وتشجَّعوا؛ لأنَّه هكذا يفعل الرَّبُّ بجميع أعدائكم الذين تحاربونهم. وضرَبَهُم يشوعُ بعد ذلك وقتَلَهم وعلَّقهم على خمس خَشَب، وبقوا مُعلَّقين على الخشب حتى المساء”.

فها هو يهوديّ اليوم يطابق فعل مَن قرأ عنهم، وها نحن نشهد كلَّ ما هو مكتوب في الكتاب الحاليّ معهم حاضرًا بين يدَيْنا. وإذا هالَك فعلُهُم بإخراج أهل القُرى منها، فها نحن نقرأ في الإصحاح الرابع العشرين، من السِّفر نفسه: “ثمَّ عبرتُم الأُردُنَّ، وأتيتُم إلى أريحا. فحارَبَكُم أصحاب أريحا: الأَمُورِيُّون… والكنعانيُّون… واليبوسيُّون، فدفعتُهم بيدكُم… وأعطيتُكم أرضًا لمْ تتعبوا عليها، ومُدُنًا لمْ تبنوها، وتسكنون فيها. ومن كُرُومٍ وزيتون لمْ تغرسوها تأكلون”.

وفي موضع آخر من الإصحاح الثالث والعشرين يقول: “قد قسَّمتُ لكُم بالقُرعة هؤلاء الشُّعوب الباقين مُلكًا حسب أسباطِكم … والرَّبُّ إلهُكم هو ينفيهم من أمامكم ويطرُدُهم من قُدَّامكُم؛ فتملكون أرضهم كما كلَّمَكم الرَّبُّ إلهُكم”.

ولعلَّ ما أتى سابقًا يُفسِّر لنا الكثير من أفعال اليهود وجرائمهم. ومن هُنا نرى أنَّ جُزءًا كبيرًا من تحرُّكنا يبدأ من الوعي الحقيقيّ الذي نقف عليه، من خلال معرفة الآخر ودراسته. ولا تريد هذه السُّطور أنْ تُعرِّفك هذه الكلمات لتهدأ، بل لتتحرَّك حركةً واعيةً مُتَّزنةً تعرف فيها مَن أمامك، وما دوافعه؛ لتدرك كيف تقاومه وتنصر عليه. وأنوِّه إلى أنَّ التفسير الدينيّ ليس كلَّ مناحي التفسير لهذه الظاهرة الاستعماريَّة التي نُعانيها منذ عقود شارفتْ على الثمانية، بل هي وجه واحد -وإنْ كان الوجه الأكبر في عمليَّة التحفيز الصُّهيونيّ- وهناك الكثير من المناحي الأخرى التي قد يأتي وقت إلقاء الضوء عليها.

حيّ الشيخ جرّاح بداية محنة جديدة

إنّ من أغرب القصص التّي قد تسمعها في واقعنا المُعاصر أن يأتي أُناس غرباء إلى حيّنا السّكني،الذّي نقطنه منذ سنوات والذّي بنينا منازله بأيدينا والذّي نملك الوثائق التّي تُثبت حقّ ملكيّتنا ووُجودنا فيه، فيقتسمون مساكننا معهم قسرًا، ويُطالبوننا بإخلائها مع ادّعائهم بأنّ هذه المساكن تعود لأجدادهم كذبًا وزُورًا، ومن ثمّ يخرجون بعضنا من مساكنهم، وفي المُقابل يُصبح هؤلاء الغرباء أصحاب هذه المنازل مع عائلاتهم، ولا تنتهي القصّة هنا بل يسخّرون قوّاتهم الأمنيّة والعسكريّة من أجل قمعنا والاعتداء علينا إذا ما قُمنا بالدّفاع عن حيّنا ورفضنا الامتثال لهم.

ما هذه القصّة في عصر التغنّي بقيم الحريّة والعدالة والدّيمقراطيّة إلاّ وصفٌ مختصَر لما يحدث في حيّ الشيخ جرّاح في فلسطين المُحتلّة!

ولا تنتهي القصّة هنا، بل من غرابتها أن يُحاول هؤلاء الغرباء الذّين استوطنوا بالقوة والقهر في أحياء أخرى من مدينة القدس من الاحتفال بذكرى احتلالهم لفلسطين ومنع المُصلّين في شهر رمضان من دخول المسجد الأقصى الذي سيكون مكان احتفالهم بجُرمهم وظُلمهم، ويصلُ بهم الأمر بأن يقمعوا أصحاب الأرض إذا رفضوا هذا الأمر، ويصفونهم بالمُمُتمرّدين والخارجين عن القانون!

من هُنا تنقلب المفاهيم ويُصبح المُحتلّ صاحب الأرض الذي يُصبح غريبًا عن وطنه، ومصدر تهديدٍ للأمن والاستقرار في المنطقة، وكلّ ذلك أمام أنظار العالم الذي يدّعي التحضّر واحترام حقوق الإنسان وكرامته!

وما هذه القصّة الغريبة والمؤلمة إلاّ جزء من المُعاناة اليوميّة التّي يعيشها شعب كاملٌ بتعرّضه للقتل والتّشريد والظّلم والقهر، ورغم ذلك ما يزال يُقاتل ويُجاهد ويُرابط انتصارًا لحقّه، ودفاعًا عن كرامةّ الأمّة الإسلاميّة التّى أصابها مرض الوهن والضعف والعجز والجمود.

صورة أيقونية تعبر عن حيّ الشيخ الجرّاح

الشيخ جرّاح

كانت البداية يوم 4 يوليو سنة 1187 بعد انتصار جيش المسلمين بقيادة القائد صلاح الدّين الأيّوبي في معركة حطّين، ومن بين الأمراء الذّين شاركوا مع القائد صلاح الدّين في جهاده الأمير حسام الدّين بن شرف الدّين عيسى الجرّاحي، والذّي عاش بجانب المسجد الأقصى في القدس بعد فتحها لمدّة 15 سنة، وكان يُعرف باسم الشيخ جرّاح، وبعد وفاته عام 598ه قام الأهالي ببناء زاوية خاصة به ومن ثمّ مسجدًا يحمل اسمه الموجود إلى اليوم في المنطقة الشماليّة من القدس وأصبح يُطلق على المنطقة السكنيّة المحيطة بالمسجد بحيّ الشّيخ جرّاح.

ولنا هنا وقفة أولى مع فتح القائد صلاح الدين لفلسطين التي كانت تحت قبضة الصليبيّين فلم يتمّ استرداد بيت المقدس إلاّ بالجهاد الصّادق في سبيل الله، ولم يصل صلاح الدّين لهذه النّتيجة إلاّ عن طريق مراحل وجب الأخذ بها، أولها رسوخ العقيدة وقوّة الإيمان فلا يُمكن اليوم من إقامة الجهاد في سبيل الله وتحرير الأقصى في حالة ضعف الدّين في النّفوس وترك تعاليمه وهجر العمل بشريعته، وكلّما ازداد التعلّق بالدّين والأخذ به ازدادت رغبة الأمّة بنصرة الحقّ وبذل المال والنّفس من أجل تحرير المُقدّسات والدّفاع عنها، فنحن بحاجة أوّلاً إلى تحرير نفوسنا من سطوة الجهل والجبن والاستبداد السّاعي لطمس معالم الهويّة الإسلاميّة، والتّطبيع مع الكيان الصّهيوني، وبالعودة للإسلام ومنهجه سنكون قادرين على استرداد بيت المقدس، ومن الغريب أن يحاول البعض منّا عزل القضيّة الفلسطينيّة عن الدّين وربطها فقط بالحقوق الإنسانيّة وتهوينها في النّفوس، بينما في المُقابل يُقيم الصّهاينة دولتهم على أساس عقيدة دّينيّة، وربطها بالهيكل المُزمع إقامته، وربط بيت المقدس بالطّقوس التعبّديّة لليهود، وغرس هذه المفاهيم في أبنائهم وجعل ما يقومون به في فلسطين هو من صلب عقيدتهم ودينهم، فحقيقة الصرّاع قائمة على أساس العقيدة، ولن ننتصر عليهم إلاّ إذا عُدنا إلى حقيقة الإيمان قولاً وعملاً.

ثاني هذه المراحل كان بالتّركيز على محور التّحرير وجعله من الأهداف الكُبرى ومن مسؤوليّات كلّ فرد مُسلم حيث كان القائد صلاح الدّين يقول: “كيف يطيب لي الفرح والطعام ولذة المنام وبيت المقدس بأيدي الصليبيين؟!!”(1) ونحن نقول: كيف لنا أن نحرّر الأقصى من الصّهاينة إن لم يكن دائم الحضور في نفوسنا ووعينا؟! وكيف لنا أن نُحرّر الأقصى إذا كنّا نجهل بتاريخه؟!

إن من أكبر المخاطر أن يتمّ تزييف الحقائق وعرضها بطريقة مُشوّهة للنّاشئة، وهذا ما يحصل في الدول التي أعلنت التّطبيع مع دولة الاحتلال، حيث أعلِن عن إدراج التّاريخ الصّهيوني في المناهج الدّراسيّة، ومن المعلوم أنّه سيتمّ تحريف التّاريخ وطمس حقيقة الصّراع القائم وإظهار الصّهاينة على أنّهم فئة مظلومة ومُضطهدة، وسينتج عن ذلك ولادة عدد كبير من الجيل القادم لا يُبالي بما يحصل في فلسطين، ولن يكون هدفه تحرير الأقصى، لأنّه تشبّع بادعاءات أنّ للصّهاينة حقّ في فلسطين، وأن ما يحدث فيها شأن داخلي أو حملات بين متطرفين ضد دولة ديمقراطية، وليس مقاومة للاحتلال!

وثالث هذه المراحل العمل على توحيد البلدان الإسلاميّة ونبذ الخلافات الثانويّة والتّركيز على النّهوض والصّناعة والعمل المُشترك لتُصبح قوّة عالميّة جديدة تُحقّق العدل وتُقيم الحقّ في العالم، وهذا مافعله صلاح الدّين عند تولّيه السّلطة في مصر، فالأمّة المُتناحرة لن تستطيع الدّفاع عن نفسها وسيسعى الجميع من أجل السّيطرة عليها، والأمّة المُستهلكة القانعة بالتبعيّة الاقتصاديّة والعلميّة والصّناعيّة لن يحترمها أحد، بل تجعل نفسها رهينة لأعدائها يتحكّمون في قراراتها ومصيرها، وخير دليل على ذلك ما صرّح به رئيس وزراء ماليزيا السّابق مهاتير مُحمّد في لقاء صُحفيّ أجراه سنة 2020 بعد استقالته من منصبه، حيث يقول إنّ الطّائرات الحربيّة التّي تشتريها ماليزيا والدّول المُسلمة من الولايات المُتّحدة الأمريكيّة ليس بإمكانهم استخدامها وتحميلها بالصّواريخ من أجل استهداف مواقع مُعيّنة إلاّ بعد مُوافقة الحكومة الأمريكيّة، لأنّه عند الشّراء تبقي الولايات المُتّحدة مُحتفظة بالبرمجة الخاصّة لهذه الطّائرات وتُباع مُشفّرة ولا يُمكن لأحد فكّ هذه الشّفرة إلاّ عن طريق الحكومة الأمريكيّة، فمن الواضح هنا أنّه عندما تُقرّر دولة مثل ماليزيا أو أي دولة مُسلمة أخرى شنّ حرب أو استهداف مواقع معينة بهدف الدّفاع عن الأمّة المُسلمة ومُقدّساتها، فإنّها يجب أن تأخذ مُوافقة الحكومة الأمريكيّة التّي لن تمنح البرمجة لدولة مُسلمة تُريد الانتصار لدينها، ولن تمنح البرمجة لدولة مُسلمة تريد استهداف مواقع لا تخدم مصلحة الولايات المُتّحدة الأمريكيّة أو قد تضرّ بصفة مُباشرة أو غير مُباشرة بمصالحها، فكيف لنا أن نتحدّث بعد ذلك عن تحرير الأقصى و كيف لنا بعد ذلك أن نقوم بحماية ديننا و الأقليّات المُسلمة المُضطهدة في مُختلف بقاع العالم، والوقوف في وجه الظّلمة والمُعتدين إن كنّا لا نملِك قرار استخدام الأسلحة التي نشتريها بأيدينا؟

لقد فهمت المقاومة الفلسطينيّة هذا الدرس، وهي اليوم تعمل ليل نهار لصناعة أسلحتها بيدها والتحرّر من كلّ تبعيّة، وإن لم تفعل ذلك فلن يُغيثها أحد وستحكم على نفسها بالإعدام وستضيع فلسطين للأبد.

ولنعد الآن للحديث عن حيّ الشيخ جرّاح حيث لعب أهاليه دورًا كبيرًا في مُقاومة الاحتلال الصّهيوني ومنعه من السيطرة التّامة على بيت المقدس سنة 1948 وكما تمّ إجلاء إليه-تحت الوصاية الأردنية- ما يقارب 28 عائلة قام الاحتلال بترحيلهم من مساكنهم في أماكن مختلفة من فلسطين أيّام النّكبة وتوطين اليهود مكانهم. وأخذت هذه العائلات سندًا قانونيًّا من الحكومة الأردنيّة لامتلاكها الأراضي في حيّ الشيخ جرّاح وقامت مُنظّمة الأونروا من دعمهم في بناء مساكن لهم في هذه الأراضي. وبعد أن تمكّن الاحتلال من بسط نفوذه على الضفّة الغربيّة طالب الصّهاينة بهذه الأراضي مُدّعين أنّها ملك لأجدادهم وتحوّلت القضّية إلى المحاكم الصّهيونيّة الظّالمة التّي لن تقف إلاّ مع اليهود الذّين لا يملكون سندًا قانونيًّا واحدًا يُثبت انتماءهم لهذا المكان.

إن العبرة هنا أنّ على صاحب الحقّ ألّا يثق إلا بمن يؤمن بقضيّته ويُناصره وعليه الانتصار لحقّه ولا ينتظر من ينوبه في ذلك، ومن المواقف المُخزية لدولنا العربيّة أن تنتظر من الغرب والمنظّمات الدّوليّة الذّين باعوا فلسطين للصّهاينة بأن يُوقفوا العدوان والاحتلال!

ما هو دورنا؟

يقول رئيس دولة الاحتلال الحالي بنيامين نتنياهو في تدوينة سابقة له على تويتر:” أكبر عقبة أمام توسيع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا بل هي الرأي العام في الشارع العربي الذي تعرض على مدار سنوات طويلة لدعاية عرضت إسرائيل بشكل خاطئ ومنحاز”.

إن أهم ما نملكه اليوم هو إثارة الرّأي العام وجره لصالحنا؛ فغالب حكوماتنا المُسلمة إمّا مُطبّعة علنًا أو في الخفاء مع الاحتلال الصّهيوني من خلال إقامة علاقات اقتصاديّة ودبلوماسيّة معهم، وإما تختار الحياد الكذب إرضاءً للقوى العالميّة، وقد تناسَوا جميعًا أنّ التّطبيع جريمة وخيانة لله ولرسوله بصريح نصّ القرآن حيث يقول لنا الله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].

والحقيقة التي يجب أنْ تُقال أيضًا: إنّ كلّ من يوافق على هذا التطبيع ولا ينكره -ولو بالقول- ويحاول إعطاءه شرعيّة دينية كاذبة لتضليل الرأي العام، فهو ظالم وخائن مشارك للكيان الصهيوني في جرائمه، فكل من يركن للتطبيع يصدق عليه قول الله فيه {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [هود:113].

فالرّكون لبني صهيون والتقرّب إليهم ومحاولة نيل مودّتهم رُكونٌ للظَلَمة، وانحراف عن مفهوم العدل والحقّ، وهو انخلاع عن المبادئ الإسلامية، وليس من العجب أن تكون عاقبة كلّ دولة أو نظام حاكم رَكَن للظالمين الذلّ والهزيمة والهوان، فهذا قانون ربّاني لا يتخلّف ولا يتغيّر، وستبقى خيانتهم وصمة عار تُلاحقهم حتّى يرث الله الأرض ومن عليها..

إنه من المخزي أيضًا أن نرى دعاة وعُلماء يلتزمون بالصّمت إزاء ما يحدث في القدس من عنف واعتداء، وإزاء القصف العنيف الذّي يتعرّض له أهل غزّة، ولعل ما هو أكثر خزيًا مباركة إجرام الصّهاينة إرضاء لطغاةِ التطبيع، ومُحاولة لتنويم الشّعوب وتمييع القضيّة في نفوسهم، فيا حسرةً على من أورد نفسه المهالك!

أهمية الرأي العام

إن العقبة الوحيدة في وجه الصّهاينة اليوم هي الرأي العام لدى الشّعوب المُسلمة بأن تكون الأغلبيّة مُتمسّكة بالقضيّة الفلسطينيّة وداعمة لها ولأهلها، وأن تستغلّ كلّ الوسائل المُتاحة لإيضاح موقفها هذا.

إن قدرة الشعوب على صناعة الرأي الشّعوب ستجبر حكوماتها المتخاذلة عن نصرة المظلومين والأقصى على الخروج من صمتها أو تدفع الناس للانتفاض عليها ودفعها لأخذ المُبادرة العمليّة في الدّفاع عن الأقصى، ومن ثمّ فإنه من واجب كلّ فرد مسلم أن يكون له دور في تجييش رأي عامّ قويّ، يأمر بالمعروف وينهى به عن المنكر، لا يسكت عن المظلمة أو التجاوزات التي تقع في حقّ أمّته؛ وذلك عملًا بقوله صلّى الله عليه و سلّم: “الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ” [أخرجه أحمد في المسنَد والترمذي في السنن].

ابدأ أخي المسلم أوّلاً بنشر الوعي بين النّاس وتثقيفهم بالقضيّة الفلسطينيّة وأبعادها، واحرص على توريثها لأبنائك وللأجيال القادمة، إذ إن من أهم واجبات الوقت أن تغرَس في عقول النشء الجديد –جيلا بعد جيل- أن فلسطين قضيّة كلّ مسلم، وأن ذلك نابع من عقيدتنا الإسلامية أولا.

كما أن علينا أيضًا مقاطعة كلّ الشّخصيّات والمنابر الإعلاميّة التي تدعو للتطبيع مع المحتلّ ولا ترى ضررًا فيما يفعله الصّهاينة، وعلينا كذلك فضح كلّ سياسة أو حكومة تتّخذ موقفًا سلبيًّا ممّا يحصل في فلسطين، ومُطالبتهم بتغيير منهجهم أو تغييرهم، فالحراك الشّعبي الواعي قادر على تغيير مجرى التّاريخ ودفع أصحاب القرار على اتّباع الحقّ.


الإحالات:

(1): من مقال بعنوان صلاح الدّين الأيّوبي، عن موقع قصة الإسلام بإشراف الدّكتور راغب السرجانى، تاريخ النّشر 13 ديسمبر 2010.

 

لا خوف ولا حزن

كثيراً ما تشدّني ثنائية الخوف والحزن الواردة خاصةً في آيات المواساة القرآنية وآيات التبشير بالنعيم والفضل، إلى الوقوف للتفكير في جوهر هذين الشعورين ومدى امتدادهما في أرض النفس الإنسانية، ولملاحظة أنهما بشكلٍ ما مصطلحان شاملان للكثير من التفاصيل الشعورية الأخرى، تلك التي ستتلاشى بمجرد غياب كليهما.

الحزن والخوف؛ صراع الماضي والمستقبل

إن تأملنا في اتجاه نظر الإنسان حال شقائه نجده مكبّلاً ينظرُ إلى اتجاهَين متعاكسين، أو طريقين متقابلَين، مشغولاً بأحدهما أو كليهما عن موقعه الحالي وموضع قدمه في لحظته تلك.

إنه صراع الماضي أو المستقبل، أو كليهما وهو الأصعب والأكثر تعباً؛ إذ إنَّ أحدنا في هذه الدنيا إمّا موثَقٌ بتجربةٍ أو ذكرى أو حادثةٍ مَضَت يجاهد نفسه على تجاوزها، أو مشغولٌ بآتٍ مجهول، يريده كما يتمنى، أو يرجو أن يخلو ذلكَ الآتي من أمرٍ يخشاه أو يكرهه.

وإذا ما أردنا ترجمةَ هذا الصراع والاشتغال بالماضي أو المستقبل شعوريّا،ً لكانت الترجمة الأنسب والأصدق والأبلغ هي تلك التي استخدمها ربُّ العباد الأدرى بأحوال القلوب؛ إنه الشقاء بين “الحزن والخوف”، الشعوران اللّذان يصفانِ حال الإنسان هذا بدقّة كبيرة.

الحزن تحت العدسة المكبّرة

لا بأس بأن نسلك طريق الحزن في هذا المقالِ لبعض الوقت، محاولين فهمَ معالمه وتضاريسه حتّى نتذكّرها جيّداً إن رأيناها في لحظةٍ قادمة فندرك أنّنا هنا، في درب الحزن وعالمه. درجتُ مع السالكين في كتابِ ابن قيم الجوزيّة ووجدتُ فيه لطائف وتفسيراتٍ عميقة لمفهوم الحزن حين تطرّق له كمنزلةٍ من منازل (إياك نعبد وإياك نستعين).

لقد علّق في بداية الفصل بجملةٍ لخّصَت منزلة الحزن ببراعة “وليست من المنازل المطلوبة، ولا المأمور بنزولها، وإن كان لابدّ للساك من نزولها ولم يأتِ “الحزن” إلّا منهيّاً عنه أو منفيّاً” [1] وأظنّنا ميّزنا مواطن النهي والنفي حين ذكرنا الآيات التي ذكر فيها ربّ العزة هذا الشعور، لقد نُهِيَ عنه في آيات المواساة الحانية، ونُفِيَ تواجده عند الحديث عن النعيم وفضله تعالى على عباده المؤمنين.

أمّا عن كونه ليس مطلوباً ولا مقصوداً فذاكَ لما فيه من الضعف، وتشجيع الشيطانِ عليه ليقطع سير الإنسان إلى الله، ونستشهد على ذلك بدعائه ﷺ: (اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الهمّ والحزن) [أخرجه البخاري]، وإنَّ الإنسان ليعتريه ذلك في حزنه على أمرين، فكما قيل “الحزن: توجّعٌ لفائت، وتأسّف على ممتنع” فنجدنا نحزن إمّا على شيء رزقناه ثمّ فقدناه بأمر الله وحكمته فنبقى في حسرةٍ على ذلك الفوات، أو حزينين على امتناع رزقٍ معيّن منعنا الله إيّاه وله الأمر من قبلُ ومن بعد،هو المعطي المانع، لنبقى في تأسّفٍ على ذلك المنع مغفّلين عن اغتنام رزق اللحظة التي نملك.

وأمّا قوله: وإن كان لا بدّ للسائل من نزولها، فذاكَ لأن الابتلاء هو دأب هذه الحياة الدنيا، التي تستقيم حيناً وتعوجّ أحياناً. ويظهر هذا في حديث أهل الجنّة حين يحمدون الله قائلين: {..الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} ]فاطر:34[ ويستدلّ بهذا على مرورهم بشتّى أنواع الحزن والابتلاء وأشكاله، ولكنّه حزنٌ بلّغَهم الجنّة بصبرهم عليه، ولجوئهم إلى الله طلباً للسلوان والقوّة والأجر، لا سلوك طريقٍ خاسرٍ بالجزع والاعتراض والنكوص والعياذ بالله.

الخوف تحت العدسة المكبّرة

في الجهة الأخرى، في طريقٍ إلى المستقبل، وقربٍ أكثر إلى معانيه وأسباره، نجده أنَّ الخوف حين ورد وحده في السياق القرآنيّ ورد بصيغة الأمر والحثّ عليه، ولكن شرطَ أن يكونَ في الحديث عن جنابِ الله، لذلك نجد أنَّ أكثر الآيات التي كانت تصف المؤمنين كانت تذكر خوفهم من الله جلَّ وعلا وخشيتهم منه {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} ]المؤمنون: 57[ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}] المؤمنون:60[ إنّه الخوف الذي يعتري الإنسان عند فهم مقام الله وعظمته، وإدراك عذابه لمن يعصيه فتجده يكثر من الطاعات والقربات طمعاً في قرب الله وعفوه، ومن ألطف ما قرأت في هذا الصدد ما قيل: “كلُّ ما تخافه تهرب منه، إلّا الله حين تخافه تهرب إليه”.

ومن المواضع التي أستحضر نهي الله فيها عن الخوف أو ذكره منفيّاً، نهيه تعالى عن الخوف من الناس وخشيه الله تعالى وحده فهو الذي بيده زمام أمر الإنسان والناس الذين يخافهم {..فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ..} ]المائدة:44[ {..وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ..} ]المائدة:54[، فلا يخاف الإنسان رزقاً بيد إنسانٍ آخر، ولا يخاف بطشاً، ولا أذىً، بل حسبه الله فينطق بالحقِّ قويّاً صادحاً دون وجل.

القرآن والذي يحتوي ثنائية الحزن والخوف في آيات المواساة القرآنية وآيات التبشير بالنعيم والفضل

وأستحضر موضعاً آخر فيه لطيفةٌ جميلة {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} ]الإسراء:31[ حيث كان النهي هنا ليست عن الخوف من المجهول فحسب، بل من الوساوس التي نتخيّلها قادمةً من المجهول، والتوقعات التشاؤميّة، والقياساتُ والتنبّؤات، إذ إنها كلها من الخوف المنهيّ عنه، وهي من الأمور التي ينبغي تحويل الخوف منها إلى ثقةٍ بالله عزّ وجلّ.

في هذا السياق يتجلّى التوكّل مهيباً منقذاً للمشهد، التوكّل الذي نستطيع وصفه هنا بأنه تجاوز الخوف إلى الاطمئنان، وتجاوز القلق إلى الرضا حين يؤمن الإنسان بأنّ له ملكاً جليلاً في عليائه إليه يصرف الأمر كله، هو حسبه وكافيه ونعم الوكيل.

وحين نعود إلى وصف أهل الجنة (لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون)، لأنّ المَخوفَ ذهب، فقد نجّاهم الله من العذاب وأسبغ عليهم رضاه، ولا حزنَ لأنّ كلَّ الأسى كان حلُّه الجنة، وتحقّقه الجنة فلا تحرمنا اللهمّ أمنها ونعيمها، اجعلنا اللهمّ من أهلها، ممّن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.


الهوامش

[1] مدارج السالكين، ابن القيم الجوزي، المجلد الأول، ص505 ، دار الكتاب العربي -1972

بين “في كل رطبة أجر” وبين “أنقذوا رالف”.. إلى أين تمضي البشرية؟

هزّ كثيراً من رواد وسائل التواصل الاجتماعي الفيلم الوثائقي القصير “أنقذوا رالف” الذي يستهدف إيقاظ الناس ولفت انتباههم لمعاناة الحيوانات التي يتم اختبار مستحضرات التجميل وغيرها من المواد الكيماوية على أجسادها وأعضائها، وما يتسبب به ذلك لها من آلام وإعاقات وتشوهات لا حاجة لها ولا فائدة منها في كثيرٍ الأحيان.

وبينما كثيرٌ من دول العالم اليوم تعاني الحروب والفقر والمجاعات، ولا يجد عددٌ كبيرٌ من البشر كفايتهم لعيشٍ كريم؛ يكاد يبدو غريباً أن نتحدث عن معاناة بعض الحيوانات، إلا أن حجم الإشكال ومساهمة معظم الناس فيه بغير علمٍ يدعونا كمسلمين لأن نتوقف ونتأمل ونسأل؛ كيف صارت الحيوانات جزءاً من ضحايا الشركات العملاقة؟ ما الذي يقوله ذلك عن إنسانية الحضارة الغربية وأخلاقيات الرأسماليات والفكر الذي بنيت عليه؟ وكيف يمكننا كمستهلكين مسلمين أن نبرأ من المشاركة بهذا النوع من الإجرام المجنون؟

صورة من فيلم "أنقذوا رالف"

من فيلم “أنقذوا رالف”
https://www.youtube.com/watch?v=oBZhGBAQoOI

قصة الدراسات الحيوانية.

من إطعام “منظفات” للأرانب، إلى إلقاء الفئران في الماء لتحاول السباحة حتى تستسلم وتغرق، وحتى إدخال مكونات من ملمّعات الزجاج أو الكحل في عيون الهامستر الصغيرة[1]، وغيرها من الممارسات التي يؤلم تخيلها أو توقع حدوثها في أي مكان في العالم ناهيك عن المختبرات؛ لا تكاد أي من الصناعات الكيماوية التي تمتلئ البيوت بمنتجاتها تخلو من التجارب الحيوانية المرعبة التي تتم دون أي مسكنات للآلام، وتتسبّب بتعذيب وقتل 26 مليون حيوان سنوياً في أمريكا وحدها في سبيل كماليات عاش البشر دونها آلاف السنين، ويمكنهم لولا شره الاستهلاك والربح وإدمان التنعم أن يستمروا بالعيش دون ما تؤدي إليه من إيذاءٍ وتلويث للهواء وإفساد للبيئة دون رقابة أو محاسبة.

وقد بدأ النوع الأول منها في الحرب العالمية الأولى عندما تم فحص الجرعة القاتلة من السم (LD50) على الجرذان والفئران، ورغم مرور عقود على دراسة هذا السم واستمرار المحاولات فيها، إلا أن أثره على البشر لم يتضح ولم يثبت بعد، بل إن تطبيق كل ما تظهره دراساته على البشر لا يعدو 65% في الدقة.[2]

هذا النوع من التجارب صار يعرف بتجارب “السُّمّيّة الحادة” لأنه يحاول معرفة خطر مادة كيميائية أو عنصر واحد منها عبر تعريض الحيوان لجرع عالية جداً منها إما بالإطعام الإجباري، الاستنشاق الإجباري، أو بتعريض مساحات من الجلد أو العين لها. وغالباً ما تنتهي هذه التجارب بمعاناة الحيوان من نتائج حادة سواء في الجهاز الهضمي، التقلصات العضلية، الشلل، نوبات الصرع، أو النزيف من الأنف أو الفم أو الأعضاء التناسلية إلى أن يموت أو يقتَل[3].

أما النوع الثاني منها فهو المعروف بفحص تخرّش وتهيج الجلد والعين الذي يعود لعام 1940، وفيه يتم إدخال المركب المدروس في عين الأرانب أو مسحه على جلدها المحلوق لمعرفة الضرر الذي قد يتسبب به، والذي عادةً يتضمن الحروق، الالتهابات الجلدية، النزف، ضبابية البصر، أو العمى، وذلك على أوقات متفرقة لمدة تصل إلى أسبوعين دون مسكنات[4].

About Animal Testing – Humane Society International

وتظهر الدراسات أن نتائج تلك التجارب تتنوّع ولا ترقى بالمصداقية لأن تطبّق على البشر أو تتوقع تفاعلات أعضائهم لأن عيون الأرانب مختلفة تشريحياً عن عيوننا، كما أن جلد الأرانب أكثر نفوذية من ذاك الذي لدينا، مما يجعل تلك الدراسات غير مجدية بصورة عامة. على سبيل المثال أظهرت دراسة مقارنة بيانات بين دراسات 65 مادة كيميائية والتعرض لها بين الأرانب والبشر أن 45% من تصنيفات المواد الكيميائية بناءً على فحص تخرش وتهيج الجلد والعين كانت غير دقيقة.[5]

وهناك أنواعٌ أخرى من تلك الدراسات تشابه سابقتها بالوحشية وتعذيب الحيوان، وتتضمن فحص حساسية الجلد الذي يُجرى على الخنازير الغينية بتركيزات متزايدة تدريجياً من المواد، كفحص الخلايا السرطانية الذي يجري على الفئران والجرذان على مر سنوات، وفحص سمية الإنجاب والنمو الذي يبحث عن آثار المواد على الخصوبة والصحة الإنجابية على أجيالٍ من حيوانات مختلفة كالكلاب والقرود.[6]

لماذا؟!

رغم أن جزءاً من الحيوانات المخبرية تُستخدم في الدراسات الصحية واختبارات الادوية المفيدة والضرورية لتقدم العلوم الصحية اليوم، إلا أن نسبة كبيرة منها تُقتل وتُعذَّب في سبيل إنتاج مواد استهلاكية كمالية لا تتوقف عندها حياة أو صحة الناس، ومن ذلك المستحضرات التجميلية المصنّعة من تركيبات كيميائية معقدة، ومواد التنظيف ومكوناتها، والمحسنات الغذائية أو المواد الحافظة، وغيرها مما تدخل المواد الكيميائية المصنعة في تركيبه، ومع زيادة استهلاك تلك المواد والطلب عليها وارتفاع سقف المتوقع منها، فإن عدد تلك التجارب يزيد سنوياً ليشبع متطلبات الزبائن، ويؤمن للشركات المنتجة الارتفاع المستمر والمتصاعد في المبيعات.

أما من حيث ضرورات تلك الدراسات، فإن قوانين بعض من الدول ومن ضمنها الصين تشترطها في أي مادة كيميائية تجارية، بينما معظم الدول الأخرى تسمح ببيع المنتجات المدروسة على الحيوان، أو تطلب وجود أي اختبار يدل على أمان المواد المكونة للمستحضرات كالحال في الولايات المتحدة مثلاً. ومنذ عام 1980 كانت جهود الناشطين في جمعيات كثيرة مثل People for The Ethical Treatment of Animals، Animal Free Safety Assessment Collaboration، Humane Society International، تعمل للضغط على الحكومات لمنع الدراسات الحيوانية، مع توعية المجتمعات عن حقيقة ما يجري فيها، وكذلك البحث المستمر عن بدائل مجدية وأكثر فعالية منها للتجارب وتطبيق النتائج على البشر.

وعام 2016 وضع الباحثون في مجتمع Non-animal Methods for Toxicity Testing لائحة طويلة من الاختبارات غير الحيوانية التي يمكن أن تنوب عنها في فحص المواد الكيميائية، وأرفقوها بدراسات تثبت دقتها، والقوانين التي توافق عليها في أوروبا والولايات المتحدة. لكن التكلفة الأعلى لتلك التجارب مقارنة باختبارات الحيوانات مازال يمنع تطبيقها في كثير من الصناعات الكيميائية، الأمر ذاته الذي يمنع الشركات من الإنفاق على مسكنات آلام للحيوانات المدروسة.[7]

بشرٌ بلا فطرة!

ولنا بعد النظرة للحال التي وصلت إليه البشرية اليوم مع هوس الاستهلاك والتمركز حول شهوات الإنسان ومحاولة الانتفاع منها بأي وسيلة لتغذية رؤوس الأموال بغض النظر عن الوسائل أو الأضرار أن نقارن ذاك كله بحال ديننا الحنيف الذي يقرّ بأن الحيوان مسخر للإنسان، ويعلّمنا أن الله كرم ابن آدم وأذن له بالانتفاع بالأنعام، لكنه في الوقت ذاته يحمله مسؤولية الاستخلاف، ويجعله جزءاً من هذا الكون ممنوع عليه إفساده أو الإساءة لغيره من المخلوقات فيه.

ولا أملك مع كل هذا الإجرام الذي أراه من تعذيب الحيوانات في سبيل أحمر اشفاه أو ملمع أرضياتٍ إلا أن أذكر رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر والشجر إذ سكّن أنين الجذع، وردّ السلام على الحجر، ورحمته حتى بالحيوان الذي أذن بأكله والانتفاع به إذ قال: (إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسَانَ علَى كُلِّ شيءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ). [أخرجه مسلم]. وأذكر إذ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في إطعام كل كبدٍ رطبةٍ أجر، وحكى أن الله غفر لبغِيٍّ من بني إسرائيل لما سقت كلباً ظمآناً.

فسبحان الله، كم خسرت كل مخلوقات الله بغياب شريعته الرحيمة المتوازنة، وكم انحدر البشر حين جعلوا إلههم هواهم فاستخفهم الشيطان وأضلهم حتى فقدوا أبسط مكونات إنسانيتهم وفطرتهم التي تستحسن الحسن وتستقبح القبيح وتعرف مكارم الأخلاق بمجرد أن تراها، فصاروا تائهين لا يعرفون طريقاً إلا أن يلهثوا وراء مزيد من اللذة الحاضرة كل يوم وبكل وسيلة، ولا عجب.

ولا حول ولا قوة إلا بالله..


[1] Toxic and Tragic Consequences of Product Testing on Animals, PeTA, Animals Are Not Ours.

[2] Organisation for Economic Co-operation and Development, “Guidance Document on the Recognition, Assessment, and Use of Clinical Signs as Humane Endpoints for Experimental Animals Used in Safety Evaluation,” OECD Environmental Health and Safety Publications, Series on Testing and Assessment 19 (2000).

[3]B. Ekwall, “Overview of the Final MEIC Results: II. The In Vitro–In Vivo Evaluation, Including the Selection of a Practical Battery of Cell Tests for Prediction of Acute Lethal Blood Concentrations in Humans,” Toxicology in Vitro 13 (1999): 665–673.

[4] M.K. Robinson et al., “Non-Animal Testing Strategies for Assessment of the Skin Corrosion and Skin Irritation Potential of Ingredients and Finished Products,” Food and Chemical Toxicology 40 (2002): 573–592.

[5] M.J. Bartek et al., “Skin Permeability In Vivo: Comparison in Rat, Rabbit, Pig, and Man,” Journal of Investigative Dermatology 58 (1972): 114–123.

[6] B. Magnusson and A.M. Kligman, “The Identification of Contact Allergens by Animal Assay. The Guinea Pig Maximisation Test,” Journal of Investigative Dermatology 52 (1969): 268–276.
G.F. Gerberick et al., “Local Lymph Node Assay (LLNA) for Detection of Sensitization Capacity of Chemicals,” Methods 41 (2007): 54–60.
K. Ennever and L.B. Lave, “Implications of the Lack of Accuracy of the Lifetime Rodent Bioassay for Predicting Human Carcinogenicity,” Regulatory Toxicology and Pharmacology 38 (2003): 52–57.
AltTox, “Toxicity Endpoints and Tests: Reproductive and Developmental Toxicity,” 21 May 2014 .

[7] TABLE OF VALIDATED & ACCEPTED ALTERNATIVE METHODS, Non-Animal Methods for Toxicity Testing, 2016

http://alttox.org/mapp/table-of-validated-and-accepted-alternative-methods/#3

 

 

 

ماذا تعلمت عن الحياة من خلال مشاهدة المسلسلات؟

قل لي ما تتابع، أقل لك من أنت!

قد تبدو هذه جملة سطحية وتعميمية، إلا أن نظرة سريعة إلى مقال “تبادل آراء” لصحيفة نيويورك تايمز قد تمنحنا نوعاً من الاتفاق على المقدّمة المفترضة، فقد نشرت الصحيفة المذكورة مقالاً بعنوان “ماذا تعلمت عن الحياة من خلال مشاهدة الأفلام؟” ( What have you learned about life from watching movies)

حيث افتتحت المقال بمقدمة للكاتبة مانولا دارجيز Manohla Dargis: “الأفلام تعلمنا كل شيء، كيف نطمح ونحلم وندخّن ونلبس، وكيف نحب، وكيف نضحّي، سواء لأجل الحب أو الوظيفة والعمل؟”، ثم اختتمت المقال بسؤال عام لمن يحب مشاركة رأيه بالإيجاب أو النفي عن تجربته مع الأفلام.

بعد الاطلاع على ردود اثنين وسبعين مشاركًا، لم أُفاجأ بأن المعظم موافقون بشدة ويشاركون تجاربهم وانطباعاتهم عن الأفلام، فقال أحدهم: حتماً ستكون إنساناً مختلفاً عند خروجك من قاعة السينما عما كنت عليه لحظة دخولها!

وآخر يقول مستعيناً بالتاريخ بأن هذه الصناعة العظيمة التي بدأت ١٨٨٨ ما زالت إلى اللحظة تتطور مع تطور الإنسان وتعينه على الإجابة عن أسئلة الحياة المختلفة، -وكأن ١٢٠ عاماً من حياة البشر وتجاربهم المختلفة كافية لاستخلاص الأجوبة!! فكيف إن كانت هذه المسيرة تخطّ منحنىً متسارعاً مبتعداً عن أي وحيٍ سماوي!- ويزيد آخر بأنه تعلّم كل شيء عن الحياة من خلال مشاهدته للأفلام!

السينما والطريق لرسم الثقافة

وجدَتْ هذه البلاد التي تأسست من عدة قرون -نصفها الأول دموي والآخر نزاعات عرقية- نسيجَها الاجتماعي متبايناً ومختلفاً، لا أعراف أو حتى أهداف مشتركة تسمو عن المأكل والمشرب وأساسيات العيش، فكان لا بدّ من الوصول إلى ضمائر الناس ونفوسهم لمحاولة التوفيق ربما ورسم الثقافة العامة للبلد الجديد، وقد حقق التلفاز هذه الغاية بجدارة؛ إذ كان يبثّ للناس على مدار الساعة الصورة المثالية للمواطن والعامل والموظف الأمريكي، والصورة البراقة للأسرة المتحابّة المتراحمة، والصورة الجذابة لما يجب أن تكون عليه الطلاب والطالبات في الثانويات والجامعات، ثم تصبح المهمة على عاتق المشاهد، لمحاولة الوصول إلى تلك الحالة التلفزيونية.

ما يثير العجب هو أن تُباع نفس الخلطة إلى بلادٍ وحضارات ضاربةٍ في التاريخ منذ القدم، كوّنت عبر آلاف السنين أعرافاً وطرائق معيشية عريقة استوَت بعد أن استقت من الوحي قيمها نموذجاً يُحتذى به في وقتٍ من الأوقات، لينقلب الحال وتصبح الدراما والخبائث من الأفكار هي ما نقتدي به ونستقيه، مُعرِضين عن كنوزٍ تركها لنا الأسبقون، ويقدمها الآن بعض المعاصرون بفضل الله.

ابدأ العمل وتفكّر!

كفانا جلوساً على مقاعد الحسرة، وبكاءً على الأطلال، ولنعد إلى الواقع، إلى ساعات النهار الأربع والعشرين التي تملكها، إن رأس مالك وحقك الوحيد الذي لا ينازعك فيه أحد هو هذه الساعات التي تُمنَحُها كل صباح من الحيّ القيوم بلا مقابل، فهي فرصة جديدة لتدارك ما فات، وحبل ودٍّ للاقتراب من عتبات رضوانه، فأنت من تقرر كيف تستهلكها.

لن أُدخلك في متاهات المؤامرات أو أقول إن هناك من يجلس ويخطط ليعبث بوقتك وبباكورة أيامك والسنين الذهبية من شبابك، فأنت أبسط من أن تُنفق عليك هذه الجهود والأموال! لكن، أتعرف من هو الأبسط منك والأقل شأناً؟

هو ذاك الكاتب الذي حمل قلماً يخط فيه سيناريوهاتٍ عن عائلات يُقال إنها من عندنا، تتلاقى وتخون وتسرق وتكذب وتقيم علاقات غير شرعية وكل ما يمكن أن يخطر على باله من شطط وإمالة (فكل ذلك جذاب للتسويق)، ويعينه على ذلك إنسان آخر أقل حظاً بمهارات إخراجية يحوّل المكتوب على الورق إلى مشاهد حقيقية بالاستعانة بأشخاص قرروا تكريس عمرهم للتمثيل، واحتراف تحويل خيال شخص ورؤية شخص آخر إلى شيء يشبه الواقع (إذا غضضنا البصر عن الأجندات والأهداف)

صورة مسلسلات وأفلام

كل هؤلاء الأشخاص الذين ليسوا نجوماً ولا لامعين، راهنوا على الساعة والساعتين التي ستقدمها لهم بالمجان، وصبروا وعملوا بلا كللٍ ولا ملل، ودعّموا أنشطتهم بإعلانات وأموال طائلة تُنفق حتى تترسخ عندك قناعة أنك تحتاج متابعتهم لتتعلّم عن الحياة وأهوالها وتعرف الناس وغدرها، والنساء و”كيدهن”، ومكر الرجال، وجشع الأغنياء ومأساة الفقراء…. إلخ.

وعلى فرض أنك واعٍ لذلك كله، وأنك تقضي هذه السويعات للترفيه، أفيُعقل أن تبني جداراً، وتتعب على رصف حجارته، ثم من باب الترفيه تبدأ تصدّعه بطَرْقاتٍ من هنا، وضربات من هناك؟

هذا الجدار هو عقلك ونفسك اللذان تحتاجهما لتواجه الحياة بنفسية مستقرة وشخصية متّزنة خالية -قدر الإمكان- من حوارات الدراما وردّات الأفعال مسبقة الصنع والتعابير الجاهزة، كما في عبارة “أنا حدا كتير….” التي ظهرت وانتشرت قبل أكثر من عشر سنوات إثر ظهور مسلسل سوري يكرر هذه العبارة في كثيرٍ من لقطات السيناريو، وعلى ألسنة العديد من شخصيات المسلسل التي تتكلم بهذه الطريقة، وما هي إلا عدة أشهر إلا وصار الحوار بين الناس يتضمن الكثير من “أنا حدا كتير”، وأترك لذاكرتك مهمة إيجاد تعابير ومدخلات مشابهة، وربما من نوع آخر.

الترفيه ضرورة أم حاجة

أجاز الإسلام النشاط الترويحي الذي يعين الفرد المسلم على تحمّل مشاقّ الحياة وصعابها، والتخفيف من الجانب الجدي فيها، ومقاومة رتابتها، شريطة ألا تتعارض تلك الأنشطة مع شرائع الإسلام وأوامره، أو يكون فيها إشغال عن عبادة مفروضة، والأصل في ذلك الحديث الذي في صحيح مسلم عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ: (كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَعَظَنَا فَذَكَّرَ النَّارَ قَالَ ثُمَّ جِئْتُ إِلَى الْبَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ الْمَرْأَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَافَقَ حَنْظَلَةُ، فَقَالَ: مَهْ فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَقَالَ: يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ). [أخرجه مسلم في الصحيح]

فمعنى هذه العبارة –أي (وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) أنه “لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُنَافِقًا بِأَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ عَلَى الْحُضُورِ وَفِي وَقْتٍ عَلَى الْفُتُورِ، فَفِي سَاعَةِ الْحُضُورِ تُؤَدُّونَ حُقُوقَ رَبِّكُمْ، وَفِي سَاعَةِ الْفُتُورِ تَقْضُونَ حُظُوظَ أَنْفُسِكُمْ” [المباركفوري في شرح سنن الترمذي]، وهنا يُترك كل شخص لضميره ليعرف كمية العبادات الضئيلة التي يُمارسها يوميّاً.

في ناحية أخرى، فإن أغلب من يقضي وقته في الترفيه، سواء بمسلسلات التلفاز أو ألعاب الهاتف، فإنه بعيدٌ كل البعد عن الإنجازات الجادة –ولا أظن أننا بحاجةٍ لإحصاءات واستطلاعات لإثبات ذلك- فوحده من يشعر بتعب ولذة الإنجاز يقدّر قيمة نفسه وقيمة وقته ولمن يعطي سمعه وأذنه وانتباهه.

متاهات السوشال ميديا

إن كنا ما زلنا حديثي عهد بهذا الفخ الجديد الذي وقع فيه حتى أكثرنا انشغالاً واجتهاداً، فخ إضاعة الوقت في متاهات “الماجَرَيات” التي تبثها لنا يومياً وسائل التواصل الاجتماعي دون توقف أو كلل أو ملل، فلا نكاد نشهد معركة خمدت بين داعية ومفكر حتى تندلع ثانية، عدا عن مزاحمات المواعظ والدروس والعبر والنصائح والتنبيهات والتحذيرات والأخبار والمستجدات، وكل ذلك مما يبدو كأنه ثقبٌ أسود يلتهم ساعاتنا وأيامنا والسنوات على غفلة منا، بينما يتوجب علينا –في الأصل- أن نتجه للانشغال بشيء أهم في حياتنا الحقيقية.

أوليس من غير الحكمة ونحن نصارع أنفسنا في مهمة التخفّف من الملهيات أن نزداد في متابعة هذه الفضاءات وأن نفتح جبهة حربٍ جديدة مع مسلسلات تشبكنا معها ٣٠ ساعة وربما أكثر، في الوقت الذي يتأسف فيه كثيرٌ منا لمرور عشر دقائق من ذكرٍ أو تلاوة لصفحة من كتاب الله تعالى.

يوصي العديد من الأطباء بألا تتجاوز مدة الانشغال بمواقع التواصل الاجتماعي ثلاثين دقيقة، وبذلك يتوفّر للإنسان متابعة صفحتين أو ثلاثٍ أو خمس على الأكثر المجمل –في حال كانت ذا محتوى غني وقيّم- فإن زاد الحال عن ذلك انقلب إلى مضيعة للوقت، فيصاب المتابع بالتخمة المعرفية والفوضى، إذ إن منصات التواصل لا يؤخذ عنها العلم وإنما هي منصة للتذكير، والأولى والأصل أن يرتبط العلم بالعمل، ومن كان عمله التصفّح والتقليب بالساعات فإنه ممن يظنون أنهم يحسنون صنعاً وهو من الأخسرين.

البدائل والحلول

حسنٌ، يشار لنا على الفور بكلمة “ما البديل؟” التي صارت ردنا السريع على كل من يحاول إبعادنا عن عادة سيئة أو فعلٍ خاطئ!! وكأن البديل يجب أن يكون موجوداً، وكأنما إقامتنا في فندق ٥ نجوم، وليست في دار امتحانٍ وابتلاء!!

بلى، إننا نفتقر في مكتبتنا العربية للمرئيات المفيدة التي تجذب اليافعين والشباب، إلا أن ملء هذا الفراغ لا يكون باللجوء لبدائل لا تناسب قيمنا وأخلاقنا.

ولعل الحل يكون بالإقلاع عن هذه العادة أولاً، وأنا أكثر من يتفهم صعوبة الأمر، فمع الأسف الذكريات العائلية الجميلة يُرسم أغلبها خلال جلسات المساء لمتابعة مسلسلٍ ما أو فيلم، إلا أن الأمر يستحق كل جهدٍ مبذول، والمكسب في نهاية المطاف هو عمرك وبركة وقتك.

ومما يعين على هذه الخطوة التدرّج بالترك، ومجاهدة النفس قدر الإمكان على الامتناع كلياً في رمضان عن مشاهدة أي شيء، وملء الوقت بالعبادات التي تؤجر عليها وتثاب وترفع مقامك عند ربّك -وهو هدفنا الأساسي- والاستعانة بالله قبل كل شيء، فمعارك النفس داخلة في حكم الجهاد، وتغيير العادات يتطلب وقتاً وصبراً وثباتاً، ورمضان فرصة ذهبية للانطلاق، وهو من رحمة الله بنا أن فرض علينا هذه المساحة الضيقة من باحة العام الواسع، لنُعيد فيها حساباتنا ونتمكّن من الامتناع جزئياً عن أساسياتٍ حياتية، تمهيداً للإقلاع عن مُهلكات نحسبها ضروريات.

من وحي التجربة

وقبل التنعّم بطعم الحرية والخلاص من قيود وأسلاك التلفاز الشائكة، دعني أشاركك بعضاً من تجربتي الشخصية التي بدأتها في مطلع العشرينات من عمري، عند اندلاع الثورات وسقوط كثير من المشاهير من أعين الجماهير، فقررت الامتناع ما استطعت عن متابعة التلفاز ومن ضمنها المسلسلات والأخبار والأفلام، فعشت في قوقعتي الصغيرة وبات الفراغ كبيراً، ملأته فوراً بتطوير مهارة أحبها ولا أعرفها، ألا وهي “الحياكة”، وبعد عدة شهور ومن خلال فيديوهات اليوتيوب أتقنتها فصارت ملجئي الذي أستعين به على ليال الشتاء الطويلة.

وحمّلت على هاتفي تطبيق Duolingo لتعليم اللغات، فتعلمت مبادئ الفرنسية (بالإضافة إلى التحاقي بمدرسة بدوام جزئي لا يُذكر في البداية) لكن مع ذلك أُرجع الفضل للـدقائق الخمسة عشر التي كنت أتمرن بها على هذا التطبيق بشكل شبه يومي، فصار بإمكاني إجراء محادثة بسيطة، وفهم معظم ما أسمعه وكل ما أقرأه.

جاهدت نفسي لمشاهدة المحتويات وقراءة المقالات التي أهتم بتعلمها باللغة الانجليزية بدل العربية، مثل الحياكة، والصحة، ورعاية الأطفال، وحتى الطبخ وكل ما يخطر بالبال، فأتقنت الانجليزية لوحدي في المنزل إلى درجة القدرة على التعبير عن نفسي بشكل جيّد جدّاً، وقراءة المواد المتعددة في المواقع الإخبارية، والاستماع لمحاضرات مختلفة بمواضيع متنوّعة، في فترة تُعتبر قصيرة.

لقد كان أهم إنجاز لي هو حفظ القرآن، ولو أنه جاء متأخراً ولكن أحمد الله الذي أذن لي بحفظ كتابه، فبفضله ونعمته حفظت الخُمس مع صحبة خيرٍ تعينني على ذلك..

لم يكن الطريق سالكاً سهلاً؛ إذ حصلت بعض الانتكاسات، ولكن بمجرّد أن تقتنع أن وقتك أثمن من أن يضيع هباءً، فإن الصعب يغدو سهلاً بإذن الله.

ختامًا، فإن كنت قد استطعتُ أن أقوم بذلك، فإنكَ بالتأكيد أيضاً تستطيع، وإننا مهما اجتهدنا لن نخسر الترفيه، إلا أننا سنربح أنفسنا مع ذلك.


المصادر:

(١) عن الترويح عن النفس موقع إسلام ويب

https://www.islamweb.net/ar/fatwa/129613/

مقال نيويورك تايمز:

https://www.google.com/amp/s/www.nytimes.com/2018/12/03/learning/what-have-you-learned-about-life-from-watching-movies.amp.html

 

مصدر صورة الوسائل التواصل الاجتماعي

<a href=”https://www.freepik.com/vectors/people”>People vector created by pikisuperstar – http://www.freepik.com</a&gt;

“الرحلة”.. عندما يتحول الدين إلى فنتازيا تاريخية!

تسعى شركة مانجا للإنتاج -التابعة لمؤسسة محمد بن سلمان الخيرية والمعروفة بـ “مسك الخيرية”- إلى “إلهام أبطال المستقبل”، من خلال إنتاج “الرسوم المتحركة وألعاب الفيديو والقصص المصوّرة ذات الرسالة الهادفة”. وبناء على هذا التعريف نرى إطلالة الشركة علينا قبل أشهر قليلة بفيديو تشويقي لما وُصِف بأنه أول “فيلم أنمي سعودي ياباني” يحمل اسم “الرحلة”.

ووفق الشركة، فـ “الرحلة” فيلم إثارة وتشويق و”فنتازيا تاريخية” مستوحى من “تاريخ شبه الجزيرة العربية ومن الحضارات القديمة في المنطقة” ويروي قصة خزّاف اسمه أوس “يمر بتجربة إنسانية كبيرة ويدافع عن مدينته ضد غزو يأتيها من الخارج”.

لوغو شركة مانغا للإنتاج واستوديو توي أنميشن، منتجة فيلم "الرحلة" والاستوديو الذي قام بالتنفيذ

وشارك في إنتاج الفيلم استوديو توي أنيميشن Toei Animation، أحد أقدم استوديوهات الأنمي القائمة إلى الآن -إن لم يكن أقدمها-، والذي خرّج مَن أصبحوا بعد ذلك أساطيرًا في هذه الصناعة، أمثال هاياو ميازاكي وأوسامو تيزوكا، كما أن الأداء الصوتي في الفيلم كان على يد نخبة من المؤدين، كهيروشي كاميا صاحب الأداء الصوتي لشخصية ليفاي أكرمان من أنمي “هجوم العمالقة” وكذلك الحال بالنسبة لباقي طاقم العمل من إخراج وإنتاج.

وقبل أيام ظهر إلى النور الفيديو التشويقي الثاني للفيلم، لنكتشف أن قصة الفيلم تدور حول غزو أبرهة الأشرم للكعبة! وهكذا تصبح الحوادث والقصص القرآنية “فانتازيا تاريخية” عن “حضارات قديمة في المنطقة”! وهكذا يُلهَمُ “أبطال المستقبل” وتصنّع “أجيال صالحة مؤمنة معتزة بتاريخها وثقافتها” من وجهة نظر شركة مانغا للإنتاج ورئيسها التنفيذي (عصام البخاري)، الذي لم ينطق كلمة “الإسلام” ولو مرة واحدة طيلة مقابلة أجريت معه للحديث عن الفيلم، بل قل: كانت مقابلة تفوح منها رائحة القومية المنتنة.

“الرحلة” في عصر الصورة

باتت الصورة -التي لطالما كان لها بريقها- الآن مدعومة من قبل الإمبراطوريات الرأسمالية بما لديها من نفوذ اقتصادي وقدرات تكنولوجية، بل إن الدول بشتى أشكالها -الديموقراطية منها والقمعية- تستخدمها لتحقيق أهدافها؛ فتوحّشت الصورة وتغلغلت في مفاصل حياتنا وتفاصيل أفكار الإنسان كافّة، ورسمت حاضره وماضيه ومستقبله وحددت له الحقيقة والخيال، بل وأفقدته ذاتَه واستنزفت عمره وأنهكت روحه.

الترفيه في عصر الصورة هو المطلب والهدف، والغاية والوسيلة، فهذا العصر مُغرِقٌ في الماديات، مفرّغ من أي قيمة متجاوِزة، محكومٌ بآليات السوق، عصر سائلٌ لا مكان فيه لقِيَم متعالية، ومعانٍ سامية، وثوابت مقدسة، وحقائق راسخة، عصر نُزِعت فيه القداسة عن غير الصورة!

وما “الرحلة” إلا محاولة لنزع القداسة عن الدين، أقدس المقدسات الذي فيه معنى حياة الإنسان ومفتاح نجاته.

وبداعي الترفيه –أو بحجّته-، يصبح تحريف الدين مجرد “تعديل طبيعي في الحبكة لأغراضٍ درامية ولزيادة جرعة الإثارة والتشويق، وأمرًا لا يستحق من الجدل الكثير”، كما أن “الفن ليس مطالبًا بنقل الحقيقة والتقيد بالواقع”، و”هذا عمل ترفيهي خيالي (فنتازيا تاريخية)، وليس عملًا وثائقيًا”. ففي عصر الصورة تتغير المعايير والمقاييس والمبررات والأحكام، في سبيل تحقيق “متعة المُشاهِد”.

فلا عجب إذن إن وجدنا هذه “الفنتازيا التاريخية” انتقلت إلى عالم الأفلام والمسلسلات، ليتحول الدين في نهاية المطاف إلى مجرد مادة ثرية ينهل منها المؤلفون والأدباء، وأساطير مثيرة تُحاك حولها الحبكات وتُنسَج منها القصص والحكايات، القائمة بطبيعتها على الخيال والمبالغات وتفاصيل لا توجد إلا بمثل الإسرائيليات، لتَرسُم تصوراتنا وتشكل انطباعاتنا وتكُون مصدر معلوماتنا عن كل ما يتعلق بديننا وعقيدتنا. وفي نهاية المطاف، تختلط السردية الدينية للتاريخ بالأساطير في عصر الصورة.

هذه هي الصورة التي ستُرسم لأبرهة في ذهن كل من سيشاهد الفيلم

بعد أن يحوّل “الرحلة” قصص القرآن إلى “فنتازيا تاريخية”، يكون الدين قد استُبيح بأيدٍ عربية -مع الأسف- ليتحول إلى نمط شبيهٍ أو قريبٍ من قصص ألف ليلة وليلة، مداره الحديث عن القصص الأسطورية المحضة، فلا غرابة إذن إن قامت جهات الإنتاج الأجنبية -الغربي منها والشرقي، الأمريكي منها والياباني- باستكمال هذه “الرحلة” الفجة من تحريف الدين الإسلامي واستباحته. كأن نجد شركةً مثل (نتفليكس) تعيد كتابة تاريخنا وتصوير ديننا، ليس للعالم الغربي فحسب، بل حتى للشباب العربي بما يعانيه من انهزام حضاري وخضوع لسلطة “الثقافة الغالبة” ورضوخٍ لقوة الصورة.

وحتى إن زالت الغشاوة وذهب سحر الصورة، وظهرت التعليقات المعترِضة والردود الغاضبة، فهذا غالبًا لن يغير من الواقع شيئًا البتة، فنحن أمام “رحلة” مدعومة من أعلى السلطات في الدولة، رحلة تحريف دينٍ، واستئصال قِيَمٍ، وتغييب وعي، وتزوير تاريخ، ومسخ ثقافة، وطمس هوية، وتشويه مجتمع.

إن محض إدخال الدين إلى نطاق سيطرة الصورة، يعني أن صاحب الصورة هو من يرسم شكل هذا الدين، ويقدمه كما يشاء للفئة التي يشاء. ولك أن تتخيل الحال عزيزي القارئ حينما يكون صاحب الصورة ليس ذو نفوذٍ سياسي واقتصادي فحسب، بل صاحب أعلى سلطة في الدولة، فكيف يمكنه تشكيل هذا الدين وتقديمه على الصعيدين المحلي والعالمي؟ خصوصًا إن استخدم الأنمي في سبيل ذلك!

الأنمي.. ذلك الوافد الجديد القديم

رغم ما تحمله الأفلام والمسلسلات الحية في طياتها من خيال وأساطير إلا أنها لا تُقارن بما يمكن أن يتضمنه الأنمي من خيال بحكم طبيعته، مما قد يعني أن خطره أشد وأثره أكبر، لا سيما إذا أخذنا بالاعتبار أن الفئة التي يستهدفها الأنمي تشمل أعمارًا أصغر نسبيًا، هذا بالإضافة إلى الصورة الوردية المرسومة في المخيال الاجتماعي عن الأنمي خصوصًا واليابان عمومًا.

ولا أدل على انتشار الأنمي من تبنّي الدولة له واستعانتها به لاجتذاب ومخاطبة شبابها!

فشبكة mbc المقرّبة من السلطة، هي أول جهة عربية تتبنى الأنمي في المنطقة وتبثه بشكله الياباني المترجم الخام، من خلال قناتها mbc action ومنصتها الرقمية (شاهد)، وبهذا تضمن وصوله إلى أكبر فئة من الشباب، وكل هذا حدث منذ بضعة أشهر فحسب.

إلا أن “الرحلة” لم تبدأ الآن، فما يحدث ليس وليد اللحظة، ولا هو مجرد استغلال لوسيط رائج حاليًا، بل إن الأمر ظاهر للعيان منذ ما يقارب العشرين عامًا، مع إطلاق mbc لقناتها الثالثة (mbc3) والتي كانت مخصصة لبث الرسوم المتحركة الأجنبية -الأمريكية في الغالب- مع وجود واضحٍ للأنمي الياباني طبعًا، وكان ذلك أيضًا دون إجراء أي تعديل رقابي يراعي الدين أو القيم أو الأعراف، أو حتى عمر الفئة المستهدفة.

مثال ذلك مسلسل الرسوم المتحركة الفرنسي الكندي Totally Spies! والذي عُرف عربيًا بالجاسوسات، والذي نشأت على أفكاره العديد من الفتيات، وبطلاته شابات كل ما يستحوذ على اهتمامهن هو مواكبة آخر صرعات الموضة وإقامة العلاقات الرومنسية مع الشبان. وهذا يعطي لمحة عن طبيعة الأفكار التي تحاول قنوات mbc ضخها عبر مختلف قنواتها، أفكار أوصلتنا اليوم إلى ظواهر كانتشار “الفاشينيستات” اللواتي يجدن ملايين المتابعين والمتابعات.

شبكة قنوات mbc التي تعد من أضخم الشبكات في المنطقة العربية وأكثرها تنوعًا -إن لم تكن الأضخم- تحاول تشويه الإسلام وضخ الثقافة الأجنبية الغربية عبر كل ما تبثه من برامج وأفلام ومسلسلات عربية وأجنبية.

وفي المقابل، وعلى مدار سنين، نجد النقيض تمامًا في طبيعة وثقافة المجتمع المتلقي للمحتوى -بأعرافه وقوانينه وتقاليده-. والجدير بالملاحظة هنا أن المتحكم بالنقيضين هي الجهة ذاتها، بالتالي فإن هذا التناقض الصارخ -وما يؤدي إليه من أزمة حادة في الهوية -قد تصل إلى معاداة كل ما هو عربي إسلامي ووصمه بالتخلف- لم يكن غالبًا بمحض الصدفة؛ بل إن الدور الذي لعبته شبكة قنوات mbc في ضخ الأفكار الأمريكية أوجد لها مكانًا بين تسريبات ويكيليكس، ليس اليوم بل قبل أكثر من عشر سنوات!

هذه الشبكة هي من تروج الآن للأنمي في المنطقة، مما سيدفع إلى مزيد من الانسلاخ عن الهوية العربية والإسلامية، ولكن هذه المرة لصالح اليابان، فالأنمي هو سفير اليابان إلى العالم. وصانع القرار في هذه الشبكة، هو ذاته من يريد استخدم الأنمي لتحريف دين الإسلام ونزع القداسة عنه!

في ظل كل هذا، يستحق الأنمي حيزًا أكبر في الفضاء الإسلامي الفكري والدعوي والتوعوي، ويجدر بمن يهتم بنهضة الأمة وصلاح شبابها أن يوليه مزيدًا من الانتباه والاهتمام ومحاولة الفهم، لكي لا يتحول الإسلام وقيمه إلى “فنتازيا تاريخية”!

لستُ في صيام.. كيف أرضى عن نفسي وأغتنم الأيام المعدودات؟

يشق على الكثير من الفتيات المرور بفترة العذر الشرعي وما يرافقها من حكم الامتناع عن الصلاة والصيام في شهر رمضان، فهنّ كأي مسلمٍ يُرِدْنَ الصيام واغتنام الوقت في الشهر الكريم بالصلاة والعبادات، وقد يُلجِئُ ذلك إحداهن لدواء كثير الأعراض الجانبية يؤخر فترة الحيض، وإن لم تفعل فإنها تحزن في ذاك الوقت وتخجل من فِطرها وذاتِها فيه.

إلى جانب ذلك تمرّ كثيرٌ من الأمهات الحوامل أو المرضعات اللواتي يخفن على أنفسهن أو أطفالهن بفترات صعبة من التناقض الفكري في رمضان؛ إذ لا يتقبّلن فكرة الفِطْر في الشهر، ولا تحتمل أجسادهنّ الموهنة الصيام في الوقت ذاته.

بينما أسباب ما تقدّم غالبًا ما تعود لفهم مغلوط عن دين الله أو عادات مجتمعيّة تفرَض على الفتاة ما لم يأمر به الله، وتدعوها لبغض ذاتها أو التظاهر بما ليست عليه، فإن نتائج هذه النماذج تشمل كثيراً من الإناث وتفضي بهنّ لمشاعر صعبة ومشكلة لا يفصحن عنها وتعكّر عليهنّ صفو الشهر الكريم، فأردت أن أفرد هذا المقال لتفنيد تلك الإشكالات، وتوجيه بعض الوصايا المتعلقة بها.

 أحبّي ضعفكِ

من المهمّ أن نبدأ نقاشنا لهذه الأفكار بتقديمٍ عن قبول النفس التي وضعها الله سبحانه بين جنبينا، وحمد الله على نعمه علينا فيها وبها، فنحن وإن لم نختر ماذا نكون ومتى وأين، فإننا هنا منعّمون بقدر لا نحصيه من النعم في نفسنا وحدها، فهذه النفس هي الوحيدة التي سنسأل عن عملها ونجاتها وسنفلح إن زكيناها، وهي وحدها التي سنأتي الله بها حين نكون أفراداً متخلّين عن الأصحاب والقرابات.

أوجّه الخطاب هنا للفتيات وأقول لكل منهن: أحبي أنوثتك واحمدي الله على نعمة أن وهبك إياها، احمديه على هذه النفس التي تحتاج عناية خاصة في أوقات تعب شهري طبيعيّ وجبلّي، لا تلومي نفسك لأنك لست المرأة الخيالية الخارقة التي تستطيع القيام بكل شيء في كلّ حين، فالإنسان خلق ضعيفاً وهذا يشمل الرجال والنساء، وإن كان ضعفك أكبر واوضح فاحمدي المولى على شريعةٍ تراعي ذلك وتأمر بمراعاتك فيه، ثم تأجُرك على إذعانك وصبرك ورضاك به.

ولننظر لحال عائشة رضي الله تعالى عنها حين مرّت بذات الحزن التي تشعر به الفتاة حين تجبر على ترك عبادة محببة لقلبها، فهي رضي الله عنها كانت خارجة للحج مع حبيبها صلى الله عليه وسلم، محتملة لمشقة السفر، ومشتاقة لتأدية المناسك ومشاركة المسلمين بها حين منعها الحيض من ذلك كله، فجعلت رضي الله عنها وأرضاها تبكي على أثره.

هناك دخل عليها رسول الله وخفف عنها الحزن بقوله صلى الله عليه وسلم: (فلا يضيرك، إنما أنتِ امرأٌةٌ من بنات آدم، كتب الله عليكِ ما كتب عليهنّ، فكوني في حجّتك، فعسى الله أن يرزقكيها) [أخرجه البخاري]. بهذه البساطة والتسليم لأمر الله تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل القضية، فخفف عن زوجه حزنها وعلمها كيفية التعامل مع حالتها الطبيعية التي لا شأن لها بها، ولا ينبغي أن تلوم نفسها عليها.

وهذا يشبه من كانت حاملاً أو مرضعاً لا تستطيع الصوم لخوفٍ على نفسها أو طفلها، فلتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة وشيءٍ من الدلجة) [أخرجه البخاري]. كتب الدكتور مصطفى البغا في شرح الحديث: لن يكلّف أحد نفسه من العبادة في الدين فوق طاقته إلا رده الدين إلى اليسر والاعتدال، فالزموا التوسّط في الأعمال واقتربوا من فعل الأكمل إن لم تستطيعوه.[i]

فسبحان الله الرحيم بعباده الذي يقبلنا كما نحن بضعفنا وفقرنا وقلة ما لدينا، وله الحمد أنه الأعلم بنا من نفوسنا فلا يكلفنا إلا وسعنا، وما جعل علينا في الدين من حرج، فلتطمئن نفسكِ أختي، ولتعلمي أنكِ أَمَةٌ لرب كريم يقبل منك أقل العمل المخلص لوجهه، وهوّني عليكِ حين لا تستطيعين الصوم وتجبرين على الفطر ومخالفة ما اعتدته من العمل المحبب طوال عمرك، بل استمتعي بمنّة الله عليكِ في أمومتك وصبرك على مشاقّها، واحتسبي رضاك وامتثالك في الصيام أو الفطر لوجه مولاكِ جل وعلا، واستشيري أهل العلم في الفقه والطب، وانظري في حال جسدك وقدراته، ثم ارضي بحكم الله عليكِ وابتلائه لكِ بغض النظر عما يقوله عوامّ مَن حولك أو يدعونك إليه، واذكري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً) [أخرجه البخاري].

رضيتُ وأذعنت، ثمّ ماذا؟

أما إذا اطمأنت النفس وأسلمت لما كتب الله عليها، فإن السؤال الذي يتبع هو: كيف أغتنم هذه الأيام المعدودات؟ وهل هناك طريقة تمكنني من عدم تضييعها في اتباع النفس الأمارة بالسوء أو مجالس اللغو القاتلة للوقت والعمر؟

وهذا سؤال أساسي، خصوصاً أنّ ما سبق ليس دعوة للركون أو تسهيلاً لتضييع الأوقات أو الكسل عن الاجتهاد في الشهر الفضيل، فأبواب الخير والطرق إلى الله واسعة كثيرة، لا تقف عند الصيام والتراويح، إنما تتعداها أولاً لأعمال القلوب من الإخلاص والتوكل والتفكر والخوف والرجاء والشكر والتقوى والإنابة وغيرها مما لا يشترط حالاً أو مكاناً، والتي كانت عناية السلف بها كبيرة تظهر في كثرة مؤلفاتهم فيها وتوجههم إليها لأن صلاحها لا يتعلق بصلاح الظاهر، إنما هو متعلق بما بين العبد وربه لا يعلمه أحد من الخلق ولا يطلع عليه، وهو الذي يعتمد عليه حال أعمال الجوارح ومرتبتها عند الله جلّ وعلا. قال ابن القيم -رحمه الله-: “أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكملة، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارق الروح فمواتٌ، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح”.[ii]

كما أن من أبواب الخير المفتوحة قراءة تفسير القرآن وعلومه، وكذلك تلاوته دون مس المصحف -إن كانت الفتاة ممن يأخذ بجواز التلاوة-، إضافة إلى حضور دروس التفسير والتدبر اقتداءً بعناية رسول الله والسلف الصالح بالقرآن في رمضان واشتغالهم به، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتدارس القرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان مرتين.[iii]

إضافة لذلك فإن من الضروري توسيع مفهوم العبادة إلى ما وراء النُسُك المجرّدة والوقوف على سجادة الصلاة فقط، فرسول الله صلى الله عليه وسلم علّمنا أن التبسم في وجه أخينا المسلم صدقة، وأن الأعمال بالنيات التي بها يصير العمل العادي عبادة، والله تبارك وتعالى أشار في كتابه الكريم مراراً إلى فضيلة الإحسان إلى الخلق وأجر المحسنين في عملهم مع الله ومع الناس، ومن ذلك المساهمة في تفطير صائم، وإغاثة ملهوف، ونصح لمسلمٍ، ونشر علمٍ نافعٍ وطلبه وإعانة الغير عليه، إضافة إلى الرفق بالصغار وملاعبتهم، وإعانة الكبار ومؤانستهم، وعيادة المريض وصلة الرحم والإحسان للجار وحتى نثر البذور أو الخبز الجاف للطيور التي فيها للمسلم أجر كبير بإذن الله تعالى.

وبذلك يظهر أن فترة العذر الشرعي أو عدم قدرة الأنثى على الصيام في رمضان للحمل أو الرضاعة لا ينبغي أن يحول بينها وبين الاجتهاد في العبادات وتزكية النفس والاستكثار من الخيرات خلال أيام الشهر الكريم الذي إن بلغته هذا العام فقد لا تبلغ غيره، وسبحان الله الكريم الرحيم الذي خلق في نفوسنا ضعفاً لتلجأ إليه وتذكر حاجتها له، ثم رزقنا شريعةً تقدّر هذا الضعف وتوافقه، وله الحمد أن وسّع لنا أبواب الخير في رمضان وفي كل الشهور.[iv]


[i] د. مصطفى ديب البغا. مختصر صحيح البخاري المسمى التجريد الصريح. مركز اليمامة للنشر والتوزيع. ص18.

[ii] ابن القيم الجوزية رحمه الله. بديع الفوائد. 3/224.

وللمزيد في موضوع أعمال القلوب انظر سلسلة محاضرات للشيخ محمد صالح المنجد بعنوان “أعمال القلوب” على موقع طريق الإسلام.

https://ar.islamway.net/collection/2049/%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%84%D9%88%D8%A8

وكتاب مدارج السالكين لابن القيم رحمه الله المتوفر بنسخ مختصرة وكاملة على الشابكة، وللشيخ أحمد السيد سلسلة محاضرات في قراءة الكتاب والتعليق عليه بعنوان “مقاصد مدارج السالكين” على يوتيوب.

https://www.youtube.com/playlist?list=PLZmiPrHYOIsTKo0QAbQ8OOL2DP8wKhjgm

[iii] من السلاسل النافعة في هذا الباب بإذن الله:

“سلسلة اللطائف القرآنية” للشيخ بسام جرار على يوتيوب. https://www.youtube.com/watch?v=GD4iGRjjTQY&list=PLswqnlv8rl0sH9pv8AlpVN2PxQcSejS2_

و “دورة مفاتح التدبر” للمهندس فاضل سليمان على يوتيوب.

https://www.youtube.com/playlist?list=PLukAHj56HNKbD2R2ZroUhu7g-mK1S6CrW

ومن الكتب النافعة في هذا الباب:

كتاب أول مرة أتدبر القرآن للشيخ فهد سالم الكندري. https://ar.islamway.net/book/29544/%D8%A3%D9%88%D9%84-%D9%85%D8%B1%D8%A9-%D8%A3%D8%AA%D8%AF%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86

وكتاب رقائق القرآن للشيخ إبراهيم السكران. https://waqfeya.net/book.php?bid=9885

[iv] استفدت في بعض معاني المقال من محاضرة بعنوان “ورمضان إلى رمضان” لنورة سوبرة وأسماء الجغبير عبر مركز مكاني.

ومن محاضرتين للدكتور محمد حسونة بعنوان “رمضان 1442” عبر مركز مكاني.