image_print

تناقضات مع ثقافتنا الإسلامية: ديولنجو نموذجًا

يعدّ تطبيق ديولينجو duolingo تطبيقا تعليميا هدفه الأساسي تعليم اللغات، كما أنه من أوسع التطبيقات انتشارا، فقد وصل إلى 500 مليون تحميل في أزمة كورونا[1]، وقد بدأت فكرة التطبيق سنة 2009[2] لتزداد اشتهارا يوما بعد يوم، ومن ضمن المعلومات المنتشرة أن اللغة السويدية هي أكثر اللغات تعلما في السويد من طرف اللاجئين السوريين[1].

لذلك فإن دراسة هذا التطبيق وما يقدمه لنا كمسلمين ضرورية، خاصة أن فيه الكثير مما يعارض ثقافتنا الإسلامية التي ينبغي التنبه إليها. ومع سعة انتشاره نتيقن أن تناوله بالحديث ليس من الترف الفكري بل هو من قبيل معرفة المطروح أمام المسلمين ونقده. وهذا يجعلنا نطرح التساؤلين التاليين:

  • ما هو تطبيق ديولينجو وما خلفياته؟
  • أين تتجلى مواطن الخلل التي تناقض ثقافتنا الإسلامية؟

تطبيق ديولينجو.. الفكرة وتطوراتها

ديولينجو هو شركة أمريكية مختصة في المجال التعليمي، حيث توفر تطبيقا وموقعا تعليميين وشهادة تعليمية[3]. ولنعرف عن هذا التطبيق أكثر فلنبدأ أولا بكيفية نشوء الفكرة، مع التطورات الحاصلة في التطبيق خلال السنوات الماضية، ونختم هذا الجزء بتعريف الخدمات التي يوفرها التطبيق.

بدأت الفكرة مع الأستاذ “لويس فون أهن” في  جامعة “كارنيج ميلون” وطالبه “سفيرين هاكر”، بعدما باع فون شركته الأولى “ريكابتشا” لجوجل سنة 2009 [2].  نشأ التطبيق من تساؤل واحد ألا وهو: كيف يمكن لـ 100 مليون شخص عبر الأنترنت أن يترجموا محتواه إلى عدة لغات بالمجان؟ ثم بعد ذلك حوَّل الأستاذ وطالبه التساؤل إلى تجربة تعليمية [4].

يقول فون في إجابة له على سؤال لماذا بدأتم بمشروع ديولونجو: “بعدما بعتُ ثاني شركتاي إلى جوجل، فكرنا –أنا وهاكر- في العمل على شيء له علاقة بالتعليم. وبما أن التعليم شيء واسع جدا، قررنا أن نركز على شيء يطلب في كل مكان ألا وهو تعلم اللغات”[5].

كان الهدف أولا أن تكون الشركة عبارة عن منظمة غير ربحية نظرا لأن أول الممولين كان منحة “ماك أرثر” و”الجمعية الوطنية للعلوم”، لكن “فون أهن” حكم أنها غير مجدية نظرا لضعف استمراريتها. بعدها جاءت التمويلات من عدة جهات لهذه الشركة الناشئة، فمثلا سنة 2015، أعلنت ديولينجو أنها حصلت على 45 مليون دولار من طرف “جوجل كابيتل” ليصل مجموع التمويلات إلى 83.3 مليون دولار. [3]

سنة 2022، غيرت ديولينجو من واجهتها من طريقة المشجرة حيث يختار المستخدم درسا من عدة دروس بعدما ينهي درسا سابقا، إلى التقدم المستقيم. [انظر الصورتين التاليتين، حيث تبين التي على اليمين الشكل القديم والصورة التي على اليسار الشكل الحديث].

الخدمات التي يوفرها التطبيق

يقدم ديولينجو دروسا في عدة لغات منها اللغات الأكثر استخداما كالإنجليزية، والعربية، والفرنسية، والإسبانية، والألمانية، إلخ.. ولغات أخرى في طور الاضمحلال كالـ”هواوين” ويسمح التطبيق بالتعلم عن طريق الترجمة والتحدث والاختيار من متعدد، والقصص، والمطابقة. كما يمنح ديولينجو فضاء تنافسيا، حيث يتم حساب النقط بالـ XP، وهي نقط تحصلها بعد كل درس. كما أنه يعطي شارات Badges بحسب ما أتممته من تحديات [3].

إضافة إلى ذلك يوجد في تطبيق “ديولينجو رياضيات” لتعليم الرياضيات، وكما تمنح الشركة اختبارا خاصا باللغة الإنجليزية لغير الناطقين بها، يسمى  (Duolingo English Test (DET [3].

يتمحور التعلم حول اللعب باستخدام شخصيات ترافقك خلال هذه المسيرة، وهذا إيمانا بجعله تعلما مرحا، فبدل أن تلعب في شيء تافه يستحسن أن تلعب بشيء نافع، لكن هل هذه الشخصيات المستخدمة لا تحمل أي رموز مبطنة؟ هذا ما سنتناوله في المبحث الثاني بحول الله وقوته.

ثغرات وأخطاء تناقض تعاليم الإسلام

لعل المسلم هو أكثر شخص ينبغي أن يكون متيقظا لما حوله من المدخلات، خاصة أن الثقافة الغالبة تفرض نمطها على المسلمين، لذلك وجب علينا التنبيه على بعض ما تظهره هذه الشركة مما يخالف ثقافتنا الإسلامية.

قد يكون هدف الشركة مخالفا تماما لاستهداف الفئة المسلمة، ومن ثم تبقى هذه الثقافة دخيلة علينا وتحتاج منا إلى تنقيح وتجريد، لذلك سنحاول إن شاء الله ذكر بعض ما يخالف ما يؤمن به المسلمون فنتناول بعض الجمل التي تُطرح وهي مناقضة لثقافتنا الإسلامية، ونعرض لبعض الشخصيات المطروحة في التطبيق المتعارضة مع هذه الثقافة.

لا يمكننا القول بأن الجمل المختارة للتدريس ليست منتقاة بعناية خاصة أنه خلال العمل على التطبيق نرى أن أصحابه يؤكدون على أنه من رغم ظهور ديولنجو على شكل لعبة إلا أنه يعتمد على تقييمات عالمية فيما يتعلق بتعليم اللغة، لذلك فمن المستعبد القول أن الجمل تؤخذ هكذا عشواء دون التمحيص والبحث.[3]

ولو أنك بحثت في جوجل -باللغة الإنجليزية- عن عبارة “الجمل الغريبة في ديولنجو” ستجد المئات من الجمل لكن بعضها ليس كذلك، لذلك انتقينا ما يخالف ثقافتنا الإسلامية، وكذلك وقع الاختيار على بعض اللغات نظرا لأن هناك 28 لغة، فمن أراد التعرف على جميع المطروح يكون الأمر صعبا نوعا ما.

أول جملة تثير الانتباه هي “Nature is our mother.”[8] بمعنى أن الطبيعة أمنا، وهذا يناقض تماما منظورنا الإسلامي الذي يقول أن الله تعالى هو خالقنا. بل هذه العبارة معروفة في الأوساط العلموية حيث ينسبون كل شيء للطبيعة كأنها هي الإله والعياذ بالله.

خاصة أن كُتب الفكر الغربي تسمي ذلك العصر -أي القرن الثامن عشر- بـ”عصر تأليه الطبيعة أو عبادة الطبيعة، وليست هذه العبارات مجازاً، بل هي مستعملة على الحقيقة تماماً، فكل صفات الله التي عرفها الناس عن المسيحية نقلها فلاسفة الطبيعة إلى إلههم الجديد، مع فارق كبير بين الإلهين في نظرهم.”[9]

علاوة على ذلك يقول د. سفر الحوالي في موضع آخر: “والحق أن أوروبا بعد داروين، قد عبدت الشيطان بعد أن كانت تعبد المسيح، عبدته مرة عن طريق عبادة الطبيعة تلك الكلمة غير العلمية، فقد قال داروين: “الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق” وقال: “إن تفسير النشوء والارتقاء بتدخل الله، هو بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت” “[10] والكلام يطول حول الموضوع ومن أراد الاستزادة ما عليه إلا قراءة الكتب عن العلموية.

من أغرب الجمل المطروحة أيضا جملة: “Eltern besitzen ihre Kinder nicht.”[11] وتعني الآباء لا يملكون أبناءهم. قد تكون هذه الجملة صحيحة نوعا ما من ناحية الحقيقة أن لا أحد يملك أحدا على وجه الحقيقة، لكن لو نظرنا إلى سياق قولها في المجتمع الألماني مثلا وتعلمها كجملة يتبين لنا ما تخبئه، حينما نعرف أن الأطفال يُنتزعون من أسرهم خاصة الأسر المسلمة منهم. وكم من القصص التي تم عرضها على الأنترنت حيث يؤخذ الأبناء قصرا من آبائهم بحجة أنهم لا يملكونهم. مثلا ننصح القراء بالاطلاع على قصة خديجة مع أبيها الجزائري الذي انتزعت منه قسرا في فرنسا[12].

ولننتقل إلى جملة أخرى وهي “Ich trinke Bier.”[13] وهي أنا أشرب البيرة. كمسلم تعتبر هذه الجملة خاطئة تماما لكن ديولينجو يجعلها من أوائل ما يُتعلم. فكأن هذا ما تحتاج تعلمه في أي لغة كيفما كانت في بداية طلبك لهذه اللغة. وطريقة عرض هذا المعنى كثير، كقولهم I need more alcohols[14] وتعني أنا أحتاج إلى كحول أكثر، أو حينما يتحدثون عن الطفل الصغير بقولهم: the baby wants to drink beer. [14] أي أن الرضيع يرغب بشرب البيرة فهل حقا هذه الجمل تجعلك تتعلم اللغة أم أن لها مآرب أخرى؟

في خضم كل هذا يعلمونك أن تقول جملة مثل We are going on a vacation trip to Hell التي تترجم إلى: نحن ذاهبون في رحلة إجازة إلى الجحيم، فحينما يقرأ هذا مسلم ألا ينبغي عليه تذكر قول الله تعالى: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}] التوبة: 81 [فهل العطلة تقضى في الجحيم والعياذ بالله؟ هذه الجحيم التي يصفها ربنا تعالى بقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ. فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ. فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ. فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ. هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:51-56[. لذلك فعلى المسلم أن ينتبه لما يتم عرضه خلال هذا التطبيق.

وغيرها من الجمل التي نستحي من ذكرها في هذا الموطن[15] [14].  وأما وقد ذكرنا بعض الجمل فلننتقل إلى الشخصيات المكونة لهذه اللعبة.

الشخصيات المتعارضة مع قيمنا الإسلامية

لعل أهم ما يثير الانتباه في ديولونجو لكل مسلم يحرص على مدخلاته هو الصور التي تعرض بها الشخصيات فيه، فهي غريبة جدا عن العرض الطبيعي الفطري الذي ينبغي أن يكون.

ولنتعرف أولا على الشخصيات المتواجدة في التطبيق بأسمائهم مع بعض الوصف العام لمظهرهم، وهم كالآتي (ولمن أراد التعرف عليهم يكفي أن يشاهد الصورة الأولى، ثم الصورة الثانية هي تخيل للشخصيات من طرف أحد مستخدمي التطبيق):

  1. بِيَا وهي بنت سمراء ذات شعر طويل تلبس سترة صفراء وسروالا أزرق
  2. دُيو وهو عصفور أخضر
  3. أوسكار وهو رجل في الثلاثينات من عمره تقريبا، ذو شارب ويلبس قميصا ورديا وسروالا أخضر
  4. فيكرام، وهو رجل على ما يبدو هندي ذو لحية كثيفة يلبس قميصا بنفسجي وسروالا أزرق
  5. لوسي، وهي امرأة عجوز يظهر الشيب في رأسها، يظهر من عينيها كأنها من جهة آسيا الشرقية،
  6. جونيور، وهو لازال طفلا، يلبس سترة سماوية وسروالا أزرق
  7. زاري، وهي فتاة مسلمة على ما يبدو من غطاء رأسها، تلبس حجابا وسروالا ورديين، مع شعرات تخرج من حجابها.
  8. إيدي، وهو شاب في العشرينات من عمره، طويل الشعر يلبس ملابس رياضية بالأحمر،
  9. ليلي، وهي فتاة ذات شعر بنفسجي طويل، مع عينين مصبوغتين بالبنفسجي وملابس في نفس اللون،
  10. لين، وهي فتاة ذات تسريحة شعر غريبة، حيث إنها تحلق نصف جانب من الشعر وتترك الجهة الأخرى، تلبس معطفا وسروالا بنيين.
  11. وأخيرا دب بني.

من خلال مشاهدتنا لصورهم مجتمعين قد يشد اهتمامنا بعض الأمور. كالعادة ما دام التطبيق ليس من صنع مسلمين فليست الشخصيات على طبعها الإسلامي وهذا متوقع نظرا لأن صانعي هذا المحتوى ليسوا كذلك، لكن الغريب هذه المرة هو وجود تلك المحجبة التي معهم فهل هي حقا مسلمة؟ وتلك الفتاة ذات التسريحة الغريبة لماذا هي كذلك؟ لكن هل هذا فقط هو الغريب؟

صراحة لا، بل ديولينجو يرسم الشخصيات ليظهر لنا توجهاتها، ومن ثم فهناك بعض التساؤلات التي ينبغي أن نهتم بها ونعيد التفكير في مدخلاتنا تجاهها.

لنبدأ بـ(زاري) وهي التي تبين لنا من مظهرها لأول وهلة أنها مسلمة. لكن هذا ما يقرره الموقع نفسه على حسابه على التويتر، فسنة 2021 كتب الحساب الرسمي: “يوما عالميا سعيدا للمرأة المسلمة… في عالم ديولينجو (زاري) صنعت كشخصية إسلامية شاملة”[18] لكن هل حقا هي إسلامية كما ينبغي؟

أولا حجابها ليس حجابا شرعيا، فهو لا يستر معظم بدنها، كما أن الشعرات تخرج من رأسها، لذلك هو ليس حجابا كاملا للمرأة المسلمة. علاوة على ذلك فالمعروف في ديننا الحنيف أن ما يميز المرأة المسلمة هو الحياء فهل هذه الشخصية تظهر هذا الوصف؟ في الحقيقة لا تظهره أبدا بل هي من أكثر الشخصيات حركية بحيث أن حركاتها غريبة جدا، وللنظر لبعض ما يعرضه الموقع.

هذه زاري وهي فرحة بنتيجة حصولك على جواب صحيح، وهل هذه الوقفة تشبه ما ينبغي أن تكون عليه الفتاة المسلمة؟!

وفي صورة أخرى تظهر زاري وهي تحمل مصاصة بنفسجية كبيرة جدا، حيث إن عينيها تحملقان لها واللعاب يخرج من فمها، فهل هكذا ينبغي للمسلمة أن تكون يظهر فيها حب الأشياء المادية لهذه الدرجة؟!

وفي صورة ثالثة تظهر زاري وهي تلبس ملابس الفنون القتالية وهي تؤدي بعض الحركات الرياضية، فهل يا سادة المسلمة تلعب بكل جرأة هذه الرياضات أمام العلن وتفتخر بها؟ أين هو الحياء والحشمة؟

لننتقل الآن إلى “فيكرام”. الرجل الذي يظهر عليه أنه هندي. كان هذا من توقعاتنا الأولى لكن هل هناك ما يثبته؟

 في موقع خاص بديولنجو يقولون عنه “انطلاقا من اسمه، وهيئته… إنه يعني بشكل كبير أنه نباتي يتمتع بشخصية كاريزمية من أصل هندي ، ويدعم بشدة عائلته وأصدقائه ” [19]. إلى هنا قد يكون كل شيء على ما يرام إن تجاهلنا قضية أنه نباتي، لكن تعالوا إلى أن نرى صوره الأخرى التي يتم عرضها على التطبيق، وهي مجموعة هنا:

الرجل لا يرى إلا وهو يطبخ أو هو يسقي النباتات بطريقة أنثوية، ألا يذكركم هذا بانتكاس الأدوار الجندرية؟ فلماذا شركة ديولنجو اختارت رجلا ليقوم بهذه الأعمال النسوية ولماذا لم ترسم لها امرأة؟ هل يمكن اعتبار كل هذا الأمر بريئا خاصة أنه في الصورة التالية الخاصة بشخصية “لين” نرى حبها الولوع بدراجتها وهو ما يعرف غالبا عند الذكور وليس الإناث:

فلماذا لم يتم وضع فيكرام في هذه الصورة الأخيرة بدل بنت؟ ناهيك عن قَصَّتها الغريبة التي تدل على توجهاتها الذكورية المخالفة للفطرة.

أما عن إيدي فلماذا يطيلون له شعره، ألا يدل هذا على مظاهر أنثوية فيه؟ وأوسكار الرجل ذو الشارب الذي يلبس قميصا ورديا؟ لماذا بالضبط هذا اللون دون غيره، فهو نفس لون الذي تلبسه زاري؟

الخلاصة

لازال هناك العديد مما ينقد فيما يعرض في هذا التطبيق/الموقع لكن يكفي من القلادة ما يحيط العنق وننبه للقارئ الكريم أن خلاصة القول إنه عليه أن ينتبه لما يقرأه من جمل في هذا التطبيق وما يشاهده من المدخلات التي تأتيه من هنا أو من أي تطبيق على الأنترنت، فعليه أن يحللها ويرى هل توافق دينه وعقيدته؟


المصادر:

[1]         R. de León, “The education app that is making equals of Bill Gates and the world”s masses”, CNBC. https://www.cnbc.com/2020/11/19/the-education-app-making-equals-of-bill-gates-and-the-worlds-masses.html (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[2]         “When Duolingo was young: the early years”. https://vator.tv/news/2018-06-22-when-duolingo-was-young-the-early-years (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[3]         “Duolingo”, Wikipedia. ديسمبر 31, 2022. تاريخ الوصول: يناير 06, 2023. [مباشر على الإنترنت]. موجود في: https://en.wikipedia.org/w/index.php?title=Duolingo&oldid=1130637421#cite_note-TechCrunch_Article-11

[4]         M. G. Siegler, “Meet Duolingo, Google”s Next Acquisition Target; Learn A Language, Help The Web”, TechCrunch, أبريل 13, 2011. https://techcrunch.com/2011/04/12/duolingo/ (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[5]         “What made Luis Von Ahn start Duolingo?”, Quora. https://quorasessionwithluisvonahn.quora.com/What-made-Luis-Von-Ahn-start-Duolingo-1 (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[6]         “How we”ve improved the Duolingo learning experience this year (and a sneak peek toward 2020!)”, Duolingo Blog, ديسمبر 11, 2019. https://blog.duolingo.com/how-weve-improved-the-duolingo-learning-experience-this-year-and-a-sneak-peek-toward-2020/ (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[7]         “Apprends une langue gratuitement”, Duolingo. https://www.duolingo.com/learn (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[8]         “”Nature is our mother.” – Duolingo”. https://forum.duolingo.com/comment/13167737/Nature-is-our-mother (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[9]         “ص159 – كتاب العلمانية نشأتها وتطورها – ثانيا القرن الثامن عشر – المكتبة الشاملة”. https://shamela.ws/book/96612/152 (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[10]      “ص191 – كتاب العلمانية نشأتها وتطورها – آثار الداروينية – المكتبة الشاملة”. https://shamela.ws/book/96612/184 (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[11]      “”Eltern besitzen ihre Kinder nicht.” – Duolingo”. https://forum.duolingo.com/comment/26877984/Eltern-besitzen-ihre-Kinder-nicht (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[12]      مصطفى الشرقاوي, نداء عاجل جدًا🔴 #أنقذوا_خديجة في فرنسا. [مباشر على الإنترنت Video]. موجود في: https://t.me/ArabAffairsTV/12786

[13]      “”Ich trinke Bier.” – Duolingo”. https://forum.duolingo.com/comment/1311804/Ich-trinke-Bier (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[14]      L. Gillet, “Top 24 des phrases les plus étranges vues sur Duolingo, par @DuolingoStrange”, Topito, فبراير 06, 2022. https://www.topito.com/top-phrases-cheloues-duolingo (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[15]      “”Ist das Geschlecht wichtig?” – Duolingo”. https://forum.duolingo.com/comment/17731511/Ist-das-Geschlecht-wichtig (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[16]      RegulusWhiteDwarf, “For me, it”s the “Bea”utiful”, r/duolingomemes, نوفمبر 25, 2020. http://www.reddit.com/r/duolingomemes/comments/k0jnyv/for_me_its_the_beautiful/ (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[17]      “على تويتر Duolingo”, Twitter. https://twitter.com/duolingo/status/1319679484858085379 (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[18]      “Duolingo sur Twitter”, Twitter. https://twitter.com/duolingo/status/1375825734917357574 (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

[19]      “Vikram | Duolingo Wiki | Fandom”. https://duolingo.fandom.com/wiki/Vikram (تاريخ الوصول يناير 06, 2023).

البديل الشرعي وضعف الانقياد.. حول الأنمي من جديد

كنت مهتمًّا بقراءة رأي القراء الكرام لمعرفة رأيهم فيما كتبته في مقالي السابق عن الأنمي، وكنت أتفقد خصوصا تعليقات من يظهر من خلال صورته الشخصية أنه من المهووسين بالأنمي Otaku، فأعجبني في كثير منهم صراحتهم واعترافهم بمخاطره التي تتسلل إلى اللاوعي في حالة دفاع مكشوف من المشاهد، فيشاهد بهوس كبير دون رفع لسابغات النقد والتحليل لما يرمي المانجكا Mangaka -رسام المانجا الذي عادة ما يكون صاحب القصة- ترسيخه في المشاهد، وقد رأينا في المقال السابق إلى أي درجة يمكن للأنمي التأثير في حياة المهووسين به وفي تصوراتهم وهندامهم.. إلخ.

إلا أنني كنت أجد لوعة وأنا أقرأ بعض التعليقات التي يربط خرزات عقدها معنى واحد، جاء فيه الإقرار بهذه الأضرار التي قد تنجم عن مشاهدة الأنمي، مع الإلحاح على الإتيان بالبديل، وإلا فلا يحق النقد دون تقديم البدائل، يمكننا تصور هذا الكلام بصورة أخرى نتخيلها وهي أنه لا يحق لك التنبيه على المخاطر البيئية الناجمة عن انبعاثات المصنع إذا لم تكن تقدر على الإتيان بشيء بديل في دلالة ضمنية عن الحاجة لأنمي محلّي أو إسلامي، ويكأن الإتيان بالبدائل أصبح من لوازم النقد!

مهلاً.. لنفكك هذه العقدة!

إن العلم والإقرار بمخاطر شيء لا يسوغ أن يرضى الإنسان بالبقاء أسيرا فيه بحجة عدم إيجاد البديل، إذ تقرر في ديننا أنّ العلم يقتضي العمل، وأنّ العمل المنتظر هو تغيير إيجابي في السلوك، أي أنه تغيير نحو الأفضل، فلا بد من استثمار العلم في الرقي الإيماني والأخلاقي والمدني كذلك.. هذا الذي يجب أن يكون عليه الأمر، أما الواقع فأمر آخر تماما..

ذلك أن الرقي نحو الأفضل والذي يمكن أن نُطلق عليه كلمة الاهتداء، ليس لازما من لوازم العلم أبدًا، أي أنك لن تجد في المُحصِّلة دوما أن العلم يقود للأفضل دومًا، بل في الغالب يقود للأسوأ إذا لم ينضبط بضوابط إلهية حاسمة؛ إذ إن الطبيعة البشرية الخاصة لا يمكن توقع مخرجاتها ونتائجها بعد تلقيها العلم النافع،  فالإرادة الحرة للإنسان تجعله يلج مفاسد يعلم أنها ممنوعة كما يجتنب بملء إرادته مصالح يعلم أنّها مطلوبة، وهذا من أخطر ما يمكن أن يقع فيه الإنسان وهو عين ما شنّعه ربنا في وصفه لصنيع الرجل الذي علم وعمل بنقيض عمله وانسلخ من علمه وخلعه خلع المعطف الذي ينبذه غير المكترث أرضا ثم يمضي، فقال سبحانه: ﴿وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذي آتَيناهُ آياتِنا فَانسَلَخَ مِنها فَأَتبَعَهُ الشَّيطانُ فَكانَ مِنَ الغاوينَ﴾ [الأعراف: ١٧٥].

وتثبيتنا للحقيقة السابقة، لا يُفهم منه بطبيعة الحال الخروج بحكم شرعي عام حول الأنمي بقولي إنه حرام مثلا، فهذا مما يتورع عن الخروج به فحول العلماء الذين يخشون التقوُّل والكذب عن الله سبحانه، فالحكم الشرعي في قضايا النوازل بمثابة التوقيع عن الله سبحانه، إلا أنّ ما سبق تأكيدٌ لعدم سلامة الأنمي في الجملة من المخالفات الشرعية متفق على تحريمها، وأقرب مثال على ذلك الإباحية وتعمد إقحامها في أنميات الشونن-Shōnen التي تستهدف الأطفال ما بين 14 إلى 18 سنة والتي يكون مدارها على الأكشن والمغامرات والقتال.

لا يغيبنّ عن عقلك.. ثمة مقدمة مغلوطة

يرى البعض أن الشرع كلما حرم شيئا يلزمه تقديم بديل عنه؟ فهل نُسلِّم بهذه المقدمة أصلا؟

هذه المقدمة لا يُسلّم لقائلها بها لأن الدليل العقلي يفرض على الإنسان المؤمن بالله واجب الوجود، الإله المطلق، خالق الكون، الذي تواصل مع البشر عن طريق الأنبياء لتبليغهم المقصد من خلقهم، وتبليغهم ما يريده منهم، يوصل الإنسان إلى نتيجة مفادها أنه مفتقر للمطلق عاجز أمامه في حاجة دائمة له، وهذه الحقيقة البرهانية ليست إلا تأكيدا لشعور فطري كان يجده الإنسان في نفسه قبل دخوله غمار البرهان الفلسفي على وجود الخالق.

وكون هذا الإنسان مفتقرا للمطلق يحيل إلى لزوم طاعته والاستسلام والانقياد والتسليم له من منطلق الإيمان بالعلم المطلق والحكمة المطلقة لخالق الوجود، دون الحفر في علل وأسباب تشريع خالق الوجود للأحكام الشرعية حتى لا يضعف الانقياد له بالتعلق بالأسباب الذي يؤدي عند الكثيرين إلى الاستهانة بأمر الحكم الشرعي.

ولا ينبغي أن يكون البحث في علل الأحكام إلا في إطار ما يخدم الانقياد وتحقيق المقصد من الحكم الإلهي وهذا يدخل فيما يُعرف بعلم مقاصد الشريعة الإسلامية.. كما أن مطالبة الشارع بالبديل عند كل حكم لم يُعجب المتلقي البشري الممتَحن في هذه الدنيا بامتحان الانقياد والتسليم لله، يجعل المتلقي هنا غير منقاد لأمر الله سبحانه، مع كون التسليم والانقياد هما مدار دين الإسلام المشتق من التسليم.

كما أنّ دليل الشرع يدل أنّ الإنسان لا يملك حرية تغيير الحكم الشرعي في فعل ما يريد عندما يَرِد الحكم الشرعي القطعي، وإلا كان عابدا لهواه متبعا لرغباته ونزواته الشخصية مسلِّما لها من دون الله، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَما كانَ لِمُؤمِنٍ وَلا مُؤمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسولُهُ أَمرًا أَن يَكونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالًا مُبينًا﴾ [الأحزاب: ٣٦].

كما يتجلى التسليم في أعلى درجات الكمال عند سيدنا إبراهيم في طاعته لأمر الله تعالى له بذبح ابنه رغم دواعي عدم التسليم التي لو توفرت لغيره لترك الانقياد:

الداعي الأول: أن هذا الأمر جاء بصورة من صور الوحي أقل وضوحا من غيرها وهي الرؤيا، فصور الوحي متعددة منها مخاطبة الله تعالى لأنبياه، ومنها مخاطبة الملَك للنبي بصورته الملائِكية، وكذلك مخاطبة الملَك للنبي بصورة بشرية يراه وحده أو يراه معه الناس، ومنها أيضا الدخول في حالة وحي داخلية تبدأ بسماع صلصلة جرس وتنتهي بفتح النبي لعينيه وهو في حالة وعي كامل وقد كانت هذه الحالة هي أشد صورة من صور الوحي على رسول الله ، و حالة أخرى يجد فيها النبي علما بشيء في نفسه لم يكن يعلمه من قبل بعد نفث جبريل في روعه، وكل صور الوحي السابقة واضحة في ما جاءت من أجله لا تحتاج معها إلا مؤكدٍ آخر، أما الرؤيا وهي صورة أخرى من صور الوحي عند الأنبياء وهي وحي لا أضغاث فيه، فلا يخفى على من قارن صور الوحي هذه أن الخطاب الإلهي يكون مباشرا أكثر في الصور التي قبل الرؤيا، إلا أن كمال تسليم إبراهيم عليه السلام لأمر ربه جعله لا ينثني عن الانقياد.

الداعي الثاني: أن إبراهيم عليه السلام بلغ معه ابنه السعي، أي وصل العمر الذي يعمل مع أبيه فيه ويقضي له حوائجه، مما يزيد الأب تعلقا بابنه، ولم يثن ذلك إبراهيم عن الانقياد لأمر ربه.

الداعي الثالث: الأسئلة التي سرعان ما تزدحم على ذهن خفيف التسليم من قبيل ما الذي سيستفيده الخالق من ذبح صبي صغير؟ أين الرحمة الإلهية؟ أين الحكمة؟ أين العدل؟ أين أين..؟

كما أن أمرا آخر يتعلق بواقع الأحكام الشرعية، فالمتأمل فيه لا يجد أن الحكم الشرعي إذا جاء بصيغة التحريم فإنه يكون ملتصقا بالبدائل فلا يصح القول إن الإتيان بالبدائل في المحرّمات واجب محتّم، وإلا فمن يقول مثلا بأن عصير البرتقال بديل عن الخمر المحرم؟

هل الشرع الإلهي يفتقر إلى البدائل؟

وضح الله تعالى لعباده أنّ من مقاصد الشريعة الإسلامية، مقصد رفع الحرج فقال سبحانه وتعالى: ﴿ما يُريدُ اللَّهُ لِيَجعَلَ عَلَيكُم مِن حَرَجٍ﴾ [المائدة: ٦] وقد ورد بيان هذا المقصد في الآية نفسها التي ذكر فيها ﴿وَإِن كُنتُم مَرضى أَو عَلى سَفَرٍ أَو جاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الغائِطِ أَو لامَستُمُ النِّساءَ فَلَم تَجِدوا ماءً فَتَيَمَّموا صَعيدًا طَيِّبًا فَامسَحوا بِوُجوهِكُم وَأَيديكُم مِنهُ ما يُريدُ اللَّهُ لِيَجعَلَ عَلَيكُم مِن حَرَجٍ وَلكِن يُريدُ لِيُطَهِّرَكُم وَلِيُتِمَّ نِعمَتَهُ عَلَيكُم لَعَلَّكُم تَشكُرونَ﴾ [المائدة: ٦].

والمقصود باختصار أنّ التيمم بديل ورخصة عن الوضوء -على رأي من يقول بأنه رخصة- في حال انعدم الماء حقيقة أو حكما أو لعذر المرض وغيرها من الأعذار التي يجدها طالبها في مظانها من كتب الفقه الإسلامي.

وكثيرا ما تأتي البدائل في الإسلام عن العبادات التي تعذر تحققها، ويشار إلى هذه البدائل في الاصطلاح الأصولي بالرُّخص، بينما يشار إلى الحكم الأصلي بالعزيمة، فقضاء الصوم رخصة لمن عجز عن الصيام لعذر مرض أو سفر وهلم جرا..

إذن ففقه البدائل أمر حاضر في الشرع الإسلامي بلا شك، وفي أبواب واسعة من أبواب العبادات، وهذا ما يفسر النَّفَسَ الفقهي الرُّخَصِي -إن صح التعبير- عند علماء الإسلام الذين يبحثون عن الرخص للمستَفْتِين السائلين عن حكم الشريعة بُغية التيسير عليهم سيرا على هدي النبي وعملا بأمره بالتيسير على الناس.

هل يلزم الشرع الإتيان بالبدائل في أمور الترفيه؟

قد تتدخل الشريعة ببديل مباح في أمور الترفيه إذا كان فيها ما يُستنكر، إلا أنه لا يلزمها الإتيان دائما بالبدائل المسموح بها شرعا لكون باب الترفيه من الأبواب الواسعة والمتجددة في الزمان والمكان، فهو مجال واسع للإبداع البشري لم يقيده الشرع إذا كان في إطار المباح.

كما أن الترفيه أصلا ليس من القضايا التي جاء الأنبياء ليشغلوا أنفسهم بها بدل نشر التوحيد في الآفاق، وتعريف الناس بخالقهم، وإصلاح الفساد المنتشر في أزمنتهم، والتعليم والتزكية، وإقامة الحجة على الناس بالتبشير بالجنة والإنذار من النار..

إن الترفيه إذن من أمور الدنيا المباحة ما دامت تحترم الضوابط الشرعية، والشرع لا يقيدها إلا إذا بدى له فيها قفز إلى جهة الممنوع شرعا، وقد قال رسول الله ﷺ في قصة تأبير النخل أنتم أعلم بأمور دنياكم.. وما أحلى الترفيه إذا كان يخدم قضايا الأمة الإسلامية، وينطلق من ثوابتها وأصولها باعتبارها ركائز يبنى عليها الترفيه.

إن مركزية الترفيه في حياة الناس اليوم، جعلت الكثير من أصحاب المشاريع الكولونيالية والليبرالية والجندرية وحركة العصر الجديد وغيرها يستثمرون في منصات الترفيه العالمية لإنتاج أفلام وأنميات تخدم تلك المشاريع، فهوليود مثلا كانت داعمة للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين، حيث صدرت عشرات من الأفلام التي تكرس الهجرة إلى أرض الميعاد في العشرينات والثلاثينات، كما حملت على عاتقها مهمة الترويج المجاني لنشوء هذه الدولة وإظهارها في صورة الحمل الوديع المحاط بقطيع من الذئاب، أثناء الإعلان عن قيام دولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين عام 1948، ثم تتكثف جهود هوليود لدعم إسرائيل مع اندلاع حرب 1967، ويعطي أحمد دعدوش  في كتابه ضريبة هوليود أمثلة عن أفلام أنتجتها هوليود تخدم هذا الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، كما يبيِّن إلى أي درجة خدم اليهود قضيتهم من خلال ما يُشاهده الناس على أنه ترفيه، وإلى أي درجة خان البعض قضيتهم من أجل النجومية والظهور في فلم من أفلام هوليود ولو تطلب الأمر الإساءة إلى دين وهوية وثقافة الشعوب التي ينتمي إليها..

فلم لا تكون ممن يسعى ليأتي بالبديل في سبيل خدمة قضايا أمته، بدلا من محاولة كبح أي صوت ناقد ومنبه.

المؤثرون المسلمون والمنابر الإلكترونية.. مُعترك العصر

مع دخول عصر “وسائل التواصل الاجتماعي”، واكتساحه العالَم أجمع؛ بدأت الكثير من معالم الدعوة الإسلامية، وحركات الوعي الإسلاميّ تتغيَّر؛ تأثُّرًا بهذا العصر التواصلي وتماهيًا مع آليَّاته التي فرضها فرضًا على الكافَّة. ومن هذه التمظهُرات التي استجدَّتْ هذه الظاهرة التي سأعرض لها هنا، وسمَّيتها بالمنابر الإلكترونية، أقصد بذلك الإشارة إلى المنبر الحقيقيّ في المسجد.

ما هي ظاهرة المنابر الإلكترونية؟

أقصد هنا بظاهرة المنابر الإلكترونية تلك النشاطات الإسلامية من الحسابات والقنوات التي ظهرت بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعيّ؛ سواءً الدعوية أو الثقافية أو العلمية. ولا أقصد بالمنابر الإلكترونيَّة الحسابات والقنوات العامة (كحسابات الأزهر، والهيئات الشرعية المعروفة) التي تتبع المؤسسات، فهذا أمر طبيعيّ لا يدخل في نطاق الحديث هنا؛ لسبب واضح: أنَّ هذه الحسابات والقنوات العامة هي انتقال من مظهر النشر الورقيّ والتلفازي إلى مظهر إلكترونيّ، أيْ أنها ليست نشاطات جديدة، بل أحدثت نقلة في وسيط النشر فحسب.

على خلاف ما قصدته بالمنابر الإلكترونية؛ التي هي منصات الأفراد بأعيانهم والمؤسسات الصغيرة أو متناهية الصغر التي يمكن تصنيفها تحت قائمة النشاط الفرديّ لا الجماعيّ. وهي نشاطات ما كانت موجودة من قبل، بل هي الوافدة الجديدة على مُعطيات الثقافة الإسلامية المعاصرة، تلتزم وتستوطن وسائل التواصل الاجتماعي (التي هي نفسها مواقع بالغة الضخامة كفيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، وانستجرام، وتيليجرام، سناب شات، وغيرها).

وتشمل هذه المنابر فئات مُتباينة. أهمها:

● المُؤثِّرون المسلمون: وهؤلاء أشخاص من المشاهير في النشاط الإسلاميّ، قد اختاروا التقليد لظاهرة المُؤثِّرون (influencers) على وسائل التواصل الاجتماعي. وهؤلاء الأخيرون الأكثر انجرافًا وراء تلك النشاطات التي نراها على الفضاء العام، والتي في غالبها مباينة للفكرة الإسلامية، وللقيم الإسلامية، وأقرب ما تكون -بل هي بالفعل- تستنسخ ظاهرة “المُؤثِّرون” في الغرب، وتتبع منهجيَّتهم القِيَميَّة. ثم أتت هذه الطائفة من الناشطين في العمل الإسلامي، واتبعت طريق المؤثرين -الذين تأثروا بالغرب كما سبق-، وصاروا يفعلون أفعالًا تلتزم حدَّ الشُّهرة والظهور؛ فيهتمون بلباسهم ومظهرهم العام، ومكان التصوير -إن كان تصويرًا-، وينشرون الكثير من الصور والتفاعلات المظهرية فحسب. فإذا وصفتهم على وجه الحقيقة فوصفهم أنهم “نجوم مجتمع”، لا ناشطون في العمل الإسلامي. ومن هذه الفئة مَن كان نشيطًا قبل دخول عصر التواصل الاجتماعي، فغيَّر الوسيط الواقعيّ إلى الوسيط الإلكترونيّ وحسب، ومنهم من نجح في استغلال معطيات هذا العصر للظهور من حال العدم. وهُم -بين فئات ظاهرة المنابر الإلكترونية- الأقل عُمقًا، والأزهد في مجال النفع الحقيقيّ، وإنْ كانوا الأعلى صوتًا، والأكثر من حيث أعداد المتابعين.

● المنابر الشخصيَّة: وهؤلاء أشخاص بأعيانهم، يخروجون على الجمهور من حسابات شخصيَّة (صفحات أصلية أو حسابات عامة بأسمائهم)؛ تحمل اسمهم الحقيقيّ أو اسمًا تعبيريًّا أو لقبًا. وهم الأكثر جديَّةً، بل هُم الجادُّون، المُريدون النفع، وليست إرادة النفع أو الجديَّة تعنيانِ الانضباط أو الصحَّة؛ فهذا شيء، وذاك آخر. وكأنهم بالفعل على حالتهم هذه؛ قد أسَّس كلٌّ منهم منبرًا (كالمنبر الحقيقيّ في المساجد)، وأخذ يخاطب الجمهور من خلاله. وبعض هؤلاء يهتمون بالدعوة بشكل صريح، وبعضهم يهتم بالعلوم الإسلامية على اختلافها وتنوعها، وبعضهم يركز على منظومة علمية بعينها (كالتاريخ مثلًا أو الفقه أو العقيدة)، وبعضهم يزاول بين جميع ألوان الثقافة الإسلامية.

● المنابر الصغيرة ومُتناهية الصغر: وهذه تشبه السابقة، لكنها تتمظهر في مظهر الجهة أو الجماعة أو الطائفة؛ لا مظهر الشخص كسابقتها. مثل: منبر أهل السُّنَّة، عشق الكُتُب، شئون الإسلام (هذه الأسماء ليست على وجه الحقيقة، بل على وجه المُشابهة لنمط الأسماء فحسب)، وشيء من هذا القبيل. وقد يكون المسئول عنها واحدًا أو أكثر يباشرون نشاط منبرهم.

أهمية ظاهرة المنابر الإلكترونية

قد يبدو للقارئ أن هذه الظاهرة شأن طبيعي، وأمر هيِّن. وفي الحقيقة فإن لهذه الظاهرة أهمية عظمى في الوضع التوعويّ الإسلاميّ الحاليّ. وتكتسب أهميتها في عنصر “مُباشرتها للجمهور العام”. فهذه الفئات من المؤثرين المسلمين صارت هي التي تباشر المسلم المعاصر -وغير المسلم- في يومه وليلته، صارت هي وسيلته لرؤية الأمور، ونقل الأحداث، وهي أسرع المُشكِّلات لوعيه تجاه ما يجري. وما ذلك إلا لأنها أوَّل ما يلجأ إليه، وما تُسارع عينه إلى إبصاره. كما أنها مُصاحبة له، مُلازمة موجودة في الوقت الذي يختاره هو أن يراها. كما أن جميع القضايا تُطرح عليها، بما في ذلك القضايا التي لا يصح طرحها على المنابر الحقيقيَّة -لحرج سياسي أو اجتماعي أو غيره-، ويشارك فيها الجميع؛ مما يجعلها وكأنها مؤتمر دائم الانعقاد، به حرية أن تطرح، وأن ترد على طرح الغير. ولعلَّ هذا يشير إلى افتقار الواقع الحقيقيّ إلى المُمارسة الفاعلة التي لا يجدها المُشارك إلا على الفضاء!

ومن طغيان هذه الظاهرة أنْ صارتْ مَطمَع الجميع؛ حتى أصحاب المنابر الواقعية صاروا يطمعون في الحصول على نصيب في العالم الافتراضيّ؛ فلا يكتفون بمكانهم في الدرس العلمي، أو النشاط العلمي الواقعي، أو البرنامج التلفازي؛ بل يزاحمون السابقين عليهم إلى مواقع التواصل، ينشئون حسابات وقنوات؛ ليظهروا فوق ظهورهم الواقعي الأساس. وما ذلك إلا لما رأوه من التأثير البالغ لهذه الظاهرة في الجمهور، لدرجة هوَّنتْ أمامهم مُشاركتهم الأساس التي يؤدونها.

أسباب انتشار ظاهرة المنابر الإلكترونية

تتعدد الأسباب العامة والخاصة في انتشار هذه الظاهرة. ويمكن أن أجمل الأسباب -بغضّ النظر عن تصنيفها- في الآتي:

● فرضٌ فرضَه العصر الإلكترونيّ المُعاش الآن؛ وهذا التغيُّر الذي يُسميه البعض حكم العصر حدث ويحدث وسيحدث، فهو ليس بالأمر الجديد، يجري على الأحياء فيُحيل سلوكهم.

الاستبداد المفروض على الواقع الدَّعَويّ، أو الدعوة في أرض الواقع. من تضييق على الخُطُب والدروس في المساجد، والحد من الأنشطة الدَّعويَّة في محافل المجتمع، والتضييق على دور النشر التي تنشر المؤلفات الإسلامية -خاصةً المتعلقة بالوعي الجمعي الإسلامي، وقضايا الأمة-. كل هذه الوسائل وغيرها؛ أدَّى التضييق عليها إلى الرغبة في إيجاد ساحة أخرى للدعوة والثقافة الإسلامية.

● التضييقُ في الإعلام التلفازيّ والفضائيّ في نقل الأخبار، والانتقائيةُ في هذا النقل؛ بما في ذلك التضييق على أخبار المسلمين في العالَم لمصالح سياسية مُؤقتة، أو التضييق في نقل بعض الأخبار التي لا تدعم الرؤية العامة للذين يتولون أمر الإعلام التلفازي والفضائي.

● محدوديَّة الأماكن الحقيقية الواقعية في الدعوة والعلم. فكم من شخص لم يستطع اللحاق بأي من هذه الفرص الواقعية في مجالي الدعوة والعلم! فلم يجد أمامه إلا اللجوء لهذا الواقع الافتراضي، والمنصات الإلكترونيَّة. وكم من شخص سُرقت فرصته في الواقع؛ فهرب إلى العالم الافتراضي يشق طريقًا!

● تلبية الرغبات الشخصية لأصحاب هذه المنصات؛ فمنهم من هو حماسيٌّ يغار على دينه وأحوال أمته؛ فيُدشِّن هذا النشاط الذي يستطيعه، ثم يستطيع من خلاله أن يجذب المتابعين ويكبر؛ ليصير منبرًا إلكترونيًّا ضخمًا. ومنهم من يريد الظهور بين الناس لهدف الظهور نفسه، وجلب أكبر عدد من التفاعُل. ومنهم الصادق في علمه ودعوته الممتلك لأدواته الذي يريد النفع العام لا يعبأ بزيادة التفاعل ولا نقصانه، إنما يعبأ بتصدير ما يريد.

إسهامات الدعاة والعلماء والناشطين المسلمين من أهل المَهجَر؛ فهناك آلاف منهم يقطنون أراضي الحضارة الغربية، وغيرها. هؤلاء -بحُكم الضرورة- لا يجدون متنفسًا للإسهام في العمل والحراك الإسلامي؛ وبحُكم الضرورة لا يجدون سوى هذه المنابر الإلكترونية للشخوص من خلالها، وأداء أدوارهم التي يريدون أداءها.

● مَورد للكسب، ونشاط ذو ربح. وهو هنا لا يختلف عن اكتساب الرزق من وسائل التواصل في الوسط العام. ويكون الكسب عن طريق المشاهدات، والإعلانات، والشراكات، والدعايات للكتب ومراجعاتها من دُور النشر أو الكُتَّاب أنفسهم، أو لجهات معينة يكونون لسانًا ناطقًا لها، أو يشيرون إليها ليثق الجمهور فيها. والكثير من موارد الكسب الأخرى.

إيجابيات ظاهرة المنابر الإلكترونية

● سدَّتْ فراغًا ناقصًا من العمل المؤسسي؛ فجهود الأزهر والجهات الرسمية المماثلة له في بقية العالم محدودة رغم اتساعها، وستظل محدودة مهما اتسعت؛ لأن القاعدة الجماهيرية أوسع وأضخم. فجاءت هذه الظاهرة من المنابر الإسلامية الجزئية الفردية لتسدَّ نقصًا في الجسد التوعوي الإسلامي؛ ما كانت لتسده غيرها. وليس على سبيل كَمّ الدُّعاة فحسب؛ بل على سبيل الكيفيَّة الزمانيَّة والمكانيَّة أيضًا. فالدروس والخطب لها مواعيد يحضرها المستطيع في أوانها، والبعض منها كان يُسجَّل على شرائط. أما الآن فالدرس أو التدوينة أو الخطبة أو…، بات ميعادها متى فتح الواحد من الجمهور التطبيق الذي يريد، دون تقيُّد؛ فصارت هي التي تنتظر الجمهور، لا الجمهور ينتظرها. ولا شكَّ أن هذا سدَّ نقصًا شديدًا في نطاقه.

● احتوت قدرات القادرين والمُقدِمِين على تقديم هذه الأعمال. فالله قد وهب الكثير العلم والدعوة وطريقة الإرشاد، لكنَّ كثيرًا لم يكن يجد الفرصة السانحة لهذا. ولعلَّ هذه من أعظم إيجابيات هذه المنابر الإلكترونية.

● بثَّتْ رُوحًا جديدة في الجسد الدعويّ والثقافيّ الإسلاميّ. ومع كل عصر به الجديد، يحاول المسلمون المخلصون أن يواكبوا هذا العصر، ويُقولِبوا مادتهم في القالب الجديد.

● وازنَتْ كفَّة الممارسات قليلة الأهمية التي تملأ هذه المواقع التواصليَّة. وما زال هذا الميدان به الكثير من الفُرص؛ فكَمُّ المحتوى التافه -بل الساقط الهازل الهادم- أضخم من أي محتوى هادف سليم مُحترِم للإنسان وعقله. هذا الوضع في العالم كله، ليس خاصًّا بالعالَم الإسلامي.

● وسَّعت التضييق الذي أصاب الدعاة الواقعيين في الممارسة الواقعية. وبذلك فتحت طاقة أمل للدعاة وللجمهور في استمرار هذه الممارسات الدعوية رغم التضييق.

● ساهمت بنشر المعرفة عن العلوم والكتب، وعن قضايا الأمة، وماضيها وحاضرها، ونبهت على قضايا المستقبل.

سلبيات ظاهرة المنابر الإلكترونية

● تعاظُم دور الجمهور بشكل غير مسبوق. في السابق كان الكاتب بينه وبين الجمهور ستار؛ لأنه يكتب وحده في مكتبه، ليس أمامه إلا الورقة والقلم. وصحيح أن الكاتب ذا الشعبيَّة كان يخشى جمهوره، وردَّة فعله، فيصير الجمهور قيدًا عليه؛ حيث أراد المكانة والمكان. لكن الموقف الآن غير الموقف في الماضي؛ فلا حائل بين مَن يكتب وبين جمهوره. وقد كان الداعي يلقي الخطبة؛ فتَحُولُ بينه وبين الجمهور هيبةُ الموقف وهيبة المكان (في الغالب المسجد)؛ أما الآن قد صار هذا سرابًا، وصار الجانبانِ كأنهما يقفانِ مُتقابلينِ، وبينهما زجاج الشاشة المُضيء.

وهنا نصل إلى حال من حالات السلطوية المتبادلة بين المُؤثِّر وصاحب المنبر (الذي يملك حق التعبير الأول، وتشكيل المواقف بما يقوله للجمهور)، وبين الجمهور (الذي يمتلك حق الردَّ؛ الذي قد يكون هادئًا، وقد يكون عنيفًا؛ وقد يكون عقلانيًّا، وقد يكون هوجائيًّا؛ وقد يكون مُهذَّبًا، وقد يكون غير مُهذب). فإنْ كان الجمهور عبئًا بعيدًا في الماضي؛ فقد صار عبئًا قريبًا في الحاضر، وإن كان الجمهور أقصى ما كان يفعله أن يرسل للجريدة خطابًا به تعليق على المقال أو المكتوب؛ فقد صار أمام الكاتب أو المُدوِّن يرجمه بالحجارة متى شاء بالحق أو بالباطل. ولعلَّ هذا يفرض على الكاتب أو المُدوِّن أن يقول للجمهور ما يريد، لا يما يجب عليه أن يقول؛ مخافة ردَّة فعل، أو خسران أتباع. ولعل هذا العنصر يشكِّل طورًا جديدًا من أطوار في المشهد التوعويّ الإسلاميّ.

● تفتيت المشهد الإسلاميّ: فبعد أن كانت المركزية هي الأصل والأساس في العمل الثقافي والمعرفي والدعوي الإسلامي؛ صارت اللامركزية هي المسيطرة على المشهد. كان الأزهر مأذنة واحدة تُعلِّم الناس وتدعوهم، ثم صار هناك ألف أزهر وأزهر. وعالم التواصل الإلكتروني واسع أشدّ الاتساع؛ واسع إلى الحد الذي قد يكون لدى المنبر ملايين المتابعين وليس معروفًا خارج دائرتهم، وفي كثير من الأحيان داخل دائرتهم (حيث تكون مجرد متابعة جوفاء بلا إرادة في المتابعة الحقيقية). وقديمًا كان العالم أو الداعية يظهر على التلفاز فيعرفه أكثر الناس؛ بسبب “مركزيَّة مَنصَّة التلقي”. أما الآن فتفتت المشهد بشدة، وصرنا كأننا في جزر منعزلة، كل مجموعة من القوم لهم داعيهم الخاص.

● الفوضى المعرفية، وأن كل شخص يعمل بغضِّ النظر عن مؤهله (أقصد هنا مُؤهِّله العلمي الحقيقيّ لا مجرد الشهادة؛ فكثير من أصحاب الاختصاص لم يغنِ عنهم اختصاصُهم شيئًا)، كما أن كلَّ مُؤثِّر ومنبر يعمل ولا رقيب عليه، فالجمهور ليس رقيبًا؛ بل السلطة هي التي تقوم بدور الرقيب، ولا مُصحِّح له، فالجمهور ليس جهة تصحيح، بل الخبير هو جهة التصحيح. ومن مظاهر الفوضى هي حالة الشعبيَّة (الشعبويَّة) في تقديم العلم وفي تلقيه؛ التي تنشأ عن هذه الظاهرة.

● المعرفة الجزئية المُشخصَنَة؛ حيث يقدم كل صاحب قناة أو حساب العلمَ أو الفكرَ حسب منظوره هو. وليس منظور الشخص في كل الأحيان صحيحًا؛ فتتسرَّب من خلال هذه المُمارسات العلمية والدعوية علومٌ مبتورةٌ جزئيةٌ مطبوعةٌ بطابع الشخص المُقدِّم. وهذه النوعية من المعرفة ليست بالضرورة ضارَّة، لكنَّ ضررها الحقيقيّ أنها لا تراعي تقديم المنظور الأشمل الذي به تكون المعرفة الصحيحة “الكاملة”، وبه يكون الفكر “الهادئ” المتزن الذي لا ينظر للآخرين (وهؤلاء الآخرون ليسوا الأعداء؛ إنما هُم منَّا، لكنهم مخالفون لصاحب المنبر فحسب) على أنهم مختلون عقلًا ونفسًا، أو أنهم أعداء للدين خائنون له، أو.. أو… دون تحقق وتدبر. وفي الغالب نقف للتحقيق؛ فنجد أنهم مخالفون لصاحب المنبر شخصيًّا أو فكريًّا، لا أعداء كما وجَّه، ولا مُرتابين كما شكَّك.

● الممارسات الشاغلة للمسلم عن هدفه الحقيقي؛ مثل صناعة “المعارك الوهمية” بين بعض أصحاب المنابر بعضهم بعضًا. ويهوِّل كل واحد منهم في الأمر، ويُعلي أصوات الصراخ حتى يظنّ المُتلقي أنها معركة حقيقية يجب أن يلتفت إليها. ومثل الاهتمام بمواد تافهة (كتب، أو موضوعات، أو غيرهما) لا تستحق الاهتمام، بل صناعة حالة من “النجوميَّة” لها. وكل هذا بسبب غياب الرقيب والخبير عن هذه النشاطات.

بعض التقويمات لظاهرة المنابر الإلكترونية

يُرى صاحب المنبر الإلكتروني قدوةً في تصرفاته؛ لا في أقواله فقط. فهو مَن عرَّض نفسه لهذه الحال من الاقتداء؛ حينما قرَّر توجيه الخطاب الإسلامي للكافَّة. وهذا التوجيه قوَّم حاله؛ فلم تعد حالًا عموميَّة، بل صارت على نمطٍ وذاتَ هيئةٍ. وعلى فهم هذه المقدمة؛ يجب على صاحب المنبر أن يراعي هذه الحالة الاقتدائية في كل ما يوجهه للكافة.

● عدم الاغترار بالإعجابات والتفاعلات. وهنا يجب العلم أن فتنةً من أعظم الفتن للإنسان هو التعرُّض للإعجاب من الناس، وكم من رجل وَرِع تقيّ هلك إثر هذه الفتنة! وبالقطع كذا فتنة تحول النشاط إلى نشاط تجاري. بل يجب أن يكون الهدف أمامهم واضحًا. فهُم لا يعبدون الإعجابات، ولا يُقدسون الأموال، ولا يسجدون أمام الشهرة. بل هُم عباد لله وحده لا شريك له. وإذا كانوا على غير هذه الحال المستقيمة؛ فإن الناس تنظر إليهم على هذه الحال المستقيمة؛ فعليهم ألا يخونوا هذه الأمانة (فإن هذه النظرة بالثقة أمانة في عُرف الشارع، وأداؤها أداء للأمانة).

تحرِّي ما يُصدَّر للجمهور، والتأكد منه قبل عرضه على الناس؛ بالرجوع إلى المصادر الموثوقة، وسؤال أهل العلم والخبرة، بل الأَوْلَى إنشاء جهة صغيرة من شخص أو أكثر لتكون جهة استشارة وإرشاد؛ فيخرج العمل جديرًا بالعرض أمام الجمهور. وليعلمْ صاحب المنبر أن المحتوى الخاطئ سيُسأل عنه أمام الله، ولا سبيل لدفع السؤال بالجهالة (أيْ بأن صاحب المنبر جَهِلَ خطأ هذا الأمر).

الاهتمام باللغة الفصحى والالتزام بها. ولأصحاب المنابر هنا دور ضخم، أضخم من أية جهة أخرى. حيث هم الملاصقون للناس، المُباشرون لهم في ليلهم ونهارهم، والفرصة على يديهم في تنمية رقعة استخدام الفصحى أكبر من أية فرصة أخرى. فهي أكبر من فرصة حفظ الطالب واضطراره لأداء امتحان ما؛ فهنا حياة حقيقية، وحالة متحركة مُشكِّلة للغة الجمهور. وهذا من أوجب الواجبات عليهم.

الإسلام والنشء الجديد.. عناية لا تنضب

عُنِي الإسلام بالإنسان عمومًا وبالنشء الجديد -خصوصًا- أيما عناية واهتم بهم؛ لأنهم ركيزة المجتمع وعماده ورواد المستقبل وصناعه، وتتجلى تلك العناية في القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ فنرى الاهتمام بالنشء فيهما من قبل أن يكون نطفة في الرحم، وأثناء ما هو جنين في بطن أمه، وبعد ولادته، والحرص على بناء شخصيته في جوانبها النفسية والعقلية والاجتماعية والأخلاقية؛ لأجل أن يتحقق الهدف الذى خلق من أجله- وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له- فتتحقق بذلك العدالة الفردية والاجتماعية، التي معها يكون المجتمع صالحًا في دينه ودنياه، وباقيًا على الفطرة السليمة التي فطرها الله عليها {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: ٣٠] ومن هنا ندرك أن أحد أهم أسباب الإخفاقات والمشكلات الاجتماعية هو اتباع سنن من كان قبلنا شبرا بشبر وذراعا بذراع.

مظاهر عناية الشرع بالطفل

عناية الشريعة ههنا كانت في أدقّ التفاصيل قبل جليلها، ولعل من أبرز مظاهر تلك العناية هو حث المسلم على الزواج من المرأة الصالحة حتى من قبل أن يكون نطفة في الرحم؛ لينشأ الطفل في جو وبيئة إسلامية نظيفة لا تشوبها أي شائبة كما في قوله {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: ٢٢١] وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: (تخيروا لنطفكم وأنحكوا اﻷكفاء) [أخرجه ابن ماجه في السنن] وقوله أيضًا: (الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة) [أخرجه مسلم في الصحيح] وكذلك أن يستعيذ الرجل من الشيطان إذا أتى أهله؛ حتى لا يصاب النشء بأذى أو مكروه لقوله ﷺ: (لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبد) [متفق عليه].

عندما يكون الطفل جنينًا فإن الشريعة قد تعهّدت برعايته ورعاية أمه؛ فأجازت لها بالإفطار في رمضان؛ حتى ينمو نموا جسديا سليما خاليا ومعافى من الأمراض، عناية لم تنقطع حتى بعد تفرّط عقد الزواج إذ يقول الله عزّ وجلّ في حالة الطلاق: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: ٦].

وبعد ولادته تأمر السنة بالأذان في أذنه اليمنى وإقامة الصلاة بأذنه اليسرى؛ ليكون أول ما يقرع سمعه كلمات الأذان الدالة على وحدانية وعظمة خالقه الله عز وجل. وتسميته -أيضًا- بالاسم الحسن لما لذلك من تأثير على نفسيته إذ قال ﷺ: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وبأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم) [أخرجه أبو داوود] وقوله أيضا: (إن أحب أسمائكم إلى الله- عزوجل- عبدالله وعبدالرحمن) [أخرجه مسلم]

وكذلك أوجب لهم الرضاعة، وسنّ العقيقة، والختان، وتعويذهم من الشيطان، وغيرها من مظاهر العناية التى اهتمت بها الشريعة بالنشء؛ ليكون فردا صحيح البدن والفكر، بل واﻷبعد من ذاك كله هو تنظيم الشريعة لشكل العلاقة الزوجية واﻷسرية حرصا على سلامة النشء، وخاصة إذا ما كان هنالك شقاق بين أبويه؛ فحثتهما الشريعة على حسن المعاشرة لئلّا يؤثر ذلك على سلوك ونفسية الطفل، فقال الله عزوجل: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: ١٩] آية ذُيِّلَت بقول تعالى: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرًا} وبالنظر في كتب التفسير نجد أن الخير الكثير هو كأن يرزق منها ولد ويكون في ذلك الولد الخير الكثير.

نماذج من النشء حول رسول الله

وللنشء احتياجات ورغبات؛ إذا ما صيغت وأشبعت بطريقة صحيحة لصانته وصانت العباد والبلاد، وسنبحث في صفحات السيرة التي تؤيد صحة ومصداق ذلك:

فمن مواقفه العجيبة ﷺ وهو يتعامل مع النشء من حوله؛ أنه كان غلام يدعى طلحة بن البراء شديد الحب لرسول الله، حتى إذا كان النبيّ مرة في ديار قومه لقيه طلحة وجعل يلصق به ويقبل قدمه، (وقال: يا رسول الله مرني بما شئت لا أعصي لك أمرا، فعجب رسول الله وتبسّم فقال له : “اذهب فاقتل أباك” فتولّى مدبِرًا ليفعل فقال له النبي: “إني لم أبعث بقطيعة رحم”، ومرت اﻷيام فمرض هذا الغلام وجاء النبي يعوده، فلما انصرف قال لأهله: “إني أرى طلحة قد حدث فيه الموت، فإذا مات فأذنوني حتى أصلي عليه” ولكن طلحة قال لوالديه: ادفنوني وألحقوني بربي، ولا تدعوا رسول الله؛ فإني أخاف عليه اليهود أن يصاب بسببي -وروي أنه قد مات ليلا- فلما أتى الصباح وأخبر رسول الله بذلك، جاء قبره وصلى عليه) [أخرجه الطبراني في الأوسط وهو ضعيف]

هنا علّمنا رسول الله كيف كان يعود الغلام، وأن الصغار لديهم حاجة للشعور بالانتماء، وكيف هو دأب الصّغار في تقليد المتصدرين واتخاذهم قدوات يسيرون على ضوئهم، موقف بسيط علّمنا من خلاله سيد بني آدم عليه الصلاة والسلام أن اﻷحداث في السن لديهم اندفاع عجيب، اندفاع يتطلّب حكمة في الاحتواء والتّصويب، حتى لا يُترك لما يضرّه فتُستغلّ براءته في زيادة الباطل واستفحاله في المتجمع كما هو الحال في البيئات التي يطغى عليها الجشع ورفع الأسهم.

ومن تلك المواقف الحكيمة أيضا بعد عودته ﷺ من حنين، وخروج أهل مكة -المشركين- وسماعهم للمسلمين يؤذنون بالصلاة فصاروا يقلدونهم ويستهزئون بهم نكاية لهم، وكان منهم فتى يقال له أبو محذورة وكان أجملهم وأنداهم صوتا؛ فلما رفع صوته بالأذان سمعه رسول الله؛ فأرسل إليه وأجلسه بين يديه ومسح على ناصيته ودعا له بالبركة ثلاثا؛ فانشرح صدره وامتلأ باﻹيمان، فعلم أنه رسول الله فألقى عليه الأذان وعلمه وأمره أن يؤذن لأهل مكة وكان عمره ست عشرة سنة [أخرجه النسائي في السنن].

هنا علمنا رسول الله أنه كيف تعامل مع النشء غير المسلم، وعلمنا مداخل الحوار المثمر، وعلمنا كيف نوظف تلك المواهب الناشئة ونستفيد منها ومن طاقاتهم في صالح المسلمين-في زمن أهدرت فيه هذه المواهب والأعمار فيما تفسد على العباد والبلاد دينهم ودنياهم- وإعطاؤهم كذلك الثقة وتكليفهم ببعض المهام والمسؤوليات فيما لا يخرجُ عن استطاعاتهم.

إن الشريعة الإسلامية خير ملاذ، ومنبع الأمن الصافي للطفل في جميع أطواره، وما تحمله من مسؤولية وتكليف لا ينتهي عند مجرّد نزوة عابرة، يُترك بعدها الطفل ببراءته وطاقاته لحبال الرأسمالية تجبذه في الهاوية حيث شاءت!

الأنمي وخطورات التأثير السلبي!

أشرنا في مقال سابق إلى أن أخطر أضرار الأنمي بناء اعتقادٍ مشوّه عن الله سبحانه وتعالى، وإلى جانب هذا الضرر العظيم ثمة أضرار وتأثيرات سلبية أخرى يجب التوقّف عندها.

الأنمي وعقائد حركة العصر الجديد

يحتوي الأنمي على الكثير من عقائد القبالاه اليهودية والغنوصية وأفكار حركة العصر الجديد وخرافات الطاقة، فتجد كثيرًا من طقوس السحر ورموز العين الواحدة والنجمة الخماسية، وختم الأرواح والشياطين في أجساد البشر، وتطبيع العلاقات مع الشياطين وإبليس، بل إن الأمر يتكرر بشكل مكثف في جميع سلاسل الأنمي كأنها وحدات ناظمة لكل قصص الأنمي لجعلها أمورا مألوفة لدى الأجيال، وجعل أمر قبولها على أرض الواقع أمرا واردا عند كثير من الشباب والراشدين والجيل الصاعد كذلك..

فعلى سبيل المثال: ختم وحوش البيجو في أجساد بعض الأشخاص المتميزين ببعض الصفات، حيث كان من نصيب ناروتو أن يُختم فيه أحد أقوى وحوش البيجو وهو الثعلب الشيطان ذو الذيول التسعة، كما أن حضور اليوغا في أنمي ناروتو ملحوظ، واستدعاءه لبعض الوحوش من عالم آخر مواز للاستعانة بهم في القتال حاضر كذلك..

ورموز السحر وحجر الفلاسفة والخيمياء التي تعرض بشكل جذاب في قصة جذابة شهيرة وهي قصة: (الخيميائي المعدني الكامل) Fullmetal Alchemist، وحضور خرافات الطاقة بمسميات مختلفة في الأنمي ففي ناروتو استُعملت الكلمة السنسكريتية (التشاكرا)، و في Hunter x Hunter استعملت كلمة (النين) وغيرها، وفي  دراغون بول Z استعملت كلمة (الكي) أي الطاقة الروحية الموجودة داخل كل كائن حي، والطاقة الروحية التي اكتسبها البطل (كوروساكي إتشيغو) في أنمي (بليتش) من الشينيغامي (إله الموت)… وغيرها، ولا يخفى الآن الكم الهائل من المواد الدعوية أو المتعلقة بالتنمية الذاتية التي تُضخ في اليوتيوب المروجة لخرافات الطاقة والتي لاقت قبولا كبيرا من شريحة واسعة!

عالم الأنمي والترويج للانحلال الأخلاقي

هناك فئة من الأنمي تصنّف على أنها جنسية بالكامل، وصُنِعت لذلك حصرا، ولن أذكر اسم هذه الفئة حتى لا يتعرف عليها البعض من خلال هذا المقال، وقد يظن البعض أن المشاهد الإباحية حِكر على هذه الفئة من الأنمي وأن في باقي فئات الأنمي غُنية وكفاية لمن لا يريد الوقوع في النظر المحرم، إلا أنّ الإشكال أنّ الجرأة في عرض اللقطات الانحلاليّة ليس حكرًا على هذه الفئة من الأنمي فقط، بل الأمر يتعداها إلى فئة الشونن  والتي تكون موجهة للمراهقين والشباب، وفئة السينين- Seinen الموجهة للبالغين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 إلى 40، والتي غالبا ما يكون الدافع من مشاهدة هذه الفئتين الحصول على الإثارة والمتعة من مشاهد القتال والمغامرات في الأولى، والتعقيد والذكاء  ومواضيع اجتماعية وفلسفية في الثانية، إلا أن هذه الأحداث يتخلل سيرها الكثير من الإيحاءات الجنسية واللقطات المُخِلّة!

وهو إجراء متبع في الكثير من الأنمي لجلب قدر كبير من المتابعات، وكذلك الترويج للثقافة الغربية في تسليع المرأة التي أصبحت اليابان إحدى أبواقها بعد الحرب العالمية الثانية.

إلى جانب هذا فقد تُعمِّد وضع المشاهدين في حالة حيرة من جنس بعض أبطال القصص في الأنمي، كما أن شكلهم يوحي أحيانا بالذكورة وأحيانا أخرى بالأنوثة، وكذلك التطبيع الممزوج بشيء من الفكاهة والمرح مع شخصيات شاذة كما هو الحال في جزيرة الشواذ في One Piece، وكذلك اليد اليمنى لقائد الجيش الثوري: (مونكي دي دراغون)، إفانكوف الذي قام بتدريب أحد أبطال القصة (سانجي)، كما أن القوة التي حصل عليها من (فاكهة الشيطان) أعطته القدرة على التحكم في هرمونات الأعداء بتغيير جنسهم، أو التلاعب بمظهرهم كما شاء، كما أن الأنمي يجعل منه أحد أنصار القضايا العادلة ذلك أنه كما سبق وذكرنا يمثل أحد الأفراد المبرّزين في الطاقم العسكري الملقب بالجيش الثوري الذي يهدف إلى إسقاط حكومة العالم والتنانين السماوية من أجل شعارات العدالة: الحرية، والقضاء على الطبقية..

 وكذلك جعل المتابع يألف النمط المخنث من الذكور، والعكس صحيح أيضا بالنسبة للإناث، حيث يتم الترويج لنمط ذكوري منهن كشخصية (ميكاسا) من أنمي هجوم العمالقة. وكذلك الصورة النمطية للمرأة في الأنمي التي يُعمل على تسليعها جنسيا من خلال الطريقة المبالغ فيها في رسم مفاتن الشخصيات الأنثوية، والتركيز على المسألة جاذبيتهن وإثارتهن للذكور في الأنمي.

تعقّد الشخصيات.. بين الجد والهزل!

من الأمور التي تعتبر حجر الزاوية في تفوق الأنمي وتأثيره على شريحة واسعة من الشباب، الطبيعة المعقدة للشخصيات والابتعاد عن الصورة التقليدية المثالية للبطل حيث يُعرض هذا البطل بصورة توحي بالغباء مليئا بالنقائص، فأحيانا يكون سكيرا، وأحيانا تافها، وأحيانا زير نساء، وأحيانا أخرى يكون جبانا لا يتحلى بصفات المسؤولية وهو بطبيعة الحال مع كل ما سبق يمثل الجانب الخيِّر من شخصيات الأنمي، في حين يأتي الشرير في مظهر جذاب، صاحب شخصية كاريزمية، وفي بعض الأحيان صحاب نوايا حسنة يريد تنزيلها على أرض الواقع بغض النظر عن مدى كون الوسيلة التي يتبعها شريرة أو مدمرة، على سبيل المثال الشخصية الأسطورية لأنمي ناروتو شيبودن Naruto-Shippuden : مادارا- Madara..

ولا تخفى خطورة هذا الطرح الأخلاقي في تلبيس الحقيقة وضياعها على المتابع، والترويج لفكرة مفادها أن الإنسان معذور في إجرامه الناتج عن عوامل نفسية، أو اجتماعية أو غيرها.. وهو فتح لمجال واسع أمام الشباب في التماس الأعذار لكل ما يصدر عنه من أخطاء، أما الخير فلا حق له في محاكمة الشر، ولا سُلطة له عليه، لأن الظروف التي تهيئت للإنسان الخيّر وصنعت منه ذلك الإنسان، لم تتوفر للشرير.

كما أنه وفي الكثير من سلاسل الأنمي يتم تسليط الضوء بعناية على الشخصية الشريرة بعرض ماضيها وعواطفها الداخلية والتماس الأعذار لجرائمها البشعة، حتى إن المتابع ليشعر أحيانا بأنه متعاطف مع الجانب الشرير أكثر من الجانب الخيِّر.

ونادرا ما تجد بطلا من أبطال الأنمي الأخيار، متكاملا حسب معايير القوة في الأنمي إلا إذا كان الأنمي مصنفا على أنه كوميدي لتجنب الرتابة والملل الناتج عن مثالية شخصية البطل، على سبيل المثال أنمي One Punsh Man .

غالبا ما تكون قصص الأنمي -خصوصا الشونن- التي تستهدف المراهقين بدرجة كبيرة تُركز على أنّ الثقة بالنفس وتقدير الذات يحققان المستحيل، وغالبا ما يظهر البطل بمظهر العاجز الفاشل الذي سينتصر في آخر المطاف، بل وأحيانا يمتد فشل البطل لحلقات كثيرة يعيش معها المتابع جميع لحظات اليأس والإحباط، ثم فجأة يستجمع البطل قواه أو ينتبه إلى أمر يمكِّنه من النصر لم يكن قد انتبه له قبل ذلك، نجد هذا في Dragon Ball، و Naruto، و One Piece،  HxH ،Bleach… وهلم جرا.. وهذا يُكسب الـمُشاهد شعورا مُرضِيا بظروف حياته التي كان يراها في بعض جوانبها يائسة لا تستحق عناء التغيير، لكن إصرار البطل وثقته بنفسه، والقوة المتولدة عن ذلك، والنتيجة، كل ذلك يبعث الأمل من جديد، إلا أن هذا الأمل للأسف أمل نابع من ثقافة ينعدم فيها مفهوم التوكل على الله، أمل يقنعك أن النجاح يبدأ منك أنت وحدك، ثم يلي ذلك العمل والقتال من أجل هدفك، ولا مكان للتوكل في هذه المعادلة التي نكتسبها من الأنمي بدون وعي أحيانًا!

التأثر والانبهار

بلغ تأثير الأنمي في كثير من الشباب إلى تغيير تسريحات شعرهم وترجيل الشعر بطريقة غريبة لموافقة شكل بعض شخصيات الأنمي، بل بلغ الأمر بالبعض إلى تقليد الهيئة الغريبة لمشية وجلوس بعض الشخصيات التي يتم التصريح في حلقات ذلك الأنمي بغرابتها ومخالفتها للمألوف، كهيئة مشي وجلوس الشخصية العبقرية للمحقق (لاو ليث) المشهور بـ: L، من مسلسل مذكرة الموت

والأخطر من هذا، تقليد الشخصيات في طريقة الحياة وطبيعة النظر للأشياء، فتجد من ينظر إلى الحياة على أنها عبث بلا معنى له وأنها لا تستحق الاكتراث، ومنهم من يستسهل الوقوع في الكبائر والمحرمات لإعجابه الشديد بشخصية تمثل جانب الخير في أنمي معين، لكنها منغمسة في ملذات الحياة والعلاقات المحرمة، ولابد أن التأثر بشخصيات الأنمي ومن تم تقليدهم نابع عن حب شديد وتأثر بالغ، ولذلك نجد من الصحابة كعبد الله بن عمر مثلا من كان يحاول مطابقة هيئة لباس رسول الله ﷺ فيلبس نعلا لا شعر فيه يشبه نعل النبي ﷺ، أو يضع على رأسه عمامة مسدلة يمرر طرفها المتبقي بعد عصبها على رأسه إلى الكتف الآخر، فيُسأل فيقول أنه يفعل ذلك لأنه رأى رسول الله ﷺ يفعل ذلك، وكذلك يلبس عثمان بن عفان رضي الله عنه إزارا إلى نصف الساق فيقول رأيت صاحبي ﷺ يفعل ذلك. ولقد علِمتَ أن العمامة والنعل لا تعبُّدَ في التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في لُبسهما، إذ كما قرر علماؤنا أنه لا يصح في فضل العمامة حديث، إلا أن شدة الحب دفعت الصحب الكريم إلى موافقة الظاهر من الملبس والمأكل والمشرب بشكل مثير للدهشة والعجب!

أما عن ظاهرة الوايفو، وهي ظاهرة أصبحنا نراها بصفة متكررة وهي وقوع بعض الشباب في حب فتاة من عالم الأنمي وإعلانه الزواج بها، فهو منتهى ما يصل إليه الهوس والجنون في عالم الأنمي

أما عن ضياع الوقت والعمر في مشاهدة الأنمي فكثير من الشباب اليوم غارقون في متابعة سلسلة بعد سلسلة، ويتنافسون في معدل الحلقات المتابع يوميا، وكذلك في الوقت الوجيز الذي شاهد فيه سلسلة تقع في زهاء 400 حلقة تزيد أو تنقص، وكثير منهم يعيش حالة من السبهللية -الاستهتار المبالَغ فيه- لا يُراعى فيها قضاء مصالح الدنيا ولا مصالح الآخرة، فتجدهم منغلقين على أنفسهم، وفاشلين دراسيا، لا مكان للعمل للآخرة في حياتهم، فماذا يكون الخسران إن لم يكن متمثلا في هذه الحالة؟!

الناشئة بين رأسمالية هوليود ورحمة الإسلام

لعلّنا جميعا مرّت بنا مقاطع لمشاهد تمثيلية تسير على خطى هوليود لأطفال صغار، ذاك النشء الموشّح بالبراءة والعفوية الصادقة، هناك حيث طُلِبت منهم من وراء آلة التصوير إملاءات بعينها تكسر عفويتهم وتغلّفها بالتّكلّف حتى يُحسنوا تقمّص الأدوار بما فيها من مشاعر حزن عامرة بذرف الدموع، وربما أتبعوها بأنين شجي مصطَنَع، أو فرَح أو سذاجة وبلادة كل ما يهمّ فيها هو ملء الجيوب وتحصيل الأرباح من ورائهم، في خضوع أو انسياق مطلَق لمنطق السوق الرأسمالي في الاستفادة والاستثمار المادي في كل شيء ولو كان طفلاً صغيرًا.

من الطبيعي أن النفس البشرية لها قابليّة عالية للتعاطف مع الطفل -حتى من دون سبب وجيه- إن تألّم أو اشتكى، فكيف الحال والمشهد ههنا يفيض بالمشاعر الجيّاشة لكنها مزيّفة، وربما نذرف الدمع معه ونردفه قائلين: “لقد كان حقًّا في المستوى، مدهش ورائع هذا الطفل كيف أتقن دوره”.. أو عبارات أخرى كلها تتحدث بذات اللسان.

لكن أليس لنا أن نتساءل بعد ملحمة البكاء أو الفرح تلك: هل هذا ما يجب أن يكون عليه طفل في سنّه؟ ألن تتلف مشاعره وتضيع بين وهم هوليودي اتخذ من براءته بضاعة فحنّطها وشكّلها لتزيد الأرباح والأسهم وبين واقع يحتاج أن يعيشه ويحياه؟ ترى هل ترسو النجومية بالطفل عند ميناء السعادة حقًّا أم أن الكواليس تخفي كوابيس مسكوت عنها؟

ووسط كلّ هذا الصخب كيف اعتنى الإسلام بالفرد المسلم نسمة في الرحم، طفلا، ومكلفا؟ وما مسؤوليتنا الجماعية والفردية أمام هذه السيول الجارفة لحقن النشء الصاعد بجرعات الزيف التلاعب؟

أسئلة نحاول-مستعينين بالله- من خلال هذا المقال تسليط الضوء عليها والإجابة عنها.

هوليود: مسرح الطفولة المُستَلبَة!

خلف ستارة الكواليس يقبع الفصل المسكوت عنه والمطوي خلف الأفواه من قصة النجومية التي تراود كل حالمٍ بالشهرة، لكن جودي جيرلاند قررت تعريته وكشف مخبوءاته في مذكّراتها التي وُجدت عقِب موتها بجرعة مخدرات زائدة عن عمر يناهز السادسة والأربعين، حيث كتبت تقول: “كنت على خشبة المسرح منذ أن كنت في الثانية من عمري.. فاتني الكثير، إنها حياة وحيدة للغاية.. لقد كنتُ ومَن معي في استوديو MGM (إليزابيث تايلور ولانا تورنر وديانا دوربين وميكي روني) مرهقين، مسجونين ونعاني من نقص التغذية، كانوا يجوعونني كلما اعتقدوا أن وزني ازداد عن المقاس المطلوب [….] عندما اقتحمت عالم السينما في سني الصغيرة شعرت بالحرج والغموض وأني غير مرغوب فيّ”

وقالت عن دورها المُشتَرك مع ميكي روني -الذي اقتحم هو الآخر عالم التمثيل في سن السادسة وحاز على جائزة الاوسكار-: “أعطونا أقراصًا منشطة لإبقائنا على أقدامنا فترة طويلة، بعد أن استنفدنا طاقاتنا، لم نتمكّن من النوم، فأخذونا إلى مستشفى الاستوديو ومنحونا أقراصًا منومة ثم بعد أربع ساعات، أيقظونا وأعطونا حبوبًا منشطة مرة أخرى حتى نتمكن من العمل لمدة 72 ساعة متتالية، نصف الوقت كنا نتداعى وننهار، لكنها كانت طريقة حياة بالنسبة لنا” [1].

لم تكون جودي وحدها ضحية هوليود في إدمان المخدرات، فهناك أيضا بوبي دريسكول الطفل الحاصل على جائزة الأوسكار في سن التاسعة، والذي مثّل بصوته دور البطولة في بيتر بان أحد أشهر إنتاجات ديزني إلى جانب أدوار بطولية أخرى فيها، فقد كان أول شخص على الإطلاق يتم وضعه بموجب عقد شخصي من قبل والت ديزني، لقد عاش دريسكول حياة الشهرة الساطعة بكل معانيها، لكن ما هي إلا سنوات حتى أفل نجمه ولفظته ديزني كالحلس البالي؛ إذ كان جرمه الوحيد آنذاك هو ظهور حب الشباب المصاحب لفترة البلوغ وادّعت مبررة أنه سيكون من المستحيل إخفاء هذه الحبوب بالمكياج، فانتهى بذلك الحال بالبطل الصغير مدمنًا للهيروين ومنه إلى عالم الجريمة والسّطو، وكانت آخر عبارة في حكاية نجوميته ما قاله هو عن نفسه: “حُمِلت على طبق من فضة، ثم أُلقِيت في علبة القمامة”[2]. وقد وُجد دريسكول ميتا وحيدًا في مسكنٍ مهجور عن عمر يناهز ٣١ سنة!

إنها هوليود وهؤلاء حفنة وعيّنات من نجومها الصّغار الذين استعبدتهم باسم الشهرة والفن وحياة التّرف، والحال أنها اقتاتت على براءتهم وساقتهم إلى سكة مجهولة العاقبة حيث الإدمان والخوف والأمراض النفسية والجريمة كذلك، فكانت أبلغ صورة جسّدتها لوحش الرأسمالية الجائع!

من أضواء الشّهرة إلى قيعان الإدمان

كانت هذه بعض نماذج هوليود القديمة الكلاسيكية الغارقة في الاستغلال، التي قد تبدو لمعظمنا انها مجرّد حقبة وانتهت، ولأن الإحصاءات حول هذا الجانب شحيحة -ولنسلّم عرَضًا أنها كذلك-، لكن أليس مِن المؤسف وضع النشء بما فيه من هشاشة على مضمار ذاق مَن عاقروه مرارته؟

كيف لعقل الطّفل أن يحتمل مشاعر الأضواء التي تغذّي فيه الإحساس العارم بالنشوة والسعادة وكونه مرغوبًا من الكل ثمّ ولسبب ما يجد نفسه منبوذًا لا قيمة له كأنه شريحة مشاعر مُستهلكة؟

أما عن واقع الإدمان في هوليود فإنه لا يزال قائما وحوله قالت د. ريف كريم، المختصة في معالجة الإدمان في (كنترول سنتر لوس أنجلوس) “إدمان الكوكايين ينخفض بشكل عام في أمريكا، ولكنه في هوليوود لم يزل يصعد بقوة. لم تزل ترى الكوكايين في كل مكان في هوليوود”.

ووفقًا للدكتور إريك برافرمان، أخصائي الإدمان ومؤلف كتاب “أصغر منك”، فإن الأنا الكبيرة والمال الذي يجب حرقه يمهدان الطريق لإدمان الكوكايين، ويتابع قائلًا: “يميل المشاهير إلى أن يكونوا نرجسيين، لذا فإن الكوكايين يمنحهم إحساسًا بالسلطة والقوة، كما يعتمد الكثيرون على الكوكايين لملء الفراغات في حياتهم” [3].

وحول إذا ما كان النجوم الصغار عندهم قابلية أكبر للإدمان على الكوكايين أجابت د. دونا: “قد يدمن النجوم لأي سبب من الأسباب التي يدمن معها غيرهم مثل: التعرّض للإساءة، أو التجارب القاسية، ولكن مع النجوم الصغار فإن أدمغتهم تكيفت مع القدر الكبير من الإعجاب والاهتمام وأصبحت جزءًا من تركيبها العصبي. الأمر الذي يمهد الطريق لأنواع أخرى من الإدمان كالكحول والمخدرات” [4].

نتساءل مجددا ألأجل هذا العالم الهوليودي الخرِب تُهدى فلذات الأكباد لعالَم رحى القوى فيه -كما هو ديدن الرأسمالية- يسحق قويه ضعيفه؟ عالم الصناعة والتمثيل حيث القوى متنافرة بين جوع المنتجين وبين النجوم الصغار، ألن يكون خطر الاستغلال أشدّ وأرعن؟

ماذا عن السينما العربية؟

لعلّ الفجوة بين ما بلغته هوليود من تدمير والتمثيل في شاشات ومنصات العالم العربي أكبر من مقارنتها إلى حدّ ما، لكن يبقى المشترك بينهما هو العالم الداخلي لذاك الطفل الصغير في مرحلة عمرية المُفترض أنها تأسيسية للمركزيات والأوليات، مرحلة تكون النفس كالإسفنجة بقابلية عالية على تشرب معاني بعينها: ما الذي يجري في داخله؟ كيف يواجه الفصام بين مشاعره الحقيقة ومشاعر طُلب منه النزول عندها؟ كيف يمكنه رسم الحد الفاصل حين يُطلب منه مثلا رؤية مشهد مرعب كالقتل وعيش مشاعر الفقد او استحضار مشاعر الموت؟ ما الفرق بين أن يكون مهذبًا واقعًا وفي الآن ذاته يعيش شقيًّا تحت الأضواء؟ ما هي حدود الصّدق والكذب؟ وحين يُسحب بساط الشهرة من تحت رجليه بعدَ أن عاش دهرًا كل العالم وما فيه يدور حوله كيف سيتخطّى ندوب هذه التجربة إلا باللجوء إلى المخدّرات كما تكرّر مرارًا!

ثم إن كان عالم السينما نفسه يوجّه المتلقي والذوق العام إلى قضايا معيّنة ألن تكبر هي ذاتها في نفسه فيتبناها ويخدمها ويدافع عنها-أي الطفل-؟

فالإشكال على هذا يبقى قائمًا وإن اختلفت درجاته بين الشّرق والغرب؛ لأن ثمة بناء هناك تُنقض عراه شيئا فشيئا، كان مِن المفتَرض أن يعيش كونه طفلا لكنّه حرق أعواما ومراحل ليكون نجما له وظيفة وراتب إلى جانب الكثير من الأزمات النفسية والتردد على العيادات عندما يفيق من سكرة الشهرة للإقبال على الحياة!

كل هذا علينا استحضاره قبل أن نعلق بعبارات التميز والدهشة والذهول من مشهد احترافي في دقائق يحوي خلفه الكثير من الظّلام!

آباء يتغذون على أبنائهم!

لكن كيف وصل هؤلاء الأطفال أو على الأقل معظمهم إلى مسارح الأضواء إن لم يكن خلفهم مَن أصابه عمى الشهرة وحياة التّرف؟ إنهم الآباء في الغالب!

تقول الممثلة الطفولية السابقة ميليسا جوان هارت، 37 عامًا: “ترى هؤلاء الآباء يريدون أن يعيشوا حياتهم من خلال أطفالهم، برواتبهم الضخمة وما يحصّلونه، وينالهم أيضا نصيبهم من الأضواء فيبدأون في الظهور بمظهر أكثر بريقًا ويقودون سيارات فارهة أكثر من النجم المشهور نفسه”[5].

وبذا تنقلبُ الأدوار فيغدو الطفل هو الراعي والمعيل لوالديه فيدفعونه دفعًا للاستمرار مهما كان الثّمن. تقول الممثلة تيا موري: “عندما كنت أقوم بعمل الإعلان لباربي كانت هناك فتاة أخرى لا تريد هذا العالم، لكن والدتها كانت تدفعها قسرًا للمواصلة” ثم تتابع قولها: “أنت طفل يعمل، لديك وظيفة. هذه الوظيفة هي عمل شاق. يعتقد الجميع أن كونك نجمًا طفلًا هو أمر ساحر. ولكن عندما تكون في عرض، غالبًا ما تقدم عرضًا كاملاً وأنت تعلم هذا، عليك أن تعرف خطوطك.. فهناك مَن يكسب المال منك”[5].

اي قسوة تلك أن تتجاذبكَ حبال الاستغلال عن كل جانب، مجرّد صرّاف آلي والأقسى أن يكون أحد هذه الأطراف أمّك أو أبوك!

أما اليوم فقد ازدادت فُرص الاستغلال وعلمنة براءة الطّفل من قبل والديه لهثا خلف الشهرة والمال، الكاميرا ملك اليد وما عليهم سوى فتحها لدخول عالم الشهرة الماجن.


مصادر الاقتباسات والإحالات:

[1]https://www.express.co.uk/celebrity-news/529490/Judy-Garland-unpublished-memoirs-revenge-Hollywood-film-industry

[2]https://www.cinephiled.com/31-days-of-oscar-the-juvenile-academy-awards-and-the-tragedy-of-bobby-driscoll /

[3]https://www.foxnews.com/entertainment/addicted-in-hollywood-stars-problems-with-cocaine-still-going-strong

[4]https://www.cheatsheet.com/entertainment/are-child-stars-more-likely-to-use-drugs-and-alcohol.html /

[5] https://www.usatoday.com/story/life/people/2013/08/06/child-star-issues/2609493/

[6]https://www.sasapost.com/dark-side-of-the-lives-of-young-hollywood-stars

ماذا عن الأنمي.. أيقظوا الوعي يا شبابَ الأمة!

أتذكر جيدًا ذلك الشعور الرهيب الذي شعرت به أول مرة أشاهد فيه مسلسلا من مسلسلات الأنمي Anime -الرسوم المتحركة التي تُنتجها اليابان- مسلسل (مذكرة الموت Death note) سنة 2012، حيث كان هذا المسلسل بوابة عبوري إلى عالم الأنمي والهوس بشخصياته وحبكة أحداث قصصه..

كانت قصة مذكرة الموت تدور حول شاب حصل على مذكرة جعلته قادرا على تحديد آجال المجرمين من خلال كتابة أسمائهم فيها، مع إمكانية تحديد سبب الوفاة. وقد حصل عليها بعد أن أسقطها أحد (آلهة الموت) -كما يوصف في المسلسل وهو (إله) شاب يُدعى ريوك- في كوكب الأرض من أجل تحقيق بعض المتعة من خلال الدمار الذي يتوقع أن تحدِثه المذكرة في عالم البشر وكذلك للقضاء على رتابة عالم (آلهة الموت) والملل المترتب عن طول أعمار آلهة الموت وفقدان المعنى والغاية من الوجود!

وقعت المذكرة بين يدي هذا الشاب لتبدأ القصة بحصوله على قدرة خارقة سيحاول من خلالها تحقيق العدالة في عالم لا عدالة فيه، لينتهي به الأمر في آخر المطاف مقتولًا بعد أن استطاع الذكاء البشري عبر أجهزة الأمن والشرطة القضاء على هذا التهديد الخطير الذي يحرم البشر من حق الحياة لمجرد وقوعهم في بعض الأخطاء المصيرية، والمتمثل في هذا الشاب العبقري الذي أصبح يظن نفسه إلهًا يُنزل عقاب الموت على المجرمين، والذي لم يستطيعوا النيل منه إلا عبر جهد مرير وخسائر بشرية ومادية هائلة.

لماذا يجذبنا عالم الأنمي؟

إن الإشباع الخيالي للمُشاهد في هذا الأنمي وفي غيره لا حدود له، والأفكار العبقرية التي تكسر حدود المألوف في منتجات المنصات الكبرى للأفلام والمسلسلات كهوليود ونتفلكس تجعل من الأنمي ملجأ لمن أراد تجاوز حدود السينما ذات الشخصيات البشرية الحقيقية والتأثيرات البصرية التي لا تجاري الأفكار المجنونة في الأنمي.

لن أتكلم هنا عن الانبهار الذي يصيب المشاهد، من خلال إبداع “المانغاكا” -رسام القصص المصورة والذي غالبا ما يكون صاحب القصة- في رسم الشخصيات، والعبقرية السردية، أو سعة اطلاع كاتب القصة على الأديان والمعلومات التاريخية والعلم التجريبي وكذلك المعرفة الدقيقة بمشاعر النفس البشرية والقدرة على تجسيدها في قالب إبداعي.. كل هذا مُسَلّم به، وتتفوّق فيه اليابان على أمريكا والغرب بمراحل، رغم أن صناعة الرسوم المتحركة بدأت في الغرب قبل اليابان، بل إن اليابان نفسها استوحت تجربة المانجا من قصص (الكوميكس) الأمريكية، ثم تفوّقت عليها بعد ذلك.

في هذا الصدد يقول دوريون تشونج كبير المشرفين على متحف M+ في هونغ كونغ للثقافة المرئية: “لدى الأنمي خيال سردي غير مسبوق، وهذا هو أساس نجاحه العالمي”[1]

إن فئة المراهقين بالذات هي الفئة الأكثر هوسًا بالأنمي، نظرًا للخلطة التي تلمس في المراهق الجانب الطفولي فيه من خلال شخصياته المرسومة والمتحركة ذات المستوى الجمالي الأخاذ، حيث يُراعى في هذه الشخصيات ضخامة العينين وبريقهما وصغر الأنف والفم مع صفاء البشرة وتسريحة شعر مميِّزة لبطل الأنمي عن غيره من الشخصيات الأخرى، كما أنها تلمس الجانب الناضج فيهم، من حيث الأفكار العميقة والمعقدة ومعالجة القضايا الفلسفية والأخلاقية بطريقة فنية تجعل مدارك الشاب تنفتح على آفاق معرفية تجعل له حضورًا بين من يجالسه يشارك فيه برأيه ونظرته للأشياء من خلال ما تشكل له من وعي من خلال الأنمي.[2]

ويزداد انجذاب المرء إلى الأنمي لمراعاته مسألة لطافة شكل الشخصيات عبر ما يُعرف بـ: Kawaii وتعابير الوجه التي تزيد من إيضاح أحاسيس الشخصية  وتبالغ في التعبير عن مشاعر الحزن والفرح مما يلامس عمقا عاطفيا شديدا لدى المتابع، بالإضافة إلى موسيقى الخلفية المرافقة للأحداث والتي تكون على مستوى عالٍ من الإبداع حتى أنها تُعقد لها حفلات للسيمفونية تعزفها الأوركسترا تزيد المشاهد المعروضة تأثيرا على عاطفة المشاهد، ومن ذلك سمفونيات الأنمي الشهير Hunter x Hunter 2011 الذي دُبلج إلى العربية باسم: القناص، وغيره..

ويصل تأثير شخصيات الأنمي في المتابعين إلى حد ظهور بعض الحالات الغريبة في المشهد الرقمي على مواقع التواصل الاجتماعي، كالصراعات حول أفضلية أنمي معين، ونشوب حروب في المنصات الرقمية تصل إلى التعصب والسب والشتم والسخرية، وأشهر مثال على ذلك الصراع القائم على الأنمي الأكثر إثارة للجدل هجوم العمالقة Attack on Titan.

كما يظهر هوس المتابعين من خلال تنظيم مهرجانات التنكر بأزياء شخصيات الأنمي واستعمال مساحيق التجميل والأكسسوارات، للتشبه التام بها فيما يُعرف بـ: Cosplay، وتُعقد هذه المهرجانات بشكل متكرر في الكثير من الدول العربية وغيرها، وبالنسبة للمغرب فيسهر على تنشيطها Manga Expo Maroc بالإضافة إلى إنشاء معارض وأنشطة عبر دور الشباب، وعادة ما يُدعى هؤلاء المهووسين بالأنمي الحاضرين لفعاليات هذه المهرجانات بـ: الأوتاكو Otaku، وكذلك الأمر بالنسبة للدول العربية الأخرى نجد مهرجانات شبيهة كالتي تُعقد في السعودية من طرف سعودي أنمي إكسبو Saudi Anime Expo، وكذلك الإمارات وغيرها..

قوة ناعمة ودعم سياسي

إن هذا النجاح الذي حققه الأنمي في خلق مهووسين به وبشخصياته، وبالثقافة اليابانية وأطعِمتها، جاء في سياق سعي اليابان في تحسين صورتها بعد ما مارسته من جرائم وحشية في العديد من الدول على رأسها الصين في مذبحة نانجينغ -عاصمة الصين آنذاك- سنة 1937م والتي استمرت لأربعين يوما وخلفت أكثر من 300 ألف قتيل بين المدنيين والجنود العزل الصينيين في نانجينغ و20 ألف امرأة مغتصبة[3] .

يقول خبير الأنمي في جامعة ميجي بطوكيو (كيشيرو موريكاوا): “نجحت شعبية الأنمي اليابانية في غرس صور أكثر إنسانية لليابان”[4]، وهكذا يُصبح الأنمي قوة ناعمة لليابان تسعى من خلالها إلى تلميع صورتها دوليا.

إلى جانب ذلك فللأنمي إيرادات اقتصادية ضخمة على الاقتصاد الياباني، مما جعل صُنّاع القرار في اليابان يسعون إلى تنشيط صناعة الأنمي دوليا، فوصلت الإيرادات المجملة للسوق المحلي والسوق الخارجي لصناعة الأنمي إلى رقم قياسي بلغ حوالي 2.51 تريليون ين ياباني في عام 2019، قبل أن تنخفض بشكل طفيف إلى حوالي 2.43 تريليون ين في عام 2020 نتيجة لفيروس كورونا. (كوفيد -19) جائحة[5].

بين الإيجابيات والسلبيات

يسعى الكثير من المدافعين عن الأنمي إلى عدِّ إيجابياته التي منها إكساب الشاب وعيا بأهمية العلاقات الاجتماعية، العلاقة بالأسرة، العلاقة بالقائد، العلاقة بالأصدقاء، وتعزز معاني الوفاء والصدق والإخلاص والتضحية والإيثار، وفي الحقيقة نجد أن هذه المواضيع الأخلاقية تمثل خلفيات أحداث العديد من سلاسل الأنمي خصوصا منها فئة الأنمي الموجه للأطفال الصغار وهذه الفئة تُعرف باسم كودومو، ونجد ذلك أيضا بدرجة متفاوتة في السلاسل التي تنتمي لفئة الشونن-Shōnen التي تستهدف الأطفال ما بين 14 إلى 18 سنة والتي يكون مدارها على الأكشن والمغامرات والقتال، كما أن للأنمي المعرّب الذي كان يُعرض على سبيستون فضلًا على أبناء جيلنا في حب اللغة العربية وممارستها، والتحدث بها بطلاقة.

بالرغم من ذلك فإن الأنمي بشكل عام لا يخلو من مخاطر وانتقادات، من أهمها:
تسخيف مسألة وجود إله واحد حاكم كامل العلم والقدرة، حيث تجد في الأنمي خليطًا محيرًا من العقائد التي اختلطت على أرض الواقع في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تجد عقيدة تعدد الآلهة على الطراز اليوناني أو الشرقي  مع حضور كثيف للصليب المسيحي مع أنسنة للإله وغوص في مشاعره البشرية وكشف عن قدرته المحدودة في التعامل مع الأخطار المهددة له أو للأرض أو للبشرية، وفي بعض الأحيان إظهار الإله بصورة العابث الذي لا يتحمل مسؤولية أفعاله وألّا حكمة من أفعاله وإنما يُحركه فيها نزواته الشخصية الشريرة، وفي أحيان أخرى قدرة البشر على تملك قدرة إلهية  أو بلوغ مرتبة الإله كما هو الأمر في شخصية (ياغامي لايث) من أنمي (مذكرة الموت)، أو شخصية كوروساكي إتشيغو من أنمي (بليتش)، ولا يخفى تأثير هذه الأفكار في توليد إشكالات لدى النشء وجمهور المراهقين وغيرهم ممن لم تتشكل لديهم حصانة عقدية إسلامية، فتنبثق عن تلك الإشكالات أسئلة وجودية تكشف عن نزعة إلحادية تراكمت عبر أفكار الأنمي، من قبيل: لماذا يطلب الله من البشر عبادته؟ مَن خلق الله؟ وهذان السؤالان بطبيعة الحال نتجا عن مقدمة يُسلم بها هؤلاء وهي أنسنة الله، أي اعتباره مشابها للإنسان في ذاته وأفعاله وإرادته.

كوروساكي إتشيغو

وكذلك ولّد ارتباط الإله بالشر في عالم الأنمي لدى الكثيرين سؤال: لماذا يوجد شر في العالم؟ هل الإله شرير بطبعه؟ بل وأصبحنا نجد من يحاول إعادة قراءة القصة الأهم في تاريخ البشرية، قصة عصيان إبليس لله سبحانه في امتناعه عن السجود لآدم وإعلانه الحرب على ذرية آدم، قراءة ترى أن إبليس هو المظلوم في كل ما جرى، وهذا بطبيعة الحال عند الكثير من الشباب القائلين بذلك نتيجة تلميع صورة الشياطين في كثير من سلاسل الأنمي والأفلام التي تنتجها المنصات السنيمائية الكبرى اليوم.

يحب بعض الشباب -المنزعج من التحذير من مخاطر الأنمي- التهوين من الأمر مقدما أي انتقاد للأنمي في صورة كاريكاتورية بقوله: أتظنني سأصبح بوذيا أو ماسونيا إذا شاهدت الأنمي، لماذا تضخمون الموضوع، الأمر لا يعدو كونه تسلية!.

إن الإشكال أعمق من ذلك بكثير، وهو في كثير من الأحيان يتجاوز كونه تسلية إلى تسرب مفاهيم وتصورات عن الله لا تمت للاعتقاد الذي قدمه الإسلام عن الله بصلة، هذا التصور الذي يجهله الكثير من المسلمين اليوم بطبيعة الحال!


[1] https://sasapost.co/translation/japan-anime-global-identity-hnk-intl/

[2] من وحي: الأنمي وتأثيره في الجيل العربي، لحيدر محمد الكعبي، المركز الإسلامي للدراسات الاجتماعية، 74

[3] مقابلة: باحثون يابانيون يقولون إن الحقيقة حول مذبحة نانجينغ لا يمكن إنكارها_Arabic.news.cn

[4] كيف غير الأنيميشن صورة اليابان وأصبح صناعة بمليارات الدولارات؟ – CNN Arabic

[5] Anime industry in Japan – statistics and facts | Statista

نحو فرض نسخة مشوّهة للإسلام.. ماذا تعرف عن تقرير راند؟

تؤدّي العقائد الدينية في تاريخ الشعوب دورًا حاسمًا في ترقّيها حضاريًّا واجتماع كلمتها سياسيًّا، فمن هذا الذي كان يتوقع أن تتحد العرب ويؤسسوا إمبراطورية تمتدّ من جزر الفلبين شرقًا إلى مدن الأندلس غربًا.

إلا أن الإنسان، الكائن الناقص الذي طالما دنس كل ما هو متعالٍ وبلغ به أنه كفر بالله وعبد الأوثان، أبى إلا أن يجعل من الدين آلة هدم، ومن تعاليمه السامية قنابل فكرية تتفجر في وجه البشرية.

جاء الإسلام ليمحق الباطل ويعلي الحق، وضمّ في ثناياه تعاليم ترسي التعايش نهجًا في التعامل مع الآخر المختلف، فرسول الله يفرش رداءه لنصارى نجران، ويتعامل مع يهودي ويستدين منه، ويعودُ غلامًا يهوديًّا مريضًا، ويوصي بالإحسان للوالدين ولو على كفرهم، ويرسل الرسل إلى حكام العالم يدعوهم إلى الإسلام ويرجو مصالحتهم، إلا أنّ دوائر صنع القرار ومراكز الدراسات الغربية ما يزال كثير من المؤثر فيها مثل مركز راند، يدعو لتشويه الإسلام وفرض تشكيلاتٍ مشوّهة منه..

الإسلام والآخر.. مواقف ثلاثة

ليس يُذكَر للحبيب أنه ذَكَرَ الآخر بسوء وتجنٍّ، وهنا لعلنا نجد قائلاً يقول: وماذا عن تشريع القتال وآيات الجهاد والأحاديث في الحث عليه؟! فلنجب عنه فيما يتيسّر من القول.

إن سوء الفهم الذي وقع فيه كثر -على رأسهم المسلمون أنفسهم- أخرج طوائف تكفيرية تُحِلُّ دم المسلم قبل الكافر، ولعل الخوارج والمعتزلة أشهر الفرق الإسلامية أعلنت الحرب ضد معارضيها من الفرق الأخرى، ولنا في حرب سيدنا علي رضي الله عنه مع الخوارج وفي محنة الإمام أحمد مع المعتزلة خير المثال.

لم يميز بعض المسلمين -بسبب سوء الفهم أولا والمواقف الشخصية ثانيا- بين فقه العلاقات الإنسانية في الإسلام والدعوات المتطرفة، فاعتقدوا أن القرآن بآيات الجهاد يرفض الآخر ويطالب برأسه قربانًا للرقيّ والتقرّب لله، وليس الأمر كذلك البتة، فمن خلال تمعّننا في آيات القرآن الكريم نجد أنه قسم موقفه من الآخر إلى:

– الموقف العقائدي: يتعلق بعقيدة الإسلام التي ترفض الإشراك بالله وما يليه من فساد في العقيدة، ويبدأ القرآن الكريم بالفاتحة التي تؤثث بشكل واضح لهذه النظرة، إذ النصارى واليهود كفار، وهذا لا نقاش فيه، ولا يستوي الكافر بالمؤمن في ميزان العقدي. يقول الله تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 1- 3] وهنا نلحظ الخطاب الهادئ والمنطقي مع الآخر، فلا هم ملزمون بدين الإسلام ولا المسلمون ملزمون بدين الكافر، ولكلٍّ حرية الاعتقاد، مصداقًا لقوله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، ووفق ذلك وضع الإسلام الدعوة والشرائع.

وحتى مع الاختلاف العقدي، فإنه لا يتخذ موقف عداء مع الآخر، لأن له موقفا آخر ونظرة أخرى للآخر.

الموقف المدني: ولو أن البعض سيعترض على استعمال المدنية، لكني أحببت أن أستخدمها لسببين هو أنها رسخت في المدينة المنورة، وأنها تحيل إلى أسبقية الإسلام في إرساء النظام المدني وقضائه على حكم الكهنة وطبقات رجال المعابد ورؤساء الأديان، وفي هذه النظرة يتضح من خلال آيات القرآن أن الآخر سواء كان نصرانيا أو يهوديا متساوٍ في حقه بالعيش الكريم والحرّ مع المؤمنين، مع اختلاف الواجبات مثل الصدقات والزكاة التي تعوّض بالجزية على الأغنياء فقط وتسقط عن الفقير والمرأة والطفل، وهي تقل عن الزكاة وتغني عن المشاركة العسكرية والمهام الموكلة للمسلم، وليس أدل على ذلك من “صحيفة المدينة” التي هي دستور مدني يضع المسلم واليهودي في القدر المتساوي من إمكان التعامل والتعايش.

كذلك في التجارة نجد المؤمن منفتحًا على الآخر ومطالبًا بالتعامل معه، وهنا يشير القرآن الكريم إلى أن المؤمنين غير مطالبين بالابتعاد عن معاملة الآخر لدينه {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم ولم يخرجكم من دياركم} [الممتحنة: 8]

والملاحظ أن التركيز على هذا الموقف لا نجده في كتابات المخالفين، لأنهم يركزون على الموقف الأول والثالث؛ وبهما يحكمون على الإسلام بكونه دينًا ضدّ التعايش، رغم أن مصر -على سبيل المثال- “أُكرهت على انتحال النصرانية، وهبطت بذلك إلى دَرَكات الانحطاط مقداراً فمقداراً إلى أن جاء العرب […] وكانت تعُدّ من يُحَرِّرونها من أيدي قياصرة القسطنطينية مُنقِذين، فحُفظ هذا الشأن للعرب” [غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص220-221]

الموقف السياسي: وهذا الموقف الثالث الذي يعتبر أكثر المواقف التي يتحرج بعض المسلمين منها، رغم أنه يجب على المسلم أن يفخر بدينه فقد قال تعالى: {فلا يكن في صدرك حرج منه} [الأعراف: 2]، إذ يرى البعض أن الإسلام يحمل في عقائده مواقف عدائية ومشاريع امبريالية، وهم بذلك يُسقِطون تجارب الغرب على تاريخ الإسلام، فيشوّهون الحقيقة.

والحقيقة أن الإسلام في توسّعه أو معاركه -ابتداء- لم يقم بها إلا مضطراً، فلم تكن معركة بدر إلا بعد أن استمرت الدعوة السلمية 10 سنين، ولقي المسلمون ما لقوا من العذاب، وحتى الفتوحات الإسلامية والحروب التي ستتوالى لم يكن المسلمون يريدونها لشهوةٍ وإنما لمواجهة مفروضة أو لمخاطر بدأت تواجههم، ولتعدّي الآخرين على حدود أرضهم.

ويزعم المستشرقون ويتناقل بعض العرب الفكرة نفسها، ويرون أن الفقر والجوع أو العامل الاقتصادي حسم مسألة الفتح، رغم أن الوضع الاقتصادي في شمال إفريقيا لم يكن بأفضل حال من الجزيرة التي كانت وستظل لقرون طويلة أرض رخاء اقتصادي خاصة ومجاورتها لأرض خصبة كالهلال الأخضر، وحتى أن مسألة الجوع لم تكن بتلك القوى، وذلك أن العرب عموما لم يكونوا قوم شراهة بل العكس، وهذا يفسر انتصاراتهم على أهل الحضارة والمدنية التي أثقلت البطون والعقول كما يشرح ابن خلدون في مقدمته، وكما قلنا فمنقطة شمال إفريقيا شهدت مجاعات متتالية عبر تاريخها، وكانت أغلب مناطقها مقفرة وقصة بناء القيروان خير مثال.

كما أن تاريخ التغذية في المنطقة معروف وليس فيه نوع من البذخ الذي اشتهر في المشرق أيام الأوج الإسلامي، فمعظم المأكولات مشتقة من القمح، ويكاد اللحم لا يحضر إلا في المناسبات، والحلويات لم يتعرف إليها بشكل قوي إلا في الأندلس وعند دخول العثمانيين.

الموقف السياسي يقترح أن تكون المعاملة بالمثل مع المعتدين والظالمين، إذ لا استكانة مع الغزاة، وهذا المبدأ الذي عُرفت به كل الشرائع السياسية، والناس لا تريد أن تفهم أن الإسلام ليس محض دعوة روحانية بل هو شريعة ربانية دنيوية وسماويّة؛ وهنا يحدث الاختصام بيننا وبينهم، فهم يرون في الإسلام دين محضًا ونحن والراسخون في العلم يرونه شريعة تنظم حياة المسلم من ألفها إلى يائها.

وحين لا يريدون الاعتراف بذلك يتهمون الإسلام بأنه دين عدوانية، ولو اعترفوا بالشريعة لاتضحت الصورة، لكنهم يريدونه دينًا صوريًّا كالمسيحية يبدأ عند باب المسجد وينتهي عنده.

وحتى في الموقف السياسي يجب أن نميز بين السياسة في الإسلام وبين ما نعرفه عن سياسات الدول، فليس من الإسلام هذه الحروب الفتاكة التي نراها تُشَن لإهلاك الزرع والنسل، ولا منها المؤامرات والمكائد وإفقار الدول وضرب المستشفيات كما فعلت أمريكا -مستشفى السودان مثلا-.

إن الموقف السياسي أو الحربي في الإسلام تؤطره أخلاق المسلم، بينما تنبني السياسة الحالية على البراغماتية والعلمانية التي تلغي الأخلاق لصالح المصلحة والمنفعة، فلا ضرر برأيهم في إبادة الهنود الحمر لقاء تأسيس امبراطوريات غربية في قارة أمريكا وهلم جرا.

يقول ول ديورانت في كتابه “قصة حضارة”، [مج4، ج2، ص82-83:
“ولقد كانت جيوش العرب خيراً من جيوش الفرس والروم… لقد كان في وسعهم أن يحاربوا وبطونهم خاوية، ولكنهم لم يكونوا في حروبهم همجاً متوحشين، انظر إلى ما أوصاهم به أبوبكر” فانظر كيف يشير إلى وصايا أبي بكر الصديق رضي الله عنه المعروفة، والتي لن تخرج عنها قلوب العقلاء وأفكارهم.

ول ديورانت

سعيًا لتحريف الإسلام

يرى روّاد المراكز الغربية المؤثرة أنه “من المستبعد أن يغير الشباب المنتمي لحركات الإسلام الراديكالي آراءه بسهولة. أما الجيل التالي، فالمتصور أنه يمكن التأثير عليه وتشكيل وعيه، بإدماج رسالة الإسلام الديمقراطي في المقررات الدراسية ووسائل الإعلام” [شيريل بينارد، الإسلام الديمقراطي المدني، ص115] وبعد أن تأكّد الغرب أن تغيير الإسلام لن يتم من خلال كتابات المستشرقين، بدأ العمل الحثيث لتغييره من الداخل وعلى يد أبنائه، وقد أشرنا في مقال سابق إلى ضلوع مفكرين عرب معروفين في هذا المشروع.

ولعل مؤسسة راند الأمريكية رائدة ولا شك في هذا المجال، بتقديمها للدعم المادي للحكومات وتدريبها للكوادر العربية واحتضانها لكل مفكر مناهض للإسلام، والكاتبة مذكورة آنفا إحدى محللي المؤسسة ونسوية شرسة وكتاباتها في هذا الصدد معروفة.

انطلاقا من التركيز على الموقف السياسي للإسلام من الآخر ولنقل بشكل واضح من الامبريالي يجد الغرب نفسه في مواجهة مباشرة معه، فهو يريد شعوبًا خنوعة وشرائع تتماهى والهيمنة الغربية بل وتطالب بها تحت مبرر جلب التقدم والازدهار.

وهذا من بين الأهداف الواضحة التي تقدم مؤسسة راند عبر الكتاب السابق والصفحة نفسها، نصيحة تؤكد على أنه لا بد من: “نقد النظرة التقليدية بإظهار العلاقة السببية بينها وبين التخلف. وعلاقة الحداثة والديمقراطية بالتقدم والازدهار”

إذا تأملت في هذه النصيحة فستجدها أشد مبررات المنبطحين ثقافيا، ففي نظرهم الدين وخاصة الإسلام سبب كل تخلف في العالم الإسلامي، والحل الوحيد للخروج من حالة التخلف إلى حالة التقدم التخلص من الدين أو إفراغه من مضامينه.

وهكذا يطرح الإسلام الجديد أو “إسلام السوق” كما يسميه “باتريك هايني”، يشرح الكاتب الفرنسي معنى إسلام السوق بقوله: “وأعني بإسلام السوق مزيجا النزعة الفردانية المتعولمة، ونزع القداسة من الالتزام التنظيمي، بما يتضمّن ذلك من التخلي عن الشعارات الكبرى التي تتمحور حول الإسلام هو الحل، وإعادة النظر في فكرة شمولية الإسلام لكل مناحي الحياة” [باتريك هايني، إسلام السوق، ص 24].

يدعم الرجل رأيه بالدعم الذي تلقته المنظمات الإسلامية أثناء الربيع العربي، وهنا يشير مباشرة للإخوان المسلمين في مصر وحتى المغرب باعتبارهما نموذجا واضحا لمشروع الإسلام الجديد الذي يقوض أساس الإسلام ومشروعه، وهو ما يشيره إليه في قوله “إعادة النظر في فكرة شمولية الإسلام لكل مناحي الحياة”.

فالأحزاب السياسية الإسلامية التي تتنازل عن ثوابت الدين في معطياتها النظرية والعملية السياسية جزء من خليط من الدعاة والمنشدين وغيرهم يمثّل اتجاه إسلام السوق، وهدف هذا الإسلام واضح، وهو الانتقال من الإسلام العالمي إلى الإسلام القطري، ومن إسلام يعد بإصلاح العالم الغربي إلى إسلام يستجيب لإصلاحات العالم الغربي، ولعلنا نمثّل لذلك بدفاع حزب العدالة والتنمية في المغرب عن اتفاقية سيداو؛ والتي تتعارض جملة وتفصيلا مع الإسلام الأصلي.

يبدو أن الإسلام الجديد يلقى رواجًا وقبولًا لدى أبناء كثير من النشء الجديد والفئات المثقفة المتحررة من ضوابط الدين، ظنًّا منهم -بعد صراع طويل مع الغرب والاستبداد وقراءات طويلة- أن تعاليم الإسلام تتعارض مع الحداثة، ومع السياق التاريخي، فلا يُتصوَّر مثلًا تحريم الربا في عالم مبني على القروض، ولا تحريم الغناء في مجتمع مسلم يصبح ويمسي على ألحان المطربات المطربين وتنظم الحفلات في كل بقاعه، حتى في أشرفها، نرى اليوم تحولا واضحا نحو الانفتاح على الثقافة الغربية، وخير مثال احتفالات الهالوين في أهم دولة مسلمة في جزيرة العرب!

ولعلي أختم بهذه الخلاصة، إن الناس يعتقدون -عبثا وعن قلة اطلاع- أن الحداثة تعد بالرخاء وأن الالتزام بالإسلام يؤدي للفشل، متغافلين عن كون أن الحداثة لم تنجح في بناء عالم آمن أو مزدهر، وانظر حولك تتأكد فمن حرب إلى حرب ومن أزمة إلى أخرى؛ ونؤكد لهم أن الإسلام لم يفشل في بناء المجتمعات المزدهرة بل نجح أيما نجاح في ذلك في أوقات قصيرة حين ساد وحكم والأندلس كمثال، إلا أن تخلّف المسلمين عائد إلى عوامل أخرى ليست محل بحثنا على رأسها الفساد والظلم.

أسلمة الكرة وإدارة الوهم!

لا أرجّح أنّ تكليف أحد الأقطار العربية بتنظيم كأس العالم هو نزوة سياسية أو ارتجال دولي، لأنّه لا شكّ بأنّ النظام الدولي الحالي تجاوز فترة المراهقة السياسية بأشواط وأشواط! لذا ما يبدو أنّ تكليفنا بالتنظيم الكروي ليس انتصاراً سياسياً عربياً أو فتحاً إسلاميّاً لحضارة الغرب! بل هو ربما فخٌ حضاري وتكريس احترافيّ لانتصارات النقيض الثقافي ومحاولات واثقة عابرة للقارات تهدف لسوس الرأي العام العربي والإسلامي إلى ميدان المعارك الافتراضية لتكريس غيابه وتغييبه عن المشاركة في الساحة الحضارية الفاعلة! ليس انتصاراً أن نُلبِس لاعباً لباسنا العربي وهو ذاته الذي ألبس شعبنا ومفكّرينا لباسه الكروي! ليس انتصاراً حضارياً أن نقيم فعّالية ما لثقافات الغير في مشرقنا، فهذا الانتصار هو انتصارٌ لصاحب الفعّالية وليس لمنفّذها، الانتصار الحضاري يكون عندما يشيّد لنا الآخر الثقافي لديه فعّالية ثقافية تخصّ حضارتنا العربية والإسلامية! ما يجري هو انتكاسة خطيرة للحضارة العربية والإسلامية بنكهة الانتصار الاجتماعي، وإنّ خطورة ما يجري هو ليس في تسلل معلومة أو معلومات أو بإضاعة الوقت وهدر الأموال والتبذير والإسراف أو متابعة الكرة لمجرّد الكرة، أبداً ليس في كلّ ذلك! بل الكارثة هو أنّ ما يجري يعبث في مناهج التفكير الاجتماعي الإسلامي والعربي! إنّ ما يجري هو تكريس للغيبوبة الحضارية وتديين للكرة والحذاء الرياضي وتوظيف للدين وتحويل الملعب لمعبد حضاري والجماهير لدراويش يطوفون بعواطفهم وهم سكارى حول الوثنية الأنيقة! لا تغرّنك الصور الاجتماعية الإيجابية التي تحاكي العاطفة العربية والإسلامية والتي اعتبرها البعض نصراً اجتماعياً وحضارياً وثقافياً، إنّ مثل هذه المشاهد لا تعدو كونها صرخات إعلامية دون صدى وبذور بلا تربة وسارية بلا جذور! هي لا تعدو عن ديدان يستخدمها الصياد الدولي ليس لأنّه يحبّ الديدان ولكن لأنّ السمك هي من تحبّ الديدان!

تديين الكرة

ما يجري اليوم في كأس العالم هو تديين لكرة القدم والحديث عن تسويق الإسلام خرافة ساذجة، الدين في هذه الفعّالية العالمية لا يعدو عن طعم اجتماعي يصطاد بواسطته القائم بالاتصال الحضاري الدرويش الاجتماعي والثقافي والديني!

إنّها لظاهرة عجيبة وتحتاج لوقفات بحثية لا يحيط هذا المقال بتفاصيلها! كيف لمشايخ الصوفية والسلفية والمجددين أن يخضعوا لإرهاب الجماهير التي تحجّ للكأس وتتعبّد الكرة في هذا المعبد الرياضي الحضاري! إنّه لسقوط حضاري نخبوي أن نشاهد المثقف الديني والعالم والشيخ ذو الحضور الاجتماعي الكبير راحوا يتفننون بتكريس ثقافة الكرة دينياً بطريقة أو أخرى، لدرجة أنّ بعضهم أصبح يتعبد الله بالدعاء بنكهة رياضية! وآخر يستحضر الفتوحات الإسلامية والصراعات الحضارية مدعياً أنّ ما يحصل أساسٌ بإمكان الحضارة الإنسانية أن تبني عليه!

والحقيقة أنّ ما يحصل هو تخدير للسلوك وتفريغ وتوظيف للعواطف الإنسانية محرّك السلوك الإنساني في غير مكانها اللائق! إنّنا اليوم أمام إسلام وظيفي ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل الأخطر هو امتداده لكافة الأصعدة الاجتماعية والثقافية والمدنية والرياضية، ممّا يُنذر بدوره بتعطيل حركة هذا المتغير الإسلامي بالمطلق ويحوّله لقوة عاطفية دافعة يتم استغلالها لتحقيق أهداف مشاريع سياسية واستراتيجية لقوى الحضارات النقيضة لا لكيانها الذاتي! الدين اليوم يبعد أشدّ البعد عن منهج الدين الحقيقي المبني في أصوله على أسس الحرية والتدافع الاجتماعي والسياسي والثقافي وفق ثوابت ومتغيرات معيّنة.

النصر الافتراضي وصناعة الوهم

إنّ أخطر ما ينتج عن خلط الكرة بالدين والقضايا الاجتماعية، هو خلق حالة نصر افتراضية أو هزيمة افتراضية بما يتعلّق بأمور حضارية وفكرية واجتماعية ودينية، هذه الكرة لم تعد لعبة، هذه سياسة منظمة في تخريب المنهجية العصبية للحضارة العربية والإسلامية!

ربما يتساءل البعض، أليس من المبالغة القول بأنّ الإنسان يتأثر بالواقع الافتراضي كما يتأثّر بالواقع الحقيقي؟ البتة وعلى الإطلاق.. فقد قيل قديماً: “ما قادك مثل الوهم”!. وعلى ما يبدو فإن مثقفنا المتدين الكسول قد أمل التغيير الحقيقي فراح يفرّغ عاطفته الحبلى بالعواطف في المعبد الحضاري الكروي، لينتقم بكل غباء من الحضارات المعادية، وليبدأ ببناء حضارته التي يحلم بها على سراب من الوهم الحضاري العاطفي الثقافي المتخبط التي تختلط المشاعر فيه دون إدراك!

ما يجري في كأس العالم لم يكن استحضاراً للجن بل استحضارًا للعاطفة القابلة للتوظيف وليس للبناء! نعم ما قادك مثل الوهم، إنّ الإنسان بداخلنا لا يفرق بين المؤثر الحقيقي وغير الحقيقي، وإنّ الجهاز العصبي يتفاعل مع المؤثر الذي يتعرض إليه سواء كان حقيقيا أو لا؛ لذلك أرى أنّ العالم الافتراضي قادر على إعادة هيكلة الثقافة انطلاقا من العواطف لا العقل والسلوك الإنساني وبالتالي من الممكن أن يشعر الإنسان بالانتصار وهو مهزوم!

إنّ إدارة السلوك بواسطة العاطفة بالطبع لا تتحقق بصورة أو موقف أو فعّالية، بل بمنظومة منهجية متكاملة تشمل كافة المجالات والمفاصل الاجتماعية والإعلامية، لذلك من المستبعد أن يتأثّر المواطن الغربي في مثل هذه السلوكيات لأنّه خاضع لمنطومة واثقة تحكم مدخلاته، في حين يتأثر المواطن العربي بالأفكار والمناهج الفكرية السلبية حكماً لأنّه مستهدف بشكل ممنهج ومنظم وبكافة المجالات المفصلية!

في المقابل فإنه من غير الصواب -أصلاً- أن نحقن الجيل الإسلامي بعواطف غير متوازية مع خطوات التثقيف العقلاني والفكري، لأنّ ذلك من شأنه في الوقت الراهن أن يجعل هذه الشرائح الاجتماعية العاطفية المستهدفة سهلة الانقياد الحضاري والتوظيف السياسي من قبل النقيض الحضاري. وعندها نكون أمام ظاهرة خطيرة وهي تغييب العقل واستحضار العاطفة القابلة للتوظيف لتحقيق مصالح الآخر السياسي أو العسكري أو الثقافي، بدلاً من أن تكون العاطفة والحماس أداة متزنة تتناغم مع العقل والتعليم، لتشكّل قوة حركية دافعة قادرة على الحضور في منظومة حضارات العالم!

أمّا التفاؤل بإمكانية تحوّل السجود في الملعب لثقافة عالمية وإنسانية تفاؤل في غير موضعه، فالسجود في الملعب هو للكرة والجمهور وإن كان ظاهره لله! وحتى لو تحولت السجدة جدلاً لثقافة عالمية، فأين الانتصار بأنّ نربي إنساناً وثنياً سلوكه لا ينبع من علمه بل من عاطفته! أليس الله هو من قال: {فاعلم أنّه لا إله إلا الله} [محمد: 19] بهدف ألّا يتحول الدين لأداة تكريس للوثنية المقنعة وكي لا يتحول بدوره أيضاً لفريسة آمنة للتوظيف السياسي! إنّ قناة التغيير الحضاري السليم ليست العواطف، وإنما التفكير والعقل!

اختطاف الفضيلة

لقد لاحظت في الآونة الأخيرة استراتيجية ملفتة يتّبعها رجال العلاقات العامة في علوم الإعلام والاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي أثناء تسويقهم الاجتماعي لأفكار دخيلة إلى الثقافات العربية الإسلامية أو أثناء تفريغ أفكار الثقافة العربية الإسلامية من فاعليتها لتبقى مجرد منظومة عواطف قابلة للتوظيف وخالية من الفاعلية الحضارية.

هذه الاستراتيجية أُطلِق عليها -إذا صحّ التعبير- استراتيجية (اختطاف الفضيلة)، حيث يتترّس التافهون بالفضيلة ويستخدمونها كطعم اجتماعي يهدف إلى اصطياد الفريسة الاجتماعية المنحدرة من أصول الثقافات النقيضة بالنسبة للقائم بالاتصال الحضاري والثقافي، لذلك أصبحنا نشاهد الخاطفين وبكثرة غير مسبوقة من لاعبين ومغنيات وراقصات وفنانات وإعلاميات وممثلات أفلام إباحية حتى! يتترّس أحدهم وراء الفضيلة (الحجاب، بر الوالدين، تحرير فلسطين، المقاومة… الخ) أي القضايا المتفق عليها اجتماعياً في الثقافة المستهدفة، ويتم الكلام عن هذه القضايا الاجتماعية بإيجابية وخشوع تام، إلّا أنّ واقع المتكلّم يناقض ما يتكلم به، مما يؤثر استراتيجياً -بطبيعة الحال- وسلباً على فاعلية الفكرة وتقبّلها، لوجود هوّة شاسعة وتناقض فادح بين القائل والقول!

لكن النتيجة الاجتماعية الآنية حتماً تكون هي تنصيب هذه الشرائح الاجتماعية (الخاطفين) كأحد القدوات الاجتماعية المتصدرة في العقل الجمعي وبعقل المراهق الاجتماعي الذي يعيش بالتوازي حالة سبات بالغة مع حضارته إلا اللهم بالنسبة للمبادئ المتحكمة به نفسياً والمنبثقة من ذاتية المجتمع العميق، لكن بذات الوقت إنّ هذه المبادئ لا تعدو كونها أقرب لمرض نفسي اجتماعي، من كونها منظومة قيم قادرة على تشكيل حضارة ثقافية مؤثرة يمكن أن يتم البناء عليها في المستقبل!

ونتيجة لـ(اختطاف الفضيلة) من قبل هذه الشريحة الاجتماعية المتحكمة والمسيطرة على اللاوعي العربي الإسلامي، يتأثّر المراهق الاجتماعي بهذه القدوات ويتقبّلهم كأحد النماذج المكونة لثقافته وفكره ومنهجه، وبالطبع فإنّ المراهق الاجتماعي العربي الذي يعاني -بطبيعة الحال- من اضطراب في الهوية والمسكن والاستقرار، يتقبّل بطريقة لا إرادية كافة الأفكار السيئة الأخرى التي تؤمن بها هذه القدوات مسبقة التصنيع السياسي والتي اختطفت بدورها الفضيلة قولاً لا فعلاً، لأنّه من طبيعة العقل الجمعي أنّه يعجز عن الغور في التفاصيل، ويستقبل منظومة فكرية لشخص بعينه، لمجرد أنّ هذا الشخص المشهور أثنى على فضيلة ما يمارسها هذا المراهق، وعليه إنّ المراهق الاجتماعي يقبل الآخر بصورة عامة ودون تفنيد كافة أفكاره.

لذلك فإنّ الحديث الراقي عن فضيلة الحجاب إذا صدر من ممثلة متخلّعة أو إعلامية استعراضية خاضعة بقولها وأفعالها، فهو حديث لا معنى أو تأثير له حضارياً مهما بلغت شهرة هذه المتحدثة! واليوم نلاحظ أنّ استراتيجية “اختطاف الفضيلة” تتم بشكل ممأسس واحترافي وغير مقصود عربياً من خلال صبغ كأس العالم ببعض المشاهد الاجتماعية الإيجابية، وهذا باعتقادي لا يؤدي لتسويق الفضيلة بل لاستخدام الفضيلة لتسويق نماذج بعينها ولتسويق منهج تفكيري يكرّس الغيبوبة الحضارية التي تسيطر على الواقع العربي والإسلامي منذ عشرات العقود!  فإنّ مشهد اللاعب المغربي وهو يراقص أمّه فرحاً، يخلق استجابة متباينة، ما بين عقل المتلقي الغربي والعقل العربي بطبيعة الواقع، لأنّ الرسالة لا يكمن معناها بذاتها، بل تقرأ بواسطة الرموز المتراكمة في عقل المتلقي، ولا شكّ أنّ رمز مفهوم الأم بعقل الابن الغربي والعربي تحدده متغيرات التربية والمناهج والمدرسة وأسلوب الحياة، لا صورة لأحد الرقصات! التخيل أنّ هذه الصورة ستغير قواعد الأسرة في الغرب هو تفكير سينمائي ساذج! أيضا إنّ طرح قضية الشذوذ في المنطقة العربية بكأس العالم بهذه القوة يؤدي لتسويق الشذوذ لا العكس، لأنّ طرح الفكرة سواء بشكل إيجابي أو سلبي في بلد لا تتكلم بهذه الفكرة على المستوى الاجتماعي هو بحدّ ذاته تسويق للفكرة! أمّا الزعم أننا نعالج الشذوذ الموجود في الغرب فهذا كلام غير منطقي لأنّه تبعا لما بينت أعلاه بأنّ الرسالة تقرأ بالرموز الموجودة بعقل المتلقي، يعني أنّ الغرب اليوم ما زال ينظر للشذوذ بطريقة إيجابية ولكن أصبح ينظر للعرب بأنهم ضد الحرية.

في النهاية ولئلا نبخس الجهة المنظمة حقها أؤكد -انطلاقًا من قوله تعالى: {قل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219] وإذا أردنا أن نحكم على الجهة المنظمة انطلاقاً من مكانها الجغرافي وسياستها الداخلية مع مواطنيها فهذا إنجاز لا شك ولكن على مستوى الأمة فالأمر يختلف لاختلاف الخطط الثقافية والسياسية والاجتماعية الموازية في باقي المناطق العربية، وفي زمن الإعلام لم يعد بإمكاننا الحكم على فاعلية وصلاحية الحدث بمعزل عن متغير الإعلام الذي حوّل العالم العربي والإسلامي لقرية صغيرة.

هل استطاع الغرب حرفَ الإسلام نحو التشوّه الحداثيّ؟

أصدرت مؤسسة راند، التي تعتبر من أهم مراكز الدراسات الإستراتيجية الأمريكية، وأحد أهم الأذرع البحثيّة للإدارة الأمريكية تقريرًا بعنوان “الإسلام الديمقراطي المدني” قبل حوالي تسع سنوات، يهدف الطرق المناسبة لتغيير الدين الإسلامي وفق قوانين النظام العالمي، ويطلب تشجيع الحكومات والشعوب المسلمة على الإقدام لتنفيذ ذلك الأمر.

اقترح التقرير الإستراتيجيات المناسبة لبلوغ هذا الهدف، حيث تقول الباحثة النمساوية صاحبة التقرير شيريل بينارد: “من الواضح أن الولايات المتحدة والعالم الصناعي الحديث، بل المجتمع الدولي برمته، يفضلون جميعًا عالمًا إسلاميًّا متناغمًا مع النظام العالمي، فمن الحكمة تشجيع العناصر الإسلامية المتوائمة مع السلام العالمي والمجتمع الدولي، والتي تحبذ الديمقراطية والحداثة”(1).

إن المقصود هنا هو إعادة بناء عالم إسلامي خاضع للقوانين الدولية التي يضعها الغرب وأمريكا دون نقدها أو رفضها من قبل الشعوب الإسلامية وحكوماتها، ودون الحاجة للعودة إلى المرجعية الإسلامية وشريعتها حتّى ولو كانت هذه القوانين مخالفة للفطرة الإنسانية، فالهدف هو فصل العالم الإسلامي عن عقيدته الإسلامية وعن شريعته والتطبيع مع القوانين التي تضعها الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.

لنا أن نتساءل اليوم بعد مرور حوالي تسع سنوات عن إصدار هذا التقرير، ما هي الإستراتيجية المتبعة لبلوغ أهداف التقرير، وغرس الحداثة في روح العالم الإسلامي، وما مدى تأثيرها في واقع مجتمعاتنا اليوم؟

الإستراتيجيّة الأمريكيّة

إن أساس الإستراتيجية الأمريكية في تغيير الإسلام وتمييعه قائمة بدرجة أولى على دعم الحداثيين في مختلف مجالات الحياة والترويج للحداثة، وتأكيدًا على ذلك تقول الباحثة شيريل بينارد: “والرؤية الحداثية متوافقة مع رؤيتنا. ومن بين كل الأطياف، فإن هذه الفئة شديدة الاتساق مع قيم وروح المجتمع الديمقراطي الحديث، وهذا يشمل بالضرورة تجاوز الاعتقاد الديني الأصلي أو تعديله أو تجاهل بعض عناصره على نحو انتقائي. والعهد القديم لا يختلف عن القرآن في دعم ألوان من القيم والمعايير وترسيخ عدد من القوانين الشاذة إلى درجة لا يمكن تصورها بغض النظر عن تطبيقها في مجتمع اليوم الحديث”(2). والسؤال المطروح هنا ما هي أسس الرؤية الحداثية؟

الحداثيون يعتبرون الإسلام حركة تاريخية وشريعته غير ثابتة بل هي لا تصلح إلا في الفترة الزمنية التي ظهر فيها ويمكن تغييرها وفق متطلبات العصر مع الحفاظ على القيم الأخلاقية والإنسانية التي لا تتعارض مع قيم الديمقراطية والحداثة العالمية، وللفرد حرية التديّن وفق الطريقة التي تناسبه وتبقى دائمًا مصلحة المجتمع أهم من تعاليم القرآن وأحكامه، فالحكم والقوانين المنظمة للحياة في مختلف المجالات لا علاقة لها بالإسلام بل هي فقط من صنع العقل الإنساني وفق ما يرى فيه مصلحة له ولمجتمعه.

لا تقتصر الاستراتيجية على دعم الحداثيين وحدهم بل إن أمكن دعم غلاة التصوّف غير المنضبط بتعاليم السنة النبوية الذي يوصى بالانعزال من الحياة والتعبّد السلبي الذي لا ينشر إلا البلاهة والخرافات والضعف والجمود! فمن الوصايا في هذا التقرير نجد: “تعزيز مكانة التصوف بتشجيع الدول التي توجد بها تقاليد صوفية قوية على زيادة الاهتمام بهذا الجانب من تاريخها وبثه في مقرراتها المدرسية”(3).

ومن أهم بنود هذه الإستراتيجية هي دعم الرؤية الحداثية للإسلام والترويج لها ونشرها تحت غطاء الإسلام الحداثي وهذا ما يحدث في مجتمعاتنا اليوم بظهور نخب مثقفة في المنابر الإعلامية تفسر الإسلام وفق أهوائها وتبطل أحكامه وتحل ما حرم الله في كتابه، ومن البنود أيضًا صناعة قدوات وزعمات وعلماء حداثيين وتصديرهم للعامة، ومحاول غرس أفكارهم داخل المجتمع، وإظهارهم على أنهم يملكون الحل لمختلف المشاكل، وبهم يتقدم المجتمع، وجعلهم رموزًا قوميين، بهدف التأثير في العامة ودفعهم للاقتداء بهم في كل شيء، فيسلمون لقولهم وأمرهم.

من أهم البنود التركيز على مبدأ الاختلاف والتفرقة بين مختلف الطوائف والمذاهب الإسلامية وتأجيج الصراعات بينهم مع استغلال أخطاء زعمائهم وزلاتهم الأخلاقية، ونشرها بين العامة، مع إبراز فشل الجماعات الإسلامية في الحكم وعجزهم عن النهوض بالبلاد، وتقديم المشروع الحداثي على أنه البديل والحل للتغيير والنهوض، وكثيرًا ما نرى اليوم بعد الثورات وصول الأحزاب الإسلامية للحكم وإخفاقها لأسباب داخلية أو خارجية، ومن ثم الترويج أنّ سبب ذلك هو توظيف الإسلام في السياسة وعدم صلاحيته لذلك ومن ثم الدعوة للفكر الديمقراطي الحداثي وإيهام الناس بذلك، ومن البنود أيضًا التشكيك في الثوابت الإسلامية كالسنة النبوية وبث الشبهات حولها، حتى يشعر الفردِ بضعف وشكّ في دينه فيترك تعاليمه ولا يُصدّقها، وكثيرًا ما نرى في الآونة الأخيرة حملات تشكيك تهز المجتمع وتتركه تائها.

من البنود المهمة فكرة ترسيخ مفهوم تحديث أو تجديد الإسلام على النحو الحداثي في مناهج التعليم وغرسه في الناشئة وأنه هو طريق السلام العالمي والتقدّم والتطوّر والتّرويج لذلك في المنابر الإعلاميّة وربط مشاكل المجتمع بالشّريعة والدّين، ونحن اليوم نعاني كثيرًا من مشكلة هجر أبنائنا لتعاليم الإسلام والتمرد عليه. فهذه البنود هي الواردة إجمالًا في التقرير، ولمن أراد التوسع فيها فيمكنه العودة للتقرير ومراجعته.

مظاهر الإستراتيجيّة الأمريكيّة داخل مجتمعاتنا

بعد هذه السنوات من العمل والتنفيذ لهذه الاستراتيجية، بتنا نرى اليوم أجيالًا لا تعرف من الإسلام إلاّ الاسم، بعيدة عن مبادئه ونافرة من شريعته، ترى ضرورة فصل الدين عن السياسة والاقتصاد، وجعله حرية شخصية لمن أراد الالتزام به، كما أن من يُطبّقه في نفسه وأهله صار يشعر بالغربة والتنمّر في مجتمعه المسلم، وفي المقابل أصبحت الحداثة والديمقراطية والقوانين الوضعية هي المرجعية لكل شيء، ومن أراد الاستقرار ومواكبة النظام العالمي فلا بد له من الانسجام مع هذه المفاهيم فالدين لم يعد المميّز لهوية المسلم ومرجعيته ومبادئه في الحياة، فقد أُفرِغ من محتواه وأصبح عقيدة خاوية بلا عمل ولا التزام!

أصدرت “بي بي سي” تقريرًا يثبت تراجع نسبة التديّن في العالم العربي سنة 2019 إذ ارتفعت نسبة الغير المتدينين من 8% إلى 13% منذ عام 2013، ويعتبر هذا الأمر ملموسًا في مجتمعاتنا فقد أصبحت المصلحة هي الراجحة حتى ولو كانت حرام ولم يعُد هنالك توقير وتعظيم للحدود والحرمات التّي وضعتها الشريعة الإسلامية وأصبحت هناك توسّع في اللامبالاة بأحكام الإسلام خاصة لدى غالبية الشباب فيمرحون ويعيشون وفق أهوائهم، وبالتالي تبع ذلك انحلال الروابط الأسرية وعدم تحمل المسؤولية والكثير من المظاهر السلبية تحت مُسمّى الحداثة والحريّة.

في هذا السياق لا يمكن نسيان موضوع المرأة وتصاعد أيديولوجيات النسوية وارتفاع ظاهرة خلع الحجاب والابتعاد عن الحياء وانتشار التعرّي في الأماكن العامة، ومن هذه المظاهر أيضًا ما يحدث اليوم في بعض البلدان العربية من محاولة تجديد الإسلام -كما يقولون- وإدخاله تحت منظومة الحداثة، فانتشر الاختلاط والحفلات الصاخبة تحت مسمى الحداثة، وأصبحت هنالك دعاوى لتحرير المرأة وفق المنظور الحداثي الغربي، ولم يعد المجتمع المحافظ فيها محافظًا كما كان تحت وطأة عملية التحديث!

مؤخّرًا أصبحت هنالك حملات متتالية من أجل دمج العالم الإسلامي في النظام العالمي، بهدف قبول الشذوذ الجنسي واعتباره حرية شخصية لا علاقة له بالدين وتغييبه عن توجيه العامة للصواب، فأصبح من المسلمين المعاصرين من يدعم هذا السلوك الشاذ ويدافع عن أصحابه باسم الإنسانية!

هل نجح الغرب باستراتيجيّته؟

لنا أن نقول هنا بأن الغرب حقق نجاحًا ملموسًا في هذه الإستراتيجية المُتّبعة، فمجتمعاتنا اليوم أصبحت بعيدة عن دينها وأحكامه، وبات الكثير من الناس لا يُقيم للدين وزنًا، ولا تحتكم لشريعته، ويا لها من حقيقة مفزعة ومحزنة!

إن المسلم اليوم الذي يتعامل بالربا ويعتبر ذلك من متطلبات العصر، وأنّ الدين يبيح في نظره ذلك بسبب المُتغيّرات التّي نعيشها، والمسلم الذي يقنع نفسه بأن التصرفات اللاأخلاقية التي  يشجع عليها الشيطان وينهى الإسلام عن اقترافها، هي أفعال لا بأس بها ولا شأن للدين في تنظيمها، أهذا المسلم هو الذي وُصِف بأنه المستسلِم لأمر الله الباحث عن رضاه ومقيم الدين في نفسه وأهله.

فالمُسلم المُعاصر الذي يعتبر الانتساب للدّين شأنًا صوريًّا، فلا يلتزم بأحكامه وشريعته، ويرى أنه غير مُطالبٍ بالالتزام بتعاليم الدين، وأنها قد تتغيّر بتغيّر متطلبات العصر، فإنه سائر على خط ما يُسمّى بـ تحديث الإسلام وفق النهج الديمقراطي الذي تسعى أمريكا لترسيخه بيننا.

المفهوم الحقيقي للإسلام

انساق كثير من الناس وراء هذه الإستراتيجية دون وعي منهم، إلى جانب انبهارنا بما تُقدّمه الثقافة الغربية لنا، ولكن إذا أردنا العودة للعقيدة الصحيحة وإصلاح واقعنا فلا بد لنا أن نعلم أوّلا أنّنا نخوض حربًا عقيدية هدفها مسخ الهوية الإسلامية وذوبان مجتمعاتنا داخل النظام العالمي وهذا ما نبهنا منه الله عز وجل في كتابه العزيز: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].

كما أنه لا بدّ لنا -ثانيًا- من العودة للمفهوم الصحيح للإسلام وكيف ينبغي لنا أن نفهمه، فالإسلام الحقّ يكون بتسليم النفس كلها لله وأن تكون أفكارنا ومشاعرنا وأقوالنا وسلوكنا العملي محكومة كلها بما أنزله الله لنا من قرآن وسنة نبوية.

إن شهادة أن لا إله إلا الله تعني أن الله هو الخالق والمالك لهذا الكون والمُدبّر الوحيد لكلّ ما يقع فيه من أحداث ولا يخفى عليه شيء في هذا الكون الفسيح، فالأمر كله بيده فلا نافع، ولا ضارّ إلا الله فهو سبحانه وحده واهب الحياة ومُقدّر الموت لكل شيء، وهو وحده الرزّاق ذو القوة المتين، وهو وحده الذي ينبغي أن يُعبَد وأن تتعلّق به وحدَه القلوب فلا تخشى أحدًا سواه ولا ترجو أحدًا غيره، وهو وحده الذي يملك ويُشرّع للبشرية ويضع لهم النظام والقوانين التي يجب أن تقوم عليها حياتهم في مختلف مجالات الحياة فهو وحده العليم الخبير بما ينفع عباده بدون مصلحة أو محاباة لأحد، وكيف لا وهو الغني عن العالمين! وعلى المسلمين في المقابل أن يلتزموا بهذه القوانين والأحكام ويسعوا لإقامتها في واقع حياتهم والدعوة إليها وأن تكون هي مرجعيتهم في كل صغيرة أو كبيرة.

وأما شهادة أن محمدًا رسول الله فتعني أنه صلى الله عليه وسلم هو المُبلّغ عن ربّه بما أوحى له، ويجب الاقتداء به واتّباعه وطاعته مع طاعة الله، كما يُعتبر النّموذج الحي للتطبيق العملي لرسالة الإسلام، فلذلك وجب أن يكون هو القدوة والمعلم الأوّل في كلّ عمل وتصرّف وقول وما علينا إلاّ الاقتداء بسنته والتمسّك بها.

وهذه هي الحقائق العامة التي يجب أن تستقر في قلوبنا، وإعادة إحيائها من جديد، وأن نعود إلى الطريق السوي الذي رضيه الله لنا، فمن البداهة أننا لا يمكن أن ندّعي الإسلام ثم لا نلتزم بأحكامه بل نخالفها وندعي أنّ الإسلام في القلب وفي النية الطيبة! فالإسلام منهج حياة كاملة لا يُمكن تجزئته وفصله عن بعضه البعض وعلينا التشبث به مهما يترتب على ذلك من أخطار وتداعيات فهو الطريق الوحيد الذي سيوصلنا للنور والفلاح في الدنيا والآخرة.

ختام القول

إذا أردنا مقاومة هذه الموجة من الدعاوى لتحديث الإسلام وفرض نزعة الديمقراطية عليه وفق النموذج الغربي والأمريكي فعلينا أن نستيقظ من غفلتنا ونعي دورنا الفعّال بوضع استراتيجية متكاملة على مدى سنوات يتشارك فيها الجميع من مسلمين ودعاة وعلماء وفقهاء صادقين هدفها إعادة الروح المؤمنة وتوجيهها إلى حقيقة الإسلام وإيقاظ الضمير الخاضع لله من جديد.

على جميع الأفراد المُصلحين أن يكونوا خير نموذج تتجسّد فيهم مفاهيم الإسلام الحقيقية، ويجب أن نُذكّر من حولنا بهذه الحقيقة عن طريق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والالتزام المستمر بدورنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه الذي يرضي الله عنّا.


الإحالات

(1) تقرير مؤسسة راند، الإسلام الديمقراطي المدني الشركاء والموارد والإستراتيجيات لشيريل بينارد، الطبعة الأولى سنة 2013، دار تنوير للنشر والإعلام، ص 13.

(2) المصدر السابق، ص: 73.

(3) المصدر السابق، ص: 115.