الإسلام والنشء الجديد.. عناية لا تنضب

image_print

عُنِي الإسلام بالإنسان عمومًا وبالنشء الجديد -خصوصًا- أيما عناية واهتم بهم؛ لأنهم ركيزة المجتمع وعماده ورواد المستقبل وصناعه، وتتجلى تلك العناية في القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ فنرى الاهتمام بالنشء فيهما من قبل أن يكون نطفة في الرحم، وأثناء ما هو جنين في بطن أمه، وبعد ولادته، والحرص على بناء شخصيته في جوانبها النفسية والعقلية والاجتماعية والأخلاقية؛ لأجل أن يتحقق الهدف الذى خلق من أجله- وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له- فتتحقق بذلك العدالة الفردية والاجتماعية، التي معها يكون المجتمع صالحًا في دينه ودنياه، وباقيًا على الفطرة السليمة التي فطرها الله عليها {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: ٣٠] ومن هنا ندرك أن أحد أهم أسباب الإخفاقات والمشكلات الاجتماعية هو اتباع سنن من كان قبلنا شبرا بشبر وذراعا بذراع.

مظاهر عناية الشرع بالطفل

عناية الشريعة ههنا كانت في أدقّ التفاصيل قبل جليلها، ولعل من أبرز مظاهر تلك العناية هو حث المسلم على الزواج من المرأة الصالحة حتى من قبل أن يكون نطفة في الرحم؛ لينشأ الطفل في جو وبيئة إسلامية نظيفة لا تشوبها أي شائبة كما في قوله {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: ٢٢١] وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: (تخيروا لنطفكم وأنحكوا اﻷكفاء) [أخرجه ابن ماجه في السنن] وقوله أيضًا: (الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة) [أخرجه مسلم في الصحيح] وكذلك أن يستعيذ الرجل من الشيطان إذا أتى أهله؛ حتى لا يصاب النشء بأذى أو مكروه لقوله ﷺ: (لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبد) [متفق عليه].

عندما يكون الطفل جنينًا فإن الشريعة قد تعهّدت برعايته ورعاية أمه؛ فأجازت لها بالإفطار في رمضان؛ حتى ينمو نموا جسديا سليما خاليا ومعافى من الأمراض، عناية لم تنقطع حتى بعد تفرّط عقد الزواج إذ يقول الله عزّ وجلّ في حالة الطلاق: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: ٦].

وبعد ولادته تأمر السنة بالأذان في أذنه اليمنى وإقامة الصلاة بأذنه اليسرى؛ ليكون أول ما يقرع سمعه كلمات الأذان الدالة على وحدانية وعظمة خالقه الله عز وجل. وتسميته -أيضًا- بالاسم الحسن لما لذلك من تأثير على نفسيته إذ قال ﷺ: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وبأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم) [أخرجه أبو داوود] وقوله أيضا: (إن أحب أسمائكم إلى الله- عزوجل- عبدالله وعبدالرحمن) [أخرجه مسلم]

وكذلك أوجب لهم الرضاعة، وسنّ العقيقة، والختان، وتعويذهم من الشيطان، وغيرها من مظاهر العناية التى اهتمت بها الشريعة بالنشء؛ ليكون فردا صحيح البدن والفكر، بل واﻷبعد من ذاك كله هو تنظيم الشريعة لشكل العلاقة الزوجية واﻷسرية حرصا على سلامة النشء، وخاصة إذا ما كان هنالك شقاق بين أبويه؛ فحثتهما الشريعة على حسن المعاشرة لئلّا يؤثر ذلك على سلوك ونفسية الطفل، فقال الله عزوجل: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: ١٩] آية ذُيِّلَت بقول تعالى: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرًا} وبالنظر في كتب التفسير نجد أن الخير الكثير هو كأن يرزق منها ولد ويكون في ذلك الولد الخير الكثير.

نماذج من النشء حول رسول الله

وللنشء احتياجات ورغبات؛ إذا ما صيغت وأشبعت بطريقة صحيحة لصانته وصانت العباد والبلاد، وسنبحث في صفحات السيرة التي تؤيد صحة ومصداق ذلك:

فمن مواقفه العجيبة ﷺ وهو يتعامل مع النشء من حوله؛ أنه كان غلام يدعى طلحة بن البراء شديد الحب لرسول الله، حتى إذا كان النبيّ مرة في ديار قومه لقيه طلحة وجعل يلصق به ويقبل قدمه، (وقال: يا رسول الله مرني بما شئت لا أعصي لك أمرا، فعجب رسول الله وتبسّم فقال له : “اذهب فاقتل أباك” فتولّى مدبِرًا ليفعل فقال له النبي: “إني لم أبعث بقطيعة رحم”، ومرت اﻷيام فمرض هذا الغلام وجاء النبي يعوده، فلما انصرف قال لأهله: “إني أرى طلحة قد حدث فيه الموت، فإذا مات فأذنوني حتى أصلي عليه” ولكن طلحة قال لوالديه: ادفنوني وألحقوني بربي، ولا تدعوا رسول الله؛ فإني أخاف عليه اليهود أن يصاب بسببي -وروي أنه قد مات ليلا- فلما أتى الصباح وأخبر رسول الله بذلك، جاء قبره وصلى عليه) [أخرجه الطبراني في الأوسط وهو ضعيف]

هنا علّمنا رسول الله كيف كان يعود الغلام، وأن الصغار لديهم حاجة للشعور بالانتماء، وكيف هو دأب الصّغار في تقليد المتصدرين واتخاذهم قدوات يسيرون على ضوئهم، موقف بسيط علّمنا من خلاله سيد بني آدم عليه الصلاة والسلام أن اﻷحداث في السن لديهم اندفاع عجيب، اندفاع يتطلّب حكمة في الاحتواء والتّصويب، حتى لا يُترك لما يضرّه فتُستغلّ براءته في زيادة الباطل واستفحاله في المتجمع كما هو الحال في البيئات التي يطغى عليها الجشع ورفع الأسهم.

ومن تلك المواقف الحكيمة أيضا بعد عودته ﷺ من حنين، وخروج أهل مكة -المشركين- وسماعهم للمسلمين يؤذنون بالصلاة فصاروا يقلدونهم ويستهزئون بهم نكاية لهم، وكان منهم فتى يقال له أبو محذورة وكان أجملهم وأنداهم صوتا؛ فلما رفع صوته بالأذان سمعه رسول الله؛ فأرسل إليه وأجلسه بين يديه ومسح على ناصيته ودعا له بالبركة ثلاثا؛ فانشرح صدره وامتلأ باﻹيمان، فعلم أنه رسول الله فألقى عليه الأذان وعلمه وأمره أن يؤذن لأهل مكة وكان عمره ست عشرة سنة [أخرجه النسائي في السنن].

هنا علمنا رسول الله أنه كيف تعامل مع النشء غير المسلم، وعلمنا مداخل الحوار المثمر، وعلمنا كيف نوظف تلك المواهب الناشئة ونستفيد منها ومن طاقاتهم في صالح المسلمين-في زمن أهدرت فيه هذه المواهب والأعمار فيما تفسد على العباد والبلاد دينهم ودنياهم- وإعطاؤهم كذلك الثقة وتكليفهم ببعض المهام والمسؤوليات فيما لا يخرجُ عن استطاعاتهم.

إن الشريعة الإسلامية خير ملاذ، ومنبع الأمن الصافي للطفل في جميع أطواره، وما تحمله من مسؤولية وتكليف لا ينتهي عند مجرّد نزوة عابرة، يُترك بعدها الطفل ببراءته وطاقاته لحبال الرأسمالية تجبذه في الهاوية حيث شاءت!

Authors

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد