أسلمة الكرة وإدارة الوهم!

image_print

لا أرجّح أنّ تكليف أحد الأقطار العربية بتنظيم كأس العالم هو نزوة سياسية أو ارتجال دولي، لأنّه لا شكّ بأنّ النظام الدولي الحالي تجاوز فترة المراهقة السياسية بأشواط وأشواط! لذا ما يبدو أنّ تكليفنا بالتنظيم الكروي ليس انتصاراً سياسياً عربياً أو فتحاً إسلاميّاً لحضارة الغرب! بل هو ربما فخٌ حضاري وتكريس احترافيّ لانتصارات النقيض الثقافي ومحاولات واثقة عابرة للقارات تهدف لسوس الرأي العام العربي والإسلامي إلى ميدان المعارك الافتراضية لتكريس غيابه وتغييبه عن المشاركة في الساحة الحضارية الفاعلة! ليس انتصاراً أن نُلبِس لاعباً لباسنا العربي وهو ذاته الذي ألبس شعبنا ومفكّرينا لباسه الكروي! ليس انتصاراً حضارياً أن نقيم فعّالية ما لثقافات الغير في مشرقنا، فهذا الانتصار هو انتصارٌ لصاحب الفعّالية وليس لمنفّذها، الانتصار الحضاري يكون عندما يشيّد لنا الآخر الثقافي لديه فعّالية ثقافية تخصّ حضارتنا العربية والإسلامية! ما يجري هو انتكاسة خطيرة للحضارة العربية والإسلامية بنكهة الانتصار الاجتماعي، وإنّ خطورة ما يجري هو ليس في تسلل معلومة أو معلومات أو بإضاعة الوقت وهدر الأموال والتبذير والإسراف أو متابعة الكرة لمجرّد الكرة، أبداً ليس في كلّ ذلك! بل الكارثة هو أنّ ما يجري يعبث في مناهج التفكير الاجتماعي الإسلامي والعربي! إنّ ما يجري هو تكريس للغيبوبة الحضارية وتديين للكرة والحذاء الرياضي وتوظيف للدين وتحويل الملعب لمعبد حضاري والجماهير لدراويش يطوفون بعواطفهم وهم سكارى حول الوثنية الأنيقة! لا تغرّنك الصور الاجتماعية الإيجابية التي تحاكي العاطفة العربية والإسلامية والتي اعتبرها البعض نصراً اجتماعياً وحضارياً وثقافياً، إنّ مثل هذه المشاهد لا تعدو كونها صرخات إعلامية دون صدى وبذور بلا تربة وسارية بلا جذور! هي لا تعدو عن ديدان يستخدمها الصياد الدولي ليس لأنّه يحبّ الديدان ولكن لأنّ السمك هي من تحبّ الديدان!

تديين الكرة

ما يجري اليوم في كأس العالم هو تديين لكرة القدم والحديث عن تسويق الإسلام خرافة ساذجة، الدين في هذه الفعّالية العالمية لا يعدو عن طعم اجتماعي يصطاد بواسطته القائم بالاتصال الحضاري الدرويش الاجتماعي والثقافي والديني!

إنّها لظاهرة عجيبة وتحتاج لوقفات بحثية لا يحيط هذا المقال بتفاصيلها! كيف لمشايخ الصوفية والسلفية والمجددين أن يخضعوا لإرهاب الجماهير التي تحجّ للكأس وتتعبّد الكرة في هذا المعبد الرياضي الحضاري! إنّه لسقوط حضاري نخبوي أن نشاهد المثقف الديني والعالم والشيخ ذو الحضور الاجتماعي الكبير راحوا يتفننون بتكريس ثقافة الكرة دينياً بطريقة أو أخرى، لدرجة أنّ بعضهم أصبح يتعبد الله بالدعاء بنكهة رياضية! وآخر يستحضر الفتوحات الإسلامية والصراعات الحضارية مدعياً أنّ ما يحصل أساسٌ بإمكان الحضارة الإنسانية أن تبني عليه!

والحقيقة أنّ ما يحصل هو تخدير للسلوك وتفريغ وتوظيف للعواطف الإنسانية محرّك السلوك الإنساني في غير مكانها اللائق! إنّنا اليوم أمام إسلام وظيفي ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل الأخطر هو امتداده لكافة الأصعدة الاجتماعية والثقافية والمدنية والرياضية، ممّا يُنذر بدوره بتعطيل حركة هذا المتغير الإسلامي بالمطلق ويحوّله لقوة عاطفية دافعة يتم استغلالها لتحقيق أهداف مشاريع سياسية واستراتيجية لقوى الحضارات النقيضة لا لكيانها الذاتي! الدين اليوم يبعد أشدّ البعد عن منهج الدين الحقيقي المبني في أصوله على أسس الحرية والتدافع الاجتماعي والسياسي والثقافي وفق ثوابت ومتغيرات معيّنة.

النصر الافتراضي وصناعة الوهم

إنّ أخطر ما ينتج عن خلط الكرة بالدين والقضايا الاجتماعية، هو خلق حالة نصر افتراضية أو هزيمة افتراضية بما يتعلّق بأمور حضارية وفكرية واجتماعية ودينية، هذه الكرة لم تعد لعبة، هذه سياسة منظمة في تخريب المنهجية العصبية للحضارة العربية والإسلامية!

ربما يتساءل البعض، أليس من المبالغة القول بأنّ الإنسان يتأثر بالواقع الافتراضي كما يتأثّر بالواقع الحقيقي؟ البتة وعلى الإطلاق.. فقد قيل قديماً: “ما قادك مثل الوهم”!. وعلى ما يبدو فإن مثقفنا المتدين الكسول قد أمل التغيير الحقيقي فراح يفرّغ عاطفته الحبلى بالعواطف في المعبد الحضاري الكروي، لينتقم بكل غباء من الحضارات المعادية، وليبدأ ببناء حضارته التي يحلم بها على سراب من الوهم الحضاري العاطفي الثقافي المتخبط التي تختلط المشاعر فيه دون إدراك!

ما يجري في كأس العالم لم يكن استحضاراً للجن بل استحضارًا للعاطفة القابلة للتوظيف وليس للبناء! نعم ما قادك مثل الوهم، إنّ الإنسان بداخلنا لا يفرق بين المؤثر الحقيقي وغير الحقيقي، وإنّ الجهاز العصبي يتفاعل مع المؤثر الذي يتعرض إليه سواء كان حقيقيا أو لا؛ لذلك أرى أنّ العالم الافتراضي قادر على إعادة هيكلة الثقافة انطلاقا من العواطف لا العقل والسلوك الإنساني وبالتالي من الممكن أن يشعر الإنسان بالانتصار وهو مهزوم!

إنّ إدارة السلوك بواسطة العاطفة بالطبع لا تتحقق بصورة أو موقف أو فعّالية، بل بمنظومة منهجية متكاملة تشمل كافة المجالات والمفاصل الاجتماعية والإعلامية، لذلك من المستبعد أن يتأثّر المواطن الغربي في مثل هذه السلوكيات لأنّه خاضع لمنطومة واثقة تحكم مدخلاته، في حين يتأثر المواطن العربي بالأفكار والمناهج الفكرية السلبية حكماً لأنّه مستهدف بشكل ممنهج ومنظم وبكافة المجالات المفصلية!

في المقابل فإنه من غير الصواب -أصلاً- أن نحقن الجيل الإسلامي بعواطف غير متوازية مع خطوات التثقيف العقلاني والفكري، لأنّ ذلك من شأنه في الوقت الراهن أن يجعل هذه الشرائح الاجتماعية العاطفية المستهدفة سهلة الانقياد الحضاري والتوظيف السياسي من قبل النقيض الحضاري. وعندها نكون أمام ظاهرة خطيرة وهي تغييب العقل واستحضار العاطفة القابلة للتوظيف لتحقيق مصالح الآخر السياسي أو العسكري أو الثقافي، بدلاً من أن تكون العاطفة والحماس أداة متزنة تتناغم مع العقل والتعليم، لتشكّل قوة حركية دافعة قادرة على الحضور في منظومة حضارات العالم!

أمّا التفاؤل بإمكانية تحوّل السجود في الملعب لثقافة عالمية وإنسانية تفاؤل في غير موضعه، فالسجود في الملعب هو للكرة والجمهور وإن كان ظاهره لله! وحتى لو تحولت السجدة جدلاً لثقافة عالمية، فأين الانتصار بأنّ نربي إنساناً وثنياً سلوكه لا ينبع من علمه بل من عاطفته! أليس الله هو من قال: {فاعلم أنّه لا إله إلا الله} [محمد: 19] بهدف ألّا يتحول الدين لأداة تكريس للوثنية المقنعة وكي لا يتحول بدوره أيضاً لفريسة آمنة للتوظيف السياسي! إنّ قناة التغيير الحضاري السليم ليست العواطف، وإنما التفكير والعقل!

اختطاف الفضيلة

لقد لاحظت في الآونة الأخيرة استراتيجية ملفتة يتّبعها رجال العلاقات العامة في علوم الإعلام والاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي أثناء تسويقهم الاجتماعي لأفكار دخيلة إلى الثقافات العربية الإسلامية أو أثناء تفريغ أفكار الثقافة العربية الإسلامية من فاعليتها لتبقى مجرد منظومة عواطف قابلة للتوظيف وخالية من الفاعلية الحضارية.

هذه الاستراتيجية أُطلِق عليها -إذا صحّ التعبير- استراتيجية (اختطاف الفضيلة)، حيث يتترّس التافهون بالفضيلة ويستخدمونها كطعم اجتماعي يهدف إلى اصطياد الفريسة الاجتماعية المنحدرة من أصول الثقافات النقيضة بالنسبة للقائم بالاتصال الحضاري والثقافي، لذلك أصبحنا نشاهد الخاطفين وبكثرة غير مسبوقة من لاعبين ومغنيات وراقصات وفنانات وإعلاميات وممثلات أفلام إباحية حتى! يتترّس أحدهم وراء الفضيلة (الحجاب، بر الوالدين، تحرير فلسطين، المقاومة… الخ) أي القضايا المتفق عليها اجتماعياً في الثقافة المستهدفة، ويتم الكلام عن هذه القضايا الاجتماعية بإيجابية وخشوع تام، إلّا أنّ واقع المتكلّم يناقض ما يتكلم به، مما يؤثر استراتيجياً -بطبيعة الحال- وسلباً على فاعلية الفكرة وتقبّلها، لوجود هوّة شاسعة وتناقض فادح بين القائل والقول!

لكن النتيجة الاجتماعية الآنية حتماً تكون هي تنصيب هذه الشرائح الاجتماعية (الخاطفين) كأحد القدوات الاجتماعية المتصدرة في العقل الجمعي وبعقل المراهق الاجتماعي الذي يعيش بالتوازي حالة سبات بالغة مع حضارته إلا اللهم بالنسبة للمبادئ المتحكمة به نفسياً والمنبثقة من ذاتية المجتمع العميق، لكن بذات الوقت إنّ هذه المبادئ لا تعدو كونها أقرب لمرض نفسي اجتماعي، من كونها منظومة قيم قادرة على تشكيل حضارة ثقافية مؤثرة يمكن أن يتم البناء عليها في المستقبل!

ونتيجة لـ(اختطاف الفضيلة) من قبل هذه الشريحة الاجتماعية المتحكمة والمسيطرة على اللاوعي العربي الإسلامي، يتأثّر المراهق الاجتماعي بهذه القدوات ويتقبّلهم كأحد النماذج المكونة لثقافته وفكره ومنهجه، وبالطبع فإنّ المراهق الاجتماعي العربي الذي يعاني -بطبيعة الحال- من اضطراب في الهوية والمسكن والاستقرار، يتقبّل بطريقة لا إرادية كافة الأفكار السيئة الأخرى التي تؤمن بها هذه القدوات مسبقة التصنيع السياسي والتي اختطفت بدورها الفضيلة قولاً لا فعلاً، لأنّه من طبيعة العقل الجمعي أنّه يعجز عن الغور في التفاصيل، ويستقبل منظومة فكرية لشخص بعينه، لمجرد أنّ هذا الشخص المشهور أثنى على فضيلة ما يمارسها هذا المراهق، وعليه إنّ المراهق الاجتماعي يقبل الآخر بصورة عامة ودون تفنيد كافة أفكاره.

لذلك فإنّ الحديث الراقي عن فضيلة الحجاب إذا صدر من ممثلة متخلّعة أو إعلامية استعراضية خاضعة بقولها وأفعالها، فهو حديث لا معنى أو تأثير له حضارياً مهما بلغت شهرة هذه المتحدثة! واليوم نلاحظ أنّ استراتيجية “اختطاف الفضيلة” تتم بشكل ممأسس واحترافي وغير مقصود عربياً من خلال صبغ كأس العالم ببعض المشاهد الاجتماعية الإيجابية، وهذا باعتقادي لا يؤدي لتسويق الفضيلة بل لاستخدام الفضيلة لتسويق نماذج بعينها ولتسويق منهج تفكيري يكرّس الغيبوبة الحضارية التي تسيطر على الواقع العربي والإسلامي منذ عشرات العقود!  فإنّ مشهد اللاعب المغربي وهو يراقص أمّه فرحاً، يخلق استجابة متباينة، ما بين عقل المتلقي الغربي والعقل العربي بطبيعة الواقع، لأنّ الرسالة لا يكمن معناها بذاتها، بل تقرأ بواسطة الرموز المتراكمة في عقل المتلقي، ولا شكّ أنّ رمز مفهوم الأم بعقل الابن الغربي والعربي تحدده متغيرات التربية والمناهج والمدرسة وأسلوب الحياة، لا صورة لأحد الرقصات! التخيل أنّ هذه الصورة ستغير قواعد الأسرة في الغرب هو تفكير سينمائي ساذج! أيضا إنّ طرح قضية الشذوذ في المنطقة العربية بكأس العالم بهذه القوة يؤدي لتسويق الشذوذ لا العكس، لأنّ طرح الفكرة سواء بشكل إيجابي أو سلبي في بلد لا تتكلم بهذه الفكرة على المستوى الاجتماعي هو بحدّ ذاته تسويق للفكرة! أمّا الزعم أننا نعالج الشذوذ الموجود في الغرب فهذا كلام غير منطقي لأنّه تبعا لما بينت أعلاه بأنّ الرسالة تقرأ بالرموز الموجودة بعقل المتلقي، يعني أنّ الغرب اليوم ما زال ينظر للشذوذ بطريقة إيجابية ولكن أصبح ينظر للعرب بأنهم ضد الحرية.

في النهاية ولئلا نبخس الجهة المنظمة حقها أؤكد -انطلاقًا من قوله تعالى: {قل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219] وإذا أردنا أن نحكم على الجهة المنظمة انطلاقاً من مكانها الجغرافي وسياستها الداخلية مع مواطنيها فهذا إنجاز لا شك ولكن على مستوى الأمة فالأمر يختلف لاختلاف الخطط الثقافية والسياسية والاجتماعية الموازية في باقي المناطق العربية، وفي زمن الإعلام لم يعد بإمكاننا الحكم على فاعلية وصلاحية الحدث بمعزل عن متغير الإعلام الذي حوّل العالم العربي والإسلامي لقرية صغيرة.

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد