كيف تصبح الصورة جزءًا من القوّة الناعمة؟

image_print

تشكل الصورة المرئية جزءاً هاماً من الثقافة المعرفية للإنسانية، وينعكس سحرها ابتداءً من الطفل الذي يربى بأنماط تربوية حسية بصرية قصد ضمان نجاح العملية التعليمية التعلمية؛ إلى مجموع حفظ  بقاء الشهود الحضاري لحضارة ما -مثل الحضارة الفرعونية أنموذجا- من الاندثار والزوال؛ وفي سياق -حفظ الإرث الحضاري- طور الملوك الفراعنة بمعية علمائهم؛ الصورة عبر الأزمنة والعصور من منقوشات على الجدران إلى رسومات على التوابيت؛ هذه الصيرورة وغيرها لعبت دوراً فعالاً في نقل وتحريك الوجدان الحضاري والعلمي للحضارات من المكان الثابت إلى الزمان المتحرك، وبذلك أصبحت الصورة المنقولة عنهم، جزءًا من القوة التاريخية والحضارية.

إيجابيات وسلبيات الصورة

لكل مستحدث طارئ على الحياة البشرية تأثيرات إيجابية؛ تمثل نقلة نوعية في العديد من المجالات والأصعدة؛ الحياتية منها والعلمية والاجتماعية؛ وبالنظر إلى الصورة نلاحظ تأثيرها الذي يمتد عبر مختلف مناحي الحياة، فمن مميزاتها النهوض بالمستوى التعليمي ونلاحظ هذا من خلال إدماجها في صيرورة العملية التعليمية التعلمية؛ ويمكن الاستفادة منها وتفعيلها بشكل أدق في المستويات السنية التي تتراوح ما بين (5-12) بحيث تكون العملية التعليمية في هذا المستوى عند المتعلمين عبارة عن تجسيد حسي حركي أكثر مما هو وصفي تجريدي.

خطاب الصورة خطاب ترويجي ينقل للمشاهد الموروث الثقافي والجمالي؛ وتستغل العديد من الدول التي يتمركز اقتصادها على السياحة الخارجية هذه المميزات لتقدم حضارتها للعالم بصورة تليق بها؛ بالإضافة إلى أنه ومن خلال هذه المميزات كذلك يمكن الدفاع عن العناصر التي تشكل الحضارة وتضمن شهودها الحضاري.

لكن حتى وإن كان الخطاب الذي تقدمه الصورة إيجابيًّا؛ إلا أن لها خطابًا سلبيًّا خفيًّا يعطل الحواس الإدراكية التي تعنى بالتفكير وبذل الجهد في سياق البحث عن المعرفة، هذا الاستهلاك العبثي غير المعقلن سبب من أسباب ضياع الهوية، وهو ما أسميه بـ “سلب الهوية عن طريق الصورة”؛ وقد تعمل الصورة على الرفع من نطاق السطحية في المجالات العلمية والاجتماعية والسياسية عند الإنسان، بشكل يؤدي به إلى فقدان القدرة على الاهتمام بالمنحى التصاعدي للقضايا الكبرى، مقابل الاهتمام بتوافه الأمور ومحصلاتها؛ ومن هذه الخلاصات والنتائج الصغيرة، ظهر جليَّاً أن التعامل معها بشكل عبثي يؤدي بالمرء إلى تبني السطحية في حياته من حيث لا يدري.

مركزية الصورة في النظام العالمي الجديد

وإذا ما نظرنا اليوم إلى الدور المركزي الذي تلعبه الصورة فـي سير اقتصاديات العالم، من حيث الإعلانات، نرى أن الإنسانية جمعاء متأثرة بهذه الصورة الإعلانية المدفوعة من قبل المؤسسات والشركات المستقلة أو شبه مستقلة، حتى الذي يظن بأنه غير معني بها؛ بحيث أن مُنْتِجَ الإعلانات يركز على  استهدف منطقة اللاوعي عند الإنسان انطلاقا من حواسه البصرية؛ وقد يظن أو يتوهم الإنسان الفقير أن الإعلان يستهدف الطبقة الغنية نظراً لعدة اعتبارات، من بينها؛ قوة العلامة التجارية في سوق الاقتصاد، وجودة منتجاتها المقدمة، وشهرة المروجين لها؛ لكن في حقيقة الأمر الإعلان يستهدف طبقته (الفقيرة والمتوسطة) بالدرجة الأولى.

والحق أن الصورة اليوم سلاح مركزي للحداثة الرأسمالية؛ “التي أنتجت إنسان يتناسب مع موصفاتها ومعاييرها الاستهلاكية”، وعلى اعتبر أن “العين تمتد دوماً إلى ما وراء اللحظة وتتطلع إلى ما يتم تزيينه أنه الأفضل.. غير راضية بما هو متاح” كما تقول هبة رؤوف عزت في تقديمها لكتاب الحب السائل، فإن الإنسان لو تأمل وأمعن النظر في الممتلكات التي بحوزته، وفكر مليّاً في الباعث الذي جَرّهُ لدفع كل تلك الأموال فيها؛ لأدرك الخدعة التي صُنِعَة له من الصور المُغريّة لتسلبه أموالا في مقتنيات إن تم إخراجها من الفضاء المعروضة فيه لفقدت قيمتها؛ وآية ذلك يعبر عنه كلام هبة رؤوف عزت “إنه عصر قطع الغيار واستبدال المنتج قبل نهاية فترة الضمان، وليس عصر فن إصلاح الأشياء، إنه عصر الفرصة القادمة”[1]

ومن أجل تحقيق هذه الغايات الكبرى التي قامت عليها الحضارة الغربية الرأسمالية؛ سعى الغرب إلى تكوين عدة مستعمرات استهلاكية وفق نطاق ما يسمى بالقرية الصغيرة، وهي صيغة تمثل التوجه الإيديولوجي لها؛ ومن هنا كان للصورة الدور الأسمى في إلغاء طبيعة العلاقة القائمة بين الخلق والخالق؛ بحيث لا يمكن تحقيق هذه الغايات إلا إن تم إلغاء الصلة التي تجمع بين العالم المرئي والعالم الغيبي، أو بين صفة العلو للخالق وصفة العبودية المخلوق.

وفي الحقيقة يمكن القول بأن المجسد الفعلي الذي تم من خلاله هذا الانتقال من عبودية الخالق إلى تأليه النفس؛ -بحيث أضحى الإنسان مقدّسًا لذاته، طالباً لها من عظيم اللذات الدنيوية التي لا تتم إلا عن طريق الاستهلاك المفرط والمستمر، وفي هذا تحقيق للغاية الكبرى ألا وهي إعطاء مطلق الأولوية للجانب المادي الإنساني– تجلى عبر تقنيّة صناعة الصورة؛ حينما تم إلصاق الصور لأول مرة على حافلات لندن مكتوب عليها “لعل الإله نائم”، وهذا التجسيد الصوري يؤكد مدى الارتباط بين الصورة والإيديولوجية ومركزيتها في الحضارة المادية الغربية التي تعتبر الإلحاد الابن الشرعي لها.

لهذا فالحضارة الغربية الحديثة، حضارة تعتمد بكليتها على الصورة في نقل تصوراتها ومعتقداتها الإيديولوجية إلى الخارج، ويمكن القول بأنه لولا حضور الصورة في المشهد العالمي لكان من شبه المستحيل جعل العالم قرية صغيرة استهلاكية كما تم التخطيط له، ولمّا كانت الحضارات في السابق تستغل الصورة في نقل وجودها وإرثها الحضاري عبر الزمن؛ كانت هذه الحضارة تحقق شهودها الحضاري بالصورة التي في غيابها غياب لكل عناصر تفوقها عن غيرها، فالصورة هي الضمان لهويتها وشهودها الحضاري في الحاضر لا المستقبل.

استخدام تطبيقات الصور لصنع مجتمع مادي

ومن أجل خلق هذا النظام العالمي الرأسمالي الشامل الذي يقوم على جعل المجتمعات تجري وراء كل جديد ومتجدد بشكل يومي ومتكرر، من غير احتياجات ورغبات فعلية، وبالتالي خلق منتجات جديدة بشكل دوري ومستمر من أجل اشباع نهم لذة الذات المستهلكة، تم ابتكار وسيلة تعمل على شكل محفز لهذه الرغبات الغريزية وتشجعها على استبدال القديم بالجديد؛ ومن هنا طفا للوجود تطبيق انستغرام للصور المرئية؛ الذي بات يصور للشباب حقيقة مزيفة عن الواقع؛ ويصور السعادة في الجري وراء الموضة..؛ تقول زعير نجود -في مقالها “مواقع التواصل الاجتماعي.. هل أصبحت حياتنا الخاصة مشاع؟” عن تأثير هذه التطبيقات على البيوت، “إن بيوتنا فقدت خصوصيتها وأسرارها، حتى صارت معظم البيوت من قوانينها أن لا تمتد يد إلى الطعام قبل اِلتقاط صورة للفيس بوك، وهناك أطباق تصنع لتصور في الإنستغرام فقط، وهناك ثياب تشترى لحصاد إعجابات وتعليقات رأس السنة، أو الأعياد الدينية، وهناك خلافات زوجية تناقش على الملأ، وصور مخلة يبدي رأيه فيها كل من هب ودب”.

وفي دراسة بريطانية أجريت على موقع “انستغرام” لتبادل الصور، توصلت الهيئة إلى أن هذا الأخير من أسوأ مواقع التواصل الاجتماعية، من حيث تأثيره في البنية العقلية للشباب، كما أنه يشكل لديهم خوف من فوات كل جديد على هذه المنصة، هذا التأثير السلبي إنما هو بسبب التعاطي بكثرة مع الصور واستهلاكها بطريقة مفرطة وجعلها غاية لا وسيلة يعزز بها المحتوى.

وكشفت دراسة أخرى “إلى أن المراهقين يصابون بالاكتئاب عندما يشاهدون أصدقائهم سعداء عبر تطبيقي انستقرام وسناب شات، ليشعروا حينها بالنقص وأن هناك حياة تفوتهم”[2]، يؤدي هذا الاحتياج النفسي إلى تنامي الرغبة والشعور بالحاجة للاستهلاك من أجل تحقيق المكانة التي صنعها الواقع الافتراضي وليس الموقع الافتراضي في اللاوعي لديهم.

الصورة من وظيفة الدعم إلى مركزية الطرح

بين مركزية النص في تشكيل الثقافة المعرفية الإنسانية، ومحدودية وظائف الصورة في نقل الإرث المعرفي للحضارة، فرق شاسع لا تكفي الكلمات إلى حصر جوانبه؛ ومما لا شك فيه أن مصطلحي الصورة والنص ينم عن اختلاف في الفهم والمعنى، واختلاف في تصور وظيفة كل واحد منهما؛ وحتى يسهل معالجة الموضوع بمختلف تجلياته وامتداداته وجب توضيح حقيقة أن الصورة فرع عن النص، ومركزية النص ثابتة غير متغيرة عبر الأزمان، فيما حققت الصورة طفرتها النوعية وسادت في عصر المادية الغربية؛ وعليه كانت الصورة تابعة للنص داعمة له موضحةً لما جاء بين ثناياه، أما النص فهو أصل ثابت وما دونه فرع منبثق عنه.

ومن هنا انقدحت في الذهن الفكرة التي اقتضى تحقيق الفائدة منها؛ ترك نشر الصور على حسابات مواقع التواصل الاجتماعية؛ وهنا قد يقول القائل وما تأثيرها؟!

 أقول وبالله التوفيق؛ ما قررناه سابقا، لكن مع ذلك أضيف أمر ألا وهو أن الساعـي لغرس التأثير الفكري، لا الحس البصري في القارئ والمتلقي، يعرض عليه لب قلمه من غير مشوش أو عارض خارجي يصرفه عنه، فكم من مبدع/ـة تَصرِفُنَا صوره المعروضة على واجهة منشوراته عن قراءة ما خط قلمه المبدع.

هذا المعنى يدرك بالمشاهدة والتجربة وكل مستخدم يعلم في قرارة نفسه أثر الصورة على تحصيله؛ حتى الكتابات الماتعة التي يلتذ بها القارئ على واجهة الحسابات يمكن أن تصبح شيء ثانوي من غير وعي؛ في حال ما إذا كانت الصورة المرفقة مع الكتابة مجيبة للذة البصرية، وعليه كان من السهل إرفاق كل منشور بصورة ملفتة للنظر؛ لكن العبرة بالكلام لا بما يسر النظر؛ وقولـي هذا لا يلغي نظرة غيري للصورة وموقعها وسط الكلم وشدة تأثيرها عليه.

وقد درج الكثير من طلاب العلم إلى اتخاذ الصورة غاية في ذاتها؛ فبعدما كانت مجرد وسيلة ومعين يقرب به الكاتب المحتوى للقارئ أضحت في نفسها تشكل محتوى لبعض طلاب العلم؛ الذي يبحثون عن جودة الصورة أكثر من بحثهم عن جودة مضمون المحتوى المرافق لها؛ وهذا مدخل من المداخل التي تجر إلى فساد القصد والغاية الكبرى التي يرنو إليها طلبة العلم.


[1] مقدمة كتاب الحب السائل.

[2] https://www.google.com/amp/s/al-ain.com/amp/article/instagram-snape-chat-most-dangerous-teens

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد