image_print

وكلّها ثغور!

تتأثّر نهضة الأمم بشكل كبير بإدراك أبنائها للثغور الشاغرة التي تحتاج إلى سدّها، وكذا قدرتهم على معرفة الأَوْلى منها دون إغفال أيٍّ منها، وهذا يتوقّف على طبيعة المقوّمات التي تتمحور حولها هذه الأمة، والمعاني العظمى التي ترنو الوصول إليها، وعلى التكوين النفسي لأفرادها.

وطالما أن الأمة الإسلامية هي مناط البحث فيجب تحرير هذه المقوّمات، لقد جاءت الشريعة الإسلامية لترسّخ نظامًا محكمًا للبشرية متمحورًا حول تحقيق العبودية لله عز وجل بمعناها الشمولي، فتضبط علاقة الإنسان بالله عز وجل كقاعدة كبرى يتفرّع عنها ضبط علاقة الإنسان بشتّى الميادين الأخرى، ممّا يجعل السؤال عن الثغور التي تحقّق هذه الغاية سؤالًا مشروعًا بل يجب طرحه والبحث عن إجابته.

أساس النهوض

إنّ نهضة الأمة الإسلامية لا يمكن أن تُحقَق عن طريق استيراد منظومات خارجيّة بمحرّكاتها الفلسفيّة كي نقيم من خلالها نهضة حضارية، إذ الحضارة السائدة لا يمكن أن تنشأ إلا في ظل تمايزها، وبالتالي يجب قيامها منطلقة من منظومتها القيميّة ومن منظورها العقدي.

عند محاولة النظر إلى سلّم النهوض الحضاريّ الإسلاميّ على مر العصور سنجد عوامل مشتركة يجب أن تتحقّق بدايةً حتى يتجلّى ذاك النهوض، فلو اتخذنا الأنموذج النبوي لنستشف من مسيرته هذه النهضة الحضاريّة وما تميّزت به انطلاقًا من منظورها العقدي سنجد أنّ أول ما عني به صلّى الله عليه وسلّم هو تكوين الإنسان وتربيته، فقضى صلوات الله وسلامه عليه ثلاثة عشر عامًا لا يفعل إلا المهمة النبوية التربوية عن طريق تلاوة القرآن وتعليم القرآن والسنة والتزكية.

 قال الله عز وجل {لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ}[١٦٤- آل عمران] فتكوّنت تلك النفس العظيمة المذعنة لله رب العالمين والخاضعة له، إنها النفس التي ضبط الوحي ميزانها لدرجة مذهلة حتى نجد جيلًا لا يحيّره سؤال عن أعظم آية في كتاب الله.

عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا المُنْذِرِ، أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ. قالَ: يا أبا المُنْذِرِ أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. قالَ: فَضَرَبَ في صَدْرِي، وقالَ: واللَّهِ لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنْذِر) [صحيح مسلم] لو تفكّرنا لحظة في هذا الموقف لعلمنا قدر التربية النبوية لهذا الجيل، ولعلمنا سبيل نهضتنا نحن ونهضة الأمة في أيّ عصر، هذا الصحابي الجليل علم مقصد الرسالة ومركزيات الوحي فلمّا وُضِعَ أمام آي القرآن يُسأل عن أعظمها، لم يتردّد في معرفة الإجابة التي يكمن فيها تعظيم الله عز وجل وصفاته وأنّ الأمر كله بيديه مما يقتضي الإذعان له وتمام التسليم له سبحانه وتعالى.

فعندما يُبنى هذا الإنسان يكوّن حصانة أمام الأفكار الهدّامة في الحضارات الأخرى مهما بدَت ساحرة وقوية، وأمام الفلسفات التي تحملها ودعاوى التمدّن والعولمة التي تروج لها، ومن هنا تبدأ التمايزية الحضارية في تبلورها والتي تؤهل أصحابها أن ينطلقوا بعدها من القرآن إلى العمران، فيؤسسوا حضارتهم باستقلالية تامة في المرجعية والهُوية، وهذا لا يعني الانعزال عن الحضارات الأخرى وعدم الإفادة منها في مختلف المجالات البشرية التي تدخل في سياق قوله صلى الله عليه وسلم “أنتم أعلم بشئون دنياكم”، ولكن بعد أن تكون تلك الحضارة خرجت من مرحلة المهد إلى الرشد في شتى منطلقاتها فتكون تلك الإفادة بمثابة التبادل الثقافي المرغوب بين الحضارات وليس بمثابة الولع بثقافة غالبة أو بسبب خواء حضاري فكري يدفع تلك الأمة دفعًا لاستيراد ما يملأ هذا الخواء طامسةً به ملامحها وتمايزيتها.

 

ما هي الثغور المركزيّة التي يجب العمل عليها؟

بناءً على النظرة السابقة يتضح لنا أن إصلاح علاقة الإنسان مع الله سبحانه وتعالى هو العمل المركزي الأول في ميدان سدّ الثغور، بل إن كل عمل يُعرِّج بعيدًا عن هذا الثغر وتلك الغاية فهو ضرب من العبث يزداد به الواقع تعقيدًا وصعوبة على المصلح في شق طريق النهضة.

وتتحقّق هذه الغاية بتزكية النفوس وإعدادها لتلقي الوحي واستيعابه والرضوخ والتسليم له، مع مِران النفس على مخالفة الهوى، وإخلاص الدين لله سبحانه وتعالى، فعندما يتشكّل هذا الإنسان الذي تلقّى هذه التربية نكون قطعنا شوطًا كبيرًا في معالجة الكثير من إشكالات الواقع الحالي، إذ إنّ العديد من إشكالاته ترجع إلى افتقاد جمع غفير من أبناء الأمة الإسلامية لتلك النفس المزكّاة التي تخضع لمرجعية الوحي وتعمل بمقتضاه ولو أفضى ذاك المقتضى لما يخالف هواها.

إن إعداد النفوس للتسليم بالوحي يجب أن يتوازى مع إقامة الأدلة والبراهين والاستدلال عليها بشكل صحيح، فعندما تتوازن هاتان الكفّتّان نكون وضعنا أقدمنا حقًا على طريق النهضة الصحيح الذي لا يتماهى مع فلسفات الآخر ولا يخضع لمخرجاته.

عقولٌ نهضوية.

يمكننا أن نسأل بعد معرفة الثغرين المركزيين المتمثلين في إصلاح النفوس وإعدادها لتلقي الوحي والعمل بمقتضاه مهما كان، وإقامة الأدلة والبراهين والاستدلال عليها بشكل صحيح، هل يمكن أن نكتفي بهذا القدر لتحقيق نهضة شاملة؟

إنّ هذين الثغرين يمثّلان حجر الأساس في صرح النهضة، ولكن كي يكتمل البناء يجب تشييد الأعمدة والجدران التي تُهيكل هذا الصرح، وكذا يجب طرق كل الأبواب والثغور التي ستقيم هذه الأعمدة والجدران ووضع تصور واضح لها، ويمكن ترك كماليّات البناء حسب مجريات المرحلة، فبعد إعداد هذا المسلم الرباني نحتاج تشكيل المنظومات التي نحقق بها التمايزية الحضارية، فلو اتخذنا _على سبيل المثال_ مشروع أسلمة المعارف، هذا المشروع لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع إذا عُمِلَ عليه من زاوية واحدة، لأنه يعتمد على رسم خريطة تكوينيّة جديدة لكل علم، فلا يمكن أن يُختزَل فضاء العمل فيه على العقل الشرعي الفكري، لأن طبيعة هذه المعارف التي تحتاج إلى هيكلة إصلاحية إسلامية “أسلمة” تسبح في فضاءات بعيدة من الناحية النظرية والتطبيقية عن الفضاء الذي يعمل فيه المفكر الإسلامي.

إننا نحتاج من أبناء الأمة من يقف على ثغور كل فن من الفنون وعلم من العلوم ويتخصص فيها ويعلم مظانّها ومداخلها ومخارجها حتى يتمكّن بمعاونة المفكر الإسلامي على وضع تصور لمنهج هذا العلم طبقًا للتصور الإسلامي، وكذا لا يمكن تصور هذا المشروع إذ اعتمد على المتخصص في علمٍ معين دون أن يعرف مجريات الواقع ويملك خلفية شرعية تمكّنه من وضع تصوّر صحيح وكذلك فهم المآلات الشرعية الفكرية التي يطرحها الأصولي والمفكر الإسلامي، إذ أنه بمفرده ودون إدراك الفكرة المركزية التي لأجلها تم وضع مشروع أسلمة المعارف لن يستطيع التحرك وتشكيل تصور صحيح، بل ربما لن يجد إشكالًا أصلًا في وجود منظومات مستوردة.

ما سبق بمجمله يجعلنا ندرك أهمية “العقول النهضوية” التي تشبعت وتخصصت في جانب معين مع إدراكها لمجريات الجوانب الأخرى وحمل هم هذا الدين وقضيته وحلم نهضته، وما أحوجنا لتلك العقول، مما يجهش النفس بالحزن عندما ترى من أبناء الأمة ممن عندهم من الاستعداد العقلي والموهبة ما يجعلهم يحلّقون في هذا الفضاء وعندهم قدرة على استيعاب علوم متعددة ثم تجد زهدًا منهم يحزنك، فبعضهم يكتفي بالعلوم الشرعية ولا ينتقل بها إلى فضاءات أخرى حاملًا إياها وهو على ذلك قادر، بدعوى أنّ العلوم الأخرى لن تنفعه في آخرته! والبعض الآخر يتعلم علومًا في تخصصات مختلفة ولا يكلف نفسه حتى معرفة ما لا يسع المسلم جهله في دينه وهو على ذلك قادر.

إن السبب الرئيس في هذه الإشكالية هو عدم حمل هم الدين وقصور في تصور الواقع وكذا عدم إدراك مركزية الإصلاح، فلا يليق بالمؤمن أن يتوقف عند عتبة الصلاح وهو بمقدوره أن ينطلق إلى ميدان الإصلاح، وكذلك الجهل بدأب السلف الصالح في هذه القضية، فنجد أنهم كانوا يوصون بإدمان النظر في العلوم الدقيقة مثل الجبر والمواريث والهندسة من أجل تعميق ملكات التحقيق والبحث والتحليل، وهذه سنة سلفية مهجورة، فنجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: “النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن ويدربه ويقويه على العلم، فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل، تعين على قوة الرمي والركوب، وإن لم يكن ذلك وقت قتال، وهذا مقصد حسن، ولهذا كان الكثير من علماء السنة يرغبون في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة وعويص الفرائض والوصايا والدور لشحذ الذهن” [الرد على المنطقيّين] فعندما يستوعب المسلم أهمية هذه العلوم سواء في ذاتها لشحذ الذهن أو في سد الثغور التي تحقق للأمة تمايزها الحضارية، إذ لا يُتصَور وجود حضارة مستقلة لا تملك منطلقاتها المعرفية، وعندما ندرك أنّ عقلًا نهضويًا واحدًا يمكنه تحقيق نهضة حقيقية إذا حرّك المياه الراكدة بالانطلاق الصحيح المبني على مرجعية قوية ومتوجهة بشكل صحيح طبقًا لطبيعة المجريات الحاصلة في هذا الوقت، حينها نشعر بأهمّيّته ومسؤوليته في العمل لهذا الدين والنهوض بأمّته.

وهل ذلك يسع الجميع؟

ربما تبادر إلى ذهن القارئ أنّ المسلم لا يمكن أن يقف على ثغر يدور بعيدًا عن هذه الثغور، والبشرى هنا أن كل عمل يقوم به المسلم يمكن أن يكون ثغرًا إذا صدق النية في عمله واحتسبه، وكلٌ حسب مقدوره ووسعه، وأن كل الأعمال التي تبدو متفرقة وبسيطة هي في حقيقتها تدور في فلك نهضة الأمة إذا وُجهت بشكل صحيح، بل إنّ بعض الأعمال وإن بدت بديهيّة جدًا لكونها موجودة على نطاقات واسعة جدًا مثل تربية الأبناء، فإنها تمثل ثغرًا مركزيًّا في بناء طريق النهضة.

إن التربية الصحيحة التي تغرس في الطفل معاني العبودية لله عز وجل والتزكية وحمل هم الدين هي من تصنع تلك العقول النهضوية، فنظرات محمد الفاتح المتتالية على القسطنطينية وحمل هم هذا الفتح العظيم الذي طالما جاهد المسلمون قبله لتحقيقه، أحيَتْ بداخله تلك القضية وأشعلتها وأصبحت شغله الشاغل والذي به بعد فضل الله سبحانه وتعالى حقق هذا الحلم العظيم الذي كان بذرته التربية.

فاستعينوا بالله وابذلوا وسعكم فيما تستطيعونه، والخير قادم بإذن الله.


مصادر للاستزادة

١- الفطرية بعثة التجديد المقبلة – د. فريد الأنصاري رحمه الله.

٢- عصر النهضة – زكي الميلاد.

٣- بوصلة المصلح – الأستاذ أحمد يوسف السيد.

https://youtube.com/playlist?list=PLZmiPrHYOIsQuuotMlJIPcmuEnYQ78a_p

عالمنا الإسلامي ومشكلة الوعي

نعاني اليوم في عالمنا الإسلامي من مشكلة غياب الوعي الشامل والمتكامل، ولهذا أسباب عديدة، ولعل أبرز ما تتجلّى فيه هو انحسار طموحات الإنسان المسلم -بشكل قسريٍّ وجبريٍّ- من الوصول لأعلى المراتب الفكرية أو العلمية إلى السعي الدائم المضني لضمان لقمة العيش وإيجاد مكان آمن يسكن فيه ربما لن يتحقّق إلا بشق الأنفس وبعد أعمار مديدة.

من جملة ما يبرز فيه غياب الوعي المتكامل أن عموم نخبنا ومجتمعاتنا بعيدة عن الفعل المؤثر على المستوى العالمي بل أصبحنا نمثل المثال الأفضل للمجتمع المستهلك الجامد المنتمي للعالم الثالث وأصبحنا نعيش على هامش الحياة.

بحثًا عن المفهوم

ما نحتاجه اليوم هو إيقاظ مفهوم الوعي بيننا ولكن لنا أن نتساءل أولًا ما هو الوعي؟

في تفسير الوعي في لسان العرب نرى الآتي: “الوعي: حفظ القلب الشيء. وَعَى الشيء والحديث يعيه وعيًا وأوعاه: حفظه وفهمه وقبله، فهو واعٍ، وفلان أوعى من فلان أي أحفظ وأفهم. وفي الحديث: نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فرب مبلغ أوعى من سامع. قال الأزهري: الواعي الحافظ الكيِّس الفقيه. وفي حديث أبي أمامة: لا يعذب الله قلبًا وعى القرآن؛ قال ابن الأثير: أي عَقَلَه إيمانًا به وعملًا، فأما من حفظ ألفاظه وضيع حدوده فإنه غير واعٍ له”(1).

ينبئنا هذا النص عن المقصود بالوعي، وهو في مقامنا هذا الفهم، وبالأخصّ فهم الواقع، أيْ الفهم لما يدور حولنا ومتابعة الأحداث وتحليلها، وهو أيضا فهم دورنا في الحياة والقيام به، ومن نواقض الوعي أن ننغلق على أنفسنا ولا نهتمّ بما يَحصل داخل مجتمعاتنا أو خارجها ولا نُبالي بالتغيّرات المتسارعة التي يعيشها عالمنا اليوم وأن نكون سلبيين في تفاعلاتنا مع من حولنا، فغياب الوعي من مجتمعاتنا لم يأتِ صدفة بل له أسباب مهَّدت لذلك وأدّت إلى تغييبنا عن الحياة.

أسباب غياب الوعي

   إن الحكومات المستبدّة والظالمة لحقوق شعوبها والتي لا تراعي إلا مصلحتها وتسعى للخضوع والخنوع لأعداء الأمة والتطبيع معهم سيكون من مصلحتها تغييب الوعي داخل المجتمع حتمًا، فتجعل الفرد تحت تهديد غلاء المعيشة والسعي المضني وراء لقمة العيش وتفتح له أبواب الشهوات حتى ينغمس فيها.

ومن يسعى منهم لتتبع الأحداث وفهم واقعه وتوعية من حوله بما يحصل من مفاسد واضطهاد وخيانة للقضايا الكبرى فسيكون مصيره التشويه واتهامه بالإرهاب وفي مرحلة أخرى يتم سجنه حتى يصمت صوت الوعي الذي ينادي به بين الناس، لأنه إذا انتشر الوعي وأصبحت العامة تتابع تحركات من يحكمه وقراراته وسياساته الداخلية والخارجية فإنها سوف تتكوّن قوة شعبية تتحرّك بقوة لنقد السلطة وتصحيح مسارها ومحاسبتها ومنعها من تنفيذ مخططاتها واتفاقياتها المهدرة لثروات الشعوب مع القوى الغربية.

 وخير مثال على ذلك عندما أرادت السلطة في السعودية تغيير مناهج التعليم وتمييعها من المبادئ الإسلامية مع تغيير نمط الحياة إلى الحداثة كان في البداية هنالك دعاة ومُصلحين يحاولون نشر الوعي بين الناس وتنبِيههم بخطورة ما يحدث وعدم الانخراط في تيّار الحداثة فكانت النتيجة إسكات صوت الوعي وسجن هؤلاء الدعاة والمصلحين والتضييق على من يتبنّى فكرهم وصوتهم!

ومن الأسباب أيضًا المباشرة في غياب الوعي هي الإعلام، الذي دوره الأصلي يكون بإيصال الحقائق للناس بكل أمانة ونقل لهم ما يحدث في واقع الحياة بلا محاباة لجهة معينة حتى يفهم الجميع ما يحصل داخل مجتمعه أو خارجه ومن ثمّ يتخذ موقفًا واضحًا يصدع به، ولكن في مجتمعاتنا أصبح الإعلام يشغل العامة بالتفاهة ويقحمهم في جدالات جانبيّة تبعدهم عن المشاكل الكبرى التي يعانون منها وكذلك يقوم بإعادة بناء العقول وفق السياسة المرجوّة من السلطة الحاكمة.

ولا ننسى أيضًا دوره في قلب الحقائق وتزييفها وأضف إلى ذلك دوره في نشر الرذيلة والتعرّي بين الناس تحت غطاء المسلسلات والأفلام والبرامج الترفيهيّة، وبالتالي ستكون النتيجة بناء أجيال غير واعية ومغيبة عن واقعها، فعلى سبيل المثال عندما حصل الانقلاب العسكري في مصر تم تصوير المعارضين له بأنهم مجموعة من المجرمين الإرهابيين الذين يقتلون من يواجههم ومن ثم قامت القوات العسكرية بناء على ذلك بنيل ثقة بقية الشعب وتحوّل الأمر إلى مذبحة وتنكيلٍ بالمتظاهرين الأبرياء ولكن بعد برهة من الزمن انكشفت الحقيقة بما تم توثيقه من شهادات وفيديوهات نشرت على الانترنت تثبت العكس ولكن حصل ذلك بعد فوات الأوان!

   إنه عندما يغيب الوعي عن الشعوب فإنها ستفقد قوّتها في التّغيير والإصلاح وفي التعبير عن رأيها بكلّ حرية وستصبح خاضعة ومنقادة لا إرادية لما تُمليه عليها السياسات الداخلية والخارجية.

بناء الوعي

   إن اللبنة الأولى في صناعة الوعي هي النظر في الهزائم التي حلت بنا في كل الميادين وأن نبحث عن أسبابها الرئيسية وكيفية النهوض من جديد، فنحن اليوم بعد أن كنا الحضارة الأولى في العالم أصبحنا تبعا لقوم لا يتبعون إلا أهواءهم.

ولنا أن نتساءل لماذا حصل ذلك؟ وكيف وصلنا إلى هنا؟!

ولو بحثنا بصدق وبفهم لتتابع الأحداث لوجدنا أن السبب الرئيسي لهذا الانحطاط الذي نعيشه هو اتساع الفجوة بيننا وبين ديننا الذي لم يعد هو دستور حياتنا وبوصلتنا المرشدة للحق!

إننا بحاجة لبناء الوعي بدورنا في الحياة أوّلا ولا يُمكن تحديده إلاّ بالعودة لتكاليف الرسالة التي شرفنا الله بها، حيث يقول لنا الله عز وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُون} [آل عمران: 104]، فتحديد الخير الذي يجب أن ندعوا إليه لا يكون إلا بالعودة لشريعة الإسلام وتطبيقها في واقعنا ومن ثم يمكننا القيام بهذا الدور بأن نكون حرَّاسًا لكل خير وأن نأمر بكل معروف في مختلف المجالات وأن ننهى عن المنكر سوى داخل مجتمعاتنا أو خارجها فأين نحن اليوم من رسالة الإسلام؟! فليعرض كل فرد منّا نفسه على مبادئ ديننا وقيمه ولينظر مكانه منها وليسأل نفسه ما هو مدى التزامه بها وما هو مدى تطبيقه لها في حياته اليومية وفي عمله وداخل أسرته وفي تعاملاته؟!

   وتعليقًا على هذه الآية يقول الشيخ محمد الغزالي: “إن عمل الخير والدعوة إلى الخير سمات الأمة الظاهرة، وملكاتها الباطنة، ووظيفتها الدائمة، وشهرتها التي تملأ الأفاق و إجابتها عندما تسأل عن منهجها وغاياتها…الذي يبدو لي أن المسلمين شعوبا وحكومات هبطوا دون المستوى المنشود بل هبطوا دون مستوى غيرهم ممن لم يشرفهم وحي و يكلفوا بحمل الرسالة!!…فنحن المسلمين الآن في العالم الثالث على حين أمسك بزمام الحضارة من ينكرون الألوهية أو من يتخيلونها “عائلة مقدسة”(2)، فالخطوة الأولى في صناعة الوعي بأن نوقظ في نفوسنا حقيقة أننا أصحاب رسالة وجب الالتزام بها وأن نكون خير قدوة لمختلف الأمم وأن نمسك بزمام العالم في مختلف المجالات وبأن نقوده للحق والعدل والنجاة وأن نبين الحقائق.

وعندما يتحقّق هذا الوعي فإننا سنصبح بطريقة آلية واعين جميعا بقضايا الأمة الكبرى ولعل من أبرزها المسجد الأقصى وتحريره من اليهود الغاصبين وسنصبح واعين بضرورة إنشاء اقتصاد إسلامي موحد يضمن لنا الاستقلالية وأن نتمتع نحن بثرواتنا الباطنية وسنصبح واعيين بقيمة العلم وضرورة تطوير التعليم لنكون رائدين في مجال الصناعات والاكتشافات، فالوعي برسالة الإسلام هو المفتاح لكل شئ!

ولكن هل ينتهي الأمر هنا بأن نعي دورنا في الحياة؟! لا بل يجب أن يُنتج هذا الوعي حركة ملموسة وتغيير عملي في أرض الواقع وأن نبدأ بأنفسنا في مرحلة التغيير وأن ننشر هذا الوعي في من حولنا فيتحول وعينا إلى ثورة فكرية وعمليّا نستطيع بها تغيير وجهتنا والعودة لحضارة الإسلام من جديد، ومن ثمّ علينا أيضًا من باب الوعي أن نواصل المُراقبة والمُتابعة ونحن في طريقنا للعودة لمستوى الرسالة التي كلفنا الله بها فيجب أن تُبنى لدينا ميزة النقد الذاتي حتي نتدارك عثراتنا وهفواتنا ونُراجع أنفسنا في ما نفعله وهل يتوافق مع ما يجب أن نكون عليه كأفراد أو كمجتمع مسلم وإلا فإنّنا سنظلّ الطريق وقد نقع في الغرور والجمود والفوضى من جديد على أن تبقي مرجعيّتنا الأولى في النقد والمراجعة هي شريعتنا.


الإحالات:

(1): لسان العرب لابن منظور، حرف الواو، وعي، ص 246، جزء 15.

(32): كتاب الطريق من هنا لمحمد الغزالي، دار القلم للنشر، الطبعة الخامسة 2019، ص76 -78 .

الديكتاتورية .. خنقٌ للإبداع أم حفاظ على الأوطان؟

هل سبق وتساءلتم عن مآلات مجتمع أو كتلة اجتماعية تخضع للهدر والقسر والتقييد، أو تفكّرتم مطوّلاً عن التّصورات التي تتشكّل عند الفرد من خلال عمليات ديكتاتورية واستبدادية ممنهجة من قتل الإبداع وهدر الطاقات والاستبداد وتقييد الحرية؟ فإذا كانت مكونات المجتمع هي العادات والتقاليد والدين وقيمه وما يقدمه من أفكار وبعض الهويات الدينية الأخرى، وعلمت أنّ كل ما تقدمه هذه النظم التي تشكل تصورات الافراد وتنشأ وعيهم، تابعةٌ بالكامل لنظام سياسي له أفكار معينة يريد فرضها على المجتمع، فما الموقف من ذلك حينها؟.

 وإذا كانت “كلّ حركة سياسية ذات إيديولوجية، وكل إيديولوجية سياسية هي طريقةٌ لرؤية المجتمع، وتقويمه والتعامل معه ” كما يقول ماريو بونجي في كتابه [العقل والمادة]، فإننا نتساءل: ما هي رؤية النظم العربية السياسية، ورؤيتها لتقويم المجتمع، أو هل تمتلك هي هكذا رؤية أصلاً.

إيديولوجيا الحكم الفاسد

إن الأيديولوجيا التي تتبناها أنظمتنا الحاكمة ليست بيّنة بما فيه الكفاية، فإن القائمين عليها يدّعون العلمانية والديمقراطية، لكن هذا الأمر بعيد عن أرض الواقع بعد المشرق والمغرب، وحتى أيديولوجياتهم فإنها غامضة بين الخداع والكذب والتلفيق، مشوّشة ومستوردة من سياقات ثقافية وحضارية مختلفة عن ديننا وعالمنا وثقافتنا، ولا تراعي خصوصية المجتمع، ولا بناء خطة طويلة المدى لتصحيح مسار الدولة، أو هل لديها برنامج اقتصادي أو اجتماعي لتطوير المجتمع بغية إعادة دوران عجلة التطور والتحديث في بلداننا أم لا؟

إن المعضلة الأساسية في معظم نظم الحكم في بلادنا هو كون الولاء للحاكم والطواف حوله وتوظيف كل شيء من مقدّرات الدولة ليبقى على كرسيه. إذ “بينما يتهيب الحاكم في البلاد المتقدمة الشعب والمجتمع، ويعبئ طاقاته كي يرتفع إلى مستوى ما يلقون عليه من مسؤوليات، ويثبت بالممارسة أنه جدير بالتفويض الذي أعطي له، نجد النقيض تماما هو الذي يحصل  في بلاد الهدر: يؤدي التحكم إلى فرض السلطة والهيبة بشكل قاطع لا يقبل أي ظلال من الشك. وبينما أن السلطة والحكم في البلاد المتقدمة هما عمليات وإجراءات وليستا مالاً. تكون السلطة العصبية والاستبدادية هي المال والمنتهي الذي يهدر من أجل الحفاظ عليه البشر والموارد، بل وحتى الكيان ذاته. في البلاد المتقدمة تستهلك الشعوب حكامها من خلال التفويض وسحب التفويض والمساءلة، هناك داوماً أشخاص جدد يحلون محل من انتهى تفويضهم بالضرورة، أو من سحب منهم هذا التفويض، أما في نظام الاستبداد العصبي، فإن الحكام هم الذي يستهلكون شعوبهم والكيان الوطني ذاته من خلال تأزيل سلطانهم”. [مصطفى حجازي، الإنسان المهدور]

يحدثنا الدكتور مصطفى حجازي في كتابه (الإنسان المهدور دراسة تحليلية نفسية) عن شعارات الحرية والديمقراطية -التي لفرط تداولها وتكرارها تحولت إلى عمليات تجميل وتغطية وتمويه- أنه “لا بد من استبدال الحديث عن انعدام الحريات وغياب الديمقراطية بالكلام عن مثلث الحصار الفعلي والمادي  الذي يفرض على الواقع العربي وإنسانه مع تفاوت في الشدة والتعميم من حالة إلى أخرى”، والمقصود بمثلث الحصار هو: حكم المخابرات والبوليس السياسي كركن أساسي في المثلث، فإذا كان هناك من دلالة للحرية فهي تجاوز الشعارات وإدانة الحكم المخابراتي والبوليس السياسي الذي يشكل النقيض لكل تنمية، المخابرات التي تنحرف عن مسارها ووظائفها المفترضة في حماية الوطن من أعداء الخارج وتتوجه نحو الداخل وتطارد الإنسان في كل موقع وفعل أو قول بهدف حماية أشخاص استولوا على الكراسي، فإنها لا تستطيع قطعًا ولا بأي حال تسيير المجتمع والإسهام في نمائه، لأن دورها تحول من هذه الوظيفة المفترضة إلى حصار الإنسان وكبت طاقاته الحية وترويضها، من خلال التربص بالسلوك ومطاردة الفكر، ذلك هو القهر باعتباره فقدانًا لسيطرة الإنسان على حياته ومصيره وصناعة هذا المصير.

ستيفان زفايغ (على اليمين) ومصطفى حجازي (على اليسار)

هذا الرأي حول ديكتاتورية أجهزة أمن أصحاب الكراسي موافقة بشكل كبير لستيفان زفايغ في كتابه (عنف الدكتاتورية) حينما تحدث عن الحصار الخانق الذي يفرضه الدكتاتور على الأفكار، فيوظف كل المؤسسات المدنية لخدمته من محاكم ومدراس وجوامع ومؤسسات حكومية وقوة عسكرية، يجعلها كلها تابعة له، وقد حلّل ميشيل فوكو في كتابه (المراقبة والمعاقبة ولادة السجن) ليخلص إلى أن هذه المؤسسات تشارك بتقييد القيم وتشكيلها داخل أي إطار مجتمعي، فيكون تصور الإنسان أو الفرد عن الحرية مشوّهًا ومحصورا بأفكار ضخّها المستبد عبر أدواته المختلفة في المجتمع.

شمولية الاستبداد

لو أخذنا الحالة السورية -على سبيل المثال- قبل ثورة شعبها، فيمكن القول إنه تبلور حقيقي لأبشع النظم الدكتاتورية في العالم،  ولوجدنا  الشمولية في معناها الحرفي مطبقة -أي مجموعة من الأفكار يجب أن يدور عليها المجتمع- سواء من حيث أفرع الأمن التي تقيد الحرية في المجال التداولي العام، وخنق الكلمة المحكية، وغير المحكية يخاف الفرد أصلا من قولها، وحرية التعبير مقيدة، وحرية التفكير مقيدة، والدين نفسه مقصور على تنظيم بعض الفتاوى حول الطلاق والطهارات أو طقوس التصوف المشوّه، ولا يسمح لأحد من الشيوخ الخروج عن هذه الدائرة، وإلا فتهمة أنه إخواني أو عميل جاهزة، وقد يقتل عليها الانسان أو يغيّب بلا رجعة في أحد سراديب أفرع الأمن المرعبة التي تنشر الخوف داخل المجتمع بسبب ما يحصل بداخلها من فظائع .

إذن فإن الاستبداد ليس قاصرا على آلية التعامل مع الانتخاب والشورى بل يمتد أثره إلى الدين ورموزه وحتى الإعلام والجرائد والقنوات الفضائية وكل مؤسسات المجتمع المدني، فإنها ستتبع سلوك الحزب الحاكم وأفكاره، بمعنى أنه يجب تقديم الحزب القائم في سورية بوصفه محور المقاومة والممانعة في وجه إسرائيل، حتى وإن كان الحزب كاذبًا. فهناك مجالس وأنظمة وقوانين، وقضاء وسلطات تشريعية وتنفيذية، إلا أنها جميعا تعمل ضمن حدود وخطوط حمراء وتتحول في الواقع إلى مؤسسات شكلية لا حصانة ولا استقلالية لها حين يتعلق الأمر باستتباب سلطة المستبد، إنها في الواقع تظل ملغومة ومقيدة بشبكة نظام السلطة الخفي او الواضح الذي يتحكم بكل القضايا ذات الصلة بأمن نفوذ المستبد. وبهذه الطريقة يستطيع صنع هوية جديدة للأفراد، بحيث يكون ولاؤهم الأكبر للحزب الحاكم، ولو نظرنا إلى تعاطي الحزب مع أي فكرة معارضة له لرأيناه مخيفًا ومرعبًا في الوقت ذاته، فما يحصل في أفرع الأمن في سورية وغيرها من البلدان تقشعر له الأبدان، من تعذيب حتى الموت، وحرمان من الطعام والشراب، والكثير من الأمور المخيفة.

شعار حزب البعث السوري

يقول ممدوح عدوان في كتابه حيونة الإنسان: “إن أنظمة القمع والاستغلال هي التي تريد إبقاء البشر عند مرحلة الحيوانية الغريزية الأولى وحين يحاولون الخروج من هذه الشروط تثبتهم فيها أو تنزلهم إلى ما هو أحط من الحيوانات من خلال القسر” ويقول أيضا “إن المسألة هي أنني أرى أن عالم القمع، المنظم منه والعشوائي، الذي يعيشه إنسان هذا العصر، هو عالم لا يصلح للإنسان ولا لنمو إنسانيته”، وهكذا فإن قراءة أدبيات الكتابات السياسية التي تحدثت عن النظم الشمولية ستريك أن إنزالها على أغلب الدول العربية أمر سهل، بل إن الأنظمة العربية هي تبلور حقيقي لهذه الكتابات.

امتلك التأثير لتنجح!

انظر حولك، هل تمتلك أي أداة تأثير في مجتمعك، ربما نعم وربما لا، لكن المؤكد أن هذه النظم مدججة بكل الوسائل، فأفكارها مبثوثة في الإعلام والفن والمسلسلات بل وحتى في روايات الأدب الاستهلاكي والرصين، وبسبب ثقافة الاستهلاك والمنع ومقص الرقيب قلما تجد كتباً ذات قيمة تستطيع زرع بذرة الوعي عند الناس، في الجامعات التي يجب أن تكون منارة للبحث العلمي وطرح الأفكار الساخنة ومناقشتها، وتكون مركزاً أصيلا لانتشار الوعي، كالمدارس، والمؤسسات الحكومية، فكلها مقيدة، والتمجيد للحزب حاضر في كل الدوائر، صور الدكتاتور في كل غرفة وفصل، وحتى تصوّرك عن رجل الأمن ذاته، بعيد عن التصور البسيط من إنسان مكلف بحفظ أمنك والدفاع عنك، إلى تصورك له رجلا مكلفا بقهرك إذا ما تحدثت خارج إطار الأفكار التي تطرحها هذه الأحزاب .

إياك أن تخطئ وتتحدث أمام المارة أو في وظيفتك الحكومية عن السياسة والفساد داخل النظام، فهناك الآلاف المتربصون بك، المستعدين لرميك بتقرير خلف الشمس فيقدك أبناؤك وأهلك، ويتم حرمانك من أبسط مقومات الحياة.

انظر إلى مجتمعك الذي ينهار يومًا بعد يوم، تضعف فيه القيم وتضيع العادات والتقاليد الحميدة، انظر إلى خطب أيام الجمعة أتراها تلامس حقيقة الدين أم أن الخطباء بعيدون عن مواجهة الواقع وتفكيكه ومحاولة إصلاحه.

“إن الظاهرة الاجتماعية تمتاز بأنها تنطوي على قوة قاهرة تفرض على أفراد المجتمع ألوانًا مختلفة من السلوك والتفكير والعاطفة، وتوجب عليهم أن يصبوا سلوكهم وتفكيرهم وعواطفهم في قوالب محددة ومرسومة” [المنطق الحديث ومناهج البحث، محمود قاسم، نقلا عن إيميل دوركهايم] وهكذا سنعرف أن تصورات الإنسان العربي الكئيب مشوهة، ومقيدة التفكير، ومقتولة الإبداع، غير قادر على البحث عن حلول لها، ولا سبيل للخروج من هذا الواقع إلا بتغيير أفكار الناس عنه وبث الوعي الأصيل فيه.

الرواية الأدبيّة .. حاجة أم رفاهية وترف؟

يفتتح الطيب بو عزة كتابه ماهية الراوية بالقول: “إذا كان ثمة جنسٌ أدبي يبدأ في تكوين وعينا وتشكيل أسلوب إدراكنا لذواتنا وللوجود، منذ طفولتنا وبدء تفتّح قدراتنا الذهنيّة، فلا شك أنه الراوية، إذ منذ الصغر يسكننا ذلك العشق الغريب لفعل السرد، فنلحّ على من حولنا لكي يحكي لنا ويقصّ علينا ويسرد” [ماهية الرواية، الطيب بوعزة] وهذا الأمر ليس شيئًا هامشيًّا بل ثمة تعالقٌ صميميٌّ بين الراوية والحياة، ليس في حيوية شكلها، وحراك أساليب انتظامها فحسب، بل “أيضًا في اتصالها الوثيق بكينونة الإنسان في العالم” [ماهية الرواية]

الرواية الأدبية: جسر للمعرفة أم الفراغ؟

إذا أردنا البحث في بعض مجموعات التواصل الاجتماعي الأدبية، أو تلك التي تُنشر فيها نصوص ذات طابعٍ سرديٍّ، فإننا سنتساءل حتمًا: ما هي اهتمامات ووجهة قرائنا العرب في هذا الحقل وماذا سوف نجد؟

إن أغلب تلك الاهتمامات والنصوص، لا تحتوي على قيمة معرفيةٍ وفكريةٍ حقيقية، بمعنى خلوّها من الحسّ الاستشكالي -بعمومها- للأحداث الجارية، أو غياب المعالجات الفعليّة للمشاكل العالقة، سواء كانت اجتماعية، أو نفسية أو ثقافية.

ليس المقام هنا مقام مصادرة آراء، بل مقام تعبير عن أزمةٍ يعيشها الكثير من روّاد الأدب والكتابة الأدبية الإبداعية وقراء الأدب في عالمنا العربي، وهذه الأزمة تتلخّص باختزال الأدب في شكلٍ نحويٍ ولغويٍ ومدى قدرة الكاتب -إن صح إطلاق هذا اللقب عليه- على بناء النص نحويًّا وحشد العبارات العاطفية التي لا تضيف قيمة معرفيّة أو فكرية أو ثقافية للقارئ، إلى جانب الانحراف الواضح والتركيز على إقحام قضايا الجنس كركن أساسي في هذا النمط الأدبي، بل أصبح كل من كتب نصًّا سرديًّا يتسلّق على الأدب -ويلقّب نفسه أديبًا وكاتبًا- رغم أنه لا حق لأحد في مصادرة حقّ الناس عن البوح والكتابة والتعبير عما يجول في خواطرها بسردٍ أدبيّ، إذ قد يكون ذلك بداية ولادة الأديب حقًّا، إلا أنه لا بدّ من بيان واقع الأدب وما يدّعى أنه أدبٌ في فضاءات التواصل والكتابة العامّة.

إذًا، فهذا المقال محاولة للفصل بين هذا النمط من الكتابة الذاتية -التي قد يتطور صاحبها ويصبح أديبًا-، وبين حقلٍ معرفيٍ له قيمته الكبرى في التأثير لا يقل عن التأثير الذي تتصدره الكتابة الفلسفية المنطقية التجريدية كما يصرح الفيلسوف المغربي الطيب بو عزة.

حاول النّظر إلى النصوص التي أتحدث عنها أو الروايات، وعن تعليقات المعقبين عليها، أو اجلس مع هذا النوع من القراء، فإنك لن تجد سوى حفلاتٍ شكلانيّةٍ تمجيديّة للنصّ المكتوب وجماليته، وقد لا تجد موضوعًا معيَّنًا يتحدثون فيه أو فيما حملته الرواية، ويكاد ينعدم الحس النقدي الحقيقي عند هذه الفئة من الناس أو الحسّ التقيمي المعياري لما يخبره النص من رأي أو فكرة، أو حتى التساؤل ما هي قيمته الفكرية والإضافة التي قد يقدمها للقارئ!

الطيب بو عزة

 

الإنسان كائنًا روائيًّا

يصنف الأدب أو السرد على أنه نوع من أنواع الفن الذي يختص به الإنسان عن غيره من الكائنات، ويكون باغلب الأحيان حاملًا للثقافة والمعرفة ورؤية الإنسان عن الوجود، يجيب عن الأسئلة الإنسانية الكبرى، ويستنطق دلالات الوجود ومعانيه، ولعلّ سبب قربه من القرّاء وحبّنا له يكمن في فرادة تعاطيه مع الأسئلة الإشكالية، وأنه يقدم لنا وجهة نظر للأحداث اليومية بصبغة وجدانية، تعبر عن قدرة الإنسان على توليد المعاني، فـ “الرواية نمطٌ أدبي دائم التحول والتبدّل، يتسم بالقلق بحيث لا يستقر على حال” [روجر آلن، نقلاً عن ماهية الرواية]

يخبرنا الطيب بو عزة في كتابه “ماهية الرواية” أنه من الصعب في نمط الكتابة السّردية الأدبية تقعيد تعريفٍ دلاليٍ لحقل اشتغاله، لكنه في نفس الوقت ينبّه لفرادة السرد الروائي ومكمن قيمته؛ أي: قدرته على الإنصات إلى الكينونة والتعبير عنها، وبهذا يزعم البو عزة أن فنّ السرد التزم الدرس الظاهراتي -أو الفينومينولوجي- قبل ظهور هذا العلم -أي الفينومينولوجيا-، وعبّر عنه بأسلوبٍ أقدر من أسلوبها الفلسفي التجريدي.

فـ “إذا كان صحيحًا أن الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الإنسان؛ فإنه يظهر بوضوح أن فنًا أوروبيّا كبيرًّا قد تكوّن مع ثربانتيس -مخترع شخصية دونكيشوت-، وما هذا الفن إلا سبر عميق لهذا الكائن المنسي” [ماهية الرواية- ميلان كونديرا” ومن هنا فإن قيمة السّرد الروائي تكمن في تعويض هذا النقص الجوهري في المنظومة الثقافية، وهكذا تتعدّد مداخل مقاربة الكينونة الإنسانية بفضل السّرد الروائي على نحوٍ يعلو على المقاربة الفلسفية التجريدية، فإذا كان اللوغوس أو المركز الفلسفي يحوّل هذه الكينونة إلى رموز ومفاهيم، فإنه في هذا التحويل قد يفقد هذه الكينونة أهمّ خصيصة فيها، وهي الحياة، أما الرواية فميزتها أنها تقارب الحياة بالحياة؛ فتعبر عن الكينونة مع الحفاظ على حيويتها ونبضها.

الرواية إبداعًا متكاملًا

ثمة إشكال في تعريف هذا الشكل الأدبي، إذ “للرواية قدرة على امتصاص كلّ اللغات، والانبناء على أي بنيةٍ من بنيات الواقع الاجتماعي أو النفسي، ولذا ينظر إليها بوصفها جنسًا أدبيًّا يستحيل تعريفه منطقيًّا وجماليًّا” [ماهية الرواية- نقلا عن جون كبريس]

ولصعوبة تقعيد التعريف لماهية الرواية يتحدث بوعزة متسائلًا: ألا يمكن انتهاج مقاربة أوليّة تمسك بهذا التعدّد من مداخل التصنيف مثلًا؛ فنحدّد (الرواية الاجتماعيّة) انطلاقًا من خصائصها ومميزاتها، كنمطٍ سردي يروم قراءة الواقع المجتمعي ووصفه، ونحدّد (الرواية النفسيّة) بوصفها سردًا لدواخل الشعور واعتمالات الوجدان، و(الرواية التاريخيّة) بكونها تحويلًا للحدث التاريخي إلى حبكةٍ قصصيّة، و(الرواية الفلسفية) كاستحضار للأسئلة والرؤى وتحويلها إلى مادة حياةٍ ملحوظة من خلال حراك السّرد؟

وبصراحة قد تحتوي الرواية كل العناصر السابقة مجتمعة لكن كلها نستطيع أن نلمح فيها حسًّا استشكاليًّا لواقع يحاول فهمه وتوصيفه وقد يروم إلى محاولة حلّه، وهكذا -كما يقول الطيب بوعزة- “أعترف بأنني تعلمت أحيانا كثيرة من الراوية مالم أتعلمه من كتب الفلسفة بل اكتشفت أن مقاربات النفس البشرية وإدراك تلافيف مشاعرها، وتعقّد تركيبها لا يحتاج فقط إلى تنظيرات فيلهلم فونت، وفينشر، وفرويد، ويونغ، بل ينبغي ايضًا الإنصات إلى السرد الراوئي، إلى دوستويفسكي، وصموئيل ريتشاردسون، وستندال، وبروست” [ماهية الرواية- الطيب بوعزة]

إن الرواية تمنحنا القدرة على إدراك بنية الاجتماع الإنساني وكيفيّة تراتب وتفاعل مكوناته، وهكذا فإننا نحتاج التعلم من ابن خلدون، ودوركهايم، وفيبر، وبورديو. إلى جانب قراءة نتاجات اليراع الروائي عند بالزاك، وتولستوي، ونجيب محفوظ، وماركيز، وغيرهم، و”لذا كثيرا ما أنصح طلبة الفلسفة وعلم النفس والسوسيولوجيا بالإكثار من قراءة النصوص الروائية مشيرًا إلى أن تكوينهم الفلسفي، واغتناء رؤيتهم إلى الوجود لن يتحققا ما لم يكونوا موصولين باستمرار بالمتن السردي” [ماهية الرواية- الطيب بوعزة]

إميل دوركايم

 

الأدب .. أن تحترم قارئك

وإذا علمنا أن مكونات الرواية قد تحتوي على نظرة قيمية ونظرة للكون والوجود والتاريخ والاجتماع وقد تصف الحب والذات والعقل والتجارب الشخصية والنفسية، فإن ما يجب أن يستذكره الكاتب والقارئ العربي هو احترام الأدب حقلًا معرفيًّا قبل الشروع بالكتابة فيه، وأن يكون الكاتب مسؤولًا عما يكتب، فيكون صاحب ضمير ورسالة، وأن يتواضع قبل الكتابة، ويستحضر أن هناك أشخاص سيقرؤون ما يكتب، وليسأل نفسه: ما قيمة كتابته الفكرية، وماذا ستضيف لقارئه وللساحة الثقافية؟

هذا الدرس نفسه يوجه للكثير من دور النشر المتأثرة بثقافة الاستهلاك والبيع والشراء، التي تتسارع لنشر الروايات فارغة المعنى وعديمة القيمة التي يكون تأثيرها السلبي على القراء أكبر من الإيجابي، وتزيد من المشاكل القابعة داخل سياقاتنا الاجتماعية والثقافية، واللوم أيضا يقع على بعض القراء الذين لم يتملّكوا معيارًا حقيقيًّا في انتقاء قراءاتهم والترويج لما يقرأون، والإشادة كذلك باستهلاك الكتب والروايات منعدمة القيمة التي يتراكض عليها القراء وتنفد من المكتبات، ولعلّ هذا الأمر هو الذي جعل آلان دونو في كتابه نظام التفاهة يقول إنه عندما يريد شراء الكتب يذهب إلى زوايا المكتبات، ويبحث عن الكتب التي لم يشترها أحد، والكاتب الذي لا يعرفه أحد، لأن ثقافة الاستهلاك هي المسيطرة، والإعلانات جعلت الكتب تتحول إلى سلعة للبيع والشراء فقط [نظام التفاهة، آلان دونو] وهذا إذا كان يعبر عن شيء، فإنه يعبر عن أزمة حقيقيّة في الأوساط الثقافية على مختلف مشاربها.

ولو تساءلنا: هل نستطيع تنزيل تعريف واحد من التعاريف السابقة على روايات الاستهلاك التي لا تحمل داخلها أي قيمة؛ فماذا سيكون جوابنا؟

هل الروايات -خاصة الاستهلاكي منها- التي يكون هدفها “المال والبيع والشراء” وتتراكض دور النشر على بيعها ونشرها والترويج لها، ويتلهف القراء لشرائها، هل تحمل هذه الروايات حقًا أيّ قيمةٍ معرفيةٍ أو نقديةٍ أو تشخيصية لواقع مأزوم أو مشكلة نفسية أو اجتماعية أو فلسفية؟ وماذا تعالج هذه الروايات من آفاتٍ أو مشكلاتٍ، وما هي إضافتها المعرفية للقراء وما هو الدرس المستفاد منها؟

وكذلك من الناحية البنيوية -الجمالية والنحوية-، قد لا نجد نصًّا بليغًا واحدًا، أو يحتوي على عناصر البلاغة المعروفة عند علماء البلاغة في تراثنا الإسلامي، رغم اشتهارنا في البلاغة وكوننا أمة لديها كتاب الله الذي لا تدانيه أي بلاغة في أي لغة من اللغات، وكذلك غياب الأدب القائم على النقد الجدلي المثير للعقل والشاحذ للأفكار.

خلاصة القول

إن غياب هكذا أنماط أدبية عن الساحة العربية الثقافية أو جنوح اهتمام القراء نحو الكتابات الاستهلاكية يعبر عن أزمة في الأوساط الثقافية، بما لا يتسق أساسًا مع مقتضى أول كلمة نزلت على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم [اقرأ]، بما تتضمنه من كثافة التفكر والتدبر في الفهم والبحث، ومركزية استخلافنا في الارض ومسؤوليتنا عليها، وتكرار أهمية العمل في الواقع والسعي لتغييره وفهمه وترك بصمة فيه، فهل نسعى لهذا الأمر حقًا؟

هل تساءلنا عن قيمة المتون التي نقرأها وعن فائدتها وكيف نستطيع توظيفها لتغيير واقعنا المتخلف؟ وهل عندما نشرع لكتابة منشور على صفحاتها أو نبدأ بكتابة أو قراءة نص أدبي كان أم فلسفي، نستحضر بداخلنا تلك المسؤولية العظيمة التي كلفنا الله بها؟.

حرب التضليل بالمصطلحات

من أشهر سُبل التضليل أن يتلاعب المرء بالكلمات والمصطلحات حتى يمرر أفكارا جديدة في أذهان المستمعين، أو ليغيّر أفكارهم القديمة ويستبدلها بأفكار جديدة، أو أن يُحوّل نفورهم من سلوك معين إلى قَبول واستحسان، وهذا من جملة ما يُسمى في السجال العقائدي بـ (حرب المصطلحات).

حرب المصطلحات في نصوص الوحي

تَكثُر في نصوص القرآن الكريم عبارة (أسماء سميتموها) في غير موضع، ومن ذلك على سبيل المثال، قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا اسماءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ} [النجم: 23]، وقوله تعالى {أَتُجَادِلُونَنِي فِي اسماءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف: 71]. وقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ اسمآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَٰنٍ ۚ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]

إن تَلقِيبَ الآلهة المعبودة من دون الله بأنها مجرد (أسماء مسمّاة) يعني أن الموجود المُتجه إليه بالخشوع والخضوع هو في حقيقته محض عدم، وأنه لم يرتقِ من المخلوقية إلى الخالقية حقًّا، ولكن الإنسان هو من رفعه وقدسّه عندما غيّر من اسمه! وهذا الجهد البسيط في تغيير الأسامي ترتب عليه الشرك بالله ونحت طرق جديدة للضلال؛ إذ إن تغيير المصطلحات والتلاعب بالمسميات يُوهِم ويَخدع، فيحوّل العدم إلى وجود، والحقير إلى عظيم، واللاشيء إلى شيء!

وفي نصوص السُنّة الشريفة، تكثر الأحاديث التي تبدأ بصغية (أتدرون ما كذا)، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما الغيبة..) [أخرجه مسلم في الصحيح] وقوله: (أتدرون من المفلس ..) [أخرجه مسلم في الصحيح]، وكانت إجابات الصحابة تدور في إطار لغوي أو عُرفي، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أنار بصيرتنا وإياهم بالإشارة للمعاني الشرعية، حيث إن إعادة تعريف الكلمة الشائعة بالتعريف الشرعي بجانب التعريف اللغوي ينتشل العقول من دائرة الثقافة المجتمعية والعُرف السائد إلى تعريف جديد مغاير ومختلف.

بناءً على ذلك، يمكن أن تتغير موازين المرء في الحُكم على الأشياء لأن مسميّاتها قد تَغيّرت، فتتغير التصورات بناء على عقيدة الإسلام ومركزياتها الكبرى.

تأثير المصطلحات في العقائد والسلوكيات

من بين سُبُل تغيير الأفكار عبر المصطلحات ما يلي:

  • تسمية اللاشيء باسم

إن تسميّة اللاشيء باسم جديد لا وجود له في ذاكرة البشر، يعني أن هناك طريقًا إلى سراب يتم تمهيده والاعتناء به. وعلى سبيل المثال، قد يُعرّف المرء إنكار الوجود الإلهي بـ (الإلحاد)، وفي الوقت ذاته قد يسمع مصطلحات أخرى من (الفلسفة العدَمّية)، أو (الفلسفة الوجودية)، أو (الفلسفة المادية)، ولو قرأ المرء في تلك الفلسفات بتريّث وتمعّن وما فيها من صبّ التركيز على المادة وإنكار الميتافيزقا والغيبيات، لوجد أنه يقف أمام الإلحاد وجهًا لوجه، بلا فرق! إلا أن الاسم الجديد يوهم الإنسان أنه شيء مغاير ومختلف وجديد، في حين أنه مجرد وجه جديد لنفس العملة.

فقد تفهم المعنى بكلمة (إلحاد)، وقد تتبع سبل المصطلحات الجديدة حتى توصلك لنفس خط النهاية ونفس المعنى وهو (الإلحاد)؛ إذ إن مدار هذه المصطلحات الجديدة يَصُبّ في نفس الحقل الدلالي للكلمة الأولى، إلا أن المصطلح الأول ناصح أمين يدلك على المعنى مباشرة، أما المصطلح الجديد فهو خادع ماكر يَعِدُك بأن يقدّم لك معنىً فريدًا وجديدًا، ولكن تكتشف أنه يوصلك إلى نفس خط النهاية بعد أمد من مضيعة وقتك!

  • تغيير المُسمى للتعظيم

إن الشيء التافه قد تُضفَى عليه هالة من العظمة والقداسة لو تغير اسمه لمصطلح معقّد، على سبيل المثال، فإن علم الأحياء –مثل سائر العلوم المادية– يقوم على التراكمية، أي أن العلم الحديث يتراكم على المكتشفات السالفة حتى يتوسّع العلم ويتطوّر. فطبيعي أن تزداد المسميات الجديدة لأن هناك مكتشفات حديثة لم يُعلم بها.

ولكن العديد من الظواهر القديمة في الأحياء تم تغيير اسمها بعدما تم إقحام التطور الدارويني في أغلب المقررات الدراسية على مستوى العالم. فتحول مفهوم (التكيّف – Adaptation) عند الكائن الحي إلى اسم (التطور المصغّر أو المايكروي – Microevolution). فأصبح التكيّف المعروف على مدار القرون الأخيرة يُدرَّس على أنه جزء من عملية التطوّر ككل؛ وذلك لأن التطور المصغّر يخلفه (التطور الشامل أو الكبير الماكروي – Macroevolution) بحسب نظرية التطور.

إن تغيير المصطلح هنا ليس إلا استبدالا للاسم القديم باسم جديد لتهويل وتعظيم من شأن الظاهرة المعروفة، حتى يتم التمهيد لمبادئ التطور الدارويني في عقل الطالب.

تشارلز داروين

  • تغيير المسمى للتحقير

إن الموضوع الجاد قد يفقد جِديّته لو تغير اسمه إلى مسمى يحقر من شأنه، ووُصِف بوصف يسفه من قيمته. فعلى مدار التاريخ البشري، كان المترفون يُميّعون جدية الدين وخطاب الأنبياء بتهمه أنه (أساطير الأولين). فيتحول القول الفصل، الذي ما هو بالهزل، إلى مجرد أفكار موروثة وقصص قديمة تَسَلّت بها الأجيال. وتتحول الأخبار الحق إلى مجرد (أساطير). فلا يؤخذ الدين إثر ذلك بجدية، بل يكون في الإعراض عنه راحة للبال وموت ضمير. ومن هنا، قد يفقد الشيء العظيم هيبته لأن المصطلح الذي يعبر عنه لا يقابله في نفس مستوى الجدية. ولأن الاسم الذي لُقب به لا يعكس قدر أهمية الموضوع وعظمته.

  • تغيير المسمى لتغيير السلوكيات

إن السلوك العام عند أي مجتمع يُحكم في المقام الأول بالعقل الجمعي والعرف العام؛ إذ إن البيئات التي تُقنن الانحراف يُجهر فيها بالسوء والفساد، والبيئات التي تُحرم الانحراف لا وجود فيها للانحرافات إلا في الغُرف المغلقة، وبناءً عليه، يؤدّي عرف المجتمع دورًا كبيرًا في رسم الخطوط الحمراء وحمل الناس على الالتزام بها وعدم تجاوزها. وتلك الخطوط الحمراء تنبع من الدين أولًا، ثم من التقاليد المتوارثة في الأُسَر ثانيًا. فتُعرّف السلوكيات على أنها نبيلة أو حقيرة على حسب ذلك الدين والعرف.

ومن هنا، يصعب إقناع جماعة من البشر بفعل ما محظور عندهم، مهما كان ممتعًا وموافقًا لأهوائهم، ولكن قد يتم الترويج لنفس الفعل المُحرم بتسميته باسم جديد، فتزول الحساسية تجاه الفعل، ويجري الاستسلام للنزوة دون وخز الضمير. وذلك لأن العقل ينفر تلقائيا من المصطلحات التي بُرمج على رفضها، ويبدأ في قبول نفس الفعل لو عرض عليه بمصطلح جديد لا ماضيَ له معه!

على سبيل المثال، عندما خرجت أوروبا من هيمنة المسيحية إلى ميوعة العلمانية. انتشر الزنا بشكل فاحش، وذلك لأن المجتمع اختُرق بمفاهيم جديدة مغايرة للمسيحية، فلم يعد يطلَق على (الزنا) ذلك الاسم، بل اتُّخِذَ له مسميات عديدة، وأصبح من الممكن أن يقيم الرجل علاقة صداقة مع امرأة ثم يقيمان علاقة جنسية عابرة من آن إلى آخر دون الاعتراف بعلاقة جادة، ويُعترَف مجتمعيًّا بهذه الفوضى الجنسية تحت مسمى (Friends with benefits). أي أن تحويل مسمى (الجنس خارج الزواج) من “زنا” إلى اسم جديد ورنّان، يعني أن الحساسية النفسية تجاه الفعل قد زالت. وأنّ وُعّاظ الدين الذين يحرمون الفعل لن يصلوا للجمهور بعد الآن، لأن الجمهور الذي غيّر اسم المحرمات لم يعُد يشعر أنه المخاطب!

ومن هنا، يحدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن خطورة تغيير أسامي المحرمات بأسامي جديدة مغايرة للمصطلح الشرعي، ولعلّنا نلتمس ذلك في قوله (يَشرَبُ ناسٌ من أُمَّتي الخَمرَ، ويُسمُّونَها بغَيرِ اسمها) [أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهم]

النجاة من التضليل

في الزمن المعاصر الذي ينفجر بالمعلومات، لا بد للقارئ أن يتحلى بقدر لازمٍ من التفكير الناقد، وألّا يردد المصطلحات المسموعة بشكل أعمى، وألّا يعجب بزخرف القول دون البحث الجاد حول مصدر المصطلح وأول من أطلقه والهدف من ورائه، حيث إن تغيير الأسماء والتلاعب بالمصطلحات قد يبدو حدثا هينا في ظاهر الأمر، إلا أنه بناء عليه قد يتحوّل الحرام إلى مستساغ، والحقير إلى عظيم، والعظيم إلى حقير، والمخلوق المقهور إلى معبود من دون الله! فاحرِص على نجاتك وسلامة قلبك وعقلك.

حصاد الغربة

كأسراب الطيور المهاجرة في كل عامٍ تمامًا في ذات موعد العام المنصرم، باسطةً أجنحتها، محلقةً في أعالي السماء إلى غايةٍ ترنوها من الرحيل، تطير بجناحي الألم والأمل، تألم من ترك مكانٍ استوطنته لشهور، آملة في مُقام انتظرته أيضًا منذ أشهر، تبلغ مرماها وتحط أجنحتها وما تلبث حتى يشتعل لهيب الشوق بداخلها، فتارة يكون دافعًا وأخرى مثبطًا، وتبقى بين تلكم الدوافع حتى تعود أدراجها إلى الموطن الأول، وهكذا دواليك، فلا راحة، والكَبد هو الشعار، والغاية الدافع والمحرك.

لسان حال كل مغترب مهما تفاوت عمره ومهما كانت غايته، فموطنه الأول وبقايا الذكريات لا تلبث حتى تشتعل بداخله، فيطفئها تارة وتحرقه أخرى، ولكن رغم كل هذه الآلام والتحديات الحقيقة التي تواجه كل مغترب إلا أن ثمة دروس دمثة لا يبلغها المرء وهو مقيم حتى يرتحل، سأذكر في هذا المقال بعضًا من تلك الدروس علّها تنفع غيري.

خُلِقَ الإنسان في كَبد

إنَّ الحقيقة الكبرى في تلك الحياة التي لا يجب أن يغفل عنها عاقل هي كون طبيعة هذه الحياة كبد وشقاء، وأن الدار الدنيا فانية ومليئة بالابتلاءات سواء كانت ابتلاءات بالعطاء أو بالشدة والشقاء، قال الله عز وجل {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء-٣٥] قال الإمام ابن كثير “نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى، لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( ونبلوكم ) يقول: نبتليكم بالشر والخير فتنة، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية والهدى والضلال” [تفسير ابن كثير].

إن الحياة في ذاتها بلاء قال الله سبحانه وتعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك-٢]، فعندما يدرك المؤمن هذه المعاني ويتشربها في نفسه ويوقن بها؛ تهون في عينه الدنيا بمصائبها، فمن أدرك حقيقة الأمر لن يُذهب نفسه حسرات عليه، بل يحتسب كل بلاء ومصيبة ويبتغي بها وجه الله والأجر والثواب ويسأل الله الرضا والصبر الجميل.

كل شيء له ثمن

من أهم ما يجب على الإنسان إدراكه أيضًا في هذه الحياة أن لكل شيء ثمن يجب بذله حتى يصل إلى مراده، فحتى جنات الخلد والنعيم لها ثمن قال الله عز وجل{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ}[التوبة-١١١]، فحتى يبلغ المؤمن غايته العظمى في هذه الحياة عليه أن يبذل نفسه وماله لله عزّ وجل، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من خاف أدلجَ ومَن أدلج بلغ المنزلَ ألا إن سلعةَ اللهِ غاليةٌ ألا إن سلعةَ اللهِ الجنةُ} [رواه الترمذي] أي مَنْ خاف ألَّا يَصِلَ إلى غايتِهِ سار أَثْناءَ الليلَ؛ ليَكونَ ذلك أَرْجى له في الوُصولِ إلى غايتِهِ، “ومَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ”، أي: ومَنْ سار بالليلِ وَصَلَ إلى غايتِهِ ونال مُبْتغاهُ، ويعني النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا أَمْرَ الآخرةِ: فمَنْ شَمَّرَ ساعِدَيْهِ واجْتَهَدَ في عِبادةِ اللهِ وأدَّى ما عليه مِنْ الحقوقِ والواجباتِ؛ فإنَّه أَرْجَى أنْ يَصِلَ إلى غايتِهِ مِنْ مَغْفِرةِ اللهِ ورحمته والفوزِ بجنَّتِهِ، “ألَا إنَّ سِلْعَةَ اللهِ غاليةٌ”، أي: إنَّ ما عِنْدَ اللهِ غالٍ وعظيمُ القَدْرِ، ولا يَنالُه إلَّا مَنْ اجْتَهدَ في تَحصيلِهِ وسعَى له حَقَّ السَّعي، “ألَا إنَّ سِلْعَةَ اللهِ الجَنَّةُ”، أي: إنَّ ما عِنْدَ اللهِ هي الجَنَّةُ، فمَنْ أرادها فلا بُدَّ له من السَّعي والتَّشميرِ لأَجْلِ الظَّفَرِ بها؛ فجَنَّةُ اللهِ لا تُنالُ بالأماني ولا بالتَّمنِّي، ولكِنْ بالعملِ والاجْتِهادِ، ثمَّ هي بعدَ ذلك لا يَدخُلُها أحدٌ إلَّا برَحمةِ اللهِ تَعالَى [شرح الموسوعة الحديثية]. وكذلك أيضًا في أمور الدنيا، فلكل مجتهد نصيب، فأنت سافرت وتركت الدار والأهل طالبًا للعلم أو قاصدًا نصرة الحق أو فارًّا بدينك، فاعلم أن لهذا ثمن يجب أن تبذله، فكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:

وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي   ***      وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا

وَما اِستَعصى عَلى قَومٍ مَنالٌ        ***      إِذا الإِقدامُ كانَ لَهُم رِكابا

فيجب أن تعلم أنه لا يمكنك بلوغ مناك أيًا كان دون أن تبذل له وتجهد في طلبه، وتصدق في قصده، وتقارب وتسدد والتوفيق من الله.

اللجوء الحق لله عزّ وجل

لا أعتقد أنه يوجد أحدٌ كابد الغربة ولم يتعرض لشدائد على كافة الأصعدة وخصوصًا على مستوى حالته النفسية، فلابد وأن تجد حزمة من الأشياء تعصف بنفسه حينًا بعد حين، وتثقل نفسه فينة بعد فينة، فيكون لسان حاله يقول:

أمُقامٌ في غربةٍ فيه راحة الجسد***ولهيب الشوق بين جنبينا مُتقِد

فنرتحل لنطفئ لهيب الجوف ***فإذا بالجسد من التعب يرتعد!

فنربت عليه بأيادٍ فيها رجاء***ونسـقيه دواء هو له وِجـاء

فيستدوينا من أدواءٍ عِدَدِ

 فهنا عليه أن يتعلم كيف يلجأ إلى الله عزّ وجل حق اللجوء، ذاك اللجوء الذي يكبح جموح الأحزان من أن تنهش نفسه وروحه، يجب أن يثبّت عقيدته ليعلم أنه لن ينفعه أحد ولا يضره إلا بإذن الله، يجب أن يجعل هذا الحديث نصب عينه ويوقن به تمام اليقين، فعن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما ، فقال: (يا غلام، إني أُعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سأَلت فاسأَل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) [رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح]. الإيمان بهذا الحديث يجعل في القلب رضا وفي النفس طمأنينة مهما تقلبت بها الأحوال، وليجعل في صدره بل يذكرها في كل نَفَسٍ من أنفاسه قوله سبحانه وتعالى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد ٢٢-٢٣]، فتسكن روحه وتهدأ نفسه وتركن إلى بارئها مهما حدث، وتعلم أنه القوي العزيز الجبار، وتوقن أنه إذا أراد شيئًا فيكفي أن يقول له كن؛ فيكون.

كيف تتغلب على الفتور

الإنسان في سياق حياته الطبيعية يتعرض لفتور وملل طبيعي جدًا، ولكن تزداد فرصة الوقوع في هذا الفتور مع الغربة بسبب الوحدة واختلاف الثقافة، واختلاف العادات والتقاليد، وتحمّل مسئولية نفسه كاملة وربما أهله، ومكابدة أعباء جديدة كثيرة، مما يجعل فرصة التثبيط والفتور أكبر بكثير، لذا فعليه أولًا: أن يستعين بالله ويتعلم كيف يلجأ إليه سبحانه وتعالى كما ذكرنا آنفًا، فتضيء نفسه بهدى الله ولا ينتظر أي سراج خارجي يوقدها.

ثانيًا: عليه أن يجعل دومًا الغاية التي ذهب لأجلها نصب عينيه، ويبتغي بها وجه الله، ويتذكر أجرها الأخروي قبل مثوبتها الدنيوية، ويتذكر فرحته ببلوغه مناه وفرحة أحبته، ولو كان ذاهبًا فارًّا بدينه فيتذكر أجر هذا وقدره ويحتسب لعل الله يكتب له أجر المهاجرين في سبيله، وما أعظمه من أجر وما أجلّها من مثوبة.

ثالثًا: يجب أن يكوّن علاقات اجتماعية قوية وموثوقة في مجتمعه الجديد، فالإنسان بطبعه كائن اجتماعي، لا يطيق أن يعيش وحيدًا دومًا، ومهما غالب نفسه وكابر ولم يعترف بذلك، سيأتي يوم يكون أشد ما يؤلمه فيه هو كونه وحيدًا بلا صحبٍ أو رفيق، فيجب أن يبادر بالانخراط في المجتمع دون أن يفقد دينه وهُويته، ودون أن يُذوّب مبادئه وقيمه فيه لو كان هذا المجتمع مخالفًا لها، ويجتهد في التواصل والتعرف على أناسٍ يحملون نفس قضيته ونقاط التماسّ بينهم كثيرة حتى يكوّن تلك الدائرة الصغيرة المريحة الصادقة بالنسبة للإنسان.

رابعًا: يجب أن يكون الإنسان منظم لحياته ومخططًا لها، فالفوضوية الحياتية من أكثر الأشياء التي تجعل المرء تائهًا ولا يملك يومه، ومن ضاع يومه ضاع عمره، فيجب أن يتعلّم مهارات التخطيط ويجتهد في تنظيم وترتيب حياته حتى يبقى في حالة مستقرة ولا يشعر بالتيه.

خامسًا: يجب أن يتبع سياسة الثواب والعقاب مع نفسه، ويتعلم كيف ومتى يرفهها، حتى لا تجمح نفسه وتجنح للمتعة والحياة، وهذا طبعها ودأبها، وحتى لا يجني هو عليها فيكبحها بقسوة ويثقلها فتُهدم أمامه دفعة واحدة، بل يعاملها بتوازن دون إفراط أو تفريط.

فرصة ذهبية لتغيير الشخصية

كما أن الذهب الخالص لا يخرج إلا بعد لهبٍ خالص، فكذلك الإنسان، تكون الشدائد والابتلاءات الكبرى في حياته بمثابة فرصة ذهبية لتحسين شخصيته وتزكيتها وترويضها وتهذيبها، فالألم الشديد يجعل النفس في حالة من الانكسار والرقة التي بها يحصل الصلاح للقلب، ويفتح لها آفاقًا لطالما أغلقتها عليها العجرفة والقسوة، ويزيل عن العين غشاوة القدرة والغلبة والتملك، ويجعل المرء يوقن أن كل ما كان فيه من فضل فمن الله سبحانه وتعالى، وكل فضلٍ آت فكذلك منه عز وجل، وأن ليس له من الأمر شيء، فتخبت نفسه لبارئها، فتجده بسّامًا بعد عبوس، ورحيمًا بعد قسوة، وكريمًا بعد شح، ومُنجِدًا بعد جبن، فيعلم بعد ذلك أن هذا اللهب كان خيرًا له من ألف نعيمٍ ونعيم.

استثمر في نفسك

الكثير من البوابات تُفتح لك في الغربة، والكثير من الثقافات والمعلومات والفرص، فبادر دومًا باختيار الأنسب والأفضل لك واستثمر وقتك في تعلم مهارات جديدة وتطوير نفسك، وخير ما يمكن أن تقدمه لها هو تعلم أمور دينك التي بها تنجو.

بادر لتعلم القرآن وتدبره وإتقان قراءته، وبادر بالتفقه في الدين خصوصًا لو كنت في بلدٍ كافرة يكثر فيها الشبهات، فيجب أن تعلم من الفقه على الأقل ما لا يسعك جهله، وما تقيم دينك به، تعلّم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتعرّف على نور الهدي النبوي الشريف، تعلّم اللغة العربية وغُص في بحرها ستجد من الدر أنفسه، واللغة العربية بوابة كل المعارف المذكورة هنا وغيرها الكثير، فاجعلها في مقدمة أولوياتك، فمن ملك مفتاح الباب، فُتِحَ له كل شيء، واطلع على سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، واقرأ تاريخك لتتغلغل عزة الإسلام في نفسك ولا تسمح لثقافة غالبة أن تبهتك.

وكذا الغربة بمثابة بوابة للحياة، فهي تمنحك فرصة للتعامل مع أطياف واسعة من الناس، فاستثمر في تطوير قدراتك ومهاراتك التواصلية مع الناس، واجعل دومًا رسالة الإسلام هي سمتك، واجعل كل من يراك أو يتحدث معك يتمنى أن يعتنق هذا الدين الذي شكّلك ورفعك هكذا، واستعن بالله ولا تعجز.

إنّ البغاث بأرضنا يستنسرُ

حاول أن تجلس مع ذي عقل لمدّة لا بأس بها تتشاوران فيما آلت إليه حال الدنيا، لن تختلفا أبداً على الاتفاق على حقيقة لا خلاف عليها وهي “إنّ البغاث بأرضنا يستنسرُ”، والبغاث طيرٌ لا يستطيع الصيد لضعفه الشديد.

كم هو حجم الأشياء التي لا ذكر لها، -أو لنكونَ دقيقين- في زمن مضى لم يكن أحدٌ ما يوليها أيّ حجم مثل ذاك البغاث، واليوم تراها تتصدّر الساحات وتعتلي المنصّات وكأنّها أصبحت الأساس كنسرٍ جارح يصيدُ ضحاياه!

يكادُ ذو اللبّ يضيقُ بزاوية في هذا العالم المتهالك، ويكاد الحليمُ يمسي حيراناً.

جرائم القتل من المتّهم فيها؟

لنبدأ في الإحاطة الأمر منذ البداية، فإنّ القتل بدأ من عهد قابيل عندما قتل أخاه هابيل، قال الله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30]، لقد كان الحسد العامل وراء القتل، وبدأت البشرية منذ ذلك الوقت بين خير وشرّ.

 واليوم! مَن لتلك القلوب التي تتشرّب المنكرات التي باتت مباحة ومستباحة! فالمنكرات تُعرَض كلقمة سائغة، ولا يتجنّبها إلا من رحم ربي وأوتي جسارة روح تأبى السفاسف.

ما يحدثُ فعلاً عند ورود أيّ خبر شبيه بهذا هو اختلاط مشاعر الناس، فالبشر عاطفيون بالفطرة، يبدأ الانسياق وراء الأحداث، ولكن لوهلة لو أننا نقف وسأل أنفسنا عن الأسباب، هل يأتي الفسادُ من فراغ؟! أم هل تصبحُ الكبائرُ كصغيرة لا يؤبه لها، وكخبر يمرّ ويستمرّ كحدّ أقصى بين أسبوع ينقص أو يزيد!

لقد استُبيحت القيم!

مَن شوّه بعض الألوان حتى صارت النفوس تنفرُ من اجتماعها في علمٍ مقزّز؟ مرّ أمامي خبرٌ عن كتابٍ مصوّر للأطفال يطرحُ موضوع الاختلاف والتنوّع، ولكن قف هنا للحظة لأنّ مفهوم الاختلاف والتنوّع أيضاً أصبح مشوّهاً، يطرح الكتاب موضوع الاختلاف بين الأطفال من حيث نوعيّة العائلة بطريقة تريد شرعنة  الانحلال الجنسي ومواجهة الفطرة وفرض المسارات التي تحاربها، فترى الطفل برسوم تصويرية وأمامه أم وأب (إناث) والآخر مرسوم وأمامه أب وأم (ذكور).

من لهذه القلوب! ومن لتلك القيم! التي تقولبت وأصبحت تنادي بحقوق هؤلاء وأصبح المعترض عليهم يُقال له: (إنّكم أناس يتطهّرون)

هذا الكتاب صادر عن دار معروفة، وبعد الضجّة التي أحدثها وسط الأهل واعتراضهم على محتواه المشوّه تمّ سحب الكتاب من السوق.

والوجع الأكبر كان ردّ دار النشر التي قالت: “لا يوجد في المحتوى الكتابي أي شيء يشير، ولو من بعيد، إلى أي أمر له علاقة بـ “المثلية”، بل يمكن تقييم هذا المحتوى بأنه جيد من خلال تعريف الطفل إلى حجم الاختلافات فوق كوكب الأرض”

المعركة كبيرة وضارية، وإنّ الأهل لموقوفون ومسؤولون أمام الله تعالى عن نهجهم مع أولادهم.

الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة كلّها -إلا ما ندر- لديها هدف واحد وهو عقل الطفل وعقيدته، فإن سُلِّم الطفل إليهم دون انتباه ووعي، فلا يلومنّ أحدٌ غيره إن مضت الأيام ووجد طفله غدا شاباً يقف في عتبات المحاكم أو عتبات المناطق المظلمة.

كيف ننقذ الفطرة وسط هذا الفساد المستشري؟

صادفتُ إحدى المعارف، فتناقشنا عن ضرورة إيواء الطفل في وسط دينيّ سويّ، كان اعتراضها كالتالي: (أربّي أولادي لوحدي ولا أسلّمهم لوسط دينيّ، فما الذي يضمنُ لي أنّ هذا الوسط متوازنٌ وأنّ القائمين عليه على قدر من المسؤولية!)

الحقيقة أنّ إيواء الأطفال في وسط دينيّ، يعني إيواءهم في وسط يرتّل فيه القرآن الكريم وتهدرُ فيه الأصوات بترداد أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكفى بهما من وسط تربويّ يشذّبان شخصية الطفل ويضعان فطرته في صدفة لكيلا تخدش هذه اللؤلؤة.

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (تركتُ فيكم شيئَينِ، لن تضِلوا بعدهما: كتابَ اللهِ، وسُنَّتي، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدا عليَّ الحوضَ) [صحيح الجامع: 2937]

والغريب أنّ من يأبى إيواء أولاده في وسط دينيّ تربوي -راغباً- هو نفسه من تراه بعد زمن ينظرُ إلى أطفاله وهم يمشون في طرق يجعل قلبه يعتصرُ ألماً -راغماً-، يتهيأ لمن يضع أولاده في وسط دينيّ تربويّ أنّ هذا الوسط سيجعل منه أحمد بن حنبل!

ومن قال ذلك؟

هذا الوسط منظومة اجتماعية لأنّ الإنسان اجتماعيّ بطبعه، وفي حال لم ينخرط وسط منظومة صحيّة سويّة فلا بدّ سينخرط وسط منظومة قد لا تؤذيه في صغره ولكنّها لن تترك فيه أدنى أثر لشبابه، وهي منظومة تربويّة لأنّ دور الوالدين لا يكفي لوحدهما في مواجهة هذه العاصفة، لا بدّ من تعاون بين المؤسسات التربوية لنتجنّب ذاك البغاث الذي يستنسر أن يدخل إلى أعماق الفطرة في تلك النفوس البريئة السويّة، أرواح الأطفال تحتاج إلى رصفٍ بالنور منذ نعومة أظفارهم، كي تكتسب مناعة حين يواجهها الظلام.

المثالية بين الإفراط والتفريط

لطالما انعكست أصداء هذه الكلمة على مسامعي منذ نعومة أظافري، في المدرسة يختارون الطالب المثالي، الأم المثالية، المعلم المثالي، مسابقات لاختيار الطالب المثالي في الجامعة وغير ذلك الكثير. في الواقع هي كلمة برّاقة، فهي تغذي نزعة الكمال عند البشر، إلا أن ما لاحظته على مرّ السنين هو كون مصطلح المثالية مخادعة كبرى، نُخادع أنفسنا به تارة بالإفراط وأخرى بالتفريط..

على طرفي نقيض

أما عن كفة الإفراط، فهو ما أراه من السعي وراء حمل هذا المصطلح والتصنع أحيانًا كثيرة لسماعه من الناس، وهذا من أعجب ما أرى! لأنني أعتقد أن المرء المكتفي بذاته حقًا، لا ينتظر تقييم الآخرين له، ولا يضيء بريق عينيه إلا ممَّن لهم عنده فضلٌ ومقام، أما أن يكون مِداد نفسه من خارجه، فذلك قصور عظيم.

أتذكر هنا قول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله حينما قال جملته الشهيرة: “جنتي في صدري”، وهكذا يجب أن يكون الإنسان السوي، مصدر سعادته من داخله، لا ينتظر من غيره أن يعطيه المداد، وهذه هي المشكلة الأولى في هذا الأمر.

أما الملاحظة الثانية فهو المعيار الذي عليه يُحدَّد هل كون شخص ما مثاليًّا أم لا؟ أذكر منذ ثلاثة أعوام تقريبًا أعلنت الجامعة عن مسابقة الطالب المثالي، ولم تكن كسابقتها في المراحل المدرسية والتي كانت تعتمد على اختيار المدرسين للطالب المتفوق أخلاقيا ودراسيا _ وهذا نوعا مقبول_ بل كان على الطالب الذي يرى في نفسه أنه مثاليًا أن يتقدم!

حسنٌ، ما هي الشروط؟ يكفي أن تُقدم نفسك بالإنجليزية ويكون عندك بعض المعلومات العامة وبعض المهارات التي ستقدمها في السيرة الذاتية المُقدَمة في المسابقة!

بالطبع لم أتقدم رغم اقتراح عدد من صديقاتي ودخول بعضهن، لأنني رأيت ذلك دربًا من العبث، أعيش في دولة عربية مسلمة ثم أضطر لتقديم نفسي بالإنجليزية حتى أكون مؤهلة لأنال لقب “الطالبة المثالية”! لماذا لا تكون بالعربية الفصحى؟ والتي أُراهِن أن يجدوا وفرة ممن ينطلق لسانهم فيها بسليقة العرب، هل بعض المهارات أو الدورات تجعل مني مثالية! هل بعض المعلومات العامة المتناثرة من هنا وهناك كفيلة لإلباس الشخص ثوب المثالية! على أي معيار تقيسونها؟ ثم كما ذكرت آنفًا أرى من بداءة الأمر معه صك بطلانه، كيف تطلب فيمن يرى نفسه مثاليًا أن ينتظر شهادة غيره بهذا؟ وهل تعرفونني حتى تحكمون عليّ؟ ويُستبعد من هو خيرٌ من غيره لأنه ربما كانت لكنته الإنجليزية سيئة!، طبعًا فإن بعض من تقدم بالفعل كان فيه من المؤهلات ما تجعلهم يستحق أن يُحتذى بهم ويكونوا مثاليين، فكلامي لا يعني أن كل من تقدم كانوا غير مؤهلين، إلا أني أتحدث عن عموم المبدأ نفسه.

والبعض الآخر يفرط في أمر المثالية مع الناس! بمعنى أنه لو رأى شخصًا ديّنًا ذا خلق، فينزله منزلة العصمة، فإذا أخطأ أو زلّ  -كأي بشريٍّ على ظهر الأرض- فإن الدنيا ستقوم ولن تقعد، وسيسقطه من السماء السابعة إلى مكانٍ سحيقٍ على الأرض!

لا أدري لماذا سمح لنفسه أن يُخرِج مَن أمامه من نطاق البشرية مرتين! الأولى عندما رآه معصومًا، والثانية عندما خسف به الأرض حين أخطأ.

وكذا من يظن أن حياة من أمامه مثالية خالية من الابتلاءات والمصائب لمجرد أنه لا يشكو! وحتى يقتنع بالعكس ينتظر من أمامه يروي له مصائبه، وربما لا يقتنع بها ويظن أنه يرد عنه الحسد!

طبيعة الحياة والإنسان .. كيف ولِمَ؟

في الواقع لن أسهب كثيرًا في الحديث عن هذا النوع من البشر لأن أصل المشكلة ليست في مصطلح المثالية عندهم، بل المشكلة تكمن في فهم طبيعة الحياة والإنسان، والإنسان والحياة، وأنه خُلِق في كَبَد، وأنه ضعيفٌ ظلومٌ جهولٌ مجادل، فالحل مع هؤلاء لا يكون بسرد حياتك حتى يقتنعوا أنك غير مثالي، وأن النزعات البشرية تعتريك كما تعتريه وكما تعتري أي إنسان، ولا أن تسرع إليه برواية كل نازلة ليقتنع أن الدنيا دار بلاء أصلا، بل يحتاج لتأصيل هذه المعاني عنده من جهة التزكية والعقيدة معًا، وعندما تستقيم بوصلته ويتشرب هذه المعاني سيتوقف تلقائيا عن تلك الاعتقادات في الناس ودنياهم دون الحديث بحرفٍ عن هذا الموضوع.

أما جانب التفريط، فيبدو لنا جليًّا حينما نرى تعليقًا باردًا من قبل بعضهم حين يسمع الكلام والاستشهاد الكثير حول الأخلاق الحسنة والصفات الحميدة، فيقول لك: هذه مثالية زائدة لا توجد في الواقع ولا يمكن تحصيلها!

لعلّي أتنزّل معه، فأقول: يا أيها الإنسان، حاول أن تكتسبها؛ فيقول: لا يمكن! بل إن الأشخاص الذين يحملون هذه الصفات يتكلّفونها!.. حسنًا، هلّا تكلفتها كما تكلفونها فتألفها كما ألفوها، فيصدمك قائلا: لا!

عندما تحاول إقناع شخص عصبي مثلًا أنه يمكن أن يمرن نفسه على الهدوء والحلم والأناة، يقول لك “لا، كله إلا العصبية، أنا عصبي” يقول أنا عصبي وكأنه يقول: أنا طويل! وهل هي صفة جسمانية لا تنفك عنه.

الحق أن أي صفة شخصية _ مطلقة بلا استثناء_ يمكن للإنسان رياضتها وتهذيبها، قال الله عز وجل {قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دسّاها} [الشمس: 9-10] ولم يقل سبحانه وتعالى مثلًا قد أفلح من تزكت نفسه، بل أسند سبحانه وتعالى أمر التزكية ونقيضه للإنسان، في تأكيد على أن للإنسان يد في إصلاحها، والله يعين ويهدي ويسدد من علم صدقه سبحانه وتعالى.

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) [أخرجه الطبراني في الكبير، وحسّنه الألباني] أي بيديك أن تتحلم كما بيديك أن تتعلم، وكما أنك استطعت أن تتعلم، فحتمًا تستطيع أن تتحلم، فيظن الظانّ أن معاني الحلم والأناة والصبر وكل هذا ضرب من المثالية التي لا يمكن أن يحققها الإنسان، وفي الواقع فإنه “يُلبس العجز جبة الحكمة” كما قال د. إبراهيم السكران فك الله بالعز أسره، فيُنّظِّر حول استحالة ذلك ويسهب في الحديث عن طبائع الناس لأنه لا يريد أن يُحمّل نفسه كلفة التزكية، وهي حقًا تحتاج جهاد ومثابرة، وستصل ثم تقع مرات عدة حتى يندمج فيك هذا الخُلق ويلتأم كأنك ولدت هكذا، وكأن هذه جبلتك.

لنا في رسول الله أسوة

وإن أردت أن ترى مثالًا أمامك تحاول أن تتمثله قولًا وعملًا وخلقًا وسمتًا، فعليك بسيد الخلق والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، الوحيد الذي يمكن أن تتخذه حقًا مثالًا لك، ولو أردت الإصلاح وتشجيع الناس على إصلاح أنفسهم والتسابق في ذلك، فليكن هو وأخلاقه وسنته ولغته المعيار الذي عليه يُقَّوَّم الناس ويوزنون، وإن أردت اقتباس تجلياته على بشرٍ غير معصومين، فعليك بالنجوم، عليك بخير رعيل خُلِق على ظهر المعمورة، صحابته وسادتنا رضوان الله عليهم أجمعين، ثم عليك بأعلام هذه الأمة وعلمائها وعظمائها، عليك بتلك العقول النيرة العظيمة التي حملت مِشعل هذا الدين.

أما لو التفت عن دربهم باحثًا عن مجدك وذاتك بعيدًا عنهم، فلن ينتهي بحثك أبدًا، فمن أصبح ماؤه غورًا، فمن يأتيه بماءٍ معين؟!

المستشرقون والتراث: سؤال عن واجبنا نحو موروثنا الثقافي!

الاستشراق حركة فكرية أسهم فيها آلاف من المفكرين والدارسين والباحثين، تلقى كثيرٌ منهم دعمًا منظمًا من الدول الاستعمارية لأهداف مختلفة، بغرض الإبقاء على الدول التي تم استعمارها أو لغزوا البلدان التي استعصى عليهم فتحها، فكان بين المستشرقين الباحث المحايد والمنصّر والسياسي والجاسوس.

كانت عملية المستشرق الاستعماري تتمحور حول التعرف على عادات وتقاليد أهل البلد وأعرافهم ومقدساتهم من أجل تيسير عملية الغزو على الدول الطامعة في خيرات غيرها، الشيء الذي جعل هذا الصنف من المستشرقين، يهتمون على نحو تخصصي بثقافات غيرهم وعاداتهم وأنسابهم وتوزعهم الديمغرافي، بشكل كبير، لاسيما في المناطق العربية والثقافة الإسلامية، التي كان لديها إرث علمي كبير من قبيل علم الاجتماع والهندسة والأدب وغيرها من العلوم التي اهتم بها المستشرقون وأفنوا أعمارهم فيها، نظرا لأهميتها ولقد كان عظيم الفضل على ما وصلت إليه الحضارة الغربية اليوم من رقي وازدهار.

موروثنا الثقافي .. حرص الاستشراق في الوصول إليه!

لم يكن نتاج الاستشراق كله شرًّا، فقد أمضى كثير من المستشرقين في التنقيب عن جواهر علوم المسلمين، فأفنوا أعمارهم في استخراج موروثنا الثقافي للوجود، بعد أن كان عبارة عن جملة من المخطوطات التي تم نسيان أكثرها، وإهمال معظمها، بل وخراب كثيرٍ من أجزائها.

من هؤلاء من قاده بحثه هذا وخدمته لهذا الإرث العظيم الذي تركه أسيادنا وشيوخنا إلـى طريق الحق، ومنهم من زاده علمه بالحق بعداً عنه، فقد أفنى هؤلاء القوم أعمارهم في خدمة تراث المسلمين بغض النظر عن الباعث من وراء خدمتهم هذه، وبعضنا لا زال يجادل أخاه في حكم المسح على الخفين، هل هو جائز، أم مكروه، أم نتركه ونأتي بغيره، حتى أنه قد يَفسدُ الود الذي بينهما بسبب مسألة فقهية مختلف فيها بين الفقهاء نفسهم.

لقد اشتملت أعمال المستشرقين على الكثير من التفاصيل، والتي نستفيد منها -رغم خلفيات كثير منهم السيئة- في معرفة هذا التراث والنهضة بواقعنا، كالحرص على نشره وتحقيقه وترجمته من العربية والتأليف في مختلف موضوعات العلم، فقد حقق الفرنسي ليفي بروفنسال الروض المعطار للحميري مثلاً، وترجم فرانز روزنتال مثلاً أعمال كثير من المؤرخين المسلمين إلى الإنجليزية مثل مقدمة ابن خلدون، وتاريخ الطبري، وكتاب المختصر في علم التاريخ المحيي الدين الكاشيجي، وعندما أراد المستشرق الهولندي هورجرونيه أن يكتب عن مكة المكرمة سافر إليها منتحلاً صفة المسلم الأجنبي ليتمكن من دخولها عام 1824م وأقام فيها لمدة خمسة أشهر، ليخرج بكتابين أولهما (الحج إلى مكة)، والثاني (مكة وجغرافيتها في القرن التاسع عشر) في جزأين فعرفنا عنهما وصف مكة في تلك الأثناء وصفا دقيقًا.

المستشرق الهولندي هورجرونيه

من النادر أن تجد باحثًا في الدراسات العربية والإسلامية لا يعرف المستشرق الألماني كارل بروكلمان (17 سبتمبر 1868 – 6 مايو 1956)، فهو صاحب كتاب تاريخ الأدب العرب، الكتاب الأشهر في التراث الإسلامي، وأكثر الباحثين لابد أن يعرّج عليه في بحثه، وهو تلميذ نولدكه (1836 – 1930) المستشرق الألماني صاحب كتاب تاريخ القرآن، وقد نشر المستشرق الألمانــي “فرديناند فستنفلد”، وفيات الأعيان، ومعجــم البلدان، وسيرة ابن هشام، بعد أن كانـت مخطوطات لا يعلم عنها معظمة المسلمين شيئًا سوى الاسم الذي ورد عرضًا في بعض الكتـب!

ألا يحرك هذا فينا ضرورة الاستحياء من تاريخنا وأمتنا وربنا سبحانه وتعالى، ألا يوجـب هذا عليـنا أن نقـف مع أنفسنا وقفة المتأمل متسائلين: ماذا قدمنا نحن للإسلام وهل هكذا نخدم إرث من سبقونا؟!. وبالفعل قـد أفاد المستشرقـون الثقافـة العربيـة الإسلامية وغيرها من الثقافات بالموروث الثقافي الذي خلفه أجدادنا فبماذا أفدنا نحن ثقافتنا وثقافة غيرنا في عصر الذل والهوان هذا، أين هو ذلك الشهود الحضاري الذي يجب أن تتسم به كل حضارة لتستحق لقب الحضارة؟

بحثًا عن الشهود الحضاري!

 جاء في كتاب “الشهود الحضاري للأمة الإسلامية” للمفكر التونسي عبد المجيد النجار، كلام بديع في الأسس والشروط التي وجب أن تتأسس عليها الأمة من أجل أن تستحق وصف الحضارة الإسلامية، وهي ثلاثة شروط رئيسة كبرى:

أولا: تحقيق الخلافة لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]. فالله سبحانه وتعالى لما خلق الخلق بين سبب خلقه للإنسان وهذا ما تبينه الآية الكريمة فالقصد الأول من الخلق الاستخلاف في الأرض، إن الاستخلاف منوط بهذه الأرض التي جعلت مكانا للاستقرار الدنيوي لجميع المخلوقات بما فيهم البشر الذي كرمه الله، وقد جعلت ملائمة لقيام حياة إنسانية فوقها، ومعنى نجاح الإنسان في القيام بمهمة الاستخلاف متوقف على حسن تدبيره لما في الأرض من مكونات[1].

ثانيًا: التوحيد؛ إذ إن الإيمان بالله الواحد الأحد يشكل قيمة مركزية في الشريعة الإسلامية وهذا واضح جلي منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينزل الله رسولا ولا نبي إلا وكانت دعوته قائمة على مبدأ التوحيد باعتباره الغاية الكبرى التي لأجلها خلق الإنسان.

ثالثا: تقديم العطاء والإضافة للأمة الإسلامية، مما يعود بنفعه للمسلمين والإنسانية جمعاء، وإعلان ذلك لا يتحقق بالكلام دون أفعال.

ضرورة التأصيل

ومع أن البعض من بني جلدتنا قد أعادوا تحقيق كتب التراث جزاهم اللـه خيراً علــى هذا العمل، ونسأل الله أن يجعله فــي ميزان حسناتهم، إلا أن التبعية لا زالت تسيطر علينا، ننتظر أن يُقدم غيرنا على أمر لنتبع سير خطواته وهذا لا ينفع الأمة في شـيء ما دام لهم السبق العلمي.

ومن أجل التعرف على خطورة هذا الأمر ومدى تأثيره على الأمة وجب العلم أن الكثير ممن يدعوننا اليوم إلى تجديد الخطاب الديني ونقد التراث، وتقديم رؤية نسقية محايدة تأخذ بعين الاعتبار القضايا المعاصرة للقرن الحالي، وعدم الاقتصار على الرؤية القديمة للفقهاء، كانوا بمجملهم قد تتلمذوا على أيدي مستشرقين غلاة أو على يد تلاميذ لأولئك المستشرقين الذين كان شغلهم الشاغل الكذب وتزوير الحقائق التي يدعو لها الإسلام والمسلمين.

يجب أن يعتني المسلمون بأنفسهم وأبنائهم من خلال ترسيخ التعاليم الإلهية فيهم عن طريق التأصيل، بل يجب أن تكون هذه النقطة قناعة لدى طلاب العلم، فعند انطلاق أي مسلم لطلب العلم والمعرفة، عليه أن يمتلك المنهج العلمي الصحيح الذي يتيح له الوصولَ إلى النتائج الصحيحة، والنظريات السليمة، ذات المعايير المجردة والخالصة من الشوائب.

إن أهمية التأصيل تظهر إذا علمت أن من القناعات المشتركة بين العلماء أن التأصيلَ العلميَّ هو العنصرُ الجوهري لنهضة الأمة، وأنه نقطة الانطلاق الأساسية التي يبدأ منها كلُّ تصور للخروج من الأزمة، ومن هنا استقطب موضوعُ التأصيل العلمي الكثيرَ من العلماء؛ لأنه يمنحهم القدرةَ على البقاء والثبات في وجه التحديات المعاصرة. وهكذا يجب أن يكون التأصيل هدفًا لكل متعلم فيسعى إلى تحقيقه، ويصبو إلى تنفيذه.


[1] ميثاق الرابطة العدد 238 بتاريخ 2016/10/27 مفهوم الاستخلاف في القرآن الكريم

إشكالية الثغر وأولويات الواقع في التربية

إن من أنفس النصائح التي نقدمها للشباب أن نحثهم على الإقبال على العلم في سن الطفولة والفتوّة والشباب، فإنها فرصة حري بالعاقل اغتنامها، فقد يعجز في المستقبل عما يستطيعه في تلك الأوقات، وللعلماء في ذلك أقوال كثيرة، توحي بأهمية الطلب في الصغر، وتميزه عن الطلب في الكبر. فقد قال الحسن البصري رحمه الله: “طلب العلم في الصغر كالنقش في الحجر”، وقال الشاعر قديمًا:

وينشأ ناشئ الفتيان منا … على ما كان عوَّده أبوه

وما دان الفتى بِحِجىً ولكن … يعلّمه التدين أقربوه

يقصد بذلك أن الفتى يكبر وينشأ على ما يعلمه أبوه، ويتخلّق بأخلاق الأقربين منه، وليس بالضرورة أن يقوده عقله للطريق الصحيح دائمًا.

أهمّيّة التعلّم في الطفولة

غالبًا ما تتشكّل شخصية الإنسان وفقًا للنمط التربوي الذي يحتضنه في طفولته، وينشأ متبنِّيًا لكثير من المبادئ والأخلاق التي تربّى عليها، وأيضًا لا يحتّم ذلك تَلبُّسه بهذه المبادئ والأخلاق طيلةَ حياته، وإنما يعلق به كثير منها بحيث يصعب التخلص منها.

في فترة الطفولة يزرع الأبوان بداخل طفلهم المعاني العميقة والمبادئ الأساسية التي سيبني عليها بعد ذلك فروع توجهاته واهتماماته، وينبثق عنها تصوراته الأولية عن الحياة والواقع، حتى يتمكّن هو من إعمال آلية عقله باستقلال، فيتبنى هذه التصورات ذاتها، أو يتحول عنها إلى غيرها.

المشكلة هنا – وفي زماننا هذا تحديدًا – أن فرصة الناشئ في إعمال عقله وتحليله للتصورات وللواقع من حوله تكاد تكون معدومة، بسبب الواقع الضاغط، وطغيان المادية وسيل التكنولوجيا الهادر، الذي يندر أن يبقي فُتات الوقت للكبار، ناهيك عن الصغار. وحتى لو تسنّت له الفرصة في تفعيل آلية خاصة يرى من منظورها ويتبنى على أساسها تصورات مستقلة، فإنه سيُطِلُّ على واقعٍ مُشوَّه، اختلطت فيه المعاني وتماهت فيه الواضحات، وكثر غموضه وفساده لدرجة أن تشوه فيه بعض ثوابت الفطرة، وتغيب فيه سطلة الدين.

إشكاليّة الثغر

في واقع متلاطم كهذا، تدفع النية الحسنة بعض الآباء إلى توجيه أبنائهم من الصغر إلى التزام نموذج معين، ينشأ فيه الطفل ويتهيأ على كونه يعد إعدادًا خاصا ليقوم بمهمة ما، ويسد ثغرًا من ثغور الأمة. حيث يوجه أن يكون طبيبا مسلما أو عالما مسلما أو مخترعا مسلما أو غير ذلك، ليكون صاحب بصمة خاصة، ويؤثر في الأمة تأثيرا نافعا وقويا.

لست بصدد مناقشة هذه الفكرة الآن، لأن الإشكال الحقيقي في نظري هو الانشغال بإعداد النموذج، دون التأسيس الصحيح في الطفولة وغرس أساسيات الدين.

في كثير من الحالات يُولَى الاعتناء بتهيئة النموذج المعد للوقوف على ثغر ما الاهتمام الأكبر، وتُبذَل فيه الجهود، ويقابِل ذلك تراخيًا في التأسيس الصحيح على الأصول المهمة. إما لسوء تقدير الأولويات من الأبوين، أو سوء التوجيه وضبط العمل على كل من الجانبين كل في زمنه وإطاره الصحيح.

 يؤدي سوء التقدير إلى صرف الجهد المبذول والاعتناء إلى تهيئة النموذج والاستغراق فيه إلى الحد الذي يتضاءل معه الجانب الآخر، وتتراجع قيمته بجانب الصورة الكبيرة التي ترسم لإعداد النموذج، وما سيكون عليه في المستقبل من ترك الأثر وسد الثغر، فينصرف أكثر وقت الطفل وجهده واهتمامه إلى الدرس أو المذاكرة أو التمرن أو تعلم مهارات أو أيا ما كانت الخطوات المطلوبة لتحقيق النجاح والوصول إلى الغاية المنشودة.

 هذا الاستغراق قد يُترجِمُه الطفل إلى منهج حياة، ويلتئم تصوره على كون هذا الإطار الذي يعيشه هو السبيل الوحيد الموصل إلى وجهته، فعلى قدر الغاية يكون البذل والاهتمام. وإذا انقضت سنين الطفولة على هذه الحال حتى يشب ويكبر، ثم يصطدم بمجريات الواقع المتداخل المليء بالشبهات والشهوات، دون إعداد مسبق أو على الأقل توجيه رشيد بالتمسك بالأصول والرجوع إليها، فإنه ينغمس في الواقع يتجاذبه هنا وهناك. ولربما تنال منه شبهة أو شهوة، أو على الأقل يقع في المحظورات. فنجد النماذج قد أنتجت اقتصاديا مسلما كل معاملاته وأكثر رزقه من الربا، وطبيبا مسلما حاذقا في مجاله العملي، وهو في نفس الوقت لا يلتزم أخلاقيات مهنته، ولا يتورع فيها عن الحرام. وتجد الأكاديمي المسلم الذي لا يعرف أي شيء من دينه أو دنياه، وعقله مستهلك حصرا في مجاله الأكاديمي وفقط، ثم هو يستخدم وجاهته أو سلطته في الشر أكثر منها في الخير، وتجد المخترع المسلم الذي يفني عمره في تنمية وإثراء مجتمعات وأمم غير أمته، التي قد أعد أساسا لخدمتها وسد ثغر من ثغورها، وتجد كل نموذج في مجاله قد اكتملت صورته المنشودة ظاهريا، على هيكل أجوف لا يعرف كيف يوظف هذا النموذج في خدمة مجتمعه، أو على الأقل لا يتجنب محظورات يقع فيها غيره. بل قد يصل الحال بالبعض إلى خدمة أيديولوجيات هي في الأصل على النقيض من دينه وقيمه، إما جهلا منه أو تهاونا.

أولويات الواقع وإعداد النموذج

لا يمكن أن يكون كل الناس علماء في الشريعة أو فقهاء في الدين، وليس هذا مطلوبا أصلا. كما لا يمكن أن يكون كل الناس أطباء أو مهندسين أو محامين أو لاعبين. ولكن في حالة أردنا إعداد نموذج من هذه النماذج ليكون نموذجا صالحا يقوم بما عليه تجاه مجتمعه وأمته. فالنية الحسنة وحدها لا تكفي هنا، بل يلزمها علم وجهد في التعليم والتوجيه.

فيلزم على الآباء أولا أن يتعلموا ضرورات دينهم، وما يجب عليهم أن يتعلموه كمسلمين بالغين، بغض النظر عن تخصصاتهم. ثم يتعلموا بعد ذلك ما يجب عليهم تعلمه فيما يتعلق بتخصصاتهم العملية أو العلمية من الفقه والأحكام وغيرها، ويلزم تعلُّمهم هذا ليعلموا أبناءهم، ففاقد الشيء لا يعطيه.

ثم بعد ذلك يكون تعليم الأبناء من الصغر ضرورات دينهم، بما يطيقه كل منهم حسب عمره وطاقته وقدرة استيعابه. وإن لم يستطع الآباء ذلك لسبب أو لآخر، فليلتمسوا لأبنائهم مربيا أو معلما، يعلمهم ما يكفيهم من الضرورات وينبه على المحظورات. فيأخذ الأبناء مع نموهم بطرف من أطراف علوم الشريعة، والقرآن والعقيدة على رأسها، جنبا إلى جنب مع المذاكرة أو دراسة التخصص أو غيرها، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر ولا تتداخل الأطر، مع معرفة أهمية كل منهما وإنزاله منزلته. فترسم للأبناء المرجعية الأولى وهي الدين، وينمّى عندهم الارتباط القوي بدينهم وأحكامه، وتبنى عليه الانطلاقات والتوجهات.

ثم بعد التخصُّص يجب على كل واحد منهم أن يتعلم ما يلزمه من أحكام في تخصصه، فيعرف حرامه وحلاله من المشهور، ثم يكفيه أن يعرف أن له مرجعية وأصلا ثابتا منه ينطلق، وهو الدين وأحكامه، فيسأل أهل العلم فيما يشكل عليه، ويتعلم منهم ما يجهل. وعليه ألّا يقنع بحاله هكذا بل ينمي من معرفته في علوم الشريعة، فالفتن لا تنفك تطرق الأبواب، والشبهات ملء السمع والبصر.

 فلو تم للأبناء العلم بضرورات دينهم منذ الصغر، ووُجِّهوا أولا إلى تعلُّم علوم الشريعة ولو أقل القليل منها، ثم بعد ذلك يوجهون إلى المجالات والتخصصات المختلفة لاكتمل لهم النموذج، بفاضله ومفضوله، فيجمع بين الأساسيات التي يحتاجها كل مسلم، بالإضافة إلى ما يعنيه هو في مجاله. وحبذا لو تميز في تخصصه وتفوق، وهو المرجو من شخص قد أعد إعدادا صحيحا وبني بنيانا سليما، فيستطيع بذلك أن يترك أثرا فاعلا ويسد الثغر الذي أُعِدَّ لأجله.