المستشرقون والتراث: سؤال عن واجبنا نحو موروثنا الثقافي!

image_print

الاستشراق حركة فكرية أسهم فيها آلاف من المفكرين والدارسين والباحثين، تلقى كثيرٌ منهم دعمًا منظمًا من الدول الاستعمارية لأهداف مختلفة، بغرض الإبقاء على الدول التي تم استعمارها أو لغزوا البلدان التي استعصى عليهم فتحها، فكان بين المستشرقين الباحث المحايد والمنصّر والسياسي والجاسوس.

كانت عملية المستشرق الاستعماري تتمحور حول التعرف على عادات وتقاليد أهل البلد وأعرافهم ومقدساتهم من أجل تيسير عملية الغزو على الدول الطامعة في خيرات غيرها، الشيء الذي جعل هذا الصنف من المستشرقين، يهتمون على نحو تخصصي بثقافات غيرهم وعاداتهم وأنسابهم وتوزعهم الديمغرافي، بشكل كبير، لاسيما في المناطق العربية والثقافة الإسلامية، التي كان لديها إرث علمي كبير من قبيل علم الاجتماع والهندسة والأدب وغيرها من العلوم التي اهتم بها المستشرقون وأفنوا أعمارهم فيها، نظرا لأهميتها ولقد كان عظيم الفضل على ما وصلت إليه الحضارة الغربية اليوم من رقي وازدهار.

موروثنا الثقافي .. حرص الاستشراق في الوصول إليه!

لم يكن نتاج الاستشراق كله شرًّا، فقد أمضى كثير من المستشرقين في التنقيب عن جواهر علوم المسلمين، فأفنوا أعمارهم في استخراج موروثنا الثقافي للوجود، بعد أن كان عبارة عن جملة من المخطوطات التي تم نسيان أكثرها، وإهمال معظمها، بل وخراب كثيرٍ من أجزائها.

من هؤلاء من قاده بحثه هذا وخدمته لهذا الإرث العظيم الذي تركه أسيادنا وشيوخنا إلـى طريق الحق، ومنهم من زاده علمه بالحق بعداً عنه، فقد أفنى هؤلاء القوم أعمارهم في خدمة تراث المسلمين بغض النظر عن الباعث من وراء خدمتهم هذه، وبعضنا لا زال يجادل أخاه في حكم المسح على الخفين، هل هو جائز، أم مكروه، أم نتركه ونأتي بغيره، حتى أنه قد يَفسدُ الود الذي بينهما بسبب مسألة فقهية مختلف فيها بين الفقهاء نفسهم.

لقد اشتملت أعمال المستشرقين على الكثير من التفاصيل، والتي نستفيد منها -رغم خلفيات كثير منهم السيئة- في معرفة هذا التراث والنهضة بواقعنا، كالحرص على نشره وتحقيقه وترجمته من العربية والتأليف في مختلف موضوعات العلم، فقد حقق الفرنسي ليفي بروفنسال الروض المعطار للحميري مثلاً، وترجم فرانز روزنتال مثلاً أعمال كثير من المؤرخين المسلمين إلى الإنجليزية مثل مقدمة ابن خلدون، وتاريخ الطبري، وكتاب المختصر في علم التاريخ المحيي الدين الكاشيجي، وعندما أراد المستشرق الهولندي هورجرونيه أن يكتب عن مكة المكرمة سافر إليها منتحلاً صفة المسلم الأجنبي ليتمكن من دخولها عام 1824م وأقام فيها لمدة خمسة أشهر، ليخرج بكتابين أولهما (الحج إلى مكة)، والثاني (مكة وجغرافيتها في القرن التاسع عشر) في جزأين فعرفنا عنهما وصف مكة في تلك الأثناء وصفا دقيقًا.

المستشرق الهولندي هورجرونيه

من النادر أن تجد باحثًا في الدراسات العربية والإسلامية لا يعرف المستشرق الألماني كارل بروكلمان (17 سبتمبر 1868 – 6 مايو 1956)، فهو صاحب كتاب تاريخ الأدب العرب، الكتاب الأشهر في التراث الإسلامي، وأكثر الباحثين لابد أن يعرّج عليه في بحثه، وهو تلميذ نولدكه (1836 – 1930) المستشرق الألماني صاحب كتاب تاريخ القرآن، وقد نشر المستشرق الألمانــي “فرديناند فستنفلد”، وفيات الأعيان، ومعجــم البلدان، وسيرة ابن هشام، بعد أن كانـت مخطوطات لا يعلم عنها معظمة المسلمين شيئًا سوى الاسم الذي ورد عرضًا في بعض الكتـب!

ألا يحرك هذا فينا ضرورة الاستحياء من تاريخنا وأمتنا وربنا سبحانه وتعالى، ألا يوجـب هذا عليـنا أن نقـف مع أنفسنا وقفة المتأمل متسائلين: ماذا قدمنا نحن للإسلام وهل هكذا نخدم إرث من سبقونا؟!. وبالفعل قـد أفاد المستشرقـون الثقافـة العربيـة الإسلامية وغيرها من الثقافات بالموروث الثقافي الذي خلفه أجدادنا فبماذا أفدنا نحن ثقافتنا وثقافة غيرنا في عصر الذل والهوان هذا، أين هو ذلك الشهود الحضاري الذي يجب أن تتسم به كل حضارة لتستحق لقب الحضارة؟

بحثًا عن الشهود الحضاري!

 جاء في كتاب “الشهود الحضاري للأمة الإسلامية” للمفكر التونسي عبد المجيد النجار، كلام بديع في الأسس والشروط التي وجب أن تتأسس عليها الأمة من أجل أن تستحق وصف الحضارة الإسلامية، وهي ثلاثة شروط رئيسة كبرى:

أولا: تحقيق الخلافة لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]. فالله سبحانه وتعالى لما خلق الخلق بين سبب خلقه للإنسان وهذا ما تبينه الآية الكريمة فالقصد الأول من الخلق الاستخلاف في الأرض، إن الاستخلاف منوط بهذه الأرض التي جعلت مكانا للاستقرار الدنيوي لجميع المخلوقات بما فيهم البشر الذي كرمه الله، وقد جعلت ملائمة لقيام حياة إنسانية فوقها، ومعنى نجاح الإنسان في القيام بمهمة الاستخلاف متوقف على حسن تدبيره لما في الأرض من مكونات[1].

ثانيًا: التوحيد؛ إذ إن الإيمان بالله الواحد الأحد يشكل قيمة مركزية في الشريعة الإسلامية وهذا واضح جلي منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينزل الله رسولا ولا نبي إلا وكانت دعوته قائمة على مبدأ التوحيد باعتباره الغاية الكبرى التي لأجلها خلق الإنسان.

ثالثا: تقديم العطاء والإضافة للأمة الإسلامية، مما يعود بنفعه للمسلمين والإنسانية جمعاء، وإعلان ذلك لا يتحقق بالكلام دون أفعال.

ضرورة التأصيل

ومع أن البعض من بني جلدتنا قد أعادوا تحقيق كتب التراث جزاهم اللـه خيراً علــى هذا العمل، ونسأل الله أن يجعله فــي ميزان حسناتهم، إلا أن التبعية لا زالت تسيطر علينا، ننتظر أن يُقدم غيرنا على أمر لنتبع سير خطواته وهذا لا ينفع الأمة في شـيء ما دام لهم السبق العلمي.

ومن أجل التعرف على خطورة هذا الأمر ومدى تأثيره على الأمة وجب العلم أن الكثير ممن يدعوننا اليوم إلى تجديد الخطاب الديني ونقد التراث، وتقديم رؤية نسقية محايدة تأخذ بعين الاعتبار القضايا المعاصرة للقرن الحالي، وعدم الاقتصار على الرؤية القديمة للفقهاء، كانوا بمجملهم قد تتلمذوا على أيدي مستشرقين غلاة أو على يد تلاميذ لأولئك المستشرقين الذين كان شغلهم الشاغل الكذب وتزوير الحقائق التي يدعو لها الإسلام والمسلمين.

يجب أن يعتني المسلمون بأنفسهم وأبنائهم من خلال ترسيخ التعاليم الإلهية فيهم عن طريق التأصيل، بل يجب أن تكون هذه النقطة قناعة لدى طلاب العلم، فعند انطلاق أي مسلم لطلب العلم والمعرفة، عليه أن يمتلك المنهج العلمي الصحيح الذي يتيح له الوصولَ إلى النتائج الصحيحة، والنظريات السليمة، ذات المعايير المجردة والخالصة من الشوائب.

إن أهمية التأصيل تظهر إذا علمت أن من القناعات المشتركة بين العلماء أن التأصيلَ العلميَّ هو العنصرُ الجوهري لنهضة الأمة، وأنه نقطة الانطلاق الأساسية التي يبدأ منها كلُّ تصور للخروج من الأزمة، ومن هنا استقطب موضوعُ التأصيل العلمي الكثيرَ من العلماء؛ لأنه يمنحهم القدرةَ على البقاء والثبات في وجه التحديات المعاصرة. وهكذا يجب أن يكون التأصيل هدفًا لكل متعلم فيسعى إلى تحقيقه، ويصبو إلى تنفيذه.


[1] ميثاق الرابطة العدد 238 بتاريخ 2016/10/27 مفهوم الاستخلاف في القرآن الكريم

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد