image_print

فاعلية الأفكار في الحضارات

لمصطلح “الحضارة” بريق لا تخفي العقول انبهارها به، فغالبية “العلوم الإنسانية” تسعى لامتلاك حقيقة هذا المفهوم ويمضي علماؤها دهورًا في البحث عن الفاعلية التي تنشئ الحضارات.

بدو من الجزيرة العربية

وهذا ما نجده عند ابن خلدون في المقدمة التي خصصها لبحث “العمران وبداياته وأسباب انهياره”، والفيلسوف الألماني أوزوالد شبنغلر (ت 1936م) في كتابه “انحلال الغرب” الذي بحث مفهوم الحضارة والمدنية وتعمق في دراسة مظاهر المدنية الغربية ومآلاتها، والمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (ت 1975م) في “الحضارة في الميزان” و”الحضارة على المحك”، والمفكر الأمريكي صمويل هنتجتون (ت 2008م) في كتابه “صدام الحضارات”، والمفكر الفرنسي روجيه غارودي (ت 2012م) في كتابه “حوار الحضارات”، وعشرات الأمثلة الأخرى التي شغلت مساحة واسعة من علم الاجتماع والآداب والأنثروبولوجيا (علم الإنسان) وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا.

وقد تكون الحالة الحضرية المقابل لحالة الترحال لدى قبائل البدو وتتطور لتصبح الإنتاج الفكري والأنظمة الأخلاقية والاقتصادية والآثار العمرانية التي تنتمي إلى حقبة أو جماعة أو دولة ما[1] فتشمل بذلك الدين واللغة والعلم وكل ما يمت لهذه المفردات بصلة.

لن يخوض المقال في متاهات تحديد المصطلح وأثره في الدراسات النظرية المتعلقة بحقوله العلمية، ولعل التطور التاريخي الذي ارتبط بالمفهوم مع الخلفيات الفكرية المتنوعة لدارسيه (كاللغة أو التأريخ أو الجغرافيا) جعلت ضبطه بتعريف مقتضب أمرًا أقرب إلى العسر من اليسر، إضافة إلى وجوب التنويه إلى أن هذه التعريفات إما أنها ولدت داخل الإطار الغربي أو أنها وضعت للوعي الديني التوحيدي[2].

مالك بن نبي

الفكرة والحضارة
يسعى المقال لاختصار أهم ما بُحِث عن أثر الأفكار في نشوء الحضارات وتطوُّرها، ولا يخفى أن الخوض في ذلك يستدعي البحث في مسألة السبق، فهل الحضارة أسبق أم الأفكار؟

إن القطع بأي من القولين يعني الوقوع في معضلة السبب والمسبِّب كما في مثال الدجاجة والبيضة، ولذا فإن المسألة معقدة جداً، ولعل مما يسهم في فهمها البحث المدقِّق في التطور الفكري وأثره في الحضارة وأثر تطور الأدوات في حياة الناس وبالتالي أثر تغير حياة الناس في الفكر ومن ثم عودة الدورة لتحقق نفسها مرة أخرى بسبل أخرى، وبذلك تتغير أحوال الحضارات باستمرار.

وعلى أيٍّ؛ فإن كل حضارة محكومة بقانون كلي ينبغي البحث عنه وتحليل عناصره وفهمها، وهو ما سعى لرصده وتحليله المفكر الجزائري مالك بن نبي (ت1973م) “حيث يؤكد مالك رحمه الله أن التصدي لبناء أي حضارة ينبغي في التوجه إلى البحث في سنن الأمر وشروطه، سواء في قيامها أو انهيارها”[3] .

انطلق ابن نبي في دراسته لنشوء الحضارة من عدة جوانب كجانب بنية الحضارة وعناصر تركيبها، أو جانبها الوظيفي الذي يتعمق في فهم الغاية التي تؤديها الحضارة –بنُظُمها- في المجتمعات التي تنتشر أفكارها فيها، ليتوصل في النهاية إلى تحليل طرق نشوء الحضارة وتطورها وغايتها الرسالية التي تحققها[4].

ويجمل ابن نبي مفهوم “الحضارة” من حيث النشوء والدوام والانحطاط في المعادلة الآتية: “الحضارة = إنسان + تراب + زمن” وتحت هذا الشكل تشير الصيغة إلى أن مكونات الحضارة تعود إلى ثلاثة عناصر أولية: الإنسان، التراب، الوقت[5]، وهو ما يصطلح عليه أحياناً بثلاثية الأشياء والأشخاص والأفكار.

ولكي تقوم الحضارة فإن الواجب يتمثل في حل مشكلات هذه العناصر الثلاثة من أساسها من خلال التفاعل بين الإنسان صاحب الجهد المنجز، وعنصر التراب (أي مصدر الإنجاز) المادي، وعنصر الزمن الذي هو الشرط الأساسي لأي عملية يقوم بها الإنسان[6]. يوضح ابن نبي أن القانون الكلي للحضارة مقتصر على مدى العلاقة بين الأشياء (أي كل ما ينتجه هذا المجتمع من آثار مادية وزراعة وصناعة وغير ذلك) والأشخاص (العلاقات والنظم وقواعد التواصل التي تنظم حياة الأشخاص الذين يكونون المجتمع) والأفكار (المعتقدات والمبادئ والتصورات التي تحتويها عقول المجتمع في لحظة ما) مع بعضها بعضًا وتأثيرها في بعضها أيضًا، حيث تتعايش هذه العوالم جنبًا إلى جنب، وحين يتفوق أحدها على الآخر فإن صبغة المحور الغالب تطبع المجتمع بصبغتها وهو ما سيرد باختصار في مراحل الحضارة.

فالتأثير الحضاري -إذن- مرتبطٌ بتوجيه الأفكار للمجتمع، ولذا لا بد من فكرة تطبع الحضارة فتميزها في التاريخ، وليظهر ابن نبي تأثير الفكرة في الحضارة فإنه يفصل الحديث في الفكرة المركبة -ويمثل لها بالفكرة الدينية- التي تعدُّ أساس القيم الاجتماعية، والمُعبِّر عن روح المبادئ التي تسري في أفراد المجتمع، وتحتاج العناصر الثلاثة للشرارة الفكرية المركبة التي تسير بمركبها قدماً فتحقق علاقات التبادل والتكامل بين العناصر وتطور الحضارة، هذه العلائق هي ما يسميه ابن نبي بـ”شبكة العلاقات الاجتماعية” التي تتحقق بوجود الجهد الإنساني في صورة إنجاز حضاري في التاريخ، والحضارة من هذه النظرة الفاحصة تقوم على عناصر الإنسان والتراب والزمن، في وجود شبكة من العلاقة الاجتماعية التي تشكل الميلاد الحقيقي للمجتمع في التاريخ وبداية إنجازه التاريخي على ضوء الفكرة الدينية[7].

أرسطو

تأثير الفكرة في الحضارة
أي حضارة ما ناتجة عن فكرة جوهرية تطبع المجتمع في مرحلة ما قبل التحضر وتدفعه لدخول ميدان التاريخ بحضارة واثقة، فقد أخرجت الفكرة المسيحية أوروبا إلى مسرح التاريخ، وبنت عالمها الفكري انطلاقا منها، وقد تغيرت فكرتها مع استعادة عصر النهضة أدبيات الإغريق وفلسفات أفلاطون وأرسطو[8] لتصبح حضارة المادة لا الروح، بينما كان الباعث الفكري للحضارة الإسلامية هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وما زالت جماهير المسلمين تحن إلى روح هذه الحضارة، وبذلك يتجلى نموذجان فكريان يسيطران على مسير الحضارة:

1- السيطرة التقنية وتتمثل في الفكر الغربي الذي يجنح إلى الدوران حول الوزن والكم ويصل إلى المادية عند الانحراف والمغالاة.

2- الحضارة الأخلاقية المؤمنة بالغيب، وتتمثل بالحضارة الإسلامية في ذروة حضورها،حيث يدور الفكر الإسلامي في مداره الأول حول مبدأي حب الخير أو كره الشر، إلا أنه في عصور أفول فاعلية حضارته فإن المغالاة تدفع المسلمين إلى التقليد الأعمى والانبهار الكبير بأشياء الغرب[9].

ودور الأفكار لا يمثل الزينة أو الزخرفة التي تزين الواجهة الحضارية بل يمثل الباعث للحضارة وقائدها نحو التقدم، فتكون الأفكار هنا الباعث الوظيفي للقيام بمهمة الحضارة[10]، والفكرة الباعثة للحضارة تمر مع الحضارة بمراحل ثلاثة: مرحلة الروح التي تعد تمثيلاً أولياً “لإشعاع الفكرة الدينية التي تتمكن من النفوس فتبنيها بناء مرصوصا” ويندفع معتنقوها للدعوة إليها ونشرها، ثم مرحلة العقل حيث تنزل الروح  إلى عالم العقل فتساعده على الفهم وتحفزه على الأخذ بالعلم لخدمة الفكرة، فيدير الشؤون المدنية والاجتماعية ويوافق ما بين الحاجات المادية ومتطلبات الروح للمجتمع ضمن إطار الأفكار التي أنشأت الحضارة، ثم مرحلة الغريزة، حيث تبدأ العلاقات الاجتماعية المتشكلة عن الحالة الأولى بالتحلل فربما تنسل إلى همهمات التصوف أو تنحدر إلى عالم العجائب الذي هبت منه روح ألف ليلة وليلة، أو التقليد الأعمى لمنتجات الغرب بدعوى التحضر، وبالتالي تتكدس الأشياء والأدوات الاستهلاكية والمنافع الخاصة على حساب الأفكار، وبالتالي فإن العقل يجيِّر المادة لخدمة الغريزة، بينما كانت الروح والعقل يجيرانها لخدمة الأفكار [11].

وبكل تأكيد فإن طغيان عالم الأشياء سيوقف فاعلية الحضارة وستنتقل قيم المجتمع من مرحلة التميز الفكري إلى الاستهلاك وتكديس المنتجات المادية وتقليد الآخر، وحين يطغى الأشخاص فإن المثل الأعلى سيتجسد في شخص ما على هيئة (وثن) حيٍّ حيث يشير علماء الاجتماع إلى أن التعامل مع (الوثن) أسهل من التعامل مع الفكرة، إذ يسهل استغلال النفوذ مع الأشخاص مقابل استحالته مع الفكرة.

المجتمعات الإسلامية الراهنة
بحسب تصنيف مالك بن نبي فإن المرحلة التي تمر بها عموم المجتمعات الإسلامية تشهد تداخلًا بين طغيان الأشياء والأشخاص على الأفكار، ولذا فإن لب مشكلة “المجتمع الإسلامي” ليست في الوسائل التقنية أو الصناعية وإنما في المناهج والأفكار التي تتعامل مع المشكلات الحضارية، كما أن مجتمع ما قبل التحضر وما بعد التحضر لا يفتقر للوسائل (الأشياء) وإنما يفتقر للأفكار، حيث يعجز أولاً عن تطوير ما لديه من الأفكار ويعجز ثانياً عن إيجاد بدائل لها.

إن عالمًا مسلماً بعد ابن خلدون لم يدرس المجتمعات الإسلامية والأمراض التي تصيب حضاراتها من منطلق استطلاعي رصين مثل المفكر الجزائري مالك بن نبي، وكما أن ابن خلدون لم يغدُ ظاهرة في البلاد الإسلامية فقد نال “بن نبي” المصير ذاته، فعلى الرغم من شهرة الرجلين وتداول كتبهما إلا أن المؤسسات الرسمية لا تولي لأطروحتيهما في دراسة المجتمعات الإسلامية كبير اهتمام.

وإن كان الحال في فهم الأفكار ودورها في بناء الحضارات هو الأساس للنهضة، فإني أختم المقال بهذا الاقتباس عن ابن نبي: “لا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته ما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها، وما الحضارات المعاصرة والحضارات الضاربة في ظلام الماضي والحضارات المستقبلة إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر القرون إلى نهاية الزمن، فهي حلقات لسلسلة واحدة تؤلف الملحمة البشرية منذ أن هبط آدم على الأرض إلى آخر وريث له فيها”[12].


الهوامش

[1]  المعجم الفلسفي، د. مراد وهبة، دار قباء، القاهرة، 2007، مادة “حضارة”. ص280.

[2]  في مفهوم الحضارة، د. بدران بن الحسن، مجلة نوافذ: اتجاهات فكرية، 25 /12/ 2003.

[3]  الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري، د. بدران بن الحسن، سلسلة كتاب الأمة، العدد 73، ط1، 2000، ص69، 70.

[4]  في مفهوم الحضارة، د. بدران بن الحسن.

[5]  المرجع السابق.

[6]  شروط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، 1986، ص41، والظاهرة الغربية في الوعي الحضاري، ص70، 71.

[7] حديث في البناء الجديد، مالك بن نبي، منشورات المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، د.ت.ط، ص100-101.

[8] مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ترجمة: بسام بركة، أحمد شعبو، دار الفكر، دمشق، 2002، ص41.

[9]  المرجع السابق، ص24.

[10]  المرجع السابق، ص42.

[11]  هذا ملخص عن المرجع السابق ص43-48.

[12]  شروط النهضة، ص19، 20.

كيف تكسر حلقات الإدمان في ثمان خطوات؟

لو أجرى أي شخص منا جرد حساب لسنواته الماضية وعاد بالزمن عشر سنوات أو ربما أكثر إلى الوراء لوجد حرقة في القلب، فكم من أهدافٍ وُضعت ولم يتحقق منها شيء حتى الآن؟ وكم من مشاريع خُطط لها ولم يُنفّذ منها شيء وأصبحت طي النسيان؟ فالعمر يمضي والزمن يتقدم والوقت يضيق كلما زادت مسؤوليات الإنسان. وفي كل هذا هناك عامل خطير في حياة أي إنسان قد يؤخره كثيراً عن بلوغ أحلامه وأهدافه، وقد يمنعه من صعود سُلّم النجاح فتمضي السنون وهو مراوح في نفس المكان نهاره كليله ويومه كأمسه مقيدٌ بسلاسل شديدة لا يستطيع الانعتاق من أسرها.

الإدمان هو المدمر الأكبر لأحلام الناس والمتهم الرئيسي بقتل آمالهم وطموحاتهم، وعادةً يُقسم المختصون الإدمان إلى نوعين: الأول هو الإدمان المادي الذي تسبب فيه مواد معينة الإدمان لصاحبها ومنها الكوكايين والحشيش والتبغ وغيرها. والثاني هو الإدمان السلوكي، حيث تتحول سلوكيات معينة يقوم بها الفرد إلى إدمان يصاحبه ويضطره إلى إعادة فعلها في كل مرة، مثل إدمان القمار أو مشاهدة الأفلام الإباحية والاستمناء واللعب بألعاب الفيديو، أو إدمان التسوق أو الطعام تدخل في تصنيف الإدمان السلوكي.

التخلص من الإدمان وكسر عاداته يمر بمحطة أولى وهي فهم طبيعة الدماغ وكيف تتشكل عاداتنا وسلوكياتنا التي نكررها ويتحول بعضها بعد فترة إلى نوع من أنواع الإدمان، ومن أفضل الكتب لفهم هذا الأمر كتاب “قوة العادات” لتشارلز دويج والذي يشرح بالتفصيل كيفية تشكُل عاداتنا كبشر من خلال عدد من القصص الواقعية والأبحاث التي نُشرت في السابق. فبحسب الكاتب يمر تشكل أي عادةٍ في أدمغتنا بثلاث مراحل تتكرر في كل مرة:

المرحلة الأولى: يتلقى الدماغ الإشارة أو الحافز الأولي والذي يعتبر الشرارة الأولى لأي فعل وهنا يضعف دماغنا العقلاني ويبدأ الإنسان بالتصرف حينها دون إدراك حقيقي.

المرحلة الثانية: يتجه الإنسان لفعل الأمر الروتيني.

المرحلة الثالثة: يتلقى الدماغ المكافأة عن طريق إفراز الدوبامين.

ومع تكرار هذه الخطوات الثلاث في كل مرة تترسخ العادة في دماغنا حتى تصل في مراحل متقدمة إلى نوع من أنواع الإدمانات سابقة الذكر. فلو أخذنا أي نوع من الإدمانات لوجدناها تتشابه بهذه الخطوات الثلاث، فالمدخن مثلاً يتلقى إشارة من الدماغ عند شربه لفنجان قهوة أو شعوره بالغضب، فيسارع إلى أخذ سيجارته وإشعالها وبعدها يتلقى المكافأة. وكذلك مدمن الأفلام الإباحية فهو يتلقى الإشارة أو الحافز في ساعات الملل أو الفراغ فيبدأ حينها بمشاهدة هذه الأفلام ويتلقى المكافأة بدفقة من الدوبامين من دماغه وهكذا مع كل أنواع الإدمانات الأخرى التي تتشارك في هذه الخطوات الثلاث دائماً.

الأمر السيء بما يتعلق بالإدمان أن عاداتنا السيئة لا تُمحى من الدماغ أبداً، فقد تشكل لها مسارات خاصة فيه لكثرة تكرارها ، ولكن الخبر الجيد أننا نستطيع تشكيل ممرات جديدة في الدماغ نستعملها بدلاً من الممرات القديمة، وحال هذا الأمر يُشبه مرور شخص ما في طريق عشبي معين كل يوم فمع كثرة تردده على هذا الطريق تنطبع آثار خطوات أقدامه ويصبح الطريق واضح المعالم سهل الممشى بالنسبة إليه ، ولكنه لو حدث وأن قرر أن يستعمل طريقاً جديداً فسيبقى الطريق القديم لكن مع مرور الزمن سيعود سيرته الأولى وبهذه الحال فسيصعب على الإنسان العودة إليه وسيختار سلوك الطريق الجديد الذي مهده لنفسه عوضاً عنه.

للتغلب على الإدمان لا بد من اتخاذ خطوات عملية عديدة قد تتغير بتغير الشيء المُدمن عليه، ولكنني هنا أسرد بعضاً من الخطوات العملية المتنوعة والتي تتلاءم مع معظم حالات الإدمان على اختلافها:

1- ترك الشيء لله واحتساب الأجر عليه:
وهذه الخطوة ليست من باب رفع العتب بل هي خطوة أساسية ورئيسية في ترك الإدمان، فكما هو معروف بعد الأيام الأولى من الإقلاع عن الإدمان يعاني المدمن من رغبة شديدة في العودة إلى سلوكياته السابقة أو إلى تعاطي المواد الإدمانية، وقد يعاني من أعراض انسحابية كما هو معروف كالصداع والقلق والتوتر وعدم الرغبة بفعل اي شيء ، وهنا يأتي الدور المهم لهذه الخطوة فمع هذه المرحلة الصعبة يكون حال استشعار احتساب الأجر على الله هو المُصبّر الأول والمعين للنفس على تجاوز هذه المدة حتى الإقلاع النهائي، وأما ترك الادمان لله فهو دافع كبير للإنسان يمنحه الحافز اللازم لمواصلة طريقه في كفاح الإدمان والحديث النبوي معروف والذي رواه أحمد:( إنك لن تدعً شيئاً لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه)

يقول ابن القيم رحمه الله:” إنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله فأما من تركها صادقاً مخلصاً من قلبه لله؛ فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة؛ ليُمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب؟ فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة”[1]

2- القضاء على الوحدة والخروج إلى الحياة:
أكبر صديق للإدمان هو الوحدة والابتعاد عن الحياة الاجتماعية، فالإنسان مخلوق اجتماعي بتكوينه يحب الاختلاط بالناس ويفضّل الصداقات. ولكن الإدمان يجعل الإنسان منكفئاً على نفسه ولهذا فمن أفضل الحلول لمواجهة الإدمان هو الاستعانة بالصحبة الصالحة والجلوس مع الأهل وزيارة الأقارب وتجنب الوحدة –قدر المستطاع-وخاصة في الأيام الأولى للإقلاع عن الإدمان فهذه الأمور تعين الفرد على كسر حلقات إدمانه بشكل كبير.

3- تركّيز الجهود:
إذا كان الإنسان مُدمناً لعدة أشياء في وقت واحد فلا يجب عليه فتح جميع الجبهات في نفس الوقت للقضاء على جميع سلوكياته الإدمانية والأفضل أن يركّز جهوده على شيء واحد ينهي إدمانه فيه، وبعد أن يتأكد من هذا الأمر ينطلق للقضاء على شيء آخر يعاني من إدمانه، ومع قدوم رمضان ولأهمية هذا الشهر بتربية النفس وكبح جماح شهواتها فالأفضل للإنسان أن يختار أصعب شيء تعوّد الإدمان عليه وأن يركّز جهوده للتخلص منه وفترة ثلاثين يوم كافية وحاسمة للقضاء على إدمان أي شيء فإن استطاع الإنسان الصبر فيها كان ما بعدها أسهل إن شاء الله.

4- تكريس النفس لفكرة عظيمة:
لا يجب أن يبقى الإنسان دون هدف في الحياة ودون أن يعرف غاية وجوده فإذا غابت هذه الأشياء عن ذهن الإنسان غرق في عالم المادة وامتلكته الأشياء بدلاً من أن يمتلكها هو؛ حتى يصل إلى حالة الإدمان عليها ومن أفضل الحلول للابتعاد عن الإدمان أو التخلص منه هو أن يكرس الإنسان نفسه لفكرة عظيمة أو هدف نبيل فتعلو حينها همته ويستشعر أهمية وجوده في الحياة.

هذا الفيديو للدكتور وليد فتحي يوضح كثيراً حول هذه الفكرة:

5- التأمل والكتابة:
هاتان خطوتان هامتان جداً فالتأمل يزيد من فرص الشخص المدمن على كبح نفسه بدرجة عالية وليس المقصود هنا ما يسمى باليوغا أو ما يتعلق بها من خرافات ؛ بل التأمل هو الجلوس مع الذات لدقائق معدودة يحاول الإنسان فيها الخلو بنفسه والابتعاد عن ضغوطات الحياة وقد يكون التأمل في مخلوقات الله أو في الطبيعة وجمالها وحسن إتقان الله سبحانه وتعالى لصنعها ،وأما الكتابة فأمرها هام لأنها تعين الإنسان على التعلم من أخطائه لمحاولة عدم تكرارها كما تُفرّغ كثيراً من الضغوطات على النفس وتجعل الإنسان يخرج ما بداخله حتى وإن كان على الورق.

6- التوقف مع النفس:
في كل مرة يأتي فيها الباعث أو الحافز على تكرار السلوك الإدماني، فعلى الإنسان أن يتوقف مع نفسه وأن ينظر إلى نفسه في المرآة مخاطباً إياها بكلمات مناسبة، وهذا يساهم في زيادة درجة الوعي في دماغه ويعزز دماغه العقلاني الذي يستطيع من خلاله كبح شهوة الفعل الإدماني -أياً كان-وقد دلت الكثير من الدراسات والتجارب الحديثة على أهمية هذه الخطوة وهذا الفيديو يوضح بشيء من التفصيل كيفية القيام بهذا الأمر.

7- استبدال الدوبامين الحرام بالدوبامين الحلال:
يرتبط الإدمان دائماً مع الدوبامين وكما بينت في السابق فإن المرحلة الثالثة في حلقة الإدمان أو تشكل العادة هي المكافأة التي يحصل عليها الدماغ، والتي تكون مركباً كيميائياً يدعى الدوبامين وإفراز هذا المركب بعد كل أمر روتيني هو الذي يدفع الفرد لإعادة وتكرار الفعل في كل مرة؛ حتى ولو كان يعلم أن هذا الفعل يدمره نفسياً أو جسدياً بعد مدة ولذلك لا يتعلم المدمن من أخطائه ويكررها. من أهم العوامل لكسر حلقات الإدمان هو استبدال المرحلة الثانية في حلقة الإدمان فمثلاً بالنسبة للمدخن عند الشعور بالغضب أو شرب فنجان قهوة فلا داعي للمسارعة إلى إشعال سيجارة بل استبدال هذا الفعل بالخروج في نزهة قصيرة أو تناول قطعة صغيرة من الحلوى كنوع من المكافأة للدماغ ونفس هذا الأمر ينطبق على الإدمانات الأخرى. وهنا قد يغير الإدمان حياة الإنسان بشكل جذري نحو الأفضل إذا عرف كيف يستبدل العادات السيئة بعادات مفيدة له. يشير دويج في كتاب قوة العادات إلى أهمية هذا الأمر بما يطلق عليه القاعدة الذهبية لتغيير العادات:” إذا استخدمت الدليل نفسه وقدمت المكافأة نفسها يمكنك تغيير الأمر الروتيني، وبالتالي تتغير العادة. ومن الممكن تحويل أي سلوك إذا ظل الدليل والمكافأة على حالهما”[2]

8- عدم جلد الذات ومعرفة حقيقة الوحش الإدماني:
يجب أن يعلم الإنسان أن التخلص من الإدمان ليس بالأمر الهين والسهل؛ وخاصة إذا ترسخت العادة كثيراً في دماغه وإيضاح هذا الأمر ليس تيئيساً للإنسان بل لمعرفة حقيقة ما يمكن أن نسميه بالوحش الإدماني الذي يواجهه ويتحداه، ولكيلا يستسهل الأمر كثيراً فيعاود الفشل مع كل مرة. فإذا حدث وفشل الإنسان أو انتكس بعد فترة من الإقلاع عن إدمان معين فلا داعي لجلد الذات بل المطلوب فقط الشعور بالندم وطلب الاستغفار من الله تعالى ومعاودة المحاولة من جديد بثقة وتفاؤل كبيرين وبعزم على التخلص من الإدمان بإذن الله.

قبل الختام أريد أن أتحدث عن تجربة شخصية متواضعة مع أحد أنواع الإدمان وهو إدمان التدخين فقبل عام ونصف قرر العبد الفقير إلى ربه كاتب هذه السطور أن يقلع عن التدخين وبعد محاولات لمدة نصف عام تقريباً باءت جميعها بالفشل؛ جاء الوقت المناسب للإقلاع عن هذا الإدمان بقدوم شهر رمضان في العام الماضي، وقبل يوم من بدايته أطفأت آخر سيجارة لي وقررت حينها الإقلاع النهائي عن التدخين. مر الأسبوعان الأول والثاني بشكل صعب وقاسي، ومر ب��دها الأسبوع الثالث أقل صعوبة وانتهى بعد ذلك رمضان ومر عام كامل دون تدخين وبفضل الله تعالى أقلعت عن هذا الإدمان وأصبحت الآن أكره رائحة التدخين واستبدلته بالرياضة المنتظمة. والآن مع قدوم رمضان هذا العام فقد جاء الوقت المناسب للإقلاع عن أي إدمان بعون الله تعالى وبالصبر ومجاهدة النفس واحتساب الأجر على الله تعالى. فلعلّ نفحةً من نفحات هذا الشهر الكريم تقضي على إدمان المرء ولعلّ ركعتين ودعاءً صادقاً في جوف الليل ببركة هذا الشهر تُخرج الإنسان من حياة الإدمان -أياً كان نوعه-إلى حياة ملؤها الطمأنينة والسعادة والبحث عن رضا الله تعالى في الدنيا والفوز بجنته في الآخرة فلماذا لا يكون رمضان ثورة على عادتنا السيئة وعلى إدماننا؟ ثورة ًعلى كسلنا وتسويفنا وتقصيرنا في حق الله وحق أنفسنا، ثورة تغيرنا وتغير حياتنا معها للأفضل إن شاء الله.


[1] ابن القيم الجوزية، الفوائد، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع ص156

[2] تشارلز دويج، قوة العادات، مكتبة جرير ص62

كيف ندرب أدمغتنا على اكتساب العادات الجيدة وترك السيئة؟

منح الله تعالى أدمغتنا القدرة على الاعتياد، وجعل لهذه القدرة جانبين على النقيض، فهي ميزة جيدة عندما يوظفها الإنسان في الاعتياد على ما ينفعه، وهي أيضا ابتلاء صعب قد تتعلق بما هو ضار، ولا سيما عندما تصل حد الإدمان.

كشفت دراسة أجرتها جامعة ديوك Duke University عام 2006 أن نحو نصف تصرفات الإنسان اليومية هي عادات يكررها باستمرار، بحيث لا يشعر بتكرارها وكأنه ينفذها آلياً[1]، وهذا أمر جيد لأنه يريح الإنسان من عناء التخطيط لكل ما يقوم به من تصرفات روتينية، كما يوفر عليه مهمة التوجيه والمراقبة والحذر في كل تصرف، فالعادة تجعل من السهل علينا أن نستحم ونرتدي ملابسنا ونعدّ قهوتنا وطعامنا دون تركيز.

قد يحدث أمر مفاجئ في حياتنا فيكسر الروتين المعتاد بشكل غير متوقع، فمثلا قد نعوّد أنفسنا على الالتزام بالطعام الصحي في حمية غذائية طوال شهر كامل، ونقاوم كل العروض المغرية بالتهام الحلوى، ثم يعرض علينا شخص ما قطعة حلوى بشكل عابر فنعجز عن المقاومة.

وفي المقابل قد نكتسب عادة جديدة بسرعة مفاجئة، وبأقل قدر من الجهد والتدريب، حتى يصبح من الصعب التخلص منها. لكن الأصل في آلية عمل الدماغ هو أنه لا يعتاد على الشيء دون تكرار ورغبة وإرادة، كما أنه لا يتخلى عن العادات السابقة دون عزيمة.

21 يوما؟!
في الستينات انتشر كتاب للمؤلف ماكسويل مالتز يزعم فيه أنه يمكن لأي فعل أن يتحول إلى عادة في الدماغ بمجرد إجبار النفس على تكراره لمدة ثلاثة أسابيع، أي 21 يوما، لكن هذه الوصفة التي تتكرر كثيرا في دورات التنمية البشرية ليست صحيحة، وثبت مؤخرا خطؤها، فمثلاً بعض السلوكيات الصحية البسيطة مثل شرب كأس من الماء قبل كل وجبة قد يتطلب تكراره 18 يومًا فقط حتى يتحول إلى عادة طبقًا لإحدى الدراسات الحديثة، بينما تحتاج بعض العادات الأخرى مثل ممارسة الرياضة إلى التكرار لعدة شهور، وربما تصل إلى عام[2].

ويقول عالم النفس جيرمي دين في كتابه “صنع العادات وكسر العادات” Making Habits, Breaking Habits إن نظرية تكوين العادة خلال 21 يوماً هي مجرد خرافة، ويضيف أن العادة تستغرق في المتوسط 66 يوماً لتتشكل. بينما تتطلب العادات الأصعب، مثل التعود على تمرين عضلات البطن خمسين مرة كل صباح حوالي 84 يوماً، وذلك وفقا لدراسة أجرتها جامعة لندن.

لكن هذه الأرقام قد  تختلف من شخص لآخر كما يقول “دين”، فالاعتياد يتعلق بقدرة كل شخص على استيعاب سلوكه وبظروف بيئته وصحته الجسدية ونمط غذائه، وعلى تأثير هذه العوامل مجتمعة على دماغه.

خطوات تشكيل العادات الجيدة
1- ضع إشارات لدماغك كي يتصرف تلقائياً: عليك أن تدرب دماغك على تكرار العادة الجديدة عبر تشكيل سلسلة من الأحداث قبل أن يبدأ تنفيذ العادة، فالتكرار يتسبب في قطع سلسلة استجابات دماغك من الذاكرة، والدماغ لا يتعامل مع العادة لوحدها بل يربطها بشبكة من التصرفات، وعند قيامك بهذه التصرفات مع تكرار يومي فإنها تتحول إلى عادة تلقائية.

فإذا أردت أن تعوّد نفسك مثلا على الركض فلا تؤجل هذا الفعل إلى أوقات الفراغ التي تتخلل واجباتك اليومية، فقد تطرأ عليك أمور أخرى تشغل وقتك، بل ضع برنامجا محددا لتوقيت الركض كل يوم، واترك حذاءك الرياضي في مكان بارز ليبقى دماغك مستعدا، ومارس تمارين الإحماء قبل بدء وقت الركض، واشرب كأسا من الماء في وقت محدد أيضا استعدادا للركض، وهكذا تتحول سلسلة هذه الأفعال إلى محفزات تخبر عقلك أنه “حان وقت الركض”، حتى يصبح الركض عادة روتينية[3].

2- كافئ نفسك: أظهرت دراسة صادرة عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT عام 2005 أن العقد القاعدية basal ganglia، وهي منطقة في الدماغ ترتبط بالعادات، تكون أكثر نشاطاً في بداية ممارسة العادة وعند نهايتها، لذا يبنغي تحفيز دماغك قبل البدء عبر سلسلة المحفزات المذكورة سابقا، ثم تقديم مكافأة لنفسك في النهاية لترتبط العادة بشيء محبب إلى نفسك[4].

لذا ننصحك بأن تكافئ نفسك في نهاية المهمة لتحويلها إلى عادة، فمثلا بعد ممارسة رياضة الركض قدم لنفسك مشروبا منعشاً تحبه، أو مارس أي هواية ترتاح لها نفسك. والمهم أن تأتي المكافأة في نهاية المهمة مباشرة حتى ترتبط بها في دماغك وتحفزك عليها.

 

خطوات ترك العادات السيئة
1- ابتعد عن كل ما يحفز العادة السيئة، فمثلا إذا كنت معتادا على التدخين على شرفة منزلك، فابتعد عن الشرفة في الفترة التي تحاول فيها الإقلاع عنه.

في دراسة أُجريت على جنود أميركيين عادوا من حرب فيتنام تبين أن 20% منهم كانوا مدمنين على الهيروين عندما كانوا يخدمون خارج البلاد، ولكن 5% فقط واصلوا الإدمان بعد عودتهم للوطن، فالتغير في البيئة هو السبب الأهم.

2- استبدل النمط القديم بنمط آخر جديد، فإذا تخليت عن مشاهدة التلفاز الذي كان يقدم لك وسيلة للاسترخاء فيمكنك أن تخصص فترة الاسترخاء للتأمل أو القراءة كي لا تخسر مشاعر الراحة التي كان التلفاز يوفرها لك.

يقول تشارلز دويغ في كتابه قوة العادات The Power of Habit “إذا لم تتعمّد العمل على مكافحة العادة  السيئة لديك، أي ما لم تجد روتيناً جديداً، فإن نمط العادة السيئة سيهيمن تلقائياً”.

3- ضع أهدافا واقعية يمكنك إنجازها، فلا تقل مثلا إنك ستقلع عن كل عاداتك السيئة خلال يوم واحد، ففي مطلع كل عام يعزم نصف الأمريكيين على تغيير عاداتهم، وثلث هؤلاء يرغبون بإنقاص وزنهم وأن يكونوا أكثر تنظيمًا أو أن يقعوا في الحب، لكن إحدى الدراسات تقول إن 8% فقط منهم يستطيعون تحقيق أهدافهم للعام الجديد، بينما يستسلم ربعهم بعد أول أسبوع[5].

4- استغل الأوقات المناسبة، مثل شهر رمضان وموسم الحج، فهذه أوقات ترتفع فيها قوة الإرادة وتتهيأ الأجواء المحيطة للتغيير، ما يمنح الصيام للنفس إرادة مضاعفة لترك الشهوات لأن الصائم يتخلى عن ملذاته الجسدية كلها لأكثر من نصف اليوم وعلى مدى شهر كامل. كما يمكن استغلال الإجازات مثلا للتخلي عن عادة مشاهدة التلفاز، واستغلال فترة الامتحانات ليتخلى الطلاب عن اللعب بألعاب الفيديو.

المهم هو أن يضع الإنسان في ذهنه أنه سيتخلى عن العادة السيئة كي يكون واعيا بالتغيير، وليقطع الروابط في دماغه بين المتعة والعادة السيئة، حتى لا يعود إليها عندما تزول تلك الفترة التي تخلى فيها عن عادته.


[1] https://www.dornsife.usc.edu/assets/sites/208/docs/Neal.Wood.Quinn.2006.pdf

[2] https://www.washingtonpost.com/opinions/five-myths-about-our-habits/2015/12/31/1f3ab244-ad93-11e5-9ab0-884d1cc4b33e_story.html?noredirect=on&utm_term=.62edeeb31b3b

[3] https://www.fastcompany.com/3035099/how-to-trick-your-brain-to-hold-on-to-positive-habit-changes

[4] http://news.mit.edu/2005/habit

[5] https://www.washingtonpost.com/opinions/five-myths-about-our-habits/2015/12/31/1f3ab244-ad93-11e5-9ab0-884d1cc4b33e_story.html?noredirect=on&utm_term=.62edeeb31b3b

هل نحن عاجزون بيولوجياً أمام شهواتنا؟

صار من المتداول اليوم بين الشباب كثيرا أن ميولنا وشهواتنا ورغباتنا تنشأ أصلا من دوافع بيولوجية ووراثية، وكأن الإنسان يُخلق مجرما أو سويّا أو عفيفا أو متهتكا، لكن الأبحاث التي يستندون إليها ليست نهائية، بل هناك ما ينقضها بقوة.

البعض يستشهد بقصة تم توثيقها عام 2003 لشخص اكتشف أن لديه ميولا جنسية نحو الأطفال، وهي الحالة المسماة في علم النفس “بيدوفيليا”، وتم تشخيصه لاحقا بأنه مصاب بورم في المخ. وبناء عليه، حاول الكثير من علماء الأعصاب الربط بين ميول كهذه وبين إصابات في بعض مناطق الدماغ، لكن هناك أبحاثا أخرى أثبتت أن ليس كل من يصاب في نفس تلك المناطق يجد ميولا مماثلة[1].

على سبيل المثال، قدم الأستاذ في جامعة نيويورك سبرامونيام مادهوسودانان ورقة علمية في عام 2014 أوضح فيها أنه لا توجد علاقة بين مكان الورم في الدماغ و بين الآثار النفسية[2].

وعليه فإن الطب لا يقدم دليلا على أن إصابة منطقة معينة من الدماغ بورم ستؤدي إلى ظهور ميول البيدوفيليا أو الشذوذ الجنسي أو أي سلوك آخر؛ لكن الورم قد يغير المزاج العام ويؤدي إلى الاكتئاب والأرق وفقدان شهية وأعراض أخرى.

وقاحات جديدة
في مقال نشره بمجلة “ريدرز دايجست” بعنوان “وقاحات جديدة”[3]، يقول ويليام لي ويلبانكس إن الإرادة وحدها قادرة على تخليصنا من أعتى العادات السيئة.

ويستشهد بمحاكمة شهيرة جرت في الولايات المتحدة للنظر في قضية رجل اعتدى جنسيا على فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، حيث حكم القاضي بإخضاع المتهم لدورة تأهيلية لتصحيح إفراز الهرمون الذكري “تستستيرون” لديه بحجة أن فرط إفراز الهرمون هو الذي يمنعه من مقاومة المغريات، ويعلق الكاتب “ولكن معظم الذين يعانون من هذه المشكلة لا يعتدون على الآخرين، وما قام به القاضي ليس إلا واحدا من أوهام الوقاحة الجديدة، والتي نرددها باستمرار لنصيب بها صميم إنسانيتنا عبر تلفظنا بعبارات من قبيل: لا يمكنني أن أتمالك نفسي”.

ويضيف أن وصفنا للمدخنين بأنهم مدمنون يوحي بعجزهم عن الإقلاع عن التدخين، مع أن الكثير منهم تمكنوا من ترك هذه العادة دون علاج.

ثم يذكر مثالا آخر عن الغضب، فيقتبس من كتاب “الغضب: عاطفة يساء فهمها” للأخصائية كارول تافريس قولها إننا نحن من يقرر أن نغضب عندما نعتقد بأننا تلقينا معاملة غير عادلة، فالعدوانية ليست طبعا بيولوجيا قسريا في داخلنا، بل هي طريقة مكتسبة نلجأ إليها للتعامل مع من يدفعنا للغضب، مع أنه بمقدورنا أن نختار طرقا أخرى مكتسبة أيضا مثل كظم الغيظ والترويح عن النفس بالبوح بما يغيظنا أو حتى الصراخ، والدليل على قدرتنا على التحكم بأعصابنا عند الغضب هو أننا نادرا ما نثور على مدرائنا في العمل، في الوقت الذي نفقد فيه السيطرة عند التعامل مع أصدقائنا أو أفراد عائلاتنا.

ونحن نوافق على هذا، فلو كان الغضب أمرا خارجا عن السيطرة لما أمر الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام من جاء يطلب منه الوصية بقوله “لا تغضب”، ومكررا وصيته ثلاث مرات.

وفي سيرة عمر بن الخطاب مواقف كثيرة تشير إلى أنه كان شديدا قوي البأس، ومع ذلك كان وقافا عند حدود الله ومسيطرا على أعصابه، فعندما أساء إليه أحد العامة -وهو الخليفة- همّ به ليوقفه عند حده لولا أن بادر أحد جلسائه بتذكيره بقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، فأقلع على الفور وعفا عنه.

وفي قصة مشابهة، أخطأ أحد غلمان الخليفة العباسي هارون الرشيد وآذاه، فلما نظر الخليفة إلى الغلام غاضبا سبقه الفتى بقوله: “والكاظمين الغيظ” فهدأ الخليفة وقال: قد كظمت غيظي، فتابع: “والعافين عن الناس” فقال: قد عفوت عنك، فأكمل الغلام: “والله يحب المحسنين” فقال: أنت حر لوجه الله.

الإرادة تكفي
ويتحدث الكاتب ويلبانكس عن تجربة شخصية مر بها عندما كان طالبا في المدرسة الثانوية، إذ كان مقتنعا بأن طباعه غير سوية، إلى أن طلب منه مدرب كرة السلة في المدرسة أن يواجه أحد زملائه في التدريب، فكان كلما فوّت فرصة في التسديد ضرب الأرض بقدمه متذمرا، فحذره المدرب من الطرد إن عاد إلى هذا التصرف مرة أخرى. وبما أن المدرب كان حازما فإن الفتى لم يجرؤ على القول “ولكني لا أستطيع أن أتمالك نفسي يا أستاذ”، بل أقلع عن تلك العادة على الفور لعلمه المسبق بأن عقابا صارما سيواجهه.

ويعلق بالقول إن الإرادة الحازمة قادرة على الإمساك بزمام الأمور، مشيرا إلى أن الكثير من مدمني المخدرات تمكنوا من الخلاص منها دون علاج، ولا ينسى التذكير بأن العلاج ضروري شريطة أن يسبقه التذكير -وليس التعليم- بأن الإرادة هي السلاح الأول، فالإدمان مشكلة أخلاقية بالدرجة الأولى وليست طبية، وفق رأيه.

ويضيف أن المعالجين أخذوا يطلقون صفة الإدمان على كل العادات السيئة حتى على المراهنين ولاعبي القمار، حتى باتوا يعتبرون من يتخطى الحدود في المقامرة شخصا مريضا فاقدا للسيطرة على نفسه، مما يفتح الباب واسعا أمام الانحراف السلوكي، ويجعل من الجناة أشخاصا يستحقون الشفقة بدلا من العقاب.

وإذا كان هذا المقال قد كُتب في أواخر الثمانينات للتنديد بما أسماه “وقاحات جديدة” فماذا يقول إذن عما انتهى إليه الحال اليوم بعد نحو ثلاثين سنة؟ فمع أن العديد من الأبحاث تنفي ارتباط السلوك المنحرف بالهرمونات وأضرار الدماغ كما ذكرنا في بداية المقال إلا أنه أصبح من الشائع كثيرا الركون إلى المقولات المضادة، لا سيما في الأوساط الإلحادية المادية التي تميل إلى الفلسفة الجبرية واعتبار الإنسان مجرد آلة مسيَّرة محدودة الإرادة، وما نراه من انحلال أخلاقي في الغرب اليوم هو إحدى نتائج هذه الفلسفة.

هوس التبرير
ومن الأمثلة المتزايدة على الهوس الطبي في البحث عن دوافع بيولوجية لكل سلوك منحرف، تصنيف أطباء النفس لظاهرة التسوق المبالغ فيها ضمن الأمراض النفسية القابلة للعلاج، وربطها بانخفاض مادة سيروتونين في المخ، والذي يسبب أعراضا أخرى مثل إدمان لعب القمار أو اللهو بإشعال النار والتسبب في الحرائق.

ومن الأمثلة أيضا اعتبار مشاهدة التلفاز المبالغ فيها حالة من حالات الإدمان، حيث ربطت دراسة نشرت في مجلة “أميركان سيانتيست” بين الانبعاث المتواصل الذي يطلقه الدماغ لموجات “ألفا” ومشاعر الارتياح النفسي لدى مشاهدة التلفاز، لكن هذا الارتياح الذي يشعر به معظم الناس الطبيعيين لا يعني بالضرورة أنهم سيعانون من الإدمان وفقدان الإرادة!

أما التدخين فحاول فريق علمي من جامعة أكسفورد أن ينسب الاعتياد عليه إلى جين وراثي قال إنه مسؤول عن الإدمان على النيكوتين، مؤكدا أن الأشخاص الذين لا يحملون الجين يمكنهم الإقلاع عن التدخين دون استعمال الوسائل التي تستخدم النيكوتين (مثل لبان النيكوتين ولصقة النيكوتين على الجلد)، لكن وجود هذا الجين لا يعني حتمية التدخين، فهو لا يعدو كونه استعدادا أوليا يمنح الشخص قابلية إضافية للتدخين، كما هو الحال مع اشتهاء الإنسان لنوع ما من الطعام أكثر من غيره، لكن هذا لا يؤدي بالضرورة إلى فقد الإرادة.

وكل ما في الأمر هو أن مجاهدة النفس لمنعها عما تشتهيه تكون أصعب أمام إغراء الإعلانات وتشجيع المجتمع، لذا تمتلئ كتب التزكية والزهد في تراثنا الغني بقصص مجاهدة النفس لدى كبار الزهاد عن أبسط الأمور، لمنع النفس من التمادي حتى في اشتهاء الحلال فضلا عن المنكرات. لكن التساهل في التعاطي مع المكاره والمحرمات قد يتحول مع مرور الزمن عادة مستعصية، فتبررها النفس الأمارة بالسوء ووساوس الشيطان بالعجز والإدمان.

وقد يصل الأمر فعلا لدى البعض إلى وسواس قهري يسلب الشخص إرادته، وهذه تحديدا حالية مرَضية مرتبطة بعوامل بيولوجية، لكن العلاج في معظم الحالات يكون بالإيحاء النفسي السيكولوجي دون تدخل الأدوية والعقاقير.


[1] https://jamanetwork.com/journals/jamaneurology/fullarticle/783830

[2] https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1586/14737175.7.4.343

[3] Reader’s Digest, Mars 1989.

مكة بين ذوبان الروح وتغوّل الحداثة

لا يُعرف عن مدينة مكة تاريخ مؤكَّد سابق على بناء البيت الحرام، ولذا فإن مكانة مكة تاريخياً عند العرب، وحاضرًا عند المسلمين، مرتبطة برمزها الديني المقدَّس، أي الكعبة المشرفة التي بناها آدم عليه السلام، ثم أقام قواعدها بعد اندثارها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، والتي يصفها الله في مواضع عديدة في القرآن بأجلّ الأوصاف وأسماها، كقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96-97].

ولا تغيب عن المسلمين الأحاديث التي جاءت في فضل مكة وحرمها وعظمة ثواب الصلاة في مسجدها وحب النبي صلى الله عليه وسلَّم لها، ممَّا جعل احترام مكَّة مرتكزاً في الأذهان، وثابتًا في القلوب والأرواح، فهي مهبط الوحي، ومبدأ الرسالة، ومأوى الأفئدة المؤمنة بالله، والهويَّة التي دفعت كثيرًا من الرحّالة غير المسلمين للتنكُّر بغية استكشاف هذا المكان العظيم والتعرُّف إلى أسرار جذبه الروحي لملايين الناس.

رحلة جول جرفيه كورتيلّمون
في رحلته إلى المشرق العربي وإلى أرض الحجاز تحديدًا، رسم الرحَّالة الفرنسي جول جرفيه كورتيلِّمون (ت 1931م) لوحة دقيقةً فائقة التميُّزِ عن المدينة الأقدس في تراث المسلمين.

وفي سبيل إتمام رحلته، أظهر جول إسلامه، وارتحل بجواز سفر سمّى نفسه فيه “عبد الله بن البشير”، متجها نحو مكة عام 1894م، وتاركاً خلفه وثيقة مهمة في وصف الديار الحجازية إبَّان تلك الأيام.

من ذلك كلماته الآتية التي تأخذنا إلى واقعٍ مفعم بالصور عن الحرم المكِّي الشريف: “عند ظهور ضوء النهار اجتزنا بوّابة المدينة المقدَّسة، إنها بوّابة مؤلفة من عمودين يشبهان أعمدة بوابة مزرعة… لقد مررنا بأسرابٍ لا تحصى من طيور الحجل وعندليب الصحراء، تهرب مهرولة أمامنا دون أن تتنازل وتطير، كانت تطير حولنا بأعداد هائلة العديد من مجموعات الحمام وكأنها غيوم، في الحقيقة هذه الحمائم مصدر احترام كبير لغالبية سكّان مكة.

فجأةً عند مفترق طريق، دخلنا إلى المدينة المقدَّسة، لا شيء يجعلك تتوقع مدى قربها، إنها تختبئ بين جبلين قريبين جدًّا من بعضهما، وعندما تجتاز الشارع الأول تدرك أنك وصلت، لا منظر شامل للمكان، كل الأماكن متشابهة، حتى تصل إلى الجامع الكبير المستقر في أخفض مكان في المدينة، مختبئاً عن الأنظار، وكأنه بيضة وسط عشٍ”[1].

ثم يقول: “ها هي الكعبة بهيئتها الملكية مرتدية كساءها الأسود الثمين، ليست الكعبة –كما كنَّا نظنُّ- قبرًا للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، إنها بيت الله الحرام بالنسبة إلى جميع المسلمين”[2]، إلى أن قال “لقد بقيت مع تأملاتي أفكِّر في أقاربي في فرنسا وفي هذه الرحلة العجيبة إلى هذه المدينة الغامضة حيث أشعر أن معجزة ما تسيِّرني… أكون بمنتهى الفرح عندما أذهب لأحلم عند الجامع الكبير، لا يمكن لبشر حين يسمع صوت الأذان في هذا المكان أن يحلم بإنجاز لحن بهذه الرقة والتناغم، أي تنميق مدهش هذا”[3].

أقام جول في مكة أياماً عديدة وجال في أزقَّتِها يدرس معالمها ويتعرف على أسواقها وأشكال عمرانها، ليتأتى لنا عبر هذه الرحلة أن نتعرف إلى صورة مكة الاجتماعية والعمرانية في أواخر العهد العثماني، مشيراً باهتمام بالغ إلى الحِرَف المهنية التي اختصت بها أسواق دون غيرها، فثمة سوق للصاغة وآخر للأخشاب، وثالث للقماش وهكذا دواليك، التي تشبه في شكلها العام شوارع دمشق أو القاهرة القديمة”فالجامع الكبير المستقر في أخفض إلا أن الاندهاش بلغ قمته بالنسبة إليَّ حين مررت على كلماته الآتية: “يعتني السكَّان بأنفسهم بنظافة الشوارع التي تشبه في شكلها العام شوارع دمشق أو القاهرة القديمة”[4]، وموضع الاندهاش آتٍ من تشبيهه مكةَ بدمشق والقاهرة، فالصورة النمطية عن مكة تلك الأيام موحٍ بافتقارها إلى الترتيب والاعتناء العمراني، إلا أنها بحسب شهادته شبيهة بالتنظيم والترتيب المعروف عن دمشق والقاهرة أي دُرَّتَي بلاد الشام ومصر، وهو ما لا نجده في مكة –من الجانب التراثي- هذه الأيام حتماً.

أين الجذب الروحي لمكة؟
يتحدث د. علي عبد الرؤوف عن حادثة تعرَّض لها أثناء إعداده كتابه الشهير “من مكَّة إلى لاس فيغاس: أطروحات نقدية في العمارة والقداسة” قائلاً: “لم يستوقفني وأنا أُعدُّ دراسات كتابي الصادر في القاهرة، أكثر من إعلان فندقي به صورة سرير أبيض بشراشف حريرية عليه وردة حمراء كُتب أسفله تمتَّع بشهر العسل وأنت مُطلٌّ على الحرم!

لقد صدمتني فكرة استغلال الإطلال على الحرم المكي ليس فقط لتبرير دفع مئات بل آلاف الدولارات لقضاء ليلة واحدة، بل تصعيد الاستغلال إلى التحول بعيدًا عن الهدف الروحاني إلى الترويج الفندقي الفج لجناح العرائس المطل بنوافذه العملاقة من ارتفاع شاهق على الكعبة التي تقزَّمت أمام هذا العملاق الخرساني البغيض المسمَّى برج الساعة”[5]، لقد تعاظمت الصدمة –والكلام له- عندما أدرك أن مكة باتت تشبه بأبنيتها الفاخرة وتسارع الوقت فيها مدينة لاس فيغاس الأمريكية، ولعلّ تأثير الصدمة الأولى يزداد “عندما ندرك أن لاس فيجاس ليست مجرد مدينة أمريكية، ولكنها تسمى (مدينة الرذيلة) في مقابل (المدينة المقدسة) مكة، وثمة صدمة أخرى فاجأته عند زيارته دولة الفاتيكان، وذلك لدى رؤيته التناسق المعماري مع الحفاظ على الهوية، واحترام الكنائس والمقر البابوي، والإصرار على جعله أهم وأكبر المباني، وصاحب المركز المسيطر المرتفع في النطاق البصري للمدينة.

وثمة صدمة أخرى، وهي التي تخص مدينة القدس، الأكثر مدعاة للحزن والألم. فعلى الرغم من وقوعها تحت الاحتلال الإسرائيلي وبرغم المحاولات الدائمة لتهويدها، إلا أنه لم يصبها ما أصاب مكة من تشويه معماري وعمراني، وما زالت القدس تحافظ على هويتها المعمارية، وشخصيتها الفريدة، وعبقها التاريخي، الذي يبدو جليًّا في وضعها الراهن الموثق في أدبيات متعددة”[6].

يبدو أن الدعوى المذكورة آنفًا تثير في النفس بعض التهكُّمِ الممزوج بالفضول والاستغراب!

كيف يحق الادعاء بهذا، وقد أنشأت حكومات المملكة السعودية أفضل شبكات الطرق والأنفاق الضخمة والجسور والتوسعات المتعددة لأرض الحرم وما حوله، إضافةً إلى الكثير من المشاريع الإعمارية لتسهيل استيعاب ملايين الحجاج كل عام دون وقوع حوادث تؤذيهم أو تعكر صفو عبادتهم أو تودي بحياة العشرات منهم.

طغيان الحداثة وثقافة الاستهلاك
“إذا كانت أولى زيارتك لإحدى المدن وكان في مدى بصرك مبنيان؛ أولهما بارتفاع 14 متراً، والآخر بارتفاع  600 متر، تعلوه أكبر ساعة في العالم وتحيط به أبراج شاهقة، فأيُّ المبنيَين تعتقد أنه يجذب انتباهك ويستحوذ على كل مجالك البصري: ناطحة السحاب أم ذلك المبنى الذي لا يتجاوز ارتفاعه 4 طوابق”[7]؟

إن المسألة التي نتوقف عندها ههنا ليست توسيع مساحة الاستيعاب للحجاج والمعتمرين في الحرمين الشريفين أو تحديث شبكة الخدمات فيهما، وإنما تغيير الحالة الثقافية للروح التي تسكن المدينتين واندثار الهوية الروحية التي تميز هذه المدن المقدسة، فلم تعد زيارة المدينة المنورة أو مكة المكرمة مظهراً من مظاهر التساوي بين المسلمين وإنما باتت خاضعة للبهرجة التجارية وطغيان الثقافة الاستهلاك والابتزاز العولمي الصارخ.

إن السؤال آنف الذكر يقال لمن يزور مكة في هذا العصر الذي طغت فيه قيم العولمة والصورة الاستهلاكية، ولذا لا عجب في أن يكون الجواب متوجهاً في الغالب بالإشارة إلى البناء الأعلى والمطل كعين مادية ناظرة تراقب كل شيءٍ منخفض عنها، وبالطبع فإن كل ذلك جارٍ على حساب الكعبة، إذ تبدو صغيرة للغاية أمام هذه الأبراج العملاقة، وبالتالي تخضع جموع المسلمين إلى صورة القيمة الدنيوية على حساب القيمة الأخروية التي تمثلها الكعبة المشرفة التي قصد زيارتها طالبًا التقرب بها إلى الله[8].

هنا ترى قلب المدينة منفصلاً عن غايته الروحية في محيط حداثيٍ يقطع صلته بالقلوب التي اتجهت إليه، فلا يؤثر ذلك بالروح العمرانية فقط، وإنما بالروح التي يملكها زوار هذه الأماكن وقاطنوها[9].

لقد كانت الدول المتعاقبة على حكم الحجاز في غاية التنبه لواقع مكة الروحي، فبخلاف ما فعلته دولة القرامطة -بقيادة أبي طاهر القرمطي- من أخذهم للحجر الأسود وإعادته بعد عشرين سنة، لم تقم هذه الدول بتغيير معالم الحرم أو إزالة أجزاء منه بل كان التعظيم والاعتناء بالآثار المتبقية من الحرم ماثلاً مدة بقائها، فلم يشهد المسجد الحرام توسعةً تذكر بعد الخليفة المقتدر بالله طيلة حكم الفاطميين، والأيوبيين، والمماليك، والعثمانيين، وإنما اقتصر العمل في المسجد خلال هذه الحقبة على الترميم والإصلاح[10].

غياب الذات وحضور العولمة
يتساءل د. مشاري عبد الله النعيم: “أين هي الهوية المعمارية لهذه المدن، فعلى الرغم من أن تراثها المعماري عميق للغاية إلا أن الملمح الذي يقود لاكتشاف الهوية الخاصة بهذا التراث مفقودة”[11]، ولا يمكن إنكار أن بعضاً من آثار الماضي حاضرة إلا أنها تبدو كمن يقبع في زاوية الذاكرة أو ما يكاد يصل إلى النسيان.

إن الناظر لحال مكة المكرمة والمدينة المنورة الآن يتوقف مليًّا عند غياب المظاهر الروحية في مقابل تغوُّل الحداثة في أزقة وشوارع المدينتين، حيث تتعرضان -ومنذ وقت ليس بالقصير- إلى تحديات تغيير الوجه الثقافي بدعوى استيعاب الحجاج والزيادة السكانية المتزايدة في المدينة، لتختلف مكة في الوقت الحاضر بشكل كامل عن حالها قبل خمسين عامًا مثلاً، إذ محيت معظم المعالم العمرانية التاريخية التي ورثتها دول الخلفاء المتعاقبة في مواجهة طوفان التطوير العقاري المتباين أصلاً مع هوية المكان التاريخية ونمط التطوير المعولَم الذي يجري تنفيذه، فما أعجب أن تمحى معظم الآثار الموروثة عن عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، بل ما أعجب أن لا تكون لمكة والمدينة بصمتهما المعمارية (الإسلامية)، وأعجب من كل ذلك أن تكون أبنية كلٍّ منهما مستنسخة عن أبنية نيويورك أو لاس فيغاس، بل إن اللغة العربية تكاد تنمحي من اللافتات وأسماء العمارات الشاهقة، ليحل محلها أنتركونتننتال أو الميريديان  أو هيلتون، أو غيرها من الفنادق التي تتعالى على المسجد الحرام والمسجد النبوي.

ترفيه أم تطهير!

المسجد النبوي

يمكن وصف البناء المستمر الذي يغير وجه مدينتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه استغلال عمراني لفرض سيطرة نماذج “مدن الإسمنت” على القلب النابض لروح المدن الإسلامية.

كانت قوافل الحجاج تمضي شهورًا أو سنوات في سفر متواصل للوصول إلى أقدس الأماكن لأداء فريضة الحج ثم الإياب بالأجر والتطهر الروحي إلى بلادها، في رحلة مضنية جسميًّا مُغنيةٍ معنويًّا، يرى فيها الحاج تحقق التساوي بين الأغنياء والفقراء والأمراء والرعية، أما اليوم فإننا نرى “لمحو تاريخ مكة المعماري أثراً في الحج نفسه، إذ انقلب إلى رحلة سياحية ترفيهية، فلم يعد الحج تجربة روحية لا تتكرر، بل أصبح ممارسة اعتيادية -سنوية لكثيرين- يختلط فيها التسوق بممارسة الطقوس والشعائر الدينية، فمكة صورة مصغرة للعالم الإسلامي، وكل ما يحدث فيها يؤثر بعمقٍ على المسلمين في كل مكان، وها هي الآن تغرق في الحداثة، وقد أُفرغت من تاريخها، وأصبح الاستهلاك هو الهدف الأسمى من زيارتها”[12]، فلم يعد الحاج أو المعتمر يمتلك من خواطر رحلته شيئاً ذا بال مقارنةً بذكريات السكن في فندق الهيلتون، والغداء في ماكدونالدز، والتسوُّق في كارفور، مع الانبهار منقطع النظير ببرج الساعة الشهير.

فمتى تعود مكة للأرواح “قبلةً” والمدينة المنورة “منورةً”؟


الهوامش

[1] رحلتي إلى مكة، جول جرفيه كورتلمون، ترجمة: أحمد إيبش، دار الكتب الوطنية، أبو ظبي، ط1، 2013، ص69، 70.

[2] المصدر السابق، 70.

[3] المصدر السابق، 73، بتصرف.

[4] المصدر السابق، 97.

[5] تدوينة د. علي عبد الرؤوف المعنونة بـ “مكة المكرمة والوردة الحمراء والساعة العملاقة” عبر الرابط الآتي: http://blogs.aljazeera.net/blogs/2017/3/19/%D9%85%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%B1%D9%85%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B1%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9

[6] المصدر السابق.

[7] من مكة إلى لاس فيغاس، كيف استطاعت القيم المادية التغول على الروحية، مقال منشور على هافنغتون بوست بالعربي، عبر الرابط الآتي: http://www.huffpostarabi.com/2017/09/01/story_n_17885042.html

[8] من مكة إلى لاس فيغاس: أطروحات في العمارة والقداسة،د. علي عبد الرؤوف، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، ط1، 2014، ص117.

[9] مقال د. مشاري عبد الله النعيم  نواة الهوية الثقافية والعمرانية على الرابط الآتي: http://www.alriyadh.com/1637000

[10] مقال: التوسعات التاريخية للحرم، موقع بوابة الحرمين، عبر الرابط الآتي: http://www.alharamain.gov.sa/index.cfm?do=cms.conarticle&contentid=5942&categoryid=1024

[11] مقال عبر الرابط الآتي: http://www.alriyadh.com/1637000

[12] مقال ضياء الدين سردر المنشور على شبكة (نون بوست): https://www.noonpost.org/content/3881

اللغة العربية حتمية

الأستاذ أحمد القاري، باحث ورحالة مغربي، يقوم بجولات متعددة كل عام بين قارات العالم لرصد تفاعل الشعوب مع ثقافاتها ولغاتها الوطنية، ويقدم لنا في هذا المقال خلاصة تجربته بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية المعتمد من قبل الأمم المتحدة.

شهد اليوم العالمي للغة العربية، الموافق للثامن عشر من كانون الأول/ديسمبر، تفاعلا واسعا على وسائل التواصل الاجتماعي، ونقاشا قويا حول وضع اللغة العربية والموقف منها وحالها تجاه اللغات الأخرى.

حتى الخارجية الفرنسية ساهمت في النقاش وأخبرتنا بمعلومة جديدة، وهي أن أكثر من 500 كلمة فرنسية أصلها عربي!

تغريدة الخارجية الفرنسية في الموضوع على حسابها العربي على تويتر تمت إعادة تغريدها مئات المرات. وحصلت على مئات الإعجابات ومئات الردود.

اليوم تدرك المؤسسات الغربية أهمية التواصل مع المتلقي العربي بلغته، ولذلك أصبحت تستثمر في هذا المجال، ويتنامى باستمرار حجم المحتوى العربي على الإنترنت، ويصل “مثقفون” عرب إلى إدراك متأخر بأن أفضل وسيلة للمساهمة في النقاش العام في العالم العربي تمر عبر استخدام العربية، وأن استخدام الإنجليزية أو الفرنسية لا يعطي أي ميزة أو أفضلية للكاتب العربي حين يوجه خطابه لمواطنيه وأبناء العالم العربي.

يحصل هذا لأن التواصل الاجتماعي مجال يسيطر عليه المجتمع والناس ولم تتمكن السلطات من ضبطه وتوجيهه حتى الآن. إنه مجال تظهر فيه قوة اللغة الأم، خاصة العربية التي تفتح فرصة لحوار يتجاوز الحدود الترابية لأكثر من عشرين بلدا، ويجعل النقاش العام عابرا للأقطار.

الدواعي العملية ستؤدي لمزيد من اعتماد العربية وسيلة تواصل أساسية في كل المحيط العربي، ووسيلة تفاهم مشترك في غرب أفريقيا، وبالنسبة لعشرات الملايين من المسلمين ممن يحسنون العربية ويحبونها.

تجارب ناجحة
مرة أخرى سيحقق المجتمع العربي إنجازا لا تساهم فيه المؤسسات الرسمية ودوائر الدول المساهمة المطلوبة، وإذا أرادت الحكومات العربية أن تعرف كيف تخدم اللغة فلتطلع على تجربة “الفرنسة” في إقليم كيبيك الكندي حيث سخرت كل الأدوات القانونية والموارد المالية والإدارية لتكون الفرنسية لغة التعليم والإدارة والتواصل في الإقليم، ولتصمد في وجه بحر الإنجليزية الذي يحيط بكيبيك، فهناك لا يحثون الشعب على تعلم الإنجليزية، بل يشجعونه على إهمال تعلمها!

في سائر بلدان الشرق والغرب تعد اللغة مسألة لا تقبل الحياد ولا الحسابات الاقتصادية، إنها مسألة هوية. هل يمكن المساومة على الهوية؟

في اليابان والصين وتايوان وهونغ كونغ يصرون على استخدام أنظمة كتاباتهم المعقدة ويترجمون كل كلمة علمية أو مصطلح جديد إلى مصطلح محلي.

حتى الماركات تأخذ أسماء محلية إذا أرادت أن تنجح، ولا أحد يعتبر استخدام اليابانيين لنسخة ويكيبيديا اليابانية بنسبة 94 في المائة من إجمالي استخدامهم لهذه الموسوعة العالمية حالة من الإنغلاق اللغوي!

وفي أيسلندا يدرسون الطب والهندسة والاقتصاد باللغة الأيسلندية، وهي لغة لا يتكلمها أكثر من 300 ألف شخص في العالم، ولا يشتكون أبدا من عبء الترجمة اليومي المطلوب لتظل لغتهم “مواكبة” لـ”التطور العلمي”. حين سألتهم من يقوم بهذا الجهد؟ أجابوا “إنها مهمة الجميع!”.

وفي سلوفاكيا تجد رفوف قسم التدبير في مكتبة تجارية كلها باللغة السلوفاكية، فكيف يمكن النهوض بالاقتصاد دون أن يتم ذلك باللغة المحلية؟

هذا شيء فهمته معظم دول العالم فخصصت له ميزانيات ضخمة للترجمة، وشرعت قوانين تحمي اللغة الوطنية من الإهمال والإقصاء وتحول دون شعور من لا يحسن لغة أجنبية بالغربة في وطنه، مثلما يحصل في بعض الأحياء “الراقية” من بلدان المشرق والمغرب العربيين.

اللغة الوطنية ضرورة
المعادلة بسيطة، لا اقتصاد ولا علوم ولا نهضة دون استخدام العربية في كل المجالات، طالب الاقتصاد في المغرب يحتار هل يبذل الجهد لضبط لغة التدريس الأجنبية أو لإتقان معادلات الإحصاء وقواعد المحاسبة، وكثيرا ما يتخرج باستخدام حيل تمكنه من اجتياز الامتحانات وهو ضعيف فيها جميعا، ولذلك تندر المؤلفات الاقتصادية المحلية، لكن التأليف بلغة أجنبية أمر لن يحسنه إلا آحاد من الناس.

وطالب الطب في القاهرة يتلقى الدرس بالإنجليزية، ويحاور المريض بالعربية، فيضيع في ثنايا ذلك كثير من المعاني وينخفض مستوى الخدمة.

سألت طلبة في أيسلندا: كيف تدرسون الطب بالأيسلندية؟ فأجاب أحدهم: أليست الخدمات الصحية ستقدم بالأيسلندية؟

ستعود بلداننا وشركاتنا وجامعاتنا للعربية مرغمة ولأسباب عملية، فطريق التفوق والجودة مرهون باستخدام اللغة أو اللغات الوطنية، فلم لا تفعل ذلك فورا وتوفر علينا سنوات ضائعة إضافية؟!

القراءة ليست غاية بذاتها

تمر المنطقة العربية بسبع سنوات عجاف منذ انطلاق ما عُرف بـ”ثورات الربيع العربي”. والناظر إلى مآلاتها يدرك أن لا فائدة تُرجى من إسقاط رأس الهرم إن لم تكن قاعدة الهرم سليمة. فما يُبنى على مجرد العواطف الجياشة والخطب الرنانة لا يُحدث تغييرًا.

يكون التغيير حتميًا حين يوجد الوعي، فتتحدد الأهداف وتتضح السُبل، بدلًا مما يستشري بين الشباب من فقدان للبوصلة ونظرة دونية للذات تصل إلى عدم محاولة التغيير أو التفكير فيه حتى، على اعتبار أن انحطاطنا هو الأمر الطبيعي والمفروغ منه، فينصرف الشباب إلى عبادة أوثان القرن الحادي والعشرين من موضة وأزياء ومشاهير وغيره من ماديات جوفاء، تزيد من حالة الانحطاط القائم، وتوجه جهودهم -إن وجدت- نحو أهداف ذاتية شخصية مادية بحتة للنجاة من دوامة التخلف هنا، إلى الغرب المتطور حيث شاطئ الأمان، في تناسٍ لمسؤولية الفرد تجاه دينه وأمته، و{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].

ومما سبق تظهر ضرورة بذل كل الجهود اللازمة لزيادة وعي الشباب وتوسيع أفق تفكيرهم وزيادة مداركهم، لمواجهة التجهيل الممنهج الساعي إلى صرف نظرهم عن القضايا الأساسية وشغلهم بسفاسف الأمور، وكذلك ما يتم من بث لبذور الفتن وتعزيز لكل عوامل التفرقة من خلال انتماءات تشتت لا توحد، وبالتالي تَسهُل السيطرة على الشباب واستغلالهم.

وهنا تبزغ القراءة شمسًا تبدد ظلمات الجهل، فبها تُنال علوم الشعوب وفكرها الذي احتضنته الكتب بين ثنايا صفحاتها منذ القدم، فتكون القراءة مفتاحا لليقظة وسبيلا للنهضة، حيث ترقى بوعي الشباب وفكرهم وتوجه تركيزهم نحو قضايا الأمة بدل الانشغال بصغائر الأمور وتوافهها، وتعزز انتماءهم لهويتهم ودينهم وأمتهم.

أضف لذلك دور القراءة المحوري في إخراج الشباب من سجن التلقين، لميدان البحث والتقييم، وما في ذلك من نبذ للتعصب الأعمى وتمكين للمنهج العلمي والاحتجاج المنطقي، وما يؤديه ذلك من احتواء للخلافات وتقبل للاختلافات وخلق لنقاشات بنّاءة توحّد لا تفرق.

لكن ليست كل القراءة هكذا، فكما توجد قراءة تنمي الفكر وتقومه، فهناك قراءة تفعل العكس. وحيث أننا منذ الصغر نكتب المواضيع الإنشائية عن القراءة وأهميتها، فقد أحدث هذا لُبسًا، فأصبحت القراءة بذاتها هدفًا، حتى أنَّ من يقرأ بضعة روايات رومنسية سطحية صار يرى نفسه، ليس فقط قارئًا، بل من “النخبة المثقفة” في المجتمع.

وأما من تكون منشوراته على مواقع التواصل عاميّة اللغة ركيكة المعنى، فيأتي ويضعها بين دفتي “كتاب”، تراه يترفع عن مجالسة “العوام”، فهو أيضًا بات من “النخبة المثقفة”.

القراءة المعاصرة
وحيث أن هذا العصر يشهد ثورة تكنولوجية لم يسبق لها مثيل، فإنّ محركات البحث وشبكات التواصل ألقت بظلالها على كافة جوانب حياتنا، بما في ذلك القراءة.

فمع محركات البحث انتفت الحاجة للقراءة بمفهومها النهضوي، وبدلًا من الغوص في بحار الكتب بحثًا عن المعلومات والتعمق بها، بات يمكن الوصول إلى المعلومة بدقائق بل ثوانٍ، وبالتالي صارت العقول تعمل بتقنية “التخزين السحابي”، وهي تقنية تُستخدم لحفظ البيانات في خوادم خارجية، وتكون الأجهزة مجرد أدوات للوصول للبيانات، ورغم أنّ هذا يبدو -للوهلة الأولى- ذا نفع، إلّا أنّه يجعل ذاكرة الأجهزة –وكذا ذاكرتنا- خالية كصحراء قاحلة.

وأما موقع فيسبوك فله بالغ الأثر وشديد الضرر على القراءة ومفهومها والغاية منها. فبالإضافة لما يشيعه من منشورات لا يتعدى الواحد منها –في أحسن الأحوال- بضعة أسطر، جاعلًا قراءة بضع صفحات من كتاب أمرًا مفزعًا. وعدا عما يحويه من مشتتات تجعل القراءة المتعمقة أمرًا مستعصيًا. فإنّه ساهم في خلق “الواقع الافتراضي” الذي غيّر الغاية من القراءة واقتناء الكتب.

وهكذا أصبحت غاية الكثيرين من اقتناء الكتب هي نشر صورة جميلة لفنجان القهوة وقطع الحلوى بجانب كتاب، وبعضهم يقتني الكتب بحثًا عن الاقتباسات لنشرها، حيث تعددت الطرق التي تسمح لأحدهم بأن يغدو من “النخبة المثقفة”.

لذا فلا عجب من أن الكثير من “المجموعات” المتعلقة بالقراءة والكتب أضحت ذات محتوى ضحل، وأقصى ما قد تقدمه هو إخبارك بمدى قسوة من يطوي صفحات الكتاب عوضًا عن استخدام فواصل الكتب.

وفي بيئة كهذه يكون الإقبال الكبير على نشر الكتب والروايات الملآى بالسخافات نتيجة حتمية، فالقراءة أمست وسيلة لتكريس السذاجة وتغييب الوعي، مما أنشأ حلقة مفرغة من القرّاء السطحيين يقرؤون لكُتّاب أشد سطحية.

وفي النهاية نتج ما يسمى بـ”وهم المعرفة”، فلكثرة ما “يلمحه” الشباب من معلومات، يظنون أنفسهم من الحكماء، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك.

ختامًا، فإنّ ما تم التعرض له من بعض نماذج “النخبة المثقفة” مغزاه أن استخدام الروايات والكتب ذات المحتوى البسيط لترغيب الشباب بالقراءة وتقريبها إلى نفوسهم، ليس نهاية المطاف، بل مجرد البداية لمساعدة الشباب للغوص في بحار الفكر والمعرفة.

وما يغفله الكثيرون أنّ القراءة بمفهومها الصحيح هي أيضًا ليست غاية بذاتها، فهي تغدو بلا طائل إن لم تفترن بمحاولة تغيير المجتمع ونشر الوعي فيه. فالقراءة لم تكن يومًا إلا وسيلة تُساهم في نشر وعي مجتمعي يكون بدايةً لنهضة أمة.

وفي الخلاصة، على من لا يقرأ أن يقرأ، وعلى من يقرأ أن يعرف ماذا يقرأ، وعلى من يعرف ماذا يقرأ أن يحاول التغيير وينشر الوعي.