image_print

هل يُطلب النصر من موقع أمازون؟

في خضمّ الأحداث الحالية في غزة، قد يسأل سائل: ماذا استفاد أهل غزة من هذه المعركة؟! دُمّر القطاع كاملاً، واستشهد أكثر من ٣٥ ألف شخص بين نساء وأطفال وشيوخ.. أصبح الناس كلهم في الخيام وأماكن النزوح، وهناك خطط تتحدث عن التهجير الكامل لأهل غزة من القطاع.. فماذا استفادت غزة مما يجري؟

الحقيقة أن رؤية المشهد بهذه الأبعاد المادية الضيقة، هي رؤية محدودة وقاصرة. أما لرؤية المشهد كاملاً فيجب توسيع الإطار zoom out لمعرفة الأبعاد الأخرى للمشهد.

النصر في ظل طغيان المادة

في عصرنا الحالي الذي طغت فيه الأشكال المادية والرفاهية والاستهلاكية على حياة الإنسان، يظنّ كثير من الناس أن النصر سهل، يأتي نتيجة الحسابات المادية فقط، أي بالإنفاق العسكري عبر تجهيز العدة والعتاد، كأنك تشتري أغراضًا من موقع أمازون مثلاً! وإذا صحت حساباتك وخطك فإن النصر سيأتي تلقائيًّا!

بعضهم يظن أن النصر والتمكين يشبه مباريات كرة القدم، لا يمكن التيقّن بالفوز، لكن إذا صحّت الحسابات المادية كالتدريب الجيّد ومشاركة مدرب مخضرم ولاعبين أكفّاء، فإن ذلك سيرفع من فُرص الفوز!

بهذه الحسابات المادية الضيقة، ظن كثير من الناس إلى وقت قريب، أن قضية فلسطين انتهت، خصوصاً بعد مرحلة صفقات التطبيع العربية مع دولة الكيان المحتل. فبالحساب المادي، يصعب التكهّن بهزيمة الكيان الإسرائيلي الذي تدعمه دول الغرب وأقوى جيوش العالم دعماً غير محدود، ثم باتت تدعمه منذ بضعة سنوات بعض الدول العربية اقتصادياً وأمنياً، بهدف دمجه أكثر في المنطقة وكسر عزلته، مقابل الحصار المستمر للقضية الفلسطينية وحرمان الفلسطينيين من مقوّمات حقيقية لدولة قابلة للحياة، في أرض مزقها الإستيطان فيما تبقى مما يعرف بأراضي ٦٧..

ما الذي فات هؤلاء؟

فات هؤلاء أن معايير النصر لا تتعلق بالحسابات المادية في شيء!

وفاتهم أن المعيار الأهم للنصر هو “المعيار الإيماني”، الذي لن تجده في منظومة العولمة والرأسمالية ومنظومة التعليم الحديث المبني على أسس مادية بحتة. بل ستجده حصراً في الوحي الإلهي: في القرآن الكريم وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إننا لو نظرنا إلى السيرة النبوية من منظار مادّي بحت، لقال بعض الناس إن محمداً ﷺ قد تهوّر في معارك غير متكافئة أمام أعداء أقوى وأكثر من جيشه بكثير، ثم خاطر بأهل المدينة المدنيين وأفسد حياة الناس الآمنة المطمئنة وعرّضهم للخطر والحصار والموت..! وحاشاه ذلك ﷺ. وهنا الخطورة في هذا الفكر، فإن المنظار المادي هو كعدسة النظارة المتّسخة، تشوّه الصورة وربما قلبت معالمها على عكس ما هي عليه، فتبدو سوداء قاتمة مظلمة ومحبِطة، ما دامت تخلو من الرفاهية والمكاسب المادية كما يظن هؤلاء الناس!

أما لو قرأنا السيرة النبوية العطرة من منظار إيماني، يقول الله تبارك وتعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مَثَل الذين خَلَوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء و زُلزلوا حتى يقول الرسولُ والذين معه متى نصر الله إلا إن نصر الله قريب} [البقرة: 214] هذه سنّة الله في الصراع بين الحق والباطل، لا تمكين بلا امتحان ولا أمن إلا ويسبقه خوف..

أمثلة من التاريخ

في غزوة الخندق، واجه المسلمون معركة مفصلية صعبة، فقد حاصرهم الأحزاب من الخارج، واليهود والمنافقون من الداخل، وبلغت القلوب الحناجر من شدة الخوف: {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] وراهن الجميع أنها أيام الإسلام الأخيرة.. ولكن الله تعالى نصر المؤمنين في تلك الغزوة. وبعد عشر سنوات من غزوة الخندق، كان الصحابة يدكّون إمبراطوريتي الروم وفارس! ولكن ماذا قال المنافقون حينها؟ {ما وعدَنا الله ورسوله إلا غرورا} [الأحزاب: 12]، كلام المثبّطين نفسه يتكرر في كل زمن..

بعض الناس يقول: لماذا تهاجم مجموعات من المقاومين إسرائيل وهم ليسوا بقوتها؟

يجيب المفكر نايف بن نهار: هذه سذاجة سياسية وجهل بالدين، أما سياسياً فلأن المقاومة هي التي تؤدي إلى إضعاف العدو، فالشعوب تستمر في المقاومة حتى يضعف المحتل فتطرده، ولا توجد مقاومة في التاريخ انتظرت أن تكون بقوة المحتل، فالمحتل أصلاً لا يسمح لها بذلك.‏ أما إيمانياً، فالقرآن يخبرنا أن التعذر بغياب توازن القوى هو حجة للمتخاذلين للقعود عن القتال، مثل ما قال قوم طالوت: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} [البقرة: 249] فظنوا أن اختلال توازن القوى هي حجة لهم تُعفيهم عن القتال، ولكن كان الرد القرآني {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة: 249].

إن النظر بقلبٍ واعٍ في القرآن الكريم والسنّة النبوية، يغيّر مفاهيمنا حول النصر ومراحل الإعداد. وقربان النصر يستلزم الإيمان الصادق بالله تعالى. ولأن النصر غالٍ، فإنه يحتاج لتضحيات عظيمة. ومن أراد النصر لا بدّ أن يُبتلى، ولا بد أن يمرّ في طريق المشقة والشدة، لا من طريق الراحة والرفاهية.

سنّة الابتلاء هذه لا تحصل لعامة الناس في المجتمع، بينما تنجو منها علّية القوم كما يظن أصحاب الفكر المادي، بل الابتلاء يصيب الأنبياء في المقام الأول وهم صفوة البشر، ثم يليهم صفوة المؤمنين المتّقين مهما علا شأنهم بين أقوامهم. إن المعيار الإيماني لا يقاس بالماديات ولا يميّز الناس بين طبقات مادية واجتماعية.. بل هو يقين بالنصر لا يتزعزع، وثقة بالله لا تضعف {إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم} [محمد: 7]

صحيح أن الخسائر المادية والبشرية هائلة، لكن مع ذلك أهل غزة ليسوا ضد المقاومة بل هم الحضن الشعبي لها، لأنهم يعلمون أنها سبب عزتهم والسبيل الوحيد للنصر والتحرير وطرد المحتل.

ومع كل المآسي التي وقعت، إلا أننا ندعو أن تكون الغلبة للمقاومة، وعند رؤيتنا للمشهد كاملاً، سنرى أن العديد من الإنجازات قد حققتها على الصعيد العسكري والسياسي والشعبي والمعنوي على مستوى العالم. فقد كُسِرت هيبة جيش الاحتلال، وحُطّمت أسطورة الدولة التي لا تقهر، ويقع هذا الكيان اليوم -للمرة الأولى- في أزمة داخلية حقيقية وعميقة، ومراقبون كثر يتوقعون أن نهايته هي مسألة وقت فقط إن شاء الله تعالى.

في الختام

يمكن تلخيص معايير النصر في الإسلام في مقولة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه “نحن أمة لا تنتصر بالعدة والعتاد، ولكن ننتصر بقلّة ذنوبنا وكثرة ذنوب الأعداء، فلو تساوت الذنوب انتصروا علينا بالعدة والعتاد”.

بصائر من معاناة المسلمين

ليعذرني القارئ حين أبدأ مقالي بهذا التشبيه، فلي من ورائه غاية.. إن مثل أمتنا الإسلامية كمثل رجل غافل منهك، ليس له هدف من الحياة إلا البحث المجهِد عن لقمة العيش، وتقديس الماديات، واغتنام بعض لحظات العمر في النزول عند رغباته، لكنه يجد نفسه أمام صدمات قوية على حين غرّة، تجعله تائها حيرانًا، فهو غير مهيّأ لها، ولا يدري ماذا يفعل أمامها، فتبين له هذه الصدمات مدى عجزه وتكشف له عن ضعفه وعدم قدرته على تحمل المسؤوليات عند الشدائد والأزمات، مما يستدعينا للوقوف مع هذا الضعف، نتأمله ببصائر وتفكّر.

معاناة في كل مكان

تكاد المعاناة لا تتوقف في عالمنا الإسلامي، لم يكد العقل يصحو أمام مفاجأة الإبادات والدمار وانتهاكات المتتالية التي يشيب لها الرأس ويعجز اللسان عن وصفها.

سواء من احتلال السوفييت لأفغانستان وما حدث في البوسنة والهرسك وما تلاه من احتلال أمريكي لأفغانستان ثم احتلال العراق والدمار الذي عاشته سورية على يد طاغيتها وكذلك ليبيا، وها هي غزة والسودان وميانمار والإيغور تخضع لمحو وإبادات لا تتوقف..

عندما عصفت بنا هذه الأزمات كشفت الغطاء عن أعيننا بأن وصف “غثاء السيل” بات ينطبق علينا، فلا نستطيع درء الظلم، ولا الدفاع عن مقدساتنا، أو رفع راية المقاومة ضد الأعداء الفاتكين بأمتنا!

لقد تعلمت سابقا من أساتذتنا أن الشدائد والابتلاءات تجعل الفرد يتأمل في نفسه، وفي ما قدمته يداه، لعله يستفيق ويتدارك نفسه، ويغير من حاله، حتى تنصلح أحواله، ويعود لرشده، ويلتزم بالصراط المستقيم، وما المعاناة التي تجتاح أمتنا اليوم إلا رسائل ربانية تجعلنا ندرك واقعنا المرير ونستفيق من غفلتنا، وتأمل معي معانى هذه الآية الدالة على ذلك: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} [الروم: 41].

فأي فساد أكبر من سفك دماء المسلمين وانتهاك أعراضهم وأموالهم واغتصاب أراضيهم؟ ومتى يكون رجوعنا إلى الله؟

الحجة البينة

إن المعاناة التي يعيشها مسلمو اليوم هي من قدر الله في سابق علمه، ولعل من حكمته أنها تدفعنا لنستفيق من غفلتنا، حيث لا يكون لدينا خيار ولا سبيل نتخذه ولا حجة للهروب من هذا الواقع.

إن حرب غزة اليوم -على سبيل المثال- واضحة المعالم، فالعدو واضح ومعروف، والمواجهة واضحة بين فئة مسلمة وأخرى محتلة كافرة، فإما أن نكون في صف الحق في مختلف المجالات أو نكون في صف الباطل ونصفق له. حتى إن من يزعم الحياد والصمت ما هو إلا مساند للباطل وجبروته. وقد صدق الله حين قال واصفا ما حدث يوم بدر: {وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]، وها نحن اليوم أمام لحظات حاسمة شبيهة بما وصفه الله، فعلى كل فرد منا، أمام الشدائد والابتلاءات التي تكشف لنا حقيقتنا وحقيقة واقعنا، أن يسأل نفسه بصدق: أين أنا مما يحدث اليوم؟ وماذا قدمت لنصرة الإسلام والمسلمين؟ وما هي مساهمتي في تغيير الواقع؟

هنالك من يتخذ سبيل الهروب والمواجهة غير المباشرة والاكتفاء بالمنهج السياسي أو بعض الدعم الاقتصادي، لكننا وصلنا اليوم إلى حالة لا تقبل هذه الحلول. لقد كشفت لنا الوقائع مدى تخاذل الحكومات وتعاملها اقتصاديا عن طريق التجارة وحركة التصدير والتوريد مع كيان الاحتلال مثلا، ومواصلة تزويد أعداء الأمة الداعمين للاحتلال كأمريكا وغيرها من دول الغرب بالمواد الخام من نفط وغاز وغيرها، رغم أنهم يدعمون الاحتلال في إبادته للمسلمين في غزة، وهم كذلك يدعمون الحكومات الظالمة الخادمة لهم في افقار وإضعاف شعوبهم، ويدعمون المنظمات التي تدعو لتغيير قيم الإسلام والمجتمعات المسلِمة، وحين تقع الانتهاكات من أطراف يدعمونها يغضون الطرف عنها، فاليوم نرى في السودان نساء تغتصب على يد ميليشيات ظالمة مدعومة من عدة دول عربية وغربية، فأين المنظمات النسوية العالمية التي صدعت رؤوسنا بالمساواة المطلقة للمرأة والداعية للحرية المطلقة للمرأة من كل قيود الدين؟

إن الشدائد المعاصرة التي نعيشها اليوم في حرب غزة تكشف لنا الحجة البينة التي لا شك فيها، لنرى فيها حكمة الله وتمحيصه، فإما أن نكون من المؤمنين الصادقين والثابتين والمجاهدين في سبيل الحق وإما أن نكون مع أهل النفاق والضلال والكفر، ولولا هذه الأحداث في مختلف البقاع ما عرفنا حقيقة الحكومات والشعوب والأفراد!

إن من سنة الله في خلقه تواصل الصراع بين الحق والباطل، ومن يقف في صف الحق سواء في نقل الحقائق كما هي أو بالكلمة أو بالحركة الميدانية فإنه سيجد نفسه فردا كان أو جماعة في مواجهة مختلف التيارات المتفرعة عن الباطل سواء كانوا أفرادا أو منظمات أو حكومات ولذلك وجب علينا التشبث بالحق والثبات عليه بدون مداهنة، لأن هذا ديدنهم في مواجهتنا كما بينه الله عز وجل في قوله: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102]، ورغم أن الإطار العام لهذه الآية يتحدث عن حالة الحرب وأداء الصلاة التي هي عبادة بأن لا يغفل المسلمون عن أسلحتهم التي هي وسيلة للجهاد حتى لا يفتك بهم أعداؤهم من الكفار الذين قد تختلف جهات انتمائهم، فنحن أيضا يجب أن لا نغفل عن أسلحتنا في مختلف الميادين كالعلم أو الكلمة أو النشاط الميداني أو الصناعة أو السياسة أو العمل حتى لا يتمكن أعداؤنا سواء كانوا حكومات أو منظمات أو أفراد أو جماعات من الفتك بنا!

السعي للتّغيير

يقول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16]، يخاطب الله في هذه الآية المؤمنين، أي نحن، وليس أحدًا غيرنا، فبالإيمان تستقيم الحياة ويصبح لها هدف ومعنى، ويغدو الإنسان مسؤولا وخليفة في الأرض بما يحمل من قضايا، وقوله {أَلَمْ يَأْنِ} يشير للفورية دون تسويف أو تأجيل، فلا نعلم كم بقي من العمر، وما نعيشه اليوم من معاناة يستوجب علينا التعجيل والإسراع.

لكن بماذا نسرع؟ تجيبنا الآية نفسها بأنه يجب الإسراع بخشوع القلب لله، بالإخلاص لله والاستسلام له، وبمعنى أوضح سمو النفس والقلب فوق حب الذات والأنانية والمصلحة وفوق المطامع والغايات الفاسدة وسموها عن طاعة الأهواء واتباع إغواءات الشيطان وأعوانه من بنى آدم، وإن لم يخشع القلب لله أصبح قاسيا متبلدا لا يحركه شيء من أجل فعل الخير أو نصرة الحق وتستعبده الشهوات والمفاسد.

إن الخشوع يكون لما “نزل من الحق” وما أنزله له لنا الله لنصلح به الحياة هو القرآن وما جاء معه من السنة النبوية، فليس في قلب مؤمن مكان لتعظيم شيء دون شريعة الله والخضوع لها بصدق، وإننا إن ابتعدنا عنه -كما هو حالنا الآن- أصبحنا أمة ضعيفة لا وزن لها تنتهك حرماتها في كل مكان بدون رادع!

فكأن هذه الآيات في هذا التوقيت بالذات تخاطبنا وتقول لنا ألم يأن لكم أن تعودوا لمنهج الله؟ ألم يأن لكم أن تعيدوا صياغة حياتكم وفق القرآن وسنة رسولكم عليه الصلاة والسلام؟ ألم يأن لكم أن تتوجهوا لتحقيق الخلافة في الأرض وتنزعوا عنكم ثوب الجهل والتخلف والجبن والوهن؟ ألم يأن لكم أن تعودوا لمفهوم الجهاد في سبيل الله الشامل بداية من جهاد النفس وتقويمها ومقاومة العدو بالسلاح وجهاد العلم بالصناعة وجهاد الدعوة بكلمة الحق؟ ألم يأن لكم وأنتم تنظرون بعجز لإخوانكم في مختلف بقاع العالم يبادون ويطردون من أراضيهم بأن تتوحدوا وتكونوا جسدًا واحد يشد بعضه البعض وتتركوا الحقد والكراهية والخلافات الموهومة جانبا؟ ألم يأن لنا أيها المؤمن وأيتها المؤمنة أن نراجع أنفسنا ونتوب ونشمر للعمل ونتحول من موضع ضعف إلى قوة كل من موقعه؟ ألم يأن لنا أن نترك البعد عن الشرع والعصيان والتمرد على أمر الله وأن تكون حياتنا كلها إسلامية؟ ألم يأن لكم أن تكسروا قيود القهر والطغيان المفروضة عليكم من قبل المستبدين؟ ألم يأن لكم أن تقاطعوا كل داعم لقتلة أهل غزة وأن تقاطعوا الثقافة الغربية التي تناصر هذه الإبادة؟ ألم يأن لنا، ألم يأن، ألم يأن.. إلخ

ليكن شعارنا منذ اليوم في الحياة: “الآن مادام في العمر بقية” ومنهجنا: “شرف الحياة في التزامنا بديننا” و طريقتنا فيها “العمل في كل الميادين في سبيل الله”، إنّ أقلّ القليل في ما نشاهده اليوم من مآسي تقع في أمتنا أن تجعلنا نستفيق من غفلتنا ونبادر بالتغيير.. والله الموفق لما فيه سواء السبيل.

فلسطين ليست الأندلس

في خضم الأحداث الجارية في فلسطين المتمثلة في حرب الإبادة في غزة، وفي أوج المجازر التي يرتكبها الصهاينة في حق أهلنا هناك، تستنفر هذه الصورة صورًا أخرى من التاريخ الفلسطيني الذي مارس فيه المحتل وحشيته، وارتكب فيه مذابح يندى لها الجبين، لتفصِح عن النمط الاستيطاني الإحلالي الذي ينتهجه الصهاينة بكل همجية.

وكعادة الأحزان إذا أتت؛ نبشت عن الأحزان القديمة، وهذا ما بدا في قول يعقوب عليه السلام عند فقدانه لابنه الآخر بعد يوسف {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] أي: ظهر منه ما كَمَن مِن الهم القديم والشوق المقيم، وذكرته هذه المصيبة الخفيفة بالنسبة للأولى، المصيبةَ الأولى. [تفسير السعدي]، وهذا تمامًا ما مررنا به إبان ما يحدث في فلسطين، فقد أحيَت بداخلنا آلاما قديمة متمثلة في ضياع الأندلس التي تشابهت معها في تفاصيل كثيرة سواء في طبيعة الاحتلال أو بعض المنعطفات التي مرّت بها، ومع الضعف العام والخذلان الذي وقع في الأمة، مما يولّد عندنا سؤالًا بَدهيًا: هل ستكون فلسطين أندلسًا أخرى؟

هل تشابه الحالة التاريخية يؤول إلى نتيجة واحدة دوما؟

قبل أن نجيب على هذا السؤال، دعونا نلقي نظرة على مدى حتمية تطابق المآلات في الحالات التاريخية المتشابهة، فعبارة “التاريخ يُعيد نفسه” من العبارات الأشهر تداولًا بين الناس عامة، ولكننا إذا تمعّنا قليلا سنجد أنّها ليست على إطلاقها، بل هناك عدة أمور تضعف حتمية تلك العبارة.

فثمة متغيرات عارضة على الجنس البشري وحالات تاريخية لم تطرأ عليه من قبل، وبالتالي فإنّ تأثيرها سيُخرج نتاجات مختلفة في الأحداث المتشابهة تاريخيًا بسبب اندماجها مع المشهد التاريخي، فعلى سبيل المثال، نشوء الشبكة العنكبوتية -لا سيما مواقع التواصل الاجتماعي- أثّر بشكل واضح في أحداث عديدة وقعت في السنوات الأخيرة أدت إلى تغيرات ديموغرافية واضحة، وإذا نظرنا إلى حالات تاريخية متطابقة في الماضي والحاضر، سنجد أنّ النتائج مختلفة بسبب حضور عامل جديد _مواقع التواصل الاجتماعي_ في هذا الحدث.

وكذا نشوء الإمبراطورية الأمريكية التي ابتدعت نظامًا جديدًا مختلفًا تمامًا عن الإمبراطوريات التقليدية، حيث إنّ الإمبراطوريات التقليدية لها سمات عامة تتمثل في كونها أرضًا ذات مركز، تتوسع لتضم أراضٍ جديدة تصبح جزءًا منها، ويصبح سكانها جزءً من الحراك الشعبي الكبير، وتمارس سيادتها على الأرض والسكان، وتُمركِز السلطة والمال في عاصمة الإمبراطورية. أما أمريكا استفادت من الأسلوب الذي اتبعه القرصان هنري مورجان، والذي كان لا يهاجم التجار، بل يهيمن على سفن القراصنة الآخرين أثناء عودتهم، ليحصل على زُبدة ما جمعوه بأقل وقت وجهد ممكنين، فاتبعت أمريكا ذات السياسة، فقد ركزت السلطة والمال فيها دون أن تتمدد خارج إطارها وتحصل على أراضٍ وسكان، وبهذا فقد أضفت طابعًا جديدًا للإمبريالية العالمية، وغيّرت من طبيعة التحركات الدولية التي كانت تُتَبع إبان الإمبراطوريات التقليدية.(١)

وكذا يجب استحضار أنّ العالم يسير في اتجاه واحد حتمي يؤول إلى نهايته، وأنّ بدايته مختلفة كليًّا عن تلك النهاية على مستوى كافة الإرهاصات، مما يعني استحالة استمرار التراتبية التاريخية، وإلا فالتراتبية التاريخية تستلزم استمرار العالم، مما يقتضي ضمنيًا أزلية الكون، وهذه الأزلية تتعارض مع يقيننا بخلق الكون، وما أجراه الله عزّ وجل من الشواهد الجيولوجية والفيزيائية والفلكية التي أصبحت تطرح بداية الكون وحتمية نهايته مُسلَّمةً علمية، ولكن ما تعارف عليه الناس من تكرار التاريخ وركنوا إليه وظنوا اطراده، ناتجٌ عن الامتداد الشاسع لعمر الكون مقارنةً بعمر الإنسان، مما أعطى فرصة لتراكم الأحداث وتشابهها أحيانًا من خلال السنن الكونية والمشترك النفسي والاجتماعي للبشر، فطبيعة النفس البشرية متقاربة إلى حدٍ كبير، وثمة سننٌ عامة أجراها الله في خلقه، فعند وقوع حدثٍ ما؛ تبدأ النفس الجمعية بالانفعال معه بصورة متشابهة في إطار السنن الكونية، مما يؤول إلى وقوع تشابه في الكثير من الأحداث التاريخية عبر الفترات التي توسطت عمر الكون، لكن ذات السنن الكونية ستختلف عندما يوشك العالم على الانتهاء، مما يعني أنّ ثمة تغيرات كلية ستحدث لم يعهدها البشر قط، وحتى عند النظر إلى الفترات البعيدة نسبيًا عن نهاية الكون؛ سنجد أنّ الكثير من السياقات والأحداث لم تسر كما تُوُقِّعَ لها، بل حدثت تغيُّرات خارجية أدت إلى منعطفات تاريخية ضخمة على جميع الأصعدة، وعند تأملها تجد أنها غير متراتبة تاريخيًا، لكنها تُمثِّل خطوة جديدة نحو نهاية العالم، لذا يمكن القول بأنّ تكرُّر بعض الأحداث التاريخية ليس متلازمة زمنية، وإنما انعكاس للمشترك الإنساني المتشابه في الكثير من الانفعالات وطرق التفكير والرغبات، مما يؤول إلى نتائج متشابهة في أحيان كثيرة.

ما مدى إمكانية وصول فلسطين إلى نفس مآل الأندلس؟

عودة إلى السؤال الرئيس الذي نحاول الإجابة عليه، وبعد معرفة أنّ الاطراد في النتائج التاريخية لمقدمات متشابهة ليس حتميًا، بل ثمة أبعاد أخرى تؤثر على تلك النتائج، فالأحداث الأرضية وإن كانت تتشابه أحيانا كثيرة لوجود سنن عامة تنفعل معها نفوس بشرية متقاربة _كما ذكرنا آنفًا_ لكن ثمة بُعد آخر لا يمكن تغييبه عن مشهد القياس عند النظر إلى حالة فلسطين والأندلس، حيث إننا سنجد وعدًا إلهيًا في محكم آيات التنزيل يُبشِّر بعودة بيت المقدس إلى حاضنة المسلمين مرة أخرى، فقد قال الله عزّ وجل {إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ لِیَسُـࣳوؤُا۟ وُجُوهَكُمۡ وَلِیَدۡخُلُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةࣲ وَلِیُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوۡا۟ تَتۡبِیرًا}[الإسراء: ٧]، والأحداث التي تقع على الأرض لا تسير بشكل منفصل عن أقدار عليا متجاوزة التنبؤات البشرية، والمآلات المتشابهة لحالات متقاربة، ولكنها تخضع لإرادة الله، سواء تمظهر هذا الخضوع في تسلسل تراتبي يستطيع البشر توقعه، أو في تقدير إلهي خاص يجزم بهذه النتيجة ولو تنافت معها بعض مجريات الواقع الآني.

وهذا الوعد الإلهي بمثابة سلاح ذو حدين، إذ إنّ استحضاره في المشهد يؤول إلى نتيجتين متباينتين:

الأولى: الاستبشار بقدوم النصر والتحرير مهما بدا الأفق مسدودًا يقينًا في وعد الله عزّ وجل، مما يعطي أملاً، ويشعل جذوة العمل في أحلك الظروف، وتتوق الكثير من النفوس إلى أن تكون ممن استعملهم الله في إنفاذ وعده، فيظل من أبناء الأمة من يعمل ويكد لعل الله يفتح به، ولعل هذا المشهد يذكرنا بفتح القسطنطينية، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَتُفتَحنَّ القُسطنطينيةُ ولنِعمَ الأميرُ أميرُها ولنعم الجيشُ ذلك الجيشُ) [أخرجه أحمد في المسند]، فأصبح فتحها هدفًا لكل قائد لعله يكون صاحب تلك البشرى والخيرية، فانبرى القادة والخلفاء في محاولات متعددة لفتح ذلك البلد الحصين، حتى تكللت تلك الجهود بالنجاح على يد محمد الفاتح، فرغم صعوبة هذا الفتح، إلا أنّ اليقين في فتحها الذي بثه النبي صلى الله عليه وسلم مع وسام شرف بالخيرية لفاتحه وجيشه، جعل من خوض غمار هذه المعركة شرفًا يتنافس عليه المسلمون.

الثاني: الركون والتواكل الذي يقع فيه البعض، فبدلًا من أن يعملوا ويقوموا بواجبهم تجاه أمتهم وقضاياها حاملين معهم الأمل واليقين بأنّ هذه الجهود حتمًا ستُكلَل بالنجاح عاجلاً أو آجلا، يركنون إلى حتمية النصر قائلين “للبيت ربٌ يحميه”، فطالما أنّ الله سينصرنا لماذا نبذل من أنفسنا وأموالنا؟ ليتشابه قولهم مع قول بني إسرائيل حينما قال لهم موسى عليه السلام ﴿یَـٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُوا۟ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِی كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّوا۟ عَلَىٰۤ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُوا۟ خَـٰسِرِینَ﴾ [المائدة ٢١]، ولكنهم تخاذلوا وركنوا إلى الدنيا وقالوا ﴿یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّ فِیهَا قَوۡمࣰا جَبَّارِینَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِن یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِنَّا دَا⁠خِلُونَ﴾[المائدة ٢٢]، بل لمّا دعاهما رجلان صالحان منهم إلى الدخول، وبَشراهم بالنصر، وقالا لهم {ٱدۡخُلُوا۟ عَلَیۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤا۟ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ﴾ [المائدة ٢٣]، فجاء ردهم في غاية الفجور والتجرؤ على الله عز وجل حيث قالوا ﴿یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَاۤ أَبَدࣰا مَّا دَامُوا۟ فِیهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلَاۤ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ﴾ [المائدة ٢٤]، فاستحقوا العقوبة، فضُرِبَ عليهم التيه في الأرض، فقد كانوا في غاية التواكل والخذلان وعدم اليقين في وعد الله ونبيه، فالنصر لا يحابي أحدا، فلا يمكن أن يكونوا جزءًا منه وقد تواكلوا وقعدوا في ساعة العسرة، فهؤلاء حريٌ بهم أن يُستبدلوا، بل عليهم أن يحذروا من عقوبة الله لهم، فالله سبحانه وتعالى يمكن أن يهلك الظالمين بصاعقة من السماء، لكنّه كتب الجهاد على عباده ليمحصهم ويعلم الصادقين الذين أذعنوا لأمره، فقد قال تعالى ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تُتۡرَكُوا۟ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ مِنكُمۡ وَلَمۡ یَتَّخِذُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَا رَسُولِهِۦ وَلَا ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَلِیجَةࣰۚ وَٱللَّهُ خَبِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [التوبة ١٦]

ختامًا..

إنّ الحقيقة المطلقة في حق الزمن أنه يمرّ، وتتقلب معه الأحداث، وتتبدل فيه الأجيال، ولا ينتظر أحدا، فإذا كتب الله علينا أن نعيش في زمن تمحيص وابتلاء وشدة، فهذا قدرنا الذي علينا أن نرضى به ونصبر عليه صبرًا جميلا، وهذا الرضى والتسليم لأمر الله سبحانه وتعالى يستلزم امتثال أوامره التي كتبها لهذه الأزمنة، ومن أهمها الاستعانة به والصبر والجهاد لرفعة هذا الدين، فنتوجه إلى العمل حاملين الأمل، سواء عاينّا النصر أو قضينا قبله، فنحقق العبودية التي أمرنا الله بها، فمآل الأندلس لن يتكرر في فلسطين، لكن مآل شعب الأندلس وارد جدًا أن يتكرر، ثم يأتي الله بقومٍ {یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ یُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَاىِٕمࣲۚ ذَ⁠لِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَا⁠سِعٌ عَلِیمٌ﴾ [المائدة ٥٤].

أسأل الله أن يُبلِّغ هذه الأمة رشدها.


مرجع الإحالات

(١)- محاضرة صراع المدفع والإرادة – د. وضاح خنفر

حوار مع صديقي المثبط

بينما أتابع ما يحدث في غزة، وأحاول أن أروج لحملة مقاطعة البضائع الأميركية على كل وسائل التواصل الاجتماعي، وبين أصدقائي ومعارفي وكل الدوائر المحيطة بي، إذ بصديق لي يراسلني متسائلاً عمّا أفعل، متهكماً على تغييري صورة حسابي على فيسبوك إلى صورة القدس، مقللاً من أهمية ما أكتبه من منشورات وهاشتاغات تدعو إلى نصرة إخواننا في غزة بأي طريقة ممكنة، وعندما سألته عن الطريقة المثلى التي من الممكن أن نساعد بها أهلنا هناك، قال إن الحل الوحيد يكمن في فعل الحرب، وبغير هذا الحل لن تتحرر القدس، ولن يزول احتلال الكيان، وإن من يتصور أنه سيخدم القدس والقضية الفلسطينية ككل بأي طريقة أخرى فهو إما مهرج مغفل، أو عميل يغفل الناس عن الهدف الأساسي. وهنا لا بد من تقدم حوار مع صديقي هذا المثبط وأشباهه الذين يعيشون في حياتنا ويملؤون صفحات تواصلنا.

حوار بادئ ذي بدء

قلت له: يا صديقي، ما الجديد في ما تقول؟ وهل تظن أن ما تقوله يغيب عن عقل طفل صغير؟ ولكنك يا أخي تغفل أننا كشعوب إسلامية نرزح في معظمنا تحت نير طواغيت، يحبسوننا عن الوصول إلى أهلنا في فلسطين، وعن نصرة قضيتنا المقدسة بدمائنا وأبداننا، ونحن كمسلمين لا نرضى أن نجلس مكتوفي الأيدي، ونتفرج على ما يحدث دون أن يكون لنا أي دور، وإخواننا هناك يقتلون ويجوعون، فلا أقل من أن نخذل عن إخواننا هناك، ونوعي الناس بقضيتهم، من باب المعذرة إلى ربنا.

فابتسم صديقي ابتسامة العاقل الرزين، عندما يخاطب الأهوج العاطفي الذي لا ينظر إلى الأمور بعمق الخبير، وقال: أنت عاطفي لا تنظر إلى الأمور بمنطق، هل تظن أن الولايات المتحدة الأميركية ستهتز لمجرد أن نقوم نحن بمقاطعتها؟ وهل تتصور أن منشوراتك على وسائل التواصل الاجتماعي ستغير من الواقع شيئا؟

أجبته: أولاً يا صديقي دعني أعرف ما تقوم به أنت لنصرة إخواننا في غزة وقضيتنا المركزية فلسطين، فامتقع وجهه من الإحراج، وقال لي: أنا مستعد للتحرك في أي لحظة للمواجهة بل وللاستشهاد من أجل الأقصى، ولكن ما السبيل إلى ذلك؟ فقلت له وحتى هذا الوقت ماذا ستفعل؟ هل ستجلس للتفرج والحسرة حتى تدرك أنك لا تفعل شيئاً الآن وأؤكد عليك الآن لقضية الأمة المركزية، فتنصرف إلى أمور حياتك وتنسى القضية بالكلية وسط ضغوط الحياة الرهيبة التي نتعرض لها بصورة يومية، وتتزايد علينا بصورة متعمدة لكي ننسى قضايانا المصيرية.

أهمية الإعلام الرقمي

سأحدثك أولاً عن أهمية المنشورات التي نكتبها على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تقلل من شأنها كثيراً يا صديقي، فلو أنك متابع لهذه الوسائل لكنت لاحظت أن القضية الفلسطينية تتعرض لحملة عنيفة جداً من الصهاينة عمومًا ومن صهاينة العرب خصوصًا منذ فترة، يهاجمون فيها فلسطين وأهل فلسطين، وكل ما يمت للقضية الفلسطينية بصلة، بل إن الحقارة وصلت بهولاء الصهاينة أن يصنعوا هاشتاغ يقولون فيه، إن عواصمهم الجرداء أفضل وأهم من القدس، وأريدك أن تعرف أن هذه الهجمة كانت تمهيدا لتطبيع تلك العواجز مع الكيان الصهيوني.

وللأسف الشديد فقد انساق وراءهم مجموعة من الناس لا تستطيع وصفهم بالمجموعة القليلة، ولا نستطيع أن نقلل من أثر هذه الحملات أو نتجاهلها، لأن الحماس الذي تشعر به الآن، والذي يولد عندك الإحساس بالغضب لغزة وللقضية الفلسطينية كلها، والقتال دفاعاً عنها بعد ذلك، نابع من وعيك بالقضية وخطورتها وصلتها بدينك وهويتك، فالوعي بالقضية هو أهم ما نملك، وخاصة عندما نتكلم عن هذا الوعي عند الأطفال والشباب، ووسائل التواصل الاجتماعي من أهم طرق تشكيل الوعي الآن، فكيف بالله عليك نترك هذا المجال للصهاينة، ليصولوا فيه ويجولوا ويضللوا عقول أبنائنا وبناتنا.

كيف نتركهم يهمشون قضايانا المصيرية ويتهمون أهلنا في فلسطين بأنهم باعوا أراضيهم للصهاينة؟ كيف نتركهم يحشوون أدمغة البسطاء بهذة القاذورات الفكرية، ونقول إن المنشورات على وسائل التواصل غير مهمة أو مجدية؟

أما عن مقاطعة المنتجات الأميركية وأهميتها، فقبل أن نتكلم عن أهمية هذا الإجراء فدعني أسألك: كيف يطيب لك أن تضع في فمك طعاماً أو شراباً أو ترتدي لباساً، وأنت تدرك تمام الإدراك أنه سيتحول إلى دعم للكيان الصهيوني، فإذا لم تكن تصبر على مقاطعة السلع الصهيونية الأميركية لأجل القدس، فأنى لك أن تصبر على حر القتال من أجلها.

هلمّوا للمقاطعة!

المقاطعة -حتى- وإن لم تكن ستؤثر اقتصادياً على الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بشكل واضح وعاجل وآني -وهذا بالطبع محض فرض جدلي- إلا أنها في نهاية المطاف رسالة لا بد منها لأعدائنا نقول لهم فيها، إنكم وإن كنتم نجحتم في التطبيع مع حكامنا الذين لا يمثلوننا، فإنكم فشلتم في التأثير علينا كشعوب، وإننا كشعوب أحياء، ننتظر الفرصة لإيقاف عنجهيتكم وبذل الغالي والنفيس في سبيل قطع دابركم.

المقاطعة أيضاً تحمل رسالة تربوية مهمة وخطيرة، فعندما يسألك ابنك عن سبب رفضك شراء منتج من المنتجات، وتقول له، إنك ترفض شراءه لأنه منتج أميركي، ولأن أميركا تدعم الكيان الصهيوني، فهذه فرصة رائعة لتوعية أولادك بقضية فلسطين بصورة عملية.

أخيراً، أقول لك يا صديقي، دع الناس تنصر إخواننا في غزة بالطريقة التي تناسبهم، فمن يستطيع المواجهة في سبيلها فهذا سيدنا وتاج رأسنا، ومن لم يستطع فالطرق كثيرة من التظاهر والمقاطعة والكتابة، ولكني أعيذك يا صديقي أن تنضم إلى كتائب المثبطين، الذين يثبطون الناس عن نصرة القضية بطريقتهم لمجرد إراحتهم ضمائرئهم، لئلا يصبحوا وحدهم المتخاذلين عن نصرة قضيتهم المقدسة.

وقانا الله وإياكم من هذا الصنف من الناس.

تأمّلات وحقائق من أحداث غزة

قصف عنيف جوي وبحري وبري يستهدف التجمّعات السكنية والمرافق العمومية من مستشفيات وغيرها، لا يستثني الأبرياء، أطفالاً ونساء وعجائز ورجالا، في أوضح صورة حديثة للإبادة الجمعية في عصرنا الحديث، من قبل ثلة مجرمين وطغاة، أمام مرأى العالم.

بعد مرور أكثر من شهرين، ما زلنا نرى شعبا صامدا صابرا شامخا ومحتسبا، في ثبات لا يمكن تفسيره إلاّ بقوة العقيدة الخالصة التّي تُهوِّن عليهم ما يحدث وتَبثُّ فيهم الأمل وروح الانتصار وتبصرنا بحقائق لا تكاد تنتهي من أحداث المواجهة بين الحق والباطل في غزة الإباء.

الإيمان أولا..

إنّها الحقيقة الأولى من هذه المواجهة، فبالإيمان الصادق تستطيع الصمود والمواصلة والسعي للانتصار المبين، ومن وصل لدرجة تجعله يقينا يجزم بأنّ ليس له حلّ ولا ملجأ إلا الله، فيُصبح الموت في سبيل الله غايته والنصر منهج حياته، فهنيئا لهم وهنيئا لكلّ من ساهم في هذه التربية الإيمانية الصادقة لهذا الجيل الذي بثّ فينا الأمل وفتح أبصارنا على حقائق كبرى كنّا غافلين عنها وهذا أوّل طريق الفتح المبين والنّهوض للأمّة أن يعود المسلمون اليوم لإسلامهم وعقيدتهم!

ما النصر إلاّ من عند الله، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 9-10] ولكن هل هذه هي الحقيقة الوحيدة المستخلصة من هدير الأقصى؟! بالطبع لا فهنالك حقائق أخرى مهمة وجب علينا الوقوف عليها في هذه الكلمات لعلّها تكون نُقطة بداية لمستقبل جديد.

الحرب الموازية

الحرب نوعان: حرب عسكرية وحرب سَرديّة، فقد تكون الحرب السردية سببا للانتصارات العسكرية عن طريق كسب الرأي العام وجعله مساندًا لقضيتك بشراسة تجعل الطرف الآخر يشعر بالخيبة والهزيمة النفسية أوعن طريق نشر أخبار كاذبة توحي للجانب الآخر بالهزيمة فتجعله يستسلم نفسيا حتى وإن كان منتصرا عسكريا فيخسر إنجازاته الميدانيّة.

نشهد اليوم تغيّرا كبيرا في الرّأي العام العالمي الذي أصبح يَبحث ويُساند القضيّة الفلسطينية بكلّ قوة فنرى مُظاهرات حاشدة في بريطانيا وأمريكا وألمانيا وغيرهم من الدول الأوربية تضغط على حكوماتها لوقف العدوان على  غزة بل هنالك من بدأ يبحث عن الإسلام بسبب قوّة صمود المجاهدين والفلسطينيين وهنالك من دخل للإسلام بسبب ذلك وهذا في حدّ ذاته انتصارا جعل كيان الاحتلال يَظهر على حقيقته، لقد أصبح مكروها عالميا، وانتشرت فكرة المقاطعات للشركات الداعمة له، وتسبب ذلك في أضرار اقتصادية مهمة وكلّ ذلك تحقق بفضل مواقع التواصل الاجتماعي بعيدا عن الإعلام العالمي الداعم لهم.

إنّ الكيان المحتل كان وما زال مُهتمًّا بهذه الحرب عن طريق نشر الأخبار الزائفة، لقلب الحقائق وكسب الرأي العالمي، ففي مؤتمر هرتسليا العاشر للكيان سنة 2010، ورد فيه أنّ الحكومات الغربية مرتبطة بالرأي العام الداخلي ولذلك يجب الاهتمام بضرورة الفوز بالحروب السردية ضمانا لدعم الحكومات الغربية لها، وفي سنة 2013 نشرت صحيفة هآرتس الاسرائيلية أنّ نتانياهو قرّر مع الاتّحاد الوطني للطلبة الإسرائيليين تشكيل وحدات سرية على مواقع التواصل الاجتماعي مُهمّتها الدّفاع عن الصورة العالمية لدولة الاحتلال بدون الكشف عن هوياتهم، وجُنِّد آلاف الطلاب من أجل ذلك كما تم تخصيص مبلغ 810 ألف دولار أمريكي لتنفيذ هذا المخطط، فصدق فيهم قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].

على المسلمين أن يستغلّوا هذه المواقع والمِنصّات وأن يعملوا بجدّ من أجل نشر الحقائق التاريخية عن القضية الفلسطينية ونقل الوقائع كما هي من مجازر وإبادة، وأن نتجنّد من أجل ذلك، فهذا ثغر من ثغور الجهاد، وعلينا نشر ذلك بلغات مختلفة لإيصاله للعالم حتى تنتصر قضيّتنا، وهذا واجب على كل شخص منّا قادر على تحمّل هذه المسؤولية نصرة لإخواننا، وبذلك يتمّ الضغط على الحكومات الغربية الداعمة للاحتلال من أجل إيقاف عدوانه وجرائمه، عملا بقوله ﷺ: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) [أخرجه مسلم في الصحيح] فأي منكر أكبر من أن ترى إخوانك صغارا وكبارا يُبادون من دون السعي لنصرتهم ولو بالقليل!

وحتى لا نبقى مرتبطين فقط بهذه المنصات علينا السعي مُستقبلًا في إنشاء مواقع ومنصّات تواصل اجتماعية عالمية خاصة بنا، ففي ظل حجب المحتوى الفلسطيني في بعض مواقع التواصل الاجتماعي والضغط على ما تبقى من صوت الحق لكتمه، وجب علينا التفكير في بدائل توصل الحق للعالم والتخطيط العملي لذلك نظرا لأهمية كسب الرأي العالمي.

قصف العقول

الحيادية، النزاهة والمصداقية، الحرفية والأمانة في نقل الأحداث كلّ هذه القيم أظهرت حرب المواجهة الحالية، زيفها لدى وسائل الإعلام الغربية والأمريكية عند نقل ما يدور من أحداث في قطاع غزة فإنّهم في مُجملهم مُنحازون إلى الرواية الإسرائيلية الكاذبة التّي تدّعى أنّ دولة الكيان لديها الحقّ في الدفاع عن نفسها وأنّ أبناء المقاومة مُخرّبون ومُجرمون وإرهابيون يحاربهم الصهاينة لإنقاذ العالم منهم، ويُسوّغون قصفهم للأبرياء على أن المقاومة تستخدمهم كدرع بشري، وكذا قصف المستشفيات بتهمة أنّها مراكز للمقاومة، وفي المقابل لا يُصوّرون للعالم مجازر الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون، ويكتمون حقيقة أن الكيان أنّه دولة مُحتلّة وظالمة!

جميعنا يعلم أن وسائل الإعلام قادرة على تشكيل العقول وصياغتها إذا ما كان المُتلقّي يثق بها ويستقي منها دون وعي، وهذا ما يحدث داخل العقل الأوروبي والأمريكي فإنّهم يصورون لهم المسلمين عامة وأبناء المقاومة خاصة على أنّهم برابرة يقتلون ويفسدون في الأرض، فيجب القضاء عليهم دون تردّد، إلى جانب تزييف التاريخ والحقائق وغرس هذه الفكرة في نفوس العامة.

ولكن هيهات لهم فقد جاءت نتائج الأحداث الحالية عكسية، فأحدثت موجة من الوعي لدى الشعوب الغربية مع وجود طفرة في نقل الصورة والحقيقة في وسائل التواصل الاجتماعي، فسقطت الأقنعة وانكشف انحيازهم لدولة الكيان. ولكن السّؤال هنا لماذا هذا الانحياز الأعمى للصهاينة؟!

إذا عدنا للتاريخ في سنة 1980 تم تشكيل لجنة الدقة والتحليلات الخاصة بالشرق الأوسط في الولايات المتحدة الأمريكية على يد اليهود الأمريكيين والمعروفة حاليا باسم “CAMERA” ودورها مراقبة وسائل الإعلام الأمريكية فمن ينشر أو يذيع ما يضرّ بدولة الاحتلال أو ينتقدها فإنّهم يقومون أوّليّا بالاحتجاج والضغط الكبير على رؤساء التحرير ومن ثمّ يتمّ تهديدهم بقطع الدعم المادي عنهم ومن ثمّ استغلال نُفوذهم السّياسي في الكونغرس وتسليط أعضائه عليهم فتكون النتيجة الدّعم التّام لدولة الكيان بل أصبحت هنالك مراقبة ذاتية داخل المؤسسات الإعلامية خوفا من ردّة فعل مثل هذه اللجان اليهودية المنتشرة في العالم، فمثلا في 26 أكتوبر 2023 قامت مجموعة من الكتاب والصحفيين الأمريكيين بالتوقيع على عريضة تتّهم الاحتلال الصهيوني وتُطالبه بوقف إطلاق النّار ومن بين هؤلاء الصّحفي جيمي لوريون من نيويورك تايمز الذّي تمّ إجباره على تقديم استقالته، كما طرِد رئيس تحرير مجلة “آرت فورم” الأمريكية دايفيد فيلاسكو لنقده للعدوان الإسرائيلي!

إن هذه الحقائق توجب علينا أن لا نبقى ساذجين وندّعي أن الغرب هو القدوة المطلقة في كل شيء، بل هو خادم لمصالح وأجندة أعداء هذه الأمة، ونحن اليوم نحتاج نشر ثقافة الجهاد الإعلامي الصادق والخادم لقضايا المسلمين عملا بسنة رسول الله ﷺ، فعن الزهري أن وفد تميم قدموا، وافتخر خطيبهم بأمور، فقال النبيﷺ لثابت بن قيس : (قم فأجب خطيبهم. فقام، فحمد الله وأبلغ، وسرّ رسول الله ﷺ والمسلمون بمقامه) [سيرة ابن هشام] فلا بد أن يقوم منّا من يُسكت أفواه هؤلاء المُزيّفين، لإيصال الصورة الحقيقية لما يحدث من قتل وتنكيل، وعلينا تطوير وسائل الإعلام عندنا لتُصبح على مستوى عالمي وزيادة الاستثمار فيها وعلينا أيضا مقاطعة وسائل الإعلام العربية أو الناطقة باللغة العربية المُطبّعة مع روايات الكيان الصهيوني والمنحازة له بل وجب علينا المُطالبة بإغلاقها وقطع البثّ عنها في أوطاننا وأن نضع المُراسلين والمُحلّلين الظالمين المناصرين للاحتلال في قائمة سوداء وأن نتبرّأ منهم وأن نُقاطع أعمالهم وبرامجهم وهذا أقلّ القليل!

السياسة الأمريكية والغربية

إنّ ما يجري هو في الحقيقة جزء من الصراع بين مُعسكر الإسلام والإيمان ومعسكر الباطل والكفر، ولو أراد البعض الهروب من هذه التسميات فإنّ ديدن الحكومات الغربية والأمريكية هو السيطرة وبسط النفوذ والتوسع في العالم، وقد انتقل اليوم الصراع بينهم وبين روسيا وحلفائها فهم جميعا ينظرون إلينا على أنّنا منطقة توسعية مليئة بالطاقات والموارد الخام ويعلمون جيّدا أنّ العرب لن ينهضوا إلا بالعودة لشريعة الإسلام ولذلك يسعون اليوم لإفشال أيّ انتصار تحققه المقاومة في غزة خوفا من استفاقة الشعوب العربية من غفلتهم فينتفضوا عليهم ويُهدّدوا مصالحهم الاقتصادية والاستراتيجية.

وما موقف روسيا والصين الدّاعم لوقف إطلاق النار إلاّ بسبب التنافس الشديد بينهم وبين المعسكر الأوروبي والأمريكي لغرض الهيمنة العالمية وليس نصرة للحقّ لأنّنا جميعنا نعلم ما فعلته روسيا في سورية، وما فعلته الصين في إقليم شينغيانغ وأهله من المسلمين، ودولة الكيان ما هي إلا امتداد للفكر الغربي الأمريكي الاستعماري في الشرق الأوسط وهم يُريدون بقائها من أجل زيادة تفكيك المسلمين وضمان خضوعهم لهم وهذا سبب من أسباب دعم الحكومات الأوربية الكبرى كفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا  وعلى رأسهم أمريكا لهذا الكيان الظالم.

هذه الحقيقة بيّنها لنا القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙمَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]، وهذا النص صريح في أن أعداء الإسلام لن يرضوا عنا حتى نُطبّع مع قيمهم ومبادئهم الفاسدة ونكون تبعا لهم في كلّ شيء، ولا بد للمنبهرين بالحداثة والديمقراطية الكاذبة أن يفتحوا أعينهم على حقيقة ما تُروّجه لهم هذه الدول من مبادئ حقوق الإنسان وحماية الطفولة والعدالة والحرية فما هي إلا دعاوى كاذبة لا يتمّ تفعيلها إلا لمصالحهم أو في ما بينهم حفاظا على الاستقرار داخل حدودهم!

من ناحية أخرى فإن للصهيونية مكر واضح، وتأثير كبير على سياسات مختلف الدول في العالم خاصّة أمريكا الداعمة لها بالمال والعتاد، ففي عام 1954 أسّس المحامي والصّحفي اليهودي كانن “اللجنة الأمريكية الصهيونية  للشؤون العامة” التي كان دورها بداية البحث عن تجمعات اليهود في مختلف الولايات الأمريكية ومن ثمّ تمّ إنشاء 435 تجمع هدفه التّواصل مع أعضاء الكونغرس وحثّهم على دعم دولة الاحتلال مُقابل التصويت لهم وكسب أصوات اليهود في مختلف الولايات، وفي عام 1959 تحوّلت هذه اللجنة إلى لوبي يهودي قوي وأصبحت معروفة بـ آيباك  “AIPAC” وتقوم هذه اللجنة بدعم المرشحين من الكونغرس الأمريكي ماديا والتخطيط لحملاتهم الانتخابية وإيصالهم لمناصب مهمّة وفي المقابل الدعم الأعمى لدولة الاحتلال. ومن ينتقد منهم الاحتلال فإنّها تسقطه من منصبه وتدعم غيره ليأخذ مكانه وقد توسّع نفوذها ليصل إلى أكبر حزبين في أمريكا الديمقراطي والجمهوري وكذلك تدعم المترشحين للرئاسة الداعمين لدولة الكيان بل إنّ هذه المنظمة أيضا قامت بشراء وسائل إعلام كبرى وجعلها تابعة لها لعرض ما تريده من روايات تخدم الكيان الصهيوني ويُوجد أيضا الكثير من اللوبيات الصهيونية في العالم التي تؤثّر على السياسات الخارجية للدول.

مثلا خلال ولاية أوباما الرئيس السابق الأمريكي قدّم خطابا يدعوا فيه إسرائيل بالالتزام بحدود 1967 ممّا أغضب ذلك دولة الكيان فقامت آيباك AIPAC بالضغط على الكونغرس الذي يضغط بدوره على الرئيس الأمريكي وبعد ثلاثة أيام في المؤتمر السنوي لهذا المنظمة قدّم أوباما خطابا مغايرا صرّح فيه على ضرورة الحفاظ على مصالح إسرائيل ورسم الحدود التي تناسبها!

هل اكتفى الصهاينة بهذه اللّوبيات للتأثير على السياسات العالمية؟!

 بالطبع لا، فالموساد الإسرائيل يقوم بتجنيد الآلاف من الأشخاص في العالم الذين ينتمون لمختلف الشرائح الاجتماعية ويعيشون حياة عادية ويسمّون بـ “الساينيم” وهدفهم المراقبة وكلّ من ينتقد أو أن يكون خطرا على دولة الكيان فإنهم يتدخلون من أجل ابتزازه أو التأثير عليه أو تسريب المعلومات المهمة واللازمة للموساد.

يعتبر هؤلاء الأفراد قيامهم بهذه المهام شرفا لهم وولاء لدولة الكيان وقد يكونون يعملون داخل المؤسسات الإعلامية أو الوزارات أو دُور الثقافة ويكون لهم تأثير واضح! وقد بين هذه الحقيقة الكاتب والعميل السابق لدى المخابرات فيكتور أوستروفسكي كليرهوي، حيث قال: “يتم تجنيد المقاتلين من مختلف فئات الشعب، أطباء ومحامون ومهندسون وأكاديميون وأناس مستعدون لتقديم أربعة سنوات من عمرهم لخدمة بلدهم ويدفع لعائلاتهم راتب شهري حسب المعدلات العادية كتعويض ويمنح المقاتل تعويضا إضافيا للعمل خارج البلاد يوضع في حساب منفصل […] ولا يجمع المقاتلون معلومات مباشرة إلا أنهم يجمعون خيوط الاستخبارات والتي تعني مراقبة الاقتصاد والإشاعات وأحاسيس الناس ومعنوياتهم وما إلى ذلك وفي مقدورهم أن يذهبوا ويعودوا ببساطة وملاحظة هذه الأشياء دون أن يعرضوا أنفسهم لخطر حقيقي”  [عن طريق الخداع.. صورة مروعة للموساد من الداخل، فيكتور كليرهوي، ص103].

بعد هذه الحقائق الكبرى علينا أن لا نَنتظر نُصرة من الغرب أو من مُنظّمات الأمم المتحدة وحقوق الإنسان، بل علينا أن نعمل من أجل الإصلاح والنهوض وتقوية أمّتنا علميا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا وأن نبذل ما نستطيع حتى نَصنع ما نحتاج بأنفسنا ونستخرج خيراتنا من أراضينا بأنفسنا وأن نصبح أقوى وندافع عن مقدساتنا دون تهاون، وأن يعمل كلّ من مكانه في خدمة أمّته عسى أن نغير حالنا للأفضل عملا بالوصية القرآنية {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وأن تكون للمسلمين في الغرب شوكة وقدرة على التأثير في السياسات الغربية، ولِم لا؟ فذلك ممكن عبر تأسيس مُنظمات وجمعيات داعمة للمسلمين، ويكون لها دور في دعم المستعدين للدّخول في الحياة السياسية أو مراقبة ما يحدث، وألّا يصمت أحدٌ على مظلمة في حقّ المسلمين، وأن يكون بالمرصاد لأعداء هذه الأمة في مختلف المجالات والاحتجاج على كل فعل أو قول فيه ظلم أو اعتداء على أي فرد مسلم.

السياسة العربية والإسلامية

التنديد والاستنكار والمطالبة بالتهدئة وضبط النفس والدعوة للسّلام في المنطقة هذه المواقف المُخزية والمُتردّية الغالبة والعامّة للحكومات الإسلامية بل من الدّناءة المطالبة بحلّ الدولتين، فكأنّ هنالك دولة اسمها إسرائيل يحقّ لها البقاء بيننا؟!

أليس اليهود هم من جاؤوا من مختلف بقاع العالم واستوطنوا في فلسطين واحتلّوها وأقاموا دولة تاريخها دموي وإجرامي فعن حلّ أي دولة يتحدثون؟! هنالك من اعترف منهم بحق المقاومة في الدفاع عن نفسها ولكن ماذا بعد؟

لا شيء! كلام وشعارات جوفاء بلا فعل ولا تغيير للواقع فإن لم تتدخّل الدول الإسلامية وتُعلن نصرة فلسطين في هذه اللحظات فمتى سوف تتدخل؟! وإن لم تقطع الغاز والنفط والمواد الأولية التي تنهبها أوروبا وأمريكا من أرضيها احتجاجا على إبادة شعبا كاملا في غزة فمتى سوف يكون لها موقف مُشرّف تقف به بين يدي الله؟!

ولا نتحدّث عن الذين يقيمون احتفالات ومواسم غنائية وينفقون المليارات، أو من يغلق المعابر أمام المساعدات في انتظار الإذن من الصهاينة وفي نفس الوقت يُقتل الأطفال والنساء ويَنقطع الوقود والماء عن إخواننا في فلسطين، ولا نتكلّم عن الخونة المتعاطفين مع الكيان الصهيوني الذين يُحمّلون المقاومة سبب ما يحدث ألا خبتم وخسئتم!

هذه حقيقة الدول الإسلامية التي نعيش فيها فإنها لا تُحرك جيوشها وقواتها العسكرية إلا لقمع شعوبها وإذلالها وعندما يتعلق الأمر بالقضايا الكبرى والمُقدّسات الإسلامية فإنهم يكتفون بالتنديد الأجوف المُذلّ والمُهين وإنّي أعتقد أنّه لن تتحرّر الشّعوب ولن تنهض أمّتنا إلا بعد إزالة هؤلاء المنافقين والطّغاة والظّالمين الذين يحكموننا فهم سبب تخلّفنا وسبب ضعفنا وذُلّنا.

عندما صعد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب المنبر فقال: أيها الناس ألا تسمعون؟ فقال سلمان: لا نسمع. فقال عمر: لمَ يا أبا عبد الله؟ قال: إنك قسمت علينا ثوباً ثوباً وعليك حلة. فقال: لا تعجل يا أبا عبد الله. ثم نادى: يا عبد الله. فلم يجبه أحد فقال: يا عبد الله بن عمر. فقال: لبيك يا أمير المؤمنين. فقال: نشدتك الله، الثوبُ الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟ قال: اللهم نعم قال سلمان: فقل الآن نسمع.

إن الأولى هو أنه لا سمع ولا طاعة لهؤلاء الحكّام الذين جاؤوا للسلطة دون شورى أو بيعة حُرّة، ولا سمع ولا طاعة لمن لا يجعل شريعة الإسلام هي المرجعية الأولى في مختلف القوانين!

من اليوم علينا كأفراد أن نعي هذه الحقيقة وأن نسعى لتحكيم الإسلام في حياتنا، حتى لا يعودوا تحت مسميات جديدة ووجوه جديدة للسلطة، وعلى كل شخص يرى في نفسه القوة والعلم والمهارة السياسية أن يُبادر باقتحام الحياة السياسية والوصول للحكم حتى لا نرى مواقف مستقبلية أكثر خزي وعار عملا بما قاله سيدنا يوسف عليه السلام عندما علم أنه لا بد له من تولى منصب الخزانة على مصر لعدم وجود من أكفئ منه وأكثر أمانة وعدل منه لم يتردد في ذلك: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ  قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 54-55].

على الأفراد دعم هذه الفئة وأن يكونوا واعين وناشطين داخل المجتمع وأن لا يَتّبعوا دعاوى المُضلّلين الباغين الفتنة بين النّاس وألا ينحازوا لمن ورائه دعم غربي صهيوني بل أن يكونوا بالمرصاد لكلّ خائن ومُندسّ  ومن هنا سوف تبدأ رحلة الحرية والعدالة والحياة الكريمة فلا وجود لحاكم في دولة مسلمة يُعادي الإسلام والجهاد ويركن لأعداء الأمة!

فالأصل أن يكون ولاة الأمر مصدر وقاية وأمان يُدافعون عن الأمة ومُقدّساتها ويُجاهدون في سبيل الله رافعين راية الإسلام لا يخافون في الله لومة لائم وأن يحرصوا على ضمان ريادة الأمة في مختلف المجالات وأن تكون هي الحضارة الفاعلة والقيادة الأولى في العالم، وصدق رسول الله حين قال: (وإنَّما الإمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِن ورَائِهِ ويُتَّقَى به، فإنْ أمَرَ بتَقْوَى اللَّهِ وعَدَلَ، فإنَّ له بذلكَ أجْرًا وإنْ قالَ بغَيْرِهِ فإنَّ عليه منه) [أخرجه مسلم في الصحيح].

الختام

نتوجه لإخواننا المقاومين في غزة وللشعب الصامد الثابت، معتذرين لهم، لأننا لم ننصرهم ولم نجاهد معهم في صف واحد، ومعذرة لكم لأننا ضعفاء في مختلف المجالات حتى ننتصر لكم، وشكرا لكم لإنكم علمتمونا دروسا عظيمة في التضحية والإيمان والثبات على الحق، وشكرا لكم لأنكم أحييتم في نفوسنا حقيقة الجهاد من جديد، وأزلتم الأغشية عن عيوننا حول حقيقة هذا العالم المنافق وغرستم فينا الزاميّة العودة للإسلام الذي فيه عِزّنا، إنّكم تُجاهدون اليوم باسم هذه الأمّة ونسأل الله لنا ولكم النصر المبين والفتح العظيم والله ولي التوفيق.

وقفة مع الفردانية وتفريغ المجال العام.. ظاهرة التدين الظاهري ومآلاته

سأقدم مقالي عن الفردانية وسعيها لتفريغ المجال العام بالقول: إنها أفيون الذات الحديثة، وأقتبس من كارل ترومان قوله: “لقد صاغت العلمانية تشوهًا حتى في عقول المتدينين”.

في ورقته البحثية المطولة، يضع الباحث عبد الله الوهيبي يده على مشكلة العصر الحديث؛ وهي فقدان المعنى في النفس. فأصبحت النفس فارغة كفراغ الكأس من الماء. ولا يتذكر الإنسان ربه إلا عند مواقف محددة تحدد مصالحه ومفاسده. وبناء على ذلك، فُرغت النفس من أي أبعاد موزونة لها ثقلها. وهو ما ترتب عليه بالتالي استبدل البعد الثقيل ببعد أخف ثقلًا وحدّة وتحررًا من اتباع القيود.

هل نحن في مرحلة مختلفة؟

مما لا شك أن هذه المواقف تتخذ من النفس جزءًا صغيرًا من هذه القواعد لارتداء ثوب الروحانية الجديدة. وتصبح النفس متمركزة حول المادة والعمل، وبهذا تصبح النفس هشة قابلة للتحطم مما يجعلها مهشمة غير عابئة إلا بنفسها.

بعد الأنانية والهشاشة، تأتي مرحلة التيه الذي وقعت فيها الدول الأوربية، فقد أضحت مفككة ذاتيًا، وينتقل التفكك للمجتمع، ليتحول من مجتمع الاستقرار لمجتمع التفكك واللا معيار بحسب دوركايم (1) ويصبح المجتمع مجتمع اللامعيار فترة طويلة حتى ينتقل للمرحلة التالية.

المرحلة التالية لذلك هي مرحلة الذوبان التام في الأشياء المادية، فيقلب العمل لعادة مستمرة، سواء أكان غربًا، أو شرقًا، لتحقيق شعارات فارغة مثل تحقيق الذات، فتتحول النفس لمحض آلة تبحث عما يحقق لها السلوان وما يعوضها من فقد، فالفقد يعوض بالروحانية الجديدة المختلة نظريًا أو بأي خلل آخر مثل الحيل النفسية كالإنكار وقلة الحيلة فقط لاحتجاجها شيء صلب تتركز إليه.

النفس التائهة في مجتمع سائل

في كتاب “العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة”، يضع المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري (2) خطوات لتصفية وإزاحة المضامين الدينية عن المجال العام وعن النفس كذلك، فيضعها في 3 خطوات أو مراحل تشبه لحد كبير مراحل السيطرة التي تحدثت عنها ناعومي كلاين في كتابها القيم “عقيدة الصدمة” (3)، وهي:

  • الجهل أو تصفية المفاهيم الدينية وقصرها على الشعائر فقط مما يجعل المرء يظن أن الدين متمركز حوله وليس العكس.
  • التشوه أو الخطأ في تصور المفاهيم الأخلاقية الكلية والسعي لاستبدالها.
  • إزاحة الأصل تمامًا وتنحيته جانبًا ووضع منظومة ورؤية شاملة يطلق عليها “العلمانية الشاملة”

رغم اختلاف كتاب كلاين عن كتاب المسيري، إلا أن الكتابين يشتركان في تفسير تيه النفس الحديثة بعد مرحلة التمركز حول البعد الواحد، سواء أكان لعبة سياسية أم لا، فالمهم هنا هو الذوبان وتحقيق المراد الذاتي الذي يصاغ وفق نظرية أنساق المعرفة الغربية، خاصة النسق الرأسمالي.

يركز النموذج الرأسمالي على زعزعة مفاهيم كبرى، ونقل الدين من المركز واستبداله بالإنسان، ثم تفريغ الإنسان من أي بعد آخر عبر خلق وهم الاستقرار والسكينة في أشياء متعددة، وهكذا يرتكب هذا الوهم ما رُسم لأجله وهو عدم وقف واستمرار دوران عجلة رأس المال حتى لا تتوقف عجلة الإنتاج المرسوم له.

كلما أحكم رأس المال سيطرته على العقل، تاهت النفس في غياهب الشركة أو المصنع التي تعمل فيها، وما هي إلا أيام حتى تندمج النفس قسرًا مع رأس المال الذي يلغي العقل ويتسبب في فقد البديهيات ويتآكل المنطق مع الوقت بسبب الوظيفة الهزلية (4).

ليس غرض الوظيفة الهزلية جعل الإنسان هشًّا أو ممزقًا أو مشوهًا، بل تأكيد استمرارية التشوه النفسي وانتصار الأمراض النفسية كالحزن والاكتئاب وتمييع الحياة ككل، وذلك كتمهيد قبول الإنسان أن يكون آلة تتعامل مع الحياة كرجل آلي لا كبشر، وهكذا تخترق بنجاح التدين وتجعله بُعدًا ظاهريًّا بعد مرحلة التآكل التي مر بها الإنسان.

تآكل العقل الحديث

من المؤكد أن العقل الحديث عقل منهار ومجنون لاعتماده على أسس تنفد، فيصدأ العقل ويموت. تمر مرحلة التآكل العقلي بداية بتآكل عدة أشياء كانت تمنع الإنسان قديمًا من السقوط والاختلال، ومن أهم تلك الأشياء هو تنظيم الإنسان لحياته الشخصية بحيث تناسبه وتمنحه القدرة على التأقلم مع ظروفه. فمنذ ظهور فكرة التصنيع، انقسم الإنسان لشخصين: العامل والمنتج، معلنة بذلك نهاية الاستقرار وتآكل الشخصية الخاصة بكليهما. وهو ما يعمل على تفسيره الفيلسوف الأمريكي ريتشارد سينيت في كتابيه “سقوط الإنسان العام” (5) و”ثقافة الرأسمالية الجديدة” (6) حيث يؤكد أن سقوط الإنسان بسبب التصنيع تابع لتكوّن ثقافة جديدة مفادها أن الإنسان يدور في فلك ضيق من المال إلى الأسرة إلى السوق، وهو ما يجبر الإنسان على الرضى بالفتات الذي يرمي له، وكذلك يتقلص إحساسه العميق بالوقت أثناء العمل، فترفض الشركات ذلك مخافة الانهيار على رؤوس أصحابها بسبب عيبها وهيكلها الخرب الذي يعمل على تذويب الإنسان.

ينتج عمّا سبق ما يسمى “بالاختراق المالي للإنسان” (7) الذي يتمحور حول الاقتصاد والوظيفة والمنصب والأسرة إن وجدت، فكان لابد من إيجاد بديل يسد فراغ الإنسان ويمنّيه بالاستقرار المنهوب والمهدور بداخله.

زيف مصطلح التدين الظاهري

للاستقرار السائل عدة مراحل في الغرب، أهمها وأخطرها جاءت في القرن التاسع عشر، حيث تصاعد بشكل متتال نقد الثوابت، مما جعلهم يعلنون موت الإله -على يد نيتشه-، ووصلت محاولاتهم أخيرًا إلى محو الإنسان على مدار قرن ونص -أي إلى الآن-.

ما جعل تلك الحركات حقًا تسيطر وتهمين على ميادين الفكر والثقافة والسياسة هو سيطرة الاختزال الممل الذي يقول “الدين هو سبب كل الشرور لتقييده الإنسان وجعله للعقل يبدو مجرد أداة”، وما يبدو غريبًا هنا هو وقوعهم فيما كان ينتقدونه بشدة، فالإنسان الآن ليس إلا حيوان طبيعي تقذفه قوى الطبيعة والشركات العالمية كما أوضح عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا وليام دافيز (8).

إن التأخر النسبي لتأثر العرب بذلك يعود لأمرين، الأول: تصفية المصالح الاستعمارية لهم، وثانيهما: هو عدم فهم -لدى بعض الناس- الفرق بين التدين الحق والتدين الظاهر، والوسطية المطلوبة.

ما يجري حقيقة هو غرس صورة معينة عن المتدين، فيُتَخيَّل أن المتدين مجرد شخص يصلي ويقوم بالشعائر ويلتزم بطريقة معينة من الحديث، وهذا رغم ما فيه من الحق، إلا أن المرجعية التي بنيت عليها هذه الرؤية هي مرجعية مشوّشة، وتتزامن مع رغبة السلطات في تفريغ المجال العام من الحركات الإسلامية الحقة التي تعطي المرء مظلة ليرجع إلى تدينه الفاعل في المجتمع والعالم كما أوضح ذلك عالم الاجتماع آصف بيات في كتابه “ما بعد الإسلاموية” (9).

ومزية أطروحة بيات أنها توضح الواقع التاريخي لفترة مضطربة في القرن الحالي، أي ما بين 11 أيلول إلى منتصف عقد الربيع العربي، حيث تسير مع تطورات المجتمع كاشفة أبعاده، فتبيّن مجتمعين مختلفين تمامًا عن بعضهما البعض، فقبل الربيع العربي كان المجتمع منغلقًا على نفسه مكتفيًا بما تقدمه الحكومات من آراء، إلى مجتمع منفتح يسعى للتغيير.

إن التغير الذي حدث في نزعة التدين عند الشباب جعلها تبدو فردية ومفرغة من التأثير، مثل الزجاج الهش، مما يؤكد أن “النزعة الفردانية جعلت التدين والدين علاقة أشبه بعلاقات الإشباع الفوري مما يجعل الخاسر الوحيد في كلتا الحالتين هو العبد نفسه”! (10)

مآلات التدين الظاهري

“التدين المغشوش قد يكون أنكى بالأمم من الإلحاد الصارخ” هذا ما قاله الشيخ محمد الغزالي رحمه الله من قبل سنين طويلة.

تخيل معي وجود شخصين، يشبه كل منهما الآخر، ويبدوان نسخة واحدة في الشكل والسلوك، إلا أن أحدهما منافق يقلّد الثاني بهدف تحسين ذكره بين الناس.. نعم.. إن الأمر سيبدو مربكًا، ليس لأنه منافق فحسب، بل لإنه يتشبه بالآخر ويسيء له في الحقيقة، فالتفرقة بينهما صعبة للغاية لعدم وجود سمة شكلية أو أسلوبية محددة تظهِر المخادع من الصادق، والذي يميز بين الاثنين هو سمات المنافقين الحقة الواقعة بين الصلابة والسيولة، وتلك السيولة لا تنفكّ عن المتدين الظاهري، وهي سيولة تقوض أسس المجتمع الصلبة خصوصًا المجتمعات التقليدية.

إن تمتع المجتمعات التقليدية بصلابة العادات والتقاليد، بغض النظر عن صحتها، تمنع المجتمع من التقويض والانهيار، وما يجعله قابلًا للانهيار هو عدم مواجهة المجتمع أو عدم قدرته على مواجهة الأفكار الغربية، لعدة أسباب، أهمها: تعطّل التطور الفكري في المجتمع، ودعم التيارات الفكرية المتناقضة، ودعم صناعة التفاهة وفقدان البوصلة، والحرص على الإمساك بالتدين الظاهري.

إن التخلص من هذا كله لا يكون إلا بصدمة متكاملة الأركان أو بناء أسس اجتماعية جديدة تتسم بالصلابة والمرونة بشقين متوازيين، شق مادي وآخر روحي، حتى لا نقع في التناقض وعدم التوافق بينهما.


المراجع والمصادر

1-عبد الله الوهيبي: معنى الحياة في العالم الحديث، 2020، ص10

2-عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، 2001 ص46 و81

3-ريتشارد سينيت، ثقافة الرأسمالية الجديدة، دار الفارابي، ص56

4-كريستوف فولف، علم الإنسان، ترجمة د. أبو يعرب المرزوقي، مشروع كلمة ص45

5-سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث مركز تكوين ج1ص165

6-Richard Sennett’’The fall of the public man’’ verso books P34

7-ناعوم تشومسكي، الدول الفاشلة، دار الكتاب العربي ص67

8-وليام دافيز، صناعة السعادة، عالم المعرفة، المجلس القومي في الكويت رقم 464

9-آصف بيات، ما بعد الإسلاموية، دار جداول، ص65

10- إسماعيل عرفة، عصر الأنا كيف انتشرت الفردانية في العالم العربي، دار ديوان، ص140

جوابات فكرية وعقدية حول الأحداث الجارية

تتوالى الأيام والأحداث على أرض فلسطين، عامًا بعد عام. ويستدعي هذا التطور الدائم مزيدًا من النقاش بيننا، ومزيدًا من توضيح الحقائق. من خلال تأمل بعض النقاط التي يكثر الحديث عنها في مثل هذه الأوقات. وسأدوِّن هذا بأسهل ما يمكنني من عبارة، وأبسط ما أصل إليه من تصور كي أشارك أوسع مدى ممكن من القراء الأفاضل. ولا أخفي أحدًا سرًّا؛ فإن ما نتداوله اليوم سويًّا قد يكون تفريجًا عن نفس صاحب السطور -وكذا الشعور عند كل الصادقين- من أن تصيبه مصيبة، وهو يشاهد مع عشرات الملايين ما يحدث في عملية “طوفان الأقصى”، وما تبعه من أحداث بدأت في السابع من أكتوبر 2023م. فإن شعور العجز عن إنقاذ أخ يستنقذك من محرقة قد يصيب أي شريف سليم النَّفس بجلطة.

فهذه بعض إجابات لبعض أسئلة شاعت أو ظواهر التي طفحت على سطح الأحداث، في مجال الفكر العربي.

أما سئِمتُم من النقاش؟!

أول ما يستحق التوضيح، هو شرعية النقاش واستمرار التداول والتدارُس في ظل الأحداث؛ فكلما جدَّ جديد واحتدمتْ الأحداث في فلسطين، وجدنا سائلًا يسأل: أما سئِمتُم من النقاش؟ أما آن لنا أن نعمل ونحرك الأحداث على الأرض؟

وهذه نقطة تستحق التوضيح حتى يكون الرد عليها مبسوطًا في أذهان الجميع.

بدايةً، أشعر -تمام الشعور- بضيق صدر مَن يطرح هذا السؤال، وأقدره. لكنْ أوضح للسائل الناقم هذه النقاط بالترتيب:

  • لا تعارض بين العمل والنقاش، كي نتعجب من أن نناقش ولا نعمل. فهذا النوع من التساؤل عن جدوى النقاش الدائم والقعود عن العمل؛ يُطرح على مَن في مقدوره العمل الآنيّ الحاليّ الفوريّ، لكنه يعزف عنه إلى نقاش في غير محلٍ.
  • أنوِّه إلى حقيقةٍ عامةٍ عن علاقة النقاش والعمل؛ أن العملَ فرعٌ عن التصوُّرِ، وتقديرِ الموقف الكلي، ورؤيةِ ما يحدث رؤيةً صحيحةً، وإلا صار العمل ضارًّا لا نافعًا.
  • سؤال جدوى النقاش يُطرح ويُثمَّن، ويزداد رسوخًا أثناء تصوُّر مشهد الوعي العربي والإسلامي تجاه القضية الفلسطينية ثابتًا؛ أقصد بذلك أن وعينا (صورة المسألة الفلسطينية في الذهن العربي) مُوحَّد -إجمالًا- مُتَّفَقٌ عليه، بلا خوفٍ من تبدُّل أو تزييف. وأسأل: هل هذه هي الحال الآن؟ الإجابة واضحة: لا. فالساحة العربية تشهد الكثير من محاولات التزييف وتبديل الموقف كليَّةً تجاه القضية، وبثِّ رُوح اللامُبالاة في نفوس العرب تجاه فلسطين، بل بدأ تجريف الوعي يدخل حيوزًا غايةً في البشاعة؛ من خلال بثِّ رُوح الكراهية لفلسطين، والمناضلين عليها داخلها وخارجها. وهذه المؤشرات -التي كانت موجودةً دومًا، لكنها زادتْ بعنفوان ضاغط على الواقع العربي- أضافتْ معركة وعي، جوارَ معركة الأرض[1]. وقد بُذِلَتْ في سبيل إقحام هذه الدعاوى جهود سامة، تستدعي نقاشًا موسَّعًا، وتداولًا حقيقيًّا، وإبرازًا لوسائل الإقناع الناجحة في معركة الوعي فيما بيننا.
  • وأخيرًا، أنوِّه إلى ضرورة التداول المستمر لكافة قضايانا الفكرية المصيرية بيننا؛ لأن أية أمة؛ ما هي إلا مجموع من “أجيال مُتداخلة”، كلُّ جيل يُعاشر ويحيا مع ما سبقه من أجيال؛ إلى أنْ يبقى هو نفسه الجيل الأكبر، ويعيش مع أجيال لاحقة به. وكلُّ جيل يحتاج إلى توضيح هذه القضايا له؛ ليتصورها صورةً صحيحةً سويَّةً، وعليه يتصرف التصرف الصحيح. فمتى كانت القضية مُتضِحةً لك؛ فهي أقل وضوحًا عند الجيل الأصغر. ولنفهم هذا ونستحضره دومًا.

خلاصة ما في نقطة “شرعية النقاش في وقت الاحتدام” أن النقاش شرعي متاح، بل ضروري مطلوب في كل وقت. ولا يعتبرنَّ بعضُ المُتحمسين أن النقاش إماتة للقضية وللتصرف، بل هو إحياء لها في الحقيقة. على أن نتنبَّه إلى أمر هامٍّ؛ أن النقاش ذو غرض، وليس غرضًا في نفسه؛ فالنقاش لإحياء القضية، ولوضوح التصور، وللرد على كل مُغرض، وللاستعداد لغيره من الأعمال، ولاستحضار رُوح الاستنفار للتضحية وقت التضحية.

ماذا يحدث؟ وهل صحَّ تصرف السابع من تشرين الأول؟

وفي تناول ما حدث، منذ السابع من أكتوبر؛ وقع الكثيرون في عيب فكريّ؛ هو “الجزئية في تناول المشهد”، فقد فصلوه عن السياق العام للأحداث، بلا مبرر واضح للفصل. وتداولوا الاشتباك المبدوء من جانب أهلنا، وكأنه ابتداء لحدث جديد! وأخذوا يتباحثون -تحت ضغط الجهود السامة التي أشرنا إليها- عن مدى شرعية ما حدث. والحق أن ما حدث في “طوفان الأقصى” هو ما حدث قبل “طوفان الأقصى”؛ وهو ما يحدث منذ قرابة قرن من الزمان؛ فنحن في “حالة حرب” -إذا لمْ تكن تعلم-.

و”الحرب” ليست مُقاتَلَةً بين جانبين -أو أكثر- في وقت واحد، حتى يفنى أحدهما أو ينصاع لرغبة الغالب فحسب؛ بل الحرب -في حالات كثيرة- تكون حلقات وتسلسلات، بعضها بعد بعض؛ تشهد الكثير من حلقات الهزيمة، وحلقات النصر؛ وأيام العزة، وأيام العار؛ والأبطال المُقدَّمين والأنجاس المُتخاذلين. فليست الحرب بهذا التصوُّر موقفًا واحدًا متى انتهى توقفتْ الحرب، ومَن قاتل بعدها فقد بدأ حدثًا بعد أنْ لم يكن. وفي هذه الحالات من الحروب بين الأقوام المُتنازعة، ومع اختلاف ميزان القوى بين جانب يملك كل القوى وجانب لا يملك إلا ما يتوكل على الله به؛ تُسمَّى الحال الحربية أو التحارُبيَّة “نضالًا”؛ يُنافح فيه الجانبُ الأضعفُ الجانبَ الأقوى.

ومتى تمادينا وفكَّرنا جزئيًّا مع مَن يفكرون في مدى “شرعية ما حدث” -وأنا هنا لا أدافع عن فصيل بعينه، بل أنظر للقضية كلها-؛ فلا أدري داعيًا يُخرجنا للقتال أقوى من يأتي من يسلبنا أرضنا، ومصادر ثروتنا عليها، ويضمُّ إليه أراضينا الزراعية، ثم يمُنُّ علينا أن نعمل فيها أُجراء؛ لتُنتج له قوتًا وثمراتٍ يتقوَّى بها على إكمال احتلالنا، أو يُصدِّرها ليكتسب ثروةً فوق ثروة. ولا أعرف سببًا يُخرجنا للقتال أقوى من أن تتواضع فئة -أيْ تضع من قدر نفسها-، وتمثِّل دور ضحية الاضطهاد والمحرقة أمام الأمم؛ لتجد لها مكانًا تدَّعِي أنه “أرض بلا شعب”، رغم أنها أرضنا، وأقوامنا يقطنون عليها، ويمتلكونها حقًّا، لا غصبًا. فيكون الموقف والمَقال من الدول الغربية أننا -وبالمخالفة والاستغفال، والكيد الظاهر والباطن-: سنُوطِّن هؤلاء اليهود المساكين، وهم شعب بلا أرض؛ في تلك الأرض التي بلا شعب. دون ظلم لأحد، ودون انتقاص من حق أحد!

ثم متى ظهرنا -نحن أصحاب هذه الأرض- التي ادعيتم أنها بلا شعب، وطالبنا بحقنا في أرضنا؛ تحوَّل المحتلّون المساكين إلى عصابات صهيوينة، ترتكب مجزرةً بعد مجزرة لتقهرنا، وتُوسِّع من نطاق اغتصاب الأرض، ثم تُنشئ كيانًا سياسيًّا لها، وتُسمِّيه دولةً. بل تستدعي كل أحلامها القديمة، فيما ورد في سِفر “التكوين”، الإصحاح 15 الذي به بالنصّ: “في ذلك اليوم قطع الرَّبُّ مع أبرام مِيثاقًا قائلًا: لنَسلِكَ أُعطي هذه الأرض من نهر مِصرَ إلى النهر الكبير نهر الفُرات”[2]. (وفي هذا السياق أنصح بمُشاهدة الفيلم الوثائقي الفلسطيني “طريق سيدي”، حيث تتبع فيه المخرج الفلسطيني “نزار حسن”، طريق أجدادنا على أرض فلسطين، ليكشف الحقائق لمَن غابت عنه وللأجيال الجديدة[3]).

وتتوالى الأعوام، ويتقدَّم الاحتلال في غرضه، ويُضيِّق رقعة الوجود علينا -نحن أصحاب الأرض-؛ حتى ما بقي في فلسطين إلا بضع كيلومترات هنا أو هناك. والبقية محتلة، يعمل أهلها عند الاحتلال بأجر! ويتداولون هذا الأجر بالعُملة اليهودية التي أصدرها الاحتلال، الذي ينظر لبقية الفلسطينيين على أنهم خدم له، أو مرحلة مع الزمن سيعبرها. هذا، ويُضيِّق الصهاينة على غزة جدًّا في الطعام والشراب والوظائف والمعايش؛ حتى أن أصدقاء لي داخل غزة كانوا يشتكون مُر الشكوى من الأحوال المعيشية في فترات الهدوء.

وما يحدث اليومَ من مجريات فاحشة في العدوان والتقتيل؛ مجرد استكمال تنفيذ الخطة. والتي يتضح منها أن الهدف الرئيس هو محاولة دفع البقية إلى أرض عربية أخرى “سيناء”، بأي ثمن، أو على الأقل التمهيد لهذا في الحلقة القادمة من الصراع. وهذا واضح من سيادة التفكير الحربي على التفكير السياسي طوال الأيام السابقة؛ فإنهم مُصرُّون على تحقيق أقصى إفادة على الأرض، بدفع أكبر عدد للرحيل؛ بغض النظر عن صورة الدولة اليهودية في العالم. وهنا لنا وقفة مع مسألة صورة الدولة اليهودية.

فلعلنا في حاجة إلى الكشف عن مدى محافظة اليهود على صورتهم؛ فهُم من أشد الأقوام حرصًا على ذلك. ومنه أن الكيان يصرُّ منذ الحرب العالمية الثانية، على أن يصور نفسه أمام العالم الغربي خاصةً؛ أنهم قوم مُسالمون اضطهدهم الجميع، وأُقيمت لهم المحارق في الماضي، وفي الحاضر الفلسطينيون يعتدون عليهم ويظلمونهم. ولعل القارئ الصغير سنًّا لا يعرف أن الكيان من أجل هذه الصورة اخترع فكرة “الإرهاب”، وغذَّاها تغذية وئيدةً ووطَّنها في عقلية المواطن الغربي، ثم نقلها إلى البيئة العربية عن طريق وسطائه؛ لتُثمر -على مدار غالب العقدين الأخيرين- ما نشهده الآن على الساحة من فظاظة في وصم أية مقاومة بوصمة “الإرهاب”، وتصنيف أية قوة تقاومه تحت هذا الصنف.

ولعلنا في حاجة إلى الكشف عن أن اليهود -من فرط إرادتهم ترسيخ فكرة اضطهادهم- يستغلون السينما -بوصفها أحد أكبر محركات الوعي في العصر الحديث- أسوء استغلال؛ فما يمر عام منذ عقود طويلة، إلا ويخرجون فيه عشراتِ الأفلام التي تتناول ما يدَّعُون أنه حدث لهم من اضطهاد، وعشراتٍ أخرى تُظهر الشخصية اليهودية مُسالمةً وادعةً، تحمل راية التغيير للأفضل للعالم أجمع[4].

ولعلنا في حاجة إلى الكشف عن أن اليهود يجهدون في السيطرة على الوعي في كل مكان، وفي الوعي الغربي خاصةً، يُشكِّلونه بما يريدون، بالقوى الناعمة تارةً، وبالخشنة تارةً. وأكتفي هنا على السيطرة الفكرية الخشنة بمثال واحد، لأستاذ الأدب الفرنسي “روبير فوريسون” (وهو يشبه عبد الوهاب المسيري عندنا؛ حيث هو الآخر مدرس أدب، تفرغ لدراسة الصهيونية)، وكتبه ممنوعة في أوربا، ومحظور تداولها لأنها تفضح حقيقة الأكاذيب الصهيونية. يقول الكاتب “أمير العِمَري” في تقديم أحد كتبه: “إن معظم -إنْ لم تكن كل- كتب وكتابات روبير فوريسون ممنوعة في فرنسا، ومحظور تداولها في معظم الدول الأوربية (الديمقراطية)؛ طبقًا للقوانين المُقيِّدة لحرية البحث والتفكير في موضوع واحد فقط، يتعلق بجماعة بشرية صغيرة العدد نسبيًّا في العالم كله؛ هي الجماعة اليهودية، والموضوع المقصود هو موضوع “الهولوكوست”، أو الإبادة الجماعية التي تعرَّض لها اليهود، إبَّان الحقبة النازية في ألمانيا، قبل أكثر من نصف قرن”[5].

وأقصد بما سقتُهُ هنا؛ أنهم يعتبرون ما يجري جزءًا شديد الأهمية من خطتهم، إلى حد المغامرة بالصورة التي يحافظون عليها أشد المحافظة، مع توالي التنديد الشعبي الغربي بما يفعلون، في ظل عصر التواصل الاجتماعي وسيولة انتقال المعلومات. فهذا يؤكد على إصرارهم تحقيقَ التهجير بأي ثمن. ورغم أن هذه الخطوة بالنسبة للقراءة السياسية المعاصرة تمثل تقدمًا ضخمًا؛ فإنها من منظور عربي إسلامي محضُ تقدُّم؛ فكلُّ هذه الأرض عربية إسلامية، والكيان يريدها جميعًا، ويريد كسر الإسلام الذي هو أكبر أعدائه؛ بمُخطط الإرهاب وبغير الإرهاب (أقصد بمخطط الإرهاب أنه صنع هذا الغول القِيَمي الذي سمَّاه الإرهاب، ليحتوي به كامل البناء الإسلامي شيئًا فشيئًا). فالمُخطَّط مُخطَّط مُثابرة، مَن يعضُّ على يد الآخر حتى النفس الأخير.

روبير فوريسون

كيف يسمح الله بكل هذه الشرور؟!

من الظواهر التي شاعتْ في هذه الأزمة الأخيرة؛ أنَّ بعضًا من المثقفين والعوام رفعوا شعار “ننتظر ردَّك يا الله”. وأنَّ كثيرًا أبدوا الاعتراض الشهير “كيف يسمح الله بكل هذه الشرور؟”، ومتى تماشينا مع هذه المقولة سنصل إلى الكفر الصريح: “كيف يكون الله موجودًا مع هذه الشرور؟”.

أما عن الشعار “ننتظر ردَّك يا الله” فقد يكون نتاج قلة الحيلة، وضعف الوسيلة من أناس ليس بيدهم شيء، لكنْ يجب أن نذكِّر أنفسنا بأمور سأوردها في آخر هذه الفقرة عن هذا الشعار. أما عن السؤال “كيف يسمح الله بكل هذه الشرور؟” فالأصل هنا أن نحرر فهم الدنيا في التصور الإسلامي؛ لنبين سوء هذا التصور.

وفي هذه المسألة خلط ضخم، ومغالطة شنيعة؛ فإن أصحابها السائلين ينسون أن الله هو مَن أرسل لهم هذا الظلم، اختبارًا وابتلاءً، ويغفلون ألَّا شيء في كون الله يقع دون إرادة الله ومشيئته. بل كأنَّهم في سؤالهم قد تصوَّروا لعبةً تسمى الدنيا، وضمُّوا الله إلى معسكر فيها، وكأن المعسكر الآخر (الشر) قد أتى وقام واقتدر أهلُهُ عليه دون علم أو إرادة من الله المُبدئ والمُعيد. وفي هذا من التقزيم لمقام الألوهية -والعياذ بالله- مما تصنعه حماقة الإنسان، وضغط اللحظة الراهنة عليه.

فالله هو خالق كل شيء، ومريد كل شيء، لا يحدث إلا ما أراد، ولا يقع إلا ما يشاء. ووقوع الضر على المؤمنين في حيز الدنيا؛ ليس إلا من مُجريات الاختبار الذي أخبرتنا العقيدة الإسلامية به، مثله مثل وقوع الخير وإسغاب النِّعَم على الإنسان. ولعل كامل هذا المعنى في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]. بل شدَّد القرآنُ التذكيرَ بالابتلاء بالمصائب والبلايا والفاجعات: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155، 156]. وقال تعالى مُبينًا عن موقف مشابه لما نحن فيه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42].

وهكذا نرى التصوُّر العَقَدِيَّ للبلايا والمحن في الإسلام واضحًا. فما الحياة الدنيا إلا اختبار، يبتلي الله فيها عباده جميعًا. وأقصد بعباده هنا العبودية القهرية لا الاختيارية، أيْ كل الناس، لا العباد المؤمنين وحسب. يُقلِّب عليهم أحوالَ الخير وأحوالَ الشر؛ أيامَ الرخاء وأيامَ الشدة؛ سنواتِ الازدهار، وسنواتِ الجدب. وكلُّ شخص في هذه الدنيا على تعاقب الأحوال بين الشدة والرخاء؛ مطلوب منه الإيمان بالله والعمل الصالح، اللذيْنِ جاءا مُقترنَيْنِ في آيات متكاثرة، منها إخباره -تعالى- عن يوم القيامة: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التغابن: 9].

ولم يسمح أصحاب هذا السؤال لعقلهم بامتداد التساؤل: ولِمَ لمْ يساعد الله النبي -وهو المُرسَل منه- وهو مضطهد داخل مكة، مُحاصَر بين أعداء له؟! ولِمَ ترك المؤمنين للمُشركين يفتنونهم قبل الهجرة؟ حتى قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110]؟ بل لِمَ لمْ يجعل الله الناس تصدِّق النبي وكلَّ نبي منذ بعثه {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34]؟..

وكلُّ “لِمَ” تجرُّ لِمَ حتى النهاية؛ لأنه مبدأ مُغالِط. فالله لم يجعل الأرض جنةً، بل وعد مَن يؤمن ويعمل صالحًا بالجنة؛ والله لم يجعل مُجريات الدنيا آخر المطاف، بل أوَّلَه وعليها يُحاسب كلُّ امرئ. بل أبدى القرآن لومًا وتقريعًا لمَن سوَّى بين اختبار الله له وابتلائه إيَّاه وعذابات الدنيا {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10].

وقد ردَّ القرآن على هذا التصور الطفولي الخاطئ مراتٍ؛ منها قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]. بل ردَّ عليه بإجمال الحكمة منها {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35]. ولا أريد الإطالة، ولسنا في مدوَّنة عقديَّة؛ لكنْ بقي أن أقول (وهو ما يتعلق بأصحاب الشعار الأول): إن رؤية الإسلام للدنيا عامة شاملة، أراد الله بها خلافة الإنسان ليُقيم أمانته على الأرض. وكلُّ امرئ مُطالَب بالإيمان، وكلُّ امرئ مُطالَب بالعمل الصالح. فأمَّا مَن استُشهِدَ دون ماله أو عرضه أو أرضه على دين الله؛ فما أرى إلا أنه أحسن غاية الإحسان حتى مماته، وأنها أفضل ميتة أكرم الله بها أهلها. لكنَّ الإشكال في كلٍّ منا؛ فكلٌّ منا ما زال يحيا ويُختَبَر في هذا الموقف العصيب الذي نشهده، وليحرص كلٌّ منا على أن يُخلِص لجماعة المؤمنين، ويهتمّ بهم غاية الاهتمام، وأن يقدم لهم أقصى ما يستطيع وما يكون في مقدوره.

ولنستمع -جميعًا- إلى وصية الرجل الصالح الذي آمن من قوم فرعون، وهو يُلخّص المشهد الكلي: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 38- 40].

المنافقون ودرس الامتحان والثبات

كنتُ في صغري أحب وأستلطف الآيات التي تتناول الكافرين صراحةً، أو المؤمنين صراحةً؛ لكنني كنت غافلًا عن آيات كثيرة في القرآن الكريم تتناول فئة المنافقين، كنت أعجب لِمَ بسط القرآن القول في المنافقين وفي صفة النفاق خاصةً، في أمة الإسلام وأمم سابقة. لكنني حينما كبرت عرفت السبب واضحًا في دنياي. وفي هذه المحنة نشهد الحكمة من آيات النفاق العديدة في القرآن؛ فلا صوت يعلو فوق صوت النفاق الخبيث في هذا الاختبار.

كنت وأنا صغير أعجب؛ لِمَ يدعو القرآنُ لإخراج هذه الفئة من القتال في أوقات اشتداد المحنة وأُزُوف القتال {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47]. أليس استكثار العدد أولى؟ -هكذا فكرت وأنا صغير-. لكنني اكتشفت السبب في كبري.

يا الله! يا لها من كاشفة فاضحة تلك الاختبارات التي يُؤذن الله بابتلائنا بها -كما فهمنا سويًّا أعلاه!-وسبحان مُمحِّص القلوب بأيدي المواقف! فما بين “ولي أمرٍ” أمانتُهُ مَعقودة بالتحرُّك؛ فإذا به يتثابط في القيام بدوره، ليظهر وكأنَّ الموقف هو الذي ألجمه {وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ} [المنافقون: 1]. وبين “ولي رأيٍ” أمانته في توعية الناس؛ فإذا به قد أضلَّ الناس، وسعى فيهم سعي السوء، يشوه المناضلين المنافحين القائمين بحق الله، وهُم في أقسى الظروف وأشظف الأحوال. ولنذكر تحذير القرآن منهم {وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} [المنافقون: 4].

فإن الهدى هدى الله، والحق أبلج واضح. وإن هاتين الفئتين من أُولي الأمر وأُولي الرأي المنافقين رسبوا في اختبارهم، فلا ترسب معهم. وادعُ بدعاء الرسول ﷺ أن يُميتك الله على الإيمان؛ فقد كان يدعو “يا مُقلِّبَ القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك”. وجاء في القرآن تنبيه على هذا {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].

مُفارقة صحة الإسلام وانتكاس أهله

من المفارقات العجيبة في هذا الدين، أنه ينتصر في كل حال، ويتأكد في كل موقف. كما قال الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. ومن أعجب دلائل صحة الإسلام؛ دليل سُفُول حال أهله المُنتسبين له على حرفٍ، آخر الزمان، وهو حديث تداعي الأمم الشهير. (يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها. فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ. ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ. فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ) [حديث صحيح، أخرجه أبو داود في السنن].

فكأن المشهد قد حُشد حشدًا، ووُصف وصفًا ما أدَّقَه وأبلغه، في هذه الكلمة من جوامع كَلِم الرسول ﷺ. وأعيد التنبيه لمَن يتداولون الحديث أن المقصود من الحديث ليس الاستسلام، والقعود عن النهوض، وتثبيط الهمم؛ بل العكس هو الصحيح بمفهوم المُخالفة. فالمطلوب هو الفرار والخلاص -الفردي والجماعي- من هذه الحال. عملًا بالحديث -وحديث بحديث- (إنْ قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألّا يقوم حتى يغرسها فليفعل) [أخرجه البخاري في الأدب المفرد]. وهذا حديث آخر يلخِّص الحل الفرديّ: (احرصْ على ما ينفعك، واستعنْ بالله ولا تعجزنَّ) [أخرجه مسلم في الصحيح]. فليحرص كلٌّ على عمل الصحيح؛ مهما رأى من مُخالفةٍ له في هذا العصر، وليحرص كلٌّ على كلِّ ما يقدر عليه من عمل.

ولعلي هنا أستحضر مثالًا على الحديثَيْن الأخيرين؛ معركةً -وهي معركة فردية لا جماعية- هي المقاطعة الاقتصادية. التي قامت بها الشعوب العربية؛ بعدما رأت تقاعُس أولياء الأمر عن دورهم، وازورارهم عن أهل النضال؛ فما كان منهم إلا أنْ قدَّمُوا أقل ما بأيديهم، بالعزوف التام عن كل منتجات الأعداء (بالقطع وجود هذه المنتجات وسماحنا بأولويتها، وتقاعسنا عن الإنتاج ذنب يقع على من بيده الأمر). وقد أحدث هذا الخلاص الفرديّ الذي رآه الأفراد واستحسنوه بالغَ الأثر.

تفاءلوا بالخير

وفي النهاية، أربط على قلبي وقلوب كل المؤمنين بالتذكير أن الله هو المُبدئ والمُعيد، وأنه وارث الأرض ومَن عليها، وأن التفاؤل واجب من استقراء النصوص الشرعية. ومنه حديث (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له) [أخرجه أحمد في المسند ومسلم في الصحيح بلفظ آخر]. ووصلًا بالكلام أعلاه عن مشكلة الشر؛ نجد أن هذا الشر -من جهة ومن نظرة معينة- أظهر منا وفينا التفافًا حول شئون هذه الأمة، واستعدادًا خالصًا عند الكثيرين للتضحية بالمال -كاملًا في مواقف-، أو الدم، أو بما يحتاج له أخوه، وأنه عدَّلَ من سلوكنا وقوَّم من أحوالنا -ولو جزئيًّا-، وأنه أرانا الابتلاء في درجة قاسية ليُشهدنا أن مشكلاتنا الشخصية محض هراء، وأنه أرانا المنافقين منا لنميزهم عن الصالحين الصادقين، ولنستعيذ بالله أن نكون منهم، وأنه كان فرصةً للكشف عن ازدواجية الحاكمية الغربية في معاييرهم، وفرصةً لانتشار الوعي بين شعوب العالم الغربي عن حقيقة الصهيونية، وأنه دفع ملايين الغربيين للتظاهر من أجل القضية، وأنه كسر صورةً ظل اليهود محتفظين بها، مُحافظين عليها أمام العالم.

فهذا كون الله أمامنا، يُصرِّفه الله أنَّى شاء، ويرينا من آياته العجب، ويعلمنا أننا قاصرون عن إدراك الحكمة في كل ما نرى من تصاريف الدنيا. فسبحان الحكيم المُتعالي المُدبِّر!


[1] لنقاش أوسع في هذا الجانب، راجع مقالًا لي على الشبكة، بعنوان “هل فلسطين قضية الفلسطينيين وحدهم.. نقاش عقلي”.

[2] في مسألة النصوص الدينية اليهودية راجع مقالًا لي على الشبكة، بعنوان “انتفاضة الأقصى وأسفار اليهود الدينية”. وفي مسألة القضية الفلسطينية وعلاقتها بالعقيدة، راجع مقالي بعنوان “فلسطين قضية عقيدة إسلامية.. الأدلة والنقاشات”.

[3] الفيلم متاح على موقع “يوتيوب”، على أجزاء. وهو من إنتاج الجزيرة الوثائقية. راجع أيضًا مقالي عن الفيلم بعنوان “طريق سيدي.. كيف احتلت فلسطين بدقة”؛ وقد لخصت فيه مراحل احتلال فلسطين.

[4] انظر مثالًا واحدًا على هذه الأفلام في مقالي “جوجو أرنب .. فن الدعاية اليهودية”.

[5] كتابات في المراجعة التاريخية، أكذوبة المحرقة اليهودية، روبير فوريسون، من تقديم الأستاذ أمير العمري. روافد للنشر والتوزيع، ط1، 2017م. والكتاب متوفر على الشبكة للمراجعة والكشف عن الفضائح.

هل أتاك حديث الوهن؟

إنّ المرجع الأوّل والأساسي لكلّ مسلم لمعالجة واقعه وفهمه وإدارة التّغيير هو القرآن الكريم، الذي به تُحيَ القلوب وتُبنى العُقول ويُقوّمُ السّلوك العملي للفرد وللجماعة، فهو النّور الخالد الربّاني الذي يقود البشريّة الجمعاء للنّجاة في عصرٍ انتشرت فيه الظُّلمات والجاهليّة العمياء، واستفحل فيه الفساد القاتل لكلّ مظاهر الفطرة  السّليمة والإنسانيّة، ومن اتّبع غير سبيله ظنًّا منه أنّ الإصلاح يكون في اتّباع مناهج بشريّة ضالّة فإنّه لا يخدعُ إلاّ نفسه، ولن يكون إلاّ مُتّبِعًا للأهواء وما تُمليه عليه شياطين الإنس والجنّ من إغواءات.

ومن بين آياته الخالدة التّي تصفُ لنا موضع الدّاء في حياتنا وكيفيّة علاجها نقرأ قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، فالوهن هو من أخطر الأمراض المُستشرية فينا فخلّفت الجُمود والفساد والجهل داخل مُجتمعاتنا. فما هو مرض الوهن الذي نهانا الله عنه؟ وماهي مظاهره؟ وما هو سبيل العلاج منه؟!

أريد قبل ذلك الإشارة أنّ بعد بدايتي في كتابة هذا المقال بدأت معارك “طوفان الأقصى” من قبل المقاومة الفلسطينية في غزة، مما أشعل الأمل جديد في نهوضنا مرة أخرى، وتحرّر أرضنا، فعسى أن يكون ذلك بُشرى لطوفان التّغيير داخل أمّتنا الذي نمحو به مظاهر الضّعف والوهن، فأمّة الإسلام تضعف وتمرض لكنّها لا تموت ولا ينقطع الخير منها وستكون لها الغلبة والنّصر بإذن الله إذا أفاق المُسلم من غفلته وأخذ بأسباب التّمكين في الأرض ولنجعله طوفان الأقصى وطوفان النّهوض والانتصار!

الوهن ومظاهره

إذا بحثت في مُختلف المعاجم العربيّة عن مفهوم الوهن فإنّك فستستنتج أنّه الضّعف النّفسي والعملي والاستسلام للواقع والرّضا بالذلّ والانحطاط والقبول بالدّنيّة في الحياة، وهذا المرض أصابنا في مُختلف المجالات وبسببه لم نُحدِث أيّ تغيير حضاري في الحاضر، بل مُنذ قرون عدّة، حيث نشهد تقهقرًا وانكماشًا مُتواصلًا للمُجتمعات المُسلمة في مُختلف بقاع العالم.

العقيدة هي اللّبنة الأساسيّة لبناء المُجتمعات القويّة والنّاجحة والتي يجتمع جميع الأفراد حولها، لتكون منهج حياتهم ومرجعيتهم الأساسيّة في وضع القوانين وتنظيم الحياة، وفي الأصل يكون الجميع موقنون بها، ومُتّفقون عليها.

من شدّة الفراغ العقائدي والضّعف أصبح منّا أقوامٌ يبحثون مجهريًّا عن الاختلافات العقائديّة الفرعيّة التّي لا حرج فيها فيَكثُر الجدال حولها حتّي يصل بهم الأمر للتّصنيف والتّكفير والتّشويه وبثّ الكُره والفتنة بين النّاس وإدخالهم في صراعات أحيانًا دمويّة وخصومات كُبرى نحن في غنى عنها وما جُعلت العقيدة إلاّ لتوحيد الأمّة والبناء كما فعل قبلنا سلفُنا الصّالحُ، ولكنّنا اليوم لم نأخذ من مفاهيمها إلاّ الجزء القلبي والقولي مع غياب العمل بها، فأصبحنا بالكاد نرى مظاهرها في الحياة وأصبحت القوانين العامّة مصدرها البشر لا شريعة الإسلام، وبالتّالي أصبحت القوانين المُنظّمة للحياة سببًا في الشّقاء والمحاباة وخدمة المصالح الخاصّة على حساب المصلحة العامّة.

درجات أخرى من الوهن

لم يكن الأمر ليقف هنا بل وصل بنا بأن تحمي هذه القوانين الفاسدين الطّغاة كثيرًا، وتُحاسب المُصلحين الطّاهرين وتُنزلُ بهم أشدّ العُقوبات بسب دعوتهم للتّغيير، وأصبحت تُنتهك الحُرُمات في الفضاءات العامّة الرّقميّة والواقعيّة وفي وسائل الإعلام المُختلفة بدون مُبالاة، بل يُسمحُ بذلك داخل المُجتمعات الإسلاميّة فترى التمرّد على الأخلاق الإسلامية، فتسمع باعتياد اللّغو في القول والإيحاءات الفاحشة باسم اللّهو والتّرفيه، بل يصلُ الأمر بالاستهزاء بشعائر الإسلام علنًا بين المُسلمين، والتمرّد على الحياء فثمة تحقير للحِجاب وعدم احترام شُروطه كثيرًا لدى أهله، إلى جانب نشر التعرّي الفاجر بين نساء المُسلمين باسم الحداثة والنّسويّة.

خلّف الوهن العقائدي في الناس كثيرا من مظاهر الاضطرابات النفسيّة عند الأزمات، فتصِلُ بهم أحيانًا للانتحار بسبب الغفلة عن الحقيقة الكبرى بأنّ هذه الحياة دار ابتلاء مُسيّرة بأمر الله وقضاءه سبحانه وتعالى وتعلّقًا منهم بالحياة الماديّة ونتائجها التي هي بيد الله وحده أو اللّجوء للعُنف والطُغيان حفاظًا على مصالحه الدّنيويّة فقد يسرقُ المُسلم ويَقبل بالرّشوة ويُشارك في الفساد ويُدافع عنه ويكذب ويغشّ من أجل البقاء الموهوم والحفاظ على المظاهر الاجتماعيّة الزّائفة.

لقد أصابنا الوهن أيضا على المُستوى الشّخصي فكثير منهم أصبحوا ضعيفي الشّخصيّة، يخجل من دينه وإظهاره عمليًّا في سلوكه خوفًا من نظرة الآخرين المُنحرفين عن منهج الله المُتّبعين لأهوائهم البشريّة، بل أصبح مُطيعًا لهم شعوريًّا أو لا شعوريّا كطاعة العبد لسيّده فنتَج عن ذلك التّقليد الأعمى في المظهر باسم الموضة العالميّة والتّقليد الأجوف للسّلوكيّات باسم الحداثة والتحضّر، فأصبح الفرد فريسة سهلة تعصفُ به وساوس شياطين الجنّ والإنس بتزيين الشهوات والفواحش وتحسينها في نظره بدون مُقاومة نفسيّة منه مع العجز التّام للرّفض وانشاء حياة حرّة خاصّة به وفق المنهج الرّباني الذي يُؤمن به.

تطوّر هذا الاستسلام النّفسي حتى أصبحنا نرى المُنكر داخل مُجتمعاتنا فنلتزم الصّمت ونقبل به ونتعايش معه ولا نسعى لرفضه والتّوجيه للخير والمعروف الذي أمر به الشّرع، فنرى الظّلم ونستكين له ويُوالى أهله الطُغاة الذين يسوموننا أشدّ أنواع التّنكيل في هضم حقوق العامّة وحرمانهم من حياة كريمة عادلة وآمنة، ونرى في تعامُلاتنا اليوميّة اللاّمصداقيّة والانتهازيّة والأنانيّة فنقبل بذلك ولا نأخذ مواقف حازمة تحدّ من كلّ ذلك ولو بالكلمة، بل من شدّة ضُعف الشّخصيّة عندنا في حالة تعارض المصلحة الدّنيويّة مع أمر ديني وقيمة إسلاميّة فإنّنا نُسرعُ في التّنازل عن مبادئنا من أجل عرض دنيوي زائل.

الإعلام.. وتسويق الوهن

يُعتبر الإعلام أقوى وسيلة لتوجيه الرّأي العام وإعادة صناعة العقول والتحكّم فيها، فمن شدّة وهنِنا الإعلامي اليوم عدم قُدرتنا على إعادة تشكيل فكر المُسلم عن طريق مختلف وسائل الإعلام بل هنالك فئات طاغية تدير إعلامنا وفق المصالح الغربيّة فتُنتج لنا برامج ومُسلسلات تنشر الرّذيلة وتُشجّع على التحلّل من الثوابت الإسلاميّة فترى فيها دعاوى فاجرة للسّفور والتميّع وللسّلوكيّات المُخلّة بالحياء.

لقد كشفت أحداث طوفان الأقصى الأخيرة كيفية تسخير الغرب آلة الإعلام العالميّة من أجل تشويه المُقاومة واتّهامه بقتل الأطفال والاعتداء على النّساء بدون رحمة أو شفقة وفي المُقابل إخفاء جرائم الاحتلال الذي يقصف المستشفيات والمباني السّكنيّة والمساجد والجامعات بدعوى الدّفاع عن النّفس، فقد زرع هذا الإعلام المُضلّل في نفوس البعض الحقد والكراهية ضدّ المُسلمين والفلسطينيين خاصة ممّا دفع رجل مسنًّا في أمريكا لقتل طفل فلسطيني طعنًا والاعتداء على والدته!

في المُقابل مازالت بعض الجهات الإعلاميّة عندنا تلتزم الحياد إزاء القضيّة الفلسطينيّة وتسعى للتأثير على الرّأي العام سلبيّىا وشيطنة المُقاومة! بل أصبحنا نستخدم الإعلام من أجل تشويه رموز الإصلاح عندنا من علماء ومُفكّرين وتبرير ما تقوم الحكومات الظالمة من تقييد حرّياتهم والزجّ بهم في السجون وقمعهم!

نحن نعيش أيضًا وهَنًا علميًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، حيث تُشير الإحصائيّات وفق مؤشّر الويبو العالمي للابتكار لسنة 2022 عدم وجود أيّ دولة عربيّة مُسلمة في قائمة العشرين الأوائل بل أوّل دولة عربيّة وحيدة هي الإمارات في المرتبة 31 ضمن 50 دولة من العالم!

لقد أصبحنا لا نهتمّ إلا بالجانب الاستهلاكي العام ولا نقضي السّاعات الطويلة إلاّ في تتبّع المشاهير على مُختلف منصّات التّواصل والبحث عن طريقة عيشهم وعاداتهم ونقضي أوقاتنا أيضًا في التّفاهة المرئيّة والمقروءة والسّمعيّة وزد على ذلك إبداعنا المُتواصل في الثرثرة غير الهادفة والنّقد غير البنّاء، فالعلم والصّناعة والتّكنولوجيا الحديثة ليست من أهمّ المحاور في حياتنا.

أمّا على المُستوى السياسي والاقتصادي فإنّ صنّاع القرار عندنا ليست لهم الإرادة والمنهجية الواضحة في وضع الاستراتيجيات والاستثمارات اللازمة من أجل تحقيق نهوض علمي وصناعي واقتصادي، بل يعيشون تحت أوهام صندوق النّقد الدّولي المُستعبد لنا!

أمّا سياساتنا الخارجيّة فهي مُحرجة فمن شدّة ضُعفنا فإنّ حكوماتنا عاجزة عن رفض ما يحصل من جرائم واعتداءات على المُسلمين في بقاع العالم مع لزوم الصّمت بل وصل الأمر بالتّطبيع الفاجر مع أعداء الأمّة ومُوالاتهم الذين هم أنفُسهم يستنزفون خيراتنا من مواد خام مُختلفة ويبُثّون الفتن في مُجتمعاتنا ويتعاملون معانا بعقليّة استعماريّة بحتة ويُملون خياراتهم علينا مع وجوب تنفيذها.

وهننا بين السياسة والمجتمع

ما يحصل في هذه الأيام من جرائم بشعة تجاه إخواننا في غزّة على يد الكيان الصّهيوني المُحتلّ خير دليل على ضُعف سياساتنا الخارجيّة فأغلب الحكومات الإسلاميّة إمّا التزمت الصّمت واكتفت بالمتابعة من بعيد وبعضهم أصدروا بيانات تدعو للتّهدئة بل هنالك من يُحمّل المُجاهدين في فلسطين إثم هذه الجرائم ويتعاطف مع الكيان الغاصب، وفي المُقابل سرّعت دول -مثل أمريكا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا- للإعلان رسميّا مُساندة الكيان الصّهيوني واستعدادها لدعمه بمُختلف الوسائل المُتاحة! فعجبًا لقوم رضوا بالذلّ وسعى حكامه لإرضاء جلاّديه والخضوع لهم وهم يستبيحون دماء إخوته!

لابدّ لنا أيضًا من ذكرِ الوهن الاجتماعي، فعلاقتنا فيما بيننا تنزل في الوهن والضعف والأحباط، والأنا طاغية، ولا يَنصر بعضنا البعض دفاعًا عن العرض أو الكرامة أو المال، فقد يُهان الفرد أمامنا أو يُعتدى عليه فترى الآخرين ينظرون إليه نظرة اللامُبالاة مادُمت لستُ أنا الضحيّة، بل ورّث هذا الضعف الفردانيّة في الحياة والمصلحة خاصة أصبحت أعلى من المصالح الجماعية المُشتركة وبالتّالي وصلنا إلى حدّ التفكّك الاجتماعي وضعف الرّوابط وانتشر الخوف وعدم الثقة والطمأنينة مع الآخر الذي قد يؤذيك في تعاملاته بل قد يهضم حقوقك من أجل منفعته الخاصّة، فقد يصلُ الأمر بالوشاية وتسليم المُسلم لأعدائه ليفتكوا به بدون مُبالاة!

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم في تشخيصه لمرض الوهن الذي أصاب الأمّة حين قال: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت) [أخرجه أبو داود في السنن]، فعذرًا لإخواننا في غزة وفلسطين الذين تُستباح دمائهم يوميّا من قِبل كيان ظالم مُجرم، فقد أصابنا الوهن وتخلّت الأمة عن فاعليتها، لكنّكم اليوم أبطال التاريخ الحديث أشعلتم داخلنا لهيب التّغيير والعودة للمجد والكرامة وحبّ الجهاد في سبيل الله فاثبتوا فإنّا قلوبنا معكم واعلموا أن النّصر من عند الله ولا تهنوا لما أصابكم فأنتم رمز عزّتنا وقوّتنا.

هل من علاج للوَهَنُ؟

إنّ أوّل خطوة في علاج الوهن هي إعادة بناء العقيدة وترسيخها في القلب، وقد يقول أحدنا إنّا جميعًا نُدرك هذه الحقيقة، ولكن كيف نُصلح عقيدتنا عمليّا، فقد اكتفينا من الخطب الطنّانة ومن قراءة المقالات دون توفير الحلول؟!

إنّ العقيدة هدفها ترسيخ شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ مُحمّدا رسول الله في القلب يقينًا صادقًا وفي الجوارح عملاً خالصًا، وبكل بساطة تعني أن تعيش حياتك وفق شريعة ربّ العالمين قولا وعملا والتزاما كاملا وليس جزئيّا بأن تقوم بفرائض العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحجّ وفي المُقابل تظلم وتكذب وتحتال على غيرك وتُنافق أهل الفساد وتُداهنهم في آرائك وتنهاز لمنهجيّتهم في الحياة.

تذكّر دائمًا بأنّ المًسلم الحقّ هو من يُحكّم شرع الله في كلّ جزئيّات حياته، ولكن كيف نُحكّم شرع الله في حياتنا؟! إنّ فاقد الشئ لا يُعطيه فنحن ابتعدنا عن روح الإسلام ومفاهيمه كثيرا، فعليك أيّها القارئ أن تأخذ دينك عن علم فتبدأ بالقرآن واعرض نفسك عليه بصدق واقرأه بتدبّر، وتوسّع في تفاسيره ولا تتجاوز آياته إلاّ وقد درستها وفهمت معانيها، ولتستسلم لكلام الله ليُعيد تشكيل شخصيّتك من جديد ومن ثمّ انغمس في مُراجعة سيرة سيّد المُرسلين عليه الصلاة السّلام وتدبّر حياته وكيف طبّق فيها مبادئ الإسلام وليكن هو قدوتك الأولى في كلّ شئ، فهذا هو الطريق الوحيد الموصل لبناء عقيدة قويّة متماسكة. ولكن هل هذا سيكون بالأمر الهيّن والسّهل؟!

لن يكون الطريق سهلا فهو ممتلئ بالأشواك المُمثّلة في الفتن وتيّار المُجتمع المنجذب للمذاهب الغربيّة المُختلفة، وهذا جهاد طويل يتطلّب منك الصبر والمُصابرة والمُرابطة حتّى تُصبح مُسلمًا قويّا عاملاً بدينك صادعًا بالحقّ الذي معك لا تخشى أحدًا إلاّ الله، ولا ترجو رضا أحدٍ إلاّ الله مُخلصًا له وحده.

فإذا التزمنا بذلك -أفرادا- فكيف ستخرج الأمّة من وهنها وضعفها، وكيف سينتصر المسلمون ويُدافعوا عن مُقدّساتها؟!

إن العقيدة السّليمة تجعل المؤمن قويّ الشخصيّة يُظهر دينه بدون حرج أو خجل منه لأنّه على يقين بالحقّ الذي يملكه، فلا يسكت على ظلم أو فجور، بل يسعى للإصلاح قدر استطاعته بالكلمة أو الفعل وسيكسر قيود الذلّ التّي تفرضها الحكومات وسيطالب بالكرامة والعزّة والعدل وتحكيم شرع الله وجعلها قوانين منظّمة للحياة.

لن يرضى المسلم أن يتولّى أمره حكومة توالي أعداء دينه، أو تطبّع مع الفساد والانحلال، وسيكون هو الرّقيب عليها في كلّ قراراتها ومواقفها وانجازاتها، ولن يرضى صاحب العقيدة الرّاسخة بالغوص في اختلافات فرعيّة تؤدّى به إلى الاعتداء على أخوه المُسلم أو تكفيره واستباحة دمه، بل سيسعى لتوحيد الصّفوف والعمل على التّغيير والتقدّم ولن يُحاول إيذاء أخيه المُسلم أو تسليمه لعدوّ أو الغدر به بل سيسعى لحماية دمه وماله وعرضه ولن تكون له في ذلك مصلحة دنيويّة بل هدفه أن يُقيم الإسلام في الأرض ويُحقّق وظيفة الخلافة فيها.

سيسعى المؤمن الصادق لتعليم من حوله العقيدة الحقّة ونشرها داخل مجتمعه من أجل إنشاء جيل جديد يحمل قضايا الأمّة وينتصر لدينه، عملا بقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ مِنكُمۡۚ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} [الأنفال: 74].

لا يرضى المؤمن بالسلبيّة بل يبذل ما يستطيع من جهد لنصرة دينه، ولا يرضى بأن يكون من الخوالف، بل يُبادر لتحقيق النّهوض وإعادة بناء حضارتنا الإسلامية، ويبدأ التغيير بنفسه فيهجر المعاصي والمنكرات والاستبداد والظلم والفتنة، وإن لم يقدر على مواجهة ذلك كله، فإنه يجاهد نفسيًّا ومعنويا للثبات على الحقّ، أما الجهاد الفعلي فيكون بمقاومة كلّ مظاهر الفساد، والجهاد القتالي يكون بنصرة إخوانه ودفاعه عن مُقدّساته، وهذا كله مرتبط بالعقيدة.

وبالتنشئة على هذه العقيدة يكون هناك مديرون وموظفون ومسؤولون في مختلف المؤسّسات السياسيّة والإعلاميّة والعلميّة والعسكريّة، بإيمانهم وصدقهم، يسعون للتغيير وتحويل الأمّة إلى قوّة ذات وزن وهيبة تُحترم قراراتها ولا يجرؤ أعداؤها بالمسّ من أراضيها ومقدّساتها. وستصبح الأمّة مُستقلّة بذاتها صناعيّا واقتصاديّا ولن يأتى ذلك من فراغ بل علينا كأفراد العودة للمنابع الصّافية للعقيدة والأخذ منها وتحمّل المشاق لذلك.

فلا تيأس ولا تحزن بل ابذل ما استطعت من وقت وجهد، وسيأتي النّصر والتّغيير بإذن الله، فنحن مسؤولون عن العمل والأخذ بالأسباب، أمّا النّتائج فهي لله ومنه وحده.

لماذا نحتاج إلى علوم إنسانية وليدة مجتمعاتنا الإسلامية؟ علم الاجتماع نموذجًا

عندما نتحدث عن خصوصية الهُوية الإسلامية وما تحويه من ركائز تُشكِّلها مثل الدين والثقافة واللغة وغيرهم، فإننا نتوقع -بداهةً- أنّنا نمتلك علومًا إنسانية منبثقة من هذه الركائز وناتجة عن امتزاجها، إذ إنّ أثر مكونات الهوية في أي أمة يجعل لأفرادها ومجتمعها سمات متمايزة عن غيرها، وهذا لا يتنافى مع وجود تشابك مع مجتمعات أخرى بسبب المشترك الإنساني لكل الحضارات والاعتلاج الحاصل بينهم، ولكننا لا نجد حتى الآن منهجًا متمايزًا ناضجًا وليد مجتمعاتنا، واصفًا لها وهو ناظرًا إليها بعينها لا بعيونٍ أجنبية عنه.

لذا سنعرض نموذجًا في هذا المقال يُبلّور هذه الإشكالية ويوضح مدى عمقها، ولعلنا نرى قريبًا بإذن الله مناهج ناضجة نابعة من مجتمعاتنا.

مقدمات واحدة.. نتائج مختلفة!

في القرن الماضي وأثناء الحروب التي وقعت في منطقتنا العربية، تعرضت إحدى المدن لمخاطر كبيرة بسبب الحرب، فتم تهجير أهلها قسرًا إلى مدن أخرى أكثر أمانًا، وبعد سنوات من المعركة، هدأت المدينة وعادت إلى السكون، ولكن معظم أهلها الأصليين آثروا البقاء في المدن الأخرى بعدما تدبرّوا حياتهم فيها واستقروا.

وقامت الدولة بإعادة إعمار هذه المدينة، وبسبب تميزها الجغرافي وكثرة الموارد فيها؛ تحولت إلى مدينة صناعية بامتياز؛ مما شجع الكثير من الشباب على الانتقال إليها في هجرة عكسية من مدنهم، وبنوا حياتهم فيها وجاؤوا بزوجاتهم ليستقروا ويكملوا حياتهم في هذه المدينة. وإذا توقفنا عند هذه النقطة في رصد التغيُّرات التي حصلت في هذه المدينة جرّاء الحرب وحاولنا تحليل طبيعتها وطبيعة من يعيشون فيها، سنجد بعض المعطيات تؤول إلى بعض النتائج.

أما المعطيات، منها:

١- مجتمع نووي، فغالب الأفراد انتقلوا دون عوائلهم وبالتالي فإن أسرهم مقتصرة على الزوجين والأبناء.

٢- مجتمع صناعي، فالمسار الاقتصادي الغالب في هذه المدينة هو الصناعة والإنتاج.

٣- تجمعات سكنية متباعدة بسبب طبيعة توزيع الشركات والمصانع في المدينة.

وأما النتائج المتوقَعة من هذه المعطيات تتمثل في:

١- إن التباعد السكني والأسر النووية يحفز على الانعزال الاجتماعي ويصعب التواصل بين الأفراد، مما يعزز من جنوح النزعة الفردانية في هذا المجتمع والتمحور حول الذات، وتقلص المروءة في هذا المجتمع.

٢- طبيعة النشاط الصناعي يعطي طابعًا ماديًا تعاقديًا لهذا المجتمع، حيث إنّ النظام الرأسمالي هو المهيمن على هذه الشركات، مما يدفع إلى الإنتاج المادي المحض بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى.

ولكننا عندما ننظر إلى هذه المدينة ونرصد المخرجات الإنسانية السكانية الناتجة عنها؛ سنلاحظ بجلاء قدرًا كبيرًا من المروءة والتشارك الاجتماعي بين أهلها بشكلٍ عام، وأن الحفاظ على الأطر الأخلاقية فيها جليٌ أكثر من مدن أخرى لا تملك هذا التنوع السكاني، وأن نسبة التدين فيها مرتفعة.

مما يجعلنا نتساءل: لماذا اختلفت النتائج رغم وحدة المقدمات؟ فلو كانت هذه المدينة في المجتمع الغربي لكانت المآلات المتوقَعة لهذه التركيبة الاجتماعية صحيحة تمامًا، وكذا متناغمة بشكل واضح مع فرضيات علم الاجتماع الذي نبع من مجتمعاتهم، ومع السمت العام للإنسان الأوروبي المعاصر، فهذه المقدمات عندما تندمج مع مجتمع نُظِم من هذا الفرد؛ سيؤول إلى هذه النتائج.

وهذا المشهد يفرض سؤالًا يجب أن ننتبه إليه: ما الذي جعل النتائج مختلفة؟

وقبل أن نجيب على هذا السؤال، يجب أن نذكر أنّ علم الاجتماع عندما يقوم بدراسة مجتمع بشري ويرصد الظواهر التي فيه ليصل إلى مصطلحات عامة ناظمة لهذه الظواهر يمكن القياس عليها والتصوُّر له من خلالها، علينا أن نعي أنّ هذه الظواهر -أو النتائج- ما هي إلا نتيجة امتزاج مقدماتٍ ما بمجموع أفراد هذا المجتمع، وبسبب التشارك الثقافي والديني والعرفي بين غالبية الأفراد؛ فإن غالب النِتاج الذي ينبثق عن هذا الامتزاج يكون على قدرٍ كبيرٍ من التشابه، أي أننا يمكن أن نعتبر أنّ التركيبة النفسية للأفراد تُمَّثِّل الوعاء الذي يُشكِّل هذه المقدمات ويعطيها طابعًا معينًا، مما يعني أنّ تلك المقدمات لا تؤول بالضرورة إلى نفس النتائج أو أنها تتمظهر بشكلٍ أحادي في كل زمان ومكان، بل تدخل في وعاء المجموع البشري لهذا المجتمع بخصوصيته فتخرج شبيهة لهذا الوعاء.

لذا فقد كان التباين الكبير في التركيبة النفسية لمجموع أفراد مجتمعاتنا عن المجتمع الأوروبي سببًا مركزيًا في خروج نتائج مختلفة تمامًا، إذ إنّ الإطار الديني والأخلاقي العام جعل مقدمات الغربة والانفصال عن العائلة الممتدة حافزًا لسد هذا الشعور عند النفس والآخر، وبشكلٍ غير مُعلَن عمل الجميع على مؤازرة الآخر وتلقي ذات الدعم منه والسير في حوائجه، وكذا الإطار الأخلاقي الذي يشجع على المروءات وأصحابها كان عاملًا ممتازًا في حدوث تلك النتائج، وكذا القيم التي حث عليها الإسلام كالإحسان إلى الجار وإكرام الضيف ومعايدة المريض واتباع الجنائز وصلاة الجماعة وغير ذلك من السمات الأخلاقية الاجتماعية في الإسلام التي تعزز من الروابط الاجتماعية.

وكذا كسرت قيم الرحمة والكرم وفضل الصدقة والحث على العطاء من الطابع المادي الرأسمالي، فكان العمل في تلك الشركات والمصانع من باب تحصيل الرزق دون الانغماس في المحركات الفكرية خصوصًا في الصناعات الإنتاجية الكبرى.

لذا فإنّنا ندرك من خلال التعريج على هذا النموذج أنّ استيراد العلوم الإنسانية من أمة أخرى وإنزالها على واقعنا يعني تمامًا أننا نطمس أوعيتنا المتمايزة، فبدلًا من دراسة المقدمات الخاصة بنا، ودراسة التركيبة النفسية لمجموع أفراد مجتمعاتنا لنخرج بنتائج ندرك من خلالها شكل الوعاء الخاص بنا الذي يمكننا تفسير معظم ظواهرنا الاجتماعية من خلاله، نذهب ونأخذ نتائج خرجت من وعاء مغاير لنا تمامًا، ناتجٌ عن مقدمات متباينة، ممتزجة مع نفسيات أفراد لها خلفيات ثقافية وأخلاقية ودينية مغايرة لنا!

هل تكمن المشكلة فقط في القراءة الخاطئة لمجتمعنا؟

إنّ إشكالية القراءة الخاطئة لمجتمعنا وإنزال نتاج مجتمع آخر عليه هو جانب من جوانب الإشكاليات التي تواجه هذا الموضوع، حيث إنّ الأمر أحيانا لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتعداه ليجعل من هذه “القراءة” والتوصيف نتائجَ يُتعامل معها كحقائق علمية مطلقة يبني عليها رؤى أخرى، فالحاصل أنه يُنظِّر حول مجتمع لا وجود له في واقعه، بل منبثق عن امتداد ذهني أوروبي.

كيف يمكننا أنّ نُنضِج مناهجنا الإنسانية الخاصة؟

بدايةً وقبل الحديث عن الخطوط العريضة التي يمكن أن تفيد في هذا الصدد، يجب أن نذكر أنّ واحدًا من أهم مؤسسي علم الاجتماع هو العالم المسلم ابن خلدون في مقدمته البديعة، والتي وضع فيها أسس البحث الاجتماعي التحليلي المنهجي للمجتمع، وربط بين عناصره، وسبر مراحله، مما يعني أنّ لنا جذورًا عميقة ضاربة في هذا العلم وتاريخه، والسهم الأول فيه خرج من قوسنا، فعندما نستحضر هذا الملمح التاريخي لهذا العلم؛ تُنزَع من صدورنا هيبة خوض غمار هذا الحقل، وتعيد إلينا الثقة في القدرة على إنتاج مناهج إنسانية متناغمة مع مجتمعاتنا، وابتكار وصك المصطلحات التي تصفنا بدقة، مستوعبة الصورة الكاملة المتمثلة في المقدمات الممتزجة بمجموع نفوس الأفراد ومنعكسة على الواقع الاجتماعي، لذا نقول إنّ أولى الخطوات التي نسلك بها هذا الطريق هي استعادة الثقة في العقل المسلم الذي يستطيع أن يلاحظ ويحلل، وينتج أفكارًا، ويصك مصطلحات، ولا يكون مرتهن الفكر لثقافات ذات واقع إنساني مهترئ، ولا يشعر بالوصاية الفكرية للمناهج الغربية، بل يتعامل معها تعامل الباحث المنصف مع أي منتج فكري يصل إليه، فإنه يزنه ويقيمه تبعًا لمرجعية الوحي التي ينطلق منها، يأخذ ما ينتفع به ولا يتعارض مع مرجعيته، ويرد ما تعارض مع أصوله أو طبيعة مجتمعه.

أما الخطوة الثانية فتتمثل في قراءة المجتمع قراءة شمولية متجردة من قوالب أو فرضيات مسبقة تؤدلج تلك القراءة، فيتم استيعاب كافة المقدمات التاريخية والإرهاصات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي شكلت الواقع الاجتماعي، وكذا دراسة المقدمات المتمثلة في الأطر الدينية والأخلاقية والعُرفية التي أثرت في التشكيل النفسي لمجموع الأفراد، وكذا التباين الجغرافي الواقع في بلادنا ومدى تأثيره على طبيعة سكانه ونشاطهم الاقتصادي، وهناك العديد من الدراسات التي دارت حول موضوعات منتمية لهذا الحقل البحثي يمكن توظيفها والاستفادة منها لبلورة هذا المشروع.

أما الخطوة الثالثة تتوجه نحو الإنتاج المنهجي الذاتي، وذلك عن طريق ملاحظة وتحليل نِتاج المرحلة الثانية، ومن ثَمّ معرفة الخصائص الاجتماعية لمجتمعاتنا وما يميزها، وكذا طريقة التواصل الاجتماعي بين الأفراد، والأنماط المتكررة فيه، مما يُمكّننا من صك المصطلحات الخاصة بنا والناظمة لطبيعة مجتمعاتنا، ثم صياغة مناهج اجتماعية متكاملة تكون حقًا من جذورها نابتة من أرضيتنا وطبيعتنا وخصوصيتنا.

هل يمكن استصلاح (أسلمة) علم الاجتماع ليناسب مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟

يمكن القول بأن “استصلاح” هذه العلوم بإضفاء غطاء إسلامي عليها سيحدث إشكالًا جديدًا، لأن الأمر _كما ذكرت آنفًا_ متعلق بالأسس التي بُني عليها هذا العلم، فمساحة الاستفادة من المناهج الغربية _أو الأجنبية عمومًا_ في العلوم الإنسانية أضيق من العلوم التجريبية، لأن مناط بحثها هو الإنسان الذي تتباين طبائعه من ثقافة إلى أخرى، ولأنها علوم لها قدر كبير من الخصوصية مبنية على طبيعة كل مجتمع وما يحويه من دين وثقافة وتاريخ، وتمتلك قابلية عالية للتأثر بالأفكار والفلسفات المختلفة بل والاندماج في قوالبها أحايين كثيرة، لذا فمن غير المعقول اعتبار أنّ إعادة صياغة بعض المصطلحات أو إضفاء ألفاظ من حاضنتنا الثقافية سيكون كافيًا لجعل هذه المناهج والفرضيات ملائمة لنا، ويبقى هناك مشترك إنساني عام يحوي جوانب يمكن الإفادة منها، وتكون تلك الإفادة بعد ترسيخ القواعد الخاصة بمجتمعاتنا، فلا يتحول الأمر من تنوع وتواصل حضاري إلى ذوبان حضاري، فيمكن الاطلاع على علم الاجتماع الغربي وتتبع تطوره التاريخي للاستفادة من التجربة وبعض المشتركات الإنسانية العامة كما ذكرنا، لكن يجب أن يكون علم الاجتماع الإسلامي منبثق عن مجتمعنا، نابعٌ أصالةً منه.

أسأل الله أن يبلغ هذه الأمة رشدها.

الكوميديا السياسية والمعارضة

لا يخفى على أحد أن غالبية الأنظمة السائدة في البلدان العربية لا تلبي من طموحات شعوبها إلا النزر اليسير، فالفقر والبطالة والفساد وعدم الاستقرار السياسي ومشكلة الكيان الصهيوني الكامن بين جنبي العالم العربي وغيرها من القضايا تخلق الفجوة بين الحاكم والمحكوم في بلداننا، والمعارضة التي ينبغي أن تكون جزءًا أساسيا من أي جسم سياسي قائم تبدو مهمشة وضعيفة في معظم هذه البلدان، ومطارَدة ومضطهدة وملاحَقَة في بلدان أخرى ومهادِنة ومتملقة في ثالثة حسب طبيعة النظام الحاكم في كل بلد، ولكل من هؤلاء وسيلته في توجيه الانتقاد والفكرة الرافضة للاستبداد، سواء كانت جادة أو كوميدية، في قوالب متعددة من المقروء والمسموع والصورة المرئية.

ليسوا سواءً

الجهات المعارضة للأنظمة الحاكمة تختلف أهدافها، وتبعا لذلك تختلف الوسائل التي تستخدمها في سبيل تحقيق ما تصبو اليه، فبعض المعارضة يكون هدفها إسقاط الأنظمة وصناعة أنظمة جديدة على أنقاضها، وأخرى تنادي بإجبار الأنظمة القائمة على إحداث الإصلاحات والتغييرات وآخرون لا يحسبون على أية جهة معارضة وإنما هم مثقفون أو فنانون يبثون أفكارهم بوسائلهم الخاصة.

كثيرون ينظرون إلى الفن باعتباره وسيلة تحريض ناجحة تستهدف وعي الجماهير التي هي منبع التغيير ودافعه، والفن بأنواعه الجادة وصولا إلى البرامج الساخرة خادمة لتحريض هذا الوعي وتوجيهه.

ما يهم هنا هو القالب الكوميدي الذي يقدم فيه هذا الفن، فهل يكفي لتحريك الجماهير؟ سنأخذ نماذج متعددة -دون ذكر أسماء- ممن كانوا في صفوف بعض المعارضات العربية، ثم نتيجة البطش الذي تعرضوا له اختاروا الهجرة من أوطانهم واستكمال مشروعهم المعارض، وهؤلاء يطلون على جماهيرهم من خلال اليوتيوب وغيرها من المنابر الإعلامية، البعض منهم نجح في تقديم أفكاره من خلال المشاهد الكوميدية والفواصل القصيرة، مما صنع لهم شعبية كبيرة لدى الجماهير العربية.

بالرغم من الضغوط الهائلة التي يتعرضون لها من تهديد بالقتل واعتقال لأفراد أسرهم إلا أن بعضهم ما زال منذ سنوات يبذل أقصى ما يستطيع دون أن نلمس تغييرا على أرض الواقع، فأغلب الناس ينتظرون هذه النوعية من البرامج مثلها مثل أي برنامج أو مسرحية كوميدية، يتابعونها بينما يحتسون أكواب الشاي والقهوة، ويقضمون المكسرات، يضحكون على ما يعرض أمامهم من أحداث مؤسفة تجري في بلادهم، ثم ينتهي البرنامج وينتهي معه الحماس ولا يترك أثرا ملموسًا على أرض الواقع.

ما السبب؟

السبب معروف، ذلك أن المعارض الذي يختار قالبا كوميديا لنشر أفكاره إنما يقوم بالتنفيس عن مشاعر الناس المكبوتة بدل حشدها للقيام بحراك واعٍ، فبعد الضحك والقهقهات يتولد لديهم شعور أن الدنيا بخير وأن الأمور سوف تسير نحو الأفضل دون مناقشة التفاصيل والكيفية. وقد ينجح شعار ساخر أو أغنية متهكمة في لفت أنظار الجماهير إلى وجود مشكلة ما ولكن هذا غير كاف لجعلهم يطلقون الوعي من عقاله.

أستشهد هنا بمقولة لـ د. علي الوردي في كتابه مهزلة العقل البشري “الناس لا يثورون من جراء ظلم واقع عليهم، إنما يثورون من جراء شعورهم بالظلم، فالشعور بالظلم هو أعظم أثرا في الناس من الظلم ذاته. إن الناس لم يثوروا على الطغاة الذين سفكوا دماءهم وجوعوهم وسلطوا الجلاوزة عليهم يضربون ظهورهم العارية بالسياط، ذلك لأن الناس قد اعتادوا على ذلك منذ زمن مضى وألفوه جيلا بعد جيل، فهم يحسبونه أمرا طبيعيا لا فائدة من الاعتراض عليه، ولكنهم يثورون ثورة عارمة عندما تنتشر بينهم مبادئ اجتماعية جديدة فتبعث فيهم الحماس”.

إذًا، لا بد من إقناع الناس بأن ظلما قد وقع بالفعل عليهم من أجل حملهم على الثورة الواعية والمطالبة بالإصلاح، وهذا لن يحصل جراء حضور مسرحية ساخرة أو الاستماع إلى أغنية فحسب.

لننتقل إلى شهادة من أحد كبار الفنانين الذين يعتبرون من رواد المسرح السياسي الساخر، وهو السوري دريد لحام، حيث عبّر عن تفاصيل الفقر والتهميش في حياة الناس في كثير من أدواره، ففي مقابلة نشرتها له صحيفة الشرق الاوسط عام 2006 يقول لحّام “الفن لا يمكن أن يغيّر عقل الإنسان، فهو لم يحول إرهابيًّا للتفكير لثوان، ولم يحول دكتاتورا إلى ديمقراطي، وفي الواقع فإن الفن لا يفعل الكثير سوى التسلية”

هذا ما اكتشفه الممثل بنفسه بعد رحلته الطويلة، إن الفن والكوميديا لن تصنع حدثا أو تصنع فارقًا، ويؤكد دريد نفسه فيقول: “اكتشفنا، ربما في وقت متأخر أن الفن ليس له قوة الشرطة، يمكن أن يجبرك على فعل شيء، ولكن الجمهور يعتبر ذلك شيئا يستحق الضحك”

فبكى حتى ابتلت لحيته!

في العصور السابقة كان كثير من السلاطين -خاصة الفاسد منهم- يواجهون موعظة العالم والفقيه بالكثير من اللين، فينصت للعالم وهو يعظه ويذكره بضرورة إقامة العدل وحفظ حقوق الرعية وتقوى الله… فيذرف السلطان الدموع تأثرا بما سمع ثم يأمر للعالم بأعطية كبيرة ولكنه ما يلبث أن يعود إلى ما كان عليه من الفساد والجور.

في زماننا هذا تغيرت أساليب السلطان في احتواء من يوجه له النقد حتى لو كان على شكل نكتة، فنرى السلطان يحمي ويساند الفنان الذي يمكن استخدامه كأداة لتنفيس الاحتقان لدى الشعب، وأما الفنان المشاغب الذي يشكل خطرًا أكبر أو ممن ينتمون إلى ما يسمى بالمسرح التحريضي فالسلطان لا يعدم وسيلة لاحتوائه، قد يستمع لرأي مستشاريه فيذهب إلى المسرح لحضور عرضه الساخر والناقد، يجلس مع زوجته في الصف الأول من مقاعد المتفرجين يبتسم ويصفق وهو يسمع شتمه بأذنيه ثم في النهاية يتقدم طاقم العمل للسلام على سلطانهم والتقاط الصور التذكارية مع بعضهم البعض، ليثبت السلطان للجماهير أن ما يقدم على المسرح إنما يُقدَّم برضاه وموافقته، ويبقى كل شيء على ما هو عليه، لا أسعار السلع ستنخفض ولا العاطلون عن العمل سيجدون عملا يحفظ كرامتهم ولا الانتخابات ستكون نزيهة، ويبقى السلطان سلطانا ملء السمع والبصر، “بل إن انتقاداته لم تفعل شيئا سوى تحويلها إلى لعبة في أيدي رجال السلطة، وإن الدكتاتوريين يحبون الإشارة إلى حرية النقد كوسيلة للدفاع عن أنفسهم ضد الاتهامات بأنهم يقمعون حرية التعبير، لقد شعرت بخيبة أمل، كنا نفكر بأن العمل الفني يمكن أن يصدم ويغير، ولكن كلّا، فالعمل الفني هو تسلية في نهاية المطاف حتى إذا كان انتقاديا” [مقابلة مع دريد لحام].

صحيح أن الفن أصبح أمرا واقعا في هذا العصر، وهو سلاح يمكن استخدامه لمواجهة حملات التغريب، إلا أن استخدام الفن وخاصة الكوميديا كأداة للمعارضة في مواجهة السلطة فهذا -في رأيي- لا يقدم ولا يؤخر، فعملية التغيير السياسي أو الإصلاحات الحقيقية في بلداننا ليست سهلة، وينبغي أن تكون أدواتها جادة، على قدر جدية الأهداف المرجوة وأهميتها.