الكوميديا السياسية والمعارضة

image_print

لا يخفى على أحد أن غالبية الأنظمة السائدة في البلدان العربية لا تلبي من طموحات شعوبها إلا النزر اليسير، فالفقر والبطالة والفساد وعدم الاستقرار السياسي ومشكلة الكيان الصهيوني الكامن بين جنبي العالم العربي وغيرها من القضايا تخلق الفجوة بين الحاكم والمحكوم في بلداننا، والمعارضة التي ينبغي أن تكون جزءًا أساسيا من أي جسم سياسي قائم تبدو مهمشة وضعيفة في معظم هذه البلدان، ومطارَدة ومضطهدة وملاحَقَة في بلدان أخرى ومهادِنة ومتملقة في ثالثة حسب طبيعة النظام الحاكم في كل بلد، ولكل من هؤلاء وسيلته في توجيه الانتقاد والفكرة الرافضة للاستبداد، سواء كانت جادة أو كوميدية، في قوالب متعددة من المقروء والمسموع والصورة المرئية.

ليسوا سواءً

الجهات المعارضة للأنظمة الحاكمة تختلف أهدافها، وتبعا لذلك تختلف الوسائل التي تستخدمها في سبيل تحقيق ما تصبو اليه، فبعض المعارضة يكون هدفها إسقاط الأنظمة وصناعة أنظمة جديدة على أنقاضها، وأخرى تنادي بإجبار الأنظمة القائمة على إحداث الإصلاحات والتغييرات وآخرون لا يحسبون على أية جهة معارضة وإنما هم مثقفون أو فنانون يبثون أفكارهم بوسائلهم الخاصة.

كثيرون ينظرون إلى الفن باعتباره وسيلة تحريض ناجحة تستهدف وعي الجماهير التي هي منبع التغيير ودافعه، والفن بأنواعه الجادة وصولا إلى البرامج الساخرة خادمة لتحريض هذا الوعي وتوجيهه.

ما يهم هنا هو القالب الكوميدي الذي يقدم فيه هذا الفن، فهل يكفي لتحريك الجماهير؟ سنأخذ نماذج متعددة -دون ذكر أسماء- ممن كانوا في صفوف بعض المعارضات العربية، ثم نتيجة البطش الذي تعرضوا له اختاروا الهجرة من أوطانهم واستكمال مشروعهم المعارض، وهؤلاء يطلون على جماهيرهم من خلال اليوتيوب وغيرها من المنابر الإعلامية، البعض منهم نجح في تقديم أفكاره من خلال المشاهد الكوميدية والفواصل القصيرة، مما صنع لهم شعبية كبيرة لدى الجماهير العربية.

بالرغم من الضغوط الهائلة التي يتعرضون لها من تهديد بالقتل واعتقال لأفراد أسرهم إلا أن بعضهم ما زال منذ سنوات يبذل أقصى ما يستطيع دون أن نلمس تغييرا على أرض الواقع، فأغلب الناس ينتظرون هذه النوعية من البرامج مثلها مثل أي برنامج أو مسرحية كوميدية، يتابعونها بينما يحتسون أكواب الشاي والقهوة، ويقضمون المكسرات، يضحكون على ما يعرض أمامهم من أحداث مؤسفة تجري في بلادهم، ثم ينتهي البرنامج وينتهي معه الحماس ولا يترك أثرا ملموسًا على أرض الواقع.

ما السبب؟

السبب معروف، ذلك أن المعارض الذي يختار قالبا كوميديا لنشر أفكاره إنما يقوم بالتنفيس عن مشاعر الناس المكبوتة بدل حشدها للقيام بحراك واعٍ، فبعد الضحك والقهقهات يتولد لديهم شعور أن الدنيا بخير وأن الأمور سوف تسير نحو الأفضل دون مناقشة التفاصيل والكيفية. وقد ينجح شعار ساخر أو أغنية متهكمة في لفت أنظار الجماهير إلى وجود مشكلة ما ولكن هذا غير كاف لجعلهم يطلقون الوعي من عقاله.

أستشهد هنا بمقولة لـ د. علي الوردي في كتابه مهزلة العقل البشري “الناس لا يثورون من جراء ظلم واقع عليهم، إنما يثورون من جراء شعورهم بالظلم، فالشعور بالظلم هو أعظم أثرا في الناس من الظلم ذاته. إن الناس لم يثوروا على الطغاة الذين سفكوا دماءهم وجوعوهم وسلطوا الجلاوزة عليهم يضربون ظهورهم العارية بالسياط، ذلك لأن الناس قد اعتادوا على ذلك منذ زمن مضى وألفوه جيلا بعد جيل، فهم يحسبونه أمرا طبيعيا لا فائدة من الاعتراض عليه، ولكنهم يثورون ثورة عارمة عندما تنتشر بينهم مبادئ اجتماعية جديدة فتبعث فيهم الحماس”.

إذًا، لا بد من إقناع الناس بأن ظلما قد وقع بالفعل عليهم من أجل حملهم على الثورة الواعية والمطالبة بالإصلاح، وهذا لن يحصل جراء حضور مسرحية ساخرة أو الاستماع إلى أغنية فحسب.

لننتقل إلى شهادة من أحد كبار الفنانين الذين يعتبرون من رواد المسرح السياسي الساخر، وهو السوري دريد لحام، حيث عبّر عن تفاصيل الفقر والتهميش في حياة الناس في كثير من أدواره، ففي مقابلة نشرتها له صحيفة الشرق الاوسط عام 2006 يقول لحّام “الفن لا يمكن أن يغيّر عقل الإنسان، فهو لم يحول إرهابيًّا للتفكير لثوان، ولم يحول دكتاتورا إلى ديمقراطي، وفي الواقع فإن الفن لا يفعل الكثير سوى التسلية”

هذا ما اكتشفه الممثل بنفسه بعد رحلته الطويلة، إن الفن والكوميديا لن تصنع حدثا أو تصنع فارقًا، ويؤكد دريد نفسه فيقول: “اكتشفنا، ربما في وقت متأخر أن الفن ليس له قوة الشرطة، يمكن أن يجبرك على فعل شيء، ولكن الجمهور يعتبر ذلك شيئا يستحق الضحك”

فبكى حتى ابتلت لحيته!

في العصور السابقة كان كثير من السلاطين -خاصة الفاسد منهم- يواجهون موعظة العالم والفقيه بالكثير من اللين، فينصت للعالم وهو يعظه ويذكره بضرورة إقامة العدل وحفظ حقوق الرعية وتقوى الله… فيذرف السلطان الدموع تأثرا بما سمع ثم يأمر للعالم بأعطية كبيرة ولكنه ما يلبث أن يعود إلى ما كان عليه من الفساد والجور.

في زماننا هذا تغيرت أساليب السلطان في احتواء من يوجه له النقد حتى لو كان على شكل نكتة، فنرى السلطان يحمي ويساند الفنان الذي يمكن استخدامه كأداة لتنفيس الاحتقان لدى الشعب، وأما الفنان المشاغب الذي يشكل خطرًا أكبر أو ممن ينتمون إلى ما يسمى بالمسرح التحريضي فالسلطان لا يعدم وسيلة لاحتوائه، قد يستمع لرأي مستشاريه فيذهب إلى المسرح لحضور عرضه الساخر والناقد، يجلس مع زوجته في الصف الأول من مقاعد المتفرجين يبتسم ويصفق وهو يسمع شتمه بأذنيه ثم في النهاية يتقدم طاقم العمل للسلام على سلطانهم والتقاط الصور التذكارية مع بعضهم البعض، ليثبت السلطان للجماهير أن ما يقدم على المسرح إنما يُقدَّم برضاه وموافقته، ويبقى كل شيء على ما هو عليه، لا أسعار السلع ستنخفض ولا العاطلون عن العمل سيجدون عملا يحفظ كرامتهم ولا الانتخابات ستكون نزيهة، ويبقى السلطان سلطانا ملء السمع والبصر، “بل إن انتقاداته لم تفعل شيئا سوى تحويلها إلى لعبة في أيدي رجال السلطة، وإن الدكتاتوريين يحبون الإشارة إلى حرية النقد كوسيلة للدفاع عن أنفسهم ضد الاتهامات بأنهم يقمعون حرية التعبير، لقد شعرت بخيبة أمل، كنا نفكر بأن العمل الفني يمكن أن يصدم ويغير، ولكن كلّا، فالعمل الفني هو تسلية في نهاية المطاف حتى إذا كان انتقاديا” [مقابلة مع دريد لحام].

صحيح أن الفن أصبح أمرا واقعا في هذا العصر، وهو سلاح يمكن استخدامه لمواجهة حملات التغريب، إلا أن استخدام الفن وخاصة الكوميديا كأداة للمعارضة في مواجهة السلطة فهذا -في رأيي- لا يقدم ولا يؤخر، فعملية التغيير السياسي أو الإصلاحات الحقيقية في بلداننا ليست سهلة، وينبغي أن تكون أدواتها جادة، على قدر جدية الأهداف المرجوة وأهميتها.

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد