فلسطين ليست الأندلس

image_print

في خضم الأحداث الجارية في فلسطين المتمثلة في حرب الإبادة في غزة، وفي أوج المجازر التي يرتكبها الصهاينة في حق أهلنا هناك، تستنفر هذه الصورة صورًا أخرى من التاريخ الفلسطيني الذي مارس فيه المحتل وحشيته، وارتكب فيه مذابح يندى لها الجبين، لتفصِح عن النمط الاستيطاني الإحلالي الذي ينتهجه الصهاينة بكل همجية.

وكعادة الأحزان إذا أتت؛ نبشت عن الأحزان القديمة، وهذا ما بدا في قول يعقوب عليه السلام عند فقدانه لابنه الآخر بعد يوسف {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] أي: ظهر منه ما كَمَن مِن الهم القديم والشوق المقيم، وذكرته هذه المصيبة الخفيفة بالنسبة للأولى، المصيبةَ الأولى. [تفسير السعدي]، وهذا تمامًا ما مررنا به إبان ما يحدث في فلسطين، فقد أحيَت بداخلنا آلاما قديمة متمثلة في ضياع الأندلس التي تشابهت معها في تفاصيل كثيرة سواء في طبيعة الاحتلال أو بعض المنعطفات التي مرّت بها، ومع الضعف العام والخذلان الذي وقع في الأمة، مما يولّد عندنا سؤالًا بَدهيًا: هل ستكون فلسطين أندلسًا أخرى؟

هل تشابه الحالة التاريخية يؤول إلى نتيجة واحدة دوما؟

قبل أن نجيب على هذا السؤال، دعونا نلقي نظرة على مدى حتمية تطابق المآلات في الحالات التاريخية المتشابهة، فعبارة “التاريخ يُعيد نفسه” من العبارات الأشهر تداولًا بين الناس عامة، ولكننا إذا تمعّنا قليلا سنجد أنّها ليست على إطلاقها، بل هناك عدة أمور تضعف حتمية تلك العبارة.

فثمة متغيرات عارضة على الجنس البشري وحالات تاريخية لم تطرأ عليه من قبل، وبالتالي فإنّ تأثيرها سيُخرج نتاجات مختلفة في الأحداث المتشابهة تاريخيًا بسبب اندماجها مع المشهد التاريخي، فعلى سبيل المثال، نشوء الشبكة العنكبوتية -لا سيما مواقع التواصل الاجتماعي- أثّر بشكل واضح في أحداث عديدة وقعت في السنوات الأخيرة أدت إلى تغيرات ديموغرافية واضحة، وإذا نظرنا إلى حالات تاريخية متطابقة في الماضي والحاضر، سنجد أنّ النتائج مختلفة بسبب حضور عامل جديد _مواقع التواصل الاجتماعي_ في هذا الحدث.

وكذا نشوء الإمبراطورية الأمريكية التي ابتدعت نظامًا جديدًا مختلفًا تمامًا عن الإمبراطوريات التقليدية، حيث إنّ الإمبراطوريات التقليدية لها سمات عامة تتمثل في كونها أرضًا ذات مركز، تتوسع لتضم أراضٍ جديدة تصبح جزءًا منها، ويصبح سكانها جزءً من الحراك الشعبي الكبير، وتمارس سيادتها على الأرض والسكان، وتُمركِز السلطة والمال في عاصمة الإمبراطورية. أما أمريكا استفادت من الأسلوب الذي اتبعه القرصان هنري مورجان، والذي كان لا يهاجم التجار، بل يهيمن على سفن القراصنة الآخرين أثناء عودتهم، ليحصل على زُبدة ما جمعوه بأقل وقت وجهد ممكنين، فاتبعت أمريكا ذات السياسة، فقد ركزت السلطة والمال فيها دون أن تتمدد خارج إطارها وتحصل على أراضٍ وسكان، وبهذا فقد أضفت طابعًا جديدًا للإمبريالية العالمية، وغيّرت من طبيعة التحركات الدولية التي كانت تُتَبع إبان الإمبراطوريات التقليدية.(١)

وكذا يجب استحضار أنّ العالم يسير في اتجاه واحد حتمي يؤول إلى نهايته، وأنّ بدايته مختلفة كليًّا عن تلك النهاية على مستوى كافة الإرهاصات، مما يعني استحالة استمرار التراتبية التاريخية، وإلا فالتراتبية التاريخية تستلزم استمرار العالم، مما يقتضي ضمنيًا أزلية الكون، وهذه الأزلية تتعارض مع يقيننا بخلق الكون، وما أجراه الله عزّ وجل من الشواهد الجيولوجية والفيزيائية والفلكية التي أصبحت تطرح بداية الكون وحتمية نهايته مُسلَّمةً علمية، ولكن ما تعارف عليه الناس من تكرار التاريخ وركنوا إليه وظنوا اطراده، ناتجٌ عن الامتداد الشاسع لعمر الكون مقارنةً بعمر الإنسان، مما أعطى فرصة لتراكم الأحداث وتشابهها أحيانًا من خلال السنن الكونية والمشترك النفسي والاجتماعي للبشر، فطبيعة النفس البشرية متقاربة إلى حدٍ كبير، وثمة سننٌ عامة أجراها الله في خلقه، فعند وقوع حدثٍ ما؛ تبدأ النفس الجمعية بالانفعال معه بصورة متشابهة في إطار السنن الكونية، مما يؤول إلى وقوع تشابه في الكثير من الأحداث التاريخية عبر الفترات التي توسطت عمر الكون، لكن ذات السنن الكونية ستختلف عندما يوشك العالم على الانتهاء، مما يعني أنّ ثمة تغيرات كلية ستحدث لم يعهدها البشر قط، وحتى عند النظر إلى الفترات البعيدة نسبيًا عن نهاية الكون؛ سنجد أنّ الكثير من السياقات والأحداث لم تسر كما تُوُقِّعَ لها، بل حدثت تغيُّرات خارجية أدت إلى منعطفات تاريخية ضخمة على جميع الأصعدة، وعند تأملها تجد أنها غير متراتبة تاريخيًا، لكنها تُمثِّل خطوة جديدة نحو نهاية العالم، لذا يمكن القول بأنّ تكرُّر بعض الأحداث التاريخية ليس متلازمة زمنية، وإنما انعكاس للمشترك الإنساني المتشابه في الكثير من الانفعالات وطرق التفكير والرغبات، مما يؤول إلى نتائج متشابهة في أحيان كثيرة.

ما مدى إمكانية وصول فلسطين إلى نفس مآل الأندلس؟

عودة إلى السؤال الرئيس الذي نحاول الإجابة عليه، وبعد معرفة أنّ الاطراد في النتائج التاريخية لمقدمات متشابهة ليس حتميًا، بل ثمة أبعاد أخرى تؤثر على تلك النتائج، فالأحداث الأرضية وإن كانت تتشابه أحيانا كثيرة لوجود سنن عامة تنفعل معها نفوس بشرية متقاربة _كما ذكرنا آنفًا_ لكن ثمة بُعد آخر لا يمكن تغييبه عن مشهد القياس عند النظر إلى حالة فلسطين والأندلس، حيث إننا سنجد وعدًا إلهيًا في محكم آيات التنزيل يُبشِّر بعودة بيت المقدس إلى حاضنة المسلمين مرة أخرى، فقد قال الله عزّ وجل {إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ لِیَسُـࣳوؤُا۟ وُجُوهَكُمۡ وَلِیَدۡخُلُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةࣲ وَلِیُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوۡا۟ تَتۡبِیرًا}[الإسراء: ٧]، والأحداث التي تقع على الأرض لا تسير بشكل منفصل عن أقدار عليا متجاوزة التنبؤات البشرية، والمآلات المتشابهة لحالات متقاربة، ولكنها تخضع لإرادة الله، سواء تمظهر هذا الخضوع في تسلسل تراتبي يستطيع البشر توقعه، أو في تقدير إلهي خاص يجزم بهذه النتيجة ولو تنافت معها بعض مجريات الواقع الآني.

وهذا الوعد الإلهي بمثابة سلاح ذو حدين، إذ إنّ استحضاره في المشهد يؤول إلى نتيجتين متباينتين:

الأولى: الاستبشار بقدوم النصر والتحرير مهما بدا الأفق مسدودًا يقينًا في وعد الله عزّ وجل، مما يعطي أملاً، ويشعل جذوة العمل في أحلك الظروف، وتتوق الكثير من النفوس إلى أن تكون ممن استعملهم الله في إنفاذ وعده، فيظل من أبناء الأمة من يعمل ويكد لعل الله يفتح به، ولعل هذا المشهد يذكرنا بفتح القسطنطينية، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَتُفتَحنَّ القُسطنطينيةُ ولنِعمَ الأميرُ أميرُها ولنعم الجيشُ ذلك الجيشُ) [أخرجه أحمد في المسند]، فأصبح فتحها هدفًا لكل قائد لعله يكون صاحب تلك البشرى والخيرية، فانبرى القادة والخلفاء في محاولات متعددة لفتح ذلك البلد الحصين، حتى تكللت تلك الجهود بالنجاح على يد محمد الفاتح، فرغم صعوبة هذا الفتح، إلا أنّ اليقين في فتحها الذي بثه النبي صلى الله عليه وسلم مع وسام شرف بالخيرية لفاتحه وجيشه، جعل من خوض غمار هذه المعركة شرفًا يتنافس عليه المسلمون.

الثاني: الركون والتواكل الذي يقع فيه البعض، فبدلًا من أن يعملوا ويقوموا بواجبهم تجاه أمتهم وقضاياها حاملين معهم الأمل واليقين بأنّ هذه الجهود حتمًا ستُكلَل بالنجاح عاجلاً أو آجلا، يركنون إلى حتمية النصر قائلين “للبيت ربٌ يحميه”، فطالما أنّ الله سينصرنا لماذا نبذل من أنفسنا وأموالنا؟ ليتشابه قولهم مع قول بني إسرائيل حينما قال لهم موسى عليه السلام ﴿یَـٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُوا۟ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِی كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّوا۟ عَلَىٰۤ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُوا۟ خَـٰسِرِینَ﴾ [المائدة ٢١]، ولكنهم تخاذلوا وركنوا إلى الدنيا وقالوا ﴿یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّ فِیهَا قَوۡمࣰا جَبَّارِینَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِن یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِنَّا دَا⁠خِلُونَ﴾[المائدة ٢٢]، بل لمّا دعاهما رجلان صالحان منهم إلى الدخول، وبَشراهم بالنصر، وقالا لهم {ٱدۡخُلُوا۟ عَلَیۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤا۟ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ﴾ [المائدة ٢٣]، فجاء ردهم في غاية الفجور والتجرؤ على الله عز وجل حيث قالوا ﴿یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَاۤ أَبَدࣰا مَّا دَامُوا۟ فِیهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلَاۤ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ﴾ [المائدة ٢٤]، فاستحقوا العقوبة، فضُرِبَ عليهم التيه في الأرض، فقد كانوا في غاية التواكل والخذلان وعدم اليقين في وعد الله ونبيه، فالنصر لا يحابي أحدا، فلا يمكن أن يكونوا جزءًا منه وقد تواكلوا وقعدوا في ساعة العسرة، فهؤلاء حريٌ بهم أن يُستبدلوا، بل عليهم أن يحذروا من عقوبة الله لهم، فالله سبحانه وتعالى يمكن أن يهلك الظالمين بصاعقة من السماء، لكنّه كتب الجهاد على عباده ليمحصهم ويعلم الصادقين الذين أذعنوا لأمره، فقد قال تعالى ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تُتۡرَكُوا۟ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ مِنكُمۡ وَلَمۡ یَتَّخِذُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَا رَسُولِهِۦ وَلَا ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَلِیجَةࣰۚ وَٱللَّهُ خَبِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [التوبة ١٦]

ختامًا..

إنّ الحقيقة المطلقة في حق الزمن أنه يمرّ، وتتقلب معه الأحداث، وتتبدل فيه الأجيال، ولا ينتظر أحدا، فإذا كتب الله علينا أن نعيش في زمن تمحيص وابتلاء وشدة، فهذا قدرنا الذي علينا أن نرضى به ونصبر عليه صبرًا جميلا، وهذا الرضى والتسليم لأمر الله سبحانه وتعالى يستلزم امتثال أوامره التي كتبها لهذه الأزمنة، ومن أهمها الاستعانة به والصبر والجهاد لرفعة هذا الدين، فنتوجه إلى العمل حاملين الأمل، سواء عاينّا النصر أو قضينا قبله، فنحقق العبودية التي أمرنا الله بها، فمآل الأندلس لن يتكرر في فلسطين، لكن مآل شعب الأندلس وارد جدًا أن يتكرر، ثم يأتي الله بقومٍ {یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ یُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَاىِٕمࣲۚ ذَ⁠لِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَا⁠سِعٌ عَلِیمٌ﴾ [المائدة ٥٤].

أسأل الله أن يُبلِّغ هذه الأمة رشدها.


مرجع الإحالات

(١)- محاضرة صراع المدفع والإرادة – د. وضاح خنفر

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد