في أحلك اللحظات التي مررت بها خلال سنوات الثورة السورية التي مضت، وفي التجارب القاسية التي عايشتها أو شهدتها ومازلت، كانت تلفتني مسألة كبيرة، تدفعني للتساؤل والتأمل والتفكير، ما الذي يدفع الإنسان لذلك الاتصال العميق بالله؟ ولماذا في أشد اللحظات الحرجة يسأله، مهما كان بعيداً عنه في حياته العادية؟ ولماذا يعود إليه عندما يصبح وحيداً في زنزانة منفردة، أو جريحاً في مشفى ميداني، أو منزوياً على سريره ينتحب بعد أن فقد عزيزاً؟ ما ماهية الاتصال بالله؟ ولماذا يُعبد؟ هل الأمر تابع لملء فراغ نفسي؟ أو طمأنة عقل عجز عن إجابات لتساؤلاته فقبل بالتسليم بفكرة وجود إله؟
والحقيقة الأولى في هذا الأمر أن الله تعالى جل جلاله غني عن العالمين، لا تنفعه عبادة خلقه له، كما أنه لا يضره تركهم عبادته. قال تعالى: “يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد” [فاطر: 15].
فهو الغني عن سائر الخلائق، وهو العظيم الرحيم، حين يأمرهم بعبادته فلأنه يريد لهم الخير والصلاح، فالعباد في حاجة دائمة لله لا تنقطع، فكل عبادة يقدمها الإنسان فثمرتها عائدة إليه، وتصبّ في صالح دنياه وآخرته، وترفعه عند الله، وتثقل ميزانه. قال تعالى في كتابه الكريم: “ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم” [النمل: 20].
والعبادة لله تابعة لطبيعة مهمة الإنسان على الأرض، والغاية من خلق الإنسان، وعاقبة ذلك كله في الدنيا والآخرة.
ليست العبادة فقط لجلب طمأنينة النفس وسكينة الروح، فالإنسان بفطرته دائماً ما يشعر بالحاجة لله، كما أن شعوراً بالخواء والضياع ينتابه في حال فكر أن الكون يمكن أن ينشأ من دونه. قال تعالى: “حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين”. [يونس: 22].
وفي هذا نماذج نلمسها في واقعنا لكثير ممن قضوا حياتهم في معاص ولهو وغياب شبه كامل عن حقيقة عبوديتهم، نجدهم في لحظات الشدة والكرب يعودون فطرياً لله ويلتجئون إليه بالدعاء والرجاء ليخلصهم مما ابتلوا به، وحتى إن كانت تلك ردود فعل وقتية تزول بزوال الأسباب، إلا أنها دلالات واضحة عن حقيقة النفس البشرية ونزوعها للفطرة السليمة في اللحظات العصيبة، فتسلم نفسها لله، وتعود إليه وكأنما تعترف أن لا مخلص لها إلا هو.
أما المؤمن ففي لحظات الشدة يتذوق حلاوة لم يذقها سواه، وقد حدثني أحد الإخوة الذين ذاقوا تجربة الاعتقال عن سعادة وجدها في منفردته، فقال:
“قد تعجبين من كلامي لكنني أصدقكِ القول، لقد كانت السويعات التي قضيتها في تلك المنفردة، وقد انقطعت أسباب الرجاء إلا بالله، وأظلمت الدنيا حولي، وضاقت، كانت أسعد لحظات قضيتها في حياتي، فقد فُتح لي باب الدعاء، وبدأت ألهج لله تقرباً وحباً ورجاء، وشعرت بقرب لم أشعر به طوال حياتي، وبسكينة عجيبة وأنس بالله كبير، لقد خرجت حينما فرّج الله عني وكأنما ولدت من جديد”.
عبادة الله كرامة وتكريم أما وقد شهدنا في عصرنا هذا كل أنواع الظلم، ورأينا بأعيننا كيف يذل العبد للعبد، وكيف تُمتهن كرامته، وكيف تغيب إنسانيته، ليكون سلعة بلا أدنى قيمة، بل كيف تذل الشعوب تحت سوط الاستعباد، وكيف تتلاشى الإنسانية تحت جور القهر والظلم، لابد أن نفكر في الأسباب التي تدفع الإنسان لاستعباد أخيه الإنسان، والأسباب التي تدفع المستعبد لقبول الاستعباد، سنجد الإجابة واضحة، فكلما تعمق معنى الحرية والكرامة في نفس الإنسان ازدادت مقاومته للذل والقهر، ولنا أن نتذكر قول الصحابي ربعي بن عامر لرستم قائد جيش الفرس معبراً عن الإسلام في كلمات موجزة: “نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”.
فتلك هي رسالة الإسلام الحقيقية وجوهر دعوته، تخليص الناس من العبودية للبشر، ودعوتهم لعبادة رب البشر وخالقهم جل جلاله، وفي هذا قمة السمو والرفعة والكرامة، فعباد العباد أذلاء إلى يوم الدين، لأنهم محكومون بالأهواء البشرية، أما عباد الله فهم محكومون بعدالته وعظمته ورحمته.
https://i0.wp.com/al-sabeel.net/wp-content/uploads/2017/08/man-2612548_960_720-e1520930761962.jpg?fit=833%2C478&ssl=1478833هادي صلاحاتhttps://al-sabeel.net/wp-content/uploads/2020/12/b1-1.pngهادي صلاحات2018-03-13 11:57:142020-10-17 05:16:17لماذا نعود إلى الله في لحظاتنا الحرجة؟
بعد تبيين الأصل التاريخي وأساس الاستشكال الذي بنيت عليه “معضلة الشر” في المقال السابق؛ فإن اللازم الآن تبيين جوانب الشبهة وما يقدمه الإيمان من حلول في سبيل فهمها.
مفهوم الشر فلسفيًّا
هل يعد وجود الشر ذاتيًّا محضاً أم أن وجوده ظرفيٌّ بحسب الواقع المحيط به؟
ينبغي الإشارة إلى أن هذه التقسيمات تعود في أصلها إلى مسألة تحديد مفهوم الشر من حيث كونه ذاتيًّا محضًا أو نسبيًّا يتحقق بتبعيته لطرف آخر سابق عليه.
لايبنتز
بالعودة إلى فهم الفيلسوف الألماني لايبنتز (ت 1716م) للشر نرى أنه قد صنَّفه ضمن أنواع ثلاثة، أولها: الشر الميتافيزيقي (المجرَّد) ويقصد به النقص التام في وجود المخلوقات بسبب تناهيها إضافة لكونها ناقصة بالمقارنة مع وجود الله، ثم الشر الطبيعي وتدخل فيه الآلام الجسمانية والكوارث الطبيعية، وثالثها: الشر الأخلاقي الكامن في الخطيئة[1]، وحين ينظر في مسألة الشرين الطبيعي والأخلاقي فإنهما بالضرورة يدخلان تحت الشر المجرد أي النقص المتحقق فيهما، ويشار إلى أن الليبراليين وسعوا من إطار الشر الأخلاقي ليتضمَّن أي أذية للآخرين في حريتهم أو منعهم من تحقيق رغباتهم شرًّا أخلاقيًّا[2].
يرى ابن قيم الجوزية (ت751ه) أن أحوال الموجودات بأسرها لا تخرج عن حالات أربع هي: حالة الخير المطلق، أو الشر المطلق، أو حالة التنازع بين الخير والشر فيكون الخير إما مستوياً مع الشر أو راجحًا عليه أو العكس، أو حالة عدم القيمة، فلا يكون فيه خير أو شر، ويتحقق القسم الأوّل بوجود الخالق فقط والذي هو خير محض، ولا يوجد من بقيّة الأقسام في وجودنا إلّا ما كانت المصلحة والحكمة والخير في إيجاده أكثر من المفسدة، أي ما كان “خيره راجحًا على شرّه”، وأمّا الشر المحض الذي لا خير فيه فلا حقيقة له لأنه عدم محض[3].
وجود الله ووجود الشر أبدأ هذه الفقرة بالسؤال المعهود: هل يتعارض وجود الشر مع وجود الإله؟
يؤكد الإلحاد –كما تقدَّم في الجزء الأوَّل- على عدم إمكانية اجتماع وجود إله قادر رحيم مع وجود الشرور –كالتي نراها على الأقل-.
بينما يؤكد علماء الدين الإسلامي ورجال اللاهوت من الأديان الأخرى على عدم التعارض أصلاً، ويقدمون في سبيل ذلك حججًا عديدةً لتبيين ضعف المنطق الإلحادي وتناقضه، سواء من حيث أساس اعتراضه، أو في تفسير حقيقة الإشكال وتأويله.
ثمة سؤال يمكن تقديمه في هذا المعرض مفاده: هل يجب على الإله الخيِّر القادر أن يمنع الشر[4]؟
ويمكن الاعتراض على هذه الصيغة “الله قادرٌ على كل شيء” بالعديد من المغالطات المنطقية والمناقشات التي لا تتعدى باب اللعب باللفظ، فأسئلة من قبيل: هل يسَعُ اللهَ خلق صخرة يعجز عن حملها، أو هل يقدر الله على أن يخلق إلهًا مثله، أو هل بإمكانه رسم مربعٍ مستديرٍ ، هي أسئلة تناقض ماهية الشيء في ذاته، “فالصخرة مهما بلغ حجمها متناهية، وقدرة الله غير متناهية، والإله ليس مخلوقًا بالضرورة، فلا يصحّ منطقيًا افتراض إله مخلوق، والمربَّع لا يكون دائرة بالضرورة، فلا يصحّ افتراض اجتماعهما”[5].
وبالمحصِّلة فإن كمال القدرة الإلهية إما أن يعني: القدرة على فعل كل شيء وإن كان ضمن دائرة الاستحالة المنطقية أو فعل الأشياء الممكنة منطقيًّا فقط، وبما أنَّ تصوُّر المستحيل ممكن لأنه عمل ذهني غير واقعي إلا أن وقوعه في الوجود أمر غير ممكن لتناقضه مع شروط الوجود أوَّلاً، ولأن القدرة الإلهية -حسب ما يقرره علماء العقائد- لا تتعلَّق بغير الممكن منطقيًّا، فتكون اعتراضات الإلحاد في جوهرها عن تناقض وجود الشر مع وجود الإله “مخادعات لفظيّة لا يمكن أن يكون لها وجود في غير عالم اللغة”[6]؛ لأنَّ سماح الله بوجود الشرّ في ملكه لا يلزم منه الانتقاص من قدرته، فالشر البشري ناتج عن حريَّة الاختيار بين فعل الخير والشرّ؛ والقول بوجوب زواله يحتوي على تناقض منطقي، لأن الله قد وهب البشر حريّة الإرادة لامتحان إلهي أفعالهم، ولا تتعلّق قدرة الإله -على كمالها- بإزالة هذا الشرّ لأنه من غير المنطقي أن يمتحن الله عباده بالخير والشرّ ثم يجبرهم على فعل الخير دون الشر أو العكس [7]، وهو ما أشار الله إليه في قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} [الروم:41] فجعل الفساد (أي الشرور الأخلاقية) عائدة إلى اختيارات الناس وأفعالهم، ولعله من المفيد الإشارة إلى أن التعلل بالشر الأخلاقي في نفي الإله غير مجدٍ.
بلانتينغا
في هذا المعرض يجدر الإشارة إلى رأي الفيلسوف الأمريكي اللاهوتي ألفن بلانتينغا (وُلد عام 1932) القائل: إنّ حريّة الإرادة عند الإنسان من أهم المسوّغات العقلية لنفي التناقض المدّعى بين وجود الإله الكامل مع وجود الشر؛ إذ إنّ الشر الأخلاقي نتيجة لممارسة الإنسان لاختيارات إرادته الحرّة، فالشر هنا ضريبة لازمة ومنطقيّة ومرضيّة لنعمة الإرادة الحرّة؛ وبذلك ينتقض الاعتراض على عدل الله أنّه يسمح للشر بالوجود، فلا معنى لوجود كائن حر يملك إرادة الاختيار ضمن الطبيعة البشريّة المحضة، ثم هو لا يفعل إلّا نوعًا واحدًا من الأفعال، فالمخلوقات الحرّة تزلّ أحيانًا وتفعل الخير أحيانًا، ولا يمكن أن تكون هذه الاختيارات ضد وجود قدرة الله الكليّة ولا ضد خيريّته؛ لأنّه ليس بالإمكان أن يُمنع وقوع الشر الأخلاقي إلّا بمنع إمكانية الخير الأخلاقي[8].
الشر المادِّي والمجَّاني؟
ينقل د. حسن المرسي عن ريتشارد دوكينز قوله في أن الشر لا يمكن أن ينفي أو يثبت وجود الإله[9]، ولذلك مال العديد من رموز الإلحاد إلى تكثيف الاسشتهاد بما سمّوه (الشر المجاني) أي الألم الذي لا فائدة خلفه، وله مثالان شهيران هما: “الموت البطيء لغزالة في حريق داخل غابة، واغتصاب طفلة ثم قتْلها على يد عشيق أمّها”[10] إذ إن على “الإله العليم، كامل الخيريّة أن يمنع وقوع كلّ معاناة شديدة إلّا أن يؤدّي المنع إلى تفويت خير أعظم من هذه المعاناة أو السماح لشر يوازيها أو يربو عليه، وبالنتيجة فإن ذلك واقع فلا يوجد –إذن- إله قدير، عليم، كامل الخيريّةِ”[11].
ثمة عدة مسالك يمكن التصدي بها لمشكلة الشر بأنواعها إجمالاً وتفصيلاً، “كالدفاع الإيماني الذي يفسر الشر على ضوء الحكمة الإلهية والعناية الربانية، أو بيان سبب العجز عن الإجابة على السؤال كليًا أو جزئيًا: للقصور المعرفي للإنسان، أو البحث في السؤال والعمل على تعديله[12]“.
وعلى ضوء التكامل بين هذه المناهج يشير عدد من الباحثين في نقد الإلحاد إلى أهمية السؤال عن الشر المجاني بصيغة: هل هناك شر مجاني فعلاً؟
إنّ مقتضى البحث العقلي أن يصار أولاً إلى البحث عن البناء المنطقي للحجة المقدَّمة لنقض وجود الإله وهي (الشر المجاني موجود، وعليه ينفي وجوده وجودَ الإله)؛ وبما أنه لا يمكن لأحد إثبات قطعية (الشر المجاني) في الظواهر المضروبة لذلك، وبعبارة أخرى، نسأل: هل يعجز الإله أن يجعل وراء كلّ ما يبدو شرًا مجانيًا، حكمةً وتعويضًا؟
قول الإلحاد هنا منحصر بمنع وجود الحكمة أو إثباتها التي نفترضها للإله، فإنّ العقل لا يمنع من وجود هذه الحكمة وهذا التعويض للمبتلى؛ فيسقط اعتراضه، وإذا قال إنّ هذا الأمر ممتنع عقلًا؛ طولب بالدليل العقلي، ولا دليل؛ فيظهر بذلك قُصور فهمه لكمال الألوهيّة. فتنقلب المعادلة من:
الترتيب الآتي: 1. وجودُ الشرّ المجاني أمر يقينيٌّ، 2. وجود الإله فرضية بحاجة إلى بحث، 3. وجود الشرّ المجاني حجّة على نفي وجود إله؛ 4. إذن لا وجود لإله.
إلى: 1. الأدلّة المادية والعقلية تثبت وجود الإله، 2. وجود الشرّ المجاني فرضية بحاجة إلى بحث، 3. الإيمان بالإله يقتضي الإيمان بكماله وعدله وحكمته فيكون قادراً على جعل ما يبدو شرًا مجانيًا حكمةً وخيرًا، 4. إذن لا وجود لشرّ مجانيّ[13].
فرويد
وقفة أخيرة
في خضم المناقشات المنطقيَّة في مسألة الشر قلّما يتنبّه الباحثون إلى البحث عن مصدر الاستشكال، فبما أن العقل البشري قاصر في إدراك خصائص المحيط الخاص به فإنه بالقفز إلى القطع في إحدى أهمِّ المسائل الوجودية يختزل ظاهرة الشر دون الفهم الكامل لكل جزئياتها. فما مردُّ هذا الاستعجال؟
يشير مقال ما بعد الحداثة في موسوعة السبيل إلى تطوُّر الآراء والظروف التي مرت بها الذهنية الغربيَّة، ولعل من أبرز ما يُستشهد به هنا قول الفيلسوف روجيه غارودي في كتابه “البنيوية فلسفة موت الإنسان” نقلاً عن فرويد بأن نظريته في التحليل النفسي ألحقت بكبرياء البشرية ثالث إذلال كبير لها، وذلك بعد الثورات العلمية على يد كوبرنيكوس التي أنهت كون النص الديني المركز الذي تقاس إليه الأمور، ثم رؤية داروين التي حوَّلت الإنسان إلى حيوان بيولوجي يصارع من أجل البقاء[14].
وهكذا ظهرت العدمية التي أفرزت مظاهر اللامعنى وغياب الثبات ورفض معنى الإله الخالق وتأطير القيمة، فالوجود خالٍ في خاتمة المطاف من المعنى، ولعل هذا التصوُّر هو ما نراه في اللامبالاة والظلم البشري وعدم المسؤولية في أحداث عظيمة كالأحداث المستمرة في سورية منذ سبع سنوات.
إن حالة “غياب المعنى” التي يعيشها الملحد تدفع للتساؤل: لمَ يبحث الملحد عن المعنى وراء الشر أو الخير؟ فالإيمان بـألا قيمة للوجود تدفع حتماً لتفسير أحداث الوجود بذات الرؤية التي فُسِّرت به بدايته، أي “العشوائية والمادية”، فتفسير الشر الذي يحدث في العالم -ضمن هذه الرؤية- يجب ألا يعدو تحليلاً كتحليل رؤيتنا للوحة الموناليزا مثلاً، وك��لك الحروب والأعاصير والكوارث المادية، لأن التفاعل مع الألم الطاغي في هذه الظواهر لا يستند إلى قيمة أخلاقية وإنَّما إلى رؤية عدمية، وهذا بحد ذاته تناقض صارخ.
ومن هنا فإن التعامل مع مشكلة الشر بحسب الرؤى المختلفة في تفسيرها عائد إلى رؤيتين، أولهما: عدّه جزءًا من النظام الكوني المتصف بالنقص في ذاته لكونه حادثاً والإله وحده الكامل. والثاني: النظر الديني إلى الشر على أنه ابتلاء واختبار في هذه الظواهر ويستلزم منا البحث عن الحكمة التي يقتضيها فعل الله وعدله، وفي الحالتين ليس ثمة ما يُتَوجّه به لنفي وجود الله أصلاً.
إذن فالسؤال المهم حقًّا هو: لمَ كان الوجود أصلاً؟ والبحث في أصل هذا السؤال سيقود الملحد إلى الانهيار حتمًا.[15]
الهوامش
[1] ينظر تاريخ الفلسفة، فريدريك كوبلستون، المركز القوم للترجمة، ترجمة سعيد توفيق، ط1، 2013، ج4 ص437.
[3] ينظر شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد بدر الدين، دار الفكر، ط1، 1978، ص 181-182، ويقارن بـ مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص 98، 99.
[4] ينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص 112.
[5] ينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص115.
[6] ينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص 114.
[7] ينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص115.
[8] ينظر محاورة جاري كينتغ مع ألفن بلانتينغا بعنوان: هل الإلحاد لا عقلاني، ترجمة: د. عبد الله الشهري، نشر مركز براهين، ص5، وينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص120، نقلاً عن كتابي ألفن بلانتنجا: الله، الحرية والشر، وكتابه: The nature of necessity
[9] ينظر الكتاب الإلكتروني الجواب عن مشكلة الشر، مقال د. حسن المرسي، انفكاك الجهة بين وجود الخالق ومسائل الحكمة والخير والشر، 131، 132
[10] نقلاً عن ويليام رو، ينظر د. سامي عامري، مشكلة الشر ووجود الله، ص 146.
تعود القيمة المحورية لقضية الشر إلى التصور المركوز في الأذهان عن عدالة الله وقدرته ورحمته، ولذا فإن مشاهد القتل والتهجير والآلام التي تحدث يوميًّا داعيةٌ ولا ريب إلى التساؤل عن الحكمة الإلهية في وجود هذه الآلام، ولعل نظرة سريعة إلى أحداث الثورة السورية وكمية الدماء البريئة التي أريقت ظلماً عدواناً جعلت مقولة “لمَ خُلِق هذا الشر؟” أهم أسئلة الناس المكلومة.
أطفال قُتلوا بالغاز السام في الغوطة بريف دمشق في 21 أغسطس 2013
ويمكن القول إن الإلحاد ودعاته يجعلون هذا السؤال -المتسرّب عن التعرُّض للشدائد- أداةً للتشكيك بجدوى الإيمان أو صحته من الجذور، ولذا فإن “مُشكلة الشَّرّ” في الغرب اليوم أهمّ شُبهة إلحاديّة تستخدم في المناظرات بين الدينيين والإلحاديين، حيث يراها الإلحاديون “البرهان” الذي يُغِيرُ على قواعد اعتقاد المؤمنين فيأتي عليها، إذ لا جدوى من الإيمان بوجود الإله الذي لا يمنع الظلم عن عباده ومخلوقاته[1]، فحجة وجود الشر في نظر الملاحدة هي “الصخرة” التي تَتَحَطَّم عليها حجج الإيمان، كما يرى الشاعر الألماني الملحد جورج بوخنر[2]، ذلك لأن “الاعتراضات على الإيمان بالله تظهر وتختفي، إلا أنَّ الفلاسفة يؤمنون أنّ أهم تحدٍّ جادٍّ لإثبات وجود الله في الماضي والحاضر والمستقبل، هو مشكلة الشر”[3].
إن هذا السؤال القديم الحديث حول مشكلة الشر هو أحد أسئلة الوجود التي حار فيها الإنسان ولم يجد فيها إجابة حاسمة، ولعل المفترض باللاديني أن لا يتكئ مرتاح البال بعد أن رمى بها في ملعب الديني، إذ إن أسئلة الوجود تقض مضجع الجميع، وهذا ما يجعلنا نرجح نظرية الإيمان على غيرها، فعلى الرغم مما يطرح عليها من الأسئلة إلا أنها دافعة إلى الاطمئنان واليقين العقلي أكثر مما سواها، وهكذا طبيعة المعارف الإنسانية؛ فإن إيجاد جواب معملي فيها أمر غير ممكن إلا أن اليقين يبنى فيها على الاتساق وعدم التناقض وتقديم الرؤية التفسيرية الشاملة لهذا الكون.
ملاحظة قبل البَدْء اسمح لي سيدي القارئ أن أشير بدايةً إلى أن وجود الشر (المطلق أو النسبي) لا ينفي بأيِّ وجه من الوجوه المنطقية أو العلميَّة “وجود الإله”.
وذلك لأن إثبات وجود الإله لا يعتمد مطلقًا على جريان الخير أو الشر في الموجودات وإنما يعتمد على إثبات خلق الكون وإنشائه من عدمٍ على نحو متسق منظَّم يثبت وجود منظِّمٍ له، وبذلك تعد مسألة الخير أو الشر طارئة على ما بعد تحقق الوجود، وإن كان ثمة دليل يمكن به نفي وجود الإله فهو إثبات نشوء الكون ذاتيًّا بأي طريق كان إلا عن طريق موجدٍ له سبَّب حدوثه.
وأقصى ما يمكن التوقف عنده في مسألة وجود الشر عند المسلم إنما هو بحث الحكمة من وجود الله، ولدى إثارة الشبه في عدل الله ورحمته وقدرته على النحو الذي يفصله أربابه.
وإن المثير ههنا حقًّا أن غالبية علماء اللاهوت المسيحي لم يبحثوا في بنية الشر وإنما اكتفوا في الدفاع عن اتصاف الله بالخيرية، وإثبات أن ما يجري من الشر خارج عن نطاق الخيرية الإلهية وأن الأب قدَّم ابنه –تعالى الله عن ذلك- ليتمكن من تخليص الناس من مشكلة الذنوب والبلايا التي تتبع انتشارها، بينما كان علماء الكلام المسلمين يبحثون “ماهية الشر” ضمن مباحث الحسن والقبح وتفرعاتهما التي تتطرق لموضوع الإيلام والأذى الذي يصيب المخلوقات، فكانت دراسات علماء الكلام والفلاسفة المسلمين أعمق وأجدى، من حيث الإشارة إلى بنية موضوع الشر والتسليم بواقعيته والسعي البارز لتنزيه الله عن النقائص ومحاولة استخلاص الحكمة من وجود هذه الشرور المنتشرة في الأرض.
لذا كان أقصى ما يمكن إنتاجه في تاريخ الشك عند فلاسفة المسلمين ما قدمه أبو العلاء المعري أو ابن الراوندي من شكوكٍ وشبهات في الحكمة من هذه الشرور، بينما أنتجت الثقافة الغربية الثائرة على المسيحية نقداً شاملاً لكل ما يتسم بالميتافيزيقية (الغيبية) مثل ماركس ونيتشه[4]، وعدمية محضة لا تتقبل القيمة المجردة للأشياء في هذا الوجود.
أصل السؤال تعود الصياغة المنطقيّة الأولى لهذه المسألة -بحسب ما نقل الفيلسوف الإنكليزي ديفيد هيوم (ت1776م)- إلى الفيلسوف اليوناني أبيقور (ت270ق.م) فيما عُرف بمعضلة أبيقور وملخَّصُها الآتي:
أبيقور
إذا كان الإله كُلِّيَّ القدرة والعلم والخير فإنَّ الشر لا يمكن أن يوجد في خلقه، إذ إنَّ هذه الصفات الثلاث لا تجتمع في إله حكيم متصرف ثم يغفل عن وجود الشر في العالم، وبما أن الشر موجود فذلك يعني أن الإله ليس كلي العلم، إذ لا يعرف ما يجري في خلقه من الشرور، أو أنه يعلم حصول ذلك إلا أن قدرته ناقصة فلا يستطيع رفع الشرور والآلام عن عباده، أو أنه يعلم الشر ويستطيع رفعه، إلا أن يريد له الاستمرار فتكون خيريته ناقصة، وعلى أيٍّ من هذه النواقص فإنه لا يمكن أن يكون إلهًا، لتحكُّم النقص فيه[5].
فما المقصود بالشر ههنا؟
يمكن اختزال الشر ضمن نوعين: “الشر الطبيعي” الذي لا يد للإنسان في إنشائه كالتشوُّه الخَلْقي والكوارث الطبيعية كالبراكين والأعاصير والزلازل، و”الشر الأخلاقي” الذي توصف به أفعال الإنسان ومبادئه من حيث الأذى والضرر كالعدوان والقتل والتعذيب وكل ما يؤلم الآخرين.
وسؤال الإلحاد ينصبُّ في البحث عن أنه كيف يمكن لله الرحيم أن يأذن بوجود هذا الكم من الشرور في عالمه أو يخلقه أصلاً؟
أساس الاستشكال
يستند الإلحاد في الاستدلال على رؤاه بجملة العلوم الماديَّة التي تستند في نتائجها إلى “النزعة التجريبيَّة” ولذا فإن أساس اعتماد الإلحاد في الاستدلال بالشر على عدم وجود الإله ناتج عن فهم محدودٍ للإله فهو كامل العلم والقدرة والخيرية دون البحث في صفاته الأخرى من العدل والإرادة والحكمة.
أضف إلى ذلك سيدي الكريم أن الإلحاد لا يقدم تصوُّرًا يبين المقصود من “الشر” بوضوح، فهل “الشر” مفهوم مطلق أم نسبي، وهل قيمته ذاتية أم نسبية، وهل وجود الشر طاغٍ على وجود الخير، ثم هل يمكن للشر أن ينفي وجود الإله بحد ذاته؟
إن كلمتي “الشر والخير” في ذاتهما تدلان على عَرَضٍ خارجيٍّ يدل على نسبة بين شيئين، أي أن الحكم منتزَع من حيث التحقق أولاً وارتباط المحيط به ثانياً، فثورة بركان ما شَرٌّ على أهل المنطقة الواقعة بالقرب منه إلا أن فائدته للتربة مثلاً خير للأجيال اللاحقة، وكذلك “الموت” فإن فناء مليارات الجراثيم قد يكون شرًّا بالنسبة لها إلا أنها ذلك خير بالنسبة للكائنات التي تتأذى منها، وكذلك وجود السم في الأفعى فإنه خير بالنسبة لها إلا أنه شر بالنسبة لمن يلدَغ به، ومن ثم فإن وجود الشيء ليس ذا كفاية للحكم على قيمته من حيث الخير والشر.
وإذا تدبرنا ذلك فإن وجود هذه الثنائية في الكون بحد ذاتها محض خير، فانتفاء الخير يجعل من الوجود شرا محضاً وانتفاء الشر يجعل من الدنيا دار سعادة محضة وبذلك لا يمكن التوصل إلى معاني التفاضل والخيرية بين الناس أو إدراك المعاني الكبرى كالباطل والحق، وبذلك يكون وجود الشر ضرورياً لتدعيم معنى الخير، ووجود الباطل ضروريًّا لتدعيم معنى الحق.
ومن ثم يتوارد السؤال الآتي:
هل يمكن الحكم بالشر النسبي على وجود الإله؟ يشير د. سامي عامري إلى أن السؤال عن مشكلة الشر بحد ذاته يحوي دلالة أخلاقية لا مادية[6]، ولعل استشكال “الشر” في أصله دليل على تحقق الإيمان بالله في فطرة البشر، وهو الأمر الذي أكّده العديد من أئمة الإلحاد، ولعل أبرزهم العالم الأحيائي “أنتوني فلو” الذي كان يرى أن شبهة الشر كانت السبب الأول في إلحاده[7].
وبما أن المادة وتفرعاتها تعد أساس الإلحاد فإن الاستشكال الأخلاقي تجاه الشر يناقض الغاية التي قُدِّمت لأجلها، أي نفي وجود الإله وتصوير الكون على أنه محض مادة؛ وذلك لأن عقل الإنسان الذي تفاعل مع هذا السؤال جوهر غير مادي يرى للحياة قيمة ومعنى، إذ “لو كان الإلحاد حقًا، لما كان علينا أن نتوقع أن يكون الخير هو الرئيس أو أكثر أصالة من الشر، بل الواجب أن لا يكون هناك قِسما الخير والشر أصلاً”[8].
[1] ينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي العامري، ص17-20، حيث نقل عدداً من المقولات في هذا الخصوص، تبيِّن مدى اهتمام الإلحاد بمقولة الشر.
[2] Randy Alcorn: If God Is Good: Faith in the Midst of Suffering and Evil (Colorado Springs, Colo.: Multnomah Books, 2009), p.11
[3] مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص19 نقلا عن كتاب رونالد ناش، الإيمان والعقل، ص177.
[4] معضلة الشر بين علم الكلام والفلسفة، د. محمد بوهلال، ص35.
[5] (David Hume. Dialogues Concerning Natural Religion, part 10) نقلا عن مقال د. هشام عزمي، وجود الشرور في العالم، مجلة منتدى التوحيد، العدد المعنون بـ الجواب عن مسألة الشر، ص14.
[6] ينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص55، 65، 62.
[7] مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص55، 56.
[8] مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، 58، 59، نقلاً عن دافيد بيك.
بعد استعراض أهم فرضيات الأكوان المتوازية على تنوعاتها واختلافاتها، نأتي إلى استعراض مجموعة من الاستنتاجات والردود على هذه الفرضيات.
وسنناقش فيما يلي أهم الاستنتاجات التي تستحق التوقف والنقد:
1- الملاحظ أن جميع هذه الفرضيات تؤدي إلى أنه مع هذه الأعداد الكبيرة جداً للأكوان المفترضة، فإنه ليس غريباً أن يوجد كون واحد ككوننا تنشأ فيه حياة وتكون مناسبة لكائنات ذكية تكتشف قوانين هذا الكون، وهذه هي فكرة المبدأ البشري.
2- فكرة الأكوان المتعددة قامت في أساسها على الاحتمالية الموجودة في ميكانيكا الكم، وهذا يقودنا إلى سؤال هام وهو: هل ما ينطبق على العالم الذري وتحت الذري يمكن أن ينطبق على العالم المشاهد والمحسوس أمامنا، ففكرة تواجد الإلكترون في مكانين في آن واحد كما في العالم الذري هل يمكن أن يحدث مثيل لها في عالمنا المشاهد على مستوى الأجسام الكبيرة؟ فضلاً عن أن تحدث في أكوان كبيرة جداً تقاس فيها المسافات بسرعة الضوء؟
3- مع كل اكتشاف علمي أو عند ظهور أي نظرية جديدة يسارع بعض المسلمين -من الشيوخ وعلماء الدين- لإنزال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على هذه النظريات، وهذا أمر لسنا مضطرين إليه، فهذه النظريات لم يتم إثباتها علمياً، والغالب أنه لن يتم حتى إثباتها في المستقبل المنظور على أقل تقدير.
4- يقول فيلسوف العلوم الشهير كارل بوبر: “إن معيار الوضعية العلمية لنظرية ما هو إمكانية تكذيبها أو تفنيدها أو اختبارها”[1] وبمعنى آخر لكي نقول عن نظرية إنها علمية يجب أن تخضع للاختبار والتكذيب، والعكس صحيح، وهذا يقودونا إلى التساؤل حول الأكوان المتعددة: هل هناك دليل على وجود هذه الأكوان؟ وهل هذه الفرضيات يمكن اختبارها علمياً حتى نتبين صحتها من خطئها؟
روجر بينروز
5- يقول روجر بينروز الرياضي الإنكليزي الملحد وصديق ستيفن هوكينغ: “ما معنى أن تقول عن شيء إنه موجود وأنت لن تستطيع من حيث المبدأ ملاحظته؟”[2]، وانطلاقاً من هذا الكلام فأين هي آثار الأكوان المتعددة في كوننا حتى نستنتج ونلاحظ وجودها؟ بينما تبدو آثار الله تعالى ظاهرة في كونه ودالة على عظيم صنعه وقدرته، ويلاحظها الصغير والكبير ويدركها العامي البسيط والعالم المتعمق، وقديماً قال أعرابي بسيط لبيب:” البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على العليم الخبير؟”.
6- تنص “شفرة أوكام” على وجوب اختيار التفسير الأقل تعقيداً عندما توجد عدة تفسيرات لظاهرة ما، ومن هذا المنطلق فأمام التصميم الدقيق Fine Tuning لهذا الكون لدينا اختياران؛ إما الاختيار بين إله واحدٍ خالق لهذا الكون أو بين مجموعة فرضيات الأكوان المتعددة، ولا شك أن الاختيار الأقل تعقيداً والأمثل هو وجود الإله.
7- وجود شيء ما رياضياً لا يعني وجوده فيزيائياً أو واقعياً؛ وهذا ينطبق بالطبع على فرضية الأكوان المتعددة، فإثباتها رياضياً لا يعني إثبات وجودها الفيزيائي كما يفترض عالم الكونيات تيغمارك [انظر المقال الثاني من هذه السلسلة]، فالرياضيات تحتوي مثلاً على الأعداد العقدية وعلى اللانهاية، فهل هذه أشياء يمكن أن توجد على أرض الواقع؟ كما أن الرياضيات يمكن تشبيهها بلغة لفهم الكون، وعندما يتعلم أحد الأشخاص لغة ما كالفرنسية على سبيل المثال فهو يتعلمها ليفهم ما يقوله الفرنسيون عن أشياء موجودة بالفعل، إلا أنه إذا صنع كلمة في ذهنه مستخدماً الحروف الفرنسية فهذا لا يعني أن الكلمة الجديدة ستكون موجودة واقعيا بالفعل. وفكرة تيغمارك ليست جديدة، وإنما تعود في أصلها إلى حوالي خمسة قرون قبل الميلاد مع الفيثاغوريين الذين اعتقدوا “أن البنى الرياضية هي في أساس الأشياء جميعها جواهر”[3] ثم اعتبر أفلاطون أن الرياضيات جوهر الأشياء جميعا[4]، وما فعله تيغمارك هو أنه طبق الفكرة السابقة وأدخلها على فرضيات الأكوان المتعددة.
8- من الجدير بالملاحظة أن فرضيات الأكوان المتعددة بنيت على فرضيات علمية أخرى لم يتم إثباتها علمياً حتى الآن؛ وقد حصل هذا مع بعض تنبؤات نظرية التوسع الكوني، ونظرية الأوتار، وتفسيرات العوالم المتعددة في ميكانيكا الكوانتم لهيو إيفريت وغيرها.
9- هل يمكن القول إن فرضية الأكوان المتوازية نوع من الفلسفة أو الميتافيزيقا؟ والجواب الراجح هو نعم، حيث يقول بول ديفيز: “إن فكرة الأكوان المتعددة أو الوقائع المتعددة (multiple realities) بقيت في دوائر الفلسفة لقرون غير أن التبرير العلمي لها هو أمر جديد”[5]، فالعلماء المعاصرون من الملحدين خاصة تلقفوا هذه الفكرة الفلسفية التي وردت بتصورات مختلفة من عدد من الفلاسفة مثل ليبنتز ووليام جيمس وغيرهما، وحاولوا أن يلبسوها لباس العلم بطريقة ما، فالفكرة أصلها فلسفي وتدخل في إطار النقاشات الفلسفية.
أخيراً حتى لو سلمنا جدلاً بوجود هذه الأكوان المتعددة اللانهائية، أو ذهبنا بعيداً إلى أن العلم سيثبت يوماً ما بطريقة ما وجود هذه الأكوان، فهنا يُطرح سؤال بديهي: من أنشأ كل هذه الأكوان؟ ومن أين كانت نقطة الانطلاق؟ ومع هذا السؤال تعود الحلقة المكررة إلى بدايتها ويعود الملحدون إلى ترديد نفس الأسطوانة المشروخة عن نشأة هذا الكون الواحد وعن كيفية نشأة الحياة على الأرض، وتبدأ أحاديث الصدفة والعشوائية ويبقى الملحدون يدورون في هذه الحلقة المفرغة، حتى إن ظنوا أنهم وسعوها بافتراضات عجيبة مثل افتراض الأكوان المتعددة اللانهائية!
https://i0.wp.com/al-sabeel.net/wp-content/uploads/2018/02/متعددة-e1517652920224.jpg?fit=1080%2C608&ssl=16081080هادي صلاحاتhttps://al-sabeel.net/wp-content/uploads/2020/12/b1-1.pngهادي صلاحات2018-02-18 11:29:402020-10-17 04:41:57الأكوان المتعددة: علم أم خيال؟ (3 من 3)
بعد الحديث في المقال السابق عن أولى فرضيات الأكوان المتعددة وهي تفسير العوالم المتعددة في ميكانيكا الكم، نتابع هنا الحديث عن أهم تلك الفرضيات، تمهيدا لنقدها.
هيو إيفريت
فبعد فرضية هيو إيفريت، جاء ديفيد دويتش الفيزيائي البريطاني صاحب كتاب نسيج الواقع أو الحقيقة (the fabric of reality)، وبناء على فرضية إيفريت طرح دويتش فرضية تقول إن الأكوان المتعددة نشأت دفعة واحدة مع بعضها، ويُشبّه دويتش هذا الأمر بوجود مكتبات لانهائية العدد مليئة بنسخ من الكتب التي تشترك مع بعضها بنفس محتوى الصفحة الأولى ولكن تختلف في بقية المحتويات.[1]
ويقول دويتش إن “افتراض أن الديناصورات لم تنقرض، وأنها أسست حياة ذكية وحضارات، ليس مجرد خيال. بل هذا بلا شك موجود؛ حيث تقوم الديناصورات بتطوير المدن وبناء المسابر الفضائية والكمبيوترات المبنية على الرقائق المصنعة من السيليكون لأن هذا الأمر تخبرنا به قوانين الفيزياء…. وهذا الأمر يحصل في كون تكون فيه الذرات بحجم القطط”.[2]
الفارق بين فرضيتي إيفريت ودويتش أن الثاني لم يقل بالتشعب أو الانشقاق الذي قال به إيفريت، واعتمد على ما يسمى فكرة التواريخ البديلة (alternative histories)، حيث يشرح دويتش الفرق بافتراض وجود كتابين يتحدث كل منهما عن قصة بطل يريد اجتياز أحد الأنهار، فهو في أحد الكتابين يجتازه سباحة، وفي الآخر يجتاز النهر من فوق أحد الجسور، فلكل كتاب طريقة مختلفة، أي تكون النهاية متطابقة بينما تختلف التفاصيل، وعند إعادة دمج التفاصيل مع بعضها نعود إلى نفس البداية المتطابقة أيضاً، أما إيفريت فتختلف عنده النهاية مع التفاصيل ولا يمكن العودة إلى بداية أولى متطابقة.
وهناك فرضية أخرى تعود إلى نظرية التضخم الكوني (Cosmic inflation) التي طرحها العالم الأمريكي آلان غوث، والتي جاءت بدورها كمحاولة للتغلب على المشاكل الموجودة في نظرية الانفجار العظيم (Standard big bang theory)، مثل مشكلة الأفق والتسطح وعدم وجود أقطاب مغناطيسية مفردة وغيرها من المشاكل. ويجدر بالذكر أن نظرية التضخم الكوني بنيت بدورها على نظرية أخرى لم يتم إثباتها علمياً حتى الآن وهناك اعتراضات عليها.
في البداية تفترض نظرية التضخم الكوني أنه بعيد بداية الانفجار العظيم وعند ثانية من زمن بداية هذا الانفجار، مر الكون بمرحلة تضخم هائل وبسرعة أكبر من سرعة الضوء نفسها -سرعة الضوء تساوي حوالي 300000 كم في الثانية- واستمر هذا الأمر حتى مدة من زمن البداية، وبعد هذه المدة تابع الكون توسعه ولكن بنسب أقل.
طورت النظرية من عدد من العلماء الذين افترضوا أنه في المراحل الأولى من فترة التضخم البالغة السرعة وُلدت أكوان عدة [3]، وسُمي هذا النموذج بالتضخم الأبدي (Eternal inflation).
المصدر: Yinweichenl/wikipedia
وبناء على نظرية التضخم الكوني اقترح الفيزيائي الروسي الأصل أندريه ليندا نموذج التضخم العشوائي، حيث يكون فيه الكون ذاتي التولد مكونا من أجزاء مختلفة، كل جزء منها يبدو ككون صغير ومستقل عما يحدث في بقية الأجزاء.
ومن الفرضيات الأخرى للأكوان المتوازية الفرضية المعتمدة على نظرية الأوتار (String theory)، حيث تفترض الأخيرة أن الجسيمات الذرية وتحت الذرية ليست جسيمات نقطية عديمة الأبعاد (أي نقاط صغيرة ذات بنية داخلية)، وإنما هي حلقات صغيرة مصنوعة من أوتار تتحرك وتهتز، وهذه الأوتار لها 10 أبعاد أو 11 بعدا حسب النموذج المستخدم من نظرية الأوتار، وهذه الأبعاد تنتج لنا عدد كبيراً من الأكوان قد يصل إلى ، وفقا لحسابات البريطاني ستيفن هوكنغ، وبعض هذه الأكوان مشابه جداً لكوننا الحالي.[4]
ووصل الأمر أخيرا بعالم الكونيات ماكس تيغمارك ليقول إن أي افتراض رياضي لوجود كون يعني أن هذا الكون موجود بالفعل في مكان ما؛ فالوجود الرياضي لشيء ما حسب رأيه معادل لوجوده الفيزيائي!
لي سمولين
بل وصل الأمر بآخرين -كالفيزيائي الأمريكي لي سمولين- إلى تطبيق بعض مبادئ نظرية التطور الداروينية على الأكوان المتوازية، فأدخل مفاهيم الانتقاء الطبيعي والصراع من أجل البقاء على الأكوان التي تتكيف لتبقى![5] ويعدّ سمولين وغوث من العلماء الذين يرون إمكانية نشأة كون جديد داخل ثقب أسود ويتوسع إلى نطاق جديد في “الزمكان” لا يمكننا الوصول إليه.
هنا نصل الى استعراض أهم الفرضيات حول الأكوان المتعددة، وفي المقال القادم إن شاء الله أتحدث عن أعم الاعتراضات والردود على هذه الفرضيات.
الهوامش
[1] John Gribbin ,In search of the multiverse, John Wiley&SonsLInc,Hoboken,New Jersey,2009 p.63
https://i0.wp.com/al-sabeel.net/wp-content/uploads/2018/02/متعددة-e1517652920224.jpg?fit=1080%2C608&ssl=16081080هادي صلاحاتhttps://al-sabeel.net/wp-content/uploads/2020/12/b1-1.pngهادي صلاحات2018-02-13 09:37:212020-10-17 04:41:15الأكوان المتعددة: علم أم خيال؟ (2 من 3)
تصور أيها القارئ الكريم أن هناك كونا آخر انتصر فيه عبد الرحمن الغافقي بمعركة بلاط الشهداء وسيطر على باريس عاصمة فرنسا، وتصور أنه في كون ثالث اكتشف المسلمون أمريكا بدلاً من الإسبان فنجى السكان الأصليون من الإبادة، وتخيل أن كونا آخر انتصر فيه نابليون في معركة واترلو ليهيمن بعدها على القارة الأوروبية بدلاً من أن يقضي آخر حياته منفياً في إحدى الجزر النائية.
لعلها أفكار غريبة وجميلة في آنٍ واحد وتفتح المجال لتخيلات واسعة، لكن الواقع يقول إنه لا يكفي أن تكون الفكرة جميلة أو غريبة كي نصدقها؛ فضلاً عن أن تصدقها الاختبارات العلمية، ومن أشهر هذه الأفكار الغريبة فرضية الأكوان المتعددة أو المتوازية (Parallel or Multiverse Universes).
ربما طرحت هذه الفرضية من قبل الملحدين للهروب إلى الأمام، في محاولتهم لتفسير الضبط الدقيق الموجود في الكون وتفسير المبدأ الإنساني، فهذا المبدأ ينص على أن هذا الكون بقوانينه وبثوابته الفيزيائية الدقيقة جداً معدّ لحياة ذكية تنشأ في هذا الكون، ولو أن ثابتاً واحداً اختلف اختلافاً طفيفاً لما كنا اليوم موجودين.
لنأخذ مثالاً واحداً عن هذه الثوابت، وهو الجاذبية، فلو كانت أقوى بقدر ضئيل جداً مما هي عليه الآن لانهار الكون على نفسه، ولو كانت أضعف بقليل مما هي عليه لما تجمع أي شيء على بعضه ولبقي الكون فراغاً مبعثراً.
ستيفن هوكينغ
أحد أشهر الملحدين ستيفن هوكينغ فسر هذا الضبط الدقيق في الكون بوجود أكوان متوازية، ونفى خلق الكون من إله؛ حيث قال في كتابه “التصميم العظيم”: إن الضبط الدقيق في قوانين الطبيعة يمكن تفسيره بوجود الأكوان المتعددة… إن مفهوم تعدد الأكوان يمكنه أن يفسر الضبط الدقيق للقانون الفيزيائي دون حاجة لوجود خالق محسن يقوم بخلق الكون لمصلحتنا”[1]
وإحدى الطرق الأخرى للهروب من البحث عن تفسير مقنع للمبدأ الإنساني هي القول إن هذا أمر طبيعي وعادي جداً، كما قال مارتن ريس عالم الفلك: “إذا كان هناك مخزون كبير من الألبسة لن يفاجئك العثور على بذلة تناسبك. وإذا كانت هناك أكوان كثيرة وكل كون تحكمه مجموعة مختلفة من الأرقام فسيكون هناك واحد؛ حيث توجد مجموعة من الأرقام الملائمة للحياة، ونحن في هذا الواحد.”[2]
و قبل الشروع بالحديث عن ماهية فرضيات الأكوان المتوازية لا بد من إشارة صغيرة إلى أنه لو نظرنا إلى المبدأ الإنساني من وجهة نظر إسلامية فما هو إلا مبدأ التسخير الذي ذكره الله تعالى في عدة مواضع من القرآن الكريم؛ حيث قال تعالى في سورة لقمان: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير}، وقال تعالى في سورة الجاثية: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}، فهذا الكون مسخر ومعد لقدوم الإنسان له ليحاول سبر أغواره واكتشاف أسراره، والأهم من هذا بالطبع التعرف على خالق الكون من خلال الكون نفسه وقوانينه وعظمة خلقه وحسن وروعة صنعه.
أما فرضية الأكوان المتعددة فهي ليست نظرية علمية وإنما استنتاجات ونماذج مختلفة تولدت عن مجموعة من النظريات الفيزيائية والكونية الأخرى التي دفعت بعض العلماء –خاصة الملحدين- للقول إننا نعيش في عوالم أو أكوان متعددة. وظهرت هذه الفكرة في وقت مبكر مع قصص الخيال العلمي قبل أن تُؤخذ بعين الاعتبار في الأوساط العلمية، ويؤكد هذا جون غريبين أحد أشهر المبشرين بهذه الفرضية في كتابه “بحثاً عن الأكوان المتعددة”.[3] حيث تحدثت عدة روايات عن الأكوان المتعددة بطرق مختلفة، منها رواية “الرجل في القلعة العالية” للكاتب فيل ديك الصادرة عام 1962، والتي تفترض تاريخاً بديلاً تنتصر فيه دول المحور (ألمانيا، اليابان، إيطاليا) في الحرب العالمية الثانية بدلاً من انتصار الحلفاء (أمريكا، بريطانيا، الاتحاد السوفيتي).
أهم الفرضيات نبدأ بأقدم هذه الفرضيات، فكما هو معروف في ميكانيكا الكم (الكوانتم) فإن الجسيمات الذرية وتحت الذرية يتم التعامل معها على أساس احتمالي يخضع لمبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ (Uncertainty principle)، حيث تصبح القيم متغيرة.
ويتضح هذا الأمر خاصة عند فهم تجربة الشقين[4]، ففي محاولة تفسير هذا التصرف الغريب الذي تقوم به الجسيمات الذرية وتحت الذرية جاء تفسير كوبنهاجن، والذي كان أول من طرحه هو الفيزيائي الدانماركي الشهير نيلز بور، فقال إنه لا مجال للحديث عن الإلكترون أو حالته قبل أن نتمكن من رصده.
في مقابل هذا التفسير طرح الفيزيائي الأمريكي هوف إيفريت الثالث ما عرف بعدها باسم تفسير العوالم المتعددة لفيزياء الكوانتم (The many-worlds interpretation of quantum physics) أو المعروف باختصار MWI، فتاريخ هذه الأكوان يبدأ من نقطة واحدة ثم تحصل تشعبات أو تفرعات أو انشقاقات (splitting) مثل شجرة تبدأ بجذع واحد ثم تتشعب منها أغصان أخرى إلى ما لا نهاية.
ووفقاً لهذا التفسير فحالة الجسيمات الذرية متغيرة دائماً لوجود عدد لا نهائي من الأكوان، فهي مثلاً تتصرف في أحد الأكوان كجسيم وفي الكون الآخر كموجة، والفارق بين تفسير كوبنهاجن لبور وتفسير العوالم المتعددة لإيفريت يتضح جلياً في مثال قطة شرودينغر الشهيرة[5] التي لا يعرف هل هي حية أم ميتة، فوفقاً لتفسير كوبنهاجن فإننا لا نستطيع بلورة نتيجة نهائية لحالة القطة قبل أن نفتح الصندوق الموجودة فيه، بينما تفسير إيفريت يقول إن القطة حية وميتة في آن واحد ولكن كل حالة في كون مختلف، فهي حية في كون وميتة في كون آخر.[6]
ومن فرضية إيفريت هذه بدأت تخرج الفرضيات الأخرى حول الأكوان المتعددة، والتي سنتابع في المقال القادم إن شاء الله استعراضاً موجزاً لأهمها.
الهوامش
[1] ستيفن هوكينغ ليونارد ملودينوو، التصميم العظيم، ترجمة أيمن أحمد عياد، دار التنوير للطباعة والنشر،2013 ص198
[2] بيل برايسون موجز تاريخ كل شيء تقريباً، ترجمة أسامة محمد إسبر، مكتبة العبيكان،2014 ص34
[3] John Gribbin ,In search of the multiverse, John Wiley&SonsLInc.,Hoboken, New Jersey,2009 p.29
https://i0.wp.com/al-sabeel.net/wp-content/uploads/2018/02/متعددة-e1517652920224.jpg?fit=1080%2C608&ssl=16081080هادي صلاحاتhttps://al-sabeel.net/wp-content/uploads/2020/12/b1-1.pngهادي صلاحات2018-02-08 13:20:412020-10-17 04:40:48الأكوان المتعددة: علم أم خيال؟ (1 من 3)
الإلحاد ليس حالة طارئة في العصر الحديث، بل هو حالة صاحبت الإنسان منذ القدم. لكن، بعد ثورة وسائل الاتصال بمختلف أشكالها، وفي إطار أجندات مختلفة، وبسبب عوامل متشابكة، انفجرت موجة الإلحاد في الشرق والغرب، ولم يكن العالم الإسلامي بمنأى عن هذا الانفجار!
ولقد كتب كثيرون حول الإلحاد بأساليب شتّى ومن زوايا مختلفة، ما بين مُسهب ومختصر، ومُكثر ومُقل. غير أن المتابع يدرك أن هناك حاجة مهمة لتقديم مزيد من البحوث والتحليلات لمنظومة الإلحاد بشتى جوانبها ولوازمها، ولمختلف آثارها المعرفية والنفسية والسلوكية!
في هذه المقالة سأذكر -بشكل مختصر- أربعة مبررات أراها كافية للنهوض بهذه المهمة بشكل متواصل واجتهاد دائم. هذه المبررات يمكن تلخيصها في التالي:
أولاً- تبليغ الرسالة المسلم إنسان رسالي، بمعنى أنّه بمقتضى عهد الإيمان يجد نفسَه مدفوعاً للقيام بمهمة التبليغ والبيان للرسالة الخالدة التي يتضمنها الوحي الرباني. ولا شك أنّه حين ينصرف عن هذه المهمة المقدسة لأي مبرر يمكن أن يقدمه، فإنّه يكون مقصّراً تقصيراً بالغاً في التزام متطلّبات الإيمان!
ينبثق حس المسلم بضرورة تبليغ الرسالة عن اعتقاده أنّ الله سبحانه لم يخلق الإنسان عبثاً ولم يتركه سدى، بل بالحري أنه خلقه لغاية مقدسة: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون/15]. ولهذا، فالمسلم يعتقد أن الإنسان يستحق أن يعرف الحقيقة.. حقيقة الخالق والإنسان والحياة والمصير بعد الموت.
كما أن المسلم يعتقد -انطلاقاً من مرجعيّته الإسلاميّة- أن العقل يتضمن منظومة قواعد دلالية، تساعده على الاهتداء إلى الحق واستيعابه بشكل مجمل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم/30]. وهنا فإن دور المسلم تجاه الآخر ينحصر في التبليغ والبيان.
لكن، بالرغم من أنّ جوهر الفطرة هو محبة الحق والانجذاب إليه، إلا أنّ الإنسان لديه قابليّة موازية تتمثل في السقوط في مستنقع الانحراف والضلال، بفعل عوامل مختلفة. كما جاء في الحديث القدسي: {إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم} (صحيح مسلم)، أي أتتهم الشياطين فصرفتهم عن فطرتهم وأغرقتهم في الأباطيل.
في هذا الإطار، يمكننا أن نفهم بأنّ مهمة الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم هي استنقاذ الإنسان من أوحال الضلال والانحراف، ومساعدته على العودة إلى أصول فطرته الربانية: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية/21]، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت/18]. فإن شعلة الفطرة قد تخبو لكنها لا تنطفئ أبداً!
إذن، إن القيام للمساهمة في كشف الإلحاد وبيان أباطيل الملحدين يأتي في سياق عقيدة المسلم التي توجب عليه بيان الحق ليعرفه الناس وكشف الباطل ليجتنبوه، وهو ما يُعبّر عنه بشعيرة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. وإلا فإن التزام الصمتَ هو في الواقع مساهمة للترويج للإلحاد وإشاعة للمنكر ومحاصرة الحق وتغطية على براهين التوحيد وحقائق الإيمان!
ثانياً- معركة الأفكار المعركة بين الحق الذي يمثل التوحيد و الإيمان و الإسلام، وبين الباطل الذي يمثل الشرك والكفر والجاهلية، قديمة جدّاً ترجع إلى لحظة إعلان الله سبحانه خلقه لآدم عليه السلام، وأمره تعالى للجميع بالسجود له تشريفاً وتكريماً، فأطاعت الملائكة عليهم السلام أمر ربهم، وعصى إبليس حسداً من عند نفسه واستكباراً: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة/34].
ورغم التاريخ الطويل للبشرية والموغل في القدم، ورغم ما شهده من أحداث، فلم يكن يعكس في الواقع سوى أبعاد تلك المعركة الكبرى، ولم يكن سوى مسرح لمختلف مظاهرها وتجلّياتها! إذ ما كان لإبليس اللعين -وقد عرف مآل استكباره وطغيانه وإعجابه بعقله- أن يستسلم ويترك الساحة خالية لهذا المخلوق البشري الذي تسبّب له في اللعنة الأبدية: {قالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر/39،40].
لقد خاض الأنبياء عليهم السلام هذه المعركة بكل قوة وحزم، ورسموا لأتباعهم ضد أتباع الباطل والشر والاستكبار إطار المعركة وأساليبها وبراهينها وحدودها وغاياتها، وبذل هؤلاء العظماء العرق والدم، كما ضحوا بالراحة والمتعة، نعم وصبروا على المشاق والضغوط، كل ذلك في سبيل الانتصار للحق الأزلي، للتوحيد والإيمان، للخير والصلاح والجمال، رغم الجهود الهائلة التي بذلها أتباع إبليس المفسدين في الأرض لصد الناس عن معرفة الحقيقة!
واليوم، ها نحن أولاء نشهد فصولاً جديدة من هذه المعركة الخالدة.. معركة الإيمان والإلحاد! وهي جديدة لا لأن المضامين تغيّرت، ولا لأن الغايات تبدّلت عما كان عليه الحال خلال التاريخ الطويل، بل لأن حجم الكيد والمكر، وعنف الشدة والضغط الذي يمارسه أتباع الباطل بسبب الامكانيات الهائلة التي يتمتعون بها، ليس له مثيل من قبل، خصوصاً القدرة الكبيرة على نشر المعلومة المزيفة عبر وسائل مختلفة: الجرائد والمجلات، والبرامج والأفلام، والمواقع والمدونات والفيديوهات!
ونحن في المرجعية الإسلامية لا تهولنا هذه المعركة رغم شراستها وضغوطها وامتدادها، كما لا يهولنا حجم المكر الذي يمارسه المفسدون في الأرض لمحاصرة الإيمان وإشاعة الإلحاد بشكل مباشر وغير مباشر. لا يهولنا كل هذا، لأننا نعلم أنّ هذه المعركة تتضمن الكثير جدّاً من أسرار الحكمة الإلهية في حياة الإنسان، في الدنيا والآخرة. ومن هنا، فهي سنة من السنن التي نحن مأمورون إسلاميّاً أن نتعامل معها بأسلوب الإيمان، إذ كان ذلك جزءاً أصيلاً من عقيدتنا المقدسة.
إن صناع القرار اليوم في الغرب والشرق لا يترددون في التصريح المباشر بأنهم يخوضون معركة تغيير القناعات وصراع الأفكار، ويمارسون هذه المعركة بشكل عملي بمختلف الوسائل الممكنة لهم، ماديّاً ومعنويّاً، ومن هنا، لا جرم أنه يجب علينا نحن حملة الرسالة المقدسة وأتباع التوحيد والحق الأزلي أن نقوم بدورنا في هذه المعركة بكل ما نستطيع، فهذا فرض الله سبحانه علينا: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة/251].
ثالثاً- شيوع الظاهرة لا يمكننا إنكار حقيقة أن الإلحاد المعاصر لم يعد كما كان في الأزمنة الماضية، بل هناك اختلافات واضحة بين الإلحاد القديم والإلحاد المعاصر يمكن رصدها في التالي:
(أولاً) قديماً كان الإلحاد مجرد حالات شاذة هنا وهناك بين مختلف الأمم والحضارات بنِسب متفاوتة، أما اليوم في عصرنا الحاضر فهو أشبه بالظاهرة الاجتماعية والعالمية. ونقول بأن الإلحاد صار ظاهرة باعتبار الماضي، وإلا فالإحصائيات بل والواقع يؤكدان على أن نسبة الملحدين ضئيلة جدّاً مقارنة بنسبة المؤمنين.
(ثانياً) قديماً لم يكن للإلحاد الكثير من الآليات التي تساعده على الانتشار والذيوع، أما في عصرنا الحاضر فالإلحاد يعيش فترته الذهبية بفعل الامكانيات المادية الهائلة والوسائل المتعددة كالإنترنت والمجلات والكتب التي أتاحت له الانتشار والشيوع. ولهذا لم يعد الوصول إلى الجمهور بمختلف شرائحه مشكلة بالنسبة للإلحاد.
(ثالثاً) قديماً كان الإلحاد أقرب إلى قناعة شخصية يعيشها صاحبها ولا يعنيه كثيراً مشاركة الآخرين له فيها، أما في عصرنا الحاضر فالإلحاد صار يُقدم عبر خطط وآليات مدروسة على أنّه البديل الأفضل عقليّاً وأخلاقيّاً للأديان، أي إنّ الإلحاد اليوم يتبنى فكرة الصدام المباشر والمتعمَّد مع الإيمان لتحقيق أهداف معيّنة!
(رابعاً) قديماً كان الإلحاد في لحظة الدفاع والتبرير يعتمد على الجدل العقلي الفلسفي وعلى البُعد النفسي الأخلاقي، أما في عصرنا فالإلحاد لا يعتمد على هذين بقدر ما يستغل الهوس بالعلم الطبيعي لدى جمهور الناس لينال طابع المصادقة على صحته، خصوصاً وأنه يغطي قناعاته الإلحادية بالعلم على أساس أنها حقائق علميّة!
(خامساً) قديماً كان الإلحاد محصوراً بنسبة أكبر في دائرة ضيّقة جدّاً، هي دائرة المتعاطين للجدل والفلسفة، أما في عصرنا الحاضر بفعل عوامل متعددة كالحداثة والرأسمالية وتسطيح العقول وتنميط الرؤى والتخلف المادي الناتج عن طغيان الغرب على البلدان المتخلفة، فقد اتسعت الدائرة لتشمل حتى المراهقين والأميين وأشباههم!
(سادساً) قديماً كان الإلحاد ينطلق من دوافع شخصية منفصلاً عن أية سياقات اجتماعية وحضارية، أما في عصرنا الحاضر فلا يمكننا فصل الإلحاد في الفضاء العربي والإسلامي عن سياق معركة الأفكار وحرب تغيير القناعات التي يمارسها الغرب كجزء من استراتيجية الهيمنة ومحاصرة الإسلام، وهذا باعتراف صناع القرار الغربي ومراكز البحوث!
كانت تلك أهم معالم الاختلافات الجوهريّة بين الإلحاد القديم والمعاصر. وهي مبررات كافية لتقديم مزيد من البحوث حول الإلحاد، وتجديد أساليب العرض والبيان، لتكون محيطة بأوسع جوانب الظاهرة.
رابعاً- تفشي الأمية الشرعية من السمات الواضحة في شبابنا المعاصر، ما يمكننا تسميته بالأمية الشرعية! والمقصود بها أن شريحة كبيرة من الشباب المسلم لا يعرفون من الإسلام سوى القشور ونُتف عابرة تلقفوها من هنا وهناك!
هذه الجهالة بحقائق الإسلام في الواقع لم تنشأ من فراغ وبدون أسباب، بل بالحري أن لها عوامل ساهمت في نشأتها وشيوعها ورسوخها، يمكننا تحديدها في التالي:
*حالة التخلف التي مرّ بها العالم الإسلامي في القرون الأخيرة قبل السقوط.
*الاحتلال الغربي لبلدان العالم الإسلامي وحرصه على فصل المسلم عن إسلامه.
*استمرار تنفيذ خطة الاحتلال الغربي من خلال وكلائه العلمانيين من خلال الإعلام والمقرر الدراسي.
*الانغماس في فضاءات الانترنت واللهاث المحموم وراء الأخبار والمنشورات وهو ما يستنفذ الوقت.
كل هذه العوامل أنشأت في الشباب المسلم قابلية كبيرة للتأث�� بالخطاب المنحرف، سواء تمثل في نسخته العلمانية أم في نسخته الإلحادية. فلا جرم أن يكون الواجب مضاعفاً على العلماء والدعاة والمفكرين تجاه هؤلاء الشباب، فهم مستقبل الإسلام، وإهمالهم وتركهم فرائس سائغة للخطاب الإلحادي وغيره، لا شك أنه ستكون له أضرار عظيمة فضلاً عن الخطيئة الكبرى في ميزان الله سبحانه.
هناك تداخل كبير بين عالم التلفاز والسينما وعالم ألعاب الفيديو، حيث تبنى الكثير من ألعاب الفيديو على مسلسلات وأفلام كما في لعبتي (The Godfather) و(The Walking Dead)، وقد يحدث العكس كما في سلسلة (Assassin’s Creed) والتي تم تحويلها عام 2016 لفيلم سينمائي.
وهناك أيضا ألعاب وأفلام ذات أصل مشترك، كما في الألعاب والأفلام المبنية على شخصيات القصص المصورة، كشخصيات عالم (Marvel)، مثل (Spider-Man) و(Iron Man)، وشخصيات عالم (DC) مثل (Superman) و(Batman)، وكذلك روايات (Harry Potter) والتي بنيت عليها العديد من الأفلام وألعاب الفيديو.
وتقدر إيرادات ألعاب الفيديو لعام 2017 بأكثر من 115 مليار دولار، وفي الولايات المتحدة وحدها تجاوزت الإيرادات 23 مليار دولار، أي أكثر من ضعف إيرادات شباك التذاكر (Box Office) البالغة 11 مليار دولار تقريبًا.
والفئة المستهدفة في ألعاب الفيديو ليست الأطفال فحسب، حيث تتراوح أعمار 35% من اللاعبين حول العالم بين 21 و35 عامًا.
لذا فألعاب الفيديو تستحق تسليط الضوء، فأثرها قد يوازي –أو يفوق- الأفلام السينمائية في خطورته، لما فيها من تفاعل أكبر مع المحتوى. فعلى سبيل المثال، يمكن من خلال ألعاب مثل (Call of Duty) أو (Medal of Honor) -وغيرهما الكثير- عرض الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة من وجهة نظر أمريكية صرفة تزيف التاريخ، وتظهر الجنود الأمريكيين كحماة للسلام، والتطبيع مع هذه الأفكار في أذهان الأطفال منذ صغرهم.
ألعاب الفيديو والمؤسسات العسكرية تم إنشاء أول حاسوب للأغراض العامة (ENIAC) عام 1946، وبعدها بعامين فقط ظهرت أولى ألعاب الفيديو الحربية وكانت من إنشاء مكتب أبحاث عمليات الجيش، ومنذ ذلك الحين والعلاقة بين ألعاب الفيديو والمؤسسة العسكرية آخذة بالتعمق.
ديف أنتوني (Dave Anthony) مصمم لعبة (Call of Duty) عام 2004، ضليع في وضع سيناريوهات لنهاية العالم مع تصورات شاملة للحروب، وهو حاصل على مرتبة الشرف في علوم الحاسوب، ويتضمن ذلك الذكاء الاصطناعي ومعالجة اللغات الطبيعية. يعمل الآن في المقر الرئيس للمجلس الأطلسي في واشنطن، وهو مؤسسة بحثية (Think tank) مؤثرة في مجال الشؤون الدولية، وذلك لمساعدة الولايات المتحدة للاستعداد للأسوأ. ويتمثل دوره في تحديد التهديدات غير التقليدية لأمريكا، من خلال تخيل مستقبل البلاد كما في ألعاب الفيديو، وتصور النهايات غير المتوقعة.
ويستخدم الجيش الأمريكي الألعاب لتدريب جنوده، ففي عام 1997 كانت لعبة (Doom) تستخدم لتدريب مشاة البحرية (Marines)، ويتدرب الجنود الآن باستخدام أنظمة الواقع المعزز التكتيكية. ويعزو العديد من النقاد قسوة الحرب الحديثة إلى كونها تشبه إلى حد كبير ألعاب الفيديو.
ومن هنا طرأ التساؤل: ماذا لو أصبحت الحروب تحاكي ألعاب الفيديو بدلا من العكس؟
أتت الفكرة من ويليام روبر (William Roper) مدير مكتب القدرات الاستراتيجية بوزارة الدفاع، منذ تأسيسه عام 2012، ومهمته دراسة أين تتجه الحرب، ومن ثم تطوير الأدوات التكنولوجية التي تساعد الولايات المتحدة على الانتصار.
وما يدلل على نجاح المكتب وتزايد أهميته هو زيادة موازنته 18 ضعفًا منذ تأسيسه قبل أقل من ست سنوات، فالخدمات العسكرية تفكر بواقع اليوم، ووكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية DARPA تفكر بالمستقبل البعيد، أما روبر فيفكر بالغد المباشر.
ويقول روبر إنه في عصر إنترنت الأشياء (Internet of Things -IoT) لم تعد حواسنا تحدد حدود تصورنا، حيث سيعيش الجنود في المستقبل القريب في عالم يتوفر فيه كمّ لا محدود من المعلومات لمساعدتهم، كخريطة لجميع الجنود القريبين وصور حرارية وخرائط متغيرة باستمرار وإشعار عند انخفاض مستوى الذخيرة، مع خوارزميات التعلم العميق لتوقع خطوة العدو القادمة واقتراح خيارات لمواجهته، وكذلك مشورة استراتيجية تبنى على أساس خطة أولية للمعركة وتعدل مع استمرار المعركة.
وإذا كان يمكن من الناحية النظرية للجيش الاكتفاء بإرسال الآلات بدلا من البشر، لكن ذلك سيؤدي –حسب روبر- لمشكلة أخلاقية تتمثل بتفويض قرار قتل شخص ما لآلة، وأخرى تقنية تتمثل في أن الآلات حاليًا يمكنها اتخاذ قرارات جيدة فيما يخص أشياء رأتها من قبل فقط.
لذا فالتحدي قريبًا سيكون في حصول الجنود على أكبر قدر ممكن من المعلومات، مع قدر مماثل من التعلم بأبسط وأوضح الطرق، وفعل ذلك بمفردهم في البنتاغون هو –برأي روبر- “أصعب تحدٍ” لكن صناعة ألعاب الفيديو قد حققت ذلك بالفعل. فصناعة الألعاب، هي التي وضعت أفضل الطرق للاعبين للتعاون عبر البلدان كما لو كانوا يجلسون في نفس الغرفة، كما بنت واجهات سهلة للمستخدمين، لدرجة أن الألعاب الجديدة المعقدة لا تحتاج حتى للتدريب.
وقد لا ترغب بعض شركات ألعاب الفيديو في المشاركة بأمور عسكرية حربية، لكن هذا –على حد تعبير روبر- هو “نداء الواجب الحقيقي”.
وتتمثل المشاركة بأن تبني شركات الألعاب للبنتاغون الأنظمة التي يريدها مع إعطائه وصولًا حصريًا لمدة معينة، ثم كل شيء يمكن أن يعود إلى اللعبة. فيقول روبر: “نحن لا نملك المنتج، نحن نملك الوقت”.
وهكذا سيحصل الجيش الأمريكي على أفضل ما توصلت إليه شركات الألعاب، ويستقطب الموظفين ذوي الخبرة، أو يعطيهم صورة أشمل لتوسيع نطاق عملهم وضمان اتساق عملهم مع الأهداف المرجو تحقيقها، دون حاجتهم إلى الاجتماع بأعضاء آخرين. ولترغيب الموظفين بالتعاون، قد يتم تمكينهم من مرافقة فرق العمليات الخاصة لمكاتب وزارة الدفاع.
نشر القيم المنحلة تعد قنوات ألعاب الفيديو من أكثر القنوات متابعة على يوتيوب، فالقناة الشخصية الأكثر متابعة على الموقع هي قناة (PewDiePie) التي يتابعها أكثر من 59 مليون شخص، وهي للاعب ألعاب فيديو، وقد تجاوز مجموع المشاهدات في الثلاثين يومًا الماضية 300 مليون مشاهدة على هذه القناة وحدها، أي لو كانت مدة كل مشاهدة دقيقة واحدة فقط، فإن عدد ساعات المشاهدة يتجاوز 570 سنة، مع العلم بأن مدة الفيديوهات على القناة تتجاوز العشر دقائق، وتصل مدة بعض الفيديوهات إلى بضعة ساعات.
والكثير من الألعاب التي يتم عرضها (لعبها) في هذه القنوات تساهم بنشر القيم والأفكار المنحلة. ففي لعبة (Night in the Woods) مثلًا يجب على اللاعب في إحدى مهمات اللعبة حل خلاف بين اثنين من الشواذ، بتذكير كل واحد بمفاتن الآخر، والأمر لا يختلف كثيرًا في لعبة (South Park: The Fractured but Whole).
وفي الجزء الخامس من لعبة Lakeview Cabin يجب القيام بطقوس شيطانية تتضمن قيام اللاعب بالسفاح، وذلك أمام الكاميرا مباشرة، لكن الصورة لا تكون واضحة بسبب شكل اللعبة الكلاسيكي القديم، رغم أنها لعبة جديدة صدر آخر أجزائها مؤخرًا.
وأما شركة (Rockstar games) فمعروفة بسلسلة GTA التي يتخذ اللاعب فيها دور رجل عصابات، بكل ما في الأمر من انحطاط يتضمن القتل والسرقة والزنا والذهاب إلى الملاهي الليلية… إلخ. ومن ألعاب الشركة ذاتها لعبة (Bully scholarship edition) وهي مشابهة للسلسلة السابقة لكن داخل نطاق مدرسة، وفيها إمكانية إهداء الزهور والحلوى لطلاب المدرسة الذكور وتقبيلهم.
ويزداد الأمر سوءًا في ألعاب من نوع (Interactive Story Games)، ففيها يتخذ اللاعب بملء إرادته القرارات التي تحدد مصير القصة، ومن الأمثلة على هذا النوع لعبة Life is Strange: Before The Storm التي يأخذ اللاعب فيها دور فتاة تكسر القوانين، وتعطي اللعبة الخيارات التي تسمح للشخصية بالتلفظ بأبشع الألفاظ وتعاطي المخدرات عدا تخريب الممتلكات العامة. ويتقاطع طريق هذه الفتاة مع فتاة طيبة مجتهدة، وبالتدريج تبدأ اللعبة بوضع بذور الحب الشاذ بين الشخصيتين، من خلال مواقف وظروف مشتركة مرسومة بطريقة سينمائية مغرية ومدروسة، فيتدرج الأمر من إعطاء اللاعب الخيار بقول عبارات المديح الزائد إلى مداعبة خصلات الشعر وصولًا إلى تقبيل الفتاة بمشهد درامي في ليلة ثلجية.
وأخيرًا لعبة (Dream Daddy: A Dad Dating Simulator)، والتي يأخذ فيها اللاعب دور أب وحيد يأتي مع ابنته إلى حي جديد، والهدف من اللعبة هو “مواعدة” كافة الآباء في الحي.
وغني عن الذكر أن على أصحاب قنوات الألعاب اللعب بالطريقة الأكثر جذبًا للمتابعين والتي تضمن أعلى قدر من المشاهدات. وقد يتصرف اللاعبون بالكثير من التصرفات الشاذة من باب الفضول أو التجربة.
وتتفاقم المشكلة مع تطور الرسوميات وتسارع التقدم التقني في مجالي الواقع الافتراضي والواقع المعزز، فضلا عن استخدام مثل هذه التقنيات في الألعاب ذات المحتوى الإباحي.
لذا فإن ألعاب الفيديو شأنها شأن جميع أدوات الإعلام، يجب عدم الاستهانة بمحتواها، والتعامل معها بانتباه ووعي.
https://i0.wp.com/al-sabeel.net/wp-content/uploads/2018/01/26937700_841146949397320_1557240927_o.jpg?fit=1030%2C430&ssl=14301030هادي صلاحاتhttps://al-sabeel.net/wp-content/uploads/2020/12/b1-1.pngهادي صلاحات2018-01-21 10:27:012020-10-14 18:21:14الوجه الآخر لألعاب الفيديو
بعد تحققنا من إمكانية المعرفة، وبعد بحثنا في مصادرها التي نشأ عن الاختلاف فيها ظهور عدة تيارات فكرية، سيبدأ مسيرنا في سبيل الحقيقة من أولى الحقائق الوجودية التي تشغل عقل الإنسان، وهي وجود الإله الخالق للموجودات والمدبر لشؤونها، فنستعرض أولا الفكرة المضادة المنكرة لوجوده (الإلحاد)، ثم نناقش أدلتها للتحقق من قدرتها على الإقناع، وسيكون دليلنا في هذا المسير مزيج من العقل والحس (التجربة).
الإلحاد يُقصد بالإلحاد في العصر الحديث إنكار وجود إله خالق، وهذا المعنى يختلف مع الاستخدام القديم في اللغة العربية للمصطلح، حيث كانوا يُطلقونه على المذاهب الفكرية التي يميل أصحابها عن منهج الإسلام، لأن الإلحاد في اللغة هو الميل، أما إنكار الخالق فكان يسمى “إنكار الصانع”، وهو أمر نادر للغاية في التراث العربي.
ديموقريطس
بل كان إنكار الصانع نادرا في التاريخ البشري كله قبل العصر الحديث، ولعل أول من قال به من الفلاسفة هو اليوناني ديموقريطس في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث رأى أن الكون مادي بحت، ثم أنكر أبيقور في القرن الرابع قبل الميلاد وجود إله لاعتقاده بأن ذلك يتناقض مع وجود الشر في العالم، وذلك حسب ما نقله عنه الفيلسوف ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر (ليس هناك مصدر مؤكد آخر لمقولة أبيقور). ولم يشتهر عن الفلاسفة الآخرين إنكار الخالق بالرغم من التفاوت الكبير في آرائهم بشتى القضايا الوجودية.
في القرن السابع الميلادي، ذكر القرآن فئة من الناس أنكروا البعث بعد الموت، فنقل عنهم: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} [الجاثية: ٢٤]، فأطلق المفسرون على هذه الفئة اسم الدهريين، وظن البعض أنهم يقابلون ملاحدة العصر الحديث، لكن الآية لا تذكر شيئا عن إنكارهم للصانع.
ويرجح باحثون أن كل ما قيل عن إلحاد بعض الفلاسفة في التاريخ الإسلامي ليس دقيقا، ومن أشهر هؤلاء ابن المقفع والكندي والفارابي وابن سينا وأبو العلاء المعري وابن الراوندي، لكن التحقيق يؤكد أنهم كانوا يؤمنون بوجود إله بطريقة أو بأخرى على اختلاف عقائدهم، وقد كان أقصى ما وصل إليه بعضهم هو إنكار رسالات الأنبياء والبعث، وليس إنكار الخالق.
نيوتن
لذا قال ابن رشد في كتابه “الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة” إن العرب كلها تعترف بوجود الباري، كما قال الشهرستاني في موسوعة الملل والنِحل إن شبهات العرب مقصورة على شبهتي إنكار البعث وبعثة الرسول، وقال أيضا “أما تعطيل الصانع العالم القادر الحكيم فلست أراها مقالة لأحد”.
يقول المؤرخ الفرنسي لوسيان فيفر في كتابه “مشكلة عدم الاعتقاد أو اللادينية في القرن السادس عشر: عقيدة رابليه” إن الفيلسوف رابليه لم يكن كذلك ملحدا كما يعتقد الكثيرون اليوم، فمع أنه كان شديد السخرية من الدين ورجال الكهنوت إلا أنه لم يجرؤ على إنكار الإله، لأن الأدوات الفكرية المتاحة حتى القرن السادس عشر لم تكن تسمح بوجود تيار فلسفي إلحادي، كما لم يكن لدى الفلاسفة الدعم العلمي الفيزيائي الذي يسمح لهم بتشكيل رؤية إلحادية مادية للكون.
لكن هذا الإجماع على وجود الإله بدأ بالاهتزاز على يد رواد “الثورة العلمية” المقترنة بثورات سياسية واقتصادية، مثل كوبرنيكوس تل الصلبان في ليتوانيا بأوروبا الشرقية يحتوي على مئات آلاف الصلبان، فمع أنهم كانوا مؤمنين بالله إلا أنهم مهدوا الطريق للشك بوجوده بتقديم رؤية مادية للكون، حيث شاع الاعتقاد آنذاك بأن اكتشاف القوانين المادية التي تتحرك وفقها الأشياء والأجرام يعني عدم الحاجة لوجود خالق.
بيير لابلاس
ومع حلول نهاية القرن الثامن عشر، أهدى عالِم الرياضيات الفرنسي بيير لابلاس نسخة من كتابه “حركة الأجرام السماوية” إلى الإمبراطور نابليون بونابرت، فسأله الأخير عن سبب إغفال ذكر الإله في كتابه الرياضي، فأجابه “سيدي، لست بحاجة لهذه الفرضية”. ويرى العلماء الملحدون اليوم أن هذا الموقف كان مؤشرا على بداية ظهور الإلحاد المدعوم بالعلم، والحقيقة أن نظرية لابلاس الرياضية لم تكن أصلا تستلزم البحث في وجود إله، فهو لم يستغنِ عن اللاهوت كما يقول أوستن فارر، بل تعلم كغيره من العلماء ألا يتدخلوا في الدين وأن يلتزموا حدود تخصصهم. فلو أن نابليون سأل لابلاس من البداية: لماذا يوجد كون من أجرام مادية تتحرك وفقا لقوى الجاذبية التي تعبر عنها معادلاتك؟ فعندئذ سيكون من الصعب أن يجيب بنفس جوابه السابق، لكن الملحدين المعاصرين اعتادوا على اعتبار ذاك الجواب كافيا عندما قرروا توسيع دائرة العلم ليشمل كل شيء.
وبالرغم من شيوع الأفكار العلمانية والتحلل من الأديان كلها في تلك الفترة، ولا سيما في ظل الدعم الذي قدمته الجمعيات السرية للأنظمة السياسية الثورية وللجمعيات العلمية الحديثة، إلا أن الإلحاد لم ينتشر بصورة ملحوظة إلا بعد ظهور نظرية تشارلز داروين في النشوء والارتقاء بمنتصف القرن التاسع عشر، حيث أصبح من الممكن أخيرا تقديم تفسير “علمي” لوجود الكائنات الحية ذات الصنع المتقن -وعلى رأسها الإنسان نفسه- دون حاجة للتصديق بوجود خالق لها، فأنشأ بعض الفلاسفة تيارات جديدة على أساس إلحادي، مثل أوغست كونت وكارل ماركس وفريدريك نيتشه وسيغموند فرويد ولودفيغ فيورباخ.
بعض أدلة وجود الله سنلخص في هذه الفقرات أهم الأدلة العقلية والحسية التي تؤكد ضرورة وجود إله، ونحن نرى أن مناقشة تفاصيل التساؤلات التي قد يطرحها المشكك قد تستغرق مئات الصفحات وتتطلب من القارئ غير المتخصص جهدا مضاعفا، والأولى أن نبين الأدلة التي تقبلها كل العقول لبداهتها، فلو كان وجود الإله غامضا لكان الإيمان به من شأن النخبة فقط، ثم نستشهد بما أثبته العلم التجريبي من ضرورة الخلق والتدبير.
الدليل الأول: الصنع الغائي ذكرنا في مقال مصادر المعرفة أن في العقل البشري مبادئ أولية “بدهيات” لا تحتاج إلى إثبات، ومنها دلالة الصنع الغائي على وجود صانع له غاية، فعندما يرى الإنسان قلماً صغيراً بعلامات دقة واضحة فإن عقله يقتنع مباشرة بأن هناك صانعا صنعه ليؤدي غاية ما، فالقلم المُتقن ليس ككومة تراب أو حجارة عشوائية في الصحراء، والأمر ذاته ينطبق على الأشياء الأكثر تعقيدا كالحاسوب والهاتف والسيارة، فكلها تحمل علامات صنع لتؤدي غايات معينة.
والعقل لا يستطيع أن ينكر هذا المبدأ البدهي، وأقصى ما يمكنه أن يفعل هو أن محاولة التشكيك في استمرار العلاقة الدائمة بين التصميم والمُصمم، فيفترض احتمال انفكاك هذه العلاقة في ظرف لا نعلمه بعد، أو يقول إن أحكامنا هذه مبنية على أمثلة نعرفها لأنها تتعلق بأشياء صنعها الإنسان، فيرفض سحب دلالة الصنع الغائي على سائر الأشياء الأخرى لتدل على وجود خالق.
لكن محاولة إنكار اطّراد العلاقة بين التصميم والمُصمم أو المصنوع والصانع هو إنكار للعقل نفسه، فهو كقول قائل إن جمع واحد مع واحد يساوي اثنين لا يصح إلا فيما نعرفه فقط وإنه ليس بالضرورة أن يكون هكذا دوماً في ظروف أخرى لا نعرفها، وهذا نوع من السفسطة، فالبديهيات العقلية لا تتجزأ ولا تنفصل.
في عام 1997 أنتجت هوليود فيلما بعنوان “اتصال” contact، مقتبسا عن رواية بنفس الاسم للعالِم الفلكي كارل ساغان، حيث يحكي الفيلم قصة عالِمة فلك تدعى “إيلي” وهي تدرس مع زملائها في مركز أبحاث “سيتي” إشارات واردة من أعماق الفضاء، ويتبين أنها تتمتع بصفتي التفرد والتعقيد، ما يؤكد استحالة كونها قد نشأت بالصدفة، لذا يصيح أعضاء الفريق “إنها ليست تشويشا كونيا، إنها تحمل نظاما”، ثم تكشف أحداث الفيلم عن ورود تلك الرسائل بالفعل من عوالم أخرى.
واللافت أن كلا من مؤلف القصة ساغان وبطلة الفيلم جودي فوستر ملحدان، فالفيلم يؤكد أن رسالة معقدة واحدة تكفي لإثبات وجود مرسل ذكي، لكن ساغان لا يستخدم نفس هذا المنطق عندما يرى أن تعقيد الحمض النووي لا يمكن أن ينشأ عن صدفة عشوائية!
يقول علي عزت بيجوفيتش في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”: “إذا وجدنا في اكتشاف أثري حجرين موضوعين في نظام معين أو قُطّعا لغرض معين، فإننا جميعاً نستنتج بالتأكيد أن هذا من عمل إنسان ما في الزمان القديم. فإذا وجدنا بالقرب من الحجر جمجمة بشرية أكثر كمالاً وأكثر تعقيداً من الحجر بدرجة لا تقارن، فإن بعض العلماء المكتشفين لن يفكر في أنها من صنع كائن واع، بل ينظرون إلى هذه الجمجمة الكاملة أو إلى الهيكل الكامل الذي تتجلّى فيه قدرة صانعه كأنهما قد نشئا بذاتيهما أو بالصدفة”.
ومن الملاحظ أن الكثير من العلماء الملحدين المعاصرين يدعمون مشاريع عملاقة للبحث عن مؤشرات لوجود كائنات حية في كواكب أخرى، وذلك برصد الإشارات اللاسلكية والميكروية القادمة من أعماق الكون، أملا في أن تحمل رسائل مشفرة تختلف عن النبضات والموجات الكونية العادية، فلو كانوا يعتقدون فعلا بأن العوالم الأخرى لا يجب أن تنسحب عليها مبادئنا العقلية فلا ينبغي إذن أن يعتقدوا بأن ما قد يصل من تلك العوالم من علامات الذكاء هو مؤشر على أي شيء يخص تلك العوالم المجهولة.
حاول فيلسوف الشك والعدمية ديفيد هيوم [انظر مقال مصادر المعرفة] أن ينفي صحة دليل الغائية والتصميم معتبرا أنه من باب قياس الغائب على الشاهد، كأن نقول مثلا إذا كان للبيت مهندس فلا بد أن يكون للكون خالق، وهذا قياس للكون على البيت وقياس للإله على الناس. ويقول هيوم أيضا إننا لم نشاهد عالَما آخر لنقارنه بعالمنا كي نستنتج أن هذا العالم مخلوق بالضرورة.
لكن هيوم لم يلاحظ أن البيت والكون من جنس واحد، فكلاهما كيان مادي حادث في الزمان والمكان، وكلاهما يحتاج إلى طاقة، والاختلاف بينهما يقتصر على الصفات فقط وليس الجنس.
واللافت أن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت كان قد سبق هيوم وأوضح أن “برهان التصميم” يعتمد على الحدس (نقصد هنا الحدس الفلسفي وليس الصوفي)، أي بالإدراك العقلي المباشر وليس بالاستنتاج والقياس، فديكارت يقول إن أولى الحقائق التي يدركها العقل هي وجود الذات (أنا أفكر إذن أنا موجود)، ثم يدرك مباشرة أن هناك خالقا موجودا بالضرورة وهو الذي أوجده، وهذا الإدراك ليس قياسا بل حدسا.
فإذا هبط أحدنا مثلا على سطح كوكب بعيد ووجد عليه جهازا معقدا وهو لا يعرف شيئا عن حقيقته وآلية عمله، فسيدرك فورا وبدون قياس ولا مقدمات أن هناك مصمما ما قام بتصميم هذا الجهاز.
العلة الفاعلة والعلة الغائية قد يقع الإنسان في الحيرة عندما يخلط بين العلتين الفاعلة والغائية، فالرؤية المادية للكون لا تتجاوز العلة الفاعلة (الكيفية) لتفسير ظواهر الكون، مثل نسبة حركة الكواكب إلى قوى الجاذبية والطرد والتنافر، وهي علل (أسباب) يعترف بها المؤمن ويدرسها ويتعامل معها وفقا لقوانينها، إلا أنه يرى في الوقت نفسه أن هناك علة غائية وراءها تعود إلى إرادة الإله وقدرته.
ولا تتعارض العلتان بالضرورة، فعندما نقول إن شخصا حُكم عليه بالإعدام شنقا قد فارق الحياة بسبب الشنق؛ فنحن نتحدث هنا عن العلة الفاعلة (كيفية موته)، وسنكون على حق أيضا إذا قلنا إنه مات لأنه قتل شخصا بريئا (علة موته)، فيكون الحديث هنا عن العلة الغائية التي لأجلها تم لف حبل المشنقة حول رقبته.
الدليل الثاني: السببية وعدم التسلسل تعد السببية من البدهيات العقلية الأولية أيضا، ولتوضيحه نضرب مثالا بجنديّ يحمل سلاحه ويستعد لإطلاق رصاصة عند أمر قائده، ولكن قائده ينتظر أمراً من قائده، وقائده ينتظر أيضا أمر قائده… وهكذا، فإذا افترضنا ان هذه السلسلة من القادة مستمرة إلى ما لا نهاية وأنه لا يوجد قائد أخير تصدر كل الأوامر منه دون أن ينتظر أمرا من أحد؛ فهل ستنطلق رصاصة الجندي؟ والإجابة هي حتما لا.
لذا يجزم العقل البشري باستحالة أن يكون الكون وما فيه من موجودات معقدة قد نشأت عن سلاسل مستمرة من الظهور والفناء للذرات ومكوناتها من غير بداية محددة، فلكل سبب مسبِّب ولكل حادث مُحدِث، ولا بد من وجود موجود أول غني عن كل ما سواه.
من أجل ذلك آمن الفلاسفة على مر العصور بالإله، على اختلاف تصوراتهم له، وعبّر عنه الفلاسفة في التراث الإسلامي بقولهم إنه “واجب الوجود”، وذلك لأن كل الموجودات في هذه القسمة العقلية إما ممكنة الوجود (أي أن وجودها وعدمها يستويان في الاحتمال وهي كل الموجودات في الكون)، وإما مستحيلة الوجود (وهي الأشياء المتناقضة في ذاتها كأن نتخيل وجود مربع بثلاث زوايا في مستوى واحد)، وإما واجبة الوجود (أي التي لا بد من وجودها لأنها سبب وجود الممكنات، وهو الخالق الأزلي).
وقد يتساءل المشكك: لماذا نستثني الإله من التسلسل؟ فإذا كان لا بد لكل موجود من موجِد فلماذا لا يكون للإله خالق أوجده؟ والجواب هو أن إنكار السببية سيوقعنا في مشكلة أكبر، فإذا اعتبرنا الإله محتاجا لموجد آخر فقد أصبح بذاته مشابها للموجودات الأخرى، وسنستمر في التسلسل للبحث عن أصل أول، وبما أن كل الموجودات المادية التي يألفها الحس والعقل لا يمكن لها أن توجد بذاتها فلا بد عقليا من الإيمان بوجود أصل غير مادي وغير محتاج لأحد سواه.
وإذا لم نصل إلى هذه النتيجة، فإما أن نمنح الكون نفسه صفة الألوهية، فيكون أزليا بذاته، وهذا مستحيل عقليا وحسيا، وإما أن يكون الكون هو الذي أوجد نفسه من عدم، وهذا غير معقول أيضا.
إذن فالذي تستثقله النفس هو صعوبة تصور الإله المستغني بذاته، وذلك لأنه مختلف عن كل ما نتصوره ونعرفه، لكن هذا لا يعني استبعاد وجوده، بل وجوده ضروري لكن تصوره مستحيل.
لذا أمر الأنبياء أتباعهم بعدم التفكر في ماهية (حقيقة) هذا الإله، حيث قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم “يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته” [رواه البخاري ومسلم]، فالنبي أوضح أن العقل البشري عندما يصل إلى هذا النوع من التساؤل فإنه قد بلغ حده، ولم تبق له سوى وساوس الشيطان التي تلقي في قلبه الشك، لأن قياس الغائب على الشاهد ليس من المنطق في شيء، ولا يصح للعقل الذي انتهى إلى ضرورة وجود الإله أن يقيس هذا الإله (واجب الوجود) على مخلوقاته (ممكنة الوجود).
لايبنتز
يقول الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز “وإذا كانت عقولكم لا تتصور هذا الإله فلا يلزم عن ذلك عدم وجوده، فكثير من الحقائق لم تتمكنوا من تصورها وهي موجودة عقلا”، لذا فإن قياس الإله على الأشياء هو قياس تمثيل ومغالطة، فيكفي للعقل أن يستدل على وجود الإله بآثاره.
والعقل يستبعد تصور حقائق أخرى كثيرة مع أنها موجودة في عالم الحس وبمتناول اليد، ونذكر منها هذه الأمثلة:
1- قصة الحكيم الذي اخترع الشطرنج: حيث طلب من الملك الذي أعجب باللعبة أن يحصل على مكافأة بدا للملك أنها تافهة، فقال إنه يطلب وضع حبة قمح واحدة في أول خانة من رقعة الشطرنج، وحبتين في الثانية، وأربع حبات في الثالثة، ثم ثماني حبات، وهكذا بمضاعفة الحبات في كل خانة تالية وصولا إلى الخانة الرابعة والستين، فضحك الملك وأمر الحاشية بتنفيذ الطلب، لكن حساب هذه المتتالية خرج بنتيجة مفادها أن خزائن المملكة كلها لا تكفي.
2- أحجية الورقة المقطعة: تصور وجود ورقة رقيقة سمكها 1/100 ملم، واقطعها إلى نصفين، ثم اقطع النصفين إلى أربعة، وتابع القطع مع وضع الأنصاف فوق بعضها، وستجد أن سُمك ما تم تجميعه بعد 48 مرة فقط سيصل إلى القمر.
3- تباطؤ الزمن: كان جميع الفيزيائيين طوال التاريخ يتصورون أن الزمن ثابت، ثم أكد أينشتاين في القرن العشرين أنه نسبي، وأن سرعة الضوء هي الثابت، فالزمن يتمدد ويتقلص حسب سرعة الجسم المتحرك، وهو أمر يصعب على العقل حتى الآن تصوره مع أنه مثبت رياضيا وعمليا.
الدليل الثالث: الفطرة تنكر المذاهب الحسية والمادية وجود الأفكار الفطرية [انظر مقال مصادر المعرفة]، ويستند إليها الملحدون لتبرير فراغ العقل البشري من أي معلومات أولية قد تدل وجود خالق أنشأها، لكن بحثا أجراه البروفسور جستِن باريت Justin Barrett في جامعة أوكسفورد أثبت العكس، حيث طبق دراسته على أطفال في أعمار مبكرة طوال سنوات ليخرج بنتيجة تؤكد أن الأطفال لديهم القابلية المُسبقة للإيمان بـ”كائن متفوق”، وذلك لأنهم يعتبرون أن كل ما في هذا العالم مخلوق لسبب، وعبر عن ذلك بقوله “إننا إذا وضعنا مجموعة من الأطفال على جزيرة لينشأوا بمفردهم، فأعتقد أنهم سيؤمنون بالله”.
وضع باريت نتائج أبحاثه في كتاب نشر عام 2012 بعنوان “مؤمنون بالفطرة”، كما نشرت عدة وسائل إعلام تقارير عن أبحاثه، ومنها صحيفة تليغراف البريطانية في نوفمبر 2008، بينما قال لإذاعة بي.بي.سي في حوار إذاعي “إن غالبية الأدلة العلمية في السنوات العشر الماضية أظهرت أن الكثير من الأشياء تدخل في البنية الطبيعية لعقول الأطفال بشكل مختلف عما ظننا مسبقاً، من ضمنها القابلية لرؤية العالم الطبيعي على أنه ذو هدف ومصمم بواسطة كائن ذكي مُسبب لذلك الهدف”.
وقد انضم إلى البروفسور باريت باحث آخر، هو البروفسور جوناثان لانمان Jonathan A. Lanman من جامعة أكسفورد، الذي وضع بحثا بعنوان “علم الإيمان الديني” The Science of Religious Beliefs، وتساءل فيه “إذن من أين جاءت هذه الاعتقادات الفطرية بوجود الخالق؟ فنحن لا نستطيع القول بأنهم (الأطفال) تعلموها من المجتمع وذلك لأنها اعتقادات فطرية، وكذلك الدراسات أكدت أنها لا تعتمد على ضغوطات المجتمع وهي مشتركة بين مختلف الثقافات”.
وبالطريقة نفسها، تقول الباحثة في علم نفس النمو والأديان بجامعة أكسفورد أوليفيرا بيتروفيتش Olivera Petrovich في كتابها “نظرية الطفل عن العالم” Child’s Theory of World إن “الإيمان بالله ينمو طبيعياً، أما الإلحاد فهو بالتأكيد موقف مكتسب”.
وهو ما يؤكد المقولة الشهيرة المنسوبة إلى المؤرخ الإغريقي بلوتارخ، عندما قال “لو سافرنا خلال العالم، فمن الممكن أن نجد مدناً بلا أسوار، بلا حروف، بلا ملوك، بلا ثروات، بلا عملات، بلا مدارس ومسارح، ولكن أن نجد مدينة بلا معبد، وبلا ممارسات وعبادة وصلاة ونحوه، فلم ير أحد ذلك قط”.
الدليل الرابع: وجود الشر بقليل من التأمل يمكننا أن نكتشف أن وجود الشر يؤكد وجود “مصدر مفارق للعالم”، بدلا من أن يكون دليلا على عدم وجوده كما يحاجج الملحدون، فالاعتقاد بأن وجود الشر لا يتناسب مع وجود إله رحيم يحب الخير هو ميل نفسي وليس دليلا عقليا، فلا يتناقض في العقل وجود هذا الإله مع سماحه بوجود الشر في العالم الذي خلقه لغرض الامتحان.
فوجود الشر يؤكد بالفعل وجود إله مفارق لهذا العالم المادي، لأنه اعتراف بوجود إله يمثل الخير بالفطرة، وإلا فمن أين أتى التمييز البشري بين الخير والشر إن كان الأصل في الوجود المادي هو عدم الترجيح في الأفعال بين خير وشر؟ فالإله المفارق للموجودات هو الذي أعطى معنى الخير، وهو الذي منح الإنسان القدرة على تمييزه عن الشر، بينما لا يستطيع أي باحث أن يجزم بأن الخير (بمعناه العام) هو الأصل الوحيد في نفوس الإنسان والحيوانات، خصوصا وأن من يؤمن بنظرية التطور يرى أن استمرار الحياة قائم أصلا على الصراع وأن البقاء للأقوى، فالأقوى هو الأقدر على قتل الضعيف ونهب حقوقه وليس العكس.
وقد اختلف الفلاسفة وعلماء الكلام في التاريخ الإسلامي حول منشأ الحُسن والقبح، فرأى المعتزلة والشيعة والماتريدية أن العقل يدركهما بذاته، بينما رأى الأشعرية والظاهرية أن تحديدهما يعود إلى الوحي فقط، وجاء من يجمع بين الرأيين ويرى أن العقل قد يستقل بمعرفة حُسن وقبح بعض الأفعال دون بعض، كالعدل والظلم، والصدق والكذب.
جوليان باجيني (Vera de Kok)
وفي أحد التسجيلات المصورة، يوجه الفيلسوف البريطاني الملحد جوليان باجيني سؤالا للمؤمن الذي يلتزم بالأخلاق: هل يأمرك الله بفعل الخير لأنه خير بذاته أم أن الفعل أصبح خيرا لأن الله أمرك بفعله؟ ثم يقول إن “المؤمن لو اختار الخيار الثاني فستكون حجته ركيكة، لذا فإن النقطة الأساسية هي أنه حتى الإله يختار فعل الخير لأنه خير، إذن فهو خير بذاته، ومن ثم فيمكن للملحد أيضا أن يكتشفه بنفسه دون إله”.
وقد يبدو للبعض أن باجيني يشير إلى الخلاف السابق نفسه، لكن جوهر ذاك الخلاف لم يمتد إلى مسألة الوجود الإلهي، فالطرفان يؤمنان بإله خالق للإنسان والفطرة والعقل والأفعال معا، والخلاف بينهما محصور في مدى قدرة العقل البشري على تصنيف الأفعال دون مصدر موجه، أما المعضلة التي تهرب منها باجيني بمحاولة إلقائها على المؤمنين فهي أن الإلحاد يبقيه حبيس المادة أصلاً، والمادة مهما ارتقت في تطورها المفترض فهي محكومة بالغرائز، وليس هناك ما يبرر اكتشافها الذاتي لمفاهيم نبيلة لا تحقق لها أي مصلحة، مثل التضحية والإيثار، لذا لم يجد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (توفي عام 1804م) بداً من الإيمان بوجود إله مفارق لحل معضلة الأخلاق.
ولا يمكن للملحد أن يثبت عمليا استقلال الأخلاق عن الأديان والميتافيزيقيا، فليس هناك مجتمع ملحد ومادي مئة بالمئة، وليس هناك أيضا أي فرد طبيعي في هذا العالم يعيش في عزلة تامة عن كل المؤثرات الدينية في مجتمعه. لذا يقول المفكر والرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش “يوجد ملحدون على خلق، ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي” [الإسلام بين الشرق والغرب، ص175].
وقد أقر العديد من مفكري الإلحاد المعاصرين بمأزق البحث عن أساس أخلاقي دون مرجعية غيبية (ميتافيزيقية)، ومنهم الفيلسوف الأميركي جيمس ريتشلز الذي اعترف في كتابه “مصنوعون من الحيوانات: الآثار الأخلاقية للداروينية” أن السؤال عن بديل للرؤية الأخلاقية الدينية من منظور دارويني إلحادي هو سؤال صعب، ثم أخذ يبحث في الكتاب عن تأصيل فلسفي للأخلاق من منطلق ذاتي، ليثبت بذلك من غير قصد أن الأخلاق المجردة عن المصدر المفارق (الموضوعي) ستؤدي في النهاية حتماً إلى نسبية الأخلاق، ومن ثم إلى انهيار أي مرجعية تثبتها.
أما الفلسفة البراغماتية، التي انبثقت عن الفكر المادي في مطلع القرن العشرين، فلم تستطع تقديم حل مقنع للمعضلة مع تغييب العنصر الإلهي، فاضطرت للاكتفاء بربط الأخلاق بالمصلحة، وزعمت أن ما كان نافعا للإنسان فهو خير.
جون لوك
ولو افترضنا أن البشرية كلها كانت لا تؤمن بإله يراقبها في كل لحظة وسيحاسبها عاجلا أو آجلا، فهل كانت الكائنات البشرية “المتطورة” ستهذب غرائزها بالفعل دون حاجة لوازع ديني؟
يقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك “إذا كانت غاية الإنسان مقتصرة على هذا العالم، وإذا كنا نستمتع بالحياة في هذه الدنيا فحسب، فلن نجافي المنطق إذا بحثنا عن السعادة الشخصية ولو كان ذلك على حساب الآباء والأبناء”. وهذا القول يلخص تعارض الأخلاق مع المادية بكل أمانة، فمفهوم التضحية على سبيل المثال لا يمكن فهمه ولا تبريره بالمنطق المادي الإلحادي، بل هو ضرب من “الغباء” لكونه يتعارض مع المصلحة.
يحاجج البعض بأن بعض المجتمعات المعاصرة التي تزداد فيها نسبة الإلحاد تحتفظ في الوقت نفسه بقدر كبير من الالتزام الأخلاقي، ولا سيما عند مقارنتها بمجتمعات توصف بأنها متدينة، لكن هذه المقارنة لا تكتسب صفة علمية ولا تقدم برهانا سليما، فالسببية في القضايا الاجتماعية أكثر تعقيدا بكثير مما هي عليه في الظواهر الفيزيائية، وعلى الباحث أن يجرد جميع العوامل قبل أن يقارن بين أخلاقيات المجتمعين، وإلا فيمكن الافتراض أن الالتزام الأخلاقي في مجتمع إلحادي (على فرض وجوده) قد ينبع من الانضباط الذي ينشأ عليه الفرد، وأن ارتفاع الدخل وانتشار كاميرات المراقبة وقسوة القانون هي كلها عوامل تحول دون ميل الفرد الملحد في سويسرا مثلا إلى السرقة، وذلك على العكس من فرد ينشأ على الفقر والجهل في بلد يسوده الفساد الإداري ويوصف خطأً بأنه مجتمع متدين.
لكن المقارنة قد تصبح أكثر إقناعا عندما يُقارَن سلوك وانضباط الشخص نفسه قبل تدينه وبعده، كما يحدث مع المجرمين الذين يعتنقون ديناً ما في السجون.
وسيصبح أكثر وضوحا أيضا عندما نستدل ببعض البرامج الترفيهية التي ظهرت مؤخرا على الإنترنت، والتي تم تصويرها بكاميرات خفية لاكتشاف مواقف وردود أفعال أشخاص عشوائيين، فالكثير من هذه التجارب تكشف أن الفرد الغربي الذي نشأ في مجتمع منضبط بالقانون قد يتساهل في ارتكاب سرقة طفيفة عندما يكون بعيدا عن عيون الرقابة والقانون، وهذا السلوك يمكننا أن نفهمه طالما أن الفرد لا يؤمن بإله يراقبه وسيحاسبه على كل كبيرة وصغيرة، فالأصل في حالة الإلحاد والبراغماتية وبقاء الأقوى أن يفكر الإنسان بمصلحته العاجلة قبل مصلحة الآخرين، وأن ينتشي بقدرته على السرقة بدلا من الخجل.
من جهة أخرى، يقول الكاتب الإيرلندي سي.إس لويس، الذي ألحد في فترة من حياته بسبب تشاؤمه من الشر والحروب وموت أقرب الناس إليه بالأمراض، “كانت حُجتي ضد الله أن الكون يبدو في غاية القسوة والظلم. ولكن كيف حصلتُ على مفهوم الظلم والعدل هذا؟ فالإنسان لا يصف الخط بأنه منحني إلا إذا كانت لديه فكرة عن الخط المستقيم، فبماذا كنت أقارن هذا العالم عندما وصفته بأنه ظالم؟ إذا كان العرض كله سيئاً ولا معنى فيه من الألف إلى الياء إن جاز التعبير، لماذا أنا -الذي من المفترض أن أكون جزءًا من هذا العرض- أجد نفسي في رد فعل عنيف معارض لذلك؟ الإنسان يشعر بالبلل عندما يقع في الماء، لأن الإنسان ليس حيواناً مائياً، ولكن السمك لا يشعر بالبلل بالطبع” [Mere Christianity, p. 38-39].
إن محاولة الاحتجاج بالشر على عدم وجود الخالق تحوي في طياتها عوامل الهدم الذاتي والتناقض المنطقي، إذ يحق لأي مؤمن في المقابل أن يقول بالمثل: ووجود الخير في العالم يدل على وجود الله، وإذا افترضنا أن الخالق إله شرير فسنجد أن مشكلة وجود الشر لا علاقة لها في الأصل بوجود خالق أو عدمه، فنحن لا نقول إنه لا توجد حكومة إذا كانت سياستها شريرة، ولا نقول إنه لا وجود لصانع القنبلة النووية لأنها سلاح شرير، فالصواب أن هناك علامات خاصة بالصنع والتصميم (أو الخلق والتقدير) مفصولة عن قيمتي الخير والشر.
لذا يمكننا القول إن هذه “المعضلة” ذات منشأ نفسي لا عقلي، وسنناقش في نهاية مسير بحثنا عن الحقيقة الجانبَ النفسي لوجود الشر، وذلك في مقال “الأسئلة الوجودية الكبرى“.
الدليل الخامس: دقة الضبط الكوني استند الإلحاد المعاصر في بدايته على فرضية تقول إن الكون (المادة والطاقة) أزلي لا بداية له، ثم صيغت الفرضية على شكل نظرية سميت بالكون المستقر، وكان من أشهر المدافعين عنها عالم الرياضيات والفلك البريطاني فريد هويل.
لكن العلم أثبت استحالة أزلية الكون؛ إذ لو كان كذلك لتبددت طاقته وتوزعت عشوائيا بدلا من التجمع منذ زمن بعيد، ولتوقف بذلك كل نشاط في الوجود، وهذه الحالة التي تسعى للاستقرار تسمى بالإنتروبي حسب القانون الثاني للديناميكية الحرارية.
وفي ستينيات القرن الماضي بدأت نظرية الانفجار العظيم Big Bang بالتغلب على نظرية الكون المستقر، وهي تنص على أن الكون الذي يتسع باستمرار كان قد نشأ من نقطة أولية، وأن النشوء والاتساع الكوني يتوقفان على قوانين وثوابت فيزيائية في غاية الدقة، ما دعا العلماء لإطلاق مصطلح الكون المضبوط بعناية Fine-tuning of universe، وخصوصاً مع دقة الثابت الكوني Cosmological constant لاتساع الكون، والتي بلغت 1 إلى “10 أس 122” (1 وأمامه 122 صفرا) وهو رقم لا يسمح بوجود الصدفة والعشوائية.
وفي محاولة لإنكار وجود القصد (الإلهي) وراء هذه الدقة، افترض الفيزيائيان ستيفن وينبرغ وستيفن هوكينغ أن هذا الكون الدقيق ليس سوى حالة نادرة من بين عدد هائل من الأكوان الأخرى العشوائية التي تسبح في الوجود. وقد حاول هوكينغ في كتابه “التصميم العظيم” The Grand Design حساب احتمال وجود هذا الكون من بين الأكوان العشوائية، فوجد أن الصدفة تتطلب وجود “10 أس 500” كون (أي 1 وأمامه 500 صفرا)، وهو افتراض لا يدعمه دليل أصلا.
كان الملحدون في القرن العشرين يستندون إلى ما يسمى بنظرية القردة، والتي تفترض أننا إذا وضعنا مجموعة قردة أمام لوحة مفاتيح للضرب عليها في زمن غير محدود فلا بد أنها ستنجح بالصدفة يوماً ما في كتابة قصيدة لشكسبير.
حاول عالم الأحياء الملحد ريتشارد دوكينز في كتابه “صانع الساعات الأعمى” (1986) اقتراح آلية لإنجاح التجربة، فكلما كتب قرد حرفا نقارنه مع الحرف الذي نتوقعه، فإن نجح احتفظنا به وإلا حذفناه وسمحنا للقرد بالمتابعة، والعجيب أن دوكينز لم ينتبه إلى أن “التطور الأعمى” الذي يتخيله ليس له هدف أصلا، فالمعلومات التي ينبغي للصدفة والعشوائية أن تنتجها يشترط دوكينز أنها موجودة أصلا في الكائن الحي الذي لم يتطور بعد، وهذا استدلال دائري [انظر المغالطات المنطقية].
وقد بيّن العالِم التطوري رونالد فيشر أن الطبيعة لا تحتفظ بالحرف الصحيح كما يتخيل دوكينز، فمعظم الطفرات النافعة تختفي عشوائيا أو بفعل الطفرات الضارة الأكثر عددا بكثير [العلم ووجود الله، ص 299].
دوكينز (David Shankbone)
ومع ذلك، حاول البعض أن يتحققوا من فرضية القردة عمليا، فوضع باحثون في “المجلس القومي البريطاني للفنون” ستة قرود في قفص مع كمبيوتر لمدة شهر، ولم يحصلوا على كلمة واحدة، مع أن أقصر الكلمات بالإنجليزية مكونة من حرف واحد وهو A، وهي تتطلب النقر على هذا الحرف مع النقر على زر المسافة قبله وبعده فقط. وعندما احتسب الرياضي جيرالد شرويدر في كتابه “علم الإله” Science of God نسبة احتمال الحصول على إحدى قصائد السوناتا لشكسبير والمكونة من 488 حرفا عبر الضرب العشوائي على لوحة مفاتيح مكونة من 26 حرفا، وجد أن هناك احتمالا وحيدا من بين “10 أس 690” من الاحتمالات الخاطئة، ولكي نتخيل ضخامة هذا العدد الهائل يمكننا أن نقارنه بعدد ذرات الكون كله التي تقدر بحوالي “10 أس 80” فقط.
وقد دفعت هذه الحسابات بالملحد الشهير “أنتوني فلو” إلى القول إن البرهان العقلي للإلحاد انهار تماماً، فآمن بوجود الله مؤكدا أن نشوء الحياة أكثر تعقيدا بكثير من الحصول على قصيدة قصيرة بالضرب العشوائي [أنتوني فلو، هناك إله، ص 75].
كما استنتج عالم الرياضيات وليام دمسكي أن “التعقيد المخصص” لا يمكن أن ينشأ بالصدفة، فالنقر على حرف A مخصص لكن دون تعقيد، ونقر جملة طويلة من الحروف العشوائية (كما فعلت القرود) هو أمر معقد لكنه غير مخصص، أما طباعة قصيدة كاملة لشكسبير فهو عمل معقد ومخصص معا.
وبالرغم من ضآلة الاحتمال، فإن المشكلة الأهم هي استحالة رصد تلك الأكوان المفترضة، فأي كون خارج كوننا سيكون خارج ما يسمى بأفق الجسيم the particle horizon، وهي مسافة كبيرة إلى درجة أن أي جسيم حامل للمعلومات لا يستطيع أن يقطعها ليصل إلى الباحث (الراصد) لأن عمر الكون نفسه أقصر من تلك المدة، وهذا يعني أن افتراض الأكوان الأخرى ليس سوى نظرية فلسفية لا علمية.
علاوة على ذلك، أثبت كل من أرفيند بورد وآلان غوث وألكساندر فيلينكن أن أي كون لا بد أن يتوسع طوال تاريخه، وأنه لا بد أن تكون له بداية وليس أزليا، وهذا يعني أنه حتى في حال صحة وجود أكوان أخرى غير هذا الكون، فكل واحد منها لا بد أن يكون قد بدأ من نقطة نشوء ما في الزمن الغابر.
ومع ذلك، يتمسك العلماء الملحدون بفرضية “الأكوان المتعددة” لأنها الملاذ الوحيد، حيث قال وينبرغ في لقاء مع زميله دوكينز “إذا اكتشفت أن هذا الكون المدهش معد فعلياً بعناية… أعتقد أنه ليس أمامك ساعتها إلا أحد احتمالين، إما خالق عظيم، وإما أكوان متعددة”.
لكن وجود تلك الأكوان -والتي يستحيل إثبات وجودها علميا- سيضع وينبرغ أمام بحث آخر حول نشأتها ومصدر قوانينها وثوابتها الفيزيائية، فإذا كان يعتقد أنه سيتخلص عندئذ من معضلة إعداد الكون بعناية fine tuning، فسيجد أكوانا أخرى معدة بعناية أيضا، وربما كانت أكثر إعجازا وتعقيدا، وسيضطر بذلك للبحث عن خالقها بدلا من الاستناد إلى الصدفة.
وبدوره، يقول الفيزيائي اللاديني ليونارد سوسكايند “إن الثابت الكوني من الرهبة بمكان بحيث أنه يصير بهذا المقدار الذي لا يسمح بتدمير النجوم والكواكب والذرات، لكن ما هذه القوة الغامضة والعجيبة التي استطاعت أن تحسب هذا الموقف المعقد للغاية؟ إن قوانين الفيزياء متوازنة على حافة سكين حاد للغاية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يطرح أسئلة كبيرة” [The Cosmic Landscape, p. 88].
يحاول البروفيسور لورنس كراوس في كتابه “كون من لاشيء” إثبات إمكانية انبثاق الكون المادي من العدم من تلقاء نفسه، إلا أن المأخذ الجوهري على نظريته هو أنه حاول إقناع قرائه بأن “اللاشيء” هو “العدم” نفسه، وقد يكون هذا الخلط مقبولا في اللغة إلا أنه مغالطة كبيرة في الفيزياء، فحسب فيزياء الكم لا يوجد فراغ ليس فيه أي شيء أو فيه عدم محض، فالعدم هو نقيض الوجود أصلا ولا يمكن للعدم أن يوجد، وقياس طاقة الفراغ في زمن محدد يجب أن يحوي قدرا ما من الطاقة حتى لو كان للجسيمات الافتراضية التي تظهر وتختفي، وهو ما يسمى بالقدر الأدنى من الطاقة الممكنة Zero-point energy، فلا يمكن إذن أن “يوجد” هذا العدم المحض ليكون هو أصل الوجود (الكون). وقد أوضح هذا المبدأ كل من جوهان رافيلسكي وبيرندت مولر في كتابهما “بنية الفراغ”The structured vacuum.
الدليل السادس: عجز نظرية التطور تاريخ النظرية في منتصف القرن الثامن عشر، بدأ ظهور بعض التفسيرات المادية لنشأة وتطور الكائنات الحية على الأرض، وذلك بالتزامن مع انتشار الأفكار العلمانية في أوروبا وحرص العلماء التجريبيين على البحث عن نظريات جديدة لتفسير ظواهر الطبيعة خارج إطار الكنيسة التي احتكرت المعرفة طوال قرون، وكان من أهم المحاولات المبكرة كتاب “زونوميا أو قوانين الحياة العضوية”، الذي كتبه العالِم البريطاني إرازموس داروين عام 1768 ووضع فيه تأملاته الفلسفية حول نشأة الحياة من الأصداف التي شاع اكتشافها في الحفريات، لكن إرازموس لم ينشره لعدم جاهزية بريطانيا بعد لتحدي الكنيسة، والراجح أنه لم يكن ملحداً إلا أنه اعتقد أن دور الإله توقف عند الخلق لتتطور الكائنات وحدها تلقائياً.
جورج دي بوفون
وفي فرنسا التي كانت تتهيأ لثورة عارمة، نشر عالِم الطبيعة جورج دي بوفون كتاب “التاريخ الطبيعي” عام 1780، واقترح فيه أن الكائنات الحية تطورت عن أسلاف مشتركة.
سرعان ما تأثر كثير من المثقفين المتمردين على الكنيسة بنظرية دي بوفون، ودافع عنها بشراسة الفيلسوفان الفرنسيان بارون دولباخ ودينيس ديدرو، حيث وضعا على أساسها نظرية فلسفية تقترح تطور المادة عشوائيا لاكتساب الحياة بدون خالق.
وفي عام 1789 انفجرت الثورة الفرنسية وحملت معها كل الأفكار المادية لتطفو على السطح، فتجرأ إرازموس داروين في بريطانيا على نشر أفكاره، وطرح كتابه “حب النبات” على الجمهور، وقال فيه “لعل كل منتجات الطبيعة في طريقها إلى كمال أعظم”.
وبدوره، حاول عالم الأحياء الفرنسي جان باتيست لامارك تطوير الأفكار المادية الصاعدة في كتابه “التاريخ الطبيعي للحيوانات اللافقارية” الذي نشره عام 1820، حيث رصد أشكال التشابه بين الأجناس المختلفة، واقترح أن يكون لاستخدام الأعضاء أو عدم استخدامها دور في ظهورها وضمورها، كما حاول أن يربط بين تأثير البيئة وتغيراتها وبين ظهور أو اختفاء تلك الأعضاء، ثم تصور أن الآباء يورثون تلك التغييرات في أعضائهم للأبناء لتنشأ أشكال جديدة من المخلوقات.
ومثل جميع الأطروحات المماثلة، كانت نظرية لامارك أقرب إلى الفلسفة من التجريب، لكنها حظيت بالقبول النفسي من المتمردين على الدين، ولا سيما في فرنسا التي كانت قد نجحت ثورتها للتو على الإقطاع والكنيسة، فبذل مزيد من العلماء جهدهم لوضع الإلحاد في إطار علمي مقبول، ومنهم إيتيان جوفري.
في المقابل، لم يتوان علماء آخرون عن المواجهة، مثل جورج كوفييه الذي يعد من مؤسسي علوم الحفريات والتشريح في العصر الحديث، حيث نشر في عام 1812 كتابه “خطاب تمهيدي” الذي أكد فيه أن التغييرات البسيطة في الكائنات الحية تتطلب تغييرا موازيا في الكثير من أجهزتها وأعضائها بالوقت نفسه، وقال إن معجزة التغيير الموازي في كل الأجهزة وفي نفس الوقت لا تختلف عن معجزة الخلق الإلهي التي يرفضها التطوريون.
وقد دخل كوفييه في مناظرة مع جوفري لعدة أسابيع, وتمكن كوفييه من نقض أدلة خصمه وكبح جماح نظرية التطور قليلاً، إلا أن الدعم الأكاديمي كان موجها للتطور المادي فقط.
إرازموس داروين
هناك العديد من الكتابات التي يرى أصحابها أن الداروينية ارتبطت منذ ظهورها بالجمعيات السرية، ويستشهد أصحابها بهذه العبارة التي جاءت في البروتوكول الثاني من بروتوكولات حكماء صهيون: “لا تتصوروا أن تصريحاتنا كلمات جوفاء، ولاحظوا هنا أن نجاح داروين وماركس ونيتشه قد رتبناه من قبل، والأثر غير الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في الفكر الأممي سيكون واضحاً لنا على التأكيد”. وبغض النظر عن صحة نسبة هذه البروتوكولات لجمعيات سرية، فإن العديد من مؤسسي وداعمي فكرة التطور كانوا أعضاء مرموقين في الماسونية، مثل الفرنسي ديدرو، أما إرازموس داروين فتؤكد المراجع الماسونية الرسمية أنه كان من أعضاء محفل “بوابة كانون” في أسكتلندا [انظر: http://freemasonry.bcy.ca]، وبعض المراجع تقول إنه كان أستاذا للمحفل من الدرجة الثالثة والثلاثين، ومن ثم فقد ورّث مهمته إلى ابنه روبرت، والذي ورثها بدوره إلى ابنه تشارلز داروين، واليوم يطلق اسم داروين على أحد المحافل الماسونية في أستراليا.
ويربط الكثير من الباحثين بين الداروينية وآثارها السياسية والاجتماعية، بدءا من مراسلات قيل إنها حدثت بين داروين الحفيد وماركس، ووصولا إلى الاستغلال الحرفي لنظرية التطور في تبرير مذابح العرق الأبيض “الأرقى داروينيا!” للشعوب السوداء والملونة [انظر مقال الشيوعية]، ولعل الباحث التركي المعروف باسم هارون يحيى من أشهر الكتّاب الذين كشفوا هذا الجانب الأسود للداروينية [انظر: http://www.harunyahya.com/]
تشارلز داروين
في عام 1859، برز اسم تشارلز داروين حفيد إرازموس مع نشر كتابه المشهور “أصل الأنواع”، والذي جمع فيه خلاصة تأملاته وملاحظاته بعد رحلة طويلة حول العالم على متن سفينة “بيغل”، وحاول أن يثبت تطور جميع الكائنات الحية -باستثناء الإنسان- من خلية بسيطة عبر آلية الانتخاب الطبيعي، فزعم أن الفرد القوي يستطيع النجاة من الكائنات المفترسة ومصاعب الحياة ليعيش ويورّث عوامل قوته لسلالته، بينما تنقرض الأفراد الضعيفة وتتلاشى، ليستمر بذلك تصاعد السلالات وتطورها، وكلما احتاجت الكائنات إلى مهارة جديدة (مثل الخروج من الماء والسير على اليابسة) تطورت أعضاؤها لتحقق تلك الوظائف الجديدة، مثل تطور زعانف السمكة إلى أطراف تساعدها على الزحف.
كان داروين يدرك أن نظريته تفتقر لأدلة محسوسة، فالنظرة العلمية لأصل الحياة كانت بدائية في عصره قياسا إلى علوم البيولوجيا اليوم، إذ لم يكن الحمض النووي قد اكتُشف أصلا، وكانت فكرة العلماء عن الخلية لا تعدو كونها مجرد مادة هلامية أولية تتكاثر بالانقسام، كما لم تكشف الحفريات في ذلك العصر عن دلائل لل��طور، لا سيما وأن تنوع الكائنات يتفرع إلى أكثر من 8 ملايين نوع من الكائنات الحية، فأوضح داروين في كتابه بصراحة أن نظريته لن تثبت ما لم تظهر الحفريات التي تؤكد التطور، وعلّق الأمر على الاكتشافات المستقبلية.
وفي عام 1871، طوّر داروين فكرته وجعلها شاملة للإنسان أيضا، وقال في كتابه “انحدار الإنسان وعلاقة الانتقاء بالجنس” إن الإنسان انحدر من سلف مشترك مع الكائنات الحية الأخرى، فعارضه عدد من زملائه الذين كانوا على وفاق مع طرحه الأول، لكن النظرية كانت ولاتزال المبرر الوحيد لأي طرح إلحادي لنشأة الحياة، ولا سيما حياة الإنسان.
نقد نظرية التطور ربما لم تحظ نظرية أخرى في كافة العلوم بمثل ما حظيت به نظرية التطور من جدل، فهناك عدد يصعب حصره من الكتب والأبحاث والأفلام والمقالات التي تحاول نقضها أو إثباتها، فالنظرية لم تكن منذ نشأتها مجرد محاولة لتفسير ظاهرة علمية بل كانت ولا تزال أداة أديولوجية للصراع بين المؤمنين والملحدين. وسنعرض فيما يلي بإيجاز شديد أهم الانتقادات التي تثبت ضعف النظرية:
أولا: من أهم الانتقادات لفرضية الانتخاب الطبيعي، والتي تفترض مثلا أن تنجو الغزلان السريعة وتنقرض الضعيفة تحت أنياب الحيوانات المفترسة، أن أثر الانتخاب المزعوم لا يمكن إلا أن يكون محدوداً، فالكائنات القوية موجودة أصلاً ولا علاقة لنجاتها بظهور صفات جديدة لم تكن موجودة في نوعها، مما اضطر داروين إلى خلع صفات العقل والتفكير على الانتخاب الطبيعي وجعل الأمر يبدو وكأن هناك مربي ماشية يخلط بين الأنواع الموجودة لديه للخروج بتشكيلات هجينة، فيقول “من أجل الإيجاز، فإني أحياناً أتحدث عن الانتخاب الطبيعي كقوة ذكية، وبنفس الطريقة التي يتحدث بها الفلكيون عن قوة الجاذبية في التأثير على الكواكب، أو كما يتحدث الزراعيون عن رجل يصنع سلالاته المحلية بقوة اختياره” [The origin of species, P. 6-7].
وقد اعترف عدد من علماء التطور بالافتقار للأدلة، ومنهم كولن باترسون الذي قال “لم ينتِج أي أحد نوعاً بواسطة آليات الانتخاب الطبيعي، بل لم يقترب أحد منه، ويدور معظم الجدل الحالي في إطار الداروينية الجديدة حول هذه المسألة” [Colin Patterson, “Cladistics” Interview with Brian Leek, Peter Franz, March 4, 1982, BBC].
ثانيا: أدرك داروين مبكرا أن نظريته لن تستطيع تفسير وجود الجَمال، فالجمال لا يفسر من ناحية تكوينه وغايته بالعشوائية والصدفة، خصوصاً أن بعض الأسماك والكائنات البحرية التي تعيش في أعماق مظلمة تعد آية في الجمال، فلمَن كان هذا الجمال طالما أنه لا يراه أحد؟
لذا قال داروين في رسالة بعثها إلى صديقه أسا غراي في 3 أبريل 1860م “أما الآن، فبعض التركيبات الواضحة في الطبيعة تزعجني، مثلاً رؤية ريش الطاووس تمرضني”. [نص الرسالة رقم 2743 في مشروع تجميع رسائل داروين بجامعة كامبردج: اضغط هنا].
ثالثا: اعترف داروين باستحالة تطور الغرائز، وخصوصاً تلك التي ترتبط بها نجاة الكائن من الموت أو نجاة الوليد نفسه أو الأبناء، فالملاحظة تؤكد وجود تلك الغرائز مع الاستعداد للتعلم، فإما أن توجد الغريزة كاملة فينجو بها الوليد وإما ألا توجد فيموت، ولا مكان للتدرج والتطور هنا. كما لم يكتشف أحد حتى الآن أي تمثيل جيني لتلك الغرائز في الكائنات، ولا لكيفية انتقالها من الآباء إلى الأبناء، وخصوصاً لدى الكائنات التي لا تتزاوج أصلاً مثل النحلة الشغالة، لذا قال داروين إن “هناك غرائز كثيرة مُحيرة إلى حد أن تصورها ربما سيعطي قرائي القوة الكافية لإفساد نظريتي بكليتها” [The origin of species, P.233].
نظرية التطور تعجز عن شرح أساليب التمويه التي تتمتع بها الكثير من الكائنات الحية، فما هي الآلية التي لجأت إليها هذه العظاءة لإدراك العلاقة بين شكلها وشكل بيئتها ثم قامت بتعديل شكلها على مدى أجيال لتصل إلى هذا التطابق كي تمنع الحيوانات المفترسة من رؤيتها؟
تقوم فلسفة التطور جذريا على غريزة البقاء Self-preservation، فهي تفترض أن جميع الكائنات الحية -من البكتيريا إلى الإنسان- تشترك في هذه الغريزة، فهي تسعى إلى الغذاء والتكاثر ومقاومة الموت بشكل غريزي، بل يكاد يكون هدف وجودها هو البقاء على قيد الحياة لأطول مدة ممكنة مع ترك بذور حياة السلالة لتبقى من بعدها على قيد الحياة.
وبقليل من التأمل، يبدو أن هذه الغريزة ليس لها أي مبرر مادي، فحتى لو أثبتنا أن الصدفة وقعت فعلا ونقلت مادة جامدة إلى الخلية الحية الأولى؛ فكيف نفسر نشأة غريزة حب الحياة وما يستلزمها من بحث عن الغذاء وطرح الفضلات ومقاومة عوامل الفناء والسعي للتناسل؟
يقول عالم الجينات فرانسيس كولينز إننا لا نعرف كيف نشأت أصلا الكائنات الحية القادرة على إعادة إنتاج نفسها، فليست لدينا فرضية واحدة تقترب من تفسير ما قامت به بيئة ما قبل الحياة لإنشاء الحياة في غضون 150 مليون سنة فقط [The Language of God, p. 90].
رابعا: استحالة صدْفية الحمض النووي: يمكن القول إن هذا النقد هو الدليل الأقوى على تهافت نظرية التطور، وأنه يقدم أقوى دليل علمي يقيني على ضرورة وجود إله. فبعد عشرات السنين من وضع النظرية على يد داروين تبين للعلماء أن تعقيد بنية الخلية الحية لا يمكن أن يسمح للنظرية بالاستمرار على النحو الذي تخيله داروين عندما كان يرى الخلية مجرد كتلة بروتوبلازمية هلامية يمكن تكونها من مواد غير حية بالتوالد التلقائي Spontaneous generation، فهو لم يكن يعرف آنذاك أن بداخلها عالما مستقلا، فبداخل كل خلية حية من خلايا أي كائن حي توجد مصانع لإنتاج الطاقة (ميتوكندريا)، ومصانع تدعى ريبوسومات لإنتاج البروتينات التي تعتبر عماد بناء الخلية نفسها وبناء أنسجة الجسم الأخرى (حتى الشعر والأظافر وقرنية العين وسم الثعبان والإنزيمات وأجزاء من الهرمونات).
يؤكد عالم الفيزياء البريطاني بول ديفيز أن نظرة العلم إزاء الوجود تغيرت في القرن العشرين، فقد كان يُنظر إلى الجزئيات المادية على أنها أساس الكون، لكن الفيزيائيين المعاصرين يرون أن الوجود قائم أصلا على المعلومات التي جاءت المادة لاحقا لتجسيدها. وقد وضع ديفيز عدة كتب تبرهن علميا وجود خالق مدبر للكون، ومن أشهرها كتاب “عقل الإله” (1992).
يقول رئيس الأكاديمية الوطنية للعلوم في أميركا بروس ألبرتس: دائما كنا نقلل من قيمة الخلايا البدائية، ثم اكتشفنا أنها مصنع قائم بذاته، يحتوي على شبكة من خطوط التصنيع المتشابكة التي تتكون كل منها من آلات بروتينية ضخمة، وهي تحوي بذاتها أجزاء متحركة عالية التناسق مثل الآلات الصناعية التي يخترعها البشر. [العلم ووجود الله، ص 215].
وبما أن كل بروتين يتكون من سلسلة طويلة جداً من مئات أو آلاف الأحماض الأمينية، فإن تلك الأحماض لا ترتبط ببعضها بنفس ترتيبها عشوائياً لتكوين البروتينات، فاحتمال التركيب العشوائي لتكوين جزيء بروتين صغير واحد مكون من مئة حمض أميني فقط، وعبر جهاز كمبيوتر خارق (سوبر)، يستغرق من السنوات عددا يُكتب برقم “واحد” وأمامه 127 صفرا، وهي مدة تتجاوز عمر الكون كله بمليارات السنين، مع أن هناك بروتينات تتكون من 27 ألف حمض أميني وليس مئة فقط.
علاوة على ذلك، يعتمد عمل البروتينات على نظام محدد لترتيب أحماضها، فلو اختل ترتيب حمض أميني واحد فقد يؤدي ذلك إلى المرض أو الموت، مثل اختلال حمض أميني واحد في بروتين الهيموغلوبين، حيث يؤدي ذلك إلى الإصابة بمرض أنيميا فقر الدم، فهذا الجزيء يحتوي على 539 حمض أميني، وعدد احتمالات ترتيب هذا العدد يصل إلى “واحد” وأمامه 620 صفرا من الاحتمالات، لكن احتمالا واحدا فقط هو الذي يحدث دائما.
لذلك تبين أن تكوين سلسلة البروتين الطويلة في الريبوسومات من الأحماض الأمينية يأتي نتيجة “أكواد” أو رموز تشفير محمولة في الحمض النووي الوراثي DNA الموجود في نواة كل خلية، فكل ثلاث قواعد من الحمض النووي تمثل شفرة (أو كودون) لاستدعاء حمض أميني معين، وبنفس الترتيب الصحيح وإلا اختل البروتين، ويستحيل على العقل أن يتخيل حدوث هذا بالصدفة والعشوائية.
وإذا كانت فرضية التطور الأولى تقوم على تصور سطحي للخلية في عصر داروين، فقد ثبت لاحقا أن عدد الحروف البرمجية المشفرة التي يتكون منها “البرنامج” الموجود في الحمض النووي للبشر مثلاً هو ثلاثة مليارات ومائة مليون حرف، وهي مرتبة بترتيب محدد مسبقا، لذلك يشبّه مؤسس شركة مايكروسوفت بيل غيتس الحمض النووي بالبرنامج الحاسوبي مؤكدا أن تعقيده الشديد أكبر بكثير من أي برنامج كتبه البشر [ستيفن ماير، “توقيع في الخلية” Signiture in The Cell].
وإزاء هذه الاكتشافات بات التصور الدارويني الأولي لخلية تتطور في بحيرة دافئة أمرا مستحيل الحدوث، وهو ما دفع أتباعه المعاصرين لإيجاد تأويلات أخرى، حيث اعترف عالم الأحياء الملحد المعروف ريتشارد دوكينز بأنه لن يتفاجأ إذا وجد توقيع “مصمم” داخل الخلية الحية، إلا أنه سارع إلى استثناء الإله من هذه الضرورة، وقال إنه ساعتها سيقول إن هذا المصمم هو كائنات فضائية زرعت الخلية الحية الأولى على الأرض بكل ما فيها من إبداع ونظام. لكن هذا الحل الافتراضي لن يحل المعضلة، حيث سنقع هنا في مشكلة التسلسل التي أثبتنا سابقا عدم منطقيتها، وهذا ما دفع دوكينز للقول إن هذه الكائنات الفضائية بالتأكيد قد تطورت داروينياً في مكان آخر من الكون، وكأنه قام بإرجاع أصل البشر إلى أصل سابق متطور بدوره عن أصل آخر، دون أن يقدم جوابا على السؤال الأساسي: من أين أتى الأصل الأول لكل الكائنات؟ [الفيلم الوثائقي: مطرودون.. غير مسموح بالذكاء Expelled: No Intelligence Allowed ].
وعندما سأله المحاور في مجلة “تايم” روث غلدهيل عما إذا كان يستبعد أن يكتشف الفيزيائيون مستقبلا وجود إله في أحد الأبعاد، قال دوكينز إنه مقتنع بأنهم سيكتشفون شيئا مدهشا ويصعب فهمه، وأن كل التصورات اللاهوتية ستكون بسيطة بالمقارنة به، ثم استدرك وقال إن هذا الشيء لا يكفي أن نسميه بالإله وأنه لا بد أن نجد قانونا جديدا لتفسيره مثل التطور، فربما يكون قد تطور بدوره على كوكب آخر وصنع برنامجا حاسوبيا للمحاكاة ونحن جميعا جزء منه (أي كما هو الحال في سلسلة أفلام ماتريكس) [مجلة التايم، 10 مايو 2007]. وهذا يعني أن دوكينز اضطر للإقرار بوجود كائن خارق يشبه في صفاته تماما الإله الذي وصفه الأنبياء، إلا أن نفوره من “التصورات اللاهوتية” وإيمانه العقائدي بنظرية التطور يدفعه إلى جعل التطور قانونا شاملا لتفسير الوجود، وكأنه يضع قانونا وجوديا (دينيا) يحتم باستحالة نشوء الوعي بدون تطور.
ساغان
ويبدو أن اللجوء إلى فرضية التطور عن أصل فضائي باتت أكثر شيوعا لدى علماء التطور الملحدين، مع أن هذا الخيال العلمي لا يحل المعضلة وليس أكثر “علمية” من الإقرار بوجود إله، ومنهم فريد هويل الذي وضع في الثمانينات مع زميله تشاندرا ويكرامسينغي كتابا بعنوان “التطور من الفضاء”. وكذلك عالم الفلك المشهور كارل ساغان الذي سخر يوما ما من الصحفي السويسري إريك فون دانكن بسبب تأليفه كتابا خياليا يحاول البحث عن أصل للحياة على يد كائنات فضائية بعنوان “عربات الآلهة”، ثم تحدث ساغان نفسه عن احتمال وصول الخلية الحية إلى الأرض من مكان آخر في الكون لاستحالة تشكل مكوناتها الأولى بالصدفة، مع أن عمر الكون كله لا يكفي لذلك.
خامسا: لا يوجد دليل واحد حتى الآن على حدوث التطور الماكروي (الكبير)، أي الانتقال من صنف إلى صنف عن طريق الانتخاب الطبيعي، فمع أن الجدل ما زال قائما حول صحة التطور الميكروي (الصغير) داخل الأصناف نفسها، أي حدوث تعديلات في بعض السلالات مثل التغير في سلالة إحدى الأسماك، إلا أنه لم يثبت تطور أي صنف من الأسماك إلى صنف برمائي آخر، بل يؤكد باحثون معاصرون أن هذا مستحيل.
ومنذ ظهور نظرية داروين يحاول الباحثون إخضاعها للتجربة أو حتى إثباتها بالملاحظة، فإذا بحثنا في أجساد ملايين البشر الذين يجرون تعديلات “طقوسية” على أجسادهم على مدى آلاف السنين، مثل ختن أولاد المسلمين واليهود، والتعديلات “الجمالية” التي تقوم بها نساء القبائل المختلفة في أفريقيا وآسيا، سنجد أن الأجيال التالية تولد دائما خالية من أي تغيير.
وكذلك حاول ريتشارد لينسكي من جامعة ميتشيغان أن يثبت تطور البكتيريا، وهي أبسط الكائنات الحية، فظل يراقب نشوء 40 ألف جيل منها طوال 20 سنة، لكنه لم يجد تغيرا مفيدا في أي جين من جيناتها.
لذا يقول أستاذ علم الجراثيم بجامعة بريستول آلان إتش لينتون إنه بعد 150 عاما من نشوء علم الجراثيم، لم يتمكن أي عالم حتى الآن من إيجاد دليل واحد على أن نوعا واحدا من أنواع البكتيريا قد تغير إلى آخر، وذلك بالرغم من تعرضها لطفرات كيميائية وفيزيائية قوية، وبما أنه لا يوجد دليل على تطور الأنواع في أبسط أشكال الحياة وحيدة الخلية، فمن المنطقي إذن عدم وجود دليل على التطور من الكائنات بدائية النواة إلى حقيقية النواة، ناهيك عن جميع الكائنات الحية الأعلى المتعددة الخلايا [المصدر: Alan H. Linton: “scant search for the maker”, Times Higher Education Supplement, April 20, 2001, 29].
ويجدر بالذكر أن داروين الذي لم يستطع تقديم برهان علمي على صحة فرضيته، لجأ إلى مغالطة على هيئة تحدّ مقلوب، فقال في كتابه “أصل الأنواع” إنه إذا ثبتت استحالة تطور أي عضو فإن نظريته ستنهار، وكأنه يطالب المشككين بإثبات استحالة فرضية لم تثبت، وقد تابعه في هذه المغالطة دوكنز أيضا. لكن الأصل في العلم هو أن يُثبت واضع النظرية صحة دعواه أولا، بدلا من مطالبة الآخرين بإثبات خطأ الاحتمالات الأخرى، فعلى داروين وعلماء التطور أن يثبتوا عشوائية التطور قبل مطالبة الآخرين بإثبات العكس.
سادسا: استحالة التطور وفق مفهوم “التعقيد غير القابل للاختزال”، فبالرغم من المغالطة الكامنة في الطرح الذي قدمه داروين في الفقرة السابقة، فقد قبِل البروفسور في جامعة ليهاي الأميركية مايكل بيهي التحدي عام 1996، ووضع في كتابه “صندوق داروين الأسود” أدلة تثبت عجز أنصار داروين عن تفسير “عشوائية التطور” المفترضة، وضرب عدة أمثلة تثبت استحالة التطور، ومن أهمها تعقيد سوط البكتيريا المكون من ثلاثة أجزاء لا بد أن “تُخلق” معا ليكون الذيل قادرا على العمل وتحريك البكتيريا، كما حسب احتمال نشوء هذا السوط بالصدفة فوجد أنه يمثل 1 إلى “عشرة أس 1170”.
مايكل بيهي (The Maine Campus)
وأكد بيهي من خلال دراسته للخلايا البسيطة أن الأنظمة الكيميائية الحيوية لا يمكن أن توجد بالصدفة ولا الضرورة، بل أنشأها “مصمم” كان يعرف الشكل الذي ستؤول إليه عند اكتمالها، فهي معقدة تعقيدا لا يقبل الاختزال لكونها مؤلفة من أجزاء متفاعلة وشديدة التناسق لتحقيق وظيفة واحدة، وهو أمر لا يمكن إنشاؤه بإحداث تطوير طفيف وتدريجي كما يفترض التطوريون، فأي تغيير على نظام لا يقبل الاختزال سيعطله كله عن العمل. ويُعد مفهوم “التعقيد غير القابل للاختزال” إثباتاً تجريبياً رصيناً للملاحظة التي طرحها من قبل جورج كوفييه في القرن التاسع عشر كما ذكرنا سابقاً.
وبعد استنفار الكثيرين للرد على كتاب بيهي، وضع الأخير في عام 2007 كتابا آخر بعنوان “حافة التطور”، وردّ فيه على كل الانتقادات مقدما أدلة أكثر رسوخا على استحالة نشوء مكونات الخلية الحية بالانتخاب الطبيعي العشوائي.
يقول بيهي في هذا الكتاب إن أفضل اختبار لفرضية داروين على الإطلاق هو تاريخ الملاريا، فقد حدثت مئات الطفرات التي تزود الإنسان بالمقاومة ضدها في الجينوم البشري (خريطة الجينات)، ثم انتشرت بين أفراد الجنس البشري بالانتخاب الطبيعي، لكن دراسة هذا التطور المفترض تثبت ما يلي:
التطور الدارويني غير متسق ومقيد.
التصور المسبق لدى الداروينيين بأن الطفيل (الملاريا) والعائل (الإنسان) يدخلان في سباق تسلح ويسفر عن تطور الجانبين ليس صحيحا، فالصراع أدى إلى تدهور بدلا من التطور.
الطفرة العشوائية التي يُفترض أن تؤدي إلى تطور كانت تنهار بعد فترة قصيرة من ظهورها بدلا من الثبات وتحسين النسل، كما أن نسبة حدوث طفرة عنقودية تتطلب منا الانتظار مئة مليون سنة مضروبة في عشرة ملايين سنة، وهي مدة تزيد عن عمر الكون.
البيانات الهائلة المتوفرة لدينا عن صراع الإنسان مع الملاريا تثبت عجز التطور الدارويني عن التفسير.
ويضيف بيهي أن فرضية داروين ظهرت في مرحلة لم تكن فيها التجارب والملاحظات قادرة على الإثبات أو النفي، لكن الطبيعة قدمت لنا في السنوات الخمسين الأخيرة دورات لحياة الملاريا وفيروس الأيدز بما يفوق قدرة المختبرات مليار مرة، وأثبتت لنا أن الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي لا يمكن أن ينشئا آلة بيولوجية متسقة إطلاقا.
سابعا: لم تقدم الحفريات حتى الآن أي دليل على صحة فرضية التطور، وقد أدرك داروين من البداية أن سجل الحفريات ليس في صالحه فتساءل “لماذا لا تزخر كل طبقة جيولوجية بالحلقات المتوسطة (الانتقالية من صنف إلى صنف)؟ من المؤكد أن الجيولوجيا لا تكشف عن أي سلسلة عضوية متدرجة، ويبدو أن هذا هو أوضح وأخطر الاعتراضات المثارة ضد نظريتي”.
وبعد مرور قرابة 150 سنة على ظهور الكتاب، وبالرغم من التنقيب الكثيف في معظم طبقات الأرض التي تسجل حفريات الكائنات الحية، لم تظهر الحفريات التي تجسد بدقة التحورات المفترضة بين الكائنات المتطورة من نوع إلى آخر، ولم يُعثر سوى على ظهور مفاجئ لكل نوع على حدة ثم استمراره على ما هو عليه.
يقول العالِم في متحف فيلد للتاريخ الطبيعي ديفيد روب إن المعرفة بسجل الحفريات ازدادت كثيرا منذ عصر داروين، حيث أصبح لدى العلماء ربع مليون من الأنواع المتحجرة، ومع ذلك فإن الوضع لم يتغير كثيرا، وما زال سجل التطور متقطعا، بل إن المتوفر اليوم من الأشكال الانتقالية أقل مما كان مُعتمدا في عصر داروين [العلم ووجود الله، ص 198].
ويؤكد العالم ستيفن غاي غولد أيضا أن حفريات الأنواع المتحجرة تثبت أن معظم تلك الأنواع ظهرت بشكل مفاجئ ومكتمل التكوين دون أن يطرأ عليها تغير تدريجي من الأسلاف، كما أنها احتفظت بشكلها كما هو حتى انقرضت [المرجع السابق، ص 199].
وبالنتيجة، اقترح بعض علماء الأحياء تعديلات على النظرية، فخرج غاي غولد ونيلز إلدردج في عام 1972 بفكرة التوازن النقطي أو المتقطع Punctuated Equilibrium، وهي تفترض أن الكائنات الحية تمر بفترات مستقرة لا تظهر فيها أنواع جديدة، ثم تظهر فترات تطور مفاجئ لتتشعب فيها الأنواع الجديدة.
لكن فرضية غولد وإلدردج لا زالت تعتمد على المصطلحات الافتراضية لنظرية داروين الأولى مثل قد وربما وإذا كان ومن الممكن واحتمال، فضلا عن أنها غير مُبررة منطقيا ولا تجريبيا، فما الذي يدفع آلية التطور -إن وُجدت- إلى المرور عشوائيا بمراحل سكون وانطلاق طالما كانت سيرورة الحياة وتحدياتها قائمة في كل مراحل التاريخ الطبيعي؟
إذن مازال افتراض حدوث التطور أقرب إلى الفرضية الفلسفية التي لم تتحقق بالرصد أو التجربة، وقد يصل الأمر ببعض العلماء الباحثين عن أي دليل إلى وضع افتراضات لسيناريوهات غير منطقية، مثل محاولة تفسير ظهور الحليب لدى الثدييات عبر الصدفة بأن المواليد كانوا يلعقون عرق الأمهات، ثم تطور هذا العرق مع مرور الوقت إلى حليب، وبالرغم من الاختلاف الكبير بين العرق الذي يعد من مخلفات الجسم وبين الحليب الذي لا يضاهيه أي غذاء أو مضاد حيوي طبيعي للمولود، فإن الفرضية لا تستند إلى أي مبرر علمي، كما أنها لا تفسر ظهور “منعكس المص” الفطري لدى المواليد الجدد الذين يبادرون إلى التقام الثدي والرضاعة فطريا دون تعليم. [Mr. Tompkins Inside Himself, p. 149].
رسوم إرنست هيغل
ومن المؤسف أن اندفاع بعض العلماء لمحاولة تبرير النظرية، بعد أن أصبحت الملاذ الوحيد للإلحاد، دفعهم إلى تلفيق بعض الأدلة، مثل رسوم إرنست هيغل لتشابه الأجنة المبكرة بين الإنسان وحيوانات مائية وبرمائية وزواحف وطيور، وهو ما ثبت زيفه وأجبره على الاعتراف في عام 1908م، إلا أنه ظل معتَمدا لدى بعض الكتب العلمية حتى وقت قريب. ونذكر أيضا تلفيق جمجمة “إنسان بلتداون” التي جمعت قحفا بشريا (تمت معالجته كيميائيا ليبدو قديما) مع فك قرد أورانغتان، حيث اعتُمدت هذه الجمجمة كدليل على الحلقة المفقودة لتطور الإنسان في بعض المتاحف قرابة 40 عاما.
وهناك حالات أخرى لتزوير عظام “إنسان جاوه”، والذي لم تُكشف حقيقته إلا بعد نحو 30 سنة، وكذلك وضع تصور لما سمي بإنسان نبراسكا بناء على ضرس واحد، حيث اتضح بعد عامين أنه ضرس خنزير بري، فضلا عن أمثلة أخرى كثيرة لأسماك قيل إنها أسلاف البرمائيات والزواحف، وطيور منقرضة قيل إنها ديناصورات طائرة.
أمثلة لأهم الكتب التي صدرت في المكتبات الغربية لنقض نظرية التطور خلال العقود الماضية
من أهم الكتب التي ناقشت “التصميم الذكي” في الثمانينات
التصميم الذكي إزاء قصور نظرية التطور عن تفسير الكثير من الظواهر، أصبح الكثير من العلماء يؤمنون بأن الحياة بدأت وفقا لتصميم وضع بذكاء، وبغض النظر عن ماهية المصمم الخالق باعتبار أن صفاته شأن ديني، لكن المنابر الإعلامية لا يتصدرها اليوم سوى التطوريون الذين يرون أن مجرد القول بوجود تصميم ذكي هو قول ديني خارج عن العلم.
في عام 1982، ناقش القضاء في ولاية أركانساس الأميركية دعوى رُفعت للسماح للمدارس بتدريس نظرية التصميم الذكي إلى جانب نظرية التطور، واستنفر الإعلام والمثقفون للمساهمة في الجدل العنيف حول مدى “علمية” نظرية التصميم الذكي، وتضمنت القضية وضع النظرية أمام اختبارات أربعة:
الخضوع للملاحظة: فالتطوريون قالوا إن نظرية الخلق لا يمكن ملاحظتها، وكان الرد بأن هناك تصورات علمية كثيرة لا تخضع للملاحظة مثل مكونات الذرة، إلا أن آثارها قابلة للرصد وهي قادرة على تفسير الظواهر العلمية، بل إن التطور من نوع إلى نوع هو مجرد تصور لم يخضع للملاحظة أبدا.
التكرار: يطالب التطوريون بضرورة تكرار الخلق ليتمكنوا من دراسته، مع أن نظرية الانفجار العظيم لا يطبق عليها هذا الشرط، بل إن بدء الحياة وفقا لمفهوم التطور أمر لا يمكن تكراره.
الاختبار: أعلن القاضي أن التصميم الذكي لا يمكن اختباره علميا، وبنفس الوقت استشهد بمرافعة التطوريين عندما قالوا إنه ثبت خطأ التصميم، فكيف ثبت خطؤه مع أنه لم يخضع للاختبار؟!
وقد مال القاضي إلى التطوريين انطلاقا من ضيق مفهوم العلم في الفلسفة الطبيعية التي تسيطر على الثقافة الغربية، فهي تنطلق من حقيقة أن العلم يقتصر على الأسباب الطبيعية والظواهر القابلة للاختبار الحسي والرياضي، إلا أنها تصر على أن يخضع الكون كله لأدوات اختبار العلم على اعتبار أنه ليس في الوجود سوى مادة وطاقة.
ولو أن العالِم الطبيعي -بالمفهوم الغربي- اقتصر على تفسير الظواهر لكان هذا محل اتفاق، إلا أنه يصر على البحث في أصول الظواهر معتبرا أن علمه صار بديلا عن الدين والفلسفة، وهو يحكم مسبقا على الكون بأنه يجب أن يكون ماديا، ليس لأنه قد ثبت له بأدواته المادية أن الكون حقا كذلك، بل لأن أدواته عاجزة أصلا عن البحث فيما وراء المادة.
وهذا المفهوم القاصر والمتضخم أصبح أساسا لمغالطة شائعة وهي وضع أي ظاهرة ميتافيزيقية في عالم التأجيل، فيقال إننا إذا عجزنا اليوم عن تفسير المعجزات والسحر وما يظهر من عالم الجن فيجب أن نؤجل الأمر إلى وقت غير مسمى أملا في أن يجد العلم الطبيعي المادي تفسيرا لها، والواقع أن العلم يكتشف المزيد من الحقائق التي تزيد من حيرة العلماء بدلا من العكس.
وعندما يقول العالِم إن وراء هذا الخلق تصميما ذكيا فهو لا يسند الخلق إلى إله على اعتبار أنه حدث أول بل هو السبب الأول، فإسناد التعقيد المتفرد في الحمض النووي إلى جهة “عاقلة” هو قرار علمي ضروري وليس هروبا إلى الأيديولوجيا الدينية، أما إنكار الخلق وانتظار ظهور تفسير “علمي” في أجل غير مسمى فهو هروب مؤدلج إلى احتمال غير مؤكد لمجرد النفور من الدين.
يقول الفيلسوف ريتشارد سوينبرن في كتابه “هل هناك إله؟” إن الحديث عن وجود الله هو ليس افتراضا كالذي يتصوره الملحدون تحت مسمى “إله الفجوات”، أي إلهاً وهمياً لتفسير الظواهر التي لم يكتشفها العلم بعد، بل هو إله ضروري يفسر قدرة العلم نفسه على التفسير، فنحن نقر بأن العلم قادر على التفسير لكن الإله هو الذي يفسر لنا سر تلك القدرة التفسيرية للعلم، وهذا يعني أن نجاح العلم يزيد من قوة إيماننا بالله وليس العكس، فكلما ازداد علمنا اكتشفنا أن الكون يتسم بنظام دقيق وأن هناك مسببا له، أما الملحدون فيصرون على تصور الإله على أنه بديل للعلم ويحاججون المؤمنين بناء على هذا الوهم [العلم ووجود الله، ص 82].
جورج والد
عندما حاول عالم الأحياء الملحد جورج والْد الرد على استحالة التوالد التلقائي بالصدفة والعشوائية، قال إنه يمكن للطاولة التي يكتب عليها أن ترتفع فجأة في الهواء إذا تصادف عشوائيا أن تتحرك جميع جزيئات الطاولة (التي تتحرك مكونات ذراتها باستمرار) مرة واحدة إلى الأعلى [Scientific American, Aug. 1954, p. 47]، وهو نفس المثال الذي لجأ إليه ريتشارد دوكينز عندما قال إنه ليس من المستحيل أن تجد ذراع تمثال السيدة مريم يلوح لك، وذلك إذا تحركت جزيئات يد التمثال كلها في اتجاه واحد، بالرغم من أنه طلب من أحد أصدقائه الفيزيائيين حساب إمكانية ذلك فقال له إن عمر الكون كله لن يكفي لكتابة أصفار هذا الاحتمال الضئيل [The Blind Watchmaker, p. 159- 160].
الدليل السابع: فطرية اللغة تفترض النظريات القائمة على التطور أن اللغات تطورت بدورها عن أصوات بدائية للكائنات الدنيا، وأن حناجر أسلاف الإنسان كانت أشبه بحناجر أطفال عصرنا التي لا يكفي بلعومها القصير لإصدار الكلام الواضح، وأن مراكز النطق لم تكن قد نضجت في أدمغتهم، لكن عالم الأنثروبولوجيا إيان تاتيرسل يقول إن الانتخاب الطبيعي العشوائي يعجز عن تفسير ظهور مراكز النطق والممرات الصوتي في الحناجر قبل أن ينطق “أسلاف الإنسان” بمدة طويلة.
تشومسكي (Duncan Rawlinson)
وفي ستينيات القرن العشرين، أكد عالم اللسانيات الأميركي ناعوم تشومسكي وجود نظام جيني في عقل الطفل منذ ولادته لاكتساب اللغة، فهو يتعلم المفردات من البيئة المحيطة ويكون جاهزا لتشكيلها بمفردات واشتقاقها على هيئة فعل ومفعول وفاعل ثم ربطها بالزمن.
وأكد تشومسكي أيضا أن هذا النظام عالمي، فالجنس البشري يتعامل مع اللغة بطريقة متماثلة مع اختلاف اللغة، ويقول تشومسكي إن اللغات نشأت في لحظة انفجار لغوي عظيم، قياسا على نظرية الانفجار العظيم التي تفسر نشأة المادة، ولا يمكن أن تكون قد تطورت عن أصوات بدائية. كما يعبر زميله ستيفن بنكر في معهد ماساتشوستس للتقنية في كتابه فطرة اللغة: “إذا زار عالم لغويات من كوكب المريخ الأرض فسيستنتج أن أهل الأرض جميعا يتكلمون لغة واحدة، باستثناء بعض الكلمات غير ذات المعنى”.
تعد قصة الفيلسوف البريطاني أنتوني فلو من أشهر قصص الانتقال من الإلحاد إلى الإيمان في العصر الحديث، فبعد نشأته في بيئة متدينة قرر في سن المراهقة معاداة الأديان واختيار الإلحاد، وكانت معضلته الأولى مع وجود الإله هي وجود الشر في العالم، وظل حتى سن الثمانين من أكثر المؤيدين للإلحاد عنادا.
ترددت أنباء عن احتمال انقلابه على الإلحاد منذ عام 2001، إلا أنه أنكر ذلك، ويبدو أن إلحاده لم يصمد أمام عقله الذي لم يكف عن المراجعة، فكانت لديه الجرأة الكافية لإعلان إيمانه بالله في عام 2004، ما أثار ضده الكثير من زملاء الماضي ووسائل الإعلام.
وفي عام 2007، اختتم فلو رحلته الفكرية الطويلة بالكتاب الصادم “هناك إله: كيف غيّر أشرس ملحد رأيه”، وأوضح أن إيمانه بضرورة وجود إله يعود إلى الأسباب الخمسة التالية:
1- فشل العلماء والفلاسفة في إثبات نشأة العالم المادي من العدم بمعزل عن إله خالق.
2- الطبيعة تسير وفق قوانين ثابتة مترابطة ويمكن كتابة كل صيغها الرياضية في صفحة واحدة، ولا بد أن هناك مصدرا عاقلا وضع هذه القوانين.
3- كل قوانين الطبيعة تعجز عن تفسير نشأة الحياة من مادة صماء، ومن المستحيل أن نفسر الغائية والذكاء بالعشوائية والصدفة.
4- كلما ازدادت معرفتنا بالكون نكتشف أنه قد تم إعداده بذكاء لاستقبال البشر، وكل النظريات التي وضعها العلماء لتفسير هذا الإعداد المحكم -كنظرية الأكوان المتعددة- كانت مثيرة للسخرية.
5- لا يمكن للغة الكهروكيميائية للمخ -والتي توجد في بقية الخلايا الحية- أن تفسر قدرات العقل البشري، فلا بد من مصدر غيبي (إله) وراء هذ العقل المبدع.
الأٍسباب النفسية للإلحاد بعد كل ما مر بنا من أدلة عقلية وعلمية ورياضية على ضرورة وجود إله خالق، قد يتساءل القارئ عن سبب استمرار وجود الإلحاد وانتشاره بين كثير من العلماء والمفكرين في هذا العصر. وللرد على هذا الإشكال لا بد أن نذكّر هنا بمغالطات الاحتكام إلى الأكثرية وإلى السلطة وإلى الحداثة [انظر مقال المغالطات المنطقية]، فكثرة الملحدين لا تعني بالضرورة أن يكونوا على حق، واعتناق علماء العلوم الطبيعية فكرة أيديولوجية ما ليس دليلا على صحة معتقدهم الخارج عن تخصصهم الدقيق، كما أن حداثة فكرة ما (الإلحاد) ليست مؤشرا على أنها الرأي الصائب [انظر مقال مصادر المعرفة].
ومن الواضح أننا نسلّم للعلماء التجريبيين بنتائج أبحاثهم عندما تتم بالنزاهة المطلوبة، لكن اقتناع أحد هؤلاء العلماء بما تؤدي إليه النتائج (مثل وجود الله) هو أمر آخر، فتاريخ العلم حافل بصراعات فكرية “أيديولوجية” بين العلماء، ولا سيما أولئك الذين يجدون صعوبة في التخلي عن نظام معرفي مألوف لصالح نظام آخر جديد مهما كانت الأدلة على صحته قوية. وقد أوضح المؤلفان روبرت أغروس وجورج ستانسيو في كتابهما “العلم فى منظوره الجديد” قصة الصراع بين النظرة العلمية القديمة (التي تعود إلى عصر نيوتن) والنظرة العلمية الجديدة (التي بدأت مطلع القرن العشرين)، فمع أن الكتاب نُشر عام 1989 إلا أن نقد المؤلفَين لتمسك غالبية العلماء بالفلسفة المادية (وما تؤدي إليه من إلحاد) مازال قائما حتى اليوم.
فإذا كان العلماء يتعصبون فعلاً لتوجهاتهم الفكرية (وهذا موقف غير علمي)، فلماذا نستبعد إذن تعصبهم لموقف مسبق تجاه الدين، ومن ثم تجاه وجود الإله نفسه؟
إذن فالأدلة العلمية التي تثبت ضرورة وجود خالق ومصمم أوجد هذا الكون لغاية مسبقة وبفعل إرادي، تبقى بحد ذاتها دليلا إرشاديا لمن يريد أن يقتنع بها من العلماء، لكن الفعل الإرادي المتمثل باتخاذ خطوة أخرى نحو الاقتناع هي سلوك بشري يخضع لرغبة العالِم الشخصية، وليست سلوكا علميا بالضرورة.
علاوة على ذلك، نجد أن الوسط العلمي لا يخلو من السلوكيات المنحرفة والشاذة التي يدينها القانون والعُرف الاجتماعي، وهو ما نجده أيضا لدى بعض أصحاب أفضل العقول وحملة جوائز نوبل، بل نجد أن الكثير من العلماء ينحازون نحو تيارات عنصرية أو فلسفات هدامة، فالنخبة العلمية في ألمانيا النازية كانت تؤيد توجهات هتلر الوحشية، وكذلك الحال في الاتحاد السوفييتي والصين حيث أبيد ملايين البشر لتحقيق الحلم الشيوعي، كما أيد الكثير من العلماء الأميركيين تصنيع أسلحة الدمار الشامل وإلقاءها على البشر، ولا يعني ذلك أن العلم التجريبي في موضع الاتهام، فما ينشأ عن إرادة أهل العلم يعود إلى قراراتهم وليس إلى العلم المجرد.
يناقش البروفسور جون لينوكس بإسهاب في كتابه “هل قتل العلم الايمان بوجود الله؟” -والذي تُرجم إلى العربية بعنوان “العلم ووجود الله”- تهافت الكثير من أقوال زملائه العلماء الملحدين، مثل مقولة الكيميائي البريطاني بيتر أتكنز “تستحيل مصالحة العلم والدين”، ويثبت لينوكس أنه لم يجد مع المئات من زملائه أي تناقض بين الإيمان والعلم، فنحن نهتم بنتائج أبحاث العلماء في تخصصاتهم التجريبية التي أثبتوا صحتها، أما معتقداتهم الشخصية فليست من العلم، سواء كانت اعتقادًا بأساطير قديمة أو إلحاداً.
ويستشهد لينوكس باستبيان أجرته عام 1996 مجلة “نيتشر” عندما سألت عشوائيا ألف عالم عن إيمانهم بإله يستجيب للعبادة وبخلود الإنسان، وهو سؤال يختلف عن مجرد الإيمان بخالق، وقد أجاب 60% منهم عن السؤال، وكانت نسبة من قالوا نعم منهم حوالي 40%، ومع أنهم ليسوا أغلبية فإن وجود هذه النسبة يكفي للقول إن العلم التجريبي ليس مرادفا للإلحاد في عقول العلماء المعاصرين الغربيين [ص 30].
ومن الجدير بالذكر أن المجلة الفرنسية “العلوم والمستقبل” Sciences et Avenir نشرت عام 1998 نتائج استبيان سئل فيه 72 عالم فيزياء عن رأيهم في نظرية تعدد الأكوان، فقال 60 % منهم تقريبا إنهم يؤمنون بها، وهي نسبة تماثل نسبة الملحدين في الاستبيان السابق، مما يرجح صحة مقولة وينبرغ المذكورة أعلاه حول كون هذه النظرية الملاذ الوحيد للملحدين.
لذا قد تكون هناك أسباب نفسية واجتماعية وأيديولوجية عديدة تدفع شخصا ما للإلحاد، وذلك بغض النظر عن ذكائه ونجاحه في مجالات عدة، فقد يتفوق الإنسان في جانب ما ويخفق كثيرا في آخر، وربما نصادف عالِما عبقريا في أحد المجالات وهو يقدّس وثنا أو يؤمن بخرافة. وسنوجز فيما يلي أهم الأسباب النفسية للإلحاد:
شعار الحركات الإلحادية
1- النفور من الدين: في عام 2011 احتفت مواقع كثيرة بإلحاد ليو بيهي، نجل مايكل بيهي الذي أشرنا سابقا إلى مؤلفاته المشهورة في نقض الداروينية، واعتبر الملحدون هذا الخبر بمثابة انتقام من البروفسور الذي أصاب التطور والإلحاد في مقتل، لكن الشاب المراهق الذي قرر أن يلحد في سن السابعة عشرة كان يقول في المقابلات التي أجريت معه إن ريتشارد دوكنز أقنعه بالإلحاد من خلال تفنيده للكتاب المقدس للمسيحيين، كما نجد في مدونة ليو أن مشكلته الأساسية هي المفهوم الكاثوليكي للدين والإله (المجسد في شخص المسيح)، وليس وجود الإله الخالق مجردا عن الكهنوت.
وتكاد هذه الظاهرة تكون الدافع الأول للإلحاد في الغرب، فالتناقض الذي أثبته الباحثون في الكتاب المقدس [انظر مقالَي اليهودية والمسيحية] منذ بدء ترجمته ونشره في عصر النهضة دفع كبار فلاسفة ذاك العصر إلى اعتبار العلم المادي المصدر البديل للمعرفة، فظهرت اللادينية (أو ما سمي بالدين الربوبي) التي تعترف بوجود إله وتنكر الوحي والأديان، ودُعمت بقوة من قبل النخبة الاقتصادية والسياسية عبر الجمعيات السرية، ثم تطور الأمر إلى إنكار وجود الإله نفسه. وقد بيّنا في مقال “مصادر المعرفة” أن العلم لا يملك الأجوبة على الأسئلة الوجودية.
واللافت أن معظم العلماء التجريبيين في عصر النهضة كانوا مؤمنين بالله، فقد وصف الفلكي يوهانس كبلر (توفي عام 1630م) دافعه للعلم بأنه “اكتشاف النظام المنطقي الذي فرضه الله على هذا العالم”، كما أن التصور الشائع عن غاليليو غاليلي بشأن إلحاده ليس صحيحا، فالمؤلفة دافا سوبيل تؤكد في كتابها “ابنة غاليليو” أنه ظل مؤمنا بالله طيلة حياته وأنه كان يعتقد بأن “قوانين الطبيعة مكتوبة بيد الإله وبصيغة رياضية”، فقد كان متمردا على تبني الكنيسة للرؤية الأرسطية وليس على الإيمان والدين. [العلم ووجود الله، ص41].
بل إن الكثير من رجال الكنيسة -وخصوصا اليسوعيين- تبنوا الفتوحات العلمية ولم يجدوا مانعا من تأويل نصوصهم المقدسة بما يوافق المنظور الجديد للفيزياء والفلك الذي طرحه نيوتن، وتخلصوا بذلك من البناء الكوني الأرسطي الذي قدسوه طوال تسعة قرون، حيث يقول البروفسور المعاصر جون بروك، وهو أول أستاذ للعلوم والدين في جامعة أوكسفورد: “إن المفاهيم العلمية التي آمن بها الرواد غالبا ما كانت تثريها معتقدات لاهوتية وميتافيزيقية” [العلم ووجود الله، ص38].
وإذا كان هذا هو حال الصراع بين مؤسسة الكنيسة والتجريبيين في أوروبا، فإن تعميم التجربة على أديان أخرى ليس صحيحا، فالعلماء المسلمون لم يواجهوا تحديا مماثلا في القرون الوسطى التي شهدت ذروة الحضارة الإسلامية، بل لم يثبت إلحاد أي منهم بمعنى إنكار الإله على النحو المعروف اليوم، وإن كان بعضهم قد تبنى مذاهب وفلسفات وأديانا أخرى.
ومع تجدد موجة الإلحاد في العصر الحديث تحت مسمى الإلحاد الجديد The New Atheism، والذي انطلق إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، أصبح من الواضح أن الدافع الرئيس للإلحاد هو معاداة الدين، فمعظم كتابات أقطاب هذه الظاهرة، مثل ريتشارد دوكنز وسام هاريس ودانييل دِنيت، مشغولة بنقد الدين وسلوك المتدينين أكثر من محاولة البرهنة على عدم وجود إله.
2- التمرد: يتجدد انتشار ظاهرتي اللادينية والإلحاد كلما انغمست المجتمعات في نمط الاستهلاك والرفاه، كما تنتشران أيضا في أوساط الشباب إبان فترات الحروب والكوارث، ومنها ما تشهده منطقتنا العربية اليوم من ثورات واضطرابات وحروب، فبعض الشباب الذين وجدوا في أنفسهم القدرة على قلب الحكومات وتحدي السلطات تشجعوا على تحدي السلطة الإلهية الأكبر، ولا سيما عندما رأوا أن الكثير من الفقهاء والدعاة قد مالوا إلى الأنظمة الظالمة ووظفوا الدين في تبرير الخنوع.
ويعترف الدكتور مصطفى محمود في كتابه “رحلتي من الشك إلى الإيمان” بأنه مال إلى الشك في سن الصبا بدافع التمرد والغرور، فكثيرا ما تظهر في محاججات الملحدين اليافعين ميول التمرد والشعور بعدم الحاجة للإله وقيود التدين بالرغم من تغليف تلك الميول بغلاف الجدل العقلي، فالأمر يشبه كثيرا نزوع الشباب في هذا السن إلى خرق قواعد الآباء والأمهات والمجتمع، والتلذذ بذلك للشعور باكتمال الشخصية ونضج الذات، وقد تسيطر هذه النزعة على النفس وتستمر في السيطرة على العقل مدى الحياة مهما امتدت.
3- معضلة الشر: عندما امتد أمد الثورات وانقلبت إلى عنف دموي يحصد أرواح الأطفال والأبرياء؛ سقط قسم آخر من الشباب في هوة اليأس، وحارت عقولهم أمام معضلة الشر وحكمة الابتلاء وتسلط الظلمة دون رادع إلهي فمالوا نفسيا إلى الإلحاد.
سنناقش هذه الأسئلة في مقال “الأسئلة الوجودية الكبرى” بنهاية مسيرنا، لأن بحثنا هنا يتعلق بحقيقة وجود الإله على اعتبار أنها ضرورة عقلية وحقيقة كونية لا بد منها، فالعقل السليم المجرد عن الهوى والضغوط النفسية والدعاية الإعلامية لا يملك إلا أن يسلّم بوجود إله، أما الدوافع النفسية والأخلاقية التي تدور في النفس فسنناقشها بعد استعراضنا لتاريخ علاقة الإنسان بالإله الحافل بنشوء عشرات الأديان والتيارات، وبعد تحققنا من صحة الوحي وصدق النسخة الأخيرة المتبقية منه بين أيدينا (القرآن) كما سيأتي في مقالات لاحقة.
أطفال قُتلوا بالغاز السام في الغوطة بريف دمشق في 21 أغسطس 2013
4- العدمية: تعد الفلسفة الوجودية من مظاهر العدمية البائسة الشهيرة في العصر الحديث، ومع أن مؤسسها الدنماركي سورين كيركغارد الذي عانى من آلام نفسية كان مؤمنا بوجود الله، إلا أن خليفته الفرنسي جان بول سارتر جعل من الوجودية رديفا للإلحاد، وتلقف الكثير من الشباب أفكاره في منتصف القرن العشرين بعد خروج الغرب من حربين عالميتين طاحنتين، حيث كانت العدمية تهيمن على الثقافة العامة في ظل توحش الرأسمالية وتشييء الإنسان (تحويله إلى مادة) وضياع بوصلة القيَم.
في ظل هذه الأجواء المضطربة اجتماعيا، قد ينشأ الإلحاد في نفس الشاب المثقف نتيجة اختلاط الأسباب النفسية السابقة كلها، فيصبح الإلحاد موقفا اجتماعيا أكثر من كونه قرارا فلسفيا متعقلا، وكثيرا ما يتزامن هذا الموقف مع ادعاء الملحد أنه أكثر سعادة من المؤمنين ومن معتنقي كل الأديان.
إسماعيل أدهم
على سبيل المثال، في ثلاثينيات القرن العشرين وضع المفكر المصري إسماعيل أدهم قبل أن يبلغ سن الثلاثين كتابا أسماه “لماذا أنا ملحد”، وحاول أن يؤكد فيه أنه سعيد بإلحاده ومنسجم معه كما هو حال المؤمنين المطمئنين إلى الإيمان.
وتكشف سيرته الذاتية أنه كان عبقريا، حيث حصل على الدكتوراه وأصبح أستاذا للرياضيات في عمر مبكر، والأرجح أنه كان يشعر بغربة اجتماعية وشعور بالتفوق، والمفارقة أنه انتحر في سن الثلاثين عام 1940، حيث وجدت جثته طافية على مياه البحر أمام شواطئ الإسكندرية، وفي معطفه رسالة موجهة إلى رئيس النيابة يخبره فيها أنه انتحر لزهده في الحياة وكراهيته لها.
وإذا كانت الدعاية الإلحادية الشائعة اليوم تحاول إقناع الشباب بأن الملحدين لا يعانون من مشكلات نفسية أو اجتماعية؛ فإن بعض الأبحاث تثبت العكس.
ففي دراسة نشرت عام 2002م بعنوان “منظور عالمي لعلم الأوبئة عن الانتحار”، قال الباحثان خوسيه بيرتولوتي وألكساندرا فليشمان إن الملحدين هم الأكثر انتحارا في العالم، وإن المسلمين هم الأقل انتحارا، [رابط الدراسة].
وبالرغم مما تعرضت له الدراسة السابقة من تشكيك، نُشرت دراسة أخرى عام 2004م في مجلة طب النفس الأميركية The American Journal of Psychiatry بعنوان “الانتماء الديني ومحاولات الانتحار”، حيث أثبتت مجددا وجود تأثير قوي للتعاليم الدينية على الحد من ظاهرة الانتحار، [رابط الدراسة].
أما تأثير الإلحاد والتدين على العلاقات الاجتماعية فقد تم بحثه في عدة دراسات، وكان منها دراسة أجريت في جامعة كولومبيا البريطانية بكندا، حيث تبين للباحثين أن الملحدين هم أكثر الفئات المنبوذة في المجتمع [رابط الدراسة].
أهم المراجع أنتوني فلو، هناك إله، ترجمة صلاح الفضلي.
جون لينوكس، العلم ووجود الله، ترجمة ماريانا كتكوت، الناشر: خدمة كريدولوغوس، 2015.
عمرو شريف، خرافة الإلحاد، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2014.
مصطفى محمود، رحلتي من الشك إلى الإيمان، 1970.
عبد الله العجيري، ميليشيا الإلحاد: مدخل لفهم الإلحاد الجديد، مركز تكوين، 2014.
George Gamow, Martynas Ycas, Mr. Tompkins Inside Himself, The Viking Press, New York, 1967.
Richard Dawkins, The Blind Watchmaker, W. W. Norton, London, 1986.
Michael J. Behe, The Edge of Evolution: The Search for the Limits of Darwinism, Free Press, 2007.
C.S. Lewis, Mere Christianity, Harper Collins, 2001.
George Wald, “The origin of life,” Scientific American, Aug. 1954.
Francis S. Collins, The Language of God, free press, 2006.
تبين لنا في بداية مسيرنا أن وجود الله حقيقة حتمية، وأن الإيمان به ليس سوى بداية الطريق نحو فهمنا للحقائق الوجودية الكبرى، وتعرضنا في مقال “مصادر المعرفة” للانتقادات الموجهة إلى كل مصدر على حدة، ما يجعل أياً منها قاصراً عن الإحاطة بكل جوانب المعرفة وبلوغ اليقين في كل التفاصيل والحقائق، بينما يبقى مصدر الوحي الأكثر يقينا وإحاطة، لكونه صادرا عن الله نفسه.
وبعد مرورنا بشتى الطرق والسبل من الأديان والمذاهب والفلسفات التي نشأت وتراكمت على مدى قرون، وبعد أن تحققنا من جوانب النقص والخلل والتحريف والانحراف في كل منها، ومن عجزها عن تقديم الأجوبة أو تعمد واضعيها تضليل الناس عن بلوغ الحقيقة، نحط رحالنا الآن عند آخر المحطات لاكتشاف سبيل الحق اليقيني الذي لا يشوبه شك، ونبتدئ بالبحث في ضرورة النبوة وحاجة الإنسان إليها كمصدر وحيد لبلوغ الحقيقة في الغيبيات.
الحاجة للنبوة سنحاول في هذه الفقرة الإجابة على سؤال: هل وجود الأنبياء ضروري؟ وللإجابة سنطرح سؤالا معاكسا: ماذا كان سيحدث لو لم يوجد الأنبياء؟
تبين لنا في مقال “مصادر المعرفة” أن افتقار الإغريق للوحي أدى إلى تخبط واضح في المسائل الميتافيزيقية، وذكرنا بعض الأمثلة على نتائج غياب الوحي، وهي أمثلة تتكرر في كل المجتمعات التي طُمست فيها آثار رسالات الأنبياء، حيث حارت عقول الفلاسفة أمام المعضلات الوجودية الكبرى، فضلا عن الاتفاق في المشكلات الأخلاقية والتشريعات القانونية، ولم يكن من سبيل إلى الحق ودرء الخلاف سوى بالرجوع إلى وحي إلهي يعلو على الجميع ويوافق عقولهم.
حتى كبار الفلاسفة مثل سقراط لم يتمكنوا من وضع فلسفة أخلاقية متكاملة اعتمادا على العقل وحده
والمشكلة هنا لا تقتصر على محدودية العقل البشري، فالإنسان أصلاً ليس كائناً عقلانياً مجرداً، فحتى لو وصل عقله إلى قناعة مجردة فقد تقوده نفسه وهواه إلى مخالفته، ولو كان من كبار الفلاسفة.
وإذا كان العقل البشري لا يكفي وحده، فقد يتساءل أحدنا: لماذا لا ينزل الوحي إلى البشر بطرق أخرى غير الأنبياء، كأن يوحي الله إلى كل شخص على حدة بما يحتاج إليه من حقائق؟ والجواب أننا ذكرنا في المقال المشار إليه أعلاه أن الحدس (الكشف) لا يصلح للاعتماد عليه كمصدر موثوق، فليس هناك أي ضمان يثبت للمرء أن ما يقع في نفسه من مكاشفات هي صادرة عن الله نفسه، ولو أن الله تركنا بالفعل بدون أنبياء وتواصل معنا عبر هذه الوسيلة لتساءلنا عما إذا كانت تلك “الرسائل” واردة من كائنات فضائية تتواصل معنا بالتخاطر أو من حقيقة كونية ما (كما يقول الباطنيون) أو حتى من الشياطين؟
والحدس الشخصي لا يُستفاد منه إلا لتثبيت الإيمان (اليقين) بعد اقتناع العقل وانكشاف الحقائق، لكنه لا يصلح أن يكون مصدرا يتفق عليه الناس لأنه خاص بكل منهم على حدة، ولا يمكن طبعا أن يُعتمد مصدرا للتشريع والقوانين، فلا يمكن لبقية الناس أن يتحققوا من زعم أحد بأنه تلقى قانوناً إلهياً بحدسه الخاص، وإن فعلنا ذلك فسنعود إذن إلى مشروعية وضرورة وجود نبي يتلقى هذا الوحي، بحيث يمكن لنا التحقق من صدقه باعتباره المرجع الشامل والوحيد للأمة كلها وحلقة الوصل بينها وبين الله.
وقد يعود السائل ليقول: فلماذا لا تكون حلقة الوصل هذه من كائنات أخرى غير البشر؟ وهذا الإشكال قد طرحته قريش على النبي محمد الذي كان واحداً منهم، حيث استبعد المنكرون أن يكون نبياً من بينهم، لا سيما وأن بعضهم أقر بأن رفضهم لنبوته كان بدافع الحسد (كما فعل أبو جهل عمرو بن هشام)، وقد ردّ عليهم القرآن نفسه بقوله {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا} [الإسراء: 95]، أي أن الله يبعث على الناس رسولا من جنسهم لكي يتمكنوا من رؤيته ومخالطته والتواصل معه والتعلم من سلوكه وأفعاله وأقواله، وليضعوه أيضا موضع الاختبار والتمحيص، وإذا كان البعض يتصور أن الملائكة أحق بالحصول على هذه المرتبة فقد رأينا في سيرة النبي محمد أن مهمته تضمنت من المشقة ما لا يحتمله معظم الناس، وكأن عبء الرسالة أعظم بكثير مما فيها من التشريف، ولو أن الله منح الناس القدرة على رؤية الملاك المُرسَل (في حال إرساله بدلا من رسول بشري) فربما كان الجاحدون سيطرحون اعتراضا آخر من قبيل: وما الذي يضمن لنا أن هذا الملاك مرسل من الله أيضا وليس مجرد كائن فضائي أو شيطان متجسد… إلخ؟
إذن فلا بد للإنسانية من العودة إلى الوحي بصفته الرسالة الواردة إليها من الإله، كي تكتشف من خلالها غاية وجودها وطبيعة المهمة الموكلة إليها في هذه الحياة، ولتجد أيضا في ثناياها المنهج والطريقة (الشريعة) التي يجب عليها الاحتكام إليها للتمييز بين الصواب والخطأ، وللتعرف على وسائل مكافحة الشر وتقليص مساحته ونفوذه.
وتبدأ مهمة الإنسان في البحث عن الوحي الصحيح والتحقق من صدق نسبته إلى الله وسلامته من التبديل والتحريف، وذلك بالتحقق أولا من صدق الأشخاص الذين زعموا أنهم أنبياء مرسلون من الله، بدراسة سيرتهم ومعجزاتهم وما نُقل عنهم من أقوال وأفعال، ثم بالتحقق من صدق الوحي الذي جاؤوا به، وذلك بعرضه على العقل (المنطق) ودلائل الحس (العلم التجريبي)، ومقارنة قصصه ونبوءاته بحقائق التاريخ، وتمحيص لغته وبيانه ودعاواه وكل ما يتضمنه من حيث كونها صادرة بالفعل عن مصدر إلهي أو غير ذلك.
وسنحاول إيجاز بحثنا في هذا المقال للتحقق من صدق نبوة محمد، على اعتبار أنه قد ادعى كونه آخر الأنبياء والمرسلين في التاريخ، وأنه مُرسل إلى البشرية كلها، ثم نبحث في تراثه وما نُقل إلينا من سنته في مقال لاحق، وأخيراً نتحقق من صدق الوحي الذي جاء به في المقال الذي يليه.
“كل خيرٍ في الوجود فمنشؤه من جهة الرسول، وكل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به، وسعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة، والرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاحٍ للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟”.
ابن تيمية
ذكر النبي محمد في الكتب السابقة على بعثته تعرضنا في مقالات الوثنية واليهودية والمسيحية إلى الوحي الذي أنزله الله إلى رسل سابقين، وذكرنا في مقال “الهندوسية والبوذية” أن هناك مؤشرات عديدة على أن الأصول البعيدة للبراهمية الأولى تعود إلى مصدر سماوي، واستعرضنا أيضا بعض الأدلة التي تثبت تعرض تلك الكتب المنزَلة للتحريف، فضلا عن إخفاء أجزاء منها عمداً وضياع أجزاء أخرى. ومع ذلك؛ فما زال المتاح من تلك الكتب يتضمن بعض الإشارات التي توحي بأنها تتحدث عن النبي محمد، بينما تصرح أجزاء أخرى منها في الحديث عنه، إما باسمه الصريح أو بصفاته.
فعلى سبيل المثال، نقرأ في سفر أخنوخ (الكتاب المنسوب إلى النبي إدريس عليه السلام وهو من أوائل المرسلين إلى البشرية) وصفاً للقيامة يتضمن حديثا عن الشخص المختار أو المصطفى، فيقول “سيقوم المصطفى ويختار الصالحين والقديسين من بين الموتى، فقد جاء اليوم الذي فيه يُنقذون. سيجلس المصطفى في تلك الأيام على عرشي، وستنطلق من فمه أسرار الحكمة والموعظة التي منحها له رب الأرواح ومجده” [R.H. Charles ,The Book of Enoch, 1917, p. 69]، ويبدو أن الحديث هنا عن شخص مُختار ومميز عن كل البشرية، ينال مرتبة رفيعة يوم القيامة، وهو ما يتطابق مع الوصف الذي ذكره النبي محمد لأحداث القيامة ومقام الشفاعة الذي سيُمنح له.
وسنسرد فيما يلي أهم النصوص التي تنبأت بنبوة محمد قبل قرون من ولادته، وذلك فيما هو متاح بين أيدينا اليوم من كتب الهندوس واليهود والمسيحيين:
أولا: في الكتب الهندوسية سنسرد فيما يلي أهم النصوص التي وردت في الكتب الهندوسية المقدسة وجاء فيها ذكر محمد وأتباعه، تصريحا أو تلميحا:
1- كتاب بهافيشيا بورانا: النص الأول: بارف 3، خاند 1، أدهاي 3، شلوكا 21 إلى 23: “المليخا (شعب أجنبي في بلد أجنبي) سيظهر بينهم معلم روحي مع صحابته. سيكون اسمه مهامادا (محمد). راجا (بوج) -وهو لقب يوصف به ملوك الهند- بعد أن يعطي هذا العربي ماها ديف (تعني ذو الطبيعة الملائكية) غسلا في ماء بانشجافيا فى نهر الكانج (كناية عن التطهير من الذنوب) وبعد أن يعلن دعمه له ورضاه عنه سيقول له: سأضع لك عصا الطاعة. لك أنت يا فخر البشرية يا ساكن الصحراء العربية. يا من تملك قوة عظيمة لقتل الشيطان، وأنت ستكون محفوظا من كل أعدائك”.
وفي هذا النص يظهر اسم النبي محمد صلى الله عليه و سلم بوضوح، ويحدد أيضا موقع ظهور رسالته. ومع أن النبي لم يغتسل في نهر الكانج المقدس لدى الهندوس، فالمقصود بالنص كما يبدو أنه سيكون شخصا مطهرا من الذنوب ومعصوما، وربما يكون النص قد تعرض لهذه الإضافة من قبل كاتبها كي يفهمها الهندوسي بما يوافق طقوسه.
النص الثاني: براتيساراج 3، خاند 3، أدهاي 3، شولكا 10 إلى 27، يتنبأ مهاريشى فياس بالقول:
“المليخا أفسدوا أرض العرب الشهيرة. أريا دارما (طريقة العبادة السليمة) لم تعد موجودة فى البلد. كذلك كنت من قبل قد قتلت الشرير المضلل ولكنه عاد مرة أخرى للظهور مصحوبا بأعداء أقوياء. من أجل إظهار طريق الحق لأولئك الأعداء ومنحهم الهداية، فإن محمدا المعروف جيدا سينشغل بتوجيه هؤلاء البيشاتشا إلى طريق الحق. يا أيها الملك راجا لن تحتاج للذهاب إلى أرض أولئك البيشاتشا الحمقى لأن رحمتي ستطهرك حيثما أنت. وفي الليل، سيقول ذاك الرجل الحكيم ذو الطبيعة الملائكية، وهو في هيئة البيشاتشا، مناديا راجا بوج (يقصد به هنا الرب) “أيها الراجا، طريقك القويم و دينك وُجد ليظهر على كل الأديان الأخرى. ولكن طبقا لتعاليم إيشوار بارماتما سأعزز إيمان آكلي اللحوم (لأن الهندوس لا يأكلون اللحوم). أتباعي سيكونون رجالا مختونين ولا ذيول لهم فى رؤوسهم (لأن الهندوس يطيلون شعرهم ويربطونه) ويطيلون لحاهم، وسيصنعون ثورة ويجهرون بالأذان (مكتوبة بنفس هذا النطق العربي)، ويأكلون كل الطعام المباح. وهو سيأكل كل لحوم الحيوانات باستثناء الخنزير، وأتباعه لن يسعوا وراء التطهر من خلال الشجيرات المقدسة بل في ساحات القتال (الجهاد). وبسبب قتالهم للأمم التي لا دين لها، فإنهم سيعرفون باسم المسلمين (MUSALMAANS)، وسأكون أنا (الرب) منبع دين الأمم التي تأكل اللحوم”.
النص الثالث: بارف 3 خاند 1 أدهاي 3 شلوكا 21 إلى 23:
“انتشر الفساد والشر في سبع مدن مقدسة فى كاشي… الهند أصبحت مسكونة بالراكشاس والشابور والبهيل والكثير من الأقوام الآخرين الحمقى. في أرض المليخا (الشعب الأجنبي) أتباع الماليخا دارما (أتباع الإسلام) يتصفون بالحكمة والشجاعة. كل الصفات الطيبة اجتمعت فى المسلمين (MUSALMAANS) وكل الزعامات اجتمعت على أرض الأرياس (الجزيرة العربية). الإسلام سوف يحكم في الهند وجزرها”.
2- كتاب أتهَرفافيدا: الكتاب 20، الإنشاد 127، الآيات 1 إلى 13:
مانترا 1:
“إنه ناراشاناش أو طيب الذكر (المحمود). إنه كوراما: المهاجر أو أمير السلام، الآمن حتى وهو فى وسط 60090 عدواً”.
وقد قدّر الشيخ المباركفوري عدد أعداء النبي من قبائل العرب قبل فتح مكة بنحو 60 ألفا، بينما يعتقد الدكتور ذاكر نايك أن هذا العدد هو عدد أتباع قريش في مكة، لكن الصحيح هو الرأي الأول، والله أعلم.
مانترا 2:
“إنه ريشي قائد الجمل، الذي تمس عربته السماء”.
ومصطلح الريشي يعني رجل الدين المقدس. ومع أن تعاليمهم تحرّم على الريشي ركوب الجمل إلا أن النص تنبأ بقدوم هذا الرجل المقدس الذي يركب جملا، والنص يوضح جلال هذا الرجل الذي يعيش حياة بسيطة على الأرض ويصل مع ذلك إلى عالم الملكوت عندما يُعرج به إلى السماء.
مانترا 3:
“إنه الريشي ماماه (أي محمد) الذي يعطى مئة عملة ذهبية…”
الكتاب 20، الإنشاد 21، الآية 6:
“يا مولى كل من آمن بالحق, هؤلاء الفاتحون يتغذون بالشجاعة وبالأناشيد التي ترضيك فى ساحة المعركة. حينما تدفع العشرة آلاف عدو للحامد (أو الأحمد) المحبوب مهزومين بدون قتال”.
وهذه كما يبدو إشارة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في معركة الأحزاب.
وفي نفس الكتاب والإنشاد، الآية 9:
“لقد استطعت يا إندرا (إله الحرب) أن تهزم عشرين ملكا وستين ألفا وتسعة وتسعين رجلا مسلحين بعربات ذات عجلات قل نظيرها، الذين جاؤوا لقتال طيب الذكر (المحمود) أو ذائع الصيت اليتيم”.
يقول ذاكر نايك إن المقصود هو عدد سكان مكة قبل الفتح البالغ 60 ألفا، وزعماء مكة البالغ أيضا عشرين زعيما.
3- كتاب سامافيدا: الكتاب الثاني، الإنشاد 6، الآية 8:
“أحمد أخذ من ربه القانون الأبدي. لقد حصلتُ منه على النور كأنه الشمس”.
يقول نايك إن النص جاء باسم أحمد صريحا، وإن العديد من المترجمين أساؤوا فهم الكمة وترجموها بالخطأ، ويضيف أن المقصود بالقانون الموحى به من الله هو الشريعة الإسلامية.
ثانيا: في الكتب اليهودية سنستعرض طائفة من البشارات المتعلقة ببعثة النبي محمد في كتاب العهد القديم، والذي يتضمن المزامير التي يعتقد أنها الزبور الذي أنزل على النبي داوود، وسفر نشيد الأناشيد المنسوب للنبي سليمان، وما بقي من التوراة التي أنزلت على النبي موسى، والصحف الأخرى التي أنزلت على أنبياء بني إسرائيل بعد موسى، ومن أهمها نذكر ما يلي:
سفر إشعيا
1- جاء في سفر إشعيا (29: 12): “ثم يناول الكتاب لمن لا يعرف الكتاب ويُقال له اقرأ هذا فيقول لا أعرف الكتابة” ولعل مجرد قراءة هذه الكلمات تستدعي إلى ذهن القارئ مباشرة قصة بدء الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال له جبريل “اقرأ” فقال “ما أنا بقارئ”، ولكن لا بدَّ من توضيح أن هذه الترجمة العربية الكاثوليكية لهذا النص- مع وضوح دلالتها- قد حرَّفت فيه ما بينته الترجمات الإنجليزية والفرنسية والتي جاء النص فيها كما يلي (حسب The New International Version): “or if you give the scroll to someone who cannot read, and say: read this, please) he will answer: I don’t know how to read”.
ونلاحظ الاختلاف البسيط في ترجمتها : “أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف القراءة، مع الرجاء: اقرأ هذا، فيجيب: لا أعرف القراءة”، لكنه على بساطته يكشف تحريفاً متعمداً للنص لإبعاده عن الشخص الذي يشير إليه وهو محمد نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم الذي كانت أهم صفاته أنه أميّ لا يعرف القراءة.
2- جاء في سفر التثنية (32 :21) أن الرب قال في بني إسرائيل غاضباً: “هم أغاروني بمن ليس إلهاً وأغضبوني بأباطيلهم وأنا أغيرهم بمن ليسوا شعباً بقومٍ أغبياء أغضبهم”. (ترجمة المطبعة الكاثوليكية ببيروت). وفي الترجمة العربية المشتركة جاء: “… وأنا أثيرهم بشعبٍ لا شعبٌ هو وأكدِّرهم بقوم جهلاء”. والشعب “الغبي” أو “الجاهل” الذي يخبر الرب أنه سيحل محل بني إسرائيل بعد انحرافهم هو “الأميون” من العرب الذين اشتهروا بهذا الوصف وذكرهم القرآن الكريم به.
3- ورد في سفر التثنية (18: 18) أن الرب قال لموسى: “سأقيم لهم نبياً من بين إخوتهم مثلكَ وألقي كلامي في فمه فينقل إليهم جميع ما أكلمه به وكلُّ من لا يسمع كلامي الذي يتكلم به باسمي أحاسبه عليه”، ويدل هذا على أن النبي المقصود في البشارة من غير بني إسرائيل لقوله: “من بين إخوتهم” فالخطاب لبني إسرائيل ولا يكونون إخوة لأنفسهم، أما إخوتهم فهم أبناء أخي أبيهم إسماعيل أخي إسحاق، وهم العرب. ولو كان المراد به نبياً من بني اسرائيل مثل (صمويل) كما يؤوله اليهود لقال: من بينكم أو من وسطكم.
وقد نبه السموأل بن يحيى -الذي كان من أحبار اليهود في الأندلس واعتنق الإسلام- في كتابه “غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود” أن هذا النصَّ كان يتضمن وصفاً للنبي المبشر به وهو أنه “أمّيٌّ” قبل أن يحذفها اليهود وأنها كانت السبب في إسلامه.
4- في سفر التثنية (33 :2): “جاء نور الرب من سيناء وأشرق لهم من ساعير وتلألأ من جبال فاران وجاء معه عشرة آلاف قديس”. وقد حاول الأحبار إبهام دلالة فاران وقالوا إنها لا تقع في بلاد العرب بل قريبة من سيناء وساعير، لكن مكة عُرفت بهذا الاسم بضعة قرون سالفة، كما أن إسماعيل -وفقاً لهم- سكن برية فاران وتزوج من امرأة مصرية، ومن ولده قادار انحدر أحفاده العرب الذين سكنوا قفار فاران (التكوين 25: 13- 15)، وكان منهم محمد الذي دخل مكة مع عشرة آلاف قديس (وهو عدد الصحابة عند فتح مكة) كما جاء في التثنية (33: 2). وتذكر موسوعة الكتاب المقدس أن اسم (قيدار) مرادف للبلاد العربية وعرّف بعضهم بني قيدار بأنهم قريش.
5- في سفر إشعياء (21: 13- 17): “نبوءة بشأن العرب: بيتوا في غاب العرب يا قبائل الدّدانيين، وافوا بالماء للقاء العطشان يا سكان أرض تيماء استقبلوا الهاربين بالخبز لأنهم قد فروا من السيف المسلول.. لأنه هكذا قال لي الرب بعد سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار وتكون بقية الرماة الأبطال من أبناء قيدار قِلَّة لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم”.
وذكر معجم العهد القديم أن قيدار -كما سبق- هو ابن إسماعيل وأبناؤه العرب من قريش خاصة وأن أحبار اليهود ينادون كل العرب في كل مكان بهذا الاسم، أما الدّدانيون فهم قبيلة عربية مرتبطة بأدوم وتيماء وتقيم شرق البحر الميت، وتيماء: اسم عبري بمعنى “الجنوبي” وهي قبيلة إسماعيلية تسلسلت من تيما وكانت تقطن بلاد العرب وتسمى الجهة التي تسكنها تيماء أيضاً، وهي في بلاد العرب في منتصف الطريق بين دمشق ومكة (حسب قاموس الكتاب المقدس ضمن المجموعة الإلكترونية “البشارة”)، وذكر قاموس الكتاب المقدس أن تيماء واحة شمال المدينة. وهي المدينة التي دعا الرب أهلها لاستقبال “الهارب” بدعوته من بطش بني قيدار في مكة، وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون، وهو الذي عاد بعد عام من هجرته كما نصت البشارة ليهزم أبناء قيدار “قريش” في موقعة بدر.
6- يقول سفر حجَّاي (2: 7،8) مبشراً المستضعفين والمحزونين: “فإنه هكذا قال رب الجنود.. وأزلزل جميع الأمم ويأتي مُتمنَّى جميع الأمم فأملأ هذا البيت مجداً.. وسيكون مجد هذا البيت الأخير أعظم من الأول قال رب الجنود وفي هذا الموضع أعطي السلام يقول رب الجنود”. وقد اضطربت تراجم الكتاب المقدس في عبارة: “ويأتي مُتمنَّى (أو مُشتهى) جميع الأمم”، حيث أكد القس الكلداني الذي اعتنق الإسلام عبد الأحد داود في كتابه “محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس، ص 36” أن هذه النبوءة تتحدث عن مقدم نبي الإسلام “أحمد”، فقد ذكر النص العبري كلمة مُتمنَّى أو مشتهى بلفظ “حِمده”: “في يا فو حِمده كول هاجوييم) ما يعني حرفياً: “وسوف يأتي حِمده لكل الأمم”، وهي كلمة عبرية قديمة تعني “الأمنية الكبيرة” أو “المشتهى”، أما في العربية فمن جذر (ح م د) التي تعني الإطراء والمديح، والشخص الذي يتاق إليه ويُرغب فيه هو أولى الناس بالمديح، وأكد عبد الأحد داود أن كلمة أحمدهي الصيغة العربية لكلمة حِمده. أما أصل كلمة شالوم بالعبرية و”سلام” و”إسلام” بالعربية فهما مشتقتان من أصل واحد، ورأى المؤلف أن تفسير النبوءة بمعنى الأمنية والسلام يجردها من أي معنى، بينما هي في الحقيقة بشارة صريحة باسم نبي الإسلام.
7- في سفر المزامير (84: 6- 8) : “هنيئاً للذين عزتهم بك وبقلوبهم يتوجهون إليك يعبرون في وادي الجفاف فيجعلونه عيون ماء بل بركاً يغمرها المطر، ينطلقون من جبل إلى جبل”، وفي ترجمة المطبعة الكاثوليكية تأتي العبارة: “يجتازون في وادي البكاء”، أما في النص العبري ومعظم تراجم الكتاب المقدس بالإنكليزية والفرنسية نجد أن الوادي يحمل اسم (Bacah) حيث يبدأ بحرف كبير مما يدل على أنه اسم علم، وبكة هو أحد أسماء مكة المكرمة كما جاء في القرآن الكريم: {إنَّ أوَّل بيتٍ وُضِعَ للناس للذي بِبَكَّة مباركاً وهُدىً للعالمين} [آل عمران: 96].
8- أكثر البشارات وضوحاً هي التي وردت في سفر نشيد الأناشيد المنسوب للنبي سليمان (5: 16) حيث يرد فيه تغزلٌّ بشخص ما: “حلقه من الحلويات وكلُّه مشتهيات، هذا ودودي وهذا صاحبي يا بنات أورشليم”. فعبارة (كله مشتهيات) هي ترجمة محرفة لما ورد في النص العبري والذي ما زال محفوظاً كما هو على الشكل التالي: “حِكو ممتكيم فِكلّو محمديم زيه دودي فزيه ريعي”. ولاحقة “يم” العبرية تستخدم للتفخيم، ويبدو أن هناك من تعمد تحريف الترجمة مع أنها تشير إلى اسم علمٍ مع أنه لا يجوز ترجمة أسماء الأعلام.
ثالثا: في الكتب المسيحية مع أن العهد الجديد من الكتاب المقدس -الذي توجد منه حالياً أربع نسخ مختلفة- لا يمثل الإنجيل الحقيقي الذي أنزل على النبي عيسى عليه السلام حسب المعتقد الإسلامي، بسبب ما تعرض له من تحريف وتبديل وضياع [انظر مقال المسيحية]، إلا أن المتداوَل منه اليوم يتضمن بعض الإشارات إلى نبوة محمد، وفيما يلي مثالان لهذه الإشارات:
وفي سفر يوحنا [14/16] يقول المسيح: “ولسوف أطلب من الأب وسوف يعطيكم معزياً (برقليطوس) آخر يبقى معكم إلى الأبد”، بينما يؤكد البروفسور عبد الأحد داود أن هذا النصٌ تعرض للتشويه، فكلمة “برقليطوس” لا تعني “المعزي”، حيث حرصت الكنيسة على تفسيرها بالروح القدس (الأقنوم الثالث للإله) الذي جاء ليعزي المؤمنين بصلب المسيح ويكون واسطة بينهم وبين الأب، بل تعني الأمجد والمستحق للمديح، وهي مطابقة تماماً لمعنى اسم “أحمد” في اللغة العربية، وبهذا يصبح المقصود بها النبي محمد الذي بشّر المسيح عيسى، وبشكل موافق لنص الآية القرآنية.
2- يذكر العهد الجديد قصة رعاة يرعون أغنامهم قرب بيت لحم في الليلة التي ولد فيها المسيح، إذ ظهر لهم ملاك ليعلن مولد “السيد المخلِّص” ثم ظهر حشدٌ من الملائكة ينشدون: “المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة” [لوقا 2/14]، وما زالت هذه الترنيمة ترتل في الكنائس حتى اليوم، بينما يشكك باحثون في ترجمتها إلى اللغة اليونانية التي كُتب بها هذا الإنجيل، إذ يُفترض أن تكون الملائكة قد رتلت أنشودتها بلغة الرعاة وهي العبرية أو الآرامية وليس اليونانية.
ويقول عبد الأحد داود إن الأصل الآرامي للنص كان يتضمن ثلاث كلمات مهمة حوّرت الترجمة معناها إلى معنى آخر، فاسم الله تُرجم إلى “Theos” باليونانية، وكلمة شلاما (السلام) ترجمت إلى “Eiriny”، وكلمة المسرَّة SobhraTabha تُرجمت إلى “Eudokia”، حيث تتوافق هذه المعاني مع العقيدة المسيحية المعتمدة بعد بولس.
ويضيف داود أن كلمة Eiriny اليونانية مرادفة لكلمتي “شالوم” في العبرية، و”شلاما” في الآرامية، لكنها تعني أيضا “إسلام” في العربية. أما كلمة Eudokia فهي مركبة من مقطعين: “Eu” تعني الأكثر والأحسن، و”dokia” تعني المجد والشرف أو اللطيف المحبوب، وتتفق هذه الكلمة في معناها الصحيح والحرفي مع الكلمات العبرية “مَحْمَد، مَحَمُد، حِمْدَه، حِمِدْ” التي استخدمت بصورة متكررة في العهد القديم [إرميا 1/7،10- 2/4]. وبهذا يمكن أن تتحول الترنيمة إلى “المجد والحمد لله في الأعالي، أوشك أن يجيء الإسلام للأرض، يقدمه للناس أحمد”.
الكعبة في عام 1910م
مقدمات بعثة النبي محمد قال أبو محمد بن قتيبة “ومن أعلام (علامات) نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لم يسم أحد باسمه قبله صيانةً من الله تعالى لهذا الاسم، كما فعل بيحيى بن زكريا إذ لم يجعل له من قبل سمياً، وذلك أنه سماه في الكتب المتقدمة وبشّرت به الأنبياء، فلو جعل الاسم مشتركا فيه ساغت الدعاوى ووقعت الشبهة، إلا أنه لما قرُب زمانه وبشّر أهل الكتاب بقُربه حضر أربعة أنفس عند راهب وأخبرهم باسمه وقرب زمنه فسموا أولادهم بذلك”.
وذكر عدة مؤرخين أولئك الأشخاص الذين أطلقوا اسم محمد على أطفالهم قبل بعثة محمد الحقيقي بسنوات قليلة، والبعض ذكر أنهم ستة، وكانوا قد التقوا براهب نصراني في أحد أديرة الشام أثناء رحلة لهم للقاء ملك الغساسنة “ابن جفنة”، فقال لهم الراهب عندما عرف أنهم من قبيلة مُضر العربية “إنه يُبعث فيكم وشيكاً نبي خاتم النبيين، فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا”، فقالوا: ما اسمه؟ فقال: اسمه محمد، فلما وُلد لكل منهم ولد سمى ابنه محمداً أملاً بأن يكون هو النبي [ذكره ابن حجر والبغوي وابن سعد وابن شاهين وابن ظفر المكي].
والظاهر أنه لم يدّع أي من الذين حملوا اسم محمد النبوة، والعجيب أن عائلة محمد الحقيقي لم تكن قد سمعت بهذه القصة من أي راهب وأنها أطلقت على مولودها هذا الاسم الجديد -الذي لم تعرفه العرب من قبل- بالصدفة. ففي روايات نقلت من طرق عدة عن عبد المطلب، جدّ النبي محمد لوالده، فإنه رأى في منامه أن سلسلة فضة خرجت من ظهره وامتدت إلى ما بين السماء والأرض، وما بين المشرق والمغرب، ففسرت له كاهنة قريش الرؤيا بأنه سيولد له مولود يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض، فلما ولدت آمنة (زوجة ابنه عبد الله) قال لها سميه محمداً [ذكره أبو نعيم والصالحي والخفاجي والسيوطي]، كما ذكر مؤرخون آخرون أن آمنة أُمرت أثناء حملها (في المنام) بأن تسمي مولودها محمداً [ابن حبان والطبري وابن سعد وغيرهم].
اختار الله أن يبعث خاتم أنبيائه في أرض العرب التي لم تعرف الحضارة، وتحديدا في مكة التي بُني فيها البيت الحرام على يد آدم أبي البشر، والذي جدده إبراهيم عليه السلام بعد أن ضاعت معالمه، وكأن الحكمة من خروجه في هذا المكان أن يجمع بين النشأة في بيئة لا تعرف القراءة والكتابة ولم تقرأ شيئا من الكتب المنزلة على بني إسرائيل وغيرهم، وبين الانطلاق بدعوته من مركز التوحيد وقبلة المؤمنين على مر العصور.
وُلد محمد يتيمًا على الأرجح، حيث توفي والده عبد الله قبل ولادته، كما توفيت والدته آمنة وهو في سن السادسة، ثم كفله جده عبد المطلب (سيد قريش) سنتين قبل أن يرحل أيضا عن الدنيا، لينشأ في كنف عمه أبي طالب، وكأن قدَر النبي أن ينشأ يتيما ليكون أكثر استقلالية منذ الصغر، واللافت أن عمه الذي ظل حياً إلى ما بعد بعثة محمد لم يؤمن به، وهذا يعني أن كل الذين نشأ محمد في كنفهم لم يكن لهم دور في رسالته.
عاش محمد طفولة طبيعية في مكة، وبدأها بمرحلة الرضاعة في مضارب البدو كما هي عادة العرب آنذاك، فحملته حليمة السعدية إلى دارها في مضارب بني سعد لتبدأ أمارات تميز هذا الطفل بحلول البركة في دارها ورزقها، ثم وقعت معجزة شق صدره عندما أخذه الملَك جبريل وهو يلعب مع بقية الأطفال، فشقّ صدره وأخرج قلبه وغسله مادياً في وعاء من ذهب ثم أعاده إلى مكانه، وقد رويت هذه القصة ببعض الاختلافات في التفاصيل في صحيح مسلم وغيره، وأخرج أحمد والدارمي أن حليمة أعادته إلى أمه فوراً بعد هذه الحادثة فلم تُفاجأ بما حدث له، وقالت أمه آمنة “إن رأيت (في المنام أثناء حملها به) خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام”، وليس في هذا المعجزة ما يناقض العقل ولا المنطق السليم.
رعى محمد الغنم لكسب رزقه، وقال لأصحابه بعد أن صار نبياً “ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم”، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال “نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة” [البخاري: 2262]، ولدى الجمع مع روايات أخرى يتبين أنه كان يرعى الغنم أيضا أثناء إقامته صغيراً عند مرضعته حليمة، ويقول أبو الوفاء ابن عقيل “لما كان الرعي يحتاج إلى سعة خلق وانشراع صدر، وكان الأنبياء مُعدّين لإصلاح الأمم، حَسُن هذا في حقهم”.
وفي سن الشباب بدأ يعمل بالتجارة، ففي سن الخامسة والعشرين خرج بقافلة تجارية لصالح خديجة بنت خويلد، وهي إحدى سيدات قريش، وعندما عاد من رحلته إلى بُصرى (في جنوب سورية حالياً)، أو من سوق في تهامة (غرب السعودية) حسب رواية أخرى، أُعجبت بما ذكره لها غلامها ميسرة من أخلاقه، فتزوجا وهي تكبره بنحو خمسة عشرة سنة.
مدخل غار حراء
يقول ابن خلدون في كتابه “المقدمة” إن من علامات نبوة محمد أنه كان قبل الوحي معروفا في قومه بخلق الخير والزكاة ومجانبة المذمومات والرجس، وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات، فقد دعي وهو شاب صغير إلى وليمة عرس فيها رقص ولهو، فغلبه النوم أثناء الحفل حتى طلعت الشمس ولم يحضر شيئا من اللعب، وكأن الله كان ينزّهه عن كل المنكرات حتى لو حدثت بالصدفة ودون قصد منه.
وفي سن الأربعين اكتمل نضجه، وبدأت أمارات النبوة بالظهور، فتقول عائشة “كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء (أي الخلوة واعتزال الناس) فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، وهو التعبد الليالي أولات العدد” [صحيح مسلم: 160].
ووقعت الحادثة المعروفة في الغار باللقاء الأول بين محمد وجبريل، وبدأت بذلك بعثته ونبوته. ومع أنه كان قد واجه العديد من المواقف والعجائب التي أكدت له مسبقاً أنه سيكون نبياً، إلا أن الصدمة كانت بالغة الأثر على نفسه في بدايتها، حتى عاد إلى زوجته خائفاً مرتجفاً وهو يقول زملوني (غطوني)، وعندما هدأت نفسه قال لها “لقد خشيت على نفسي”، لكن خديجة أيقنت على الفور أنه سيكون بخير، مستدلة على ذلك بأخلاقه الحميدة بالرغم من عدم وجود دين ولا شرع في القوم آنذاك، فقالت له “أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، والله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكَلّ (أي تعين الضعيف) وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق” [صحيح مسلم: 160].
ويستنتج ابن خلدون من إسلام أوائل الصحابة أن نبوة محمد لم تكن تحتاج إلى “دليل خارج عن حاله وخلقه”، ومنهم أبو بكر الذي يروى عن النبي أنه قال فيه “ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد، إلا أبا بكر ما تردّد فيه”.
يقول ابن تيمية في كتابه “شرح العقيدة الأصفهانية” إن أي شخصين ادَّعيا أمرًا من الأمور، أحدهما صادق في دعواه والآخر كاذب، فلابد أن يبين صدق هذا وكذب هذا من وجوه كثيرة، إذ الصدق مستلزم للبر، والكذب مستلزم للفجور، ويقول أيضا إن مُدعي النبوة إما أن يكون أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يُلبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين.
وعندما أرسل النبي إلى الملك البيزنطي هرقل رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، كان وفد من قريش في الوقت نفسه يقوم بزيارة لبلاده، فاستدعاهم الملك وسأل قائدهم أبا سفيان عدة أسئلة عن محمد، ومنها: بمَ يأمركم؟ فقال أبو سفيان: بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف، فأجابه هرقل: إن يكن ما تقول حقاً فهو نبي، وسيملك ما تحت قدميّ هاتين”. وقد صدقت نبوءة الملك فعلا عندما فتح المسلمون في خلافة عمر بلاد الروم البيزنطيين.
الفرق بين النبي والسحرة كان الوليد بن المغيرة من قادة قريش في مكة، وكان ممن تصدوا لدعوة النبي عندما جهر بها، وعندما اقترب موسم الحج ووصول وفود العرب إلى مكة اجتمع الوليد بوجهاء المدينة وطلب منهم أن يتفقوا على رأي واحد بشأن محمد، تحسبا للسؤال الذي قد يُطرح عليهم من الوفود القادمة عندما تعلم بنبأ خروج نبي من بينهم، وبدأ الحاضرون بطرح الاقتراحات.
فقالوا نقول كاهن، قال الوليد: والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته، ولا سجعه. قالوا: مجنون، قال: ما هو بمجنون، ولا بخنقه، ولا وسوسته (أي لا تأتيه نوبات صرع). قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، ولا نفثه ولا عقده (لأن الساحر يعقد عقدا في الحبل وينفخ فيه بعد تلاوة الطلاسم). قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم بقائلين من هذا شيئا، إلا وأنا أعرف أنه باطل، وإن أقرب القول أنه ساحر، فإنه سحر يفرق بين المرء وابنه، والمرء وأخيه، والمرء وزوجه، والمرء وعشيرته.
وفي النص دلالة واضحة على الفارق الكبير بين النبي والساحر في سلوكه وطرحه، إلا أنهم وجدوا هذا التشبيه أقرب اتهام ممكن إليه من حيث كونه قادرا على التأثير في الناس، مع أن تأثيره لم يكن إلا بإقناعهم بصدقه ودون استخدام أي قوى خفية.
ولو قارنا بين سلوك النبي (الذي وصفه الصحابة بأدق التفاصيل) وسلوك السحرة والكهنة والشامانات فلن نجد أي تقاطع، فعلى سبيل المثال يدعي الشامانات اتصالهم بالآلهة أو أرواح الموتى عندما يطلبونها لتلقي الإلهام منها بأمور غيبية، مثل الأحداث المستقبلية التي يزعمونها أو كشف مكان بعض الأشياء المخفية، ويمارسون لذلك طقوسا معروفة لدى كل الشعوب، وهي الطقوس التي يتم فيها استحضار الشياطين ليس إلا، أما النبي فلم يكن يفعل شيئا من ذلك، ولم يستحضر الوحي بنفسه يوماً، بل كان ينتظر أحياناً أياماً أو شهوراً حتى يأتيه الجواب على مسألة ما، وقد يتسبب له ذلك بالحرج، كما في قصة الإفك عندما طعن البعض في عِرض زوجته عائشة وهو ينتظر تبرئتها من الوحي، ولو كان دجالا لافتعل بنفسه نزول الوحي وزعم أن زوجته بريئة على الفور وقطع لسان أعدائه.
والشامان يتحدث بصيغة الناطق باسم الإله أو الروح أو الحقيقة المطلقة، فيزعم أنه اتحد به واستمد منه القداسة مباشرة، أما النبي فمع أن القرآن أكد أنه لا يأتي بالخبر الكاذب: {وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3-4]؛ إلا أن القرآن أوضح للناس أيضا أن النبي لا ينطق بالحق إلا من الله، وأنه إذا لم يستعن بالله فقد ينسى كما ينسى البشر -دون وقوع في الخطأ الفادح بالوقت نفسه- فيقول {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا} [الكهف: 23-24].
ومن المعروف أن النبي لم ينطق يوما بطلاسم أو تعويذات سحرية بأي لغة كانت، وعندما كان يرقي المرضى فلم يكن ينطق بشيء سوى القرآن والدعاء الواضح الصريح، بل كان يتعوذ بالله من السحر والشياطين صباح ومساء كل يوم.
الفرق بين النبي والفلاسفة يقول الفيلسوف يعقوب الكِندي إن الذين اصطفاهم الله للنبوة لا يشبه العلم الذي يتلقونه بالوحي العلوم الأخرى (الكسبية) التي يكتسبها الإنسان بالتعلم، فعلم الوحي يأتي “بلا طلب ولا تكلف ولا بحث ولا بجبلةٍ بالرياضيات والمنطق ولا بزمان”، فمن يتدبر أجوبة الرسل على الأسئلة التي كان يطرحها عليهم المشككون بشأن الأمور الخفية فسيجد فيها أجوبة تختلف عما كان سيقدمه الفلاسفة في تلك العصور، وذلك من حيث الوجازة والبيان وقرب السبيل والإحاطة بالمطلوب.
ويضرب الكِندي على ذلك بأمثلة، ومنها أن المشركين سألوا محمدا {من يحيي العظام وهي رميم؟}، فجاءه الجواب من الوحي: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80) أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82)} [يس: 79-82]. ويحلل الكندي هذا الجواب بلاغيا وفلسفيا من وجه عدة، ومنها أنه إذا كانت العظام قد وجدت بالفعل بعد أن لم تكن، فإنه من الممكن -إذا بطلت وصارت رميماً- أن توجد من جديد، فجمع المتفرق أسهل من صنعه من العدم، والسائل المنكر لقدرة الله على البعث مقر بخلقه من عدم.
ويضيف أن كون الشيء من نقيضه موجود، كإخراج النار من الشجر الغض، ثم يستشهد النبي في جوابه الموحى به بخلق الله للكون، ما يدل بالبداهة على قدرته على البعث، إلى آخر ما قاله من دلائل فلسفية يختتمها بقوله “فأي بشر يقدر بفلسفة البشر أن يجمع في قول بقدر حروف هذه الآيات ما جمع الله جل وتعالى إلى رسوله فيها من إيضاح”، ليستنتج من هذا النمط من العلم أن مصدره ليس حسا ولا عقلا بل وحيا مفارقا من الله. [رسائل الكندي الفلسفية، 1/372]. وسنبحث في مقال “الوحي القرآني” المزيد من الأدلة على صحة الوحي القرآني ونسبته إلى الخالق مباشرة.
ومن أوضح الاختلافات بين النبي محمد والفلاسفة، أنه ظل أمياً حتى آخر حياته، ولم يعرف عنه خصومه من قريش أنه تعلم القراءة والكتابة فضلا عن تلقي العلم على أي معلم، بل كان قبل البعثة (التي فاجأته وهو في سن الأربعين) مشغولا بتربية أولاده والعمل في التجارة ورعي الغنم، حتى ذكر الوحي في مرحلة لاحقة أن النبي لم يكن قد خطر بباله أصلاً أنه سيصبح نبياً فقال: {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك} [القصص: 86]، ومع ذلك فقد تمكن بعد بعثته من وضع تشريع متكامل قائم بذاته، ومازال جهابذة الفقهاء حتى اليوم يقضون أعمارهم في تعلم الشريعة التي أتى بها واستنباط قواعدها وأصولها والاجتهاد في ضوئها، بينما لم يبذل النبي أي جهد في “وضع” تلك الشريعة التي أوحيت إليه، بل كان مشغولا بالدعوة والجهاد وتأسيس الأمة، وكان وقت فراغه ينصرف إلى العبادة وليس إلى طلب العلم والقراءة، فعِلمه كان يأتيه دون طلب.
وقد تم الاعتراف بالشريعة التي جاء بها النبي كمصدر عالمي للتشريع والقانون في عدة مؤتمرات دولية في القرن العشرين، وكان أولها مؤتمر القانون المقارن الدولي في لاهاي الهولندية عام 1932، حيث أقرت تلك المؤتمرات بأن الشريعة الإسلامية أصيلة وليست مستمدة من القانون الروماني كما حاول بعض المستشرقين أن يثبتوا.
عبد البهاء
ووُضعت عشرات الكتب في كشف معجزات العدالة والإتقان في التشريع المحمدي، وهو أمر لا يتسع هذا المقال للاستشهاد به، إلا أننا نكتفي بالتوقف عند التناسق بين كافة جوانب هذا التشريع، وهو من أدل البراهين على إعجازه وصدوره عن مصدر غير بشري، فكل الشرائع الوضعية التي عرفتها البشرية تطلب وضعها جهودا جماعية متأنية، ثم نضجت عبر تراكمات لأجيال متعاقبة، أما النبي فكان يفتي أحيانا عند وقوع الواقعة، وقد يصمت عندما يُسأل عن أمر لم يأته فيه الوحي فينزل عليه في لحظتها أو بعد برهة قصيرة، فيستدعي صاحب السؤال ويخبره بما جاءه من تشريع، وقد يُنسخ حكم بحكم آخر لتطور الأحداث ونضج المجتمع حديث التشكل، إلا أننا لا نجد أي وجه من وجوه التعارض والتناقض بين كافة الأحكام على ضخامتها، ولا نجد فيها أيضا ما يتعارض مع مقومات العدالة، وهو تحدٍّ لم ينجح فيه كل من ادعى النبوة [انظر مقال شريعة الإسلام].
فعلى سبيل المثال، ينص كتاب “الأقدس” الذي يقدسه البهائيون على أنه “إذا كان المتوفّى أباً وله دار كان يسكنها، يختصّ الابن الأرشد بهذا المسكن”، فالأفضلية للابن الذكر والأكبر سناً فقط، ويزعم مؤسس هذه الديانة عبد البهاء أن هذا التفضيل منصوص عليه في الكتب السماوية السابقة، فيقول “كانت للابن البكر في جميع الشرائع الإلهية امتيازات فوق العادة، حتى النبوة كانت ميراثا له”، وهو ادعاء غير صحيح.
يقول الفيلسوف والحقوقي الفرنسي مونتسكيو “إنه ليس هناك مقنِّن (واضع للقوانين) إلا وله رأي خاص في القانون، فكل مقنن لديه عواطف وأفكار خاصة، وهو يسعى عند وضع القانون إلى أن يجعل مكاناً لنظرياته”، ويستنتج من ذلك حصول التغير الدائم في القوانين الوضعية، فلا يكاد رئيس أو ملك يصل إلى السلطة إلا ويجري تعديلات دستورية وقانونية تتواءم مع رؤيته ورؤية حكومته، ولا يمكن للمقنن البشري أن يحقق العدالة المطلقة إلا بمدد معرفي مفارق للحاجات البشرية ومؤثرات البيئة، وهو ما لا يتوفر إلا للأنبياء الذين يستمدون الشرائع من الوحي.
الفرق بين النبي وأساتذة الجمعيات السرية أوضحنا في مقال “الجمعيات السرية” أن الكثير منها نشأ داخل الأديان الكبرى لأسباب عدة، وأن نظامها يقوم أساساً على التدرج والترقي في مراتب سرية، وصولا إلى درجة الأستاذية التي يحتلها شخص خفي لا يعرفه إلا أصحاب الدرجة التي تحته مباشرة فقط، كما تحفل عقائد وشعائر هذه الجمعيات بالرمزية التي تحتمل التأويلات المختلفة بكل تفاصيلها، وإلى درجة يمكن فيها أن يجتمع النقيضان في أمر واحد، كأن يشيع مثلا أن جمعية ما تعبد الإله بينما هي تعبد الشيطان نفسه في الحقيقة، ولا يعرف ذلك إلا من يترقى إلى الدرجات العليا فقط.
لقطة من مشهد تمثيلي جاء في الفيلم الوثائقي “سري للغاية-الماسونية” وهي توضح إقرار العضو الجديد في الماسونية بأنه سيعرض نفسه في القتل إذا أفشى أسرار جماعته
وذكرنا أيضا أن أنظمة هذه الجمعيات تشترط على أعضائها الولاء المطلق والطاعة العمياء وكتمان الأسرار التي لا تُكشف إلا بعد تمحيص واختبار شديدين، مع التهديد بالقتل في حال كشف أي سر، ما يعطي “الأستاذ الأعظم” سلطة هائلة على عقول ونفوس وأجساد كل من يوافق على الانضمام إلى جماعته.
في المقابل، لم يقدم النبي محمد نفسه على أنه صاحب رسالة سرية أو تعاليم خفية، ومع أنه اضطر إلى تقليص نطاق دعوته بين المقربين منه في السنوات الثلاثة الأولى من الدعوة فهذا لا يعني أنها كانت خفية، بل أمره الوحي بإعلان نبوته منذ اليوم الأول، فجمع قريشًا عند جبل الصفا وأخبرهم بأنه رسول الله إليهم، إلا أنه لم يوسع الدعوة بعد ذلك حتى لا يتضرر أتباعه القلائل من بطش الرافضين لدعوته وطغيانهم، وكان النبي طوال تلك الفترة يجاهر بدينه وعقيدته دون إظهار التحدي، ويتلقى بالمقابل الكثير من الأذى والاضطهاد، كما كان يفعل ذلك الأقوياء من صحابته الأوائل مثل عمه حمزة وعمر بن الخطاب.
وطوال مدة النبوة التي امتدت ثلاثة وعشرين عاما، لم ينشئ النبي أي كيان سري، ولم يُخفِ عن الناس أي شعائر أو عقائد، بل نصّ القرآن على أن الدين مكشوف وعلني وواضح ومكتمل، فقال في حجة الوداع وقبل وفاة النبي ببضعة أشهر {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام} [المائدة: 3]، وفي حديث صحيح رواه مسروق عن عائشة أنها قالت “من حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته” [رواه البخاري].
وبما أن النبي كان سيد قومه ومؤسسا لدولة ناشئة ويحيط بها الأعداء المتربصون، فقد اضطر من حيث موقعه السياسي إلى إطلاع بعض صحابته الذين يشكلون “الكيان الأمني” للدولة على بعض الأسرار التي لا تتعلق بالدين نفسه، فأخرج البخاري عن أبي الدرداء أنه قال لعلقمة: “أو ليس فيكم صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه أحد غيره؟”، وجاء في روايات أخرى أن صاحب السر هو حذيفة بن اليمان، وهو يشبه ما يسمى اليوم بأمين السر (السكرتير)، وقد أوضح الحافظ ابن حجر في فتح الباري أن المراد بالسر ما أعلمه به النبي صلى الله عليه وسلم من أحوال المنافقين، ولهذا المعنى شواهد كثيرة في كتب الحديث.
كما أخرج البخاري عن أبي هريرة أنه قال “حفظت عن رسول الله وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطع هذا البلعوم”، وبيّن ابن حجر أيضا في الفتح أن وعاء العلم الأول الذي كشفه لنا أبو هريرة هو الدين نفسه، أما الوعاء الذي أخفاه فيتضمن أسماء أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم في عهد بني أمية، والديل أن أبا هريرة كان يكني عن بعضهم ولا يصرح خوفا على نفسه من بطشهم، كقوله “أعوذ بالله من رأس الستين، وإمارة الصبيان”، في إشارة إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، وقد استجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة. وقد أكد هذا المعنى بشواهد كثيرة الذهبي والقرطبي وغيرهما، مما يؤكد أن العلم المخفي هو نبوءات كشفها النبي لأمناء السر عن أسماء المنافقين وما سيحدث من الفتن والظلم بعد موته، وهي أمور لا علاقة لها بالدين نفسه.
“كانت صورة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهيئته وسمته وشمائله، تدل العقلاء على صدقه، ولهذا قال عبد اللَّه بن سلام (كان من أحبار اليهود وأسلم): فلما رأيت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، ولذا كان من سمع كلامه، ورأى آدابه، لم يدخله شك” [التقي المقريزي، إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، 4/179].
وعلاوة على ما سبق، يوجه الوحي النبي مراراً ليوضح للناس أنه ليس وصيّا عليهم، ولا سلطانا على نفوسهم وقلوبهم وعقولهم، فيقول في إحدى الآيات {قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار} [ص: 65]، وهذه الصورة أبعد ما تكون عن الدور الذي يلعبه أساتذة الجمعيات السرية الذين يعشقون السلطة ويشترطون الطاعة العمياء على أتباعهم، بينما لم يطلب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه البيعة إلا من حيث كونه مؤسسا لكيان سياسي، وبما يحقق حلم العدل للناس في مجتمع لا يُعبد فيه بشر ولا حجر.
الفرق بين النبي والملوك
المسجد النبوي في المدينة المنورة بمنتصف القرن التاسع عشر
يميل القادة في العادة عبر التاريخ إلى التمتع بقدر ما من الشهوات، فالأحمق منهم ينغمس فيها حتى الثمالة، والقائد الذكي يوجه طاقته نحو بسط سلطته وتقوية نفوذه ومقاومة أعدائه، لكن كلاهما يهتم بمظاهر العظمة، فأكثر القادة زهدا في الملذات نجده منغمسا في المقابل بشهوة السلطة.
والنبي هو الاستثناء الوحيد من هذه المعادلة الصعبة، فقد كان صاحب سلطة دنيوية معنوية، ومع ذلك لم يؤسس لنفسه ملكا، ولم يتخذ شيئا من مظاهر السلطة والنفوذ فضلا عن الملذات الدنيوية، بل كانت سلطته مستمدة أصلا من انقياد الصحابة له بموجب البيعة على الطاعة دون النص على تأسيس دولة، لذلك حار المفكرون والمنظرون في تصنيف سلطة النبي الاستثنائية، والتي خلفه فيها حكّام حقيقيون (الخلفاء الراشدون) يستمدون شرعيتهم من البيعة بصفتهم خلفاء للنبي، فيقول الماوردي في “الأحكام السلطانية” إن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، ويعرفها ابن خلدون بأنها خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
ومن ينظر في سيرة الخلفاء الراشدين يتعجب من زهدهم في ملذات الدنيا بالرغم مما حققوه من فتوحات غير مسبوقة في التاريخ، لكن هذا الزهد لم يكن سوى اقتباس من التطبيق النبوي للزهد، فالنبي ابتدأ دعوته برفض العرض السخي الذي قدمته له قريش عن طريق عمه أبي طالب، حيث عرضوا عليه الأموال والنساء والمُلك مقابل أن يكف عن الدعوة إلى التوحيد ونبذ الوثنية، فرفض بشدة، وتابع مسيرته مطارَدا منبوذا من قبل قومه ومعظم القبائل التي قصدها للدعوة، إلى أن بايعه الأنصار في يثرب (المدينة المنورة) على الطاعة فهاجر إليهم، وأسس بذلك واحدة من أقوى دول التاريخ، دون أن يتغير شيء في طبعه وسلوكه وحياته اليومية.
قال أبو ذر كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرّة المدينة فاستقبلنا (جبل) أُحُد، فقال يا أبا ذر، قلت لبيك يا رسول الله، قال ما يسرني أن عندي مثل أحُد هذا ذهبا تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار إلا شيئا أرصده لدين إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم مشى فقال إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه وقليل ما هم [البخاري: 6079]، أي لو أن النبي كان يملك ذهبا بحجم جبل ضخم فما كانت ستمضي ثلاث ليال إلا ويكون قد أنفقه كله على الناس إلا شيئا قليلا يحتفظ به لوفاء الديون.
وأما طعامه، فقد كان يمر عليه شهران وما توقد في بيوت زوجاته نار للطبخ، فلا يأكل سوى التمر والماء وما يهدى إليه من أصحابه، وربما ظل يومه يلتوي من شدة الجوع وما يجد من الدَّقل (التمر الرخيص) ما يملأ به بطنه، وما شبع النبي ثلاثة أيام تباعا من خبز برّ حتى مات، وكان أكثر خبزه من الشعير، بل لم يؤثر عنه أنه أكل خبزاً مرقّقا أبداً، وهو الخبز الذي يتاح لنا في هذا العصر يوميا بأرخص الأثمان، وقد قال خادمه أنس بن مالك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجتمع عنده غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا حين يأتيه الضيوف [رواه الترمذي].
ورويت أحاديث كثيرة عن زهد النبي في المسكن والملبس والمظهر أيضا، فكانت حجرات زوجاته أكثر زهدا وبساطة من بيوت الكثير من سكان المدينة، وعندما طالبنه بمزيد من النفقة والرفاه نزل الوحي على الفور بتخييرهن بين أخذ حقوقهن والطلاق بالمعروف وبين الصبر على الحياة مع النبي وبالقدر الأدنى من مقومات الحياة، فأخبرهن النبي بما نزل عليه من القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28-29]، فاخترن جميعا الصبر، وكأن حياة النبي لا تقبل التوسع في ملذات الدنيا ليكون أبعد الناس عن التهم.
وعندما رأى عمر بن الخطاب النبي مضطجعا على فراش من الخصف وتحت رأسه وسادة محشوة بالليف، قال يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك فإن فارس والروم وُسع عليهم وأُعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، فجلس النبي وقال: “أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا” [صحيح البخاري: 2336].
وكان النبي يجلس مع أصحابه في مسجده الملاصق لحجرات زوجاته، فلم يكن يملك قصورا ولا ديوان ملك، وعندما يدخل عليه أعرابي لا يعرفه فإنه يسأل أيّكم محمد؟ والنبي متكئ بين ظهرانيهم لا يختلف عنهم في شيء. [صحيح البخاري: 1/23].
وخلافا للمشاهير في كل الأزمنة والحضارات والمجالات، لم يكن النبي يخشى الاختلاط بالناس، بل كان يقضي معظم وقته بينهم وبدون حواجز مادية ولا معنوية. فالمشاهير يتجنبون في العادة الاحتكاك بالناس كي لا تسقط هيبتهم وتظهر عيوبهم البشرية، ولا سيما الملوك الذين يحرصون على عدم الظهور إلا في المناسبات، أما النبي فكان يسافر مع أصحابه وكأنه واحد منهم، ويتعرض للمواقف شديدة القسوة فلا يظهر منه ما يطعن في كمال شخصيته، ومن بين آلاف الأحاديث التي نقلت إلينا أدق تفاصيل حياته اليومية لا نجد تصرفا واحدا غير لائق، فضلا عن أي تصرف عادي كالغضب والزلل وفلتات اللسان، بل نقل لنا الصحابة قصصا عجيبة عن حلمه وسعة صدره في التعامل مع أعدائه أو مع السفهاء من قومه.
قال ابن عباس “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشاة (يحلبها)، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير” [رواه الطبراني وصححها الألباني].
ومن المعروف في سيرة الملوك أنهم إذا خرجوا إلى أرض المعركة فإنهم كانوا يتحصنون في مقصوراتهم الملكية وراء الصفوف بعيدًا عن الخطر، أما النبي محمد فكان يحمل السيف ويقاتل بنفسه في الصفوف الأولى، حتى قال علي بن أبي طالب -وهو من أشد الفرسان شجاعة- “كنا إذا حمي الوطيس واشتدت المعركة اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم” [رواه البخاري و مسلم]، أي أن النبي نفسه كان هو الذي يحمي أصحابه في الميدان بسلاحه، وليس هذا لشجاعة النبي وإقدامه فقط بل لأنه كان يعلم أنه لن يُقتل حتى يتم الرسالة التي بعثه الله بها، وهو أمر لا يمكن لأي شخص يدعي النبوة أو يطمح إلى المُلك أن يزعمه لنفسه ثم يخاطر بحياته في سبيله.
وعندما توفي بعد 23 سنة من الجهاد المتواصل لنشر دعوته، لم يترك النبي درهما ولا دينارا ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة، وقالت زوجته عائشة “توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي”.
سيف النبي محفوظ في متحف توب كابي بإسطنبول، علما بأن الجواهر والمقبض قد أضيفت إليه في العصر العثماني
معجزات النبي يرى الإمام أبو حامد الغزالي أن المعجزة وحدها قد لا تكون كافية لإقناع البعض، فمن يكتفي بالنظر في خوارق العادات مثل قلب العصا ثعبانا وشق القمر فقد يظن أنه سحر وتخييل وتضليل، ومن يستند إلى دعوى النبوة بالكلام المنظوم فقط فربما يقع أيضا في التضليل كما يفعل الشعر المتقن في نفس الإنسان.
لذلك فالخوارق تأتي على يد النبي من باب الإعجاز لمن يتحداه وليست كافية وحدها، لكن التحقق من نبوة من يدعي النبوة يتطلب النظر في معرفة أحواله، فمن يدرس أحوال “جالينوس” (طبيب إغريقي) مثلا ويقرأ كتبه يصل إلى علم يقيني بأنه كان طبيبا، وكذلك إذا فهمنا معنى النبوة وأكثرنا النظر في القرآن والأخبار نصل إلى “علم ضروري” بكونه نبيا.
ويضيف الغزالي أنه يمكن لمن يريد بلوغ اليقين أن يخوض تجربة العبادات التي جاء بها محمد، وأن يعيش بنفسه أثر تلك الشعائر على نفسه، وأن يطبق أيضا وصايا النبي في العلم والعمل. أما المعجزات الحسية الخارقة للعادة فهي من قبيل الرد على تحدي الخصوم، ولا يحتاج إليها الباحث عن الحقيقة بعقله المجرد.
ويقول ابن القيم في “إغاثة اللهفان” (2/691) إن معجزات النبي تتجاوز الألف، منها ما حصل وانتهى، ومنها ما هو باق، وهو القرآن الكريم الذي يعد المعجزة العظمى، وذلك من جهة لفظه التي تحدى الله بها فصحاء العرب، ومن جهة إخباره بأحداث مستقبلة وقعت لاحقا، ومن حيث احتوائه على تشريعات محكمة وأخبار قصص الأمم السابقة وبعض أسرار الكون.
سنفصل الحديث عن القرآن (المعجزة الكبرى) في مقال مستقل، وسنكتفي هنا بسرد بعض الأمثلة للمعجزات التي حدثت في عصر النبوة، ثم نورد أمثلة أخرى لبعض نبوءاته المستقبلية.
قبة الصخرة في المسجد الأقصى التي عرج منها بالنبي إلى السماء
أما المعجزات التي حصلت وانتهت فمن أشهرها ما يلي:
1- الإسراء والمعراج: حيث انتقل النبي في ليلة واحدة من مكة إلى القدس، ثم عُرج به من هناك إلى السماء, ووصل إلى سدرة المنتهى حيث لم يقترب أحد من العرش مثله، والتقى بالأنبياء الذين سبقوه، ورأى شواهد كثيرة من عالم الملكوت ونعيم الجنة وعذاب النار، ثم عاد في الليلة نفسها إلى مكة، وعندما أخبر أبا جهل بما رأه جمع له الناس كي يستمعوا إليه ويكذبوه، فكان النبي يقص القصة على قريش وهم يسخرون، بل ارتد كثير ممن كان قد أسلم عن الإسلام، وطار بعضهم بالخبر إلى أبي بكر ليختبروه فقال لهم “إنه ليخبرني أن الخبر (الوحي) ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه ، فهذا أبعد مما تعجبون منه”، أي أن نزول جبريل إليه ليس مستحيلا في العقل وقد صدّقته فلماذا أستبعد انتقالا عكسيا للنبي من الأرض إلى السماء، حتى لو كان ذلك خارقا للعادة ولا يقدر عليه البشر العاديون.
ثم حاول البعض أن يمتحن النبي فسألوه عن صفات المسجد الأقصى، فوصفه لهم وهم كانوا قد سافروا إليه في رحلات التجارة ويعرفونه، ثم أخبرهم عن تفاصيل القوافل (العير) التي رأها في طريق عودته وهي توشك على الوصول إلى مكة، فوصلت عند مغيب الشمس وعلى النحو الذي وصفه بدقة، ومع ذلك قال المشركون “هذا سحر مبين”. [البداية والنهاية: 4/282].
وأنزل الله آية في حق الذين أنكروا القصة فقال {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً} [الإسراء: 60].
2- انشقاق القمر: جاء وصف هذه المعجزة العجيبة في القرآن والسنة بالتواتر، فسُميت سورة كاملة من القرآن باسم القمر، وكان مطلعها: {اقتربت الساعة وانشق القمر (1) وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر}، كما روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُريهم آية (معجزة)، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما.
وللواقعة روايات كثيرة من قبل الصحابة، بما فيهم صغار السن مثل عبد الله بن عمر، وجبير بن مطعم بن عدي الذي لم يكن قد أسلم حينئذ. ويدور في العصر الحديث جدل بشأن إمكانية العثور على دليل يؤكد وقوع الانشقاق عبر دراسة ما تطرحه وكالة ناسا للفضاء من صور قمرية، لكن عدم العثور على صور لشقوق أو أخاديد كافية لا يعني عدم وقوع الحدث، فالانشقاق المعجز قد تبعه التحام معجز أيضا، ومن الطبيعي ألا يترك الالتحام أثرا، لأن التحدي كان لمن شهد الواقعة فقط.
وبما أن الانشقاق قد حدث لبرهة قصيرة، ولم يكن نتيجة ظاهرة مرصودة يترقبها الناس، فالأرجح أنه لم يرها من سكان الأرض سوى من صادف أنه كان ينظر إلى القمر في تلك اللحظة، وممن كان أيضا في منطقة يطل عليها القمر في الوقت نفسه، ولعل هذا يفسر عدم انتشار الخبر في تاريخ الشعوب الأخرى، أو عدم وصوله مدونا إلينا بكثرة، مع أن بعض الباحثين رصدوا توثيقا في مخطوطات فارسية وإسبانية تعود إلى عصر النبي نفسه.
المقال التالي بعنوان “القمر المنشق في وثيقة مدريد والمخطوطات الفارسية”، وقد نشر للمرة الأولى في موقع http://www.mayalords.org عام 2000، ثم تم تعديله عشرات المرات قبل أن يحذف نهائيا، وما زال موقع “أرشيف الإنترنت” يحتفظ بالنسخة الأولى وكل تعديلاتها، ويمكنك الاطلاع على ذلك بالضغط هنا.
3- تكثير القليل من الطعام بين يدي النبي أو بدعائه لطعام ما بالبركة، وقد تكرر ذلك في مرات كثيرة جدا وشاهدها عشرات الصحابة، ورويت تلك الروايات في صحيحي البخاري ومسلم، وأشهرها حديث جابر بن عبد الله في غزوة الخندق.
4- نبع الماء من بين أصابع النبي، وتكثيره الماء القليل حتى يشرب ويتوضأ منه جميع جنود الجيش، وهو حديث أثبته البخاري ومسلم عن أنس بن مالك وشهده حوالي ثلاثمئة صحابي، وفي حديث آخر شرب نحو 1400 صحابي من بئر جاف لا ماء فيه في غزوة ذات الرقاع.
كسرى الثاني جالسا على عرشه في لوحة جدارية
5- قصة إسلام أهل اليمن، حيث أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسالةً إلى كسرى ملك الفرس (كسرى الثاني أو خسرو الثاني) يدعوه فيها للإسلام، فمزق كسرى الرسالة وأرسل إلى باذان بن ساسان عامله على اليمن يأمره فيها بإرسال رجلين قويين إلى الحجاز واعتقال النبي واقتياده إليه (وفي رواية أخرى أن يأمراه فقط بالتوقف عن الدعوة)، فنفذ باذان الأوامر، ودخل الرجلان على النبي وقالا له إن شاهنشاه (ملك الملوك) كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك وهدداه، فلم يرد النبي وأمرهما أن يلاقياه غدًا. وفي اليوم التالي قال لهما النبي أخبِرا الذي أرسلكما -أي باذان- أن ربي قتل ربه الليلة -أي أهلك الله كسرى- وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى وينتهي إلى منتهى الخف والحافر، وقولا له إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملّكتك على قومك من الأبناء، ثم أعطى النبي إلى رسولَي باذان “منطقة” فيها ذهب وفضة، كان بعض الملوك أهداها له.
عاد الرجلان إلى باذان يخبرانه بالأمر، وبعد شهر وصل الرسل من فارس (إيران) إلى اليمن فسألهم باذان على الفور: هل قُتل كسرى؟ فتعجبوا وسألوه من أخبرك بذلك؟ وأخبروه أن شيرويه بن كسرى ثار على أبيه فقتله ونصب نفسه ملكا في نفس الليلة التي ذكرها النبي، فآمن باذان بأن محمدا نبي يأتيه الوحي من السماء، وأسلم معه أهل اليمن. [أخرجه الطبري وابن كثير وابن سعد عن ابن مسعود بسند صحيح، وأخرجه ابن بشران عن أبي هريرة وحسنه الألباني].
ملحمة الشاهنامه الفارسية تحكي قصة مقتل كسرى الثاني على يد ابنه قباز شيرويه في 28 فبراير 628م
النبوءات المستقبلية تنبأ النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعدد كبير من الأحداث التي وقع الكثير منها ومازال بعضها ينتظر التحقق، فكل ما وعد بحدوثه في حياته أو في حياة بعض أصحابه وقع بدقة، وكأنه كان ينظر إلى المستقبل بعين الحاضر، وفيما يلي بعض الأمثلة:
1- قبل بدء معركة بدر بيوم واحد، وهي أول المعارك التي خاضها المسلمون بعد تأسيس نواة دولتهم في المدينة المنورة، تفقد الرسول أرض المعركة وأخذ يشير إلى موابع مقتل المشركين فيها ويقول “هذا مصرع فلان”، فيسميهم بالاسم وكأنه كان يرى بعينه نتائج المعركة، ويقول أنس بن مالك “فما ماط (ابتعد) أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم” [رواه مسلم].
2- كان الصحابة الأوائل يلقون الأذى الشديد من قريش، فاشتكوا إلى النبي وقالوا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال “قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويُمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون” [رواه البخاري]، وقد تحقق هذا الوعد الذي كان يبدو خياليا في حينه.
وعندما كان النبي وصحابته يحفرون الخندق حول المدينة تحسبا لهجوم قريش وحلفائها، شكا الصحابة صخرة لم يستطيعوا كسرها، فأخذ الفأس وقال بسم الله، وضرب ضربة كسر منها ثلث الحجر، وقال “الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إنى لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا”، وفي الضربة الثانية قال “الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إنى لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا”، وفي الثالثة قال “الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنى لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا” [رواه أحمد]، وقد سخر المنافقون فيما بينهم من هذه النبوءات الطموحة جدا، فالنبي الذي كان على وشك التعرض لحصار خانق يتنبأ بإسقاط أقوى الدول على وجه الأرض، وقد تحقق وعده فعلا في حياته وقبل نهاية خلافة عمر بن الخطاب.
كما وعد النبي أيضا الصحابي سُراقة بن مالك بأنه سيلبس سِوارَي كسرى، وعندما فتح عمر بلاد فارس أعطى سواري أعظم ملوك الأرض لسراقة تحقيقا لوعد النبي.
الفيديو التالي يوضح أن الإسلام كان أسرع أديان التاريخ انتشارا في العالم.
3- بالرغم من وعده لأصحابه بالنصر والفتوحات، فقد أخبرهم أيضا أن الضعف سينال من جسد أمتهم وأنهم سيتقاتلون فيما بينهم، فقال “يوشك الأمم أن تدّاعى عليكم كما تداعى الأكَلَة إلى قصعتها”، فقال قائل “ومن قلةٍ نحن يومئذ؟”، قال “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت” [صححه الألباني] .
وهناك أحاديث كثيرة نُقلت عن النبي وهو يحدث أصحابه عن الفتن التي سيتعرضون لها، وهذه من أعجب المعجزات، فقد كان الصحابة يعلمون بحدوث تلك الفتن ولم يستطيعوا منعها، كما تحدث النبي بالتفصيل عن فتنة الخوارج ووصف أشكالهم وأفعالهم، مع أنهم لم يبدأوا فتنتهم إلا في عهد علي بن أبي طالب ولم يكن خروجهم وارداً في ذهن أحد، وكان يجدر بهم أن ينتبهوا إلى ما قاله النبي قبل سنوات قليلة عنهم وأن يحذروا من سوء عاقبتهم.
ومن أدل روايات الفتن على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم أنه عندما خرج كل من علي والزبير في جيشين وكانا على وشك الاقتتال بينهما، وهما من كبار الصحابة والمبشرين بالجنة، نادى عليّ الزبير فأقبل عليه، فقال علي: يا زبير أنشدتك بالله أتذكر يوم مر بك رسول الله ونحن في مكان كذا وكذا؟ فقال النبي يا زبير تحب عليًا؟ فقلت: ألا أحب ابن خالي وابن عمي وعلى ديني فقال: يا علي أتحبه؟ فقلت: يا رسول الله، ألا أحب ابن عمتي وعلى ديني، فقال النبي: يا زبير، أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم. فتذكر الزبير الحادثة على الفور وقال: بلى، والله لقد نسيته منذ سمعته من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرته الآن، والله لا أقاتلك، وتراجع عن المعركة قبل أن تبدأ.
4- أخبر النبي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان وعلي بن أبي طالب بأنهم سيموتون شهداء، وقد قتُل عمر وعثمان فعلا في الفتن التي أخبر بها النبي، وعندما مرض علي مرضا شديدا قال له بعض أصحابه وهم يعودونه لقد تخوفنا عليك يا أمير المؤمنين في شكواك هذه، فقال بكل ثقة: لكني والله ما تخوفت على نفسي منه، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصادق المصدوق يقول “إنك ستُضرب ضربة ها هنا وضربة ها هنا -وأشار إلى صدغيه- فيسيل دمها حتى تختضب لحيتك..”، وكأن النبي كان يرى بعينه كيف سيُقتل علي، وقد حدث هذا فعلا.
وفي السياق نفسه، قال النبي عن عمّار بن ياسر “ويح عمار تقتله الفئة الباغية” [رواه البخاري]، وقد قُتل بسهم أطلقه معسكر معاوية على معسكر علي، وكان النبي يقول عند زيارته أم ورقة بن نوفل “انطلقوا بنا نزور الشهيدة” [رواه أحمد وابن خزيمة]، وقد قتلها غلام وجارية لها في عهد عمر فصلبهما، كما أخبر النبي ثابت بن قيس باستشهاده في قوله “يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة، قال بلى يا رسول الله” [رواه الحاكم]، وقد عاش حميدا واستشهد في المعركة ضد مسيلمة الكذاب، وأخبر النبي أم حرام بنت ملحان أنه رأى في منامه ناس من أمته يغزون في البحر، مع أنه لم يكن من الوارد لدى العرب ركوب السفن وشن الغزوات فيها، فقالت أم حرام: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: أنت من الأولين، وقد ركبت أم حرام أول أسطول إسلامي بالفعل في زمن عثمان، وما إن نزلت أرض جزيرة قبرص حتى سقطت عن دابتها وكانت أول الشهداء هناك، وما زال قبرها معروفا [أخرجه البخاري ومسلم].
ويجدر بالذكر أنه من غير المنطقي أن يستغل المشككون في عصرنا الحالي الفتن التي وقعت بين الصحابة للطعن في الإسلام نفسه، وذلك من باب الطعن في الصحابة والتقليل من شأنهم، بل هي من أقوى الأدلة على صحة الإسلام الذي جاء به النبي، فقد وقعت كما أخبرهم عنها تماما، ولم يقوَ أحد على منعها. أما وقوع الأخطاء من الصحابة فليس سوى دليل على بشريتهم وعدم بلوغهم الكمال الذي بلغه النبي وحده، فالوحي لم يقل إن الصحابة معصومون أصلا بل أكد العكس.
وإذا حاولنا التشكيك في تلك النبوءات كلها، وزعمنا أن أتباع النبي قد اخترعوها بعد حدوثها ونسبوها إليه، فمن غير المنطقي أن يتواطأ جميع الرواة على الكذب، فالكثير من تلك الروايات وردت من أكثر من طريق وثبتت لدى المحدثين صحتها، وسنبين في مقال “السنة النبوية” المنهج العلمي الدقيق الذي جُمعت به الأحاديث والسنن ودُققت واعتُمدت، وهو منهج لا يقبل المحاباة والمجاملة والعبث، ولا يدانيه أي منهج في دراسات التاريخ المقارَن لدى كل حضارات العالم.
ميرزا غلام أحمد
في المقابل، لم يستطع مدّعو النبوة المعروفون في التاريخ المعاصر أن يثبتوا صحة نبوتهم عبر التنبؤ بالمستقبل، ولعل أشهرهم مؤسس طائفة القاديانية الميرزا غلام أحمد (توفي عام 1908م) الذي حاول أن يثبت نبوته بوضع العديد من التنبؤات المستقبلية فكان الفشل حليفه، ونذكر منها المثال التالي:
فقد تنبأ غلام أحمد بأن الطاعون الذي ضرب الهند في زمانه لن يدخل بلدته قاديان أبداً، وقال: “هو الإله الحق الذي أرسل رسوله في قاديان وهو يحفظ القاديان ويحرسها من الطاعون ولو يستمر الطاعون إلى سبعين سنة، لأن القاديان مسكن رسوله وفي هذا آية للأمم” [دافع البلاء للقادياني10، 11]، لكن الطاعون دخل البلدة وفتك بأهلها حتى وصل إلى بيته، فقال: “إن بيتي كسفينة نوح من دخله حُفظ من كل الآفات والمصائب”، ثم اعترف بأنه خاف على نفسه: “ودخل الطاعون بيتنا فابتليت غوثان الكبيرة فأخرجناها من البيت.. ومرضتُ أيضاً حتى ظننتُ أنه ليس بيني وبين الموت إلا دقائق قليلة” [إحسان ظهير، القاديانية، 1984، ص 180].
الخاتمة حاولنا في هذا المقال الموجز تركيز الإجابة على التساؤلات الكبرى بشأن النبوة نفسها، ثم بشأن مصداقية نبوة محمد نفسه. وقد يتطلب البحث عن السبيل مزيدا من التوسع، وأن يواصل الباحث التحقق من الأدلة والغوص في تفاصيل سيرة النبي العامرة بآلاف التفاصيل والأحداث والتصريحات والوقائع، والتي تتفرع باستفاضة عن الأصول التي حاولنا الإلمام بها.
وفي المحطات التالية، سنتوقف عند حقيقة الوحي الذي جاء به النبي، ونبحث في القرآن لنتأكد من كونه الكتاب الموحى به فعلا من الله تعالى، وأنه المعجزة التي تحدى بها الإله مخلوقاته، وأنه ما زال محفوظا على هيئته الإعجازية الأولى دون تحريف ولا نقصان. ثم سنتعرف على التراث الذي أورثه النبي المُرسل إلى البشرية من بعده، من الأحاديث والسنن، وما يستفاد منها من تشريعات وعقائد وعلوم أخرى.
أهم المراجع القاضي عياض السبتي، كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى، دار الفكر، 2002.
أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، دلائل النبوة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985.
أبو نعيم الأصبهاني، دلائل النبوة، تحقيق محمد رواس قلعة جي وعبد البر عباس، دار النفائس، بيروت، 1986.
ابن ناصر الدين الدمشقي، جامع الآثار في السير ومولد المختار، تحقيق نشأت كمال، وزارة الأوقاف القطرية، 2010.
صفي الرحمن المباركفوري، وإنك لعلى خلق عظيم: الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، شركة كندة للإعلام والنشر، 2006.
أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق سميح دغيم، دار الفكر، بيروت.
إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، دار عالم الكتب، بيروت، 2003.
عبد الأحد داود، محمد كما ورد في كتاب اليهود والنصارى، ترجمة محمد فاروق الزين، مكتبة العبيكان، الرياض 1417هـ.
سامي العامري، محمد رسول الله في الكتب المقدسة، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، 2006م، ط1.
العهد القديم العبري، ترجمة بين السطور عبري-عربي، الأبوان بولس الفغالي وأنطوان عوكر، الجامعة الأنطونية، لبنان 2007.