مقالات

إلحاد بلا ملحدين

كثيرًا ما يقول أحدهم إنه (ملحد)، ولكن قليلًا من الناس من يعرف حقيقة هذه الكلمة ومعنى كونه ملحدًا! أي أن أغلب هؤلاء الناس يفرح بكلمة ويرددها ولكنه لا يعلم عن معاناها شيء، ويخطئ من يظن أن الإلحاد هو إنكار وجود إله فحسب، فهذ نظرة اختزالية للإلحاد، وهي أشبه بمن قيل له إن الشركة التي يعمل بها قد تم إغلاقها، ليتعامل مع العبارة على أنها مجرد جملة مفيدة وانتهت، دون النظر في عواقبها!

الإلحاد ودوامة العدمية

إن الإلحاد الذي يبدأ بإنكار الوجود الإلهي يدفع الإنسان في دوامات العدمية بكل ما فيها من شؤم وسواد، والملحد المخلص لإلحاده هو الذي يعلن كونه ملحدًا ثم تأخذه الحياة يمنة ويسرة وتقتله الكآبة، فلا يجد بدًّا من إنهاء حياته التي لا معنى لها، فينتحر بعد فترة وجيزة.

إن الإنسان يبحث عن معنى لحياته بفطرته، وكثيرًا ما نرى من لا أهداف له على المستوى الشخصي من طموح في العمل أو الزواج أو غير ذلك فيعاني نفسيّا من الاضطرابات والتي أولها فقدان الثقة بالنفس؛ فالإنسان مجبول على البحث عن المعنى والاتجاه، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعيش في حياته بدون أهداف تثير شغفه وحماسه، فكيف لإنسان أن يعيش حياة كاملة مع يقينه أن الكون بأسره هو عبارة عن ضجيج عبثي بلا هدف وبلا قصد وبلا غاية!

إن فقدان المعنى للوجود بأسره يقتل أي معنى قد يعيش الإنسان من أجله، وحينها يصبح الإنسان موهومًا بالمعنى مع إقراره في الوقت ذاته بأن الكون لا معنى له، وهو أسوأ نوع من أنواع الكذب على الذات، ولعلنا نقارب هذا القول بمثال آخر، كمدمن المخدرات الذي يشتهي عالمًا وهميًّا من اللذة الوقتية، ولكنه يبقى على يقين أن اللذة الوهمية تبقى وهمًا، ولكن الملحد الذي يعلم أن الكون بأسره بلا معنى ثم يحاول أن يخدع نفسه بوجود معنىً ما، فهو يخدع نفسه بنفسه، ويتهرب من مواجهة الكابوس المزعج، ويؤثر الممتع على الحق المر، فالملحد لا ينزل نفسه منزلة مدمن المخدرات، بل إنه يسلك ما هو أضل سبيلًا بعدم تفريقه بين الوهم والحقيقة! فكيف لإنسان أن يعيش في عالم بلا معنى إذا كان عاجزًا عن أن يعيش حياته الشخصية بلا معنى. وكيف لإنسان أن يحيى ولا معنى لحياته والبحث عن معنى الحياة مجبول في فطرته؟!

ومن المعلوم أن الإنسان يبحث عن قيمته دائمًا، ومن أجل ذلك نرى بعض الناس يسير في طريق لا يحبه ليحصّل احترام الآخرين ويشعر بقيمة ذاته؛ إذ إن شعور المرء بقيمته وأهميته احتياج نفسي دفين، وأغلب الأطفال الذين لم يتلقوا اهتمامًا معنويًّا من أهليهم غالبًا ما يعيشون حياتهم بنفوس مشوهة، وتتركز أهدافهم على إثبات النفس إما بالتكبر المفرط وجنون العظمة، أو من خلال لفت الانتباه لتسوّل المدح والثناء!

ضع هذا إلى جانب الإلحاد الذي يقول لك إنك مجرد نسخة كيميائية لا قيمة لها نشأت عن طريق تكاثر الصدف العمياء، أي إنك كائن لم يكن مخططًا لمجيئك يوما ما؛ ومن ثم فإن البحث عن قيمتك وحقوقك نوع من أنواع التطفل والكوميديا السوداء!

إن الإلحاد يقول لك إن قتل بعض جراثيم بصابون لا يفرق عن قتل مليارات الشعوب بضغطة زر في قنبلة نووية، إذ ما الفرق بين الجراثيم والبشر والكلّ سواء، مجرد مسوخ كيميائية لا تختلف عن الجماد الميت، فكلها لم يكن مخطط لوجودها!

فكيف لملحد أن يشرب تلك الأفكار التي يمليها عليه إلحاده ثم يحاول أن يبحث عن قيمته في نشر كتاب يكتبه أو بحصوله على شهادة دكتوراه مثلاً؟!. إذ إن ذلك لن يغني عنه من حثالته العشوائية شيئا -بحسب زعمه-. وكيف لإنسان مفطور على البحث عن قيمته أن يتعايش مع الفلسفة العدمية التي تساويه بالجراثيم والجماد!

الإنسان وحب الحياة

إن الإنسان بطبعه يبحث عن الاستمرار لا عن الفناء، وليس سبب ذلك أن الإنسان يكره الموت أو يحب الحياة، بل إن السبب العميق وراء ذلك أن نفسية الإنسان مجبولة على التعلق بالأبدية، والموت يتناقض مع تلك الأبدية التي يحبها الإنسان؛ لأنه لا يسأم من دعاء الخير. فتصارع الإنسان مع الموت هو صراع مع الفناء وانتهاء أحلام الخلود، فمن المحال أن نعثر على من ينتحر لأنه وصل لمرحلة من الرضا تجعله يزهد في الحياة ويزهد في شرب الماء وتنفس الهواء ثم يقرر أن يقضي على حياته بدافع الشبع عن طلب المزيد، فالإنسان لا يسأم من دعاء الخير وطلبه، وهو دائما يطلب شيئًا ما.

يطلب الإنسان على سبيل المثال في الطفولة الاهتمام، وفي الشباب الزواج والمال، وفي الكهولة الوصول لأعلى المناصب، وفي الشيخوخة ينتظر نتائج سعيه وحصاد عمره، وهكذا فالإنسان في طلب مستمر، فلا عجب أن يكون الانتحار ناجمًا عن اضطراب نفسي ما، ولكن يستحيل أن ينتحر السوي نفسيًّا بدافع الرضا. لأن الإنسان لا يملأ عينيه إلا الخلود الأبدي، والإلحاد يقول إن الأبدية وهم، وما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، ولذلك نرى الملاحدة ورافضي الأديان في تصارع دائم مع الشيخوخة والموت؛ لأن الموت بالنسبة لهم هو التهديد الأول بانتهاء كل شيء يملكونه؛ لأن تلك الدنيا – بالنسبة لهم – هي كل شيء يملكونه، ومبلغهم من العلم!

فكيف لإنسان فطر على عشق الأبدية والتصارع مع الفناء أن يعيش حياته وفي قرارة نفسه أن الموت فناء والأبدية وهم؟. ولو كان الموت هو الفناء المحتوم لتتحول كل ذكريات الإنسان إلى ومضة في التاريخ لن تتذكرها الأبدية، فما معنى الحياة؟ وما الدافع الذي قد يحرك الإنسان، وما الشيء الذي قد يستحق وقته وجهده وتضحيته؟

الإلحاد وبراءة الطفولة

يولد الإنسان نقيًّا صافي الروح، بغض النظر عن البيئة التي ولد فيها، مما يظهر بوضوح في براءة الأطفال؛ حيث إن كل أطفال العالم أبرياء بغض النظر عن دين آبائهم أو طبائع مجتمعاتهم، وذلك النقاء الفطري هو ما يدفع الإنسان إلى البحث عن الأخلاق، وهذا قريب من سبب نشأة المدارس الفلسفية في نظرية الأخلاق. فحتى من يترك دينه ليجول في فضاء اللادينية يستمر في البحث عن الأخلاق وقد يتحلى بالكثير من الأخلاق الحسنة. ولكن هل الإلحاد يعطي مساحة للملحد أن يكون له أخلاق أصلًا؟ وهل الإلحاد يسمح للملحد أن تكون له مرجعية أخلاقية لتكون هي المعيار الذي يحدد أخلاقه–بغض النظر عن كون الملحد خلوقا أم لا–؟

إن الإجابة ببساطة هي: لا، بل لعلها أقرب للاستحالة! لأن الإلحاد يعرف الوجود محصورًا في المادة فقط، ولا فرق بين خير وشر، بل –في نظر الإلحاد– الخير والشر هي معانٍ تم اختراعها من قبل الإنسان. لكن لا معنى لها في عالم مكون من كائنات حية تجول على كوكب، وما الكوكب والكائنات الحية إلا ذرات كيميائية تتناثر على ضوء قواعد الفيزياء. فلا فرق بين موت وحياة، أو الحرب والسلام، أو الظلم والعدل، أو الفساد والصلاح، أو الخير والشر؛ لأن المادة لا علاقة لها بالمعاني المعنوية. وحصر الوجود كله في نطاق المادة يستلزم ضرورة السخرية من كل المتكلمين في الأخلاق، إذ –حينها– ستكون الأخلاق مجرد وهم كبير! فما المشكلة أن يقتل إنسان 99% من الجراثيم عن طريق غسل يديه بصابون، أو أن يقتل 99% من البشر على كوكب الأرض عن طريق قنبلة نووية. إذ –في معيار الإلحاد– لا فرق بين الاثنين؛ بل إنه لا معنى للقتل أصلا؛ إذ أن القتل هو خروج الخلايا من حال الحياة إلى حال الموت! وفي الحالتين فإن كل ما حدث هو أن هناك بعض العناصر الكيميائية قد تناثرت من مكان لآخر، إذ إن المادة لا تفنى، فما معنى الأخلاق في عرف الإلحاد؟ إنه ببساطة، لا شيء!

شقاء الإلحاد

إن الملحد الحق، هو الذي أعلن إلحاده بينه وبين نفسه، ثم آثر الخروج من الحياة تطبيقًا لمنهجه الصحيح، فهذا هو الملحد بحق، لأنه قرر أن يعمل عقله ليفهم حقيقة ما يدعو إليه، إذ أن الإلحاد لا يترك للملحد مهربًا من وحل الفلسفة العدمية بكل ما فيها من شؤم وانعدام المعنى وسوداوية تقتل كل محاسن الحياة.

إن الملحد الذي أخلص لإلحاده لا بد أن يخلص للفلسفة العدمية، ومن تمام الإخلاص للعدمية فقدان المعنى كله، والسعي للراحة من الحياة، إذ إن الفلسفة العدمية ما هي إلا منهج منظم ومخطط دقيق لجر أرجل من يتمتع في أودية الحياة إلى مشرحة المنتحرين.

أما من يعلن إلحاده ثم تمر العقود عليه مرًّا، فما هو إلا مثرثر بما لا يعلم ولا معرفة له بالإلحاد؛ لأن طبيعة التكوين النفسي للإنسان يجعل تعايشه مع كونه ملحد مستحيلًا، ووجود ملايين الملاحدة الذين لم ينتحروا بعد ليس دليلًا على كون الإلحاد معتقَدًا يمكن التعايش به، بل هو دليل على أنهم وصلوا لمرحلة من حب الدنيا والحرص عليها حتى رفضوا أن يتفكروا في حقيقتها، وتكاسلوا عن التفكر في تبعات الإلحاد وما يترتب عليه من لوازم غاية في السواد والشؤم، فالأمر أشبه بمن يرتدي ملبس عليه كلام بغير لغته ولا يفهم منه شيئا, ولكنه يفتخر به لأن الملبس يعجبه!

إن الإلحاد فكرة تتناقض بنفسها مع نفسها، وهو أسهل مذهب فكري مخالف للمسلمين، بل إننا في هذا المقال عرضنا نقاطًا تخص طبيعة النفس البشرية فقط، ولم نتطرق إلى تناقض الملحد مع نفسه في إبداء آرائه حول الأديان والقضية الوجودية في نفس الوقت الذي يشكك فيه في مبادئ العقل! ولم نتطرق إلى محاولات الملاحدة في إنكار الإرادة الحرة وتحويل الإنسان إلى جماد محكوم بكيمياء الدماغ ثم يقنعوك هم بإلحادهم، رغم أنهم يقرون بأن الإنسان مسلوب الإرادة!

وما عرضناه ما هو إلا جزء من الإلحاد كاملة، بعيدًا عن حماسة المراهقين الذي يلحدون بدافع الهوس الجنسي أو الضعف العلمي أو الانغماس في الشهوات بغير رادع من دين ما..

ربما لو فهم الملحد ما هو الإلحاد لخجل أن يفصح عن عقيدته. أو ربما لألحد ولكن لقب نفسه بهوية أخرى. أو لرجع عمّا يعتقد ليعيد حساباته حقًّا، وهكذا نرى أننا نقف في عالم به إلحاد، ولكن بلا ملحدين!


مصادر للتوسع:

الإلحاد في مواجهة نفسه – سامي عامري

عيادة الملحدين – هيثم طلعت

لماذا لا تفسّر نظريات الإلحاد وجود الكون؟

إن تفسيرات نشأة الحياة لا تصنّف في فلسفة العلم أو لدى علماء التطبيقيّات علمًا رصديًّا تجريبيًّا science ، بل من الأحرى ألّا تكتب في كتبه، حيث إن مكانها في كتب الخيال العلمي لا كتب البحث العلمي، حيث إن العلم يمر بمراحل كثيرة، تتلخص في الرصد واللاحظة، وإبداء الافتراض والتفسير، ثم تجربة الافتراض، ومحاولة هدم نتائج التجربة وإثبات خطأ نتائجها، وباجتياز كل هذه الخطوات تصبح المسألة حقيقة علمية.

هنا نلاحظ كيف أن مسائل الماضي البعيد التي يفترضها المتنطّعون لم ترتقِ في الأصل إلى المرحلة الأولى، حيث إنها لا تخضع للرصد والملاحظة، فلم يشاهد أحد نشأة الكون ولم ترصَد بداية الحياة، وكل تلك التفسيرات الإلحادية خيال علمي لا يرتقي للبحث العلمي، فهي pseudoscience  وليست science.

الخداع الأكبر .. التهويل بالمصطلحات

هنا يكمن الخداع الأكبر للعالم، فالمشكلة أنهم يستخدمون مصطلحات علمية فيما ليس علميًّا، ولا يخضع للمنهج العلمي، فيتوهم العامة أنه علمٌ راسخٌ وهو ليس كذلك، بل خيال علمي! ولشدة التشابه بين الخيال العلمي والبحث العلمي، يلتبس على المليارات حول العالم الأمر!

فالمشكلة أنهم ينجحون في خداع العامة بالتلاعب بالألفاظ هذا فينخدع غير المتخصص ويُتلاعَب بعقولهم، فلو قلت لك: إن الكربون اتحد مع الهيدروجين لينتج زيتًا مركّبًا من آلاف الذرات، وهذا الزيت صالح للطبخ، ولو جئتُ لك بعالم مرتشٍ واثق بذاته، أو أخرجت لك فيلمًا وثائقيًّا متقن الصنع لتأكيد كلامي حول هذا الزيت المزعوم لصدقتني، لأن الكلام يقدّم وكأنه محاضرة علمية، أو لأنني خريج في الجامعة الفلانية، أو ربما لأني استخدمت كلمتي كربون وهيدروجين، حيث يُعتاد أن هذه المصطلحات تقال في دروس الكيمياء، فنتوهّم أنها علم صحيح إلا أن التنسيق بينها في جملتي تلك ما هو إلا خيال علمي!

فالعلم يبنى على الأبحاث لا على الادعاء بلا دليل، واستخدام مصطلحات العلم في العلم الزائف ما هو إلا تضليل لملايين الناس من غير المختصين، وإلا فلننظر إلى علماء لا ينتقدون ذلك المحتوى بأي دافع ديني أو منظور ديني مثل العالم الأمريكي جيمس تور في كتابه The mystery of life’s origin  المنشور في عام 2020م وكيف نسف ادعاءات التطوريين حول نشأة الخلية الأولى، وكيف أن عليهم التحسّر على المليارات المهدَرة في الترويج لتلك الادعاءات، وأنهم بحاجة إلى تأليف سيناريوهات متجددة كلما فضح المتخصصون في علوم الكيمياء تزويرهم لوعي العامة.

ديكتاتورية التنميط والانتشار

رغم أن المنهج العلمي يرفض مناقشة أي كلام غير مبنيٍّ على الملاحظة، فكذلك يبدو –لي على الأقل-أن مناقشة نظريات الإلحاد والتطور أقرب للعب بالمطّاط، فإعادة تأليف السيناريوهات شيء ممكن للغاية، وكذلك تحريف المقالات كل بضع سنين وإطلاق العنان للخيال كي نوفر للطبيعة ظروف معيّنة لتحقّق التطور وإمكان العشوائية في إنشاء الحياة عن طريق التفاعلات الكيميائية! إلا أننا هنا أمام قرار إلحادي مسبَق يلقى دعمًا هائلًا وشعوًرا بالحاجة الماسة للعثور على أي تفسير علمي –ولو كان زائفًا- يدعمه.

نحن أمام دكتاتورية في فرض اعتقادات معيّنة على الناس، هذه الدكتاتورية نشرت ذلك الهراء في كل كتب الكيمياء والأحياء حتى يكون تصديقه سهلاً وفرضًا على كل طالب لتلك العلوم، وإن لم تصدقه فليس أسهل من أن توصف بأنك متخلّف ورجعي تتبنّى معتقداتك الدينية على الحقائق العلمية!

إننا أمام ملايين الشباب ممن فقدوا هويتهم الإسلامية بسبب غسيل العقول المنصب عليهم، الغسيل الذي اجتمع عليه الغرب والمتغرّبون، حيث يقنَعون بأن الغرب ونظرياته المسيطرة محض علم دون إلحاد.

إن الكثير من المجتمعات العلمية اليوم تحظر انتقاد تلك النظريات الخاطئة، وربما تضع مستقبلك المهني والأكاديمي على المحكّ فتحرَم من الدخول والمشاركة في الأبحاث العلمية لا لشيء إلا أنك تحترم عقلك ولا تنساق خلف هراء العلم الزائف، فقد أصبح ادعاء العلم الرصدي التجريبي وسيلة لنشر معتقدات وأيديولوجيات معينة، وما دمنا نتعامل مع مئات الأفلام الوثائقية وملايين الكتب حول العالم الناشرة لهذا الهراء فأنت لا تتعامل مع مجتمع علمي ينشر علمًا زائفًا أخطأ في نشره، بل إنك تتعامل مع دين يتم الترويج له باسم العلم. فهي مسألة حرب عقائدية وغسيل عقول وليست أمانة علمية تستحق المناظرة والجدال.

إن من أعظم آليات غسيل العقول استغلال جهل الناس بتلك المسائل، فترى فيلما وثائقيًّا يمر على مناطق شائكة مليئة بالأخطاء العلمية في بضع ثوان، وكأنه شيء بسيط للغاية، فتراهم يقولون عبارات مثل (تم إنشاء بروتين عن طريق تفاعلات كيميائية) فقط، وهكذا بكل بساطة ينتقل إلى الموضوع الذي يليه، وكأنه يصنع كعكة إسفنجية اقتبس وصفتها للتو من قناة طبخ!  كل ذلك ليخدع العامة أن المسألة بسيطة جدًّا.

أما في كتب العلم، فإنك لا ترى كتابًا في الكيمياء أو الأحياء إلا ويقدّم مسألة الخلية الأولى تلك وكأنها من مسلّمات العلم، إلا أن حبكة الدراما تختلف حسب ميول هوى المؤلف، فتراهم يقولون مرة إنها نشأت في محيط عميق، ومرة بجوار بركان ساخن، ومرة في بركة ساكنة، إلى آخر تلك الخيالات.

تديُّن الإلحاد والتطوّر!

لقد بات حق الطعن والنقد لها علميا أمرًا غير مكفول لأحد، فالأمر أصبح ديًان لا علمًا، وعندما يكون الأمر دينًا يرتدي عباءة العلم، فلا تخاطب بالعلم إلا عالمًا، ولا تخاطب بالعقل إلا باحثًا حقًّا عن الحقيقية

لقد أصبح الإلحاد دينًا كسائر الأديان البشرية الوثنية، وكما أن الأديان تستند إلى نصوص كتب مقدسة تعتبر مرجعية لها في الاعتقاد، فإن هذه الكتب التي لا تخضع للعلم الكوني ولا تكون نتاج أبحاث علمية في المعامل قد باتت كتبًا مقدسة للإلحاد ومرجعية لفكره.

ويا للعجب، كيف لا يلتفت عموم الناس إلى غموض تفسير أصل الحياة على مدار مئتي عام الماضية، أي منذ تصاعد نزعة التطور وسطوتها، ذلك الغموض الذي لم تنكشف أي من أسراره على مدار مئات السنين إلى يومنا هذا. ذلك السر الذي مازال مبهما بعد كل تلك المحاولات البائسة. وذلك السر الذي لم يحظى بأي تفسير علمي ولكنه حظي بألف “تفسير خيالي” أُلْبِسَ عباءة العلم بالإكراه كذبًا وتزويرًا.

لم يتلفت أحد أيضًا- إلا قلّة من أهل العلم- إلى أنّ كل ذلك الضجيج كان مبنيًّا على حرب عقائدية بين الإلحاد والإيمان، وليست مجرد حربٍ بين نزعة علمية وما يضادّها من الآراء، فهل يعقل أن أحدًا لم يلاحظ أن تلك التجارب الكيميائية يستطيع من له أدنى اطلاع أو دربة أن يجريها ويختبرها اليوم، ليصل بكل يقين وتأكيد إلى أن الادعاء بإمكان نشوء الحياة لمجرد وجود بعض الأحماض الأمينية هو أقبح ممن يدعي أنه يستطيع أن يخترع ناطحة سحاب لمجرد أنه يمتلك طوبة في مكان ما من الكون!

لقد عمدوا إلى هندسة العقول فغيروا فيها وبدّلوا، فكان الأمر أشبه برسم سيناريو درامي ثم إخراجه، فهم يمتلكون رواية تقول إن الحياة نشأت بتلك الطريقة، وكل ما ينقصهم هو تأليف السيناريو، ثم بعد أن ينجحوا في تسويق عشرات السيناريوهات وربطها بما في المؤلفات من تناقضات، يخرجون إلى عامة الناس بدين جديد مفاده أن هذا حدث بالفعل ومن ناقض فهو جاهل متخلف قد كفر بدين العلم!. ولا سبيل لهم –والحال كذلك- لنشر تلك الخرافات إلا أن يسيطروا على كتب العلم والمحتوى العلمي في المدارس والجامعات لينشروا التفسيرات الإلحادية في الكتب العلمية، ولينتجوا أجيالًا من المؤمنين الذي يعتقدون أن الدين ينفكّ عن العلم ويتصادم معه، وأن على الفرد أن يختار في مفترق الطرق هذا إما العلم أو الدين، بل إن وجود أعداد كبيرة في هذا المفترق بحد ذاته سبب كبير لنشر الإلحاد في العالم.

ماذا لو؟

قد يسألني سائل: لو كنت ترفض ما قالوا لفشلهم عن إثباته علميًّا فيما مضى، فماذا تفعل لو أنهم نجحوا في ذلك بالفعل بعد عشرات السنين، فلعلهم يستطيعون اختراع خلية حية في المعمل من الصفر، ثم تتطور تلقائيًّا إلى كائن ما، ألا يكون هذا أكبر دليل على أحقية الإلحاد والتطور في تفسير وجود الكون؟!

ففي الجواب –بكل اختصار- أقول: لو أنهم نجحوا في ذلك، فإنهم –في المحصّلة- لم يخترعوا شيئًا أو يخلقوه، فإن الميكانيكي الذي يفكك السيارة ويعيد تركيبها فإنه لا يصح أن نقول إنه اخترعها، وإنما قلد مخترعها، وحتى إن قلد صانعها في بناء قطَع التبديل، إلا أنه لم يأت بأصل جديد (من العدم).

إن علماء الأحياء قد يقلدون بناء شيء مما خلقه الله لاطلاعهم على دقائق الخلايا، إلا أنهم مقلدون لا مخترعون، ولو نجحوا في ذلك فإنهم –في المحصلة- مستخدمون لعناصر موجودة بالفعل –الكربون والهيدروجين والأكسجين.. إلخ – ليحصلوا على نتيجة معينة باستخدامهم لها، فهم يعيدون تركيب ما هو موجود، ولا يخلقونه، وما مثلهم إلا كم يمسك كلمات متعددة لينشئ منها جملة مفيدة، وكذلك إعادة التركيب ليست بخلق.

بل أكثر من ذلك، فإن النجاح في إظهار أي مكون حي حتى لو خلية حية كاملة لن يكون دليلًا على الإلحاد، بل هو أعظم دليل على الإيمان، حيث إن التوصل إلى هذا الإنجاز يستلزم آلاف السنين من التراكم المعرفي وبناء التقدم العلمي ومئات الآلاف من العلماء والأجيال الباحثة ليتوصلوا إلى إنتاج خلية حية واحدة –على سبيل المثال- الأمر الذي يتطلب علمًا كثيرًا وحكمةً عقلية عالية لإنشاء خلية حية واحدة فقط. فإذا كان إنشاء ذلك من قبل الإنسان العاقل المريد العليم الحكيم بكل هذه الصعوبة والزمن الطويل، فكيف يمكن للمادة العمياء أن تنشئ كل أنواع هذه الحياة المعقدة المبهرة إذا كان الإنسان ذا العقل والوعي والعلم يعجز عن فعل ما هو أسهل من ذلك، فإن المادة الميتة أعجز وأعجز، وإن الميكانيكي الذي أعاد تركيب قطع الغيار لم يخترعها وإنما فهمها ثم أعاد تركيبها، وإن الصناعي لم يخترع السيارة بل قلّد المصنّع في صناعتها، وإن الله وحده الخالق من عدم، فسبحان الله المتعالي عمّا يصفون.

الكون والصدفة .. ما احتماليّة نشوئه عنها؟

تخيّل أنك في غرفة فيها حاسب آلي، وأنك رميت كرة صغيرة مطاطية داخلها، ما هي احتمالية أن تقفز الكرة على لوحة المفاتيح لتكتب كلمة مفيدة؟ إنها بكل تأكيد احتمالية صغيرة، لكن إن سألنا: ما احتمالية كتابة جملة مفيدة؟ الجواب أن الاحتمالية ستتضاءل أكثر، وهكذا دواليك؛ حيث إن مسألة الصدفة تخضع لعلم الرياضيات ولحساب أرقام الاحتمالات probability theory. وكلما كانت المهمة المطلوب تنفيذها أعقد وأطول قلّت احتمالية حدوث الصدفة.

إن احتمالية الصدفة في كثير من الأشياء قائمة، لكنها في الرياضيات تصنّف –بعد رقم معيّن- على أنها ضئيلة لدرجة استحالتها  statistically impossible..

أنتقل معك للخطوة الثانية، فأسألك ما احتمال أن تتساقط الكرة بمنتهى العبث ثم ينتج عنها مسرحية كاملة لشيكسبير، ما ظنك بدرجة احتمالية حدوثها، وما مدى ثقتك في أن تلك الاحتمالية حدثت بالفعل؟!

يالها من خرافة!

بعد أن وضحت لك المبدأ العام لمسألة الصدفة، دعنا نحسب احتمالية نشوء الكون عن طريقها، علمًا أنها تتطلب أزمنة وأمكنة معينة لتحدث فيها، ومن البدهي أن حدوث صدفة في العدم: قبل الزمان والمكان شيءٌ لا يُعقَل بأي شكل، إذ كيف تحدث صدفة في اللازمان واللامكان! إضافة إلى الكثير من الإشكالات المنطقية النابعة عن تفسير وجود الكون المنظّم بأنه نتاج صدفة عشوائية عمياء.

يحتوي الكون على نظام ودقة في قوانينه، فكيف للعشوائية أن تنشئ الدقة؟ وفيه القصد ومعنى الأشياء، فكيف للعبثيّة أن تفصح عن معنى؟ وفي الكون غاية وهدف، فكيف للا غاية أن توجد الهدف؟

إن القول بأن الكون نشأ صدفة، يؤدي بالنتيجة إلى أن الأرض وما عليها من الأحياء والكائنات وحتى ما يسمى بـ “الخلية الأولى” ومكوناتها الأولية نشأت عن طريق الصدفة أيضًا.

حسنًا، إن سألت ملحدًا عن تفسير وجود الحياة والكائنات الحية فستراه يقول إن ذلك ناتج عن التطور الذي يعرَف الآن بالتطور الدارويني، فيفسّر أصل الكائنات بتطورها عن أصل واحد مشترك، وسيفسّر وجود الخلية الأولى بأنها نتيجة تراكم تدريجي على مدار الزمن عن طريق الانتخاب الكيميائي chemical evolution. ومن ثمّ فنحن أمام تفاعلات كيميائية عمياء وتراكميّة بدون أي توجيه أو قصد أو إرادة أو هدف، تنتجُ هذا التعقيد والنظام المتقَن!.

صحيحٌ أن دارون افترض وجود خلية أو سلفٍ مشترك لم يحدّده، إلا أن وارثي نظريته والمدافعين عنها، تبنوا قضيّة الانتخاب الكيميائي لسد ثغرة (الخلية الأولى) في نظرية التطور. إلا أنها لم تسد حقًّا؛ إذ أمامنا اليوم عشرات الافتراضات في مسألة الخلية الأولى، إلا أنها كلها تتشابه في الفكرة العامة ألا وهي التراكم ثم الانتخاب، وذلك إيمانًا بنظرية دارون حرفيًّا، حيث يقول: “وجود بيئة خصبة صالحة للانتخاب الكيميائي –سواء بركة أو محيط أو بجوار بركان أو خلافه، وهذه البيئة تسمى بـ primodial soup  أو الحساء البدئي، وبها كل العناصر اللازمة –الكربون، والهيدروجين، والأوكسيجين، والنيتروجين.. إلخ- وبها أيضا بعض المركبات مثل غاز ثاني أوكسيد الكربون والميثان والأمونيا ومع مرور الزمن، تحدث تفاعلات كيميائية لتنتج بروتين ثم تنتج DNA ثم رويدا رويدا –عبر أعداد مهولة من التفاعلات الكيميائية– حتى إنتاج كل المركبات الكيمائية للخلية، ثم تنتج خلية حية” [دارون، رسالة إلى صديقه (Joseph Dalton Hooker)]

استحالة تحقق التطور؟

للرد على هذه الفرضية لا بد من الإشارة إلى جملة من المغالطات في هذا التفسير الافتراضي الذي ذكره دارون، حيث إنه –أولاً- لا وجود لـ DNA إلا بوجود الأنزيمات enzymes  لأن تشبيك الـnucleotides مع بعضهم البعض يحتاج إلى Enzymes أولا، وعليه فإن ترتيب الأحداث يكون بصنع الأنزيم enzymes الأول وهو نوع من البروتينات, ثم يتوفّر صنع الـ  DNA، أما الأمر الثاني: فإنّ أول مهمة هي صنع البروتين، وإن أصغر الأنزيماتenzymes  يتكون من مئات الأحماض الأمينية Amino acids.

أما الأمر الثالث فهو القول بأن الصدفة شيء ممكن أن يحدث مهما كانت احتماليتها ضئيلة في حال أعطيناها الوقت الكافي، وهنا فلنفرض أن أمام هذا الافتراض الوقت الكافي مهما كان استغرق من الزمن.

إذًا، لنأخذ كل الأرقام التي تحدثت عن عمر الكرة الأرضية، ولنختر الرقم الأكبر الذي قيل في عمرها، مهما كان غير دقيق علميًّا، وهذا الرقم هو( 4 .6 بليون سنة)، علمًا بأن هذا الرقم هو من أكبر التقديرات المتاحة لتفسير عمر الكرة الأرضية.

حسنًا..

ولنفترض الآن أن هناك محيطٌ. وأننا وضعنا في المحيط كل ما يلزم لتصنع الطبيعة بروتينًا واحدًا مكونًا من 150 حمض أميني، ولنفرض أننا وضعنا في المحيط في كل نقطة منه مئات الأحماض الأمينية، أي أننا جئنا بكل ما في الأرض من (كربون, هيدروجين, أكسجين, سلفر،.. إلخ) وهكذا فإننا نعفي القائل بذلك من إنشاء الأحماض الأمينية أولا ثم بناء البروتين ثانيًا، حيث إننا نفترض أن كل الأحماض الأمينية متوفرة حقًّا. فأنت الان لديك محيط, به ملايين الأحماض الأمينية, مملوء على أخره بكل أنواع الأحماض الأمينية العشرون. وعلى الرغم من أن أشعة الشمس UV rays  كفيلة بأن تكسر تلك الأحماض الأمينية وتجعلها غير قابلة للبناء بها، فلنفرض أننا سنكسر قوانين الطبيعة من أجل أن نسير مع هذا الافتراض، وأن أشعة الشمس لن تفسد الأحماض الأمينية. ولأن المحيط هو بيئة غير مُعقّمة ولن تحافظ على الأحماض الأمينية لكثرة وجود احتمالات للتفاعلات الكيميائية والـ chelating agents  داخل المحيط، إلا أننا سنفترض أن الأحماض الأمينية معصومة من ذلك كله وفي حفظ تام..  أيضًا ها نحن نكسر قوانين الطبيعة من أجل أصدقائنا للمرة الخامسة في هذه النقطة.

إن للبروتين مراحل عدة في تكوينه هي primary structure, secondary structure, tertiary structure, quaternary structure. والمراحل الأولى في تكوين البروتين هي بناؤه من الأحماض الأمينية كأنه خيط، أما المراحل الأخيرة في تكوين البروتين فهي أشبه بأنك جئت بالخيط وجعلته يلتفّ ويدور في شكل ثلاثي الأبعاد. وهذا الشكل الثلاثي الأبعاد يتماسك بضعف لا بقوة weak inter-molecular forces  ووجود هذا الشكل وسط ماء المحيط سيفسد إثر حركة ماء المحيط لا محالة. ولكننا سنكسر كل قواعد الطبيعة من أجل أصدقائنا, وسنفترض أن البروتين في رعاية ما ولن ينكسر فور بنائه..

وها نحن الآن لن نجعل البروتين يملأ بالاستعانة بالـDNA  والـmRNA  والـ tRNA  بل سنتركه يبني نفسه بنفسه كما يقول أصدقاؤنا self assembly وهذا مما لم يحدث أمام أي أحد من البشر على مدار التاريخ. فالبروتين يبنى بتوجيه الخلية لا من تلقاء نفسه.

وماذا بعد؟

المهمة الآن –بعد كل هذه التسهيلات والافتراضات- هي بناء بروتين مكوّن من 150 حمض أميني، ولديك العشرون نوع وعدد أكثر من كافٍ للبناء، لكن الغاية هي بناء ذلك كله عن طريق الصدفة والعشواء بدون أي توجيه أو إشراف بترك الكيمياء تفعل ذلك بتفاعلاتها العمياء. وأرجو أن لا ننسى أن كل نوع من العشرين نوعا من الأحماض الأمينية يكون منه نوعان: levo  و dextro. أي أن هناك 40 نوعًا لا 20 نوعًا لتركيب البروتين بشكل صحيح؛ إذ إن كل البروتينات تتكون من أحماض أمينية من النوع الـ levo..

إن بناء البروتين يقتضي بأن يمسك الحمض الأول في حمض من النوع الفلاني، ثم يمسك في حمض ثالث من نوع فلاني وهكذا، وهنا بسبب وجود 20 نوع، فإن احتمالية أن يتماسك الحمض بحمض آخر بـ peptide bond هي احتمالية 1 على عشرون، أي خمسة بالمئة في المرة الواحدة فقط. وإن كانت المهمة أن تبني بروتين مكون من 150 حمض أميني فإنك مطالب بأن تفعل 149 محاولة ناجحة. كل محاولة منهم احتمالية نجاحها 5 بالمئة. ولو كان هناك محاولة واحدة فقط فاشلة فإن البروتين كله ينكسر ويعاد بنائه مرة أخرى من البداية، وإن احتمالية حدوث ذلك هي واحد على (10164). وهو حَدَث أقلّ ما يوصف بأنه مستحيلٌ إحصائيًّا Statistically impossible.

ولو افترضنا أن العملية قد تأخذ ثانية واحدة فقط، فإن الوقت الذي تحتاجه تلك الاحتمالية أن تتحقق بالفعل هي عشر سنوات وأمامها 243 صفرًا، مما يزيد على العمر الذي افترضناه لعمر الأرض (4 .6 بليون سنة) ببلايين السنين.

ولمن يحب أن يتحقق من صحة تلك الأرقام أو يتزيد في تلك المسألة يقرأ في أبحاث عالم الرياضيات السويسري (تشارلز يوجين) حول إمكانية نشأ بروتين واحد عن طريق الصدفة، وفي أبحاث  (Dr Stephen C. Meye & Dr. james tour حيث إن الكلام في حسابات تلك الأرقام يطول جدا وهذا ليس موضوع مقالنا.

ومهما قلت للملحد، فإنه سيجادل ويعاند، فهو يحكم بعنادٍ مسبقًا، وسيقول لك بعد أن تطيل الشرح والاستفاضة في الاستدلال على استحالته، ذلك يحدث على مدار زمن طويل جدًّا، ومع مرور الوقت فإن المستحيل يصبحُ ممكنًا!.

خيال مليءٌ بالافتراض

رغم أننا قمنا بكسر جميع قواعد الكون، ودمرنا حقائق الطبيعة، لنتماشى مع جدل فرضيات المدافعين عن العشوائية والصدفة، وتناسينا الافتراض الأهم وهو “أنّ الكون نشأ صدفة أن تحدث صدفة في لازمان ولا مكان” وقمنا بافتراض أن البروتينات المطلوب صنعها مكونة من 150 حمض أميني فقط رغم أن أصغر إنزيم يتكون من مئات الأحماض الأمينية، كما أننا افترضنا أن عمر الأرض ( 4 .6 بليون سنة) وهو أطول تقدير مطروح حتى الآن، وافترضنا أن الأحماض الأمينية متوفرة حقًّا، رغم أن الأمر يتطلب اختراع العشرين نوعًا من أنواع الأحماض –وتكون تلك مجموعة واحدة- الأمينية عن طريق التفاعلات الكيميائية، ويكرر فعل ذلك حتى يتوفر الكثير من مجاميع الأحماض الأمينية وتكون كل الأحماض الأمينية levo  وليس dextro. وافترضنا أن كل نقطة من نقط المحيط بها كل أنواع الأحماض الأمينية العشرين وأن المحيط مملوء عن آخره بكل العناصر اللازمة، وافترضنا أن أشعة الUV  من الشمس لن تفسد أي مركب سوف يتم إنشاءه، وافترضنا أن بيئة المحيط معقمة كيميائيّا ولا يوجد أي chelating agents  قد تتفاعل مع ما يتم إنشاؤه.

إضافة إلى ذلك كله فإننا نفترض أن الشكل الثلاثي الأبعاد للبروتين المتماسك بقوى هشة لن ينكسر بفعل تيارات المياه في المحيط، وأن البروتين يمكن أن يبنى وحده self assembly  بدون أي توجيه من أنظمة الخلية التي تكمل بعضها بعضًا، وخضوع ذلك لعلم الorganic synthetic chemistry  لا علم الbiochemistry  في حين أننا لم نر أي من تلك التفاعلات تتم خارج الخلية الحية ولم ينجح أحد في إنشاء كل تلك التفاعلات من الصفر في معمله بدون الخلية الحية، وافترضنا أن النجاح في إيجاد إنزيم واحد سيؤهلنا لإيجاد DNA  تلقائيّا، وافترضنا أن الصدفة قادرة أن تخترع الأنواع الخمسة من الـ nucleotides , علما بأن أصغر نوع منهم يستدعي ربط خمس ذرات مع بعضهم بعضا عن طريق الصدفة العمياء، وافترضنا أن أشعة الـ UV  من الشمس لن تكسر الـ DNA، وافترضنا أن أشعة IR  القادمة من الشمس لن تسخّن ماء المحيط بالقدر الكافي وتفسد البروتين بالحرارة protein denaturation، وافترضنا أن المادة الوراثية تستطيع أن تترك لزمن لا أخر له في حين أنها هشّة حراريا thermodynamically unstable ولا تتحمل أن تترك أكثر من 6 أشهر في درجة حرارة الغرفة دون أن تتبخّر أو تموت، وافترضنا أن البروتينات والمواد الوراثية التي تم بناؤها في بيئة معقمة كيميائيا ولا يوجد أي احتمالية لحدوث تفاعلات كيميائية قد تكسر أو تحوّل ما تم إنشاؤه

وافترضنا أيضًا أن النجاح في اختراع بروتينات والمواد الوراثية هو خلقٌ للحياة مع عدم تفسير كيف سيتم إنشاء جدار الخلية –علمًا بأن كل مكوناتها homochiral- ولفّه حول كل ذلك، وكيف سيتم تشغيل الخلية بالفعل ولا تكون مجرد مركبات كيميائية بلا أي معنى.

وهنا بعد 16 افتراض جدليٍّ، يكفي الواحد منها لنفي التطور أو العشوائية في الكون، رغم كل هذا، فنحن أمام حدث نسبة حدوثه (واحد على 10164).. فكيف يصحُّ في الأذهان شيءٌ من هذا؟!

 

الإيمان والوجود .. لماذا نكترث؟

الإيمان بالله دعوة الرسل كلهم في كل زمان ومكان، ومن المعلوم أن طرقهم في الدعوة قد تعددت باختلاف العباد والبلاد، وقد سرد القرآن الكريم تلك الأساليب لتتكون منها الطريقة الواضحة الموصلة لمعرفة الله، سواء بضرب الأمثال، أو الدعوة للتفكر بما يناسب الفطرة فلا تنفر منه النفوس، مما يمنحنا دروس جليلة ينبغي التوقف عندها!

دروس من القرآن

ولعل أهم تلك الدروس، التأكيد على أن الدين لم يكن بلا أدلة ربانية، وأن الله لم يطالبنا بإحضار أدلة تؤكده وتثبت حقيقته، بل إن الدين أنزل ومعه الأدلة المثبتة صدقه، بل إن الأمر أبعد من ذلك، فإنا لسنا مطالبين فحسب بأن نؤلف منهجًا دقيقًا لترتيب الأدلة القرآنية والنبوية في الإقناع. بل جاء الدين بمنهجية الإقناع أيضًا.

لم يكن القرآن الكريم مدرسة من مدارس الفكر والفلسفة بين عدة مدراس، بل إن منهجية القرآن في الإقناع هي الطريق المتكامل، وهي بمثابة أقصر الطرق وأسرعها إلى الحقيقة، رغم أنها ليست الوحيدة.

عطفًا على ما تقدّم، نرى أن كثيرًا من الناس يقتنع بوجود الله عبر الخوض في الفلسفات والأفكار المجرّدة، وهنا ينبغي القول: إن الفلسفة قد توصلك إلى الإيمان بالله، ولكنها ليست الطريق الأفضل لعموم الناس، وكذا عندما تخوض في العلم الكوني التجريبي كالفلك والكيمياء والفيزياء، وتنصت جيدا إلى المكتشفات المذهلة في تلك العلوم، فلعلّك تقتنع بوجود الله في زمن أقل بكثير وبجهد أقل من زميلك الذي آمن عن طريق الفلسفة.

من هنا، ينبغي الإشارة إلى هي منهجية القران في الإقناع بوجود الله والإيمان به تتأسس على العقل الباحث في الطبيعة، كما في قوله تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ۚ وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101]. وهذه المنهجية ليست الوحيدة بكل تأكيد، ولكنها المنهجية الأسهل والأقصر والأقرب لأغلب عقول الناس وقلوبهم.

إن العقيدة أساس الدين كله، ومعلوم أن العقيدة تُؤسَّس على كلمة (لا إله الا الله. محمد رسول الله). وكما أن الدخول في الاسلام يبدأ بتصديق هاتين الشهادتين، فإن الشك في الإسلام أو الخروج منه يبدأ بالطعن أو تكذيب احدى هاتين الشهادتين.

البحث عن التشخيص الصحيح

تبدأ مهمة الداعية والمفكر المسلم في تشخيص داء المتشكك، بهدف فهم منبع الشك لديه، أي في فهم أي جزء من الشهادتين ينبعث شكه، ثم يبدأ في معالجة الداء من الجذور.

على سبيل المثال، بدلًا من أن نجادل الإنسان الطاعن في العبادات والشريعة بحجة أنها أفكار وأفعال بلا أي معنى، علينا أن نبحث عن طريقة لترسيخ كلمة “محمد رسول الله” في قلبه، بإقناعه في أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول من الله لا مدعٍ للنبوة، وأنه لا ينطق عن الهوى، وأن الدين الذي جاء به منزَل من إله عليم حكيم، يعلم الإنسان وما يصلحه، حكيم لا يشرعُ أي شيء عبثًا، وكل أفعاله وراءها حكمة وإن خفيت عنا.

إن مشكلة الإنسان الرافض للعبادات –في الحقيقة- ليست في أن العبادات وأحكام الشرع بلا معنى، بقدر ما أن مشكلته –الخفية- تتمثّل في شكّه وعدم تصديقه في أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًّا، ومن ثمّ فإنه يرى في قرارة نفسه صعوبة تصديق ما جاء به من عبادات وشرائع..

وفي مثال آخر، فإنه من الأولى لنا –بدلًا من الجدال- مع إنسان يدعي أن “الله مجرد فكرة صنعتها البشر” علينا أن نكشف عن الخلل في فهمه لكلمة “لا إله إلا الله” في قلبه، وأن نحرص على إقناعه بأن الإيمان بوجود الله نابع عن أدلة عقلية ومنهج علمي دقيق، لا أنه وهم صدقناه لتلبية ما يسمى بـالحاجات الروحانية وأمنياتنا في وجود معنى للحياة، كما أنه ليس نوعًا من أنواع تمني حياة أخرى وجنة الخلد لشدة عدم تقبلنا للحقيقة الموت والفناء.

فعلينا –والحال هكذا- أن نسعى لكشف جذر الخطأ في السؤال بدلًا من الانشغال بالإجابة على السؤال نفسه والدوران مع المتشكّك في حلْقة مفرغة، فذلك هو الأمر في أغلب أسئلة المتشككين غير الباحثين عن الحق.

بهذا فإننا نسلك الطريق الواقعي نحو التشخيص الصحيح، فنعرف من أين نبدأ، وهذا ما تمليه علينا منهجية القران، فنبدأ الطريق من أوضح الخطوات فيه، ثم نسير في الإقناع لنصل بأسرع وأقصر طريق. وهذه –بالتأكيد- أيسر من سبل الإقناع الأخرى القائمة على التطويل وسرد الشكوك ومحاولة الإجابة عنها بما لا يشفي عليلًا ويروي غليلًا..

درجات وخطوات

تخيل أننا أمام إنسان لا يؤمن بأي شيء من الحقائق الدينية، فكيف سنقنعه؟!

يعلم جميع المسلمين أن العقيدة الإسلامية أساسها (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، وهذا يوحي أن الاقتناع بتلك الشهادتين هي نقطة النهاية في الحديث مع المتشكك.

تخيّل الآن، أن نقطة النهاية تلك هي درجةٌ في سلم طويل، وهذا السلم يبدأ بدرجة طويلة وعريضة جدًّا، والثانية أقلّ في كليهما، والثالثة أقل وأقل، وهكذا، بحيث تكون الدرجة الأخيرة هي الأقل والأولى هي الأطول والأعرض. وهكذا، فكلما كان الاقتناع بالأولويات أرسخ، كان الصعود –من البداية- أسلم وأثبت.

ننطلق الآن من الدرجة الأولى (لماذا نكترث بكل هذا من الأساس). لماذا نكترث بأي الأديان هو الصحيح ومنشأ الوجود أصلًا، فنبحث عن الفائدة من كل ذلك؟ أما الثانية فهي البحث عن ماهية الحقيقة، فإذا كنت تبحث عن الحقيقة، فيجب أن تعلم جيدًا طبيعة ما تبحث عنه، في حين أن الدرجة الثالثة هي الحاجة لتفسير وجود الكون، وهي جرجة توصلنا إلى مفترق الطرق. بما إن الكون موجود حقًّا، وبما أنه ليس مجرد وهم في عقولنا، فما تفسير وجوده؟ أهو أزلي؟ أم هو ناشئ صدفة؟ أم هو نتاج الطبيعة نفسها؟ أم لوجوده تفسير آخر؟

تأتي الدرجة الرابعة في ضرورة إثبات وجود الخالق (الله)، والإجابة عن التساؤلات التي يمكن أن تثار بين الناس حول نشأة الكون ووجود الله، ثم تأتي لدرجة إثبات وحدانية الله، وأن ذلك نابعٌ من كماله المطلق، فاحتمال تعدد الآلهة نقص، وبالتالي يفسّر لدينا لمَ كانت وحدانية الله ضرورة، لا بد من الإيمان بها.

وهكذا نتدرج في الدرجات واحدة تلو أخرى، لنفكك مقولات نزعة “الربوبية” ونبين أنها ليست موافقةً لحقيقة العبودية لله.

البداية: لماذا نكترث بكل هذا من الأساس؟

إن فرق اللادينيين كثيرة، فمنهم الربوبي، واللاأدري، والملحد المنكر لأي إله كان، واللا مكترث.. وإنك إن نظرت في الأبحاث حول أعداد متبعي الديانات اليوم لوجدت أن أغلب البشر يعتنقون دينًا ما، والأقلية هم من لا يؤمن بالأديان، وإن كان نسبتهم في تصاعد هذه الأيام.

وإنك إذا تركت الحديث عن الأرقام ونزلت إلى الحياة لوجدت العالم كثيرًا من معتنقي الأديان وهم لا يعرفون أيّ معنىً دقيقًا للدين، بل سترى أن أغلبية أتباع كل دين يؤمنون به لأنهم وجدوا آباءهم عليه، فهم ورثوه كما ورثوا عن أهلهم من لغة وثقافة وتقاليد وعرف مجتمعي.

لعل الحقيقة التي لا جدال فيها، هي أن أغلب البشر يتخذون الدنيا دينًا يعتنقونه، فهم يهيمون في حب الدنيا، يشغلهم المأكل والمشرب والملبس والمسكن والبحث عن بقية الملذات العابرة، ولأن المال هو الذي يجلب كل ذلك، فإن شغلهم الشاغل هو تحصيل المزيد من المال.

إن العالم –في ظاهره- متدينٌ، لكن أغلب الناس لا يكترثون لأي فريق كانوا فيه، فهم انتموا لهذا الدين لا عن قناعة، بل عن توارث، وهذه الدنيا التي يهيم بها الناس مغرية، وعروضها ملهية، ولكن تحت العروض هناك كلمة لا يراها أحد رغم أنها مكتوبة، فقدوا إدراكها بسبب حب الدنيا، وهذه الكلمة هي “تطبق الشروط والأحكام” والعرض سارٍ والمال موجود.

إن جوهر تلك الشروط والأحكام هي أن الموت حق، وبالموت سيزول كل أثر لعظمة الدنيا، وسيذهب المال إلى غيرك. بالموت تفنى أنت وتكون نسيًا منسيًّا. والموت لا ميعاد له وأنت تحت رحمة الأقدار أن يؤجل موعده.

والعاقل لا يهرب من حقيقة الموت، ولا يوهم نفسه أن ذكر الموت ضرب من ضروب الكآبة المقيتة والاضطراب النفسي، العاقل من يملأه الفضول ليبحث في الأديان ويعلم أين يكمن الحق، يبحث العاقل في كل ذلك -ولو فضولًا- من باب معرفة مستقبله، هل هناك حياة بعد الموت، أم إن بعد الموت عدم؟ العاقل يبحث ليجيب.

أقلية من البشر هم الذين تجردوا من معتقدات آبائهم وبحثوا عن الحقيقة بكل حيادية وصدق، دون اتباعٍ للهوى أو خضوع للتوارث والضغوطات المجتمعية والثقافة الغالبة.

هذا الانعتاق عن السائد والبحث عن القضية الوجودية الأولى والبحث عن الدين الصحيح وسط الأديان، هو الاكتراث الذي يمكن أن يفسر لنا هذه النزعة، إنه البحث عن اليقين والطمأنينة.

فلماذا تكترث بكل هذا من الأساس؟

إن اكتراثك هو نداء عقلك لتفهم مستقبلك، أما الحمقى، فهم الذين يركنون إلى الباطل ليشبعوا شهواتهم ويرتعوا في حقول الدنيا دون أي شعور بالذنب.

لماذا تكترث؟ لأن قضية الإيمان بالله الوجودية هي الأحق بالاكتراث، وكل قضايا الإنسانية الأخرى أتفه بكثير، بكل تأكيد، ومن هنا تبدأ الرحلة والحكاية.

الإلحاد في سن المراهقة .. أنماط وأشكال

أقتبس في مستهلّ هذا المقال المقولة الآتية: “ما كان من عبارة أبلغ من توصيف مآلات التنوير في الغرب بأنها حداثة ضد الله”[1]، فقد هدفت العلمنة الغربية لنزع السحر عن العالم، إلا أن جموحها في الانفصال عن الوحي وتطرفها في إبعاد شعائر الدين عن السياسة أوصلهم إلى صدّ الناس عن الإيمان، ومن هنا فإن الحديث عن الإلحاد ظاهرةً لا يعقَل أن يُتناوَل إلا مع عصر التمرّد وفرض نزع الإيمان عن دنيا الإنسان.

وها نحن في أيامنا هذه، نرى الإلحاد يتفشّى لا لدواعٍ موضوعيّة وإنما لأسباب عارضة، ومشاكل بشرية خاصة، وعواطف جياشة، ومع انتشار الشبهات وسهولة ترويجها، بات الميل إلى هذا الطريق أيسر مما عداه، زعمًا بأن الإنسان يجد فيه راحته، إلا أنه في الحقيقة المنحدَرُ الذي يؤدي بالمرء إلى تعاسة الحياة الدنيا وسوء المنقلب في الآخرة.

إلحاد التمرّد عند الشباب

يمتزج الصراع الداخلي في دواخل الشباب خلال ما يعرف بفترة المراهقة التي تعدّ في زمننا هذا من أحرج الفترات في حياة الإنسان، ففيها يبدأ الشاب بالشعور بذاته والثقة بنفسه وعقله، فيعتبر آراءه وأحكامه العقلية هي المرجعية التي قرر في ضوئها صواب وخطأ الآخرين، بل ويجعل من نفسه ندًّا للكبار فيتمرد عليهم ويرفض ما لا يروق له من آرائهم وأفكارهم، كما تسيطر عليه الرغبة في الظهور، وقد أفرزت هذه الصفات عدداً من الأنماط الإلحادية، مثل (إلحاد التمرد) حيث يعتبر المراهق نفسه أنه وصل إلى السن الذى يستغني بفهمه للواقع عن كل الناس فكأنه العالم واسع الاطلاع، رغم أنه لم يقرأ سوى بضع صفحات من كتاب، فيرى نفسه مثقفًا يستطيع مجادلة أي شخص وأن يقارن نفسه بالعلماء، بل يمتد هذا التكبر ليصل لمواجهة الذات الإلهية نفسها فيبدأ بنقد بعض الأوامر الإلهية وحكمة الله في الأرض.

إن التمرد من الصفات التي قد تصيب مرحلة المراهقة ولها أسباب متعددة، ومع تطورها يتمرد الشاب على كل شيء حتى الأبوين، ومن أسباب ذلك، عيش المراهق في حالة صراع مستمرة بين مرحلة اللعب وبين التطلع إلى مرحلة الشباب التي تكثر فيها المسؤوليات، وكثرة القيود الاجتماعية التي تحد من حركته، وضعف الاهتمام الأسري بمواهبه وعدم توجيهها الوجهة الصحيحة، وتأنيب الوالدين له أمام إخوته أو أقربائه أو أصدقائه، ومتابعته للأفلام والبرامج الرافضة للدين، وتأثره بالأصدقاء –الحقيقيين والافتراضيين- الذين يدعونه إلى التمرد على القيم الدينية والاجتماعية والعنف.

كما أن كثيرًا من هؤلاء المتمردين على آبائهم يرون في الابتعاد والاستغناء عن الموروثات نمطًا لحياتهم، وهنا يشعر الشاب المتمرد أن حياته سعيدة مستقرة مع الإلحاد، فلماذا يشغل نفسه بقضية الألوهية والدين في الوقت الذى لا يشعر بحاجه إلى الإيمان بها.(1)

وربما كان إلحاد بعض الشباب عائدًا إلى حب الشهرة والظهور، وهنا أستشهد بما كتبه د. عمرو شريف عن قصة لأب أخبره أن ابنه فشل في تحقيق ما حققه أخوته من تفوق في مجال الدراسة، وأخيراً مال إلى الحديث مع الأخرين في قضايا الألوهية، ثم تبنى الإلحاد بشكل كامل، وأنه عندما حاوره وجده فخوراً بأن ذلك جعله حديث المدرسة، طلبتها ومدرسيها، بل وجعله يجلس ويحاور عدداً من العلماء والمفكرين استجابة لوساطة والده أملاً على أن يردوه عن إلحاده.

إن مخالفة أعراف المجتمع ومفاهيمه وقيمه المستقرة هي أيسر الطرق لتحقيق ذيوع الصيت والشهرة بين الأقران والآخرين، ويجسد هذا المعنى موقف ” زكي مبارك” فقد هاجم الإمام الغزالي في رسالته للماجستير التي كان عنوانها “الأخلاق عند الغزالي” وبعد أن صحح مبارك مساره وأدرك قيمة المنهج الإسلامي كتب في مقدمة رسالته للدكتوراه وعنوانها “التصوف الإسلامي” إليك أعتذر أيها الغزالي قصدت مهاجمتك حتى أشتهر، فالشهرة قد تأتى على أكتاف العظماء.

إلحاد التقلبات المزاجية

تمرّ فترة المراهقة بكثير من التقلبات المزاجية، وهذا يؤثر في مدى تمسك المراهق والمراهقة بالقيم الدينية والعقائد الدينية، فلعلّ المراهقَ يتحمس للدين يومًا، وفي يوم آخر تراه فاتر الهمة وقد ذبل حماسه الديني.

إن وقع المراهق أو المراهقة في وقت فتورهما في أيدي بعض الملحدين، فقد يستطيع الملحدون التأثير في عقيدته الدينية بكل سهولة، نظرًا لتقلّباته المزاجية التي يمرّ بها باستمرار. فإذا ما كانت الأسرة واعية لمثل هذه المواقف، فإنها بتديّنها ووعيها تستطيع حماية أبنائها وبناتها من هذه الاحتمالات والمخاطر. وحتى إذا اكتشفت بوادر ميول إلحادية قد بدأت في البزوغ في عقل الابن أو البنت المراهقة، فإنها تستطيع السيطرة عليه بتقديم البراهين المضادة التي تعمل على تثبيت الإيمان وإزالة الإلحاد من ذهنهما.

تعود التقلبات المزاجية لأسباب مختلفة، فقد تكون مشكلة نفسية أو سلوكية خطيرة يعاني منها المراهق مثل الاكتئاب، أو لتعاطيه للمواد المخدرة، أو إصابته بالاضطراب ثنائي القطب، فالمراهقون هم أكثر عرضة للأمراض النفسية ممن سواهم.

إن المراهقة مرحلة لا تخلو من الأزمات النفسية الناجمة عن التغيرات الفيزيولوجية ويرافق التقلبات المزاجية تغييرات فكرية، ويشعر طوال الوقت بالحزن الشديد، ويميل إلى العزلة ويفقد الرغبة أو الحماس لأي نوع من الأنشطة، وهذه التقلبات قد تؤدّي به للتفكير في أفكار انتحارية، وأفكار سيئة أخرى كثيرة مثل الإلحاد، ولذلك يجب على الوالدين معرفة أعراضها وأسبابها وطرق علاجها جيدًا قبل أن تتفاقم.

الإلحاد والحرية المطلقة

يحب المراهق في مرحلة التمرد كل ما يقربه من التحرر والاستقلالية سواء كان من الأوامر أو النواهي، وقد تصل الحرية معه إلى حد مسألة الدين نفسه حتى يصبح إله نفسه، وهنا أقتبس من الدكتور جيفرى لانج أحد الملحدين السابقين ما دوّنه عن تلك المرحلة من حياته في كتابه “الصراع من أجل الإيمان”: “… وهكذا فقد أصبحتُ ملحدًا في سن الثامنة عشرة من عمري، في البدء شعرت بالحرية؛ لقد كنتُ حرًّا لأعيش حياتي الخاصة بي وحدي، ولم يكن لدي ما يدعو للقلق من أجل إرضاء قوة فوق بشرية، وكنتُ فخورًا إلى حد ما بأنني كنتُ أمتلك الجرأة لتحمل مسؤولية وجودي، وأملك زمام نفسي، وكانت رغباتي طوع إرادتي بعيدة عن سيطرة أو مشاركة الكائن الأسمى أو أي شخص آخر، وأنا الذي كنت أقرر لنفسي ما كان خيرًا أو شرًّا أو صوابًا أو خطأ، لقد أصبحت إله نفسي.”(2)

ولكن سرعان ما يرجع المراهق الملحد من هذا التحرر ليجد نفسه أمام الرعب الإلحادي ووحدته القاتلة، يقول جيفرى لانغ: “سرعان ما تعلمت أن لا أحد يعرف الوحدة كالملحد، فعندما يشعر الشخص العادي بالعزلة فإنه يستطيع أن يناجي من خلال أعماق روحه الواحد الأحد الذي يعرفه ويكون بمقدوره أن يشعر بالاستجابة، ولكن الملحد لا يستطيع أن يسمح لنفسه بتلك النعمة؛ لأن عليه أن يسحق هذا الدافع، ويذكر نفسه بسخفها؛ لأن الملحد يكون إله عالمه الخاص به، ولكنه عالم صغير جدًّا؛ فعالمه قد حددته إدراكاته، وهذه الحدود تكون دومًا في تناقص مستمر.. إن المؤمن يمتلك إيمانًا بأشياء تفوق إحساسه وإدراكه، في حين أن الملحد لا يستطيع حتى الثقة بتلك الأشياء، وعنده ليس هناك من شيء حقيقي تقريبًا، ولا حتى الحقيقة ذاتها.. إن هدف الملحد الأسمى ليس الذهاب للجنة، بل أن يذكره الناس.. لا شيء يشبع حاجات الملحد؛ لأن عقيدته تخبره أنه ليس هناك شيء كامل أو شيء مطلق.. وأدركت بجدية قاسية أن عالمي أصبح سجنًا أو مكانًا لأختبئ فيه، ولكنني لم أكن لأعلم ممَ كنت أحاول الهرب، حقًّا إنه ليس من السهل أبدًا أن تصبحَ إلهًا”(3)

بكل تأكيد فإن هذه الأنماط ليست الوحيدة، فثمة أنماط أخرى، كأن يتجه الشخص للإلحاد بسبب ما يعرف بمعضلة الشر –أخي هادي نضع هنا مقال معضلة الشر التي في موقع السبيل– أو رغبة منه في تجربة شيء جديد، وهذا النمط من الشباب تراه علمانيًّا في يومٍ ومعتنقًا لعلوم الطاقة وروافدها في يومٍ آخر، أو يكون متزمّتًا في يوم، متساهلاً في أيام أخرى، وهكذا دواليك.

في الختام، فإنه يجب التنويه إلى أن الضعف المعرفي بالدين من أخطر الأسباب التي تقود المراهقين إلى الإلحاد، فقد أكدت دراسة تم تطبيقها على عينة من المراهقين لمعرفة أسباب الأفكار الهدامة للدين كالإلحاد واللا دينية واللا أدرية وكانت النتيجة أن قلة المعرفة الدينية لدى المراهقين في الترتيب الأول وبلغ (84.79%)، وجاء في المرتبة الثانية قلة الكتب التي تواجه هذه الأفكار –بحسب أقوالهم- وبلغت نسبة (71.41%) وحصلت على الترتيب الثاني من جملة الأسباب[2].

يجب على الأهالي أن يهتموا لصحة أبنائهم النفسية وأن يتابعوا أحوالهم الإيمانية بالتأسيس بدايةً من خلال الحرص على تعليمهم مبادئ الدين وعلومه الشرعية بشكل متزنٍ وراسخ، إضافة إلى تهيئتهم نفسيًّا لمواجهة شبه الإلحاد ومنحهم الآلية التي تكشف عن تهافت تلك الشبه، سواء من خلال المناقشات البنّاءة أو إرسال الإشارات الواضحة في نقدها من خلال تبادل الأحاديث أو من خلال دفعهم للقراءة المنهجية التي تراعي حالتهم النفسية.


[1] محمود حيدر، تقديم للعدد السابع من مجلة الاستغراب.

(1)  عمرو شريف. وهم الإلحاد، مرجع سابق، ص ص 136-140

(2) “الصراع من أجل الإيمان ص 24-25”

(3) الصراع من أجل الإيمان ص25-27″

[2] سوسن محمد الشاملى سليم، دور البرامج الدينية العلمية في مواجهة الأفكار الهدامة للدين لدى المراهقين، كلية الدراسات العليا للطفولة، قسم الإعلام وثقافة الأطفال، جامعة عين شمس.

أمسِك عليك نفسك ودينك!

ما كان لله سبحانه وتعالى بعد أن خلق عباده وصورهم وكرمهم ورزقهم أن يتركهم في تيه أو حيرة من خلقهم، أو أن يتركهم عُميًا عن نفوسهم التي ستكون لصيقة بهم طوال رحلتهم، وإنما بيّن لهم هذه النفس، وفصّل لهم أحوالها وآمالها وضعفها، وكذا عرّفهم أن هذه النفس قد تلتزم طريق الله فتسعد، أو أن تحيد عنه فتشقى. فكانوا على معرفة بها وبطريق هدايتها، والأدوات التي ستساعدها على التزام هذا الطريق، فالله سبحانه يقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس، ٧]، {وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَيْنِ} [البلد، ١٠]، والذي سواها سبحانه وتعالى وهو أعلم بها منها، وألهمها فجورها وتقواها، وخلق فيها القدرة على إتيان ما تشاء منهما، وأن تسلك أي النجدين تريد، قد قرر لها دِينا تتنزل منه شرائع متتالية بحسب الزمان والمكان.

البحث عن الحق

إن من مقاصد الشرائع الربانية ورسالات الأنبياء أن تَعْلم النفوس الخير فتطلبه، والشر فتحيد عنه، وأن تقف على عوامل التزكية والتقوى فتسعى لملء كيانها بها، وتقوم على سياسة النفس الإنسانية وترويضها، لئلا تطغى وتُجرم في حق نفسها أو في حق غيرها، فإن لم تتهذّب الأنفس بترغيب في الثواب، هُذبت بتخويف من العقاب، وإن لم يُجْدِ التخويف بعذاب الآخرة، عوقبت في الدنيا بما يزجرها ويمنعها عن تكرار الخطأ.

فإذا رفضت النفس الالتزام بالدين الذي يضبط أفعالها وأقوالها، ويأخذ بفطرتها إلى حيث تنفع وتنتفع، ويحد من جموحها ويهذب نياتها وإرادتها، ويحدد لها أهدافا عالية، تترفع بها وتمتاز عن غيرها من المخلوقات، اضطرت في أحسن الأحوال إلى تقنين قوانين تحاول بها ضبط معيشتها، وتنزلها منزلة المأمور المطيع، فما خلق العبد إلا ليكون في ميدان الامتحان، مطيعًا ساعيًا للخلاص في أدنى المراتب، وطالبًا للتميّز والقرب في أعلاها، فإذا حاول العبد أن يتملّص من عبوديته لله، فإن خلاصه من هذه العبودية لن يكون بالإنكار أو السعي للتملّص كما يظن، إذ إن الإنسان لن يجد بُدًّا من العبودية لشيء ما آخر غير الله الخالق، طوعًا أو كرها، إذ إن هذا ما جُبل عليه الإنسان، فإما أن يكون مخبِتًا لله، أو أن تستعبده تفاصيل أخرى في هذا الوجود، وما أكثر ما يستعبد الإنسان في هذه الدنيا.

يقول الله سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم، ٣٠]. ومما ورد في تفسير هذه الآية ما ذكره الطبري في تفسيره بأن الله ينادي النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسدد وجهه نحو الوجه الذي وجهه إليه ربه ليكون رهن إشارته وطاعته، ومدار ذلك كله هو (الدين)، {حَنِيفًا} مستقيمًا لدينه وطاعته. {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، أي صنعة الله التي خلق الناس عليها، أي أن الله يقول للنبي صلى الله عليه وسلم أقم وجهك للدين حنيفا فإن الله فطر الناس على ذلك فطرة وجعلها في أصل تكوينهم.

{ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، إن إقامتك وجهك للدين حنيفا غير مغير ولا مبدل هو الدين القويم المستقيم الذي لا عوج فيه عن الاستقامة، {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، بأن الدين القيّم هو الدين الحق دون سائر الأديان غيره [جامع البيان عن تأويل آي القران، ج٦، ١٠٤].

ضبط أوتار الحياة

لنسأل أنفسنا، لو لم تكن هناك رسالات من الله إلى البشر، ولو لم يكن هناك أنبياء يبلّغون ما آتاهم الله للناس، فكيف ستكون أحوالهم وعباداتهم وعاداتهم؟

إن الناس بالرغم من وجود الرسل عاندوا وضلّوا وأضلوا، وسيكون حالهم بدون الدين أشد وأدهى، إذ سيكون تعاطي النفس البشرية مع المُجريات والظواهر حولها إما بضعف شديد أو بفجور شديد، وضعفها ينبع من هامشيتها في هذه الحال وعدم استنادها إلى منهاجها الذي قرره الله لتكتسب به القوة، فتكون منفعلة ومتأثرة على الدوام، بلا أثر ولا تأثير. ويكون فجورها نتيجة لأناها الكبيرة التي لا تعرف طريقا غير إرضاء شهواتها، فتفسد في الأرض وتقرر منهاجها الخاص الذي لا يرتضي إلا بالإنسان حكما وحاكما، ما يراه صوابا فهو الصواب وما يراه خطأً فهو الخطأ، وهذه هي بداية تشويه الفطرة والإفساد في الأرض.

إن خير دليل على ذلك، ما يُرى في أخلاقيات الإلحاد والملحدين ونزعات الإنسانوية المتطرفة وغيرها من انحرافات الإنسان عن هدي ربه، فكلها فضفاضة مائعة، تشكل الخير والشر والصواب والخطأ حسب رؤية الإنسان المتغيرة باستمرار بما يطوّع للإنسان تحقيق شهواته، ووضعه في المركز بعيدًا عن أي قبس إلهي، وهكذا فإن غياب الدين من حياة الناس يحط بهم إلى أسفل دركات الانحطاط، فلا هم يحيون الحياة على مراد الله، ولا هم يحيونها على مرادهم، فأي خير في ذلك؟

 

كيف يُروج للإلحاد في الرسوم المتحركة والألعاب الإلكترونية؟

تعيش المجتمعات الإسلامية حاليّاً مرحلة من الانفتاح غير المنظّم على كل التقنيات الحديثة، مما أدّى إلى إحداث فوضى والاختراق الفكري في عقول الجيل المسلمين، ولم يترك الملحدون وسيلة يمكن أن تصل إلى المسلمين إلا واستغلوها لبثّ أقوالهم وأفكارهم فيها، حتى إنك تراها في الألعاب الإلكترونية والتطبيقات الرقميّة وغيرها من الوسائل، مما يظهر أن هناك مجهودات كبيرة في تصميمها، والملايين من الدولارات المخصصة لترويجها، وهذا يظهر أن شبكات الإلحاد مستعدة لصرف الملايين لحرف الناس والترويج لأفكارهم.

الألعاب الإلكترونية والترويج للباطل

 اتجه الملاحدة إلى بث فكرهم في الألعاب عن طريق وضع رسائل مشفرة وخفية بها، ومن هذه الألعاب لعبة Assassin’s Creed التي تعني عقيدة القتلة، وقد اتخذ مروّجو اللعبة شعار حرف (A) الذي هو في الوقت ذاته شعار الإلحاد، كما أن اللعبة تحتوي في داخلها على العديد من العبارات التي تروّج لإبطال الدين والإيمان بالمطلق، مثل “عندما ينشغل الناس بالحقيقة فتذكر دائمًا أنه لا توجد حقيقة”،  ومثل عبارة “عندما يقيّد الناس بالأخلاق والشرائع تذكر دائمًا أن كل شيء مباح”.

شعار إحدى الألعاب الإلكترونية

بنيت هذه اللعبة على تفاصيل ومراحل كثيرة، وفي أحد أجزائها تدور الأحداث حول “تفاحة عدن” حيث يقصَد بها شيفرة حرية الإرادة، وبالسيطرة عليها تستطيع السيطرة على عقول البشر،  تدور المنافسة بين طرفين هم القَتلة وفرسان المعبد،  حيث يحرس القتلة التفاحة ويمنعون فرسان الهيكل من الحصول عليها بهدف الحفاظ على حرية إرادة البشر.

إن المسألة هنا لم تعد مسألة تسلية وإنما تجلٍّ للصراع بين المؤمنين بحرية الإرادة وبين من يرى الإنسان خاضعًا للتفاعلات الكيميائية، وهذه المشكلة بحد ذاتها معضلة فلسفية كبيرة عند الملحدين والماديين، فهم ينفون للإنسان حرية الإرادة، إلا أن الإرادة الحرة في هذه اللعبة ليست إلا “كود جيني” فلو استطاع الإنسان تعديله بالهندسة الوراثية فإنهم –كما يروّجون- سيكونون قادرين على إلغاء حرية الإرادة الإنسانية، لأن حرية الإرادة هي أساس الشر في العالم.

إلى جانب هذه اللعبة نرى أيضًا لعبة Fortnite المليئة بالرسائل الخفيّة، حيث يمارسها اللاعب لساعات طوال يختلي فيها مع أشخاص يحادثهم حيث يروّجون لأفكار الإلحاد، فضلاً عن الترويج لبعض العقائد الوثنية القديمة كرقصة عُبّاد الشمس. 

الألعاب والحض على التأليه

  وقد ظهرت في الآونة الأخيرة ألعاب أخرى أكثر صراحة في نشر أفكارها الإلحادية دون تلميح كالألعاب السابقة مثل لعبة  Doodle godحيث إن شعار هذه اللعبة مكوّن من مثلث بداخله العين الماسونية، وتنطلق اللعبة من المقولة الآتية “أطلق العنان لإلهك الداخلي وأنشئ الكون”، ومن هنا فإن فكرتها قائمة على تجسيد اللاعب ليكون هو (الإله) الذي يقوم بدور خلق الحيوانات والأدوات والعواصف والبراكين، ولا ريب أن في ممارسة هذه اللعبة حرمة شرعيّة لما فيها من مخاطر كبيرة وتشكيك وانتقاص في حق الذات الإلهية وصفاتها، ولما فيها من انتهاك لحرمات الله، وتبديد لما وقر في نفوس الناس من تمجيد لله تعالى.

  يدخل في الإطار ذاته نشر الكثير من الألعاب التي تدور حول التعظيم إلى درجة التأليه، حيث يحتوي معظمها على كلمة (God) مثل لعبة (إله النور،  وإله الحرب،  واختبار الإله،  وإله الخدع،  وإله المعركة..إلخ) وغيرها الكثير من الألعاب التي تروّج للباطل بشتّى وجوهه،  ولمواجهة هذه الألعاب ومعالجتها لا بد من محاربة الفكرة بالفكرة واللعبة باللعبة، فيتوجب بذلك تصميم ألعاب إلكترونية قادرة على مواجهة الإلحاد وقادرة على غرس العقيدة والتعاليم الصحيحة في عقول الأطفال والشباب،  وتوعيتهم من خطر هذه الألعاب، وحث الوالدين على متابعة أبنائهم عند انشغالهم بالألعاب الإلكترونية.

أفلام الكرتون وحِيَلُ الإلحاد

من الظاهر للعيان أن مروجي الإلحاد لم يتركوا فئة من المجتمع إلا واستهدفوها بخطابهم للترويج للعقائد المنحرفة –كلها أو بعضها- التي يؤمنون بها، مستفيدين بذلك من وسائل الإعلام التي تؤثر في عقول البشر.

لننظر إلى الرسوم المتحركة مليًّا، وسنرى الكثير من الرسائل المشفّرة فيها موجهة لأطفالنا، هدفها أن تفسد عقولهم ودينهم وعقيدتهم التي يجاهد الآباء في غرسها فيهم، إلى جانب المشاهد المخالفة للشرع التي لا يكاد فيلم يخلو منها، حيث يختزن الأطفال العديد من الأفكار والسلوكيات التي يرونها في الذاكرة، وتُحدث تلك المشاهد تراكمات داخلية تظهر بعد ذلك في شكل سلوكيات أو أفكار في وقت لاحق.

أمثلة ونماذج

  من الطبيعي أن تجد الأفكار المناقضة للدين منتشرة في أفلام الكرتون خاصة أن منشأها من بلاد الغرب حيث الانحلال والانفلات الأخلاقي والدعوات المستمرة لإنكار وجود الله، بالرغم من أن كل هذا لا يمثل إشكالًا عند عرضه على أطفالهم، وبالتالي ينشأ الأبناء على قصص وأساطير وصراعات الآلهة، وكل هذا تحت مسمى تنمية خيال الطفل، بل وربما عند موت البطل يبعث مرة أخرى حتى لا يجرح نفسية الطفل وليعزز عامل الإثارة والتشويق.

إن من أخطر ما يتلقاه أبناؤنا من تلك الأفلام ما يكرس النواقض العقدية مثل تكريس الإيمان بالسحر حيث لا يكاد يخلو فيلم من أفلام الكرتون من نوع من السحر، سواء في دور الساحر الشرير المتحكم بمجموعة من الأشرار، أو الساحر الطيب الذي يسخره لفعل الخير، حيث يَلْجَأ إليه لحل المشكلات، ومساعدة الأبطال ومنحهم القدرات الخارقة، ويمكن ذكر أمثلة عديدة على ذلك كأميرات ديزني، وخلطات بابا سنفور التي تعيد الحياة والصحة وتعيد الأوضاع إلى طبيعتها، وكما في مارلن ودورايمون ونوبي،  ودروبي مع دوري مي،  وبن 10،  وأدغال الديجيتال، وصولًا إلى فتيات القوة،  والتي قام البرفيسور بصناعتهن وخلقهن -حسب زعمهم- من تركيبات كيميائية، وهي المعلومة التي يؤكدون عليها ويذكرونها مع كل حلقة من حلقات المسلسل قبل بداية الحلقة.

إضافة إلى ذلك نرى العديد من أفلام الكرتون القائمة على فكرة مصارعة الآلهة، أو تخصيص الإدارة بين الآلهة ليقوم كل إله بإدارة جزء من الكون، وهذه الآلهة -في نظرهم- تُجَسِّم كأشخاص لهم بنية جسدية أكبر، أو نور في السماء، أو حتى أصنام؛ فلا يهم ذلك كله، ويمكن أن يمثل لذلك بكرتون يوجي يوم، والسنافر فلا يكاد يحدث حدث عظيم إلا ويتبعه بابا سنفور بشكر (الأم الطبيعة) على فضلها، ناهيك عن كون وجود آلهة للشر تنظر من السماء لتحرك الأشرار وتقودهم للتدمير والخراب ونشر الفوضى والقتل،  ثم إعادة من قُتل منهم إلى الحياة،  ليكمل دوره في الفساد في الأرض،  كما في مغامرات جاكي شان، ومات هارت، بالإضافة إلى الكثير من الأفلام التي تنشر الكريسماس وللهالوين.

أين الخلل؟

تغيب شعائر الإسلام عن أفلام الكرتون كمشهد الصلاة أو قراءة القرآن أو الحديث الشريف ولذلك نرى أن أفكار الأفلام الكرتونية المنقطعة عن بيئة المسلمين تجرّد الطفل بشكل غير مباشر من كل ما يربطه بالدين، ولن يكتفي أصحاب الأفلام بذلك بل يحاولون تَلويث العقيدة بأساطيرهم التي يملؤون بها عقول الأطفال والتي تختلف مع العقيدة الإسلامية مثل ادِّعائهم تعدد الآلهة والخارقين مثل إله النار وإله الخير وغيرها، وهي بذلك تهدم عند الطفل بعض مفاهيم العقيدة وأساسياتها فتعدد الآلهة يؤثر على فكرة التوحيد.

أما عن الأزياء والحجاب فحدّث ولا حرج، إذ تُعدم تمامًا أية مشاهد لبطلات في أفلام الكرتون ترتدي حجابًا، بل جميعهن يرتدين ملابس غير لائقة لأن ترتديها امرأة، فضلاً عن أن يراها طفل صغير، عدا عن المشاهد المخلة في مقاطع كثيرة كما في فيلم قُبلة الضفدع، وأميرات ديزني، وشريك والأميرة فيونا، والجميلة والوحش.

ما العمل؟

أول المشكلات التي تدفع أولادنا للضياع في وسائل الترفيه تكمن في انشغال الآباء والأمهات في أعمالهم، ومن ثمّ يتجه الأطفال إلى ملء أوقاتهم بوسائل التسلية من كرتون وألعاب إلكترونية وغيرها الكثير من الوسائل التي تكون معهم أمًّا وأبًا بديلين، إضافة إلى ذلك فإن الآباء لا يكادون ينتبهون لنوع المحتوى المقدم إلى أبنائهم، بينما كان من الواجب عليهم أن يتابعوا مضمونها قبل عرضها على أبنائهم، عملا بالواجب الذي تحتمه الأبوة والأمومة فكما يختار الوالدان الأصدقاء الصالحين ذوي الأخلاق الطيبة لأبنائهم ويبعدونهم عن أصدقاء السوء، فمن الواجب عليهم أيضاً اختيار المادة الكرتونية المحافظة على الأخلاق والتعاليم الدينية.  

كما يجب على الوالدين السعي للبحث عن بدائل للتسلية لأطفالهم تناسب أعمارهم، وقدراتهم ومهاراتهم كممارسة الرياضات البدنية والذهنية والبرمجة وأساسيات العلوم والفنون وحفظ القرآن والسُنة، وتعليمهم أصول دينهم.

فإما هذا، وإما أن نستيقظ وقد جالت قطعان الذئاب في الغنم!، وقد استولى مروجي الإلحاد على العقول بشكل كامل.

كذلك يجب على العالم الإسلامي تبني إنتاج مشاريع لمواد كرتونية ذات جودة عالية، وبُعدٍ ديني وقيمي وأخلاقي، وفيها من الإبهار والتشويق والحبكة والتسلية ما يجذب الطفل المسلم إليها، ولذا فإنه لا بد من حل مشكلة نقص الكوادر المؤهلة في إنتاج أفلام الكرتون والألعاب الإلكترونية بجودة عالية، وكذلك فرق إنتاج وإخراج وتصوير أفلام الكرتون وغيرها، ومحاولة تطوير هذا المجال كي نعتمد على إنتاجنا ونكون قادرين على المنافسة مع الإنتاج الغربي، وأيضًا يجب تخصيص مقدّرات مالية أعلى لإنتاج  محتوى عالي الجودة قادر على المنافسة العالمية وقادرة على جذب انتباه الأطفال لمتابعتها.

إن المنصات المنزلية قنوات الأطفال وأدوات الترفيه، لا تقل بحال عن مواقع ومنصات صناعة الوعي، فإذا لم يكن هناك اهتمام لائق بالنشء، فلا تنتظر مستقبلًا أفضل مما نعيشه، فالأطفال أمانة وضعها الله في أعناق آبائهم، وسيُسألون عنها أمام الله. وتركهم فريسة لقنوات الأطفال وأفلام الكرتون يؤدي إلى خلخلة أساسات البناء القيمي والأخلاقي ؛ نظرًا لطبيعة أفلام الكرتون المأخوذة من سياق تاريخي وثقافي وقيمي وديني مختلف.

 

رحلة مع الغزالي في المنقذ من الضلال

يعدّ أبو حامد محمد الغزالي (450- 505 ه) أحد أهم العلماء في تاريخ الإسلام ممن امتدّ تأثيره قرونًا طويلة بعده، وما يزال بأفكاره ومؤلفاته حاضرًا في العالم الإسلامي في مختلف الموضوعات والعلوم، خاصةً العلوم العقلية في جانبي علم الكلام والفلسفة، أو علوم التزكية كالأخلاق والتصوف، أو في الاجتهاد الفقهي والأصولي من خلال دوره في نقل علم أصول الفقه عن المدرسة الشافعية وتطويره فيه.

إنّ المتأمّل لما تركه الغزالي من كتب سيلاحِظ –لا ريبَ- التنوّع الواسع في موضوعات كتبه وعددها الكبير، فلا يوازي كتبه من -حيث الكمّ- سوى عدد قليل من العلماء، إلا أن أهمّ من ذلك الكمّ هو المنهجية التي أوصلت الغزالي إلى اتباع مدرسة التصوّف التربويّ –بعيدًا عن التصوف الوجوديّ الفلسفي الذي يمثّل الحلاج والششتري نماذج راسخة فيه- سبيلًا للجمع بين العقل والقلب، أو ما يعرف في حقل الدراسات الفكرية بـ “البرهان والعرفان”، وذلك بهدف البرهنة على ما يراه حقيقة لا يمكن إدراكها بالعقل بعيدًا عن عيشها بالذوق، فينتصر بذلك للتصوف الملهَم أو الكشف اللدنّي، معتبرًا إياه الغاية من العلوم، والسبيل الذي تنجو به الأقدام من مزالق الضلال؟

لكن كيف حدث ذلك؟

إن كنت قد وصلت في قراءة المقال إلى هذه النقطة، فإني أدعوك لأن تكمل قراءة ما تبقّى منه لتضع يدكَ على أهم مفاصل الرحلة، أقصدُ رحلة الغزالي التي وصلتنا في كتابه المميّز، “المنقذُ من الضلال والموصلُ إلى ذي العزّة والجلال”.

بين يدي الرحلة، إشارة لا بد منها

يرى نيل ديغراس تايسون أن الغزالي كان سببًا في انهيار الحضارة الإسلامية، وذلك من خلال ادعاءات عريضة أولها محاربة “الفلسفة” وليس آخرها افتراؤه على الغزالي بأن “الرياضيات” من عمل الشيطان، ولذا لا بدّ من تحريمها، ومع تحريمها تراجع المسلمون في العلم وتوقفت عجلة الاختراعات.. وبالتالي انهارت الحضارة الإسلامية!. (1)

وأسرد لك ههنا ملاحظة سريعة، وهي أنّ الغزالي رحمه الله لم يحرّم الفلسفة بإطلاقها، بل كان يحرص على التعمّق في كل علمٍ يطّلع عليه، ويدعو لذلك استكمالاً لضرورات المنهج العلمي، وأن الموقف الذي تشدّد فيه الغزالي لم يكن الفلسفة الطبيعيّة “علوم الطبيعة والفيزياء والكيمياء والطبّ” أو التحليليّة “المنطق” و”سائر العلوم الإنسانية” وإنما تشدّد في آراء بعض الفلاسفة التي تناقِض دين الإسلام في صفات الإله وخلق الوجودِ من العدَم، فكان يرى أن أقوال ابن سينا والفارابي في هذه المسائل كفرٌ يخالف شرعَ الله ونصّه..

وهنا أنتهز الفرصة لأؤكّد أن الفلسفة التي يدّعي لفيفٌ من مناهضي الدين أن الغزالي أنهاها لا تدخل في حقل الفلسفة بمنظورهم أصلاً، لأنها في رأيهم داخلةٌ في جملة الأوهام والخرافات، فوقوف الغزالي ضدها يجب أن يحسَب له لا عليه.

إن الأساس الذي يبني هؤلاء موقفهم من الغزالي ليس مضمونَ فكره وإنّما أساسه، فبما أنه أعلى من شأن العقل تحت سطلة النصّ الإلهي فإن ذلك يعني موتًا للعقلانية التي لا تعتمد على النصوصِ، في محاكاةٍ لما كان عليه الحال من صراع بين الكنيسة والعلم في إرهاصات النهضة وما بعدها في أوروبا، وبالتالي فإنهم يتبنّون نموذج الصراع الأوروبي بين “الدين والعلم” ولا ينطلقون في فهم الغزالي وعصره من منطلقات منهجيّة، فهم بكل اختصار يرون أن ما يُعتَبَر تقدّمًا في أوروبا ضروريٌّ ليكون معيارًا للتقدّم في تاريخ المسلمين، وبالتالي فقد أصبح كتاب “تهافت الفلاسفة” ومن قبله “مقاصد الفلاسفة” للإمام الغزالي بالنسبة لهؤلاء محطة مفصلية حقًا؛ ليس لأن الغزاليّ يزاوج فيهما -ببراعة لم يُسبَق إليها- بين منهجيّة الفلسفة ودقة العلم، بل لأنهم يعتبرون التهافتَ النقطة التي بدأ فيها هدمُ انتشار العقائد المشوّهة عن الله جل في علاه بناءً على آراء فلسفيّة مأخوذة من التراث الفلسفيّ اليوناني، وبذلك حُمّل الغزاليُّ وحدَه مسؤولية انحطاط الفكر العلمي العقلاني في الحضارة الإسلامية في هذه العصور اللاحقة –بحسب رأي هؤلاء- دون الوقوف على الأسباب السياسيّة والاجتماعيّة والسياقات التاريخيّة التي أظهرت فيما بعدُ تطوّرات الدول الغربية بفعل الاستعمار وحركة الكشف الجغرافيّة.

محطّات رحلة الغزالي

لا يمكن فهم أيّ مفكّر دون معرفة الظروف التاريخية والسياسيّة والاجتماعيّة التي عاشها وتأثّر بها؛ فالمفكّر ابن عصره، يؤثّر فيها ويتأثر بها، فكيف إن كان هذا المفكّر هو الغزالي، الذي كان له مقامٌ عالٍ لدى هرم الدولة، ونذر نفسه لمتابعة تيّارات الفكر المختلفة وكشف تحريفاتها وفضح الباطل الذي جاءت به.

لقد تميز عصر الغزاليّ باضطرابات سياسيّة ودينيّة وفكريّة حادّة، وكثير من مواقفه وكتبه ارتبطت بما يجري في عصره سواء كانت من صراعات الأسرة السلجوقية، أو تمرّد الحركات الباطنية، بموازاة تعصّب المدارس السُّنّية ومعاداتها فيما بينها، واشتعال الفِتَنِ بين السُّنة وطوائف الشيعة، إلى جانب وقوع أكبر حوادث العصر في زمنه أي انطلاق الحملات الصليبيّة التي ما زالت بعض آثارها مستمرّة حتى اليوم.

يشرح لنا الغزالي، اقتحامه لجّة هذه الأحداث منذ عنفوان شبابه حتى بلوغه الخمسين من العمر، فيتفحّص عقائد الفرق، ويتعمّق في آراء كل طائفة، وكيف لا وهو الذي يقول: “قد كان التعطش إلى إدراك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزةً وفطرةً من الله وُضعتا في جِبِلّتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلّت عني رابطة التقليد، وانكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا” (2)

ولنقف عند شخصيّة الغزالي العميقة، يجب أن نعلم أنه إلى جانب ذكائه الحادّ فقد تتلمذَ على يدِ أهم علماء عصره، وكان من أبرزهم الإمام أبو المعالي الجويني الملقّب بـ “إمام الحرمين”، وقد كانت سعة اطلاعه وشدة ذكائه وشهرته في مناظراته سببًا في أن يوكّله “نظام الملك” وزير الدولة السلجوقية في عهد السلطانين “ألب أرسلان” وابنه “مَلِك شاه” بإدارة المدرسة النظاميّة في نيسابور..

لكن مهلاً، هل ترى أن الغزالي قد وصل إلى مراده؟

شهرة واسعة، وكتبٌ كثيرة، ومديرٌ لمدرسة ضخمةٍ بمقدراتها وأوقافها التي تساوي ميزانية جامعة مرموقة في هذا الزمان، وعلماءُ مرموقون ينتقلون من مختلف البلاد للجلوس بين يديه والسماع منه والعمل في مدرسته، كل هذا وهو لم يتجاوز بعدُ الخامسة والثلاثين، ألا يكفي كلّ هذا الغزاليّ الطَموح ليتوقف عنده..

في حقيقة الأمر فإن هذه الأجواء كانت الباعث لأن يمرّ الغزاليّ بأزمة روحيّة وفكريّة عصفت باستقراره النفسي، وهو في قمّة شهرته وأوج إنتاجه العلمي، وهنا نراه قبيل وفاته بسنوات قليلة –رحمه الله- يبتدرُ الكتابة بطريقة غير معهودة في ذلك العصر، فيسردُ أزمته بشكل أقرب للمذكّرات الشخصيّة والسيرة الذاتيّة بأمانة شديدة في كتابه “المنقذ من الضلال”.

أزمة الغزالي، معالمُ الضياع وخطوات اليقين

لندع الغزالي يقودُ دفّة الحديث، فهو أدرى بما عايشَ ورأى.

يذكر رحمه الله أن منشأ الأزمة جاء من تكرُّر سؤاله نفسه في تصدُّره التدريس، هل ذلك لله أم لغيره؟

نقدّر أن الأمر أخذ وقتًا وصراعًا منه، لكنه في ختام الأمر يقرّ بأن تدريسَه لم يكن خالصًا لوجه الله “بل كان باعثه ومحركه طلب الجاه وانتشار الصيت” وقاده هذا الجواب لأن يشعر بأنه بات “على جرفٍ هارٍ وأنه قد اقترب من النار”

عندما رأى الغزالي هشاشة حياته الروحيّة ترك منصبه المرموق، وانطلق للحج ومن مكّة اتجه إلى بلاد الشام بين دمشق والقدس فيعتزل الناس قرابة 10 سنوات في زاوية صغيرة في الجامع الأموي سنين عديدة، ليخرج من هناك بكتابه وسفره العظيم “إحياء علوم الدين” الذي يعيد قراءة العلوم الإسلامية المختلفة من مدخل روحانيٍّ نقديٍّ لأزمات تلك المرحلة، مبتدئًا الكتاب بالحديث عن العلم منتقدًا فيه علماء الدنيا، ومميّزًا بينهم وبين علماء الآخرة الذين يعتزلون المكاسب الدنيوية وظلّ السلاطين.

كتاب المنقذ من الضلال لصاحبه الغزالي

لا تقف أزمة الغزالي في “المنقذ” عند النطاق الروحي والنوايا الأخلاقية، بل تنتقل إلى أسس الفكر ذاته، فتغدو المسألة أكثر من معضلةٍ شخصيّة وأزمة روحيّة، متحوّلةً إلى هجمة شكٍّ يمكنها أن تهزّ أفكار أرسخ العلماء، فتدفعه لفحص أسس معرفته وعقائده.

هذا ما يذكره الغزالي الذي وصل للشكّ بكلّ شيء، فشكّ في الوجود الخارجي من حوله، وفي صحة الوسائل المستخدمة في العلوم الدينية والفكرية –سابقًا بذلك رينيه ديكارت في الشك بعدة قرون- ليصل بعدَ حوارات مطوّلة مع الذات إلى تأكيد أن العالِم ينطلق بالشك إلى المعرفة اليقينية على ضوء أدلّة العقل والإلهام الإلهي.

لعلّ أجمل ما في حوارات الغزالي صراحتُه، فهو لا يتوقف عند إلقاء الشبهات أمام الأديان الأخرى، بل يواجه نفسه بالشبهات ليبحث عن الحق، فعلى سبيل المثال حين يرى أن تديّن المجتمعات مغروس في أنفس الأطفال بفعل الآباء والأمهات، فإنه لم يتوقف هنا عند ضرب المثل باليهود والنصارى، وإنما ذكر إلى جانبهم المسلمين، لكنه يدعم هذا الاشتباه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه) [أخرجه البخاري] ومن هنا يرى أن التحرك لطلب الحقيقة مغروس في الفطرة الأصلية، وأن حقيقة العقائد العارضة آتٍ عن التقليد سواء للآباء أو المعلّمين وأن الحق يكون في البحث عن اليقين بالدليل.

يتجه الغزالي لعلاج الشكّ من خلال البحث عن حقائق الأمور، فـ “العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنُه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنًا لليقين مقارنة لو تحدّى بإظهار بطلانه – مثلاً – من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً، لم يورث ذلك شكًّا وإنكارًا” (3).

هنا يندفع الغزالي لتفتيش علومه، فكل ما خالف القاعدة السابقة يستبعده واحدًا تلو الآخر حتى يصل إلى نقض معارف الحواسّ وصولاً لبعض أفكار العقل الذي قد يخيّل للإنسان ما ليس بحقيقة كأنه حقيقة كرؤى الأحلام.

استمرت رحلة الشك شهران، إلا أن الغزالي وصل إلى اليقين الذاتي بدءًا من نفسه ثم وجود خالق له بفضلِ “نور قذفه الله تعالى في الصدر” (4)

صفوة القول، إن المنهج الشكي عند الغزالي يرتكز على محورين اثنين في تحقيق اليقين، أولهما، الإلهام الإلهي الذي يخصّ الله به عباده المتقين، وثانيهما: العلمُ اليقيني المبنيّ على الدليل، وهذه القاعدة –أي الثانية- كانت منهج الغزالي في تعلّم العلم، فهو القائل: “علمت يقيناً: أنّه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقفُ على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمَهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيدَ عليه، ويجاوز درجته فيطّلع على ما لم يطّلع عليه صاحب العلم، من غوره وغائله، وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدّعيه من فساده حقًّا”. (5)

رحم الله الغزاليّ وعلماء المسلمين، ونفعنا بهم أجمعين.


الإحالات والمصادر:

(1) نيل ديغراس تايسون، يوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=pYn0uafJP-k

(2) المنقذ من الضلال، أبو حامد الغزالي، تعليق: د. عبد الحليم محمود، دار الكتب الحديثة، د.ت.ن. ط. ص: 110.

(3) المصدر السابق، ص: 111.

(4) المصدر السابق، ص: 115.

(5) المصدر السابق، ص: 126.

قراءة في كتاب “لماذا الدين ضرورة حتمية؟”

تمحورت كثير من كتابات د. هيوستن سميث اللاهوتي الأمريكي وأستاذ الفلسفة وعلم الأديان في عدة جامعات أمريكية، حول الأزمة الروحية الحاضرة لإنسان عصر الحداثة وما بعدها، وقدم في كتب متعددة دراسات نقدية وفلسفية واجتماعية وتاريخية تشرح ملامح تلك الأزمة وما أنتجته من تصور مادي للعالم يقلص وجود الإنسان ويحرمه من كل أبعاده الروحية، وما يتبع ذلك من اختناق روحي وفقدان للأمل وسيطرة للمادية والفردية والاستهلاكية والأنظمة القانونية المتنكرة للقيم الدينية والسياسات الحكومية المجردة من المبادئ الأخلاقية مشبهاً ذلك بنفق مظلم حبس فيه إنسان الحداثة الفاقد للإيمان.

نقصد في المراجعة الآتية التعرض لأحد أهم كتبه، “لماذا الدين ضرورة حتمية”[1]، باحثين عن أهم الأفكار التي نطقت بها كتاباته المدافعة عن الدين في وجه انبعاثات الإلحاد وامتداداته.

من هو د. هيوستن سميث؟
هو أستاذ الفلسفة وعلم الأديان في عدة جامعات أمريكية وصاحب مؤلّف “أديان العالم” أحد أكثر الكتب مبيعا ورواجا في الولايات المتحدة وعدة دول أخرى، وقد دافع في كتاباته ومحاضراته عن ضرورة وجود الدّين في حياة البشرية مؤكّدًا أنه الطريق الحتمي لمواجهة طغيان المادة وانحطاط الأخلاق، وركّز على في كتابه هذا على “بيان روح وحكمة أديان العالم وفلسفتها وجوهرها المشترك، ومخاطر عصر العلم والحداثة في ابتعاده عن الإيمان وخوائه الروحي الذي أغرق الغرب في نفق المادية المظلم وسجن الفردانية والأنانية التعيس.” كما يُلخّص ذلك مترجم الكتاب.

هيوستن سميث كاتب كتاب "لماذا الدين ضرورة حتمية؟"

هيوستن سميث

أعرب المؤلّف عن رفضه الشديد لفكرة انحصار النجاة بالديانة المسيحية التي تتردّد كثيرا في أوساط البروتستانتية، معتبرا إيّاها جهلا ذريعا بحقيقة ما يتضمنه معنى الدين الحقيقي من عُمق روحيّ أصيل، فقد أكسبت دراسة الكاتب للأديان الوضعية والسماوية آفاقًا متعددة في فهم دور الدين وضرورته في مواجهة التيارات المادية في الحضارة المعاصرة

أهمّ أفكار الكتاب:
ينطلق الكتاب من مقولة عالم الأحياء البريطاني “جوليان هوكسلي”[2] حوالي منتصف القرن الماضي أنّه عما: “قريب سيصبح من المستحيل لأي رجل أو امرأة ذكيّ ومتعلّم أن يعتقد بوجود الله كما هو من المستحيل اليوم الاعتقاد بأنّ الأرض مسطّحة” ومن ثمّ يبدأ بتفكيك هذه المقولة، ويؤكّد في سياقاته المختلفة قضية “لماذا الدين ضرورة حتمية؟”.

يشير الكاتب إلى أن الفكر المادي لا يتجاوز النظر فيما هو مادي محسوس إلى ما هو معنوي مُجرّد، وأنه يشبه إلى حدّ بعيد قدرات العقل في مراحل الإنسان الأولى حيث يسهل عليه استيعاب المفاهيم المادية ويصعب عليه إدراك المجرّد والمعنوي، إضافة إلى أن مقولة “جوليان” تتضمن الأفكار الثلاثة التي تقلقه –حسب تحليل مؤلّف الكتاب- وهي: نقد النظرية الداروينية، والاستدلال على أنّ الكون تمّ تصميمه بدقة عظيمة غير متناهية، والقبول بإمكانية أن يتدخّل الله في التاريخ.[3]

في معرض حديثه عن نظرية داروين، يقول الدكتور هوستن سميث: “في الواقع هناك نقاش مشتعل بشراسة بين العلماء أنفسهم حول نظرية دارون، وتغذّي ذلك النّقاش تعليقات مثل: “فريد هويل” المشهور اليوم، الذي يقول إنّ فرصة الاصطفاء الطبيعي لإنتاج إنزيم واحد تماثل فرصة أن يؤدي إعصار يهبّ على فناء صناعة إلى إنتاج طائرة بوينغ747، فنراه وغيره من العلماء متراصّين في دعم الداروينية عندما يظهر الدّين في الصورة.

الحاجة إلى بديل
لا شكّ أننا نحتاج إلى بديل، يحدث المؤلف قارئيه عن توماس تشارلمز الذي كان يلقي خطبه في الكنيسة، فتحدث في إحداها عن حادثة جرت معه عندما كان على متن عربة خيول تسير بهم في طريق جبلي، فعندما وصلت العربة إلى طريق ضيّق على حافة منحدر شديد، بدأ الحوذيّ (سائق العربة) بضرب خيوله بالسوط بشدة، الأمر الذي بدا لـ “تشارلمز” عملا خطيرا، لكن قائد العربة أوضح له أنّه كان عليه فِعْل ذلك ليصرف انتباه الخيول عن الخطر المُحدِق بهم في ذلك الطريق. إنّ لذع السياط جعلتهم ينشغلون بشيء آخر يُفكّرون به.

ينقل هيوستن عن تشارلمز قوله: إنّ الأمر لا يختلف بالنسبة للبشر. إنّ الناس لا يتخلّون أبدا عن عاداتهم المألوفة السيّئة بقوّة العقل ولا بقوة الإرادة، إنّهم يحتاجون إلى شيء جديد يُفكّرون به ويستجيبون له”، يعقب هيوستن في معرض استدلاله عن رأيه بأنه بدلًا من تضييع الوقت في تفنيد نظريات فرويد مثلا، فإنّ في فهم روعة البديل الآخر ما يُغنينا عن ذلك تماما كما فعلت لذعات السياط بالخيول.

بين التصوّر التقليدي والتصور المادي للعالم
هنا يستفيض هيوستن في الحديث عن مساوئ فكرة البديل إذا كان أسوأ من المستعاض عنه: فـ”إذا سعى شخص ما إلى صُنع مصيدة للفئران أفضل من المصائد المتوفّرة حاليا فإنّ هدفه مفهوم ومحترم ولا نملك إلاّ أن نرجو له التوفيق. ولكن إذا سعى أحدنا إلى صُنع مصيدة للفئران أسوأ من الموجود، فإنّ مسعاه قد يحتاج إلى تفسير يُقدّمه لنا طبيب نفساني. إذا نقلنا هذه الاستعارة إلى ساحة الإيمان بالغيبيات، فإنّ المعنى هو التالي: سواء كان التصور التقليدي للعالم حقا أم باطلا فإنّه تصوّر واضح وقابل للفهم على نحو شفّاف. أمّا التصوّر العلمي للعالم فإنّه ليس كذلك، لأنّه طالما أقصى العلة الأولى والنهائية من حسابه مطلقا، فإنّه يضعنا أمام طريق مسدود بشأن أسئلة ليس لديها أي إجابة عنها.” هنا يعلّق المترجم على هذا الكلام شارحا: لدينا تصور قديم للعالم  يعطينا إجابة عن كل شيء. سواء آمن به العلميون أم لم يؤمنوا، لا يحق لهم أن يطالبونا باستبداله إلاّ إذا كانوا بصدد إعطائنا تصورا أفضل منه.

لا يخفى أنّ هدف الكتاب الرئيسي هو تبيين قُصور التفسير المادي العلمي للعالم واقتناع صاحبه أنّ التفسير التقليدي (الديني) للعالم هو التفسير الأصحّ. فقد سعى الكاتب لحشد البراهين والنماذج الشاهدة على صحّة ما ذهب إليه.

فقد شبّه النظرة العلمية المادية للعالم بهذه الصورة في الحكاية الآتية:

تصوّر نفسك في بيت شعبي من طابق واحد في شمال الهند، وأنت أمام شباك زينة يُطلّ على منظر مدهش لجبال الهمالايا؛ إنّ ما فعلته الحداثة، في الواقع، مُشابه تماما لكونك تقوم بإسدال ستارة أمام تلك النافذة حتى مقدار بوصتين فقط فوق عتبتها وأرضيّتها. عندما أُمِيلت أعيُننا نحو الأسفل أصبح كلّ ما يُمكننا أن نراه الآن من الفضاء الخارجي هو الأرض التي بُنيَ عليها البيت.

في تشبيهنا هذا تُمثّل الأرض العالم الماديّ، ولكي نُعطي الأمور حقّها عندما تستحق ذلك بجدارة، نقول: إنّ العلم قد أظهر لنا العالم رائعا جدا بشكل لا يُصدّق. ولكن مع ذلك فإنّ هذا العالم الذي يظهر لنا، ليس جبل ايفريست.

إي إف سكيوماخر (من موقع جودريدز)

في موضع آخر ينقل حكاية عن دليل الحائر للكاتب “إي إف سكيوماخر” تحدث فيها عن تيهه وضلاله الطريق بينما كان يُشاهد معالم مدينة موسكو في العهد الستاليني. وبينما كان يبحث مرتبكا محتارا في خريطته، اقترب منه مرشد سياحي وأشار بأصبعه على الخريطة ليُبيّن له المكان الذي كانا يقفان فيه، فاعترض “سكيوماخر” قائلا:

– “ولكن أين تلك الكنائس الكبيرة التي نراها حولنا؟؟”

– أجابه المرشد السياحي بكل جفاف: “إنّها ليست مبيّنة على هذه الخريطة، نحن لا نُظهر مواضع الكنائس على خرائطنا.”

– “ولكن هذا غير صحيح، إنّ الكنيسة الموجودة هناك في زاوية الشارع، نجدها مُشارا إليها في الخريطة.” أصرّ “سكيوماخر” معترضا.

– أجابه المرشد السياحي: “أوه، هذه كانت كنيسة فيما سبق، أمّا الآن فهي متحف.”

ويُواصل “سكيوماخر” قائلا: حالتنا تشابه هذه القصة تماما. إنّ أغلب الأشياء التي اعتقد بها معظم البشرية، لا تظهر على خريطة الحقيقة التي حَصَلْتُ عليها من تعليمي في جامعة أكسفورد، أو لو ظهر شيء من تلك العقائد على الخريطة فإنّه يظهر كإشارات إلى متاحف، أي إلى أشياء اعتقد بها الجنس البشري في عهد طفولته (قبل أن ينضج)، ثمّ عندما بلغت البشرية سنّ الرشد، لم يَعُد الناس يؤمنون بها (صاروا ينظرون إليها كآثار الأسلاف كما ينظرون لآثار القدماء في المتاحف)” !!

 إنّ الغرض من هذه الحكاية ومن الصورة التي سبقتها: أن نستحضر في أذهاننا حقيقة أن العلم “في عملية إمطارنا بالمنافع المادية والمعرفة الهائلة بالكون المادي الطبيعي “محا وأزال الأمور الفائقة على المادة، من خريطتنا للحقيقة”

عندما ينكر العلماء –الماديون المقتنعون بالمادية- وجود أيّ شيء سوى الأشياء التي يمكنهم أن يُشغّلوا أدواتهم العلمية عليها، يجب أن يُوضّحوا أنّهم إنّما يُعبّرون في هذا الأمر عن آرائهم الشخصية كأيّ شخص آخر، ولا يدّعون حجية العلم في رأيهم هذا. ومن جهة أخرى، يجب على المتديّنين ألاّ يتدخّلوا في العلم طالما كان علما أصيلا لم يُنمّق ويُزخرف بالآراء الفلسفية التي هي من حقّ كل شخص.

ملاحظات وتنويهات عامة
يتألف الكتاب من جزأين وخاتمة ويتضمن كل جزءٍ عدداً من الفصول، أما الفصل الأول فيقدم تمهيداً تاريخياً متبعاً فيه المراحل التاريخية الثلاث التي أوصلتنا للمرحلة الحاضرة، ملقياً الضوء على الإنجازات والإخفاقات في كل عصر، والفصل الثاني يصف الأبعاد الروحية للعالم الذي كان يعيش فيه الناس قبل أن تحولهم القراءة الخاطئة للعلم الحديث إلى النفق المظلم وهي العبارة التي استخدمها المؤلف كاستعارة رئيسة في هذا الكتاب. وصف هذا النفق المظلم وجوانبه الأربعة يحتل الجزء الأول من الكتاب.

أما الجزء الثاني من الكتاب فينظر للمستقبل الذي رمز إليه المؤلف بالنور في آخر النفق، حيث تلامس فصوله الأولى بعض التنبؤات، ثم تستقر على مهمتها الأساسية وهي وصف ميزات ومعالم الرواية الدينية الواسعة الثابتة غير المتغيرة. والاستراتيجية المتبعة هي المعالجة الواضحة والمباشرة.

لعل مما يلفت انتباه القارئ العربي في الكتاب هو كثرة استطراد الكاتب في سرد تجاربه الشخصية لأجل توضيح أفكاره ونتائجه التي يُريد الوصول إليها ممّا يجعل الفهم سهلا في بعض الأحيان و مستعصيا في أخرى.

يقوم الكتاب على منهج الاستعانة بالكتب في معظم الفصول والمباحث التي ألّفها؛ فيختار لكل فصل كتابا يدعم فكرته ومن خلال مناقشته للكتاب يُوصل رأيه بسهولة ويُسر. فهو يُضفي على النص ثراءً ويعرّف القارئ بعناوين جديدة.

تحدّث الكاتب كذلك عن مساهمة الإعلام والتعليم الجامعي والقانون في تكريس النظرة المادية للعالم، فهذه الفصول من الكتاب تُعطي فكرة مجملة عمّا وصل إليه التفكير في المجتمعات الغربية حول الدين والإيمان، وهي من بين أهم الفصول الواردة في الكتاب.

في خاتمة كتابه توجّه د. سميث بانتقادات، على شكل نداء، للعلميين الذين يعتبرهم مجرّد قلّة قليلة. ذكّرهم في ذلك بعظماء بينهم أفضل منهم يحترمون الدين ويولونه أهمية. فعليهم إذا أن يحترموا الدين كما يحترم المهتمون بالدين العلم موجهًا خطابه لهم “هذه القراءة الخاطئة للعلم هي المسؤول الأوّل والرئيس عن إدخالنا في النفق –أي نفق المادية المظلم-، لأنّها تُقلّل من شأن الفن والدين والحبّ ومعظم الحياة التي نعيشها على نحوٍ مباشر عندما تنكر قدرة تلك العناصر على أن تعطينا أية بصائر، نحتاج إليها لإكمال ما يمُدّنا به العلم. هذا الموقف يُشبه أن نقول إنّ أهمّ ما في الإنسان هيكله العظمي كما يظهر على لوحة الأشعّة السينيّة !. إنّ خروجنا من النفق يتطلّب من العلم أن يُشارك في مشروع المعرفة مع سائر المناهج والطرق المعرفيّة الأخرى بدرجة متساوية لا سيما مشاركته منهج المعرفة الذي يتّبعه “طالبو الله”.


[1]  الكتاب من ترجمة د. سعد رستم وقد ترجمه ترجمة رفيعة وأثراه بإضافة الهوامش والتعليقات الجانبية التي تسهّل على القارئ العربي عملية الاستيعاب والتعرّف على أسماء جديدة، وقد نشرت الكتاب دار الجسور الثقافية، سوريا.ط1، 2005.

[2]  جوليان هوكسلي(1887-1975) عالم أحياء بريطاني اشتهر بإيضاحه المفاهيم العلمية لعامة الناس، متخرّج من جامعة اكسفورد.

[3]   د.هوستن سميث: مصدر سابق، ص103.

الإلحاد بين القديم والجديد

كانت العقائد الدينية المنزّلة السليمة – وحتى المحرّفة- ذات دلالة واضحة وكافية على وجود بارئ للكون والإنسان، إلّا أنّ انغماس النّفوس الضعيفة في الترويج للباطل يحثّ الناس على التشبّث بروح التّمرد على الدين، مما يزيد حجم مخالفة البشرية لنداء فطرتها، ويسهم في ازدياد الإعراض عن آيات الله في كونه وجحده خالقًا بارئًا، مما يفسّر جزءًا من ظهور الملاحدة في كل عصر ينادون بأفكارهم الشّاذة والترويج لآرائهم المناقضة للمنطق، وممانعة الحقّ بإنكار وجود الله عزّ وجل والعمى عن رؤية آياته.

لقد أنزل الله عزّ وجل آياته تدعو إلى الحق، وسخّر رجالاً في كلّ عصر يحملون لواء الدفاع عن دينه، ويصدّون أفكار المتمرّدين على رسالات الأنبياء بالحكمة والموعظة الحسنة، منعًا لانتشار تُرّهاتهم بين الناس، وإيقافًا لتسرّب ضلالاتهم فتعمل على إفساد إيمانهم.

الإلحاد بين الصعود والخفوت
إذا أردنا أن نعود إلى أصل نشأة الإلحاد في البشرية، فإننا نجد أنّ المشكلات التي يواجهها الإنسان على مرّ العصور لطالما كانت تأخذ طابعاً أخلاقياً ينمّ عن وجود خلل عقدي في النفس البشرية، والإلحاد مشكلة عقدية من أعظم المشكلات التي واجهها العالم قديماً، ومازال يواجهها في العصر الحديث، وهو السبب الرئيس لجميع المشكلات الأخرى والاضطرابات التي تواجه العالم، ولم يستطع التقدّم الحضاري أن يجد حلاًّ نهائيا لهذه المشكلة، وقد كان للإسلام دور عظيم في معالجتها، فقد اعترف القرآن الكريم بوجود الدهريين وأمر المسلمين بحوارهم والردّ على شبهاتهم ، وسجّل صوراً من جدلهم فقال: {وقالوا ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموتُ ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدّهرُ ومالهم بذلك من علمٍ إن هم إلا يظنّون* وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات ما كان حجّتهم إلاّ أن قالوا ائتوا بآياتنا إن كنتم صادقين}[ الجاثية: 24-25].

وقد سبقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أفكار وفلسفات إلحادية، تَمثّلها من افترى التناقض بين الدين والفلسفة والعلم والعقل، وتطوّرت الأفكار الإلحادية مع الزمن إلى أن تبلورت بشكل مختلف تماماً عن حالها الأول، حيث أنشئت منظمات ومؤسّسات وجمعيات ومنتديات تجمع مفكّري الإلحادي تحت  مسمّى مذاهب وتيارات، وتبنّت الإلحاد دول عظمى –كالاتحاد السوفييتي المنحلّ- حرمت رعاياها من اقتناء أيّ كتاب مقدّس، وعدّت كل من اقتناها مجرماً يعاقَب قانونًا، مما جعل الملحدين يأخذون نفساً في كل مصرٍ وقطر، ويحاربون الدين باسم العلم ومن ورائهم دولٌ ومؤسسات ترعى حقوقهم.

شعار الاتحاد السوفييتي متبني الإلحاد

وها نحن نرى اليوم أن ملفّ الإلحاد لم يطوَ كاملاً، بل يلاحَظ أن حضوره يتصاعد وأن انتشاره يزداد منذ ركوب رجالاته وداعميه ثورة التكنولوجيا الرقمية وانتشار شبكات التواصل واستغلالهم أزمات البشرية وكوارث العالم للدعوة إليه وتشويه مبدأ التديّن والإيمان بالغيب تحت غطاء العقلانية.

دعاوى قاصرة حول الإلحاد
تواجه المجتمعات تحدّي انتشار ظاهرة الإلحاد اليوم، ويعود سبب كبير لهذه الظاهرة إلى غياب اهتمام أكثر المفكرين والعلماء عن إدراك أغلب المستجدات حيال هذا الملف؛ بل إن كثيراً منهم لا يكاد يخرج تصوّره عن واقع الإلحاد اليوم عن أحد تصورين:

الأول منهما يتلخص في القول: إن الإلحاد ما هو إلا مشهد استثنائي في البشرية وشذوذ نفسي، وأنه قلّما نجد ملحداً في مجموع الجنس البشري، فهم –برأيهم- قلة ضئيلة لا تكاد تذكر نسبتهم إلى مجموع البشر، وقد يسانَد هذا القول ببعض المقولات التراثية؛ كمقولة الإمام الشهرستاني: “أما تعطيل العالم عن الصانع العليم القادر الحكيم فلست أراها مقالة، ولا عرفت عليها صاحب مقالة، إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدّهرية”.

أما التّصور الثاني: فيقول إنّ الإلحاد ما هو إلا حالة اقترنت في العهد القريب بالحالة الشيوعية، ففي الوقت الذي تمددّت فيه الظاهرة الشيوعية تمددت فيه الظاهرة الإلحادية، وحين تقلصت الشيوعية تقلّص الإلحاد، وبالتالي يستغرب أصحاب هذا الوصف الاهتمام بملف الإلحاد في هذا الوقت الذي انحسرت فيه ظاهرة الشيوعية منذ سنوات.

وللإنصاف فإنّ الدول التي تحللت من قبضة الشيوعية شهدت عودة كبيرة للتدين وترك الإلحاد، ولكن دولًا أخرى شهدت تمدُّدًا وتصاعدًا في ظاهرة الإلحاد، وهذه الموجة تستدعي رصدها وتسليط الضوء عليها للحدّ من انتشارها، كما أن هذا التصور لا يمكن قبوله بشكلٍ مطلق إذا ما نظرنا إلى الإلحاد ببعدها التاريخي، إذ إنه موجود قبل وجود الشيوعية في الواقع وبعدها.

الإلحاد في الغرب قديماً وحديثاً
لقد كان الإلحاد عند الغرب ناتجاً عن سيطرة الفكر المادّي، ومع إقرارنا بأنّه لا تعارض بين الكشوفات العلمية وقضية الوجود الإلهي، إلا أن الإلحاد استقطب قطاعاً عريضاً من الفلاسفة والمفكّرين الغربيّين وشرائح من الجماهير منذ الجاهليّة اليونانيّة إلى العصر الذي نعيش فيه، ويعيد دارسو الفلسفة القديمة ظاهرة الإلحاد إلى الفيلسوف اليوناني ديموقريطس (460 -370 ق م) الذي أعاد تولد العوالم وموتها إلى الضرورة والصيرورة، دون أن تحتاج إلى خلق الإله لها، ولعلنا نجد أهميته بوصف كارل ماركس (1818-1883م) له، فهو أوّل عقل موسوعي بين اليونانيّين –بتعبيره-، أما لينين (1870-1924م): فيرى أنّه ألمع دعاة المادّيّة في العالم القديم.

كارل ماركس متبني الإلحاد

كارل ماركس

 لقد صار –الإلحاد- مع تطوّر الحضارة الغربيّة مذهباً فلسفيّاً، وبلغ ذروته مع الماركسيّة بمادّيتها الجدليّة والتاريخيّة التي هيمنت على أحزاب وحكومات ومجتمعات مثّلت أكبر ظواهر الإلحاد في التّاريخ الإنساني، إلى أن جاء سقوطها المدوّي أوائل العقد الأخير من القرن العشرين.

ولا يُنكر بحال من الأحوال بأنّ ولادة الإلحاد في الغرب كانت أقدم من الكنيسة، إلا أنه انتشر بشكل واضح وعلني بعد أن وضعت الكنيسة قيودها على عقول الشعب، وأحكمت علهم الضغوطات الدينية، ففي منتصف القرن الثامن عشر وحتى بداية القرن التاسع عشر أصبح الإلحاد منهجاً وفلسفة يُبشّر بها على أيدي فلاسفة مختلفين بدؤوا بتحليل الظواهر العلمية والنفسية والاجتماعية بطريقة جديدة لا دور للخالق في هذه الظواهر.

ومع القرن العشرين انتشرت الفلسفات الوضعية التي يعدّ أوجست كونت (ت:1857م) المؤسّس الأول لها، فهي تتعامل مع الظواهر والوقائع المادية فقط وتتبنى شعار (ما لا يمكن رصده، لا وجود له) رافضة كل تفكير في الغيبيات وعلى رأسها الإله.

إلحاد متنامٍ بين الواقع والأسباب
لا بد من الإشارة إلى أنّ كثيرًا ممن ألحد من شباب العرب وشيبها في العقود الأخيرة لم يكن عن نتاج بحث وطول نقد وتفكير، وإنما انجرارًا مع التيّار أو ضياعًا مؤكّدًا لمن لا أساس علمي له أمام الشبهات الملقاة عليه، فالإلحاد المتصاعد لدى كثير من شباب العرب اليوم بعيد كلّ البعد عن دعاوى العقل والبحث، لأنه لم ينبع منهما بكل بساطة، وإنما كان مرآة لتقليد الغرب وانكسارًا أمام الشبهات.

عودة على وصف الإلحاد بأنه قليل وأهله “شرذمة” كما ورد في كلام الإمام الشهرستاني، إلا أنه لا يمكن القبول بهذا الوصف عن الإلحاد في المرحلة التاريخية القديمة له، إذ إن الواقع العقدي الذي نشهده اليوم مختلف تماماً عن واقع هذه المقولة، فانتشار الإلحاد في العالمَين الغربي والعربي واتساع خارطته يشي بأن أهله يزدادون وأنشطتهم تتصاعد وتأثيرهم ينمو في الواقع، فبحسب كتاب حقائق العالم الصادر عن CIA فإن نسبة معتنقي الإلحاد تجاوز 2،01%من مجموع الجنس البشري، ويمثل اللادينيون 9،66% وذلك بحسب إحصائية صدرت عام 2010م، هذا وفي الوقت الذي يمثّل فيه اليهود 0،22% فقط من مجموع البشر.

أما بالنسبة للعالم العربي فقد كانت نتائج الإحصائيات مخيفة بحسب ما أعلن معهد غالوب الدولي عام 2012م، بعد أن أجرى استطلاعًا في عدد من الدول العربية شمل ألوفًا من مختلف شرائح الشباب في هذه المجتمعات، أوضح أن نسبة الملحدين قاربت 6%من سكان المملكة العربية السعودية لتكون بذلك أول بلد عربي يتجاوز الإلحاد فيه نسبة 5% مقابل 75%من المتدينين و19% ممن يرون أنفسهم غير متدينين.

وبطبيعة الحال فإنّ هذه الأرقام تقفز سريعاً وبشكل كبير في أيامنا الحالية في عصر الانفتاح الالكتروني وتبادل الأخبار والعلوم والأفكار بسرعة لم يكن العقل الإنساني يتخيلها. إلا أن هذه الأرقام تؤكد بدورها أن ثمّة تغيراً كبيراً في طبيعة التوزيع الديموغرافي للملاحدة اليوم، وأن الإلحاد لم يعد تلك الحالة الشاذة في المشهد العقدي.

إن من أبرز الأسباب التي ساعدت في انتشار الإلحاد في تلك الفترة هي الظروف السياسية والاجتماعية، التي أودت بالشباب إلى إنكار وجود مدبر لهذا الكون، أو منشئ له، والمتهم هو الإسلام كما يدعي الفكر الإلحادي العربي، وعلى رأسهم من اتبع ايديولوجيات غربية إلى حد الماركسية، أو القلّة منهم التي قلدت الفئة الوجودية.

إنّ الإلحاد موجود بين البشر وليس بغريب عنهم؛ فهو ظاهرة قديمة متجددة تنمو تتطور بواقع الحال، ويجب أن نقرّ بوجودها إلا أنها حالةٌ غير شرعيّة لروح البشرية، وشذوذ عن الفطرة السليمة، ونشاز في تناغم الإنسان مع مطالب الروح، ولا بدّ من بذل الجهد في البحث عن أسباب هذه الظاهرة ووضع الحلول المناسبة لمكافحتها.


المصادر والمراجع:

  • الله والإلحاد، القس الدكتور أمير ثروت، النشر p t w ، مطبعة سان مارك.
  • الإلحاد في الغرب، رمسيس عوض، سينا للنشر، القاهرة، الانتشار العربي، بيروت ط1،1997م
  • الإلحاد مشكلة نفسيّة، عمرو شريف،ط1 نيوبوك للنشر والتوزيع، القاهرة، 1437ه/2016م
  • نظرات في الفكر الإلحادي الحديث، مشير عون.
  • الإلحاد في العصر الحاضر وموقف العقيدة الإسلامية منه، عبد العزيز المحمدي.
  • الملل والنحل، الشهرستاني، ت: محمد الكيلاني.