مقالات

الإلحاد ومبدأ التشويه

لا يُعَدّ الإلحاد الفرديّ ظاهرة طارئة على الفكر الإنسانيّ، إذ إنّه –بالرغم من ضعف انتشاره بشكلٍ عام في مختلف البلاد الإسلاميّة- موغِلٌ –كنزعات فرديّة- في التاريخ، بخلاف ظاهرة التديّن ذات الطابع الجماعيّ، إلا أنّه في شأنه التاريخيّ قديمٌ كشأن البحث والحديث في الإيمان والألوهيّة.

تتنوّع ركائز الإلحاد –بطبيعة الحال- بتنوّع الرؤى والسياقات والبواعث النفسيّة والاجتماعيّة التي تحيط بالشخص المتوجّه نحو “الإلحاد”، إلا أنه بالرغم من ذلك فإنّ انتشاره ظاهرةً متفشّيةً لم يرصَد تاريخيًّا إلا بالتوازي مع ظروف اجتماعيّة وتشوّهات معنوية ونفسيّة معينة، كما في انتشار ظاهرة الإلحاد والتفلّت من المعنى المطلق إلى النسبيّة المطلقة وظهورها في مدارس أدبية وفكريّة متعددة بالتوازي مع تصاعد الحروب مطلع القرن العشرين وانعكاساتها على الفكر البشري، أو كتسارع الوقوع في الشبهات مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضيّة في قرننا الحالي المتوازية مع الكوارث البشرية والطبيعية في العقدين الأخيرين .

الإلحاد وتشويه اليقين
يلاحَظ من خلال متابعة وفحص مقولات الإلحاد –بما هو موقف معرفيّ رافض للإيمان بوجود إله- وجود سمات مشتركة في خطاب الإلحاد باعتباره عقيدةً للتبرّؤ من الدين والإيمان بالغيبيات، وأبرز هذه السمات هي تشويه مرتكزات الخطاب الإيمانيّ، بدءًا من تشويه مبدأ الألوهية والإيجاد من العدم، مرورًا بتشويه العلم باستغلال منجزاته وتأويلها في سبيل تدعيم الحجج العقلية المتناقضة لرفض الإله وصولاً إلى تشويه الأخلاق والمرجعية الدينيّة المشتركة لها، وذلك في إطار السعي لإضفاء مشروعيّة للإلحادِ، باختراع افتراضات أغرب من الخيال، كفرضية الأكوان اللانهائية.

يبدأ الإلحاد بتشويه الميتافيزيقا والإيمان بالغيبيات، وتوجيه النظر إلى التفكير المادّي، ووصف العالم الطبيعي بأنّه خارج عن نطاق الإيمان، وتشويه البراهين اليقينية لوجود الإله وإدخالها في حيّز الفرضيات، واقتراح بدائل أرضيّة/مادّيّة لها، ثم تدعيم هذه الفرضيّات بالتطبيع والترويج المستمر ليغدو الإيمان بوجود الإله وجهة نظر قابلة للدحضِ لا يقينًا معرفيًّا وروحيًّا، وبالتالي سلب المعرفة أحد أهمّ أسبابها اليقينيّة، أي سلبها القدرة على الترجيح؛ إذ إن اليقين سواءً كان دينيًّا أو علميًّا يستند على البراهين العقلية الخارجة عن نطاق الحسّ ذاته، وبذلك فإن رفضها ونقضها تمهيد لنقض العلم نفسه بنفسه.

لا تقتصر آثار تشويه اليقين عند قضيّة الإيمان بالله، بل يمتدّ الأمر لتشويه الوعي والعمل على صناعة وعي زائف بواقع الحياة ومنظومة العلاقات التي تحكمها، وهذا ما نراه ماثلاً أمامنا من خلال التأثر المتصاعد بالشخصيات “الخطابية” التي تظهر إعلاميًّا منافحة في الندوات عن الإلحاد بالتوازي مع الضخ المنظّم لأفكارهم في المسلسلات والسينما والروايات بهدف تطبيع الأجيال الناشئة معها والوصول إلى مجتمعات ضائعة، مشوّهة الفطرة، خائبة المسعى.

تشويه الأخلاق
حسنًا؛ إن استطاع الإلحاد تشويه العقل وإفساد مبادئه، فالطريق الآن أهوَنُ أمام هدف تشويه سلوك الإنسان، فقد تحطّم أو تخلخل الأساس الذي تستند إليه قِيَم السلوك، بتفريغ الدين من الالتزام بأوامره ونواهيه الأخلاقية، وهو ما نراه جليًّا بإلقاء اللوم في مآسي البشرِ الناتجة عن الحروب والفقر والفساد البشري على مضامين العقائد الدينيّة، وبالتالي دفع الناس إلى بغض الدين وحذف الإيمان بمصدره من سجلّ الحياة، أو دفعه إلى أضيق زواياه في حال كان تحقيق الهدف الأول مستحيلًا.

إن السؤال الذي يفرض نفسه ههنا: في حال إزاحة الدين عن تصورات الفرد، فمن أين –إذن- يستمدّ الإنسان مبادئ تعامله مع الآخر، وطريقة عيشه مع نفسه ومن حوله؟

أَمِن العقل وحده؟ فعقول الناس لا تتناهى ولا تكاد تتفق دون سنَدٍ تنضبط إليه.

أم يُترَكُ الأمر على عواهنه دون مسار واضح فلا يُعلَم من المظلوم ولا الظالم، ولا يعرَف المذنبُ من البريء؟

يقرّ عامّة الملحدين بأن الطبيعة لا تخضع لحتميّة الخير أو الشر، فهي وجودٌ محضٌ محايدٌ لا يبالي بالبشر وتحوّلاتهم، ومن ثمّ فإنّ الإنسان –بحسب كهنوت الإلحاد- ليس إنسانًا أخلاقيًّا بطبعه، وإنما يتشكّل فهمه للعلاقات ومبادئها والأخلاق وآثارها ضمن المجتمع الذي ينشأ فيه.

هذا الادعاء ينطوي على تناقض داخلي يتجلّى بالنظر إلى مقدمة الكلام وخاتمته، فإن كانت الطبيعة أو المادة خالية من ثنائية الخير والشر، غير خاضعة لهما، فكيف يمكن القول بأن مصدر الأخلاق هو المجتمع الذي هو نتاج الطبيعة، فإذا ما كان الإنسان مادّةً أو ناتجًا عن مادّةٍ، فلماذا لا يتشكّل هو الآخر خاليًا عن ثنائية الخير والشر؟

وإذا ما كان مفهوم الأخلاق مستندًا إلى نسبية البشر وأفكارهم المتفاوتة، فإن ذلك يوصلنا إلى أن إصدار حكمٍ بتخطئة جهة ما أمر أقرب إلى الاستحالة، فيستوي نضال مانديلا بتعذيب سجّانيه، وجبروت هتلر بدماء مقتوليه، وهو ما اعترف به ريتشارد دوكنز بقوله: “داخل العالم الإلحادي المادي الحتمي لا يمكن تخطئة هتلر”[1]، ومن هنا نجد أنّ دوكنز يتّسق مع إلحاده ويلتزم بمآلاته، فيرفض صبغ الوجود بأيّ صفة قيميّة على الإطلاق، ففي هذا العالم لا يوجد شرّ ولا يوجد خير، لا يوجد سوى لامبالاة عمياء وعديمة الرّحمة، ويقرّ في الوقت نفسه أنه من العسير جدًّا الدفاع عن الأخلاق المطلقة على أسس غير دينيّة[2].

ما البديل لأخلاق الوحي
إن المصدر المطلق للقيم والأخلاق الدينية هو الوحي أو الرسالة التشريعية العامة التي أنزِلت إلى الأنبياء لهداية البشر، ولذلك فإن القدر المشترك والقيم الثابتة فيها يمكن أن تستغرق التاريخ كله، وتصلح لكل إنسان بصرف النظر عن جنسه وزمانه ومكانه ونوعه، أما مصدر القيم النظرية فهو العقل أو العرف، ومن ثمَّ فإنه لا يستنكَر فيها تغيّرها من مجتمع لآخر ومن إنسان آخر.

وإذا كان الإنسان المؤمن بالإله يرى قوة الإلزام الأخلاقي في الوحي نابعة من وجود الله وإيمانه به، فإنّ قوة الإلزام في القيم البشرية لا تستند لمبدأ العدالة وإنما إلى السياق الذي يفرض نمطًا معينًا من الأفكار والتوجّهات لدى نخبة من الناس، حيث يستندُ الفَرض إلى السلطة من وجه، وإلى القوة من وجوه أخرى.

هذا البديل المشوّه عن “أخلاق الفطرة” ينتج لنا مآسي لا تكاد تنتهي، بدءًا من تشويه الفطرة، وإباحة كلّ شيء –كما يقول دوستويفسكي-[3]، وصولًا إلى عدم التخطئة ودعم الشذوذ وكل ما يمكن فرضه بمنطق القوة، دون استنادٍ للحق أو العدل، وذلك تحت يافطة المساواة التي تصنَّعُ صنعًا في مطابخ التوجيه والترويج والتطبيع.

إن مبادئ الأخلاق من الأمانة والرحمة والصدق والعطف على الضعيف قد أودعها الله في فطرة المرء وغريزته منذ لحظات تكوينه الأولى، ويأتي دور الدين ههنا ليشذّبها ويدعّمها، وهو ما أشار إليه خاتم الأنبياء بقوله: (إنما بعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق) التي هي جزءٌ أصيل من الرسالة الربانية للبشر.

بهذا يتضح لنا أن مصدر الأخلاق إلهيّ؛ لأن الأخلاق ظاهرةً واقعية في الحياة الإنسانية، لا يمكن تفسيرها تفسيرًا عقليًّا، ولعل في هذا الحجّة الأولى والعملية للدين، فالسلوك الأخلاقي إما أنه بلا معنى، وإما أن له معنى في ظل الإيمان بوجود الله، وليس هناك اختيار ثالث. فإما أن نسقط الأخلاق باعتبارها كومة من التعصُّبات، أو أن نُدْخِل في المعادلة قيمةً يمكن أن نسميها الخلود، فإذا توافر شرط الحياة الخالدة، وأن هناك عالماً آخر غير هذا العالم، وأنّ الله موجود، بذلك يكون لسلوك الإنسان الأخلاقي معنىً وتبرير[4]

 ماذا بعد؟
ليس الأمر كما يشيع لدى بعض الناس، فقد يكون الإنسان ملحدًا وصاحب أفعال حسنةٍ وتعامل خلقيٍّ محترم بين الناس، إلا أنّ ذلك لا يستند –بالضرورة- إلى تشريعٍ إلحاديّ للأخلاق، وإنما إلى طَبْعٍ جبِل عليه المرء ذاته، أو إلى مؤثّرات أخرى، إذ إن التخطئة الأخلاقية في بنية الإلحاد أمر غير وارد، وما ينبغي التأكيد عليه هو أن الإلحاد بذاته ليس أخلاقيًّا ولا يمكن أن ينتج منظومة أخلاقيّة عادلة.

يصطدم الإلحاد –على الدوام- بأمرين لا مفرّ منهما، الإيمان بالإله والغيبيات، إضافة إلى رفض التعاليم الأخلاقية في الأديان، وذلك يقتضي هدم الأسس التي بني عليها الأمران، أي عقيدة الإيمان بوجود “الإله” المطلق، وذلك يوصلنا إلى التشويه الكامل لكل ما يمكن أن يجمع البشر.

إن الأصل في طبيعة الوجود الإنساني أنه لا وجود لأي انفصال بين الحياة والدين والأخلاق والواقع عملاً بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162- 163] ومن ثمّ فإنه لا يمكن للوجود الإنساني ومعارفه أن يصل إلى سويّة النضج واليقين إلا باستناده على الإيمان بالخالق الذي أنشأ الوجود، ولا يمكن أن نصل إلى الخلاص الدنيوي إلا باتباع التعاليم الإلهية التي تحدّد لنا الأفق الحضاري الذي يجب أن نتحرّك فيه، وإلا غدا الوجود عبثيًا بانقطاعه عن الصلة بالله.


[1] ينظر الرابط الآتي: https://bit.ly/37GB22J

[2] نقلاً عن: الأخلاق والإلحاد، إسماعيل عرفة، http://midan.aljazeera.net/intellect/philosophy/2017/9/19

[3] إذا لم يكن الإله موجودًا فكل شيء مباح، على لسان “إيفان” الملحة في رواية الإخوة كارمازوف.

[4] ينظر: الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزة بيغوفتش، ص: 178.

تجربة مع الموت: وصايا وعبر (4)

ما مررت به من تجربة مرضية خلال الأيام الأولى[1] وما تضمّنته من اختلاط المشاعر، وتزاحم الخواطر، حيث تمنيت لو أستطيع أن أمسك بكل شعور أو خاطرة وأدوّنها، إلا أنّ شعوري الأساسي الذي تمسّكتُ به وتحدثت عنه كثيرًا هو الشعور بقوة السند الذي آوي إليه، قوة الله عز وجلّ، فقد آويت “إلى ركن شديد”، حتى صرت أنظر إلى الدنيا من قمة عالية، وأشعر بتفاهة ما فيها من لذّات ومتاعٍ زائل، كما جَسَّدَها الباري عز وجل بقوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد:20] ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ [الرعد:26]، ﴿وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:35] ولم تَعد الكلمات تفي وصف بؤس وفقر هذه الحياة الدنيا، خاصة إن انطلق الإنسان من شعوره تخيلوا هذا بالنظر باستخفاف إلى كل ما حوله وكأنه في قمة السماء.

إنّ العبد الذي يلوذ بجناب الله عز وجل يأوي إلى ركن عظيم ذي مَنَعة وعزة وغنىً مطلق، وبذلك فإنه يصبح عبداً ربانياً ﴿وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ [آل عمران:79] فإن مات أو عاش، أو شُفي أو مرض، فإنما هو في قبضة الله عز وجل ومُلْكه، بين يدي عظمته وجبروته، لم يبق ثمة دنيا وآخرة، وموت وحياة، بقي الله عز وجل وحده ﴿وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن:27]، وعبده المدلل المستكين بين يديه، المستسلم لأمره، المستميت أمام عظمته، يبدو كالطفل الضائع الهائم الذي وجد حضن أمه.

الإلحاد وسؤال الموت
حين كان يأتيني الشعور بحال العبد المؤمن بالله عز جل في تلك اللحظات، كنت أتسائل بحال الملحد، ما هو حاله ولمن يلجأ ويلوذ؟ وبمن يستجير في هذه اللحظات الصعبة؟

لا يستطيع الإنسان أن يتكبر ويتنكر في هذه اللحظات، مهما كان متجبراً ومتكبراً، لا بد أن تستيقظ في داخله عبوديتُه شاء أم أبى؟ اختيارا أو اضطرارا، لا بد أن يستيقظ ضعفُه، وتستيقظ هويتُه اليائسة، وتصحو طبيعته البائسة الحزينة، ربما يستطيع أن يستمر في التجاهل والنكران، ولكن إلى متى؟  لن يستطيع الاستمرار، لا بد أن تدمعَ عيناه، وتخورَ قِواه، ويستسلمَ لضعفه، ويبدأ بالبحث عن الملجأ والملاذ، كما قال الله عز وجل: ﴿حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس: 22]

إلى من تلجأ في مثل هذه اللحظات حين يحيط بك الموت أخي الملحد؟

في الإجابة عن هذا السؤال لا بد من التنبيه إلى أن الملاحدة نوعان، نوع متكبرٌ، متجبرٌ متعالٍ على قضية وجود الإله، ومتعالٍ على الحقيقة، فلا يبحث عنها ولا يهتمّ لها أصلًا، بل وضعَ بينه وبين الحقيقة سدًّا من الكبر والطغيان، فنرى بعضهم -لشدة طغيانه- يطلب من الله عز وجل أن يَرميَ به جهنم، وأنه لا يريد معرفة الحقيقة ولا تهمُّه .

ونحن إذا نظرنا في القرآن الكريم سنجد أن هذا النوع من الملاحدة والكفرة المتكبرين هم الذين يُبكِّتهم القرآن ويتوعّدهم، ويتهدّدهم بالعذاب، ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:146] وأنه سبحانه تَوعَّدَهم بالإضلال والخذلان، لأنهم يرفضون البحث عن الحقيقة والقبول بها من حيث المبدأ.

أما النوع الثاني من الملحدين فهم الملاحدة المتواضعون الباحثون عن الحقيقة، الذين يبحثون عن أجوبة شكوكهم واسئلتهم بكل صدق، فتراهم يبحثون عن الله بكل تواضع دون أن تحجزهم الأهواء والمصالح والشهوات، وهؤلاء غالبًا ما يصلون إلى الإيمان بالله عز وجل، وغالباً تنتهي حياتهم بالهداية، وعلى كل الأحوال حتى لو ماتوا وهم يبحثون عن الحقيقة بصدق فإن نرجو من الله عز وجل أن يرحمهم وأن لا يُعذبهم، فَنَكِلُ أمرهم إلى الله عز جل فإنه ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء:23].

هذا النوع من الملحدين هم إخواننا في الإنسانية نرجو لهم الهداية والرشاد، ونرجو من الله عز وجل أن يهديهم، ولو في آخر لحظة من حياتهم، وأن يتوبَ عليهم، ويدخلهم الجنة، فهذا يَسرُّ كل مؤمن، ولا يضيّق علينا في جنة عرضها السماوات والأرض.

لهؤلاء أتوجّه: في لحظات الموت الأخيرة التي لا يبقى فيها إلا الإنسان وهو يواجه مصيره الحتمي والنهائي، ماذا تنتظرون؟ إلى من تلجؤون؟ بمن تستجيرون؟ كل الذين كانوا يحبونكم ويحترمونكم سيقفون بعيداً عنكم، سيقولون: لروحه السلام، أو لروحه الخلود أو غير ذلك ثم ينسونكم؟!

كل الذين أشادوا بكم وبإلحادكم، وأجزلوا لكم الوصاف كلقب المفكر الكبير، والفيلسوف العظيم، والشجاع المتمرّد ضد المعتقدات البالية، أين هم الآن؟

كل هؤلاء انتهى دورهم، وأصبحتم وحدَكم في مواجهة الحقيقة، فماذا أنتم قائلون؟

إن حقيقة الموت تتسامى على كل حقائق الحياة الماديّة، وفي خوضها لا تنفع المكابرة والمغامرة، إذ إن سلطان الموت طائل كل مخلوقات الدنيا، فلا مفر منه. 

ليس العدم هو المصير، فهو نقصٌ لا يليق بمبدأ وجود الإنسان، ولا بعدل الله، وما حبانا الله عز وجل به من نعم ودلائل وبراهين، فكيف يليق العدم إذا ما انتقل العقل إلى رحابةٍ أوسع من التفكير بالكون وعظمته وتاريخه وما يحمله من دلائل وعبر وعقل وعظمة ؟!

العدل والحياة الدنيا
لم يَعِدِ اللهُ عز وجل الإنسانَ في نصوص وحيه بأن الدنيا ستكون دار العدل والخير المطلق، بل جعل ذلك للآخرة ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ [غافر:39] ولمْ يَعِدْ ربنا سبحانه بأن الحياة الدنيا ستكون هي الحياة الحقيقية النهائية بل الآخرة  ﴿ وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت:64] إذن فإن ربنا سبحانه وتعالى منسجم مع رسله وأنبيائه وتعاليمه التي أرسلها لكل رسله وأنبيائه بلا تفريق بينهم، على مدى كل الشعوب والأنبياء والأمم .

ومن ثمّ ندرك ههنا أهميّة وصف الدنيا بأنها دار ابتلاء واختبار وامتحان بكل ما يتضمنه ذلك من قسوة وصعوبة، إذ ربما لا تحتملها العقول والقلوب، أما الآخرة فهي دار الجزاء، دار الكمال والعدل والسعادة المطلقة.

فما يبحث عنه الملحدون ويطمحون إليه من القيم المطلقة كالعدل والسعادة هو عين ما يبحث عنه المؤمنون بالله، إلا أنّ يقيننا وإيماننا يخبرنا أن هذه الأمور سنراها في الدار الآخرة في ضيافة رب العالمين ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54- 55] هناك القضاء العدل والسعادة الأبدية، والشعور بالرضا والطمأنينة:﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الزمر:75] وهناك الكثير من الأشياء التي لا نعلمها والتي لم تخطر لنا على بال ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة:17] وفي الحديث الصحيح : ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )) ([2])

أخي الباحث عن الحقيقة وإن كنت ملحدًا، حتى لا تبقى وحيداً فريداً في مواجهة سلطان الموت، تتلفّت باحثًا عن النجاة والمعنى، باحثاً عن نفسك وإنسانيتك التي أهملتَها وضيَّعتَها، لا تزال هناك فرصة أمامك، فالله عز وجل يريدك، ويمدُّ إليك الخير وحبله المتين لينتشلَك من وهدة الضياع والشرود والضلال، وما عليك إلا تتَمَسَّكْ به وستجد أنك أقوى، وأنك ذلك الإنسان العظيم الذي كان ضائعًا، وأنك وُلدتَ من جديد.

وأختم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ )) ([3])   لو يعلم الملحد كم في هذا الحديث من المعاني التي ترفع من شأنه، وتُعلي من إنسانيته، وتَشُدُّه إلى ربه، لذاب خجلاً من الله عز وجل، وعاد إليه باكياً نادماً جاثياً بين يديه، حاثياً التراب على رأسه .


الهوامش

[1] كتبت هذه الخاطرة في 6/12/2020 –  – الساعة التاسعة ليلا – الأحد. مشفى مدينة كلس التركية

([2]) صحيح البخاري (4/ 118)3244، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة .

([3]) صحيح مسلم (4/ 2104)7 – (2747) ، باب: في الحض على التوبة والفرح بها .

قنيبي والدحيح… أحد وجوه صراع العلمانية والدين

“لقد جاء القرآن بشكل واضح بتأسيس مركزية الآخرة في مقابل مركزية الدنيا هذا الأمر واضح في القرآن.. جاء القرآن ليحول الدنيا من غاية إلى وسيلة”[1].

قبل مدة وجيزة رد الدكتور إياد قنيبي على إحدى حلقات الدحيح التي تتحدث عن فرضية الأكوان المتعددة ووضّح الفكرة الإلحادية في هذا الطرح. وعاد قنيبي مرة أخرى وبيّن بفيديو تفصيلي آخر لما يعرضه برنامج الدحيح من أفكار إلحادية ومادية، ومنذ ذلك الوقت انبرى الكثيرون للهجوم والرد عليه بكل السبل.

في هذا المشهد وما تلاه من ردود أفعال نحن لسنا فقط أمام دكتور جامعي وداعية إسلامي يرد على حلقة لشاب من مروجي pop-science  أو العلوم الشعبية عبر اليوتيوب؛ بل نحن أمام مشهد أوسع واستقطاب أكبر بين تيارين تزداد ملامحهما وضوحاً مع مرور الوقت. فما بين تيار إسلامي متمسك بدينه ويعلم دور العلم فلا يرفعه فوق قدره، ويؤمن بمركزية الآخرة في حياة الإنسان في جميع الجوانب، وبين تيار آخر يغلب عليه الطابع العلماني، وهو خليط يضم أطيافاً عديدة، منها من أعلن إلحاده ومنها من هو على وشك ذلك، ومنها من يعمل على هدم الدين من داخله، ومنها المنهزم حضارياً أمام التفوق المادي للغرب فهو وإن بقي على الإسلام إلا أنه يحاكم الإسلام على القيم الليبرالية والعلمانية مقتطعاً من الإسلام ما يناسب تلك القيم ورافضاً ما سواها بتأويل أو تدليس على الدين. وبين التيارين ربما نجد بعض من يصنفون أنفسهم أنهم حياديون أو غير مكترثين لهذا الصراع بالأصل.

هذا المقال لا يتكلم عن الدكتور قنيبي أو الدحيح بشخصيهما ولا يرد على أحد منهما وطرحه العلمي، وإنما هو عرض لبعض النقاط الرئيسية والملاحظات السريعة عن المشهد الأوسع والذي هو أحد أوجه المعركة المستمرة بين تياري الدين والعلمانية[i].

مسلمون يدافعون عن العلمانية أكثر من أصحابها!
“أين تجد واحداً من غير رجال الدين يقرأ شرحاً أو تفسيراً للكتب الدينية باللغة اللاتينية؟ من منهم يدرس الأناجيل؟ آهٍ. إن كل المسيحيين الشباب الذين يلفتون إليهم الأنظار ببراعتهم لا يعرفون إلا اللغة العربية والأدب العربي.. ولو حدثّهم أحد عن الكتب المسيحية محاولاً إقناعهم بالاحتجاج بها، فأنهم يجيبونه باستخفاف بأن هذه الكتب لا تستحق تقديرهم.  يا للمصيبة؟! نسي المسيحيون حتى لغتهم”.[2] [أسقف قرطبة ألفارو يرثي لوضع المسيحيين وهزيمتهم الحضارية أمام المسلمين في الأندلس].

أليس مستغرباً أن يصطفّ مسلمون للدفاع عن العلمانية أو أن يقفوا على الأقل بين بين؟ أليس مستغرباً أن يكون خطابهم شديداً قاسياً على إخوانهم المسلمين بينما ليناً رخواً أمام العلمانيين بل ومتبنّياً لخطاب العلمانية في بعض الأحيان؟ لكن هذا الاستغراب يقلُ إذا علمنا ما تعنيه الهزيمة الحضارية؛ إنها أسوأ أنواع الهزائم لأنها هزيمة نفسية من الداخل لا يستطيع بعدها من تلقّاها أن يرد كيد عدوه. بل ربما يتحول بعدها مدافعاً عن عدوه ومواجهاً لمن كانوا في الأمس إخوة الدين والعقيدة.

لكن رغم سوداوية هذا المشهد يجب أن ندرك أن هذا الأمر طبيعي، فلطالما تكرّر تقليد المغلوب للغالب. جاء في مقدمة ابن خلدون الفصل الثالث والعشرون:” فصل في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزّيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده؛ والسبب في ذلك أن النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه: إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه؛ أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب”[3].

إذن فالأمر مفهوم إلى حد ما. ولكن ما هو غير مبرر وغير مفهوم أبداً هو حفلات جلد الذات اليومية التي يقوم بها بعض المسلمين أمام التقدم الغربي المادي والتي أقل ما يقال عنها أنها تعبّر عن عقدة نقص فادحة واهتزاز حقيقي في ثقتهم بعقيدتهم ودينهم.

نابليون (ويكيبيديا)

مسلسل الهزيمة الحضارية هذا لم يبدأ الآن بل هو مستمرٌ منذ اليوم الذي رست فيه سفن نابليون في مصر زارعاً فيها بذور العلمانية، والتي أنتجت بعد ذلك مفكّرين وكتاّباً مسلمين هُزموا حضارياً أمام سطوة الغرب وتحولوا لدعاة للقيم العلمانية رغم أنهم يعلمون علم اليقين مصادمتها مع الإسلام.

والآن بعد مرور كل هذه السنين على تلك الحملة المشؤومة ها هي ثمارها أينعت حنظلاً، وها هي قوافل من المسلمين تنتصر للقيم العلمانية.

وإن كان البعض يجد العذر في السابق مع بدايات القرن الماضي لانهزام بعض المفكرين حضارياً أمام الغرب فإن هذا الأمر الآن هو موضع ذمٍ بالفعل، فقد أثبتت الأيام أن التقدم المادي والعلمي ليس حكراً على العقول الغربية وها هي دول شرق آسيا، وأبرزها الصين واليابان، تضاهي التقدم المادي العلمي لدى الغرب، وربما في قادم الأيام ستسبقهم هذه الدول وأولها الصين.

ومن خلال فهم هذا الأمر يسهل استيعاب حقيقة أن للأمم دورات حضارية تعلو فيها وتتقدم ثم ما تلبث أن تتراجع وتنتكس. وعليه فالمسلمون ليسوا مضطرين لتبني عقائد الآخرين بما فيها العلمانية وتقليد طرائق عيشهم كي نلحق بتقدمهم العلمي المادي فلا رابط بين الأمرين.

المظلومية العلمانية وادعاء الإصلاح
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ( [سورة البقرة: 11]

يظن العلماني العربي نفسه غاليليو أو برونو القرن الحادي والعشرين المُضطهد الذي لا يستطيع أن يعبّر عن أفكاره، رغم أن العلمانيين أنفسهم يحتكرون معظم وسائل الإعلام ويبثون فيها ما يريدون ويروجون عبرها للإلحاد والشذوذ والإباحية ويدعون لإبعاد الإسلام عن الحياة العامة بطرق مباشرة وغير مباشرة. لكن رغم هذا هم يحبون دائماً أن يظهروا بمظهر الحمل الوديع أمام الناس، فمن ينشر الأفكار الإلحادية تحت راية العلوم الشعبية يصورونه شاباً مبدعاً وهب نفسه للعلم لا يريد إلا أن يبسّطه للناس، ومن ينكر معلوماً من الدين بالضرورة مستخدماً آيات وأحاديث بتدليس واضح لا يريد إلا النهضة بالمسلمين.

وهكذا يتحول هؤلاء إلى ما يشبه الملائكة الأبرياء وما يفعلونه يصبح إصلاحاً وهداية للمسلمين، وكل من ينتقد أو يتكلم عن حقيقة أفعالهم فهو مؤمن بنظريات المؤامرة ورجعيٌ محتدٌ!

العلمانية والعلموية العربيتان: ما الرابط بينهما؟
“إن جوهر العالمانية هو الانصراف إلى العالم كلياً أو جزئياً، وهذه النزعة المادية لا بد أن تؤدي إلى الانغماس في هذا العالم، مادةً وقوانين حاكمة”[4].

ربما العلمانية من أكثر الألفاظ المختلف على تعريفها منذ نشأتها وكلٌ يعرفها حسب فهمه، ولا يعنينا كثيراً هنا التعريف النظري لها ولكن القضية الجوهرية في العلمانية كما يبدو من سياقاتها عبر التاريخ هي التمركز حول الدنيا أو العالم وإنكار كل أِشكال الغيب أو الميتافيزيقا في حال التطرف العلماني الموصول بالإلحاد، أو على الأقل جعل أمور الغيب أموراً طقوسية ثانوية في حياة البشر لا تدخل في أمور حياتهم السياسية والثقافية والاقتصادية.

في السياق العربي نشأت العلمانية وتمّ الترويج لها مع قدوم الاحتلالات الأجنبية إلى البلدان العربية على أيدي بعض الكتّاب والمفكرين النصارى العرب. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن كان مشروع العلمانية العربية الرئيسي هو تنحية الإسلام عن الحياة العامة في المجتمعات العربية ونقد الإسلام والهجوم عليه بأي طريقة. ولهذا نجد العلمانيين العرب يقفون مع أي إيديولوجيا تناهض الإسلام في المنطقة متبنيين إياها بما فيها الاشتراكية والليبرالية.

أما العلموية -كما يعرّفها روجيه جارودي بعد أن يؤصل إلى أنها نوع من الأصوليات التوتاليتارية (الشمولية)- فهي:” المصادرة القائلة إن (العلم) يمكنه حل المسائل كلها. وإن ما لا يمكن للعلم أن يقيسه ويختبره ويتوقعه، هو شيء غير موجود”[5]، فالعلمويون يقررون أن مصادر المعرفة حسية فقط وأن التجربة هي سبيل المعرفة الوحيد.

في السياق العربي كانت العلموية إحدى ثمار انتشار العلمانية، فالعلمانيون والعلمويون العرب بعضهم أولياء بعض منذ البداية حين أخذت أفكار الفلسفة الوضعية في الانتشار مع بدايات القرن الماضي. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن نجد العلمويين والعلمانيين يتبادلون المواقع في الهجوم على الإسلام، فالعلمويون يمهدون الطريق للأفكار العلمانية الرئيسية، ويكمل العلمانيون الطريق بعدها في الهجوم على الإٍسلام.

إضاءات سريعة

الصورة النمطية للمسلمين على غلاف مجلة نيوزويك

– يحاول العلمانيون صنع صورة نمطية للمسلم على الشاشات وفي عقول الناس، فهو الإرهابي الجاهل الذي يحارب العلوم الدنيوية ويرفضها ويدعو للدروشة والخرافات؛ فكيف بعد هذا يأتي شيوخ إسلاميون تخرّجوا من أفضل الجامعات الغربية ليتحدثوا بأدلة علمية رصينة يردون بها على تشغيبات الملحدين والعلمويين؟ ألا يستدعي هذا نفيراً علمانياً عاماً؟

– بعض الإسلاميين -وعن حسن نية-لا يرون في بعض الخطابات العلموية نشراً للإلحاد، وهؤلاء لا يصح التقريع بهم ووضعهم في التيار المعادي للإسلام أبداً بل يُرد عليهم بالدليل والبرهان. ولكن على هؤلاء أيضاً أن يعلموا أن المختصّ بالأمر يدرك بعض العواقب مما قد لا يتنبه إليها غير المختص. فمن درس الملف الإلحادي وقرأ عن تاريخ الإلحاد لسنوات هو أدرى بطرق نشر الإلحاد من غيره.

– صنع العلمانيون قالباً فكرياً مشوهاً يطبقونه في كل حالات صراعهم مع الإسلاميين؛ فهم يدّعون أن كل إٍسلامي يتحدث بالأدلة عن شخص بأنه يروج لأفكار إلحادية أو علمانية فهذا يستلزم تكفيره تمهيداً لقتله بعد ذلك. وبهذا يظن العلمانيون أنهم من خلال شيطنة الخصم وتشويه صورته ينتصرون عليه.

– عندما يتحدث إسلاميون عن الخلفيات الإيديولوجية لبعض العلماء الغربيين الذين يحاولون إثبات أمور توافق الأيديولوجيا الليبرالية الغربية مثل الشذوذ والداروينية يهب العلمويين العرب مباشرة مؤكدين أن الأفكار المسبقة لا دخل لها في البحث العلمي. ولكن للمفارقة إذا كان المتحدث إسلامياً فهنا لا بد للعلمانيين أن يفرغوا كل حمولتهم الإيديولوجية المعادية للإسلام مستحضرين عقيدة وهوية مخالفهم دون أن يتطرقوا للأدلة العلمية.

– بعض الناس للأسف ينظرون لهذا الصراع بين العلمانية والدين من باب التسلية و”قصف الجبهات”، والأمر ليس هكذا أبداً، إنما هو صراع حق وباطل بل وقضية كل فرد وهدفه في الحياة بين أن يعرف غاية وجوده من خلال دين الإسلام وحقائقه الكبرى وبين أن يضيع في دوامات العلمانية والعدمية والغرق في الدنيا.


الهوامش

[1]  إبراهيم السكران، مآلات الخطاب المدني، دار المعرفة للنشر والتوزيع،2016، ص57

[2] زيجريد هونكه، الله ليس كمثله شيء، المركز القومي للترجمة،2010، ص82-83

[3] عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار نهضة مصر،2017، الجزء الثاني، ص505

[4] سامي عامري، العالمانية طاعون العصر، مركز تكوين، 2017، ص71

[5]  روجيه جارودي، الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها، دار عام ألفين ،2000، 24

[i] العَلمانية بفتح العين وسيأخذ المقال بهذا اللفظ لانتشاره مع التنبيه إلى أن هناك من يعمد إلى اللفظ الخاطئ بكسر العين لربط العلمانية بالعلم وهذا تدليس واضح. هناك ألفاظ أخرى جيدة لترجمة كلمة Secularism مثل عالمانية، دنيوية، أو التمركز حول الدنيا والعالم المادي.

هل ثمة دور للعقل في الإيمان؟

هل هناك إيمان بناء على قناعات عقلية؟ أم الموقف من الدين هو مجرد استجابة للحالة النفسية أو الظروف المجتمعية؟ هذا سؤال اختلفت حوله الآراء المعاصرة، حتى ذهب بعضهم إلى إنكار دور العقل في الوصول إلى الإيمان، وذهب آخرون إلى قصر الإيمان على الأدلة العقلية بشروط خاصة!

إذا تطرقنا إلى المقولة الأولى، فإنّ الفكرة التي تقول باستحالة وجود الإنسان المتجرّد لاتباع الحق بناء على قناعة عقلية هي فكرة رسّختها الحداثة. الحداثة التي خلطت بين “الإنسان” و”الآلة”، فصارت معايير دراسة كل منهما متشابهة إلى حدّ كبير، وبما أنّ معالجة المعطيات بشكل علمي محض دون أي انفعال أو قلق أو مشاعر هي من خصائص “الحاسوب” لا “الإنسان”، صار القول بالتجرّد العلمي في تداول الآراء محض خرافة عند هؤلاء؛ لأنّهم يحاكمون الإنسان بمعايير الحاسوب، فحتى نقول إنّ الإنسان قد اختار رأيا ما بقناعة تامّة وعن تجرّد ينبغي نزعه عن الإنسان الذي فيه وتحوله إلى حاسوب عندهم، وبما أنّ هذا مستحيل فإذن يستحيل وجود الإنسان المتجرّد! أي أنّهم نفوا إمكان الإيمان بناءً على قناعة عقلية لسوء تصوّرهم للقناعة العقلية، والظنّ بأنّها تستلزم التجرّد العلمي المحض كالحواسيب، ومن ثمّ أنكروا تحقق ذلك في الإنسان.

وهذا الاستنتاج وهمٌ من أوهام بعض الحداثيين، والصواب أنّ القناعة العقلية عند الإنسان مفهوم مغاير للسلوك العلمي عند الحاسوب (إن جاز التعبير)؛ فحاسوب السيارة ذاتية القيادة مثلا يعالج المعطيات التي تصله من الكاميرات والمجسّات الأخرى ويتخذ قرار الانعطاف إلى اليمين، وهذا القرار هو قرار علمي محض مبني على حسابات علمية، لم تخالطه رغبات وأشواق وانطباعات ذاتية، بل لا وجود لهذه “الذات” الواعية للفعل ككلّ، بل هي مجموعة أجهزة مترابطة ميكانيكيّا وتعمل معًا.

أما الإنسان فهو كائن عقلاني مشاعري، أي أننا لو أخذنا السلوك نفسه، فهو يتخذ قرار الانعطاف كقائد للسيّارة خوفًا من الاصطدام، وهذا “الخوف” شعور، ولكنه منسجم انسجامًا تامّا مع القرار العقلاني الذي يقضي بأنّ أحكمَ الاختيارات هو الانعطاف لاستمرار مسيرة السيارة وقضاء مصالح الشخص وعدم تخريبها عند الارتطام بالحاجز. فهذا سلوك عقلاني، وهو في نفس الوقت مختلط بالمشاعر، أي أن وجود الانفعال الشعوري لم يكن متعارضًا مع كونه خيارًا عقلانيّا.

وهناك طرف آخر يقصُر الإيمان على الأدلة العقلية الصرفة، فهو يتعامل مع مسألة الإيمان كما لو كانت معادلة رياضية، أو كما لو كان الإيمان يأتي بالإخضاع والإفحام العلمي بعد بيان الأدلة ببساطة! وهذا وهمٌ أيضًا؛ فقد ذكر القرآن أشخاصًا تيقّنوا من الحقيقة ولكنهم ببساطة جحدوها {وجحدوا بها واستیقنتها أنفسهم ظُلمًا وعُلوّا}، فالتيقّن العلمي من صحة هذه الحقيقة لم يُنشئ إيمانًا بالضرورة، بل عارض ذلك النزوعُ النفسي الظالم المستكبر. ولهذا كتبتُ يومًا: “فليس الإيمان معادلة رياضية تقتنع بها العقول فتلتزمها، وإنما هو حقيقة نفسية يوفّقُ الله إليها من استجاب لنداء العقل والفطرة ولم يطمسْه باتّباع الهوى والشهوات”.

أمّا الطرف الأول الذي ينفي أي دور للاقتناع العقلي في تحديد الموقف من المسائل الدينية، ويحيلها كلها إلى الظروف الاجتماعية والحالات النفسية، فالتديّن عندهم محض اختيار عاطفي أو تأثّر بالمحيط المجتمعي، وهذا ناتج عن كون معظم الناس ينحازون إلى آرائهم في الدين لأسباب نفسية أو اجتماعية.

ولكن هذا الانحياز اللاعقلاني ليس ضربة لازب، وللعقل دورٌ عند الكثير من البشر، ولولا ذلك لَما خاطب القرآن الناس بالبراهين والبينات، ولَما ذمّ اتباعهم الأعمى لعادات المجتمع دون أن يعقلوا، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}، ولَما وصف اللهُ نبيّه صلى الله عليه وسلّم بأنّه “برهان” والقرآنَ بأنه “مبين” {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا}، ولَما قال للكافرين {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}، ولَما قال حكاية عن الكفار {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ}، ولَما قال للناس {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، وآياتٌ كثيرة غيرها، وإنما ذكرتُ الآيات لأنّ من ينكر دور العقل في الموقف من الدين ويزعم أنه محض اختيار عاطفي مؤمنٌ بالقرآن، فها هو القرآن ينكر أن يكون الموقف من الدين مجرّد اختيار عاطفي لا دور للعقل فيه.

فاتخاذ المواقف من الدين بناء على التفكير العقلاني والقناعة العقلية أمر أكّده القرآن وأكدت عليه تجارب الكثير من البشر الذين خالفوا مجتمعاتهم وضعفَهم النفسي واتخذوا موقفهم من الدين بناء على القناعة العقلية. ولو نفينا دور هذه القناعة العقلية في اتخاذ الموقف من الدين لكنّا نكذّب القرآن ونزعم أنه يخاطب بشرا وهميين ويطالبهم بالمستحيل؛ إذ هم بحسب زعمنا آنذاك كائنات جبرية تحكمها ظروفها الاجتماعية والمادية وانفعالاتها النفسية!

ولكن من جهة أخرى فمفهوم هذه القناعة العقلية والعقل عموما لدى الإنسان هو كما ذكرتُ بعيد كل البعد عن أن يكون معادلة رياضية، فالتفكّر في محاسن شريعة الإسلام مثلا والأخلاقيات التي يدعو إليها ومحبّة هذا الدين بناء على هذا “التفكر” هو ممارسة عقلية بكل معنى الكلمة، حتى لو امتزجت بها المشاعر، فالآيات والهدايات القرآنية تدخل إلى نفس الإنسان من جميع منافذ التلقّي لديه؛ تخاطب تلك الفطرة القديمة العميقة في داخله فتحرّك وجدانه لمحبة هذا الدين، كما تخاطب عقله المفكر الواعي الذي يدرك قبح الشرك واللامعنى وفساد فكرة عدم وجود خالق لهذا الكون العظيم ولهذه الحياة البديعة وفساد الأخلاق الوضعية وغير ذلك من الأمور، لو تفكّر فيها محيّدا أهواءه قدر الإمكان.

علمًا أنّ مسألة الإيمان مسألة مركّبة تتألف من عناصر عديدة كالصدق في طلب الحق، وتتأثر بعوامل أخرى كالظروف المجتمعية والحالة النفسية وغير ذلك. ولكنْ في القلب من هذه العناصر جميعا يكمن “العقل” بمفهومه الرحب الذي عرضه القرآن، لا بمفهومه المنطقي الذي عرضه الفلاسفة، ولا بمفهوم “الإثبات العلمي الملزِم” الذي يسيطر على بعض المعاصرين اليوم.

وقديمًا تنبّه علماء المسلمين إلى هذا المفهوم الرحب للعقل، فقد سئل الحكيم الترمذي عن العقل فقال: “وسألتم عن العقل، فالعقل نور ومعرفة في الرأس ومعتمَلُه في الصدر على عيْنَي الفؤاد، وإنما سُمّي عقلا لأنّه يعقلُ به نفسه وجوارحَه عن الانتشار ومجاوزة الحدود إلى ما يشينه، فإنّ النفس إذا انبسطتْ شوّشت التدبير وأفسدت، فهذا النورُ عِقال النفس عن ذلك” (من مخطوط “الدر المكنون”). فانظر كيف ربط العقل بالإرادة وأعطاه بُعده القيمي الأخلاقي، ولم يعطِه تعريفًا منطقيّا صرفًا معزولا عن طبيعة الإنسان.

ويوضّح محمد بن إبراهيم الوزير في إحدى قصائده كيف أنّ الإيمان له عدة عوامل ومداخل إلى نفس الإنسان، العقل منها ولكنه ليس المدخل الوحيد للإيمان، والعوامل النفسية منها ولكنها ليست الوحيدة:

مواهبٌ من يقينٍ غير ممكنة .. للخلق تهجُمُ في يُسرٍ وتهوينِ

ووارداتٌ من الإيمان ليس تُطيق النفسُ جحدَ هدًى منها وتبيينِ

تكون عند وقوع الخارقات وعند الفكرِ منها وبالإخبات واللينِ

وبالتضرّع عن ذلّ ومسكنةٍ .. تَمكَّنَ العبدُ منها أيّ تمكين

    فتأمّل أبياته هذه، وكيف جمع بين الدليل الحسّي والفكر من جهة، وبين الإخبات والتضرع من جهة أخرى، فالأول مسلك عقلي محض للإيمان، والثاني مسلك نفسي.

وقد سئل الحكيم الترمذي عن الإيمان فقال: “وسألتَ عن الإيمان من المواهب ومن المكاسب، فالإيمان فعلُ العبد، يُقال: آمنَ يؤمنُ إيمانًا، ولو لم يكن من المكاسب لم يستحقّ الثواب، فأما الذي نال به الإيمان فالعقل فهو مواهب، وقبولُ العبد وطمأنينة نفسه إلى ما جاء به العقل وأورده على قلبه مكاسب وبه استحقّ الثواب” (من مخطوط “الدر المكنون”). فانظر كيف لم يجد تعارضًا بين النظر العقلي وطمأنينة النفس، وجعل الإيمان نتيجة للجانبين معًا، وكيف أنه رغم إقراره بأنّ الإيمان طمأنينة النفس لم ينكر الدور الجوهري للتفكير العقلي في حصول الإيمان.

كيف يصحح التوحيد كل المفاهيم؟

يعتقد المسلمون أن جميع الأنبياء كانوا من حملة رسالة التوحيد، وأن أول من نزل بالتوحيد هو أبو البشرية آدم عليه السلام، واجتمعت كل دعوات الأنبياء على هدف واحد، وهو هداية البشر إلى التوحيد، وهو ما ذكرته الآية الكريمة: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}.

ويعتقد المسلمون كذلك أن القول بالتوحيد يتفق مع المنطق الضروري، ذلك أن وجود إلهين أو أكثر يعني عدم انتظام في مسيرة الكون، لأن كل إله سيسعى للانفراد بما خلق، وكل واحد منهم سيسعى للعلو على غيره، وهذا من الأمور المستحيلة التي نبه لها القرآن بقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}، ولن يكون للإلهة  المتعددة أي جدوى للإنسان إن لم يجهزْ أحدهم على بقيتهم أو يخضعهم لإرادته، فلا بد من توفر صفة الأعلى في الإله، لأنه لا يمثل الخير الأسمى والسلطة العليا والمبدأ الأخير غير مصدر مطلق، منه البداية وإليه المنتهى.

أما سلطة إله خاضع لغيره، أو إله معه آلهة أخرى، فهي موضع شك على الدوام، وهو مما يفسد انتظام الكون، وبذلك أشارت الآية الكريمة: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَـةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}. لذلك فليس بمقدور الكون أن يطيع سيدين، ولا أن يعمل بانتظام سنني ويكون على هذا التناغم الذى هو عليه، لو كان في الوجود أكثر من مصدر نهائي واحد تتلقى الموجودات المخلوقة منه أمرها[1]، لذلك يرفض الإسلام الألوهية في أشكالها التعددية والتثنوية، ويرفض الشرك والوثنية، وتنص شهادة الإيمان في الإسلام على التوحيد الذي أصبح رمز الدين الإسلامي وشعاره والعلامة المميزة للمسلم من غير المسلم”[2].

تمثال عملاق لأحد آلهة الهندوس في ماليزيا

يعتبر الإسلام أن الإنسان مفطور على التوحيد، وأن الشرك بكل صوره وتجلياته ومظاهره نتاج نظم فاسدة في التربية، وفعل التأويل والتاريخ[3]، فالوثنية والإشراك نهج خاطئ منحرف، وهو رغم ذلك لم يمنع الاعتراف النهائي بفكرة الألوهية {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله}[4]، ذلك أن الوثنية تتوسل بآلهتها الصغرى، وترتقب الخير من التعلق بها -بوصفها ذات صلة خاصة بالإله الكبير- ولذلك يعتبر هؤلاء أن الشركاء شفعاء! والقرآن الكريم ينفى أن يكون لأحد عند الله شأن من هذا القبيل: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون*قل لله الشفاعة جميعا}[5]، لذلك رفع الإسلام من شأن التوحيد حتى جعل كلمة التوحيد أعلى شعب الإيمان، وبين أن الأمر كله بيد الله، فالله وحده هو الضار النافع، الذي يخذل أو ينصر، ويعطي أو يمنع، وليس لأحد بعده تعقيب على حكمه، وليس من شأن ملك في السماء أو نبي في الأرض التدخل في مشيئة الله.

ويرى علماء المسلمين أن التوحيد هو أول دافع للبشر نحو الإيمان، فأغلب الذين كفروا بالألوهية إنما كفروا بها على أنها أصنام أو أبقار أو تثاليث مبهمة، والكفر بالآلهة الخرافية جزء من حقيقة التوحيد، ذلك أن كلمة التوحيد تتألَّف من جزء سالب “لا إله” وجزء موجب “إلا الله”، فإنكار ألوهية البشر والحجر وما إلى ذلك نصف الحق، وكان يجب الاقتناع بالألوهية الصحيحة لتتم العقيدة الصادقة[6].

ويقرر علماء المسلمين أن التوحيد يمنح أتباعه نظرة صحيحة تجاه الله والكون والإنسان والسلوك البشري، ذلك أن القول بغير التوحيد يخلق نظرة مشوشة تضطرب فيها تصرفات الإنسان، وعلاقته مع غيره، وتفصيل ذلك في التالي:

التوحيد وتصحيح النظرة إلى الله
يوضح إسماعيل راجي الفاروقي دور التوحيد في تصحيح نظرة الإنسان للإله، فيرى أن القول بالتوحيد يعني أن هنالك جنسين منفصلين، الله وغير الله، الخالق والمخلوق، في المرتبة الأولى لا يوجد سوى الله، لا شبيه له، وهو باق إلى الأبد، وفي المرتبة الثانية يوجد المكان، الزمان، الخبرة، الخليقة. والمرتبتان من خالق ومخلوق مختلفتان غاية الاختلاف من حيث طبيعة وجودهما كما من حيث كونهما ومساراتهما، ومن المستحيل قطعاً أن يتحد الواحد بالآخر أو يذوب فيه أو يتداخل أو ينتشر فيه، ولا يمكن للخالق أن يتحول وجودياً ليصبح المخلوق، كما لا يمكن للمخلوق أن يتسامى ليصبح الخالق بأي شكل أو معنى[7].

التوحيد وتصحيح النظرة إلى الكون والطبيعة
الطبيعة وما أودعها الله من موارد، جعلها مذللة للإنسان ليستخدمها ويستفيد منها، والقول بغير التوحيد قد يبدل الحال، فيجعل الإنسان خاضعاً للطبيعة وبعض محتوياتها، فتتعطل بذلك الطاقات التي كان الأصل بها أن تستثمر، ويضرب سعيد حوى مثالاً لذلك بتقديس المرء للأبقار، حيث لا يستفاد من لحمها ولا لبنها، وتعيش هي على حسابه فلا يتعرض لها، وفي سنوات القحط بدلاً من أن تكون عاملاً من عوامل سد الفاقة، فإنها تزيد من مشاكل الجوعى بالأكل من محاصيلهم دون أن يعترض أحد، وبهذه النظرة المختلة يبدو أن البشر تحوّل إلى مسخّر لخدمة البقر لا العكس[8].

ويلاحظ محمد خليفة حسن أن التقدم الفكري للإنسان عامل مهم في تحول نظرته للطبيعة، فكلما فهم الإنسان الطبيعة قلت درجة قداستها واحتلت وضعها الطبيعي في الفكر الديني[9].

وهذا الرأي قال به أيضا كافين رايلي مؤلف كتاب «الغرب والعالم»، إذ يشير إلى أن نظرة الغرب للطبيعة وربطها بالمجتمع الصناعي، سبقها نظرة لاهوتية، وينقل عن أرنولد توينبي أن التوحيد مثل نهياً عن الأشكال القديمة لعبادة الطبيعة، وأن التسليم بالتوحيد اقتضى بالضرورة تحول الإنسان من عبادة الطبيعة إلى تسخيرها واستغلالها، وقبل التوحيد لم تكن الطبيعة كنزا من الثروات بل كانت آلهة بصور مختلفة[10].

وشبيه بذلك ما تحدث به الفاروقي في كتابه «أطلس الحضارة الإسلامية»، حيث أفرد فصلاً تحدث فيه عن نظام الطبيعة[11].

لوحة تخيلية للصلب من القرن السادس عشر

التوحيد وتصحيح النظرة إلى الإنسان
إن النظرة للإنسان بعيداً عن التوحيد تخلق مشكلة مزدوجة، ذلك أنها تعلي من مقام بعض البشر وتصل بهم إلى القداسة، وتضع من قيمة بعضهم حتى تصل بهم إلى النجاسة، ويمثِّل إسماعيل راجي الفاروقي لذلك بالمسيحية التي حطّت من قدر الإنسان بدعوى الخطيئة الأصلية، واعتبرته كائناً هابطاً، لدرجة أن تصحيح هذه الخطيئة يستلزم موت الإله على الصليب، وكذلك صنفت الهندوسية البشر في طوائف اجتماعية منغلقة، ووضعت أغلبية البشر في أدنى الطوائف في طبقة المنبوذين أو الملوثين من الوجهة الدينية، ولا مجال أمام الطبقة الدنيا والملوثة للارتقاء إلى مصاف طبقة البراهمن المحظوظة السامية في هذه الحياة الدنيا، فمثل هذا الانتقال ممكن فحسب عبر تناسخ الأرواح بعد الموت، أما في هذه الحياة الدنيا فلا مفر من أن ينتمى الإنسان للطائفة التي ولد فيها، وكذلك ذهبت البوذية إلى القول بأن حياة البشر وكل الكائنات الأخرى عبارة عن معاناة وبؤس دائمين، بل إن الوجود ذاته شر، وواجب الإنسان  الوحيد الذى له معنى هو سعيه إلى التخلص منه عبر الانضباط والجهد العقلي.

ويقابل البشر المستحقرين في هذه الديانات، بشر مقدسون، وصلت القداسة ببعضهم حد التأليه، وفي هذا التفاوت في قيمة الإنسان كانت إنسانية التوحيد وحدها –كما يؤكد الفاروقي- هي الأصيلة، التي تحترم الإنسان بصفته إنساناً مخلوقاً، دون تأليه أو تحقير، وهى الوحيدة التي تحدد قيمة الإنسان بمناقبه، وتبدأ تقييمها له من نقطة إيجابية لتسليمها باستواء الفطرة التي فطر الله كل البشر عليها، لإعدادهم للقيام بمهمتهم النبيلة، وهى الوحيدة التي تحدد  فضائل ومثاليات الحياة الإنسانية بمحتوى مماثل للحياة الفطرية، وليس بالتنكر لها، مما يجعل إنسانيتها غير زاهدة في الحياة وأخلاقية في آن واحد[12].

لقد أهدرت النظرة غير التوحيدية قيمة الإنسان وطاقاته، وجعلت شعباً من البشر مسخّراً كله لخدمة فرد منه، كما حصل مع فرعون مثلاً، لذلك كانت غاية رسالة التوحيد -كما لخصها الصحابي ربعي بن عامر-  إخراج العباد من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد.

التوحيد وتصحيح النظر في السلوك البشري
هناك قواسم مشتركة بين البشر وهي: وحدة الإله ووحدة الدين، ووحدة البشرية، ووحدة الغاية من الوجود، فالله خلق البشر في أحسن تقويم لعبادته، والتوحيد هو عقيدة البشر منذ بداية الخليقة، والبشر إخوة يعودون إلى أصل واحد هو آدم وحواء عليهما السلام، فهناك درجة من القرابة تربط البشرية ببعضها البعض مهما اختلفت ألوانهم ولغاتهم وثقافاتهم وأديانهم، وهذه الاختلافات أملتها البيئات المتنوعة واختلاف الأمكنة والأزمنة والمناخ[13]، وبذلك فالإنسان الآخر هو أخ للمسلم في الإنسانية، وهو مشروع موحِّد في أي لحظة قد يقرر فيها خلع الشرك والوثنية، لذلك كانت الأخلاق في الإسلام متعدية كما قال تعالى {لا يجرمنكم شنئان قوم الا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى}، وذلك بعكس بعض الديانات التي قصرت الأخلاق الحسنة على أتباعها، وجعلت من جماعتها جماعة مميزة عن بقية البشر، كزعم اليهود أنهم شعب الله المختار، فلم يربط الإسلام مبدأ المساواة بثقافة أو حضارة بعينها، فالمبادئ الأخلاقية التكوينية للإنسانية في المنظور الإسلامي ثابتة ومسلم بها لأي إنسان حتى لو كان  منتمياً إلى دين غير الإسلام، أو إلى حضارة أخرى، أو حتى لو كان عبداً رقيقاً نتيجة تبعات فعل قومه في التاريخ[14]، فدين التوحيد لا يفاضل بين البشر إلا من خلال أعمالهم ومكتسبات أيديهم.

لقد أعاد الإسلام للبشرية مبدأ التوحيد بعد أن أوشك على الذبول والتلاشي تحت وطأة المسيحية الرومانية الشاردة عن أصولها الصحيحة[15]، ولم يبق إلا الإسلام كمعبِّر حقيقي عن التوحيد الكامل، فاليهودية قبلت التعدد عندما خصصت الإله الواحد لبني إسرائيل وسمحت به لغيرهم، كما غيرت المسيحية التوحيد تغييراً جذرياً من خلال عقيدة التثليث[16].


[1] إسماعيل راجي الفاروقي، التوحيد مضامينه على الفكر والحياة. ترجمة السيد عمر، القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، الطبعة الثانية 2014، ص65

[2] محمد خليفة حسن، تاريخ الأديان-دراسة وصفية مقارنة، دار الثقافة العربية: 2002 ص283

[3] إسماعيل راجي الفاروقي، التوحيد مضامينه على الفكر والحياة. مرجع سابق ص17

[4] محمد كمال جعفر، الإنسان والأديان، الدوحة: دار الثقافة، الطبعة الأولى 1985، ص94

[5] محمد الغزالي، الاستعمار أطماع وأحقاد، القاهرة: نهضة مصر للطباعة، الطبعة الرابعة2005، ص128

[6] محمد الغزالي، الإسلام والأوضاع الاقتصادية، القاهرة: نهضة مصر للطباعة، الطبعة الثالثة 2005، ص91

[7] إسماعيل راجي الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة. الرياض: مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى 1998ص132

[8] سعيد حوى، الرسول، القاهرة: دار السلام، الطبعة الثانية 1990، ص370

[9] محمد خليفة حسن، تاريخ الأديان-دراسة وصفية مقارنة، مرجع سابق، ص 34-35

[10] كافين رايلي، الغرب والعالم، ترجمة: عبد الوهاب المسيري وهدى حجازي، القسم الأول، من إصدارات عالم المعرفة 1985 ص 250-251

[11] إسماعيل راجي الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية. مرجع سابق ص 451.

[12] إسماعيل راجي الفاروقي، التوحيد مضامينه على الفكر والحياة. مرجع سابق ص128-129

[13] انظر: محمد خليفة حسن، الحوار منهجاً وثقافة. من مطبوعات وزارة الأوقاف القطرية، الطبعة الأولى 2008 ص117

[14] إسماعيل راجي الفاروقي، التوحيد مضامينه على الفكر والحياة. مرجع سابق ص149

[15] محمد الغزالي، التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، القاهرة: نهضة مصر للطباعة، الطبعة السادسة 2005، ص100

[16] محمد خليفة حسن، تاريخ الأديان-دراسة وصفية مقارنة، مرجع سابق، ص246-247

كيف نواجه موجة الإلحاد الجديد؟

عرابي عبد الحي عرابي


قد يكون هذا العنوان أحد أقصر الأسئلة المتعلقة بقضية الإلحاد وأوسعها!

تدور حول قضية الإلحاد عشرات الحوارات والمناظرات والمؤتمرات، وتعلن كثير من الشخصيات العلمية الشهيرة السير في فلكها، مما يشير إلى محورية البحث في هذه القضية والحديث عنها، وبطبيعة الحال فإن النقاشات العلمية عن الإيمان والإلحاد لا تنبني على أساس الشبهات والردود، بل إن هذه القضايا في ذاتها معضلات عميقة ذات جذور ضاربة في تاريخ الإنسانية، وبالمقابل فثمة من يميل إلى عدِّها قضايا مجردة لا ترتبط بالبحث العلمي بل هي اختيارات إنسانية عميقة([1]).

وعلى الرغم من الإقرار بكونها قضايا وجودية تتعلق البشرية بها، إلا أن نفي الدليل العلمي على إثباتها ترحيل قسري نحو المجهول الفكري، فنفي دليل وجود الله مثل نفي أزلية المادة والتطور، فَلِمَ نُرجّح صحة اعتناق أحد الجانبين ونخطِّئ نقيضه!

أي إلحاد نقصد؟
ثمة أنواع عدَّة للإلحاد:

1- الإلحاد الوثوقي (القطعي): و هو الذي يعتقد صاحبه بعدم وجود الخالق، وبالتالي يتنكَّر لكل الأديان والنبوات.

2- الإلحاد المُتَرَدِّد، (الـلاأدري): ولا يعتقد صاحبه الإيمان بالخالق أو إنكاره، ويحتجُّ لذلك بعدم كفاية الأدلة في أيٍّ من الرأيين، فهو (متوقِّف) ههنا لا يميل.

3- الإلحاد المَرِن، (الربوبية): وهو الإيمان بوجود ربٍّ لا مُتصرّف، فلا ينكر صاحبه وجود خالق للكون إلا أنه ينكر صلته بهذا الكون، فالخالق بذلك “خلق العالم ثم تركه”، وبالتالي فهو منكر للدين الإلهي والنبوات.

يدور الجواب هنا عن مواجهة (الإلحاد الجديد) الذي يتزعمه تيَّار من العلماء الغربيين، كما هو الحال مع خطاب عدد من كبار الكُتَّاب المُلحدين.

حيث يمكن التأريخ لهذه الظاهرة مع بدايات القرن الجديد، إثر هجمات الحادي عشر من أيلول عام 2002، والتي ابتدأت مع سلسلة من الكتب لعل من أهمها كتاب سام هاريس (نهاية الإيمان: الدين والإرهاب ومستقبل العقل) ويذكَر أنه حظي بمبيعات مليونية وظل في قائمة الكتب الأفضل مبيعًا مدة 9 أشهر تقريبًا -بحسب تصنيف النيويورك تايمز-، وقد أعقبه صدور كتاب الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري (مانفستو الإلحاد)، ليظهر في عام 2006 أشهر كُتُبِ كَهَنَةِ الإلحاد الجديد، أي ما سمّاه ريتشارد داوكنز بـ (وهم الإله) الذي بيعت منه ملايين النسخ، ثم لحقه كتاب (الله، الفرضية الفاشلة) للفيزيائي فيكتور ستنجر،  إضافةً لكتاب الفيزيائِيَّيْن الشهيرين ستيفن هوكينج وليوناردو ملودينوو (التصميم العظيم، إجابات جديدة عن أسئلة الكون الكبرى) الصادر في عام 2010([2]).

أبرز مزايا “الإلحاد الجديد”
1- النزعة العدائية: وهي السمة الأبرز التي ينتهجها كهنة الإلحاد الجديد تجاه الدين، فلا يمكن القبول بوجوده، بل ثمة ضرورة ملحة لمواجهته ونقده وتفنيده أينما ظهر، “فقد ذهبت أيام الإلحاد المؤدب” ، ولذلك فقد غدت السخرية من الأديان ووصفها بكل مقيت أمرًا طبيعيًّا، بل إن الساحة العلمية باتت مسرحًا لمهاجمة العلماء الذين يقرون بوجود خالق للكون، فقد وصف الملحد (بي زي مايرز) العالمَ فرانسيس كولنز رئيس مشروع الكشف عن الجينوم البشري، بأنه: “مهرِّج، يؤمن بفكرة الخلق، وأنه ضد النظريات العلمية، وأن طريقة تفكيره في العلم كالقمامة”.

داوكنز
(David Shankbone)

2- الدعم المالي الواسع والانتشار الإعلامي: لم تعد دعاوى الإلحاد مقتصرة على خطاب القلم، فقد أضحى الانتشار الإعلامي أحد أهم سمات الإلحاد الجديد وذلك بانتقاله من ساحة الخطاب الفكري إلى النهج التبشيري أو الدعوي، ولا أدل على ذلك من إنشاء المؤسسات المؤثرة مثل مؤسسة ريتشارد داوكنز لدعم العقل والعلم والتي أسسها في عام 2006، ومشروع “عقل” الذي أسسه سام هاريس وزوجته في 2007، وذلك لتكون –بتعصب واضح- منبرًا داعيًا له، إضافة لطبع مئات الكتب -المنكرة للأديان والخالق- التي بيعت منها ملايين النسخ، إضافة لتخصيص كتب تبشيرية إلحادية موجَّهة للأطفال، والدعوات العامة للتطبيع مع الإلحاد وإنكار الأديان سواء بدعوة الملحدين إلى الاستعلان أو نشر الإعلانات الصريحة أو عبر تمرير الأفكار الإلحادية في أعمال فنية ذات شهرة واسعة([3]).

3- الاطمئنان للاختيار الإلحادي: “إن كان للإلحاد الجديد من ملمح معنوي يقيم صلب سائر الملامح الأخرى فهو ملمح الثقة، أو “الاطمئنان” حيث يبدي الملحد الجديد ثقة تامة بقراره في الإلحاد، وفي مسؤوليته تجاه الرسالة التي يحملها للعالم، فالإلحاد هو الخيار الذي لا يسع عاقلاً أن يتجاهله”([4]).

ما السبيل إذن لمواجهة الإلحاد الجديد؟
إن تسطيح القضية الإلحادية حجر عثرة في فهم الإلحاد ونقده، فاختزال أسباب الإلحاد وظهوره إلى جزئيات تفصيلية –مثل ردّه إلى كون الملحدين طلاب شهرة أو أنهم مرضى نفسيون- ليس سبيلاً قويمًا أو سلوكًا موضوعيًّا، وقد يرتد هذا على الإيمان المتردِّد بالسوء وزيادة الشك، فكم تجد من الشباب المتحمس أو الأئمة والخطباء أو غيرهم يتّكئ في نقد الإلحاد على كلمات عاطفية لا ترقى لدرجة النقد المتّزن ويعتمد على معلومات مغلوطة خالية عن التمحيص والتثبُّت، فحين يقال: إن الملحدين وحدهم من يتمسك بنظرية التطور وإن العلم نقض نظرية التطور ونفض يديه منها، فاعلم أن المتحدث إما مخادعٌ لمن يخاطبُ، أو أنه حاطب بليلٍ لا يميز بين صحة ما يسمع وما هو عليه الحال.

“والحق أن هذه النظرية شديدة الحضور والسطوة في المجتمعات الغربية –العلمية وغيرها- بل هي النظرية المقبولة في أغلب الدوائر الأكاديمية هناك، وقوائم المؤمنين بها من الأكاديميين طويلة جدًّا مقارنة بغيرها من النظريات”.

لقد سمَّى المفكر المصري عبد الوهاب المسيري الحداثة الغربية بالحداثة الداروينية؛ نظرًا لتحكم القضية المادية والإيمان بتبعات هذا التطور على مفاصل الحياة اليومية في المجتمعات الغربية([5]).

الإيمان أكثر عقلانية من الإلحاد
إن التركيز على كون الإيمان بالخالق ذا مصداقية منطقية وعقلية مقارنة مع الإلحاد، يعد بالنسبة لي فاتحة للتعامل معه؛ فيمكن البدء بهذه النقطة (ذاتيًّا وإعلاميًّا ودعويًّا ومجتمعيًّا… إلخ)، فالحجج الأبرز للإلحاد تدور حول (عدم عقلانية الدين) أو (عدم عقلانية الإيمان بالخالق)، فما البديل الذي يقدمه الإلحاد في الإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى، مثل: (ما مصدر وجود العالم)، (ما مصدر وجود البشر)، (كيف ظهرت الحياة)، (ما هي القيم) (كيف ينبغي التعامل مع الآخر)؟

لقد فسّر الإلحاد (القديم) و(الجديد) هذه القضايا بناءً على (مادِّيَّة الكون) مع وصف هذه المادية بأنها ذاتية.

وبناءً على هذا، فقد ظهر الكون تلقائيًّا، بلا صنع صانع له، وكذلك ظهرت الحياة ذاتيًّا من المادة الطبيعية عبر تطورها المستمر، ولا حاجة لفهم شيء اسمه روح أو عالم آخر غير العالم المادي الذي نعيشه، وبالمختصر: لا إله ولا حاجة للإيمان بأي من مقولات الأديان([6]).

ستيفن هوكنغ

وبما أن المنطلق الأساس لمقولات الإلحاد قائم على أساس المادة الناشئة تلقائيًّا، أو (الخلق الذاتي) كما يقول ستيفن هوكنغ في كتابه: (التصميم العظيم)([7]) أو بمنطق الصدفة بناء على فرضية الأكوان المتعددة التي يميل إليها ريتشارد داوكنز([8])، ولا يخفى أن الإيمان بمنطق الصدفة في استحقاق وجود كوننا من بين مئات مليارات الأكوان، وتخصيص الأرض ليمكن استنبات الحياة فيها من بين مئات مليارات الكواكب والنجوم في هذا الكون، فرضية لا يمكن منحها أي نسبة يقين صادقة عقلًا، ويمكن الاستشهاد ببرهنة (القرد اللامتناهية) التي أجرتها جامعة بليموث البريطانية عام 2003 لحساب الاحتمالية الرياضية والتي تنصُّ على أننا لو تركنا قردًا لعدد لا متناهٍ من السنين  يضرب على آلات الطباعة فهل سيتمكن من إنتاج نص أدبي كقصيدة مثلاً، فكان الناتج أن ستة قرود اخُتبروا لمدة شهر فلم يكتبوا كلمةً واحدةً ذات معنى([9])، فَقِسْ على ذلك نسبة احتمال قُدرةِ الصدفة على خلق إنسان واحد، فما بالك بخلق حياة موّارة في الأرض بل خلق كون كامل، إن هذاسخفٌ لا يستحق التأثُّر به بعد التفَكُّر فيه.

الواجب الفردي
ليس من الممكن أن نلتمس من جميع الناس البحث في أدلة الاعتقاد التي ترد على الإلحاد، إلا أن الأقل المتاح الذي نستطيع طلبه من عموم الأفراد أن يفعل كل واحدٍ منهم ما بوسعِه، فلعلَّ موقفًا أو حجةً أو دليلاً يُذكرُ أمام إنسان واعٍ لها قد تُغيّرُ تفكيره تجاه الإلحاد ومفرزاته، ولعل هذا الواجب الفردي على المسلم يرتكز على نقاط كثيرة؛ منها:

1- تثقيف الفكر بقراءة الكتب العلمية التي تناقش الإلحاد ومستنداته، والاطلاع على المناقشات التي يقوم بها الدعاة الدينيون (مسلمون وغيرهم) والعلماء الغربيون الأكاديميون مع الملحدين، والاستفادة من الحجج التي يقدمونها في نقد أسس الإلحاد.

2- الحذر من (التفاعل المعرفي الخاوي) فأسس الإلحاد وظروف التحوُّل إليه تختلف بحسب الشبهات التي تثار والشكوك التي تبحَث، خاصة وأن الأسئلة التي يقدمها الملحدون تصدر عن مقولات علمية تجريبية في الظاهر، مما يدفعنا للتعمق في فلسفة إنتاج العملية المعرفية وسبل الاستدلال بها.

3- التحصين الأسري للأفراد بالعلم والأدلة المنطقية والمناقشات المناسبة لعقول الأطفال والكبار وتفهيمهم الأسباب التي تدفع الإعلام والأفراد لنشر الإلحاد.

4- التأسيس الصحيح لرؤى الأفراد عَقَدِيًّا مع الحث على البحث فيها، فإن الثقة العمياء بالمكتسبات التقليدية ستدفعهم يومًا إلى الانفتاح على أي فكرة مخالفة حال نقض الطرف الآخر لها، والمشكلة الحقيقية أن حالة الثقة هذه ليست ناشئة عن معطًى ح��يقي وإنما هي حالة تقليدٍ عاطفية قابلة للانهيار مع التماسِّ الأوَّل مع الإشكالات المقابلة.

الواجب المؤسساتي
إذا كان العمل الفردي كافيًا بنسبة ما للأفراد المتفرقين، فإن هذا يوجب وجود العمل المؤسساتي لـ (عموم الأمة) في إنتاج المعرفة (الإيمانية) اليقينية والدفع عنها الشبهات التي تعترضها من قبل (الآخر) أيًّا كان منهجه، فما الذي يجب أن تقوم به هذه المؤسسات في حال وجودها؟ سنوجز الإجابة بما يلي:

1- تجديد لغة الاستدلال الديني وأسلوبه ومرتكزاته: فإن كان التفكر المحض في الماضي دافعًا للإيمان في حق كثيرين، إلا أنه الآن قد لا يفي، فلا بد من التحول من الاتكاء على مقولات (علم الكلام) الجوهرية، إلى إنتاج خطاب (برهاني) يعتمد على منتجاتنا العلمية ومنتجات مؤسسات العلم الأكاديمية أيًّا كانت توجهاتها الإيديولوجية؛ بل لا بد –في حال شُكِّلت مثل هذه المؤسسات- من الانتقال من التلقِّي المعرفي إلى الإنتاج، لئلا نكتفي بكوننا مستَقَرًّا للمنتَج أو مستخدمين له لا غير لدعم رؤيتنا في نقد ما نراه داعيًا للإلحاد([10]). ولا نغفل في هذا السياق عن التذكير بضرورة القراءة الفلسفية المعاصرة وفهم سياقات الاستدلال الإلحادي والإيماني، للخلوص إلى أسلوب الفريقين وإمكان التعامل معهما بكفاءة، فمن أبرز الوجوه الغربية التي تواجه الموجة الإلحادية الجديدة (بناء على التعاطي الفلسفي) الفيلسوف وليام لان كريغ -أستاذ الفلسفة في كلية تالبوت اللاهوتية وجامعة هيوستن-  والحائز على الدكتوراة في فلسفة الدين من جامعة برمنغهام عن دراسته للبرهان الكوني (الكوزمولوجي) على وجود الله عند المتكلمين المسلمين الكندي والغزالي والمتكلم اليهودي العربي الفيومي- عبر “البرهان الكوزمولوجي الكلامي” حيث طوّر البرهان الوجودي (الكوني، أو الكوزمولوجي) على وجود الله بدعم المنطق الحديث؛ بناء على دراساته الموسَّعة لعلم الكلام الإسلامي([11]).

2- الانتقال من حال الرد إلى النقد: فليست قضية الإيمان بالخالق أمراً هامشيًّا وإنما هي أساس التعاطي مع الوجود كله، والتوقف عند الرد معضلة توحي بالانهزام والفراغ العلمي؛ إذ إن “التيار الإلحادي تيار هدمي؛ يسعى أفراده إلى هدم التصورات الدينية دون أن يقدموا فلسفتهم الخاصة للوجود، ومتى ما سعوا في ذلك فمن السهل ملاحظة حالة التعجل والسطحية والحيدة عن مواضع الإشكال، وهو ما يكشف عن مشكلات كثيرة تعصف بهذا الخطاب”([12]).

إن النسق الإلحادي عمومًا يوقع نفسه في العديد من المآزق العقلية التي لا ينبغي المرور عليها دون التوقف عندها وتناولها تشريحيًّا والتشهير بها، كمسألة القيمة الأخلاقية، والإرادة الإنسانية الحرة، والموقف من أساس وجود الكون ذاتيًّا بالصدفة، وقضية الوعي والإدراك، ومعضلات تناقضات نظرية التطور([13]).

في الختام لا بد من الإشارة إلى بعض الحالات الفردية والمؤسسات ذاتية التمويل (غير الربحية) التي أسهمت في الرد على الإلحاد الجديد بالمنطوق العربي أو بالترجمة إليه، ولعل أشهرها محاضرات د. عدنان إبراهيم، ومن أشهرها سلسلة “مطرقة البرهان وزجاج الإلحاد”. فعلى الرغم من الانتقادات الموجهة إلى عدنان إبراهيم إلا أنه من المتابعين الجيدين لتطور الإلحاد في الساحة الغربية،إضافة لمحاولات طبيب الجراحة المصري د. عمرو شريف، في كتبه، مثل: خرافة الإلحاد، الإلحاد مشكلة نفسية، رحلة عقل، كيف بدأ الخلق.

أما في جهة المؤسسات فقد ظهرت بعضها –قريبًا- على نطاق ضيق، ومنها تجربة مركز (براهين)، ومركز (دلائل)، ومركز (تكوين)، ومركز (الفتح) للبحوث والدراسات، حيث اعتمدت ترجمة الكتب العلمية الغربية التي تنقد الإلحاد إلى اللغة العربية مع نشر الكتب العربية ذات المحتوى الرصين في الحقل ذاته، مع العمل على نشر دوريات إلكترونية في كل ما يرتبط بموضوعات الإلحاد، إضافة لقنوات فعّالة على يوتيوب تتوزع أعمالها بين الترجمة والإنتاج.


الهوامش

([1] )  ينظر مقال همام يحيى على مدونات الجزيرة: محاربة الإلحاد، المشروع الفاشل، http://blogs.aljazeera.net/blogs/2016/10/31/%D9%85%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B4%D9%84 ، وينظر أيضًا سلسلة أحمد خيري العمري حيث يرى أن لا دليل علمي على وجود الله في سلسلته (أنتي إلحاد) الحلقة الثانية youtube.com/watch?v=7X7yvc0gBdk.

([2] )  عبد الله بن صالح العجيري، ميليشيا الإلحاد، مدخل لفهم الإلحاد الجديد، مركز تكوين، السعودية، ط2، 2014. ص 19- 28. وللتوسع في التعرف على متزعمي حركة الإلحاد الجديد ينظر هذا التقرير المترجم (3 أجزاء): https://www.sasapost.com/atheism6/ https://www.sasapost.com/atheism7/ https://www.sasapost.com/atheism8/

([3] ) ينظر: ميليشيا الإلحاد: 29- 42.

([4] ) عبد الله بن سعيد الشهري، ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان، مركز نماء، بيروت، ط1، 2014، ص 16- 17.

([5] ) ينظر: ميليشيا الإلحاد: 120- 121. وينظر مقال المفكر عبد الوهاب المسيري: حداثة داروينية أم حداثة إنسانية، http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2009/10/10/%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB%D8%A9-%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D9%88%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D9%85-%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB%D8%A9-%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9

([6] ) عمرو شريف، رحلة عقل، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط4، 2011، ص 21.

([7] ) ينظر ستيفن هوكنغ، التصميم العظيم، ترجمة أيمن أحمد عيّاد، دار التنوير، بيروت، ط1، 2013. ص 215- 217، وينظر رد البروفيسور جون لينكس على ستيفن هوكينج: https://www.youtube.com/watch?v=LALhUZiZg5s

([8] ) ينظر مقال الغارديان الذي يذكر هذه المقولة التي ذكرها ريتشارد في حوار له مع ستيفن واينبرج: Richard Dawkins, told the eminent biologist: “If you discovered a really impressive fine-tuning … I think you’d really be left with only two explanations: a benevolent designer or a multiverse.”، https://www.theguardian.com/commentisfree/belief/2008/dec/08/religion-philosophy-cosmology-multiverse وينظر  بعض مقاطع يوتيوب ومحاضراته مترجمة عن الإنكليزية إلى العربية: https://www.youtube.com/watch?v=nzM9L5VusnI ، https://www.youtube.com/watch?v=H0A320svRB4

https://www.youtube.com/watch?v=nzM9L5VusnI]

([9] ) ينظر [ميليشيا الإلحاد: 134، 135] ومقالة أفردته قناة (بي بي سي) عن تجربة جامعة بليموث البريطانية: http://news.bbc.co.uk/2/hi/3013959.stm ، ومقالة على موقع “الباحثون السوريون” عن مبرهنة القرد اللامتناهية: http://www.syr-res.com/article/1605.html

([10] ) ينظر: مقال همّام يحيى محاربة الإلحاد.. وتنويهه على وجوب تمتع هذه المؤسسات برأس مال حر ورسالة أكاديمية تسمح بتعدد الآراء.

([11] ) ينظر محاضراته المترجمة في يوتيوب عن تطويره لهذا الدليل وكيفية استخدامه في الرد على الإلحاد: https://www.youtube.com/watch?v=bMxhl5F7QII، وهنا حوار عن هذا الدليل: https://www.youtube.com/watch?v=ZN3cBItb2S0.

([12] ) ينظر: ميليشيا الإلحاد:148.

([13] ) للتوسع في هذه القضايا ينظر ميليشيا الإلحاد: 148- 175، وخرافة الإلحاد: 278- 314.

“نظرية كل شيء”.. حقيقة أم أسطورة؟ (2 من 2)

استعرضنا في الجزء السابق موجزا لنظرية كل شيء، ونبدأ الآن بسرد مجموعة من أهم الاستنتاجات والاعتراضات على وجود نظرية لكل شيء:

1- على مدار التاريخ -وخاصة في القرنين الماضيين- أعلن العديد من العلماء المشهورين أننا نكاد نصل الى تفسير لكل شيء نظرياً ولم يتبق أمامنا سوى بحث التطبيقات العلمية، ومن هؤلاء ألبرت ميكلسون وكلفن وستيفن هوكينغ وستيفن واينبرغ.

ويشبه حال هؤلاء العلماء حال ذاك الطفل الصغير الذي تعلم جدول الضرب في علم الحساب فظن أنه بلغ أقصى ما قد يبلغه إنسان، وأنه امتلك ناصية كل العلوم، ولكن في كل فترة نتفاجأ باكتشافات جديدة تزيد معها حيرة العلماء وتتزايد معها أسئلتهم حول الكون.

بول ديفيز

2- وصف بول ديفيز البحث عن نظرية كل شيء بأنه أصبح شيئاً كالبحث عن الكأس المقدسة للفيزيائيين وأن فكرة كهذه بلا شك مضللة. واستخدم ديفيز هنا عبارة الكأس المقدسة كناية -بل استحالة- إيجاد مثل هذه النظرية.

فالعلماء مثلاً حتى الآن عاجزون عن وضع نظرية تشرح آلية عمل بعض أجهزة جسم الإنسان، فكيف يريدون فهم كل شيء في الكون من خلال هذه النظرية.

3- هناك اعتراضات على نظرية كل شيء من علماء كبار في الفيزياء لهم وزنهم، فكما مر معنا في الجزء السابق فإن أحد من ساهم بتوحيد القوى النووية الضعيفة مع القوى الكهرومغناطيسية هو العالم الباكستاني محمد عبد السلام، ولكن هذا العالم نفسه يؤكد أنه لن يكون باستطاعتنا الحصول على نظرية كل شيء لأننا لا نستطيع اختبارها، فيقول: “أن نكون قادرين على الحصول في يوم ما على ما يسمى نظرية كل شيء، فأنا شخصياً لا أعتقد ذلك. فعلى كل حال يجب ألا نؤمن بوجود نظرية تصلح حتما فيما يتعدى إمكان اختبارها”[1]. ثم يتحدث عن أن إجراء مثل هذا الاختبار يتطلب إنشاء معجل جسيمات يبلغ طوله عشر سنوات ضوئية على الأقل! وهنا تظهر إجراء مثل هذا الاختبار.

من المعترضين أيضاً على وجود مثل هذه النظرية العالم الشهير ريتشارد فاينمان صاحب الإسهامات الكبيرة في ميكانيكا الكم، والذي يؤكد أن فهم الحوادث يختلف عن تحليلها ومعرفة ماهيتها ويشبهها بلعبة الشطرنج فيقول: “الإنسان يستطيع أن يتعلم كل قواعد الشطرنج لكن هذا لا يكفي كي يلعب جيداً، وكذلك يستطيع أن يتعلم كل قواعد الفيزياء، والواقع أننا نعرفها بدقة كافية فيما يخص الظواهر العادية على الأرض. لكن هذا لا يعني أننا نستطيع تحليل كل شيء”. وهذا رد هام على هوكينغ الذي يدّعي في نهاية كتابه التصميم العظيم أننا بمعرفة نظرية كل شيء سنفهم التصميم العظيم لهذا الكون!

ستيفن واينبرغ

4- على عكس عبد السلام وفاينمان فإن الفيزيائي الملحد المشهور ستيفن واينبرغ يؤيد وجود نظرية لكل شيء بشدة وأنها متخفية بين الذرات والمجرات وتنتظرنا لاكتشافها، ويثق بأن العلماء سيكتشفونها قريباً حيث يقول: “حسب تخميني الشخصي توجد نظرية نهائية ونحن قادرون على اكتشافها. وقد تعطينا التجارب التي سوف تستخدم المصادم الفائق نتائج جديدة يستطيع النظريون أن يستكملوا بها المعلومات عن النظرية النهائية… حتى أننا قد نستطيع أن نجد من بين النظريات الوترية نظرية مرشحة لمنصب نظرية نهائية”[2].

ولكن الفيزيائي الآخر فريمان ديسون يرد على ادعاءات واينبرغ فيقول: “أنا لا أثق بأحكام واينبرغ عن الأسئلة الفلسفية لأنني أعتقد أنه يبالغ جداً بتقدير استطاعة أو مقدرة العقل البشري لإدراك مجمل الطبيعة… أنا أجد أن فكرة نظرية نهائية هي فكرة بغيضة لأنها تنتقص من غنى الطبيعة وغنى المصير الإنساني على حد سواء. ثم يشير فريمان إلى قول نيوتن الرائع: “أنا لا أعرف ما أبدو عليه أمام العالم ولكنني بالنسبة لنفسي فأنا مثل طفل صغير يلعب على شاطئ البحر مسلياً نفسي بإيجاد حصاة أنعم أو صدفة أجمل من المعتاد بينما محيط عظيم من الحقيقة يرقد غير مكتشف أمامي.”[3]

5- هذه النظرية تتعلق بالفيزياء فقط فكيف تم إغفال باقي فروع العلم؟ وكيف تم اختصار كل شيء بالفيزياء فقط؟ كيف يدعي بعض الفيزيائيين أنهم سيضعون نظرية لكل شيء من خلال ميدان الفيزياء فقط؟ من أعطاهم الأولوية لهذا الأمر؟ يقول روبرت شيلدراك صاحب كتاب (وهم العلم): “قد يدعي أصحاب دراسات الوعي أن لهم الأولوية -أي بوضع نظرية لكل شيء- لأن الفيزياء تنتج من قبل الدماغ البشري وتعتمد بشكل كلي على الوعي البشري. فمعادلات ماكسويل ونظرية الأوتار الفائقة ليست موجودة كحقائق مستقلة: إنها بنى عقلية”[4]

هذا يدخلنا في جدل الاختزالية (Reductionism) حيث يعترف واينبرغ بهذا الأمر بصراحة فيقول: “فيزيائيو الجسيمات العنصرية هم الأكثر عرضة أن يدعوا اختزاليين، وغالباً ما كان كره الاختزالية سبباً في سوء العلاقات بينهم وبين العلميين الآخرين.”[5]

والاختزالية بتعريفها البسيط هي محاولة تفسير النظريات أو الظواهر الطبيعية من خلال وصف أبسط لشروطها أو لمكوناتها الأساسية، وحسب المنهج الاختزالي فإن بعض الحقائق أكثر أهمية من حقائق أخرى، فمثلا فيزيائيو الجسيمات يعتقدون أن الكيمياء يمكن إرجاعها للفيزياء وكذلك يعتقد بعض علماء البيولوجيا الاختزاليين أن دراسة حمض الدنا (DNA) ذات أهمية أكبر من باقي فروع البيولوجيا لأنها ستقودنا إلى سر الحياة بزعمهم، وما يهمنا في الموضوع هنا أن نظرية كل شيء تجسد الاختزالية بأبهى صورها بلا شك. ففي السابق وحتى الآن وُجهت العديد من الانتقادات لهذا المنهج الاختزالي في العلم، والكثير من العلماء يعتقدون أن فيزياء الجسيمات ليست هي الفرع الأشد أهمية في العلوم وأن هناك علوما أخرى ذات أهمية كبرى أيضاً، كما أن هذا المنهاج سيؤدي بالضرورة إلى الانتقاص من بقية الفروع العلمية، وكما هو معروف يتطلب هذا المجال إنفاقاً هائلاً وخاصة عند بناء المصادمات عالية الطاقة التي يكلف إنشاؤها مليارات الدولارات.

جيمس جينز

6- أخيراً يقول عالم الكونيات جيمس جينز، وبعقلانية شديدة وبكلمات تختصر الموضوع: “إن مراجعة الفيزياء الحديثة أظهرت لنا أن كل المحاولات لوضع نماذج أو صور ميكانيكة قد فشلت ولا بد أن تفشل، لأن أي نموذج أو صورة ميكانيكية لا بد أن يمثل الأشياء على أنها تقع في المكان والزمان، بينما اتضح مؤخراً أن العمليات النهائية للطبيعة لا تقع في المكان والزمان ولا تسمح بالتمثيل فيهما  وعلى هذا يكون فهم العمليات النهائية للطبيعة محرماً علينا إلى الأبد، فلن يمكننا أبداً –ولو في الخيال- أن نفتح مظروف هذه الساعة لنرى كيف تتحرك تروسها، والهدف الصادق للدراسة العلمية لن يكون أبداً حقائق الطبيعة؛ بل مشاهداتنا الخاصة للطبيعة وحسب”[6].


الهوامش

[1] بول ديفيس جوليان براون، الأوتار الفائقة نظرية كل شيء، ترجمة أدهم السمان، دار طلاس،1993 ص157

[2] ستيفن واينبرغ، أحلام الفيزيائيين بالعثور على نظرية نهائية جامعة شاملة، ترجمة أدهم السمان، دار طلاس، الطبعة الثانية 2006 ص184

[3] Freeman Dyson ,Dreams of earth and sky, The New York review of books, Hudson street ,2015 p.154

[4] Rupert Sheldrake, The science delusion,Hodder&Stoughton.,UK company,2013 p.324

[5] ستيفن واينبرغ، أحلام الفيزيائيين بالعثور على نظرية نهائية جامعة شاملة، ترجمة أدهم السمان، دار طلاس، الطبعة الثانية 2006 ص51

[6] جيمس جينز، الفيزياء والفلسفة، ترجمة جعفر رجب، دار المعارف،1981 ص237

“نظرية كل شيء”.. حقيقة أم أسطورة؟ (1 من 2)

في عام 1849، وبعد عدد كبير من التجارب الفاشلة لتوحيد قوة الجاذبية المكتشفة من نيوتن مع القوى الكهربائية، كتب العالم الشهير مايكل فاراداي في دفتر يومياته: “هنا تنتهي التجارب التي أقوم بها في الوقت الحاضر، النتائج سلبية. ولكنها لم تهز شعوري القوي بوجود علاقة بين الجاذبية والقوى الكهربائية حتى وإن لم أجد دليلاً على وجود مثل هذه العلاقة.”[1]

كانت هذه من أولى المحاولات العلمية لتوحيد قوى الطبيعة في نظرية واحدة تفسر لنا؛ لماذا تتصرف القوى الأساسية في الكون على هذا النحو، ومحاولة فارادي هذه كانت في وقت لم تُكتشف فيه القوى النووية الضعيفة والقوية بعد كمكونات أساسية لقوى الطبيعة.

بناء على أعمال فاراداي السابقة وضع الفيزيائي البريطاني جيمس كليرك ماكسويل معادلاته الشهيرة التي تصف سلوك المجالين المغناطيسي والكهربائي، وهكذا وحّد القوى الكهربائية مع القوى المغناطسية في قوة واحدة سميت القوى الكهرومغناطيسية.

أينشتاين

جاء الدور بعدها على أحد أعظم فيزيائيي القرن العشرين، ألبرت أينشتاين، ليحاول توحيد قوى الجاذبية مع الكهرومغناطيسية على نفس الأسس الهندسية تحت اسم نظرية المجال الموحد (Unified field theorey)، ولحوالي أربعة عقود من عمره وحتى موته عام 1955 باءت كل محاولاته بالفشل؛ بل قال بعض منتقديه إنه كان على أينشتاين أن يعمل بصيد السمك بدلاً من البحث عن مثل هذه النظرية!

وفي تلك المدة أيضاً أصبح هناك جو من الهوس العالمي يحيط بهذه النظرية، فالصحف الكبرى مثل نيويورك تايمز كانت تتحدث دائماً عما يمكن لأينشتاين فعله لإيجاد مثل هذه النظرية، ووصل الأمر ببعض قساوسة الكنائس لإعلان أن إيجاد هذه النظرية هو دليل على وحدة العالم كما جاء في رسائل بولس![2]

مع بداية القرن العشرين وانطلاق ثورة ميكانيكا الكم لتسبر أغوار الذرة والجسيمات الذرية، أضيفت كل من القوتين النووية الضعيفة والقوية إلى القوى الرئيسة في الطبيعة ليصبح عددها أربع قوى وتصبح على الشكل التالي:

1- قوة الثقالة أو الجاذبية وهي أضعفها ولكن تأثيرها شامل.

2- القوى الكهرومغناطيسية.

3- القوى النووية الضعيفة وهي المسؤولة عن النشاط الإشعاعي.

4- القوى النووية القوية وهي التي تمسك البروتونات والنيترونات معاً في نواة الذرة وتمسك الكواركات المكونة لهذه البروتونات والنترونات كذلك.

في عام 1967 تم توحيد القوى الكهرومغناطيسية مع القوى النووية الضعيفة بفضل جهود العالمين الباكستاني محمد عبد السلام والأمريكي ستيفن واينبرغ، ومنحا جائزة نوبل لمساهمتهما في هذا الإنجاز عام 1979.

وهنا يجدر القول إن الصعوبة الكبرى عند إيجاد النظرية الموحدة تتعلق بقوة الجاذبية، فالقوى الأخرى يمكن توحيدها بنظرية واحدة ولكن عندما يتم ضم الجاذبية إليها فإن الأمر يصل إلى طريق مسدود.

كان هذا سرداً موجزاً لأهم المحطات على طريق إيجاد نظرية كل شيء فما هي هذه النظرية؟

بشكل مبسط هي محاولة لتوحيد قوانين ميكانيكا الكم التي تصف الأشياء الدقيقة والميكروسكوبية في الكون (كالجسيمات الذرية وتحت الذرية) مع نظرية النسبية العامة لأينشتاين والتي تصف الأشياء الضخمة والكبيرة في الكون (كالنجوم والكواكب)، وهذا التوحيد يتم من خلال دمج القوى الأربعة الكبرى في الكون مع بعضها لتشكل نظرية كل شيء.

ويشير ستيفن هوكينغ في نهاية كتابه التصميم العظيم الى أن التوصل إلى مثل هذه النظرية سيمكننا من فهم الدقة والضبط الموجودين في الكون، وأن هذه النظرية ستكون نموذجاً للكون الذي يخلق نفسه![3].

نبدأ الآن تفصيلاً حول هذه النظرية، بداية من نظرية الأوتار التي يصفها ستيفن جابسر بقوله: “يعتبر ادعاء نظرية الوتر أن المكونات الأساسية التي تكون كل المادة ليست جسيمات، ولكنها أوتار. وتشبه الأوتار قطعة دقيقة من المطاط لكنها رفيعة جداً جداً ويُفترض أن يكون الإلكترون حقيقة وتراً يتذبذب ويدور بمقياس صغير للغاية يمنعنا من سبر كينونته حتى بأحدث مسرعات الجسيمات تطوراً حتى وقتنا هذا”.[4]

ففي الطبيعة الجسيمات الأولية المكونة لكل شيء في هذا الكون –طبعاً المكتشفة حتى الآن- تنقسم إلى نوعين:

1-بوزونات (Bosons) وهي الجسيمات التي تحمل الطاقة في المادة، ومن أمثلتها الفوتونات التي تحمل القوى الكهرطيسية، والغرافتونات التي تحمل القوة الثقالية أو قوة الجاذبية وغيرها.

2-فيرمونات (Fermions) والتي تنقسم إلى نوعين: كواركات مكونة للبروتونات والنترونات، ولبتونات كالإلكترونات وغيرها.

كان الطرح الأول لنظرية الأوتار في الستينات مع نظرية الوتر البوزونية (Bosonic string theory)، وجرى استبعاد هذه النظرية لاحقا لأنها تتنبأ بوجود البوزونات فقط كأوتار مع أن العديد من الجسيمات الأولية في الحقيقة هي فيرمونات كما بينت في التقسيم السابق.

ولكن في الثمانينات التي عُرفت فيما بعد بثورة الأوتار الفائقة الأولى، دخل مصطلح التناظر الفائق في سياق نظرية الوتر، وهو عبارة عن نظرية تربط قوة الجاذبية مع بقية القوى الكبرى بافتراض وجود علاقة ربط بين الجسيمات الأولية من فيرمونات وبوزونات.

وبعد ظهور التناظر الفائق، ظهرت على السطح خمسة نماذج جديدة لنظرية الأوتار ذات عشرة أبعاد، كل منها كان مرشحاً ليكون هو نظرية كل شيء.[5]

وفي منتصف التسعينات مع الثورة الثانية للأوتار الفائقة، أظهرت التجارب والنتائج أن كل النظريات أو النماذج الخمسة السابقة للأوتار هي أجزاء من إطار أكبر موحد لها أطلق عليه اسم نظرية إم (M-theory) وهي ذات أحد عشر بعداً، واحد منها زماني والبقية أبعاد فضائية، وتم إضافة هذا البعد الأخير ليصبح الوتر شبيها بالغشاء، أي غشاءً ببعدين وليس وتراً خطياً ببعد واحد، ومن هنا أصبحت النظرية النهائية ذات أحد عشر بعداً. وانضمت إليهم أخيراً نظرية الجاذبية الفائقة (Supergravity theory) ليصبح لنظرية إم أو نظرية كل شيء ستة أضلاع رئيسة يشبها الفيزيائي الأمريكي براين غريين بنجم البحر ذي الستة أذرع.[6]

وسنستعرض في الجزء الثاني أهم الانتقادات الموجهة لهذه النظرية.


الهوامش

[1] George Gamow ,the great physicists from Galileo to Einsten,Harper&Brothers,1961 p.149

[2] والتر إيزاكسون، أينشتاين حياته وعالمه، ترجمة هاشم أحمد، كلمات عربية للترجمة والنشر ،2010 ص 350 وما بعدها

[3]  ستيفن هوكينغ ليونارد ملودينوو، التصميم العظيم، ترجمة أيمن أحمد عياد، دار التنوير للطباعة والنشر،2013 ص216، 217 بتصرف

[4] ستيفن جابسر، الكتاب الموجز لنظرية الوتر، ترجمة إيمان طه أبو الذهب، المركز القومي للترجمة ،2016 ص7 وما بعدها

[5] John Gribbin ,In search of the multiverse, John Wiley&SonsLInc.,Hoboken, New Jersey,2009 p.152

[6] برايان غرين، الكون الأنيق، ترجمة فتح الله الشيخ، المنظمة العربية للترجمة،2005، ص315 وما بعدها.

هوامش على مسألة الترحم على الملحد

بقدر وضوح الحق عبر العصور، بقدر كثرة الدخن الحائم به في هذا الزمان! فكلما هبت عاصفة على أرض عقول شبابنا في هذا الفضاء الأزرق أبانت للأسف عن اتكائها على جذوع بالية توشك أن تسقط إن لم تتعهدها أمطار الإيمان وريّ تصحيح المفاهيم والمسلمات الإيمانية.

ومن أشد تلك الجذوع وهْنًا هو ما أبانت عنه حادثة موت الفيزيائي البريطاني الملحد ستيفن هوكينغ مؤخرا، فمن الغرابة أن تجد شابا ضرب في صغره على حفظ آيات الوعيد في المشركين، ومع ذلك يَقسم لمن كان يجحد وجود الخالق من رحمة الخالق في الآخرة الذي أختص بها الموحدين. والأغرب أن تجد من يحاضر ويعتلي المنابر باسم العلم يردد دعاء الرحمة في حق من كان ينكر صاحب الرحمة.

قرأت ذلك في تدوينة للدكتور عدنان إبراهيم هداني الله وإياه، كما قادتني موجات هذه الفضاء إلى قراءة ومحاورة من تربى على مبادئ القرآن وضرب على حفظه ومع ذلك يُفهم من كلامه أن الإسلام ليس شرطا للجنة، وهذا أمر في غاية الخطورة أعاذنا الله ويحتاج إعادة صيانة لمرتكزة المفاهيم..

عدنان إبراهيم

طبعا تدوينة الدكتور عدنان وأمثاله هي السوسة التي نخرت في جذوع مسلمات شبابنا حتى استطاعت أن توصل ضوء الحضارة الزائف إلى أماكن في عقول شبابنا كانت في السابق حكرا على نور القرآن الخالد! فحدث الخلل للأسف وتاهت عقول في فيافي “نورانية” الحضارة المعاصرة!

الحادثة كشفت عن حالة مرضية يتداخل فيها عجز أجهزة متعددة، من خلل في مفهوم حصر الرحمة في الأخرى على أهل التوحيد أو بعبارة أدق صدق الوعيد بالنار لمن لم يمت على التوحيد، ثم خلل في مفهوم العلم هل هو من الشخص لكي يعتد له به أم يرجع إلى قدرات منحها الله له بفضله -والحالة التي بين أيدينا أكبر شاهد- وخلل آخر متعلق بالفضول الزائد أو “الترشة” في الدخول بين الرب وحكمه العادل في عباده ويخشى على صاحبها إن لم يتدارك.

الخلل الأول
روي في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم “العلم علمان: علم على اللسان فذلك حجة الله تعالى على خلقه وعلم في القلب فذلك العلم النافع”، وكثيرة هي أحاديث طلب العلم وكفى بكلمة الافتتاح إقرأ من مثال على ذلك.

وبالتالي لا خلاف في تحفيز الإسلام على طلب العلم، بل إن الإسلام لم يأت سوى بمرجحين اثنين: العلم والتقوى! فجعل التقوى عملة الآخرة الوحيدة، وترك العلم بدلالته الواسعة قسما بين أهل الدنيا وهو السلالم التي تتفاضل أبناء البشر بمختلف أديانهم وأجناسهم بها، وما ذاك إلا لرحمته تعالى بخلقه، فلو ربط العلم بالإسلام لعاش غير المسلمين في شقاء هنا وهناك أو لأسلم الناس جميعا وكان ذلك إكراها لهم: {لا إكراه في الدين}.

أذكر ذات مرة أنني كنت في مكتبة جامعية أحاول أن أراجع بعض الدروس -على كسلي- وفجأة جلست على طرف الطاولة الآخر متبرجة وأخرجت دروسها وبدأت في المراجعة! فما كان من الشيطان إلا أن قال لي وأنا الذي تربيت على ربط العلم بالتقوى حيث حفظت في الصغر: “شكوت إلى وكيع سوء حفظي… فأرشدني إلى ترك المعاصي”. بدأ عليه لعنة الله يحاول أن يدخل من باب أن ما تراه عيني يناقض مسلمتي، يريد أن ينسف المسلمة بالواقع: مافي البصيرة بما يرى البصر! ولكن الله سلم حين قاد الخاطر إلى أن العلم بمفهومه الواسع وخاصة ما يتعلق بتطور الحياة لم يربط بالإيمان لكي لا يكون في ذلك إجبارا للناس على الإسلام، وأن العلم الدنيوي وضع في الوسط من الجميع ويختلف نفعه باختلاف حامله، مثله مثل الشراب والإناء! فقد يصلح الشراب ويفسد الإناء فيفسد الشراب! ثم إن التي أمامي قد يكون أذن لها في تحصيل العلم رأفة ورحمة بعيال ستعيله ربما انتظرها لسنوات.

ولكن المسلم خاصة لا يراد منه إلا أن يكون كالشراب الصالح في الإناء النظيف! ولو كان متعلمو الأمة وخاصة في العلوم المعاصرة بتلك الميزة لكنا في مقدمة الأمم!

ومما حز في نفسي مرة وأنا في حصة لأستاذ لعب الشيب برأسه وقد أتاه الله علما ولكنه لما أراد أن يعطي مثالا على الرشاقة في درس عن مشكلة السمنة، لم تسعفه ذاكرته أمام طلابه في ذكر غير الفنانة هيفاء وهبي!

فرضي الله عن الفاروق حين يقول: إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم. قالوا: وكيف يكون منافقاً عليماً؟ قال: عليم اللسان جاهل القلب والعمل.

الخلل الثاني
ذكر العلم وكأنه من صاحبه، فأصحابه يقرئهم السلف السلام حين كانوا إذا رأوا نعمة على شخص قادتهم للمنعم ولا يحجبهم نورها الظاهر على المنعَم عليه عن مانحها، فما روي عنهم سوى: آتاه الله علما، وأوتي فهما، وفتح الله عليه.

الخلل الثالث
والأخطر حيث يلعب البعض دور “حبة الفلجة” بين حكم الخالق العادل على مخلوقه، ويصور له الشيطان أنه أرحم حشىً، حين يدخل في الرحمة من أخرجه الرحمن منها أعاذنا الله، ففي الموسوعة الفقهية “اتفق الفقهاء على أن الاستغفار للكافر محظور، بل بالغ بعضهم فقال: يقتضي كفر من فعله”، ونقل الإجماع كذلك النفراوي في شرحه للرسالة، وهذا الذي عدوه مبالغة، نص عليه الجصاص الحنفي، القرافي المالكي وأيده ابن أمير حاج الحنفي وغيرهما. وأصحاب هذا الطرح يقرئهم الصديق رضي الله عنه السلام حيث أجاب ابنه وفلذة كبده أنه لو كان التقى به في غزوة بدر لقتله تقربا إلى الله.

ويقرئهم السلام عبد الله بن عبيد الله بن أبيّ حين وقف على باب المدينة يريد أن يقطع رأس أبيه، فعلى كل من وجد في قلبه ترددا وعدم طمئنية بحكم الله إذا صدر أن يتدارك قبل فوات الأوان.

وكل علم لا يزيد إلى الله قربا فصاحبه كالآلة التي ينتفع بها ولاتنتفع بسر نفعها! والحقيقة التي لاتقبل النقاش هي أن كل من لم يؤمن بالحبيب صلى الله عليه وسلم لا مطمع له بالنجاة والرحمة، فلا أقل من حين غلبتنا أهواؤنا نحن معشر المسرفين فلم نستطع أن نطبق الإسلام بأفعالنا فإيانا وإيانا أن لا نعيشه بقلوبنا!

ثم إيانا أن ينفذ إلى صورته المنطبعة في قلوبنا انبهارنا من أي شيء ليغير في قاعدة بياناتها ويجعل فيها: لوحة تحكم غير الإسلام! لا قدر الله.

رزقنا الله الثبات على الحق ووفقنا للعيش بالإسلام وللإسلام ونجانا من الفتن ماظهر منها وما بطن، وعجل الله بالفرج عن أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم.

هوكينغ يرحل قبل أن يفهم “عقل الإله”!

أثبت لنا تاريخ العلم الحديث عجز العقل عن تصديق دعوى استغنائه عن البحث في أسئلة الوجود الكبرى، بل ظل القلق ملازما له حتى في مراحل الرخاء التي مر بها بين حملاته الدموية الرهيبة.

وشهد التاريخ المعاصر حالات كثيرة من الردة نحو الخرافة والأساطير، بل إن كثيرا من العلماء لم يتخلوا بسهولة عن بعض المفاهيم البائدة، فقد ظل أينشتاين مصراً على إيمانه بالحتمية التي تخلى عنها علماء الكم (الكوانتم)، فصرّح قبل وفاته للعالم الدانمركي نيلز بور بإيمانه بأن “الله لا يلعب النرد”، إذ كان يعتقد بأن الله الذي خلق هذا الكون المؤطر في حدود الزمان والمكان لا بد أن يسيّره بقانون كامل ومتناسق، وأن العقل البشري لن يعجز عن اكتشاف هذا القانون.

ويبدو أن الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكينغ ظل متمسكا لمدة أطول بهذه الفكرة الجريئة، وبالرغم من تخليه عنها في سنواته الأخيرة فقد ظل مصرا حتى وفاته على ما هو أكثر جرأة، وهو رفض وجود الإله نفسه!

حمل هوكينغ لواء البحث عن ذاك القانون معظم حياته، وازدات ثقته عندما نجح كل من غلاشو وواينبرغ ومحمد عبد السلام في تطوير نظرية تجمع بين القوتين الكهرطيسية والنووية الضعيفة[1] في سبعينيات القرن الماضي، وكذلك عندما ظهرت عدة محاولات لدمج هاتين القوتين مع القوة النووية القوية، إذ أمكن جمع هذه الأخيرة مع القوة النووية الضعيفة في نظرية “النموذج المعياري”، وتسمى النظرية المتوقع اكتشافها لتوحيد القوى الثلاث بالنظرية الموحدة الكبرى GUT. ولو تم ذلك، كان من المقرر أن يتابع هوكينغ المهمة لتكميم نظرية الجاذبية -الخاضعة لنظرية النسبية- أسوة بالقوى الأخرى، وإيجاد جسر يربط بين نظريتي الكم والنسبية العامة، ومن ثم توحيد القوى الأربع في نظرية واحدة سوف يطلق عليها اسم “نظرية كل شيء”، الأمر الذي يصفه هوكينغ بإدراك “عقل الإله”!

ففي ختام كتابه الشهير موجز تاريخ الزمن “A Brief History of Time” الصادر عام 1988 يقول: “وعلى كل حال لو اكتشفنا فعلاً نظرية كاملة، فإنه ينبغي بمرور الوقت أن تكون قابلة لأن يفهمها كل فرد بالمعنى الواسع وليس فقط مجرد علماء معدودين. وعندها فإننا كلنا فلاسفة وعلماء وأناساً عاديين سنتمكن من المساهمة في مناقشة السؤال عن السبب في وجودنا، نحن والكون. لو وجدنا الإجابة عن ذلك، فسيكون في ذلك الانتصار النهائي للعقل البشري لأننا وقتها سنعرف عقل الله”.

هل يمكن أن نفهم كل شيء؟
في كتابه “هوكينغ وعقل الإله” “Hawking and the Mind of God” الصادر عام 2000، ينتقد أستاذ الفيزياء الكونية في جامعة نوتينغهام “بيتر كولز” زميله هوكينغ في أطروحته، ويرى أن مجرد طموحه لبلوغ هذا الهدف يعد أمراً خارجاً عن العلم، ويسرد لذلك أسباباً عدة، نلخصها كما يلي:

1- إن العالَم الذي نقوم بدراسته اليوم ونصوغ المعادلات الرياضية والقوانين الفيزيائية لتفسيره ليس هو العالم الواقعي على حقيقته، ويفسر الفيزيائي إدوين شرودنغر ذلك بأننا لا نستطيع التعرف على الشيء دون التدخل الذي قد يؤدي إلى تغيير في بعض خواصه، مما يعني استحالة إدراكه على ما هو عليه في حقيقته، وبالتالي فإن معرفتنا عن العالم أو حتى عن ذواتنا ليست موضوعية مئة بالمئة، بل تتدخل فيها الذات تدخلاً جوهرياً لا يمكن تجنبه.

2- إن معرفتنا بالعالم المادي مصاغة على هيئة معادلات وقوانين وضعية من صنع البشر، ويحق لنا أن نتساءل هنا إن كانت حقيقة هذه الطبيعة رياضية حقاً، كما يحق لنا ألا نكتفي برد العلماء والفلاسفة الذرائعيين بأن القوانين المتاحة ليست أكثر من وصف مفيد للطبيعة، وأن دلالتها ترتبط بجدواها التي ما زالت تتأكد كل يوم. إذ ما الذي يمنع من تحقق افتراض عدم جدواها في ظرف ما يمكن أن يقع في المستقبل؟ بل حتى في ظرف مماثل للذي يتكرر كل يوم؟ وما الذي يعطي تفسيراتنا هذه الحتمية سوى اعتيادنا عليها كما يقول ديفيد هيوم والغزالي؟

3- إن افتراضنا لإمكانية التوصل إلى نظرية كل شيء قد يتعارض مع احتمال اختلاف قوانين الفيزياء التي كان الكون يخضع لها في بداية نشأته، إذ تشير الدراسات الحديثة إلى أن المراحل المبكرة من عمر الكون -الأقرب إلى لحظة الانفجار العظيم- تتقارب فيها القوتان الكهرطيسية والنووية الضعيفة على نحو يصعب فيه التمييز بينهما، ومع أن هذا التغير محكوم بقانون آخر يعرف بنظرية الكهرباء الضعيفة، فإنه لا يمكن لنا التأكد من إمكانية تطبيق النظريات المعروفة اليوم على المراحل المبكرة لنشأة الكون حتى مع افتراض تمكننا من رسم صورة كاملة للتغيرات في الحرارة والطاقة التي مر بها، إذ لا نملك أي دليل على صحة تطبيق هذه النظريات في تلك الظروف الموغلة في القدم.

4- إن اعتقاد هوكينغ بأن مجرد التوصل إلى نظرية كل شيء سيؤدي إلى فهمه لـما يسميه “عقل الإله”، يقوم على افتراض أن وضعنا لأي قانون فيزيائي هو بمثابة فهمنا للأسرار الباطنة لهذا الكون، مع أن الكثير من العلماء يقرون بأن القوانين والنظريات ليست إلا وصفاً للحقيقة، وأنها تقتصر على وضع التنبؤات وتفسير المشاهدات والظواهر دون الغوص فيما هو أبعد من ذلك.

5- لم تعد النظريات الفيزيائية تحظى بالثقة التي تمتعت بها في السابق بعد أن تعرض المنطق الرياضي والهندسي لعدد من التطورات، مما ألقى بظلال الشك على قدرة الفيزياء القائمة على أسس رياضية على الكمال، وقد برهن النمساوي كيرت غودل عام 1931 عبر نظرية “عدم الاكتمال” على أن أي نظرية رياضية لا بد أن تحتوي على عناصر لا تقبل البرهنة من خلال النظرية ذاتها. ويلخص الفلكي جون بارو هذه الحقيقة بقوله إن العلم مبني على الرياضيات، ولا يمكن للرياضيات أن تكتشف الحقيقة كلها، فلا يمكن للعلم أن يكتشف الحقائق كلها.

لماذا كل هذه الضجة إذن؟
في الفصل الأخير من كتابه، يتساءل كولز عن سر الشهرة الكبرى التي تحيط بهوكينغ في الأوساط العامة، وذلك بالرغم من تواضع موقعه في الوسط الأكاديمي. ففي شهر ديسمبر من عام 1999، نشرت مجلة “عالم الفيزياء” Physics World نتائج استطلاع طُلب فيه من 130 من كبار فيزيائيي العالم تسمية خمسة فيزيائيين يرون أنهم أفضل من قدم إسهامات مهمة في مجال الفيزياء، وقد جاء أينشتاين على رأس القائمة بحصوله على 119 صوتا، تلاه إسحاق نيوتن، ثم جيمس كلارك ماكسويل، نيلز بور، وفيرنر هايزنبرغ، وجميعهم كانوا من الأموات. ولم يحل هوكينغ أولاً في قائمة الأحياء بعد الخمسة الأوائل، بل كان هانز بيث صاحب هذا الشرف، والطريف أن هوكينغ لم يحصل إلا على صوت واحد من بين 130 إجابة، مع أنه من أكثر الفيزيائيين شهرة في العالم اليوم!

يرد كولز هذه الشهرة الطاغية إلى ما تلعبه وسائل الإعلام من دور في صياغة الرأي العام، فصورة هوكينغ على هيئة رجل مقعد على كرسيه المدولب، والذي يتواصل عبر جهاز حاسوب صمم خصيصاً لمحاكاة صوته الخافت، لعبت دوراً في تحويل الرجل إلى أسطورة، ويمكننا أن نستشهد هنا بالهالة التي أحاطت أينشتاين في منتصف القرن العشرين لكونه ذاك العبقري الذي قلب موازين العلم، بالرغم من عجز رجل الشارع العادي عن فهم حقيقة تباطؤ الزمن مع تزايد السرعة التي جاءت بها نظرية النسبية، بل إن محاولة أينشتاين الأخيرة قبل وفاته بإصدار “نظرية كل شيء” كانت محط اهتمام الصحفيين حتى قبل صدورها، وما لبثت مسودة النظرية أن انتشرت بمجرد إعلانه عنها، إلى درجة تعليق صاحب أحد متاجر لندن صفحاتها الست على واجهة متجره الزجاجية كي يراها المارة، مع أنه لم يفهم منها شيئا!

وفي تقرير لصحيفة إندبندنت بتاريخ 11 أكتوبر 2011 تحت عنوان “العالم المجنون بستيفن هوكينغ”، يقول كولز إن العلماء الفيزيائيين يتداولون في جلساتهم الخاصة نفس النتائج التي جاء بها استبيان المجلة، إلا أنهم يعترفون بأنه من الصعب انتقاد هوكينغ علناً، لأن النقد سيُفسر تلقائيا على أنه غيرة وتحاسد بين الأقران[2].

ويقول أستاذ علم الفلك في كلية كوين ماري في لندن برنارد كار، وهو صديق هوكينغ، إنه يقر بأن هوكينغ فيزيائي عظيم إلا أن القول إنه أعظم العلماء بعد أينشتاين هو مبالغة، وهذا يعود إلى شهرته الجماهيرية، حسب قوله.

أما المحرر في مجلة عالم الفيزيائيين بيتر رودجرز فيقول إن هناك فرقا بين وجهات النظر داخل مجتمع الفيزياء وخارجه، ففي الداخل يُعترف بهوكينغ لكونه أنجز بعض الأعمال المهمة، إلا أنه لا يقترب من منزلة نيوتن، أما في الخارج فهو مشهور جدا بسبب كتابه المشهور “موجز تاريخ الزمن” الذي بيعت منه أكثر من 10 ملايين نسخة وتحول إلى مسلسل تلفزيوني.

وتقول صحيفة إندبندنت إن مراجعات المختصين لكتابه عند ظهوره لم تكن مشجعة، لكن الحملة الإعلامية الضخمة التي رافقت نشره هي التي جعلته أيقونة، خصوصا مع تركيز الناشرين على أنه كتاب علمي مبسط ومفهوم وأنه يحمل رؤى علمية تكشف ألغاز الكون وتتنبأ بفتح آفاق المستقبل، إلا أنه -بحسب الصحيفة- من الكتب التي يشتريها الناس دون أن يقرؤوها بل لتكون جزءا من مكتبة المنزل الاستعراضية.

أوباما يكرّم هوكينغ في البيت الأبيض

وتميل الصحيفة إلى القول إنه لولا إعاقة هوكينغ البدنية ما وصل إلى هذه الشهرة، حيث تهافت عليه منتجو الأفلام وصار نجما تلفزيونيا وهوليوديا، وظهر في مسلسلات “ستار تريك” و”سمبسونز” و”نظرية الانفجار العظيم”، وتلقى وسام الإمبراطورية البريطانية عام 1982، وأجرى مناقشات مع الرئيس الأميركي بيل كلينتون عام 1998، ثم تلقى وسام الحرية من الرئيس الأميركي باراك أوباما في 2009 أمام كاميرات العالم، وقدمت هوليود أخيرا سيرته في الفيلم العالمي “نظرية كل شيء” عام 2014 الذي حاز على جائزة أوسكار من بين خمس ترشيحات، بينما كان معظم زملاء هوكينغ يعملون بصمت على وضع نظريات ذات نتائج عملية تستحق التقدير، في حين لم تثبت فرضياته النظرية حتى اليوم.

قد لا نبالغ إذن في القول إن اختيار هوكينغ لعبارة “معرفة عقل الإله” لم تكن أكثر من فرقعة إعلامية، فبعد حصوله على أعلى درجات النجومية أصبح هوكينغ خبيراً في دور اللغة في لفت الأنظار، و��كفي أنه اعترف بنفسه أنه وضع تلك العبارة في ختام كتابه الجماهيري لزيادة أرباح الكتاب وأنه لو حذفها لانخفضت الأرباح إلى النصف[3].

اعتراف هوكينغ
لم يكن اعتراف هوكينغ باختياره لتلك العبارة التسويقية هو الأهم، فقد اعترف أيضا بأن الأبحاث في علوم الفيزياء والرياضيات لا يمكن أن تكتمل، تصديقا لمبدأ عدم الاكتمال لغوديل الذي أشرنا إليه، وهو ما صرح به في محاضرة بعنوان “غوديل ونهاية الفيزياء” عام 2002[4].

وكان هوكينغ قبل ذلك قد أشعل الأوساط العلمية ووسائل الإعلام بتصريحات تؤيد نظرية-إم M-theory معتبرا أنها ستكون مقدمة لنظرية كل شيء، بينما رد عليه عشرات العلماء بأن نظرية-إم ليست سوى رؤية فلسفية لا يمكن اختبارها، وأن مجرد الإيمان باحتواء الحقائق كلها في قانون نهائي شامل هو مقولة غير علمية.

وإذا كان اعتراف هوكينغ بالفشل ينم عن تواضع يُحسب له، فمن العجيب أن يصر الكثير ممن انبهروا بكتبه الجماهيرية على المضي قدماً في سبر أغوار الكون وكشف أسرار الوجود عبر الرياضيات وحدها، فهذه ليست سوى استعادة لمحاولات فيزيائيي العقلانية الكلاسيكية في استبدال الرياضيات بالوحي، وهي أفكار أكل عليها الزمان وشرب.

والأعجب من ذلك أن البروفيسور هوكينغ نفسه لم يتخلى عن الكثير من رواسب تلك الأفكار البالية، ومن أهمها رؤيته للوعي والوجود القاصرة على إطار المادة، وهو ما أكده في مقابلة لصالح صحيفة الغارديان [15 مايو 2011] عندما قال “أنا أعتبر الدماغ كجهاز كمبيوتر سيتوقف عن العمل عندما تفشل مكوناته. لا توجد جنة أو آخرة للحواسيب المعطلة؛ هذه قصة خيالية للأشخاص الذين يخافون من الظلام”[5].

وهذه النظرة التبسيطية للإنسان تنم عن جهل واضح بالوعي البشري وبثنائية العقل والجسم، فالوعي ما زال من أسرار العلم التي لم تُحل، وتشبيه العقل بالكمبيوتر ليس سوى انتكاسة لوجهات النظر المادية القديمة حول آلية عمل العقل البشري، فحتى لو قصرنا العقل والوعي على الدماغ المادي فنحن أمام كيان يتمتع بقدرات استثنائية على المعالجة المتوازية، وليست المتسلسلة كما تفعل كل الآلات “الذكية”.

ومما يغيب عن أذهان قراء هوكينغ غير المختصين أن معظم أطروحاته التي تثير الضجة الإعلامية هي أفكار فلسفية لا علمية، وهي في أحسن حالاتها تُناقَش ضمن أطر فلسفة العلم، بينما يزعم هو في مقدمة كتابه “التصميم العظيم” أن “الفلسفة ماتت… وعلماء الطبيعة باتوا هم حملة شعلة الاكتشاف في رحلتنا نحو المعرفة”، وكأنه يوهم قراءه بأن ما يطرحه من آراء إلحادية هي من نتائج العلم المثبتة بالتجربة والرياضيات، مع أن نظرياته العلمية نفسها عن الثقوب السوداء لم تثبت بعد، فضلا عن الفلسفية.

لذا يختتم الفيزيائي كولز كتابه قائلا “قد يتحقق الفيزيائيون عند وضع نظرية كل شيء من قصورها أيضاً عن بلوغ ذلك الهدف، وعندئذ قد يعمد علماء الكونيات إلى السعي وراء أسس ميتافيزيقية قد تكون مرضية أكثر مما عثروا عليه حتى الآن”.

ولكن للأسف، توفي البروفيسور هوكينغ في سن السادسة والسبعين قبل أن ينجح في فهم “عقل الإله”، وقبل أن تبلغ جرأته الاعتراف بوجود ذاك الإله الذي عجز هوكينغ عن الإحاطة بأسرار خلقه.


الهوامش

[1] يجمع العلماء اليوم على ردّ كافة القوى الموجودة في الطبيعة إلى أربع قوى رئيسة، هي الكهرطيسية، النووية القوية، النووية الضعيفة والجاذبية.

[2] http://www.independent.co.uk/news/science/the-crazy-world-of-stephen-hawking-9250150.html

[3] هوكينغ، الثقوب السوداء والأكوان الطفلة، ترجمة: حاتم النجدي، دار طلاس، ص38

[4] http://www.damtp.cam.ac.uk/events/strings02/dirac/hawking/

[5] https://www.theguardian.com/science/2011/may/15/stephen-hawking-interview-there-is-no-heaven