image_print

بعد الحوار الحصري | ناهد متولي: أسلمت بإرادتي ولم يضغط علي أحد


بعد عرض الحوار الحصري الذي أجرته قناة السبيل مع السيدة #ناهد_متولي عن عودتها من المسيحية إلى الإسلام، تلقت اتصالات كثيرة تتضمن هجمات شخصية واتهامات لها بأنها لم تسلم إلا تحت الضغط! وفي هذه الحلقة تعود السيدة ناهد لتوضيح موقفها ونفي هذه الاتهامات، كما يعلّق المشرف على موقع السبيل أحمد دعدوش على هذه القصة، ويقدم رسالة للمشاهدين من المسلمين والمسيحيين.

حوار حصري على السبيل | ناهد متولي تعود للإسلام بعد ثلاثين سنة من التنصير


السيدة ناهد متولي، كانت وكيلة شؤون الطالبات بأكبر مدارس القاهرة. وفي عام 1990 صدمت عائلتها ومجتمعها بإعلانها التخلي عن الإسلام واعتناق المسيحية، ثم لجأت إلى هولندا وأصبحت من أشرس المحاربين للإسلام. استغلّتها العديد من المنظمات التبشيرية، ونشرت باسمها نحو عشرين كتابا، وكانت تنظم لها جولات تبشيرية في أنحاء أوروبا وأمريكا، كما ظهرت في العديد من المقابلات والبرامج التلفزيونية على شبكات مسيحية. وبعد ثلاثين سنة من النشاط التبشيري ومهاجمة الإسلام، ومع بلوغها سن الثمانين، تعلن السيدة ناهد متولي في هذا اللقاء عودتها للإسلام، كما تقدم اعتذارها للمسلمين الذين هاجمت مقدساتهم، وتسأل الله التوبة عن كل ما مضى. أجرى الحوار في هولندا: سفيان اعلوشن

هل الوعي وهم؟ | مراجعة كتاب “الوعي” للمؤلفة الملحدة سوزان بلاكمور


تؤكد عالمة النفس الملحدة سوزان بلاكمور أن الوعي من أكبر الألغاز التي اختلف فيها العلماء، وتستعرض في كتابها أهم النظريات الفلسفية والعلمية لمحاولة فهمه، وتحاول إيجاد معنى له من خلال نظرية التطور، ثم تخلص إلى أنه وهم لا يمكننا فهمه، مع تفاؤلها بأن يجد العلم التجريبي تفسيرا له يومًا ما. أما نحن فنؤمن بأن الوعي مرتبط بالروح، وهو الرأي الذي يؤيده الكثير من الفلاسفة والعلماء الغربيين باعتقادهم أن جوهر الوعي لا يمكن أن يكون ماديًا، منذ طرح ديكارت لمبدأ الثنائية في القرن السابع عشر. هذا المبدأ سيساعدنا على الإجابة على السؤال الأصعب: هل يمكن للروبوتات أن تكون واعية؟ وهل سيكتسب الذكاء الاصطناعي وعيًا يهدد الوجود البشري؟ إعداد وتقديم أحمد دعدوش

التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية.. حقيقة أم علم زائف؟


تأسست البرمجة اللغوية العصبية NLP في أميركا في السبعينات، ثم صدرت دراسات كثيرة في الثمانينات والتسعينات تؤكد أنها علم زائف، ومع ذلك استوردها بعض المدربين بعد نحو عقدين من الزمن إلى العالم العربي وحاولوا أسلمتها، ولكن سرعان ما تلاشت هذه الموجة. ما هو الموقف من التنمية البشرية وتطوير الذات ومهنة مدرب الحياة (لايف كوتش)؟ إعداد وتقديم أحمد دعدوش

خطورة النظام الربوي وآفاق الاقتصاد الإسلامي | حوار مع د. محمد طلال لحلو


حوار مع الخبير في الاقتصاد الإسلامي د. محمد طلال لحلو عن النظام المالي الربوي وآثاره المدمرة، وعن النظام المالي الإسلامي وما يقدمه من بدائل اقتصادية أخلاقية. أجرى الحوار سفيان اعلوشن.

الكوميديا السياسية والمعارضة

لا يخفى على أحد أن غالبية الأنظمة السائدة في البلدان العربية لا تلبي من طموحات شعوبها إلا النزر اليسير، فالفقر والبطالة والفساد وعدم الاستقرار السياسي ومشكلة الكيان الصهيوني الكامن بين جنبي العالم العربي وغيرها من القضايا تخلق الفجوة بين الحاكم والمحكوم في بلداننا، والمعارضة التي ينبغي أن تكون جزءًا أساسيا من أي جسم سياسي قائم تبدو مهمشة وضعيفة في معظم هذه البلدان، ومطارَدة ومضطهدة وملاحَقَة في بلدان أخرى ومهادِنة ومتملقة في ثالثة حسب طبيعة النظام الحاكم في كل بلد، ولكل من هؤلاء وسيلته في توجيه الانتقاد والفكرة الرافضة للاستبداد، سواء كانت جادة أو كوميدية، في قوالب متعددة من المقروء والمسموع والصورة المرئية.

ليسوا سواءً

الجهات المعارضة للأنظمة الحاكمة تختلف أهدافها، وتبعا لذلك تختلف الوسائل التي تستخدمها في سبيل تحقيق ما تصبو اليه، فبعض المعارضة يكون هدفها إسقاط الأنظمة وصناعة أنظمة جديدة على أنقاضها، وأخرى تنادي بإجبار الأنظمة القائمة على إحداث الإصلاحات والتغييرات وآخرون لا يحسبون على أية جهة معارضة وإنما هم مثقفون أو فنانون يبثون أفكارهم بوسائلهم الخاصة.

كثيرون ينظرون إلى الفن باعتباره وسيلة تحريض ناجحة تستهدف وعي الجماهير التي هي منبع التغيير ودافعه، والفن بأنواعه الجادة وصولا إلى البرامج الساخرة خادمة لتحريض هذا الوعي وتوجيهه.

ما يهم هنا هو القالب الكوميدي الذي يقدم فيه هذا الفن، فهل يكفي لتحريك الجماهير؟ سنأخذ نماذج متعددة -دون ذكر أسماء- ممن كانوا في صفوف بعض المعارضات العربية، ثم نتيجة البطش الذي تعرضوا له اختاروا الهجرة من أوطانهم واستكمال مشروعهم المعارض، وهؤلاء يطلون على جماهيرهم من خلال اليوتيوب وغيرها من المنابر الإعلامية، البعض منهم نجح في تقديم أفكاره من خلال المشاهد الكوميدية والفواصل القصيرة، مما صنع لهم شعبية كبيرة لدى الجماهير العربية.

بالرغم من الضغوط الهائلة التي يتعرضون لها من تهديد بالقتل واعتقال لأفراد أسرهم إلا أن بعضهم ما زال منذ سنوات يبذل أقصى ما يستطيع دون أن نلمس تغييرا على أرض الواقع، فأغلب الناس ينتظرون هذه النوعية من البرامج مثلها مثل أي برنامج أو مسرحية كوميدية، يتابعونها بينما يحتسون أكواب الشاي والقهوة، ويقضمون المكسرات، يضحكون على ما يعرض أمامهم من أحداث مؤسفة تجري في بلادهم، ثم ينتهي البرنامج وينتهي معه الحماس ولا يترك أثرا ملموسًا على أرض الواقع.

ما السبب؟

السبب معروف، ذلك أن المعارض الذي يختار قالبا كوميديا لنشر أفكاره إنما يقوم بالتنفيس عن مشاعر الناس المكبوتة بدل حشدها للقيام بحراك واعٍ، فبعد الضحك والقهقهات يتولد لديهم شعور أن الدنيا بخير وأن الأمور سوف تسير نحو الأفضل دون مناقشة التفاصيل والكيفية. وقد ينجح شعار ساخر أو أغنية متهكمة في لفت أنظار الجماهير إلى وجود مشكلة ما ولكن هذا غير كاف لجعلهم يطلقون الوعي من عقاله.

أستشهد هنا بمقولة لـ د. علي الوردي في كتابه مهزلة العقل البشري “الناس لا يثورون من جراء ظلم واقع عليهم، إنما يثورون من جراء شعورهم بالظلم، فالشعور بالظلم هو أعظم أثرا في الناس من الظلم ذاته. إن الناس لم يثوروا على الطغاة الذين سفكوا دماءهم وجوعوهم وسلطوا الجلاوزة عليهم يضربون ظهورهم العارية بالسياط، ذلك لأن الناس قد اعتادوا على ذلك منذ زمن مضى وألفوه جيلا بعد جيل، فهم يحسبونه أمرا طبيعيا لا فائدة من الاعتراض عليه، ولكنهم يثورون ثورة عارمة عندما تنتشر بينهم مبادئ اجتماعية جديدة فتبعث فيهم الحماس”.

إذًا، لا بد من إقناع الناس بأن ظلما قد وقع بالفعل عليهم من أجل حملهم على الثورة الواعية والمطالبة بالإصلاح، وهذا لن يحصل جراء حضور مسرحية ساخرة أو الاستماع إلى أغنية فحسب.

لننتقل إلى شهادة من أحد كبار الفنانين الذين يعتبرون من رواد المسرح السياسي الساخر، وهو السوري دريد لحام، حيث عبّر عن تفاصيل الفقر والتهميش في حياة الناس في كثير من أدواره، ففي مقابلة نشرتها له صحيفة الشرق الاوسط عام 2006 يقول لحّام “الفن لا يمكن أن يغيّر عقل الإنسان، فهو لم يحول إرهابيًّا للتفكير لثوان، ولم يحول دكتاتورا إلى ديمقراطي، وفي الواقع فإن الفن لا يفعل الكثير سوى التسلية”

هذا ما اكتشفه الممثل بنفسه بعد رحلته الطويلة، إن الفن والكوميديا لن تصنع حدثا أو تصنع فارقًا، ويؤكد دريد نفسه فيقول: “اكتشفنا، ربما في وقت متأخر أن الفن ليس له قوة الشرطة، يمكن أن يجبرك على فعل شيء، ولكن الجمهور يعتبر ذلك شيئا يستحق الضحك”

فبكى حتى ابتلت لحيته!

في العصور السابقة كان كثير من السلاطين -خاصة الفاسد منهم- يواجهون موعظة العالم والفقيه بالكثير من اللين، فينصت للعالم وهو يعظه ويذكره بضرورة إقامة العدل وحفظ حقوق الرعية وتقوى الله… فيذرف السلطان الدموع تأثرا بما سمع ثم يأمر للعالم بأعطية كبيرة ولكنه ما يلبث أن يعود إلى ما كان عليه من الفساد والجور.

في زماننا هذا تغيرت أساليب السلطان في احتواء من يوجه له النقد حتى لو كان على شكل نكتة، فنرى السلطان يحمي ويساند الفنان الذي يمكن استخدامه كأداة لتنفيس الاحتقان لدى الشعب، وأما الفنان المشاغب الذي يشكل خطرًا أكبر أو ممن ينتمون إلى ما يسمى بالمسرح التحريضي فالسلطان لا يعدم وسيلة لاحتوائه، قد يستمع لرأي مستشاريه فيذهب إلى المسرح لحضور عرضه الساخر والناقد، يجلس مع زوجته في الصف الأول من مقاعد المتفرجين يبتسم ويصفق وهو يسمع شتمه بأذنيه ثم في النهاية يتقدم طاقم العمل للسلام على سلطانهم والتقاط الصور التذكارية مع بعضهم البعض، ليثبت السلطان للجماهير أن ما يقدم على المسرح إنما يُقدَّم برضاه وموافقته، ويبقى كل شيء على ما هو عليه، لا أسعار السلع ستنخفض ولا العاطلون عن العمل سيجدون عملا يحفظ كرامتهم ولا الانتخابات ستكون نزيهة، ويبقى السلطان سلطانا ملء السمع والبصر، “بل إن انتقاداته لم تفعل شيئا سوى تحويلها إلى لعبة في أيدي رجال السلطة، وإن الدكتاتوريين يحبون الإشارة إلى حرية النقد كوسيلة للدفاع عن أنفسهم ضد الاتهامات بأنهم يقمعون حرية التعبير، لقد شعرت بخيبة أمل، كنا نفكر بأن العمل الفني يمكن أن يصدم ويغير، ولكن كلّا، فالعمل الفني هو تسلية في نهاية المطاف حتى إذا كان انتقاديا” [مقابلة مع دريد لحام].

صحيح أن الفن أصبح أمرا واقعا في هذا العصر، وهو سلاح يمكن استخدامه لمواجهة حملات التغريب، إلا أن استخدام الفن وخاصة الكوميديا كأداة للمعارضة في مواجهة السلطة فهذا -في رأيي- لا يقدم ولا يؤخر، فعملية التغيير السياسي أو الإصلاحات الحقيقية في بلداننا ليست سهلة، وينبغي أن تكون أدواتها جادة، على قدر جدية الأهداف المرجوة وأهميتها.

الامتلاء النفسي.. هل من سبيل لنتجاوز فراغنا وهشاشتنا النفسية؟

أستهل هذا المقال بالتساؤل: لماذا نتحدث عن الامتلاء النفسي والفراغ النفسي؟ يصف أحدهم حالنا بأننا مثل الكراسي الهزازة نتحرك كثيراً.. إلا أن هذه الحركة ثابتة في مكاننا. إضافة إلى أن هناك تغيرًا ملحوظًا في نوعية الحالات النفسية التي ترد للعيادات وللمختصين، وتغير واضح في نوع الشكوى التي يعبر عنها الناس من غير المراجعين.

هذا التغير كان من اضطرابات نفسية تقليدية محددة كالاكتئاب والوسواس والخوف المرضي مثلاً إلى شكاوى عائمة غير واضحة المعالم، إلا أن محورها هو: فقدان الأنا، والشعور بالفراغ، والركود والتشتت، والافتقار إلى هدف أو خسران الاحترام الذاتي[1].

وفي الغالب فإن أعراض هذه الشكوى مجملة في ثلاث جوانب، بدءًا من مستوى المعنى، ثم المستوى المعرفي، ثم المستوى الشعوري.

المشاعر كدليل

أَمَّا أَنت
فالمرآةُ قد خَذَلَتْكَ
أنْتَ… ولَسْتَ أنتَ، تقولُ:
(أَين تركت وجهي؟)
ثم تبحثُ عن شعورك، خارج الأشياءِ
بين سعادةٍ تبكي وإحْبَاطٍ يُقَهْقِهُ[2]

في الغالب فإن المشاعر هي المفتاح الذي يدرك الإنسان من خلاله أن ثمة خطباً ما، وأنه يشعر بالفراغ أو الخواء. وهو قد يسلك أحد المسلكين الشعوريين: إما الغرق أو تسطيح المشاعر. فإما أن يشعر بأن هناك كثافة مشاعرية من حيث عدد المشاعر التي تعتريه وثقل محتواها، فهو غير قادر على التعامل مع هذه الكثافة الشعورية لأنها تتجاوز قدرته النفسية المتخيلة أو ما يعرف بـ (شعور الغرق). أو أن يشعر بخلو الإحساس وأنه غير قادر على الشعور بشيء، فهو عاجز عن الإحساس بالفرح حقيقة وعيش الحزن حقيقة وهو ما يعرف بـ(تسطيح المشاعر).

وإن أردنا فهم سبب هتين الحالتين فلا بد من تحليل طبيعة أهم العوامل التي تلعب دوراً كبيراً في حياتنا وتداخلت مع كثير من لحظاتنا الشخصية وهي منصات التواصل الاجتماعي.

مدخلات كثيرة ومشاعر متداخلة

عرض الأخبار والأحداث في منصات التواصل الاجتماعي يكون متداخلاً، فلا نجد منصة خاصة بأخبار الحزن فقط وأخرى بأخبار سعيدة فقط، فلا يمكن أن تكون الصفحة الرئيسية التي نقلب فيها الأخبار لأي منصة متناسقة ومتناغمة في مضمونها فهي تحوي الخبر حزين الذي يتبعه الخبر المضحك، يتبعه خبر كارثة في أقصى الأرض، ثم تتبعه نكتة.. وبالتالي فإن المدخلات إضافة لكثرتها فإنها ذات مضمون شعوري متداخل لا يعطي القارئ فرصة بأن يدرك شعوره تماماً أو يقف عند مقاصده وأبعاده.

 إن القارئ لا يعيش إلا لحظة من لحظات استهلاك الصورة ويتجاوزها بعد ذلك نحو البحث عن موضوع آخر للاستهلاك الحسي؛ ومن ثم فقدنا الصلة مع مشاعرنا وتكونت فجوة بيننا وبينها وبين ذواتنا، لأن مشاعرنا هي أهم ما يدلّنا ويقربنا من أنفسنا ويعرّفنا بها، فهي تشير لنا إلى ما نحب وما نكره، وتحديد أولوياتنا ومبادئنا وقيمنا ودوافعنا.

 

مدخلات كثيرة ومشاعر مستهلَكة

هناك مصطلح يسمى استهلاك المشاعر أو تعب التعاطف (Compassion Fatigue)[3] وهي ظاهرة نفسية شائعة يصبح فيها الفرد مخدرًا للحوادث المأساوية نتيجة رؤيته بشكل متكرر. ومع تعدد الصدمات المعروضة والأحداث المأساوية وتكرار صورها على المتصفح عبر منصات التواصل الاجتماعي تصبح مشاعره مستهلكةً، ويبدأ بممارسات انطوائية غريبة؛ في محاولة منه الحفاظ على ما تبقى من رصيد مشاعره. فغدت الصورة مجرد موضوع للرؤية والتفاعل الحسي المحدود في الزمان والمكان، فانقطع الرابط الذي يوصلها بالعقل والضمير. وخلقت ثقافة تطبيع المأساة أو الكارثة حيث إنها لا تؤثر بالدرجة الكافية على الحالة الشعورية لمن يتلقى خبرها، وإن تأثر فقد يستبعدها عن نفسه ويستبعد علاقتها مع مساحته الشخصية.

المعرفة كأساس.. معرفتنا عن ذواتنا وعن العالم

لنبدأ بهذا السؤال: بأي معيار يمكن أن أعرف نفسي؟

إن معرفتنا لذواتنا وبناؤنا لقيمتها لا بد أن يعتمد على مرجعية ما، وهذه المرجعية قد تكون معايير الآخرين وقد تكون فكرة خارجية كالدين، ولا يمكن للإنسان أن يكون معياراً لنفسه، وكذلك لا يمكنه ألا يمتلك معياراً البتة، فبهذه الحالة سيُفرَض عليه المعيار فرضاً دون أن يدري، كما هو الحال في السابق، حيث كان معيار الآخرين قديماً متعلقاً بالنسب، وقد سعى الإسلام لتغييره إلى معيار العلم والعمل الصالح بدلاً من النسب. فقال رسول الله ﷺ: (مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه) [صحيح ابن حبان]. فصار المعيار الديني هو من يحدد مفاهيم النجاح والفوز والفلاح وبالمقابل الخسران والإفلاس. وقال ﷺ: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وَقَذَفَ هذا، وأكل مال هذا، وسَفَكَ دم هذا، وضرب هذا) [صحيح مسلم].

إلا أن العمل بمفهومه الحديث مرتبط بالرأسمالية والثقافة الاستهلاكية، وقد صار مؤخراً هو المعيار العام الذي يعد مرجعاً لقياس الأمور ووزنها. ومفهوم العمل هنا مرتبط بالإنتاج الاقتصادي. وبناء على ذلك فإن معرفة الذات تقزّمت لتعرَف بناء على المهنة أو الوظيفة وكذلك الشهادات الأكاديمية. وأصبحت مصطلحات مثل الإنجاز والنجاح والفشل والسعادة مفاهيم مطلقة، بمعنى أنها صارت تعني معنى موحداً لدى الجميع، فمن لم يلتزم به فاته خير كثير.

منصات التواصل الاجتماعي ونظرية المقارنة

تحدت ليون فستنغر صاحب نظرية المقارنة الاجتماعية[4] عن تعريف الشخص لذاته وبنائه لقيمته، وأشار إلى أن البشر لا يستطيعون تعريف أنفسهم بشكل جوهري أو مستقل، بل بناء على المقارنة بشخص آخر. وعندما يتعلق الأمر بالمسائل الكبرى المتعلقة بالهوية والذات، فالفرد بحاجة إلى النظر إلى أشخاص آخرين. وهنا فإن منصّات التواصل الاجتماعي كثفت مبدأ تقييم الذات من خلال الآخرين. ويمكن تسمية ما تقوم به هذه المنصات بأنه تعريض للذات وانكشافها على تجارب الآخرين. وبالتالي فإن الذات الفردية تقيم تقدمها وسعادتها وجمالها بناء على ما تراه لدى الآخرين. وهذا يزيد مشاعرها بالتذبذب وعدم الرضا وعدم الوصول، فالمعيار بحد ذاته متذبذب ومتغير.

ليون فستنغر

في سياقات غير دقيقة.. كيف شاعت اللغة النفسية؟

قد يلاحظ السامع لطريقة التعبير عن المشاكل والضغوط التي يواجهها الناس في هذا العصر أنها مختلفة عن الطريقة التي اعتادها الناس قبل عدة عقود قليلة من الزمن. حيث شاعت بعض المصطلحات النفسية بين الناس غير المختصين وصارت أكثر استخداماً للتعبير عن المشاعر والخبرات الشخصية.

تكمن المشكلة في أن هذا الاستخدام ليس بالضرورة أن يكون دقيقاً أو مناسباً للسياق الذي يتم استخدامها فيه، فاتسمت بالتبسيط المخل.

مثال على ذلك كلمة (الصدمة)، فهي في كثير من الأحيان تستخدم للتعبير عن المرور بضغوطات معينة. وبالمقابل فثمة قاعدة دقيقة تقرر بأن المرور بصدمة يعني المرور بضغط، لكن المرور بضغط لا يعني بالضرورة المرور بصدمة نفسية.

وكذلك مصطلح الاكتئاب الذي صار يستخدَم مرادفًا لمشاعر الحزن. وفي هذا السياق فإن العديد من الأبحاث النفسية توضح أن هناك علاقة مهمة بين اللغة التي نستخدمها والمشاعر التي نطورها، والطريقة التي نتعامل بها مع مشاعرنا أيضًا.

فاستخدام المربّين لمصطلحات شعورية متعددة مع الأطفال -مثلاً- يتنبأ بالقدرة على فهم المشاعر وقدرات التنظيم الذاتي في مرحلة الطفولة اللاحقة[5].

وفي بحث آخر أجري على أشخاص في مرحلة الرشد، تبين أن استخدام كلمات متعددة للتعبير عن مشاعر مختلفة يغير من طريقة إدراك المشاعر، من طريقة التعامل معها وحتى من طريقة تفاعل الدماغ معها[6].

آثار حملة نزع الوصمة الاجتماعية

الكثير منا سمع في الفترة الأخيرة بمفهوم الوصمة Stigma وهي نظرة المجتمع السلبية لمن يقوم بمراجعة طبيب نفسي أو يعاني من اضطراب نفسي. وشهدت الفترة الأخيرة حملة علمية واجتماعية لنزع هذه الوصمة وجعل الاضطراب النفسي أمراً طبيعياً -فاشتهرت جملة المرض النفسي مثل المرض العضوي- ومراجعة الطبيب النفسي أمراً متقبلاً. وقد أفرزت هذه الحملة عدداً من النتائج والآثار الأخرى، فبالطريق لنزع الوصمة توسعت دائرة اللاسواء وضاقت دائرة السواء. فصار من الممكن أن يسوّق لبعض المشاكل الطبيعية بأنها اضطراب نفسي قد يفوق قدرة المرء وتستلزم مساعدة وتدخلًا خارجيًّا. وتم تجاهل قدرة الإنسان الطبيعية وآلياته الطبيعية (مثل الدعم الاجتماعي، ونمط الحياة اليومي كالرياضة والروتين والغذاء المناسب) أو ما يسمى بالاتزان الداخلي equilibrium الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يتكيف وأن يتجاوز المشاكل والصعوبات التي تواجهه.

معرفتي عن العالم.. بين الحياد والاستقطاب

نشر كتاب عام 2017 للكاتبة Jean Twenge كتاب مهم عنوانه (جيل التقنية: لماذا يكبر أطفال اليوم أقل ثورية وأكثر تسامحاً وأقل سعادة وغير مؤهلين لمرحلة الرشد)[7]، والعنوان ذاتُه يعكس صفات يحملها جيل اليوم، خاصة طبيعة الآراء التي يتبنونها. فالتوجهات في العالم سلكت أحد مسارين: إما الحياد وإما الاستقطاب.

يقصد بالحياد أن الفرد أصبح أكثر ميلاً للانكفاء على قضاياه الشخصية فغابت قضايا الأمة الكبرى عن مخيلته وغابت معاني مثل النضال الحقوقي والصراع الطبقي والتدافع الأممي. وبرزت مفاهيم التنمية البشرية مثل تطوير الذات والتركيز على الطموحات الشخصية. فظهر التدين الفردي الذي أبعد عن ساحته الاهتمام بالمجتمع وقضاياه.

أما الاستقطاب فإن لمنصات التواصل الجتماعي مرة أخرى دوراً أساسياً في تشكيله. فالفرد على حسابه الشخصي على الفيسبوك مثلاً يستطيع تشكيل مجتمعه الذي يريد من خلال انتقاء جمهوره وأصدقائه واستبعاد أي رأي أو شخص لا يعجبه. وهكذا الآراء تتشابه على صفحة الأخبار الرئيسية التي يقلبها وهي بالأصل تشبه رأيه فيزيده تأكيداً. وقد يحصل تحيز معرفي يسمى Confirmation bias أي أن الإنسان يميل لتشكيل رأي موافق لرأي المجموعة التي هو فيها ليتجنب شعور النبذ ويشعر بالانتماء ولو كان هذا الرأي هو الأقل منطقياً وصواباً بالنسبة له.

المعنى .. منطلَقٌ وغايةٌ

مآل الفراغ الشعوري والمعرفي والنفسي هو أن يتحول إلى فراغ في الجواب على أسئلة وجودية ملحة تطرح نفسها على شكل ما الغاية من وجودي وما الغاية مما أفعل؟

وهنا حاول العالم الحديث أن يقدم الاستهلاك والترفيه كجواب حداثي للأجوبة الوجودية. فأهم شيء هو عيش اللحظة وعدم التفكير في المآل. فمثلاً صناعة السينما والفن عموماً عرفت الطريق لاستبدال الحاجة الروحية من الدين بأشياء أخرى تمنح نفس المتعة لكن بتحرر من القيود الدينية، لتأكيد فكرة العيش هنا والآن فقط.

وعلى مستوى أبسط من ذلك، ففقدان المعنى لا ينحصر فقط على الأسئلة الوجودية الكبرى بل تسلل للعلاقة الشخصية مع الأشياء والأشخاص. فقد يشعر الإنسان بإحساس الغربة حتى في بيته، وبشعور الوحدة حتى وهو بين أهله.

فإذا اقتلع الإنسان جذوره وجعل الآخرينَ معياره ونصب السعادة غايته فكأنه بلا منطلق وبلا مقصد، ومن كان كذلك فسيضل طريقه وستفقد حياته معناها {أفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الملك: 22].

توصيات عملية

● لا تجعل انشغالك يفقدك مساحات التأمل الشخصية والمراجعة الذاتية. فهذه المساحات هي ما يشكل معرفتنا العميقة بذواتنا، يساعدنا على تحويل تجاربنا الفاشلة إلى حكم ودروس، وتعلمنا ليس فقط تقبل الألم والحزن وتطبيعه بل بأن ننظر إليه بأنه من أعمدة بناء الشخصية وبأنه يمنحنا فرصاً للتعلم والتطوير.

● تدرب على الصبر وألّا تتبع نفسك هواها. فما يجعل الإنسان إنساناً هو منطقة الدماغ الأمامية وما قبل الأمامية وهي المسوؤولة عن العمليات المعرفية العليا (التحكم بالسلوك، اتخاذ القرارات، التفكير بالعواقب..)، وبتدرّبنا على الصبر وحمل النفس على ما يفيدها ولو أنها لا ترغب فإننا بذلك نجعل هذه المنطقة الدماغية أكثر نشاطاً واتصالاً عصبياً، وكأننا بذلك نزيد إنسانيتنا.

● وكما قال رسول الله ﷺ: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم) [أخرجه الخطيب البغدادي في التاريخ وصححه الألباني]. وكذلك قول الشافعي: “آفة المتعلم الملل وقلة صبره على الدرس والنظر، والملول لا يكون حافظاً، إنما يحفظ من دام درسه وكدّ فكره وسهر ليله لا من رفه نفسه”[8].

● اجعل منظورك لتعريف نفسك واسعاً. فلا تحصر تعريفك لنفسك بالمهنة والشهادة الأكاديمية مثلاً، بل أسس تعريفك لذاتك على قيمك ومبادئك وثوابتك، ماذا تحب وماذا تكره، إلى ماذا تسعى، وماذا تقدم، ما صفاتك وما موهبتك. لا تجعل من نفسك متماهية مع دور واحد فقط فتفقد نفسك عند فقد هذا الدور. من يقصر تعريفه على مهنته فسيواجه لاحقاً مشكلة التقاعد مثلاً، والأم التي تقصر تعريفها لنفسها بأولادها فستواجه مشاكل في التربية (تربيتهم كشخصيات مستقلة عنها، مشاكل عن دخولهم للمدرسة، عند دخولهم مشروع زواج).

● تذكر جوهر القصة كلها. فكما يقول المسيري “ما ننساه في حياتنا هو شيء لا ينبغي نسيانه فهو جوهر القصة بالأساس وهو ما يستند عليه العالم بأسره”[9]. {نسوا الله فأنساهم أنفسهم} [الحشر:19].

● ترجم المفاهيم التي يسوّق لها بأنها مطلقة (الإنجاز والنجاح والسعادة والفشل) حسب ظروفك وحسب معيارك.

● اصنع نظاماً يومياً يشكل لك معنى وكوّن علاقة شخصية لها معنى قيّم مع الأشياء من حولك (فنجان من القهوة، مكان للجلوس على الأريكة في بيتك..).

● أعط لنفسك فرصة لاستخدام الآليات النفسية التكيفية الطبيعية التي تمتلكها في التعامل مع الضغوط (أنشطة لتفريغ الضغط، دوائر الدعم الاجتماعي..).

● انتبه للغة التي تستخدمها في التعبير عمّا تمر به من مشاعر وتجارب.

● حافظ على الورد القرآني. وكن على يقين أن في وسائل التواصل الاجتماعي يحصل انكشاف للذات على تجارب الآخرين فتعيد تعريف ذاتها وبناء هويتها باتخاذها للآخرين معياراً. أما بالورد القرآني فإن هذا الانكشاف يحصل على معيار المنهج الرباني والمعايير القرآنية. وشتان بين تبنى هويته ويعرّف نفسه متمحوراً حول الآخرين الذين يتسمون بالتغير والتذبذب وبين من يكون القرآن والكلام الإلهي المطلق محوره في ذلك.


[1] معنى الحياة في العالم الحديث، عبد الله بن عبدالرحمن الوهيبي. 1441 ه، صفحة 9.

[2] من شعر محمود درويش

[3] https://www.psychologytoday.com/us/basics/compassion-fatigue

[4] Festinger, L. 1954. A theory of social comparison processes

[5] Shablack, H., & Lindquist, K. A. (2019). The role of language in emotional development. In Handbook of emotional development (pp. 451–478). Springer.

[6] Lindquist, K. A., Gendron, M., Satpute, A. B., & Lindquist, K. (2016). Language and emotion. Handbook of emotions (4th ed.). The Guilford Press.

[7] iGen: Why Today’s Super-Connected Kids Are Growing Up Less Rebellious, More Tolerant, Less Happy–and Completely Unprepared for Adulthood–and What That Means for the Rest of Us

[8] رواه الآجري في “جزء حكايات الشافعي” ( ص ٣٠ – ٣١ )

[9] محاضرة التيارات الفكرية المعاصرة وآثارها في الشرق المسلم، عبد الوهاب المسيري. https://www.youtube.com/watch?v=9XbP-3l2_H4&ab_channel=khotwacenter

لا تفكر.. عش اللحظة!

“لا تتردد.. لا تفكر.. عِشِ اللحظة” كان هذا أحد شعارات حملة إعلانية لإحدى الشركات الكبرى منذ سنوات عديدة، ولا أعلم حقيقة مقصد العنوان، إلا أنه يمكن القول إنها حملة دعائية بطريقة شبابية طريفة لتحقيق انتشار واسع وبالتالي الحصول على أرباح جيدة..

يشابهه إلى حد ما أيضا اسم الشركة البريطانية (just eat) “كُل فحسب” الذي تشعر معه وكأنه يدعوك لتناول الطعام دون تفكير، فقط خذ قرارك بالأكل ونحن نتكفّل بالباقي، في الحقيقة لا أستطيع التستر هنا على رغبتي في ادّعاء أن هناك تعميمًا لاستخدام وتنزيل مثل هذه الشعارات في حياتنا اليومية، ولعلك تنظر إلى بعض تصرفاتك اليومية التي يتوقف مباشرتك لها أو الإحجام عنها على قرار سريع تتخذه في لحظته، وما إن تفتأ التفكير لدقائق معدودة هل ستباشره أم لا؟ حتى يأتيك هذا الصوت: هيا افعلها لا تُشغل بالك استمتع!!

خصلتان يحبهما الله: الحلم والأناة

أخرج الترمذي في سننه حديثا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال لأَشجّ بن عبد القيس رضي الله عنه: (إنَّ فيكَ خَصلتينِ يحبُّهُما اللَّهُ: الحِلمُ، والأَناةُ) وأخرجه مسلم مطولا، وقد قال النووي في كتابه المنهاج في شرح صحيح مسلم: “وأما الحلم فهو العقل، وأما الأناة فهي التثبيت وترك العجلة… وسبب قول النبي ﷺ ذلك له ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي ﷺ وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته ولبس أحسن ثيابه ثم أقبل إلى النبي ﷺ فقَرَّ به النبي ﷺ وأجلسه إلى جانبه… قال القاضي عياض فالأناة تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل والحلم هذا القول الذى قاله الدال على صحة عقله وجودة نظره للعواقب”.

انظر إلى الخصلتين اللتين حُمد بهما الأشج، وقارن بينهما وبين ما يحصل الآن من التسرّع واتباع الهوى دون تأنٍ في القرار وبصيرة بالنتائج.

ضغط اللحظة الآنية

لقد أبدع الشيخ فهد العجلان بتناول هذه المسألة في كتابه معركة النص تحت عنوان (سيد الضمانات الفكرية) ومع أن السياق الذي سار عليه الشيخ يتناول الأمر من ناحية الشبهات الفكرية أكثر من قضية الشهوات إلا أن المؤثر فيهما واحد وهو العجلة وترك الأناة، واسمحوا لي بعرض مقاطع طويلة بعض الشيء من هذا الفصل على نفاستها، فمثلا يقول في تعريفها وثمرتها: “الأناة هي صفة خلقيَّة تهيمن على سلوك الإنسان فيغلب عليه الهدوء والاستقرار والتفكير قبل اتخاذ القرار، وتصونه من العجلة والخضوع لضغط نفسي معين.

ما أكثر تلك المواقف التي لو قُدِّر لنا أن نتريث فيها قليلا لما رضينا بها، لكن العجلة وضغط اللحظة الآنية يدفعان الشخص لاتخاذ مواقف غير مقبولة، وهنا تأتي هذه الصفة الجليلة لتجذب النفس عن السقوط في مثل هذه الأخطاء”.

ثم عرض ما ينتج عن غيابها: “ضعف الأناة يفتح على الإنسان ركام التأثيرات النفسية والضغوطات الآنية، فيكون المؤثر ليس هو البحث عن الحق ولا ميزان العدل، بل هي الحالة النفسية التي يعيشها، تدفعه دفعًا إلى تصورات كلية قطعية بصفة سريعة مع قصور ظاهر في استيعاب الفكرة أو تعميمها أو التدقيق في دلائلها”.

أعترف قبل الإكمال بأن مصطلح (ضغط اللحظة الآنية) عجيب ويصف بدقة الحالة الشعورية لمن تَنْقَض عليه أفكاره وشهواته، وذكرني بالمحاضرة البديعة للشيخ إبراهيم السكران (سلطة طرح الأسئلة) والتي ذكر فيها أمثلة لحالات شديدة مرت على الأمة فأنتجت من سطوتها انحرافات خطيرة مثل قضية إنكار المعجزات في فترة من الفترات بسبب الضغطة المادية الغربية حينها التي تُعلي من قيمة المادة وتبخس من التصورات الغيبية، أما الآن بعد مرور هذه الضغطة لا تجد تعاطيًا لهذه القضية كما كانت حينها.

إذن فإن ضعف الأناة يضع الإنسان تحت ضغط التأثيرات النفسية الحالية فلا يرى حقيقة ونتائج قراراته المستقبلية، إنما هي سطوة أتته فضغطت عليه ولم تسعفه أَنَاتُه منها فكاكا ولا فيها تفكيرا.

ثم ختم بلفتة بديعة في الدعاء والاعتصام بالله عند حلول الضغوطات: “ومن أعظم ما تثمره الأناة: الدعاء، فالقضية هنا ليست مسائل يتعامل معها بمنطق رياضي، إنما هي أنفس متقلبة، فيها أهواء وشهوات ورغبات، ويعتريها نقص ونسيان، وتؤثر فيها الضغوط والمتغيرات، فليس بالضرورة أن ما تراه عقلاً هو العقل في حقيقة الأمر، بل ربما هي الأهواء والشهوات التي تحسبها عقلاً وهنا تأتي الحاجة إلى الالتجاء إلى الله، والصدق في مناجاته، والتذلل بين يديه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، ولهذا كان من دعاء النبي ﷺ: (اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السَّماوات والأرض، عالم الغيب والشَّهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك، إنَّك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مُستقيمٍ).

يا الله، ما أعظم أن تستخير الله وتطلب هدايته فيما أشكل عليك وما اختلف فيه الناس! إنك تعترف بنقصك وضعفك وأهوائك، وتلتجئ إلى من بيده مقاليد كل شيء، موقف عظيم لن يعرفه إلا ذو أناة، حريٌّ به أن يُهدى إلى الحق وأن يُعصم من الفتن، وحريٌّ بمن اعتمد على نفسه وعقله أن يكِلَه الله إلى قصوره وعيوبه فلا يجد إلا الخذلان والاضطراب ومخالفة العقل”.

فانفذ إلى بوابة الثبات الكبرى الدعاء؛ فليس الأمر بيدك إنما بيد مولاك وسيدك.

الصبر أم اتباع الشهوة؟

وقد أدخل الإمام ابن تيمية اتباع الشهوات في جملة التشبه بالكفار في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم فألحقه بقول الحق، {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ۚ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69]،

 ثم بين وجه المشابهة بين الآية واتباع الشهوات فقال: “فقوله سبحانه {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة… ثم قوله {فَاسْتَمْتَعْتُم} و {وَخُضْتُمْ} خبر عن وقوع ذلك في الماضي وهو ذم لمن يفعله إلى يوم القيامة…”

وجعل المسلمين على خلاف هذه الحالة، في الصبر على ما يرد عليهم والتبصر بحقيقته، فقال: “وقد وصف الله أئمة المتقين فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات. ومنه قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر: 3]، ومنه الحديث المرسل عن النبي ﷺ: (إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات)”.

وليس الإشكال فيما نتحدث عنه في مجرد الفكرة أو الشهوة فهذا أمر إنساني جِبِلي يطرأ على الجميع، ولكن في كيفية التعامل معها، أبالصبر والأناة أم بالعجلة والتهور؟

كيف تواجه لحظة الضغط الآنية؟

ونختم بذكر الحل الذي يراه الإمام الأديب الماوردي لمشكلة الشهوة الآنية في كتابه (أدب الدين والدنيا) فيقول في فصل ذم الهوى: ” فلما كان الهوى غالبا وإلى سبيل المهالك موردا جُعل العقل عليه رقيبا مجاهدا يلاحظ عثرة غفلته ويدفع سطوة بادرته ويوضح خداع حيلته لأن ١- سلطان الهوى قوي ٢- ومدخل مكره خفي، ومن هذين الوجهين يؤتى العاقل حتى تنفذ أحكام الهوى عليه، أعني بأحد الوجهين: قوة سلطانه، وبالآخر: خفاء مكره”.

ولعلنا نكتفي بذكر حل الوجه الأول وهو قوة سلطان الهوى؛ لأنه الأخص بموضوعنا: “فأما الوجه الأول فهو أن يَقوى سلطان الهوى بكثرة دواعيه؛ حتى تستولي عليه مغالبة الشهوات، فيَكلّ العقل عن دفعها، ويضعف عن منعها، مع وضوح قبحها؛ في العقل المقهور بها.

وهذا يكون في الأحداث أكثر، وعلى الشباب أغلب؛ لقوة شهواتهم، وكثرة دواعي الهوى المتسلط عليهم، وأنهم ربما جعلوا الشباب عذرا لهم… وحسم ذلك: أن يستعين بالعقل على النفس النَّفور، فيشعرها ما في عواقب الهوى من شدة الضرر وقبح الأثر وكثرة الإجرام وتراكم الآثام؛ فقد قال النبي ﷺ: (حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات) [أخرجه الشيخان]، أخبر: أن الطريق إلى الجنة احتمال المكاره، والطريق إلى النار اتباع الشهوات”.

خلاصة الكلام

ختامًا؛ فإن من أسوأ التبعات التي تنتج عن العجلة وترك الأناة أن تعيش اللحظة كلحظة واحدة، تستمتع بها وينتهي الأمر، فلا ترى تلك اللحظة في الصورة الكبيرة، بأنها لحظة تُكَون عمرك وتفاصيل حياتك وشخصيتك، فأي فعل سواء كان صحيحًا أم خاطئًا لمّا تفصله عن الصورة الكبيرة وتجعله لحظة صغيرة تعيشها وتنتهي، تجد الذنب عملًا تافهًا يتصاغر في عينيك فلا ترى تأثيره البعيد وعلى العكس ترى الأعمال الصالحة المركزية صغيرة لا تؤثر في حياتك أو شخصيتك.

أما عيش اللحظة الحقيقي يكون بإدراك معناها ورؤية آثاراها ومآلاتها القادمة، أن ترى الصورة كاملة بأن تعلم التغيير الذي سيحدث بتراكم هذه اللحظات في شخصيتك وحياتك، وتعلم أنك محاسب عليها {فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرࣰا یَرَهُۥ ۝٧ وَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ شَرࣰّا یَرَهُۥ ۝٨} [الزلزلة: 7-8]، قال ابن عاشور في تفسيرها: “والذَّرَّة: النملة الصغيرة في ابتداء حياتها”!!

الذكاء الاصطناعي…عفريت يأبى العودة إلى الفانوس!

شهد العالم تحولات وتطورات تكنولوجية رهيبة في السنوات القليلة الأخيرة، مسّت العديد من مجالات المعرفة، مما دفع المتخصصين لتسمية هذه المرحلة بـ(الثورة المعلوماتية) أو (الانفجار المعرفي) أو (حرب البيانات) وغيرها من التسميات، إلى أن وصلنا إلى ما نراه من ثورة حقيقية في مجال الذكاء الاصطناعي وقدراته المذهلة التي باتت تهدد العديد من المهن التقنية.

مدخل لا بد منه

مع غض النظر عن القدرة العسكرية، فقد أصبح من يمتلك المعلومة يمتلك سلاح السيطرة والتحكم والتأثير، وقد ساهم التطور التقنيّ الذي نراه في وسائل الاتصال وأنظمة الحواسيب في تنظيم وتسيير المعلومات، كاستخدام الرقائق السيليكونية لتحقيق سرعات فائقة في تخزين ومعالجة البيانات، واستخدام اللغة الرقمية وكوابل الألياف البصرية لنقل المعلومة والصوت والصورة بدقة عالية؛ وبذلك نكون قد دخلنا عصر الثورة الصناعية الرابعة.

هذا العصر التي أضحت فيها التقنيّة جزءًا لا يتجزأ من المجتمع، ومن الإنسان نفسه؛ فأصبحت أجهزة الحواسيب والآلات تحاكي عملية تفكير العقل البشري، وذلك من خلال انتقال أساليب الذكاء الإنساني إلى نظم البرمجة للحاسبات والآلات، وقد أدّى استخدام هذه البرمجيات والتطبيقات إلى ظهور نظم الذكاء الاصطناعي في العديد من جوانب الحياة كالصناعة والتجارة والاتصالات والصحة وغيرها من القطاعات، لكن التقدم السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي وأنظمتها، وتجاوزها للتوقعات البشرية؛ نتج عنه تصاعد القلق حول مستقبل البشرية، خاصة مع توقع الكثير من الخبراء بأنّنا سـنصل إلى مرحلة بناء أجهزة آلية -روبوتات- وآلات تمتاز بمستويات ذكاء تفوق مستوى الإنسان؛ مما يمكنها من اتخاذ قراراتها بشكل ذاتي، وحينها سنجد أنفسنا  واقعًا أمام سؤال:

هل سيتحكم الذكاء البشري في الذكاء الاصطناعي أم سينقلب السحر على الساحر؟

الذكاء الاصطناعي من خيال علمي إلى واقع يومي

كان الذكاء الاصطناعي في السابق محض مادة للخيال العلمي، تناولها المنتجون في أفلامهم الخيالية حتى منتصف الخمسينات من القرن الماضي، إلى أن شرع العديد من العلماء في تبني نهج جديد لبناء آلات ذكية من خلال اكتشاف نظريات رياضية جديدة للمعلومات؛ واختراع الحواسيب الرقمية إلى جانب تطور علوم الأعصاب.

يمكن الإشارة إلى المراحل الأولى في هذا المجال في عام 1956 حيث بدأت ملامح علم يهتم بأبحاث الذكاء الاصطناعي في الظهور؛ وذلك من خلال انعقاد أوّل مؤتمر في كليّة دارتموث بالولايات المتحدة الأمريكية، وكان من أبرز الباحثين الأمريكيين في هذا المجال الذين حضروا المؤتمر جون مكارثي، ومارفن مينسكاي، وهربرت سايمون، وألين نويل؛ الذين أصبحوا فيما بعد قادة بحوث الذكاء الاصطناعي لعدّة عقود، فقاموا بتأسيس مختبرات للذكاء الاصطناعي في عدة أماكن، مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة كارنيجي ميلون، وجامعة ستانفورد، وقامت آنذاك وزارة الدفاع الأمريكية بتمويل أبحاثهم، لكن سرعان ما تخلّت الحكومة عنهم لفشلهم في تطوير مشاريعهم؛ فكانت تلك الانتكاسة الأولى التي شهدها مجال بحوث الذكاء الاصطناعي.

مع بداية الثمانينات شهد هذا المجال اهتمامًا كبيرًا خاصة في الجانب التجاري؛ وذلك نظرًا لنجاح برنامج نظم الخبرة الذي يحاكي مهارات التحليل وذكاء الإنسان الخبير، لكن وبعد فترة وجيزة ومع انهيار سوق آلة lisp machine (إحدى لغات البرمجة المعروفة في مجال بحوث الذكاء الاصطناعي االتي اخترعها العالم جون مكارثي سنة 1958) عرفت البحوث انتكاسة أخرى، غير أنه مع بداية التسعينات شهد العالم ميلاد الثورة الصناعية الثالثة والتي اتسمت بتحوّل تكنولوجيا المعلومات التناظرية إلى التكنولوجيا الرقمية، وكنتيجة للتطور الواسع لهذه الأنظمة وتداخلها وتفاعلها مع بعضها البعض من خلال الخوارزميات؛ فتم إفراز تقنيات الثورة الصناعية الرابعة والتي من أهمّها الذكاء الاصطناعي؛ فأصبحت أبحاثه على درجة عالية من التخصص؛ منقسمًا بذلك إلى عدّة مجالات فرعية ترتكز على فكرة أساسها أنّ الآلات الذكية لها القدرة على التعلم والاستنتاج ورد الفعل.

أهمية الذكاء الاصطناعي في حياتنا

إنّ الغاية الأساسية من وجود الذكاء الاصطناعي هو تمكين الآلات على العمل والتفكیر مثل الدماغ البشري واستخدامها في العديد من المجالات؛ فقد أصبحت تطبيقاته تتغلغل في حياتنا وتزداد ترسيخاً؛ فنجدها مثلًا في:

  1. القيادة الذاتية للسيارات وتحليق الطائرات بدون طيّار.
  2. الصناعات العسكرية ولعل من أبرزها كاسحات الألغام.
  3. الصناعات الإستراتيجية كالمفاعلات النووية لأغراض سلمية أو عدائية.
  4. تفسير الصور والبيانات الزراعية واستشعار جودة المياه.
  5. -برامج الاتصالات السلكية واللاسلكية وشبكات الإنترنت ومنصات التواصل.
  6. التشخيص والعلاج الطبي.
  7. التعليم ومراكز البحث.
  8. تحليل البيانات الاقتصادية والتنبؤ بالبورصات وتطوير أنظمة تداول الأسهم.
  9. المحاكاة المعرفية كـالتعرف علـى الوجـوه أو البصمات (مثل نقاط المراقبة في المطارات أو مراكز التحقيق).
  10. التصاميم الصناعية كصناعة السيارات ومختلف الآلات والأجهزة.
  11. التحكم بوسائل النقل والمواصلات كالسكك الحديدية.
  12. الأقمار الصناعية وأنظمة الملاحة الفضائية.
  13. محركات البحث على الإنترنت كالعناقيد البحثية لمتصفح غوغل.
  14. أنظمة الحماية في البنوك والمؤسسات والمنازل.
  15. ألعاب الفيديو والحاسوب.
  16. الأجهزة الشخصية كالهواتف والألواح الذكية.
  17. الأنشطة الفنية كالسينما والرسم والموسيقى.
  18. لعلّ آخر ما توصل إليه العقل البشري هو اختراعه للإنسان الآلي الروبوت “صوفيا” وروبوت الدردشة “ChatGPT”.

كل هذا ما هو إلا عينّة من بعض استخدامات الذكاء الصناعي في واقعنا اليوم، فبرامجه تتعّدد من مجال إلى آخر؛ تمس الفرد والجماعة على حد سواء، وميدانه كوكب الأرض والفضاء، وتتنوّع أهدافه من التنمية والدفاع والأمن إلى التعليم والتثقيف والترفيه.

إن أهمية الذكاء الاصطناعي تكمن في أنّه يساعد الإنسان على أداء أعماله في فترة وجيزة مع خفض تكلفة الإنتاج؛ إلى جانب توفير الراحة والرفاهية له، فهو يساهم -بكل اختصار- في تطوير الحياة البشرية.

وعلى اعتبار أنّ أبحاثه ذات طابع تقني محض؛ فإنّه سيؤثر أيضًا في ميادين العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الأعصاب وعلم الإجتماع وعلوم الفلسفة وغيرها من العلوم؛ وذلك من خلال إتاحة الفرصة للعلماء في فهم عملية التفكير البشري.

ليست بعيدة.. تهديدات الذكاء الاصطناعي

مع توسع قدرات الذكاء الاصطناعي وانتشاره، ازدادت حدّة النقاش حول هواجس خروجه عن السيطرة، فقد اتفق العديد من العلماء والأكاديميين والفاعلين في الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي على مخاوفهم من عدم التحكم في التكنولوجيا مستقبلاً؛ بل وصل اعتقادهم بأنّها ستقضى على البشرية؛ مما دفع قرابة ألف خبير ومتخصص لتوقيع عريضة يطالبون من خلالها بوقف مؤقت لتطوير هذه التكنولوجيا، ولعلّ من أبرزهم مالك تويتر وشركتا “سبايس إكس” و”تيسلا” إيلون ماسك، ومؤلف كتاب “سايبيينز” يوفال نوح هراري، ورئيس شركة “أوبن إيه آي” سام التمان وممثل شركة “آبل” ستيف ووزنياك، وخبراء من مختبر “ديب مايند” للذكاء الاصطناعي التابع لـ”غوغل”، ورئيس شركة “ستابيليتي إيه آي” عماد موستاك، بالإضافة إلى  مهندسين من شركة “مايكروسوفت” وأكاديميين متخصصين في الذكاء الاصطناعي؛ كما حذر الأب الروحي للذكاء الاصطناعي بشركة “غوغل” جيفري هينتون من مخاطره عندما ترك منصبه مؤخراً.

 تتجلّى لنا هذه المخاوف بوضوح حين نرى بأنّ الآلات الذكية التي تعيش معنا تفتقر للعاطفة والإنسانية وبالتالي ستؤثر قراراتها الآلية في حياتنا بشكل مباشر، كما أنّ استخدامها بشكل دائم ينعكس بالسلب على أدمغتنا كضعف الذاكرة والإدراك وتراجع العلاقات الإنسانية -العزلة والانفصال عن البشر-، إلى جانب تزايد التهديدات الأمنية على المستوى القومي كالهجمات السيبرانية والتلاعب بالمعلومات واختراق الحسابات والمواقع الإلكترونية والتجسس عبر برامج خاصة -مثل برنامج بيغاسوس-.

أمّا على المستوى الداخلي فيكمن القلق في استخدام الحكومات لبرامج من شأنها تقييد حريّة الأفراد ومراقبتهم وإنتهاك خصوصيتهم الشخصية، أمّا اقتصاديًا فاليد العاملة مهدّدة بخسارة المزيد من فرص العمل، وتوجد تهديدات جمّة لا يسعنا حصرها.

من خلال ما سبق ذكره من مخاوف وهواجس؛ نطرح السؤال التالي: هل شعر عرّابو الذكاء الاصطناعي بالندم لاختراعهم الذي تجاوز خيالهم؟

يجيبنا العالم البريطاني سيتوارت راسل على ذلك بقوله: “إنّ البشرية قامت بخطأ في البداية لأنهّا لم تفكر في سبب الحاجة إلى اختراع الذكاء الاصطناعي”.

 للذكاء الاصطناعي دور في تحسين حياة الناس من خلال تقديم خدمات أكثر دقة وبسرعة فائقة؛ لكنّه قد يشكّل أيضًا تهديدًا للبشرية إن لم تكبح جماحه، وذلك بوضع إستراتيجات تقوم على أسس حوكمة وأخلقة التكنولوجيات الحديثة وتنظيمها ومُتابعتها ومُراقبتها والتحّكم فيها؛ فالذكاء الاصطناعي بمثابة ذلك العفريت الذي يتطلّع لتحقيق أُمنياتنا ورغباتنا ويأبى العودة إلى الفانوس؛ وقد أكّد ذلك السيناتور الأمريكي كوري بوكر حينما قال بأنّه “لا توجد طريقة لوضع هذا الجنّي في الزجاجة؛ إنّه ينفجر عالميًا”.


 قائمة المراجع:

1-الذكاء الاصطناعي: تأثيرات تزايد دور التقنيات الذكية في الحياة اليومية للبشر.

https://futureuae.com/media/20_371c98d6-6b55-4f40-8200-6ffcca032c25.pdf

2-مدخل إلى عالم الذكاء الاصطناعي

https://www.kutubpdfbook.com/book/%D9%85%D8%AF%D8%AE%D9%84-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A/download

3-أفضل كتاب يشرح الذكاء الاصطناعي

https://www.rofofs.com/2021/04/learn-artificial-intelligence-basics-book-pdf.html

4-تاريخ الذكاء الاصطناعي

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-pdf

5-الذكاء الاصطناعي واقعه ومستقبله

https://www.ebooksar.com/%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-pdf

6-مخاطر الذكاء الاصطناعي على الأمن ومستقبل العمل

https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/perspectives/PE200/PE237/RAND_PE237z1.arabic.pdf

7-الذكاء الاصطناعي يهاجم الذكاء الاصطناعي

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D9%8A%D9%87%D8%A7%D8%AC%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D8%B4%D8%B1%D9%81-%D8%B4%D9%87%D8%A7%D8%A8-pdf

8-الذكاء الاصطناعي المستقبل الجديد

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-pdf

الرسالة الأخيرة

تخيل معي أيها المسلم أن مسافراً من المستقبل أتى إليك وعلى وجهه كل نظرات الكآبة والخوف والهلع وصدره ينتفض شهيقا و زفيرا من هوْلِ ما رأى وهرب منه، ثم أخبرك أنه جاءك ليحذرك من طامّة ستحدث لك قريبا، واستضعاف سينالُك، وسيتم التنكيل بك وسيحاولون كل جهدهم قتلك وقتل عائلتك وتشريدهم واغتصاب أقاربك من النساء وخطف أطفالك وتغيير ديانتهم ونسبهم لغيرك. وسترى من المصائب ما تسودُ به عيشتك فلا تدري أين الطريق، ولا النور ولا الظلمات.

فما كان منك إلا أن سألته بتلهف وخشية من مصيرك المحتوم: إذا ماذا أنا بفاعل؟! وكيف الوسيلة لتفادي كل هذا؟!

فكان ردّه أنه ترك لك إرشادات وتعليمات تدفع عنك هذا وترفعه وتوجّهك وتعينك على ما سترى، وبها يمكنك تبديل حالة الاستضعاف لحالة التمكين والعزة ثمّ قال لك أنه لن يستطع العودة إليك مجدداً، وعليك وحدك تحمّل نِتاج أفعالك واختياراتك، وما لبث أن غادر وترك لك تلك “الرسالة الأخيرة”.

لنتعرف إلى الرسالة الأخيرة

إنه من الجليّ أن مقصدنا بالرسالة الأخيرة هو القرآن، فقد أرسل الله محمداً رسوله وخاتم الرسل وسيد بني آدم ﷺ ومعه القرآن لينذر الناس ويهديهم من الكفر إلى الإيمان. فكان القرآن هو بمثابة آخر رسالة من الله عز وجلّ لنا فلو أدركت عظمة وقدرة وقدْر المُرسِل، لاستشعرتَ قيمة وأهمية الرسالة التي بين يديك.

هو الله خالق السماوات والأرض وخالقنا، خلقنا لحكمة من عنده سبحانه وتعالى، ولم يتركنا لأنفسنا نفسد في الارض ونقتل أنفسنا ويظلم بعضنا بعضاً، فتُسْفك الدماء وتضيع الحقوق. وإنما حين استخلفنا فيها أرسل لنا الرسل والانبياء ليرشدونا ويعلّمونا ويكونوا لنا دلالة على الطريق كالنجوم نستهدي بها السبيل. فكلما استفرد الإنسان بقوته وعلمه وعقله، أرسل الله له من ينذره ويدعوه إلى الإيمان وتحقيق مراد الله من خلقه. فإذا أبى عذّبهُ الله وأهلكه بعناده وكبره.

حتى أتى موعد الرسالة الأخيرة وجاء بها محمد ﷺ، أخبرنا بما سيكون لنا في آخر الزمان من فتنٍ كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويُمْسي كافراً ويبيع الرجل دينه بقليل دنيء من الدنيا رديء ومتاعٍ محدود(1) ويحذرنا من تكالب ملل الكفر على بيضة المسلمين، وهوانهم وانكسار شوكتهم(2)، يوالي ويتبع المسلمون اليهود والنصارى بحثا عن العزة، ولا يبقى للرجل المؤمن أخير وأسلم من الفرار بدينه بعيدا إلى أعالي الجبال(3).

فأمرنا ﷺ بمعاهدة القرآن ومداومة الوصال به، وبشرنا بالضلال والضياع والحيد عن الطريق المنشود إن نحن استمسكنا بغيره ونشدنا الهداية والصلاح واستصلاح العباد والبلاد بدستور غير ما انطوى عليه القرآن، فهو الرسالة الأخيرة للعباد من ربّ العباد.

فينبغي للمسلم أن يعي قدر ما بين يديه من الرسالة ويحاول فهمها وتدبرها واستخلاص المعاني الموجودة فيها والعمل بها والحث عليها ونشرها وتبيينها للناس. ومما يُعين على ذلك أن يَدرس ما بها من موضوعات رئيسية وأفكار أساسية يتتبعها ويتعلم منها مراد الله في كلّيات الأمور فإن عَلِمَ الُكلّيات وضَحَت له عِلّة الجزئيات وأسبابها وفوائدها.

تِبيان مسؤولية المسلم

ولأن المرسَل إليه هو الإنسان، فمن المتوقع أن يوجّه إليه الكلام ويُخاطب بالأمور والتكاليف والمهام التي من أجلها خُلق، ولله الحكمة في شؤونه. فقامت الرسالة بتبيين الغايات وأولى الأولويات، التي من أجلها خلق الله العباد (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). فتحقيق العبودية لله هيَ مطلب المؤمن في الدنيا ومسعى كل ذي علمٍ ولُبّ، وكانت العبادات وسيلة تحقيقها، فيصل العبد لكمال عبوديته بطاعته المطلقة لمولاه، وتنفيذه لأوامره، واجتناب نواهيه وزواجره.

فإذا قال الربّ عزّ وجلّ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 56] كان تنفيذ أمره واجبًا، لا يصح معه رفض أو اعتراض أو تباطؤ فيه. وأضْحت طاعة نبيه من طاعته. وإن نهانا الله انتهينا، فلا خير فيما حرمه الله علينا فهو مولانا وأعلم بنا منا، وذلك حتى إن لم نعِ الحكم من ذلك المنع والتحريم.

المسؤولية المجتمعية

أما عن المجتمع الإسلامي ككل، فهو مجتمع مُختص بكونه أمة واحدة لا يفرقها حدود أو بلدان، كتلةٌ صلبة في ذاتها، وجهت لها الرسالة أوامر ونواهي مباشرة، وحضّت على نبذ الفردانية والأنانية، وجرمت حرية الفرد مجتمعيا إن كان فعله مخالفاً لتعاليم الشريعة، حتى وإن لمْ يضّر أو يؤذي غيره، ففي مجتمع الإسلام لا يجب أن يُسْمح بأيّ وجودٍ لنبتةِ الفسق والاعتداء على حدود الله، لذلك اعتنى القرآن بأهمية التواصي على الخير فيما بين أفراد الأمة {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3] وأكد على أهمية العمل سويا لأجل الأمة نفسها وخدمة ما ينفعها في دنياها وآخرتها {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وحرّم الاجتماع على شرور الأمور وفسادها {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وأكد على ضرورة التناصح بين المسلمين والحث على زجر مرتكبي المنكرات علناً {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110]، وحُق في أمتنا أن تُوصف بالخيرية إن هي اتبعت سبيل المؤمنين ودولة السابقين الراشدين في الدعوة إلى الخير وكف يدِ الفاسقين المعتدين المتباهين بذنوبهم، فتنجوا بإذن الله ورحمته من لعنة الله كما لُعِنت أختها من قبل بتركهم تناهي بعضهم البعض عن ارتكاب الفواحش والسيئات {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79]

ومهام المسلم وتكليفاته -الخاصّة به كفرد أو بالمجتمع ككل- في القرآن مفصّلة مبينة، منها الجهاد والصيام والزكاة وغيرها، وفي سنة النبي ﷺ قولاً وفعلاً نموذجا لها. ثمّ إن تتبعها جميعا هنا غير ممكن والغرض من ذلك الفصل هو المرور على أمثلة لها تشرح الفكرة، والفائدة الأكبر لمن أتخذها دربا له في البحث والتدقيق عن شبيهاتها في القران فيعمل بها.

الرسالة وتشريعات المسلمين في الدنيا

كما هو معلوم أن الدنيا دار ابتلاء، وجسرٌ يُعبر عليه الى الدار الآخرة؛ ولأن الله لم يتركنا لنفسنا وللشيطان يغوينا ويضلنا فكانت رسالته الأخيرة لنا محتوية على ما ينفعنا ويُسهّل علينا دنيانا وأمورنا الحياتية في المعاملات اليومية بين المسلمين، وفيها تشريعات لحياتنا الدنيا نتخذها حتى تُحفظ حقوقنا بيننا، ففيها تقسيم الميراث وكيفية كتابة الدَيْن والفصل في قضايا النساء من طلاق وزواج، وتبيين ما يجوز أكله وشربه. فبها يُفرق بين الحلال والحرام، فعندما يدّعي بعضهم أن الربا مثل البيع، تأتي الرسالة بالقول الحاسم الفاصل موضحةً الحكم للمسلمين {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فينصاع الناس لما قيل ويتبعون تشريعاته المُحكمة.

الرسالة وتمييز الحق من الباطل

وفي اتباعها وملازمتها الهداية -بإذن الله- إلى السبيل الحق واجتناب الضلال، والرُشد الى الصواب من الأمور، فتحْمِلك عن إتباع النفس والهوى، وتبصّرك بما يقوّم عيشتك ومعيشتك {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وترى بها الحق حقاً والباطل سدىً، وما أفضلها من نعمةٍ حين تُرزق نعمة تمييز الحق عن الباطل في زمنٍ التبس فيه الشر ثواب الخير وادّعى فيه السفهاء العلم والفهم، وتكلم الناس فيما جهلوا، وكثر شيوخ السلاطين ومواليهم، فلم تعد تعرف صدق أو كذب فتواهم وكلامهم، وكَثُر أتباع الدجال وإن لم يظهر بعْد. فهنا تجد الرسالة لك كالبوصلة على الطريق، تحدد لك الجهة المراد سلوكها، فترى منها أهلها وطالبيها من أهل القرآن، وتعرف بها الصواب وأهله فتتبع سبيلهم، وتكشف لك فعل المنافقين وصفاتهم فتحذرهم، فتكون فرقاناً بإذن الله.

تغيير تصورات المسلم

ومن أخص خصائص الرسالة وأنفعها هي ترتيب أولويات المؤمن وإعطاء المشاكل نظرة مختلفة تهونها عليه ويدرك بها قيمتها الحقيقية ويضعها في مكانها الملائم بين الهموم. فيأتي في ثنايا الرسالة أن المسلم مأمور بطاعة الله وتأدية عباداته كما سبق ذكره، ثمّ إذا تطرقت الى الرزق كمثال لهمًّ من مشاغل الدنيا كان جوابها {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] فتوجهه على ما هو مطلوب منه كالصلاة وتبعده عما هو مرفوع عنه كالرزق، فقد قسَمه الله له من قبل أن يخلقه. وتجد أن الله لا إله الا هو، خالق كل شيء وله مقاليد الأمور وهو القاهر فوق عباده، هو الغنيّ ونحن الفقراء إليه قد أخبرنا فيها {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] ثمّ يقسم بنفسه على ذلك {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23]. فتتبدل رؤيتك لقسمة الرزق وتظن في الله خير وتطمئن.

وإذا نزلت نازلة أو حلّت مصيبة على الأمة، جاءت الرسالة تخفف عنا وتبصّرنا بمآلات الأمور وعواقبها وتحثنا على الصبر {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] ثم تبشرنا بمثابة ذلك الصبر وأن ينعت الله الصابرون بصفة المهتدون ومن بعدها توضح جزاء المهتدون وهو أنهم {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] وعسى أن يكون مأواهم الجنة ثوابا على صبرهم وعملهم.

الرسالة والمعيار الحاكم لأفعال المسلمين

ومما وعته الرسالة وفصلته وأكثرت من ذكره خلال آيات الرسالة وسورها هو التمييز والفصل بين المسلمين الموحدين بالله والكفار المعاندين المشركين، وأشارت إلى قوة وعزة المسلم بالله ودينه {وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [آل عمران: 139]، فتحفظ المسلم من ذلّ التَبَعية لكل من لا يؤمن بالله، ويضع في نفسه صفة الاستعلاء بالله ودينه.

غير أنها تبين له المعيار الحاكم لأفعال البشر، فربما يجد المسلم في نفسه استحسانا لمساهمة بعض الكفار في خدمة وتطوير كل ما ينفع الإنسان، ويشعر بالحيرة والشك والتخبط خاصّة عندما يرى الظلم والفساد والتخلف الذي نال بلاد المسلمين. ولن أخوض في أسباب تلك الحالة التي وصل لها المسلمون أو أسرد القول في أفعال الغرب الكافر بالمسلمين أو بين أنفسهم، فليس ذلك هدف المقال. ولكن هيمنة الغرب وضعف الأمة الإسلامية قد أثر بالسلب على بعض المسلمين وأحدث خللاً في نفوسهم وفي تصورهم عن الإسلام.

تنبهك الرسالة أن أفعالهم لا تنفعهم ما لم يؤمنوا، وأن شرط قبول عملهم في الآخرة هو الإيمان {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه 112]، وإن عظم في عينيك أعمالهم وتقدمهم وبنائهم فتذكرك بمصيرهم يوم القيامة {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23] فلا يبقى منه شيئا، ولئن شاهدت لهم رفعة وشهرة وقوة في الدنيا فتذكرك -الرسالة- بأن الدنيا فترة عابرة والآخرة هي دار الحياة ثم إن {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]، فاعمل بعملهم واتّبع نهجهم وسبيلهم وعسى أن يمكننا الله منهم ويعزّنا بقرآنه ودينه فتكون لنا اليد الأعلى في الدنيا، ثم الخلود في الجنة.

النذير الأخير

ولأنها الرسالة الأخيرة فكان فيها النذير الأخير لكل البشر، نذير سيدوي ذكره آجالا طويلة وسنينا عديدة، يدل الناس على الإيمان ويحذرهم من العصيان ويفصّل لهم حقيقة الدنيا وقلة مكانتها وقدرها. ينبئهم بأن الأمر جلل وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وإنها يوم كخمسين ألف سنة مما يحسب البشر، بدايته صاعقة يقوم بها من في القبور عرايا، أحياهم الله كما خلقهم أول مرة، تحسب من هيئتهم السُكْر فتراهم هلعين خائفين يتخبطون لا يقدرون على المسير من هول ما سمعوا ومن خشية ما هم مقبلين عليه وسائرين إليه {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2].

تُصور لك الرسالة مشاهد يوم القيامة والبعث والحساب، فهنالك يجد كل امرئٍ ما عمل ويحصد ما صنع في حياته، ويُنادى الناس للمحاسبة والمسائلة فيلقون الله وحدهم {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] فلا تجد صاحبا أو قريبا يدفع أو يدافع عنك أمام الله، لن ينفعك إلا عملك، والله أخبرنا أن {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [غافر: 7].

يحاسبهم الملك عز وجل على ما صنعوا وهو أعلم به منهم، فيجد الإنسان كل صغيرة وكبيرة في كتابه لا ينقص منه شيئا {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍۢ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء 47] فلا يظلم ربك أحدا، وله الحكم والقول الفصل.

تشير الرسالة في غير موضع عن أننا عباد الله وعلينا طاعته، فتبشر تارة بنعيم الجنة ترغيبا وتارة أخرى بعذاب الله وجحيمه ترهيبا. تقص لنا قصص الأمم الهالكة من السابقين وكيف كان عقابهم، وتحكي لنا سيَر الأولين الصالحين وكيف كانت الجنة مأواهم الأخير، فتكون في فصصهم عبرة لنا ولمن بعدنا نقتدي بها وبهم حتى نجني ثمار ما جنوا.

تأخذنا -الرسالة الأخيرة- في رحلة الى النهاية الأخيرة الوحيدة لكل البشر، تلك النهاية التي تُهْزم بها اللذات وتنطفئ بها الشهوات ويفرّ كل بني آدم من ذِكرها أو تذكرها، تلك النهاية التي تُنسى وتستصغر من أجلها كل مآسي الدنيا والهموم، وتُوقظ بها الغافلين.

تُخبر الغارقين في ملذات الحياة الدنيا والمعتدين لحقوق الله وحدوده، المتشبثين بلذة فانية ومتعة زائلة، مسرفين على أنفسهم بالذنوب، غافلين عن موعدهم ومآلهم، وأن كل ما يرتكبونه إنما هو في الدنيا، وأن مقرهم واستقرارهم فيما بعد الموت وأن الأرض فانية والدنيا هالكة {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن 27].

فيا أيها القارئ للرسالة الأخيرة! إن لم تكن في موكب الناجين ستكون يومئذ من النادمين، يوم تقف أمام الله وقفة طويلة مهيبة، يعقبها جنة أو جحيما أبديا، فكما تعلم أن الله غفور رحيم فإنه كذلك شديد العقاب.

تلك صور متعددة محدودة من نذير القرآن وتحذيره للناس أجمعين، ولا يسع المقال للتفصيل والتبيين في أكثر من ذلك، والقرآن بين يدي كل مسلم يمكنه تدبره واستخراج كل الآيات التي تحمل هذا المعنى، فتكون له واعظا ونذيرا.

اتبع وحي الله إليك!

إن منزلة القرآن كونه الخطاب الأخير من الله لعباده يستوجب منا كل الاهتمام والانتباه والتمسك بما فيه، والنظر إلى توصيف النبي على لسان أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه كان ﷺ قرآنا يمشي على الأرض، يبين لنا كيفية الاتباع والعمل بما فيه، فقد كان ﷺ نموذج التطبيق العملي لما جاء به القرآن من أوامر وخُلُق وصفات يتحلى بها العبد الصالح. إذا فعلينا كمسلمين تجاه القرآن أن نلزمه ونعاهده بالتلاوة والتدبر وبذل كل الجهد في تحصيل حسين الاتباع {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121] وحق التلاوة هي الاتباع والعمل بما فيه وتحليله حلاله وتحريم حرامه كما قال ابن عباس.

إن القصد الأعظم من القرآن هو اتخاذه كمنهاج للمسلم وخلقا يتحلّى بها ويطبقها، وهو أيضا دستورا للمجتمع الإسلامي ككل، ولم يكن الهدف أبدا من تنزيله أن يكون تراتيلا يتغنّى بها الناس ويطّربون بصوت مؤديها، أو أن يُبذل الجهد في قراءته بمقامات موسيقية تجعله كالغناء أحيانا، ولا أيضا أن يهتم الناس بتعلم وحفظ ألفاظه فقط وترك العمل بما جاء به من أصول وتنظيمات وشرائع، فينشأ جيل من حفظة القرآن لا يدرون ما يقولون وترى سلوكياتهم خلاف ما تحفظ قلوبهم. وينبغي التنبيه على أن بعضا مما ذُكر سابقا مقبول ولكن المرفوض أن يكون الغاية من أخذ القرآن واتّباعه، فقط الالفاظ. وإهمال العمل بما فيه ومعرفة مراد الله وأحكامه فينا. فالذي تُبذل فيه الأعمار والأنفس هو العلم ثم ما يقتضيه من العمل والطاعة وذلك هو الغاية المنشودة.

أخيراً، إن الحديث عن الرسالة الأخيرة من الله وكلامه وخطابه الموجّه يطول، ولا تسعه صفحات معدودة أو كتاب، وإنما نعبّر عن بعض المواضيع التي تخدم الفكرة. والقصد أن نحث أنفسنا والمسلمين على تلاوة القرآن وتدبره كما أراد ربنا، وعسى الله أن ينفعنا وينفع بنا.