مقالات

الأكوان المتعددة: علم أم خيال؟ (3 من 3)

بعد استعراض أهم فرضيات الأكوان المتوازية على تنوعاتها واختلافاتها، نأتي إلى استعراض مجموعة من الاستنتاجات والردود على هذه الفرضيات.

وسنناقش فيما يلي أهم الاستنتاجات التي تستحق التوقف والنقد:

1- الملاحظ أن جميع هذه الفرضيات تؤدي إلى أنه مع هذه الأعداد الكبيرة جداً للأكوان المفترضة، فإنه ليس غريباً أن يوجد كون واحد ككوننا تنشأ فيه حياة وتكون مناسبة لكائنات ذكية تكتشف قوانين هذا الكون، وهذه هي فكرة المبدأ البشري.

2- فكرة الأكوان المتعددة قامت في أساسها على الاحتمالية الموجودة في ميكانيكا الكم، وهذا يقودنا إلى سؤال هام وهو: هل ما ينطبق على العالم الذري وتحت الذري يمكن أن ينطبق على العالم المشاهد والمحسوس أمامنا، ففكرة تواجد الإلكترون في مكانين في آن واحد كما في العالم الذري هل يمكن أن يحدث مثيل لها في عالمنا المشاهد على مستوى الأجسام الكبيرة؟ فضلاً عن أن تحدث في أكوان كبيرة جداً تقاس فيها المسافات بسرعة الضوء؟

3- مع كل اكتشاف علمي أو عند ظهور أي نظرية جديدة يسارع بعض المسلمين -من الشيوخ وعلماء الدين- لإنزال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على هذه النظريات، وهذا أمر لسنا مضطرين إليه، فهذه النظريات لم يتم إثباتها علمياً، والغالب أنه لن يتم حتى إثباتها في المستقبل المنظور على أقل تقدير.

4- يقول فيلسوف العلوم الشهير كارل بوبر: “إن معيار الوضعية العلمية لنظرية ما هو إمكانية تكذيبها أو تفنيدها أو اختبارها”[1] وبمعنى آخر لكي نقول عن نظرية إنها علمية يجب أن تخضع للاختبار والتكذيب، والعكس صحيح، وهذا يقودونا إلى التساؤل حول الأكوان المتعددة: هل هناك دليل على وجود هذه الأكوان؟ وهل هذه الفرضيات يمكن اختبارها علمياً حتى نتبين صحتها من خطئها؟

روجر بينروز

5- يقول روجر بينروز الرياضي الإنكليزي الملحد وصديق ستيفن هوكينغ: “ما معنى أن تقول عن شيء إنه موجود وأنت لن تستطيع من حيث المبدأ ملاحظته؟”[2]، وانطلاقاً من هذا الكلام فأين هي آثار الأكوان المتعددة في كوننا حتى نستنتج ونلاحظ وجودها؟ بينما تبدو آثار الله تعالى ظاهرة في كونه ودالة على عظيم صنعه وقدرته، ويلاحظها الصغير والكبير ويدركها العامي البسيط والعالم المتعمق، وقديماً قال أعرابي بسيط لبيب:” البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على العليم الخبير؟”.

6- تنص “شفرة أوكام” على وجوب اختيار التفسير الأقل تعقيداً عندما توجد عدة تفسيرات لظاهرة ما، ومن هذا المنطلق فأمام التصميم الدقيق Fine Tuning لهذا الكون لدينا اختياران؛ إما الاختيار بين إله واحدٍ خالق لهذا الكون أو بين مجموعة فرضيات الأكوان المتعددة، ولا شك أن الاختيار الأقل تعقيداً والأمثل هو وجود الإله.

7- وجود شيء ما رياضياً لا يعني وجوده فيزيائياً أو واقعياً؛ وهذا ينطبق بالطبع على فرضية الأكوان المتعددة، فإثباتها رياضياً لا يعني إثبات وجودها الفيزيائي كما يفترض عالم الكونيات تيغمارك [انظر المقال الثاني من هذه السلسلة]، فالرياضيات تحتوي مثلاً على الأعداد العقدية وعلى اللانهاية، فهل هذه أشياء يمكن أن توجد على أرض الواقع؟ كما أن الرياضيات يمكن تشبيهها بلغة لفهم الكون، وعندما يتعلم أحد الأشخاص لغة ما كالفرنسية على سبيل المثال فهو يتعلمها ليفهم ما يقوله الفرنسيون عن أشياء موجودة بالفعل، إلا أنه إذا صنع كلمة في ذهنه مستخدماً الحروف الفرنسية فهذا لا يعني أن الكلمة الجديدة ستكون موجودة واقعيا بالفعل. وفكرة تيغمارك ليست جديدة، وإنما تعود في أصلها إلى حوالي خمسة قرون قبل الميلاد مع الفيثاغوريين الذين اعتقدوا “أن البنى الرياضية هي في أساس الأشياء جميعها جواهر”[3] ثم اعتبر أفلاطون أن الرياضيات جوهر الأشياء جميعا[4]، وما فعله تيغمارك هو أنه طبق الفكرة السابقة وأدخلها على فرضيات الأكوان المتعددة.

8- من الجدير بالملاحظة أن فرضيات الأكوان المتعددة بنيت على فرضيات علمية أخرى لم يتم إثباتها علمياً حتى الآن؛ وقد حصل هذا مع بعض تنبؤات نظرية التوسع الكوني، ونظرية الأوتار، وتفسيرات العوالم المتعددة في ميكانيكا الكوانتم لهيو إيفريت وغيرها.

9- هل يمكن القول إن فرضية الأكوان المتوازية نوع من الفلسفة أو الميتافيزيقا؟ والجواب الراجح هو نعم، حيث يقول بول ديفيز: “إن فكرة الأكوان المتعددة أو الوقائع المتعددة (multiple realities) بقيت في دوائر الفلسفة لقرون غير أن التبرير العلمي لها هو أمر جديد”[5]، فالعلماء المعاصرون من الملحدين خاصة تلقفوا هذه الفكرة الفلسفية التي وردت بتصورات مختلفة من عدد من الفلاسفة مثل ليبنتز ووليام جيمس وغيرهما، وحاولوا أن يلبسوها لباس العلم بطريقة ما، فالفكرة أصلها فلسفي وتدخل في إطار النقاشات الفلسفية.

أخيراً حتى لو سلمنا جدلاً بوجود هذه الأكوان المتعددة اللانهائية، أو ذهبنا بعيداً إلى أن العلم سيثبت يوماً ما بطريقة ما وجود هذه الأكوان، فهنا يُطرح سؤال بديهي: من أنشأ كل هذه الأكوان؟ ومن أين كانت نقطة الانطلاق؟ ومع هذا السؤال تعود الحلقة المكررة إلى بدايتها ويعود الملحدون إلى ترديد نفس الأسطوانة المشروخة عن نشأة هذا الكون الواحد وعن كيفية نشأة الحياة على الأرض، وتبدأ أحاديث الصدفة والعشوائية ويبقى الملحدون يدورون في هذه الحلقة المفرغة، حتى إن ظنوا أنهم وسعوها بافتراضات عجيبة مثل افتراض الأكوان المتعددة اللانهائية!


الهوامش

[1] غنار سكربك نلز غيلجي، تاريخ الفكر الغربي ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة،2012، ص883

[2] Paul Davies ,mind of god,Simon&Schuster,1992 p.191

[3]غنار سكربك نلز غيلجي، تاريخ الفكر الغربي، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة،2012، ص65

[4] المصدر السابق، ص116

[5] http://www.nytimes.com/2003/04/12/opinion/a-brief-history-of-the-multiverse.html?pagewanted=all

مصادر تمت الاستفادة منها في أجزاء السلسلة:
-لقاءات تلفزيونية ومحاضرات لدكتور باسل الطائي أستاذ الفيزياء الكونية في جامعة اليرموك في الأردن.

-عبد الله العجيري، شموع النهار، تكوين للدراسات والأبحاث، 2016.

-عمرو الشريف، خرافة الإلحاد، مكتبة الشروق الدولية، 2014.

-ستيفن هوكينغ، تاريخ موجز للزمان، دار التنوير، 2016.

هل يساعدنا التقدّم على فهم أفضل للدين؟

كثيرًا ما نسمع من بعض المشتغلين بتأويل النصّ الديني، بعلم أو بغير علم، دعاوى مفادها أنّ علينا نبذ التفسيرات التراثية القديمة للنصوص الدينية، وأن نفهم القرآن على ضوء معطيات الحضارة الحديثة؛ فنحن –كما يقولون– نمتلك اليوم أدوات علمية وتطوّرا كبيرا يؤهّلنا إلى فهم النص الديني بشكل أفضل ممّا فهمه القدماء. فهل الأمر كما يقولون؟ وهل يسري مفهوم “التقدّم” على كل شيء من علوم الإنسان بما في ذلك علم الوحي؟

أعتقد أنّ الأزمة الكبرى التي يعيشها أصحاب دعوة نبذ التراث والاقتصار على الخبرات الحديثة لفهم النصّ القرآني وفقا لمعطيات الحضارة المعاصرة كما يقولون، أنّ كل هذا الكلام البرّاق الذي يلوكونه هو كلام غير علمي، لأنّهم مهووسون بفكرة تقول: إنّ التقدّم يؤدي بنا دائما إلى الأفضل. وفكرة التقدم هذه هي أيديولوجية معاصرة صاحبتْ النهضة الحديثة في العلوم، حيث كان الملاحَظ في مختلف المجالات العلمية أنّ التقدّم يؤدي إلى التحسين دوما، كما يحدث في الطب والهندسة والتكنولوجيا والفيزياء وغيرها من العلوم. ففي الطبّ مثلا، لا يسع أحدًا أن يعود لكتب الإغريق أو ابن سينا ويجعلها مقدّمة على أحدث الخبرات الطبّية المعاصرة! لكن الشيء الذي غفل عنه هؤلاء أنّ طبيعة النصّ الديني والبحث في التراث عموما لا تنطبق عليها قاعدة التقدّم بهذا الاطّراد الذي عمّموه على كل شيء. وتحديدًا في مسائل الدين، فمصدر الدين هو الوحي، والوحي ثابت لا تغيّر فيه ولا تبديل.

ومن ثم فإنّ معرفة مضامين الوحي ومعانيه لدى الطبقة التي نزل بلغتها وفي أحداث عايشتها، والتي سمعتْ تفسيره من الرسول صلى الله عليه وسلّم، تكون معرفة مضامين الوحي لدى هذه الطبقة أكثر موثوقية من معرفته لدى طبقة جاءت بعدها بأكثر من ألف عام، مع افتقادها للملكة اللغوية ولمعايشة نزول الوحي وللتلقّي عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن هنا تكون المعادلة مختلفة عن معادلة العلوم الطبيعية، بحيث يستلزم الباحث الجادّ الذي يريد معرفة معاني الوحي أن يعود إلى الوراء بحثًا عن أنقى المصادر لمعرفة مضامين الوحي، وأي قفزة تقدّمية إلى الأمام هي في هذا السياق قفزة غير موضوعية ولا تفضي إلى معرفة أصيلة وجادّة.

حجر رشيد

إنّ هذا المسلك في معرفة مضامين النصّ الديني يشبه إلى حدّ ما ما يجري في بعض العلوم الإنسانية الأخرى. خذ مثلا اللغة الهيروغليفية المصرية القديمة، فلم يكن بالإمكان فهمها جيّدا لولا العثور على حجر رشيد عام 1799م من قبل أحد جنود المجرم الكبير نابليون في مصر، فقد جمع الحجر ثلاثة نصوص منها الهيروغليفية واليونانية القديمة، ليتم بعد ذلك فك رموز اللغة المصرية القديمة بواسطة هذا الحجر. ولم تسعف العلماء كل العلوم الحديثة في فهم تلك اللغة بقدر ما أسعفهم مسار عكسي إلى الماضي، وأعني به حجر رشيد والنص اليوناني القديم الذي فيه!

وكذلك في فهم النصّ القرآني، فقد كان أهل السنة منذ القرون الأولى مدركين للقيمة العلمية لنصوص السنّة ونصوص الصحابة والتابعين في فهم القرآن وبيان مفاهيمه الشرعية، لأنّ التوجّه إلى الماضي هنا له قيمته العلمية في الوصول إلى المعاني التي يحملها النصّ القرآني.

مقارنات
وليقارن القارئ مثلا بين تفسير الطبري (310 هـ) وتفسير البيضاوي (685 هـ) ليدرك بوضوح أنّ هذه القفزة التي تزيد عن 350 عامًا لم تقدّم شيئا أفضل لفهم النصّ القرآني، بل كانت قاصرة عن تفسير الطبري الذي يتوفر على ثراء معرفي هائل وتحديدا لجمعه مواد علمية تعود إلى فترة نزول القرآن والفترة التي تلاصقها، بالإضافة إلى يُسر أسلوبه، ولذلك فإنّ قيمته العلمية –عند علماء الشرق والغرب بلا منازع– أكبر من قيمة تفسير البيضاوي رغم أنه أقدم منه.

إنّ هذا الكلام لا يعني عدم الاستفادة من التقدّم، ولكنه في علوم القرآن والشريعة عموما يكون في الأدوات الإجرائية، التي لا تقدّم دينًا جديدا ولكنها توضّح الرؤية وتنظّم الأفكار وقد تستنبط الجديد الذي لا يناقض القديم المجمَع عليه. ومن ذلك مثلا ما قام به الشيخ صالح الشامي في كتابه “معالم السنة النبوية”، فقد أفاد من تطور أدوات الطباعة وطرق الفهرسة الحديثة واجتماع كل نصوص الحديث لديه بسهولة شديدة بفضل تطوّر علوم العصر، فأفاد من ذلك كله وتمكّن من حصر نحو 4000 حديث تعود إليها كلّ السنة النبوية بقيمها وأحكامها، بعد حذف المكرر والضعيف وما يفيد نفس المعنى أو الحكم. وكذلك ما فعله الشيخ محمد عبد الله دراز حين قدّم منظومة الأخلاق القرآنية –النظرية والعملية- في رسالة علمية مع مقارنتها بالفلسفات الأخلاقية الحديثة والإفادة من العلوم الإنسانية التي درسها في فرنسا، دون أن يدفعه ذلك لتحريف معاني الشرع أو يبتدع دينا جديدا.

يهود الفلاشا (اليهود السود)

يقال إن تسمية هذه الطائفة من اليهود بالفلاشا تعود إلى كلمة فلسين، ومعناها: الغرباء أو السكان غير الأصليين، أو المهاجرين من الخارج. ويقال إنها مشتقة من “فلاس” وهي لفظة تعني العبور؛ فتكون كلمة العبرية مشتقة منها أيضاً، حيث يسمى اليهود بالعبريين لأنهم عبروا البحر مع موسى عليه السلام حسب بعض المؤرخين.

وتعود جذورهم إلى بلاد كوش “الحبشة” أو ما يسمى اليوم بإثيوبيا، وقد اختلف في أصولهم إلى عدة آراء، وهي:

ـ الرأي الأول: الفلاشا من نسل الأسباط العشرة المفقودة؛ رحلوا إلى إثيوبيا بين القرن العاشر قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي، وذهب إلى هذا الرأي الرحالة اليهودي الداد هدني، ويرى هدني أنه بعد انقسام المملكة اليهودية بين رحبعام بن سليمان ويربعام بن نبط قرر سبط دان الهجرة إلى الحبشة، وعدم المشاركة في القتال، ويوافق الداد هدني في هذا الاعتقاد الحبر اليهودي عوفديا، والحبر دافيد بن زمرا.

ـ الرأي الثاني: الفلاشا هم جزء من يهود مصر، ويرى أصحاب هذا الرأي أنه بعد تدمير الهيكل الأول هاجرت طائفة من اليهود إلى مصر، ومنها إلى الحبشة، ودليلهم التشابه الكبير بين يهود مصر ويهود الحبشة في عادة تقديم القرابين ووجود مصطلحات آرامية في الترجمات الجعزية للكتب المقدسة.

ـ الرأي الثالث: الفلاشا جزء من يهود اليمن “الجزيرة العربية”، ويقوم هذا الرأي على احتمالية هجرة بعض اليهود من الجزيرة العربية عن طريق اليمن إلى الحبشة، فالتقارب الجغرافي والعلاقات التاريخية بين ساحلي البحر الأحمر أسهما في ذلك.

ـ الرأي الرابع: الفلاشا هم نتاج هجرة بعض اليهود من مصر والجزيرة العربية، وهذا الرأي يجمع بين الرأيين الثاني والثالث.

ـ الرأي الخامس: الفلاشا تعود أصولهم إلى قبيلة آجاو الإفريقية، وقد تهودوا في زمن غير معروف، ويستدلون بالتشابه الكبير بين معتقدات آجاو النصرانية الأرثوذكسية وبين تعاليم يهود الفلاشا اليهودية، وممن ناصر هذا الرأي ولندروف.

وتختلف الروايات أيضا حول أعدادهم، مما حدا البروفيسور لسلاو إلى زيارة أثيوبيا في عام 1946م للكشف عن هذا الموضوع، فقدر أعدادهم بعشرين الف نسمة، وكذلك قدرها الدكتور شوشكس، بينما قدرت صحيفة نيويورك تايمز أعدادهم بما يقارب 52 ألفاً.

وينتشر الفلاشا حول بحيرة تانا في الشمال الغربي الإثيوبي، ومن مناطقهم: بجمدر، كوارا، بلسا، لسطا، دمبيا، جوندر، أرمشوهو، وجرا، لقيط، سمين، كما يتواجدون بأعداد قليلة في العاصمة أديس أبابا.

ويتكلم الفلاشا اللغة الأمهرية واللغة التجرية، أما لغة صلواتهم الدينية فهي لغة الجعز، وهي لهجة سامية قديمة كانت تستخدمها الكنيسة القبطية الإثيوبية.

وجميعهم ذوو جلد أسود كبقية الأفارقة، وغالب مساكن الفلاشا مبنية من فروع الأشجار المتراصة والمتلاصقة بالطين، فهي بيوت بدائية، ويعتمدون في الطهي على النار وإشعال الأخشاب، وهم لا يؤمنون بالتجارة لأنها تضطرهم للاختلاط بالأجانب غير اليهود “الغوييم”، حيث ينظرون إلى الأجانب على أنهم رجس، فهم منعزلون من الناحية الاجتماعية.

المعتقدات والطقوس الدينية

أولاً: الكتب المقدسة
يؤمن يهود الفلاشا بخمسة أسفار من أسفار العهد القديم، وببعض الأسفار الخارجة عنه، وهي أخنوخ واليوبيل وباروخ وعزرا، وهي مكتوبة بخط اليد.

وهم لا يعرفون شيئاً عن التلمود، ولا عن الجاؤنيم وهم رؤساء المدارس الدينية اليهودية في بابل، وجميع النصوص الدينية عندهم كتبت بلهجة الجعز السامية التي ترجمت عن نصوص يونانية في عهود نصرانية متقدمة.

ومن كتبهم المقدسة كتاب “أرديت” أو التلاميذ، وأعمال موسى، وجورجوريوس النبي، ومدراش أبا الياهو، وكتب الآباء مثل آدم وإبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى وهارون.

ثانياً: الصلاة والكنيس
تقام صلوات الفلاشا الدينية في كنيس مميز عن أكواخ القرية، وينقسم إلى قسمين: داخلي وهو قدس الأقداس وخاص بالكهنة، وخارجي لبقية اليهود، ولابد قبل دخول الكنيس من نزع الأحذية، ولا يغطي عوام اليهود رؤوسهم، بل هو خاص بالكهنة.

ويتوجهون في قبلتهم إلى القدس، وصلاتهم عبارة عن رقصات وحركات بالأيدي وسجود وغناء جماعي، وعدد صلواتهم ثلاث صلوات في اليوم، صلاة السحر وهي بعد طلوع الفجر وقبل الخروج إلى العمل، والثانية في منتصف اليوم، والثالثة بعد غروب الشمس.

كذلك لديهم صلاة يوم السبت، والصلاة السابقة للوليمة واللاحقة لها، وصلاة استقبال الضيف ووداعه وذكرى الأموات والختان والزواج.

ثالثاً: يوم السبت
هو يوم عيدهم الأسبوعي، فهم يزعمون أن الله استراح فيه بعد خلق العالم، وله أسماء عندهم فهو سبت الراحة والسبت المقدس وسبت السلام والسبت الملكة، ويحتفلون بقدومه فيغسلون ملابسهم ويعدون طعامهم، ويبدأ يوم السبت عندهم من غروب شمس يوم الجمعة.

رابعاً: التقويم والأعياد
يحتفل الفلاشا بأعياد التوراة، ولهم أيضا أعيادهم الخاصة بهم، وأبرزها:

ـ رأس السنة: وهو اليوم الأول من الشهر السابع نيسان، ويسمونه يوم شروق النور، وهم على خلاف بقية اليهود الذين يحتفلون به في أول شهر تشرين.

ـ يوم الغفران.

ـ يوم المظال: أو عيد الظل، وهو اليوم الخامس عشر من نيسان، ويستمر ثمانية أيام.

ـ عيد الفصح: وهو في الرابع عشر من نيسان.

ـ عيد الأسابيع: أو عيد الحصاد، وهو بعد خمسين يوماً من عيد الفصح.

ومن أعيادهم: أول كل شهر، والعاشر من كل شهر، والثاني عشر من كل شهر، والخامس عشر من كل شهر.

ويعتمدون في مواعيد أعيادهم التقويم الحبشي والذي يعتمد على الحساب القمري، على عكس بقية اليهود الذين يعتمدون التقويم الشمسي.

خامساً: الصوم
يعبّرون عنه بلفظ عبري معناه: إذلال نفس، وهم يصومون إما تكفيراً عن ذنوبهم أو إحياء لذكرى بعض الأحداث التاريخية، أو امتثالاً لبعض أوامر علية القوم، أو تضرعاً لله تعالى لكشف الكرب.

سادساً: الطعام الحلال “الكوشير”
لا يأكلون اللحم إلا إذا ذبحه الكاهن، ويدفنون دم الذبيحة في التراب، ولا يأكلون لحم غير اليهود “الغوييم” لنجاسة أصحابه في نظرهم.

سابعاً: النجاسة والطهارة
كل من هو غير يهودي هو نجس عندهم، فلا يؤكل لحمه، ولا يمس، ولا يسمح له بدخول بيت اليهودي إلا بعد الغطس في النهر، والميت عندهم نجس، وكذلك نجاسة من قام بتغسيل الميت أو دفنه أو حمله.

ويقولون بنجاسة المرأة الحائض والنفساء، فتعتزلهم خارج البيت إلى خيمة اللعنة، أو خيمة الدم، ولهم طقوس خاصة فيمن تلد ولداً أو بنتاً.

ثامناً: الختان
يعد الفلاشا خاصة واليهود عامة الختان عهداً بين الرب والشعب، وهم لا يزوجون بناتهم لغير المختون “الأغلف”، فيختتنون لأسباب عدة، كالأسباب الصحية والتعبدية، وعادة ما ينفذون هذه العملية في اليوم الثامن من الولادة، ويؤجلونه لليوم التاسع إذا كان الثامن سبتاً على خلاف بقية اليهود.

تاسعاً: زواجهم
للزواج عندهم خيمة خاصة، والزواج يتم بربط خيط ملون عند قدمي العريس، ثم يمرره على بقية جسمه، وتقام له الولائم الخاصة والاحتفالات، وغالباً ما يتم الزواج من غير الأقارب لأنهم يكرهون زواج الأقارب.

عاشراً: الدفن
يتم دفن الميت عند الفلاشا من خلال أربعة رجال، يغسلونه ويصلون عليه صلاة تسمى “فتح”، ومراسم العزاء عندهم تشابه نظيراتها عند بقية الأمم.


أهم المراجع
ـ يهود الفلاشا: أصولهم ومعتقداتهم وعلاقتهم بإسرائيل، الدكتور محمد جلاء إدريس، مكتبة مدبولي، القاهرة.

ـ الفلاشا: الخيانة والمحاكمة، صلاح عبد اللطيف، مكتبة مدبولي، القاهرة.

الجمعيات السرية

تعود جذور الجمعيات السرية إلى عصور قديمة يصعب تتبعها، حيث يدعي بعض أعضائها اليوم انتسابهم لأنظمة وضعت أصولها منذ ما قبل التاريخ، بل يزعم آخرون -كما سنرى لاحقا- أن أول البشر آدم قد أسس بنفسه أولى جمعياتهم لتكون رديفا لسيرورة حياة البشر، وكأن هناك خطين متوازيين لا ثالث لهما يحكمان التاريخ، وهما مسار الحياة الظاهر بكل صراعاته وتذبذب صعوده وهبوطه، ومسار الأسرار الباطني الخفي الذي لا يزال يحتفظ بأسراره في أيدي “النخبة”.

وبما أننا نتحدث عن جمعيات تقوم على السرية والرمزية، وهي تعترف بذلك وتتشبث به، فنحن إذن أمام مادة غامضة للبحث، فليست هناك مصادر موضوعية أو أكاديمية يمكن الوثوق بها كما هو الحال في أي مادة أخرى تخضع للدراسة، وهذا هو السبب الذي يدفع الكثير من الجامعات لرفض مقترحات الطلاب بتقديم أطروحات علمية تبحث في الجمعيات السرية.

وهذا لا يعني بالضرورة أن كل ما يُكتب عن هذه الجمعيات ضرب من التخمين، فالتحريات التي يجريها محققو البحث الجنائي والصحفيون الاستقصائيون لا تختلف كثيرا عن هذا النوع من البحث، حيث يمكن للباحث أن تجتمع لديه خيوط كثيرة تؤدي إلى حقيقة واحدة مهما كانت حريصة على التخفي. والعلم التجريبي نفسه يُسلّم بوجود الإلكترونات ومكونات الذرة الأخرى بالرغم من الاعتراف باستحالة رؤيتها لأنها أصغر حجما من الموجات المرئية، إلا أن آثارها في الواقع تدفعنا للاعتراف بوجودها.

وعليه؛ فإن الآثار التي تتركها بصمات الجمعيات السرية في الدين والفكر والسياسة والإعلام ومسار التاريخ وميادين كثيرة قد تدفعنا للجزم بحقائق ينكرها أتباع تلك الجمعيات.

أما من يؤمن بالوحي القرآني ويعلم أنه منزل من عند الله فسيجد أدلة أخرى تمنحه اليقين ببعض حقائق تلك الجمعيات السرية وأدوارها الخفية.

لماذا اللجوء إلى السرية؟
تتعدد التفسيرات والنظريات التي تحاول فهم طبيعة هذه الجمعيات وسبب لجوئها إلى السرية، وربما يمكننا إجمالها فيما يلي:

مردوخ

1- يزعم كثير من المؤرخين أن هناك فئة من الناس لجأت إلى السرية عبر التاريخ هربا من اضطهاد الأكثرية، وأنها أخفت طقوسها الدينية الخاصة بها لتحظى ببعض الخصوصية دون أن يكون هناك أي بعد تآمري للإضرار بالمجتمع. ومن الأمثلة التي يقدمونها لهذه الرواية لوح طيني اكتشف في بابل بالعراق ويزيد عمره عن أربعة آلاف سنة، وهو يتحدث عن عبادة سرية متفرعة عن العبادة الرسمية للإله مردوخ، حيث يقدم قصة أخرى لصراع الآلهة، ثم يصف طقوسا خاصة لأتباع هذه الجماعة السرية لتمثيل أدوار المسرحية التي تقام في عيد رأس السنة وتُجسد فيها صراعات الآلهة، ويختتم النص المنقوش بعبارة “إن المعاني الخفية لهذه الأفعال لا يجوز أن تقرأ من قبل الذين لم يدخلوا في هذه العبادة رسميا ووفق الطقوس المنصوصة”.

ويبدو أن تفسير هذا النص يختلف بسبب اختلاف المنهج نفسه كما أوضحنا في مقال “البحث في الدين“، فالمنهج الإلحادي الذي لا يعترف بوجود الغيبيات لن يجد في هذه الطقوس سوى تصرفات خرافية، أما من يؤمن بالوحي وبحقيقة وجود الجن والشياطين فسيرجّح ارتباط هذه الطقوس بالسحر.

وينبغي التذكير بأن بعض الطقوس والنصوص السرية قد تكون هي أصلا لب الدين نفسه، وليست مذهبا باطنيا منشقا عنه، أي أن بعض الأديان قائمة بذاتها على جوهر سري خفي، وأن كهنتها يظهرون لأتباعهم ما يريدون إظهاره فقط.

2- يزعم فريق آخر أن هناك فئة من الحكماء كانت تحتكر الحكمة الصحيحة التي لا يقدر العوام على فهمها منذ آلاف السنين، فاضطرت تلك النخبة لإخفاء وترميز علومها لحمايتها من التشويه والتحريف ومن الوقوع في أيدي الأشرار. ونجد تحت هذا الزعم عددا كبيرا من النظريات المتداولة عبر شبكة الإنترنت، ومنها مثلا أن النخبة كانت تحتفظ في حضارتي أطلنطس وراما الأسطوريتين بأسرار تكنولوجية أكثر تطورا مما نشهده اليوم، وكانت تستخدمها للتغلب على الجاذبية والسفر عبر الكواكب ورفع الحجارة العملاقة لبناء الصروح الهائلة مثل الأهرام وتشغيل الآلات بنوع خاص من الطاقة، ويقال إن هذه النخبة رمّزت علومها وأسرارها في طريقة بناء الهياكل والصروح التي بقيت قائمة حتى اليوم في مصر والهند وأمريكا الجنوبية والعراق، كي يتمكن أحفادهم بعد آلاف السنين من استخراج تلك العلوم والاستفادة منها، لا سيما وأن القدماء خافوا عليها من الاندثار بفعل الطوفان الذي حدث في عصر نوح وغيره من الكوارث.

ويجتهد أصحاب هذه النظريات في استخراج الرموز العميقة من تماثيل أبو الهول وإيزيس والمعابد العملاقة ومقارنتها بمعايير هندسية مثل النسبة الذهبية وبغيرها من الحقائق الفلكية والفيزيائية، كما يربطون بعض الاكتشافات المذهلة التي توصل إليها القدماء بكائنات فضائية يفترضون أنها هبطت إلى الأرض وأنها هي ذاتها كائنات الأنوناكي التي ذُكرت في الأساطير العراقية. ويذهب البعض إلى افتراض أنها كائنات من الزواحف نصف البشرية التي ما زالت تعيش على الأرض وتدير العالم في الخفاء، بينما لا يقدم أصحاب هذه النظريات أية أدلة علمية تربط “المشاهدات” المزعومة والروايات ببعضها.

مانلي هول

ويجدر بالذكر أن كبار المؤلفين المنتسبين إلى الماسونية وغيرها من الجمعيات السرية بدأوا بطرح هذه النظرية في وسائل الإعلام والأوساط الثقافية منذ بدايات القرن العشرين، وهو طرح يتزايد بثه باستمرار مع تزايد الانفتاح في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات الحالية، حيث بات من الصعب إخفاء أسرار تلك الجمعيات ومخططاتها، ولا سيما بعد نشر عدة كتب رصينة ألفها منشقون عن الجمعيات أو صحفيون تسللوا إلى محافلها وفضحوا ما يجري فيها، فلم تعد ملاحقة هؤلاء وقتلهم سياسة مجدية كما كانت في الماضي، فبدأت تلك الجمعيات بفتح أبواب محافلها أمام كاميرات الصحفيين لتصوير بعض طقوسها، مع الاعتراف بأن التصوير لا يطال كل ما يجري هناك وأن السرية ما زالت قائمة جزئيا، كما نشط منتسبوها في نشر الكتب والأفلام الوثائقية والسينمائية التي تزعم أن الماسونية وأمثالها لم تعد سرية كما كانت، وطرحوا فيها ما يزعمون أنه حقيقة تلك الأسرار التي احتفظوا بها آلاف السنين. ويعد الماسوني من الدرجة الثالثة والثلاثين مانلي هول من أوائل المؤلفين في هذا الباب عندما نشر كتابه “التعاليم السرية لكافة العصور” عام 1928، حيث زعم فيه أنه كشف كل ما كان يخفى عن الناس من “الحكمة” المتوارثة منذ عصور سحيقة، وهو كتاب مليء بالمغالطات التي لا تستند إلى دليل، وفيه الكثير أيضا من المزاعم التي لا يمكن لأحد إثباتها، فضلا عما فيه من إخفاء وتضليل لحقيقة الماسونية.

سلسلة أفلام “كنز وطني” من إنتاج شركة ديزني تعد من أهم محاولات هوليود الأخيرة لتلميع صورة الماسونية

ومن مظاهر هذه الحملة أيضا تحويل الجمعيات السرية إلى مادة للترفيه في أفلام هوليود، بحيث تُنزع عنها تهمة التآمر والخبث تحت وقع الكوميديا السوداء، بحيث يصبح أي ربط بين عوالم السر وبين التآمر مجرد خضوع “للفكر التآمري” وانعكاس لعقدة البارانويا ضد عدو وهمي.

ولكي تثمر هذه الحملة، كان لا بد من ضخ تلك الكتب والأفلام بأعداد لا تحصى، ففي كل عام تصدر عن دور النشر عشرات الكتب التي تزعم كشف المزيد من الأسرار والخفايا عن تلك الجمعيات، فضلا عن خلط الحق بالباطل، ما أدى في النهاية إلى نفور الكثيرين من الاطلاع على تلك المعلومات واعتبارها مجرد لغو لا يثمر أي نتيجة مفيدة.

3- ومن أسباب العمل السري أيضا اضطرار الحركات المقاومة للمحتل أو المعارضة للحكم إلى التخفي لحمايتها من القمع، فالهدف في هذه الحالة سياسي لا ديني، ومن الأمثلة المشهورة في العصر الحديث لهذه الحركات الجمعيات القومية الكاثوليكية الأيرلندية التي نشأت في القرن الثامن عشر لمقاومة حكم الأقلية البروتستانتية، كما نشأت على شاكلتها جميعات إيطالية قومية في أوائل القرن التاسع عشر لمقاومة السيطرة الأسبانية والنمساوية التي دامت نحو 250 سنة، لكن الجمعيات الإيطالية سرعان ما اندمجت بجميعات الكاربوناري وصارت جزءا من الماسونية، فلم تعد مجرد حركات ثورية لمقاومة المحتل بل تم تحريكها لأهداف الماسونية العالمية نفسها.

4- يرى فريق آخر أن ظهور الجمعيات السرية يعود أصلا إلى أسباب نفسية واجتماعية فقط، فالإنسان يسعى إلى التمرد على الطبيعة بالبحث في عالم المجهول السحري، وينجذب تلقائيا إلى التنجيم والباراسيكولوجي والتصوف، وقد يجد في رموز وطقوس الجمعيات الغامضة ما يشبع نهمه هذا.

ويقول أرسطو إن مغزى ممارسة الطقوس السرية لا يكمن في تعلم شيء ما فقط بل في مكابدة تجربة التغيير، ويعلق المؤلف نورمان ماكنزي في كتاب “الجمعيات السرية” عليه بالقول إن التغيير ليس مجرد رقي روحي ونشوة بل يُفهم على أنه بعث جديد، حيث يتم تجسيده في مسرحيات شعائرية يلعب فيها العضو الجديد دور المشارك والمشاهد، وهكذا يشعر العضو بأن السرية تمنحه طريقة تجعله استثنائيا ومختلفا عن عوام الناس، وأن لديه من الذكاء والحكمة ما يجعله في طبقة الصفوة. وهذا التفسير قد يصح فيما يتعلق بدوافع الأعضاء في الانتساب لتلك الجمعيات، ولكنه لا يبرر ظهور تلك الجمعيات أصلا، فقد يكون العضو المبتدئ مغررا به فعلا لكن القادة ليسوا كذلك بالضرورة.

ويرى هذا الفريق أن الذين يفشلون في التعامل مع العصر الحديث، بما فيه من مظاهر الاغتراب والقلق نتيجة الصراعات السياسية والتطور المتسارع، يلجؤون إلى اتهام الجمعيات السرية بوضع المؤامرات وتنفيذها.

ويتماشى هذا التفسير مع المنهج الإلحادي لدراسة الأديان [انظر مقال البحث في الدين]، فهو ينطلق من مبدأ استبعاد الجانب الروحي الغيبي من البحث، ويحاول إعادة كل ما يراه في نشاط الجمعيات السرية أو في ما ينسب إليها من مؤامرات إلى عوامل طبيعية واجتماعية لاإرادية، وكأن تلك الجمعيات مفعول بها وليست فاعلا لأي شيء يذكر. ونجد لهذه الفكرة أساسا لدى منظري الماركسية والرأسمالية على حد سواء، فهناك قانون حتمي لصراع الطبقات لدى الماركسيين، وقانون مماثل لدى النيوليبراليين يؤدي إلى صراع الحضارات، وهناك أيضا “يد خفية” تحرك المجتمع والاقتصاد نحو نهاية محتومة حسب الرؤية الرأسمالية الكلاسيكية، وليس للإنسان -فضلا عن الجمعيات السرية- دور في تغيير هذا الحراك أو تحريك مساره، حسب رأيهم.

عبد الوهاب المسيري
(موقع المسيري)

وهذا التفسير هو السائد اليوم في الساحة الثقافية الغربية، وهو الذي يتلقى الدعم إعلاميا وأكاديميا حول العالم، وصار له أتباع كثر في العالم الإسلامي خلال العقود الأخيرة، ويُعد المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري أحد أبرز منظريه، فهو ينفي عن الحركات السرية أي بعد ديني تآمري، ويكاد ينفي أي تأثير لها على أرض الواقع، بل يرى أنها نتيجة طبيعية للحراك الاجتماعي والسياسي، ويتجاوز دراسة الجانب الخفي لهذه الجمعيات إلى دراسة “الفكر التآمري” لدى من يقرون بوجود مؤامرة حقيقية في مشروع تلك الجمعيات، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون وهما في خيال الناس، كما هو حال الدين نفسه الذي يعتبره الملحدون واللادينيون مجرد وهم وليس له أي وجود موضوعي، وقد ظل المسيري متمسكا بقناعته بعد انتقاله من الماركسية إلى الإسلام، وتابعه في ذلك كثير من الإسلاميين الذين باتوا يبثون هذه الأفكار بقوة في الساحة الثقافية، وفي غلاف إسلامي أحيانا. [انظر كتاب اليد الخفية].

5- أخيرا، هناك فريق لا ينكر وجود الفكر التآمري، ويقر بأن المبالغة في ربط الأحداث بالجمعيات السرية ليس صائبا في كل مرة، كما يرى أن العديد من الجمعيات وُجدت لمقاومة العدو أو المحتل، أو لأهداف إنسانية أو بدوافع نفسية واجتماعية. لكن هذا كله لا يغطي الجمعيات السرية كلها، بل جانبا منها فقط.

ويستتند هذا الرأي إلى اعترافات كثير من المنشقين عن المحافل السرية، وتسريبات المتسللين إلى داخلها، مع ربط الحوادث التاريخية بما وضعه مؤرخون وشهود عيان على مجريات الأحداث، ولا سيما في القرون الثلاثة الأخيرة. كما يجد هذا الرأي ما يدعمه في نصوص الوحي القرآني، وهو ما يعطيه درجة اليقين ويغنيه عن الاكتفاء بالجدل الفلسفي لمن يؤمن بالوحي.

وتتفرع عن هذا الرأي نظريات تحتمل النظر والنقد كغيرها، لكن إطارها العام يربط غالبا النزوع إلى السرية مع المبادئ المعلنة الخارجة عن تعاليم الوحي بعالم السحر، فالسحرة كانوا طوال التاريخ أكثر الناس انطواءً وبعدا عن المجتمع، ولا يخفى ارتباط أنشطتهم بالأذى والشر والتآمر. ولا ينكر منظرو فك الرموز السرية المعاصرون الجانب السحري في علومهم، بالرغم من التلاعب في تقديم التفسيرات والمبررات.

وقد أوضحنا في مقالات “الإنسان والدين” و”الوثنية” و”الباطنية” تفرع التاريخ الإنساني إلى مسارات موازية لمسار الوحي. وبالعودة إلى إحدى روايات التأويل فقد بدأ السحر في وقت مبكر من عمر البشرية، وذلك في عصر النبي إدريس، وتزامن مع الجنوح عن سبيل الوحي كما يقول الحديث القدسي الذي رواه مسلم “وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم”، وسنجد في هذا المقال وفي مقالات “القبالاه” و”فرسان الهيكل” و”الماسونية” مزيدا من التفاصيل عن هذا الارتباط.

تاريخ الجمعيات السرية
يقول المؤرخ الماسوني الراحل جرجي زيدان (1861- 1914) في بداية كتابه “تاريخ الماسونية العام” إن هناك أقوالا كثيرة بخصوص نشأة جمعية الماسونية المعاصرة، فبالرغم من إقرار أتباعها بأنها خرجت في القرن الثامن عشر من عباءة جمعية الصليب الوردي التي تأسست سنة ١٦١٦، إلا أن الجذور تعود إلى ما هو أقدم بكثير، فهناك من يعود بتاريخها إلى الحروب الصليبية، وآخرون تتبعوها إلى القرن الثامن قبل الميلاد في اليونان، وآخرون قالوا إنها نشأت في هيكل سليمان، وفئة قالت إن منشأها يعود إلى بدايات الكهانة المصرية والهندية، وهكذا إلى أن زعم البعض أن مؤسسها هو آدم نفسه، وأن الخالق هو الذي أسَّسها في جنة عدن، وأن الجنة كانت أول محفل ماسوني، ويعلق زيدان على ذلك بقوله إنها أقوال مبنية على الوهم.

جرجي زيدان

كان زيدان يعمل في مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة، وقد رافق القوات الإنجليزية التي حاولت قمع ثورة المهدي في السودان، فهو عضو أصيل في الحملة الدعائية للماسونية التي بدأت في أواخر القرن الماضي بمحاولة إقناع الناس بأن الحركات السرية قد تخلت عن سريتها المريبة وكشفت تاريخها وحقائقها للناس. لذا لا يمكننا الوثوق بمحاولة نفيه للعلاقة بين الماسونية والحركات السرية القديمة التي أرّخ لها في كتابه.

يصف زيدان في كتابه طقوس قبول المنتسب إلى “جمعية إيزيس السرية” في مصر القديمة، حيث يتحقق الكهنة من أهليته للالتحاق بهم وحفظ أسرارهم، ثم “يسومونه عند القَبول مشقات عظيمة تختلف بين تخويف وتهديد”، فإذا اجتازها بدأت مراسم الاستقبال، فيحقق معه كاهن يحمل اسم الإله أوزيريس، وبعد الانتهاء منه ينتقل العضو الجديد إلى قائد متنكر على رأسه غطاء كرأس الكلب، فيذهب به في دهاليز مظلمة إلى مجرى مائي، فيسقيه كأسا من “ماء النسيان” لينسلخ عن كل ماضيه ويبدأ حياته عضوا في الجمعية من جديد. وبعد انتهاء المزيد من الفعاليات الاحتفالية يبدأ تلقينه “الأسرار المقدسة”.

ويقول زيدان إن أول من نقل أسرار الجمعيات السرية إلى أوروبا هو أورفيوس الذي كان عضوا في الجمعية الإيزيسية بمصر، ثم عاد إلى بلاده في منطقة تراسيا (بلغاريا ورومانيا بأوروبا الشرقية حاليا) في القرن الرابع عشر قبل الميلاد ونشر تعاليمها هناك. وبعد وفاته أسس تلاميذه “مجمع إلوسينيا” في إلوسيس باليونان، وابتكروا لأنفسهم طرقا جديدة في مراسم قبول الأعضاء بما فيها من أساليب غسل الأدمغة بالترهيب والتهديد، حيث يُمرر العضو الجديد على مواقع مليئة بالوحوش والأفاعي وحمم النيران والأصوات المخيفة بمراحل مدروسة، ويُزرع في عقله أن هذا هو الجحيم أو صورة عنه، ثم يُنقل إلى موقع يملؤه النور والأمان ليستقبله الكاهن ويلقنه الأسرار في أجواء احتفالية، وكأنه بلغ بذلك الجنة.

ويُطلب من العضو الجديد قبل خوض التجربة المرعبة أن يغتسل أولا بالماء والدم، وأن يقدِّم ثورا أو كبشا كأضحية، فإذا نجح في قبول عقيدتهم تم تعميده بالماء كما يُعمد المسيحيون اليوم في الكنائس، ومنحوه اسما جديدا سريا يُعرف به في مجتمعه الصغير بعيدا عن حياته الطبيعية، وهذه الطقوس تدل بوضوح على الخلفية الشيطانية لهذه الجمعية، فهي لا تختلف كثيرا عما يمارس في طقوس عبادة الشيطان المعلنة في عصرنا الحديث، وهو أمر لا يذكره زيدان.

ويقول زيدان إن تعاليم هذا المجمع انتشرت في سائر المدن القديمة مثل فينيقية (لبنان) والهند ومصر وسوريا واليونان وغيرها، حتى قيل إنها أصلٌ لجميع تعاليم المجامع السرية القديمة في العالم، مؤكدا أن حيرام ملك صور كان أحد كبار الكهنة فيها.

ويضيف زيدان أن هذه التعاليم انتشرت أيضا في المجتمع اليهودي عندما بُعث المسيح بينهم في فلسطين، فكان أتباعها يُعرفون باسم طائفة الأسينيين، إذ نجد في رؤيا يوحنا بالإصحاح الثاني (عدد ١٧) من الكتاب المقدس قوله “فَلْيسمع ما يقوله الروح للكنائس. من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن الخفي، وأهبه حصاة بيضاء منقوشا عليها اسم جديد لا يعرفه أحد غير الذي يأخذه”، في دلالة إلى مراسم قبول العضو في مجمع الإلوسينيا حيث يُكتب اسمه السري على قطعة حجر يحتفظ بها حتى موته، وكأن مفاهيم الجمعيات السرية تسربت أيضا إلى الكتب السماوية التي تم تحريفها لاحقا.

ويُسهب زيدان في إظهار أتباع هذه الطائفة بمظهر المتقشفين المنقطعين عن الدنيا وملذاتها، وكأنهم مجموعة من الناسكين الزاهدين المنقطعين لاكتشاف المعرفة، فضلا عما يتمتعون به -حسب زعمه- من أخلاق راقية وتضحيات عظيمة فيما بينهم.

وما زالت طقوس العبادة الإلوسيسية السرية ماثلة حتى يومنا هذا بوضوح على جدران “فيلا الأسرار” Pompeii Villa of Mysteries في مدينة بومبي الإيطالية، حيث طمرت تحت الرماد منذ ثوران البركان المفاجئ قبل الميلاد بنحو ثمانين عاما لتبقى محفوظة حتى تُكتشف في عصرنا الحديث، إذ يبدو أن العبادة السرية لإله الخمر والنشوة “ديونيسوس” كانت مسيطرة على المنطقة، لا سيما وأن اقتصاد بومبي كان قائما على الدعارة، حيث تقدم لنا آثارها المحفوظة بدقة تثير الدهشة صورة واضحة عن تغلغل الجنس في حياة الناس إلى أقصى درجة.

فيلا الأسرار التي طمرها الرماد لأكثر من ألفي سنة، وهي تبدو اليوم في حالة جيدة بل تفاجؤنا أيضا بطرازها المعماري الذي لا يختلف كثيرا عن العمارة الحديثة، بل مازالت جدران الفيلا تشرح بالرسوم الملونة طقوس انضمام امرأة إلى عبادة ديونيسوس السرية (ElfQrin)
منحوتة “تحوت” عند مدخل مكتبة الكونغرس بواشنطن

الهرمسية
تحدثنا بإيجاز في مقال “الباطنية” عن النظريات التي تحاول كشف حقيقة شخصية هرمس وما ينسب إليها من مؤلفات وعلوم، وهي شخصية بالغ الباحثون في تعظيمها حتى قال فرانسيس باريت في كتابه “سيرة تاريخية قديمة”: “إذا كان الإله قد تجسّد فعليا في هيئة إنسان، فلم يكن ذلك سوى بشخص هرمس”، وقلنا إنه من الراجح أن تكون تلك الشخصية صورة محرفة عن شخصية النبي إدريس عليه السلام، بعد أن نُسبت إليه تراكمات من العلوم والخرافات والفلسفات الوثنية والسحرية.

أفرد الماسوني مانلي هول في كتابه “التعاليم السرية لكافة العصور” فصلا لتعاليم هرمس التي تحتل مكانة مهمة لدى الماسون، وقال إن البعض يعتبر أن هرمس هو ذاته الإله الإغريقي هرمز Hermes، وأنه هو نفسه الإله المصري تحوت Thoth أو توتي Tuti، الذي كان إله القمر أيضا، حيث رُسم على هيئة رأس طائر أبو منجل مع قرص وهلال القمر، وبما أنه دين باطني غنوصي سري، فقد أطلق عليه الكهنة -في الصيغة المعلنة للناس- إله الحكمة والأبجدية والزمن، بينما كان له وجه آخر في المعابد السرية والطقوس الخفية.

عصا هرمس

وبحسب كتاب مانلي هول، احتوى “كتاب تحوت” المقدس على الإجراءات السرية التي يمكن من خلالها “إعادة إصلاح البشرية”، وهو كتاب يصعب فك رموزه الهيروغليفية الغريبة, إلا أنه يمنح مستخدميه القادرين على فهمه “قوة غير محدودة على الأرواح العلوية والسفلية”، حيث يمكنهم تضخيم وعيهم البشري ورؤية الكائنات الخالدة  Immortals والدخول إلى حضرة الآلهة الأسمى، وبما أن هول ماسوني من الدرجة الثالثة والثلاثين؛ فهو لا يعترف لعامة القراء بأن هذه الطقوس ليست سوى أعمال سحرية لاستحضار الشياطين.

أحد مؤلفات الشيطاني المعروف أليستر كراولي عن أسرار تحوت

ويضيف هول أن هناك أسطورة تقول إن “كتاب تحوت” كان في صندوق ذهبي في الحرم الداخلي للمعبد، ولا يمكن لأحد الوصول إليه سوى الأستاذ الأعظم، ويقول أيضا إن ذلك المعبد قد أزيل وتشتت أعضاؤه، إلا أن كتابهم هذا مازال محفوظا حتى اليوم، ويكتفي بالقول “لا يمكن تقديم أي معلومة إضافية للعالم حاليا، ولكن يجب الانتباه إلى أن الخلافة الرسولية المتسلسلة من عهد الأستاذ الأعظم الذي انتسب على يد هرمس شخصيا مازالت مستمرة حتى اليوم، ويمكن للأشخاص المميزين والملائمين لخدمة الخالدين [أي الشياطين] أن يجدوا هذا المخطوط النفيس الذي لا يقدر بثمن إذا اجتهدوا في البحث عنه بإخلاص”.

قارة أطلانطس
ينسب مؤرخو الجمعيات السرية أصول الكثير من “الحكمة” السرية إلى قارة أطلانطس المفقودة، وهي جزيرة هائلة الحجم ورد ذكرها في كتاب “محاورة تيماوس” للفليسلوف اليوناني أفلاطون، حيث زعم أن الفيلسوف سولون الذي مات قبله بنحو 150 عاما، أي في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، سمع قصة القارة المندثرة من كهنة مصر ثم نقلها إلى اليونان شفهيا، وكان أفلاطون أول من وثقها لتبقى محفوظة إلى عصرنا الحالي.

أفلاطون

وبحسب هذه الرواية، فإن أطلانطس كانت جزيرة بحجم شمال أفريقيا وآسيا الصغرى، وتقع خلف “أعمدة هرقل” أي مضيق جبل طارق، فهي تحتل مكانا كبيرا من المحيط الأطلسي، وكانت قد اندثرت قبل الميلاد بنحو 9500 سنة، حيث كانت أشبه بالجنة على الأرض، ففيها من الحضارة والخيرات ما يحلم به كل إنسان، ثم بدأ ملوكها بالطمع في احتلال بلاد أخرى، فاحتلوا شمال أفريقيا، ثم هاجموا مصر وأثينا (اليونان)، وكانت نهاية تلك الحضارة بسلسلة من الزلازل والفيضانات التي أغرقت القارة كلها في البحر. [حضارات مفقودة، ص 17- 20].

ومما يهمنا من هذه الأسطورة أنه كان يحكم أطلانطس عشرة ملوك، وهم يمثلون مثلث “تيتراكتيس” الذي ترسم فيه عشر نقاط، وهو المثلث الذي قدّسه فيثاغورس بعد اقتباسه من مدرسة القبّالاه السحرية كما سيمر بنا لاحقا. وتضيف الأسطورة أنه كان في وسط أطلانطس معبد ديانة الحكمة هرمي الشكل، الذي يقع على هضبة مرتفعة في وسط مدينة البوابات الذهبية، ويقول أتباع الجمعيات السرية إنه أصل المعابد والهياكل والمحافل التي انتشرت لاحقا في قارات العالم من أمريكا الجنوبية مرورا بمصر إلى الهند.

ومن اللافت أن أفلاطون لم يوضح ما إذا كانت القصة خيالية أم حقيقة، كما أنه أسهب في رواية تفاصيلها دون ذكر مغزاها، وذلك على غير المعتاد في محاوراته الفلسفية، ما دفع البعض للاعتقاد بأنه كان يتحدث عن قصة حقيقية وليس من أجل ضرب الأمثلة الفلسفية. وسواء كانت قصة حقيقية أم خرافة، فقد وجد أتباع الجماعات السرية في القارة المندثرة فرصة لإلصاق جميع علومهم وأسرارهم وأكاذيبهم بأصل حضاري عريق، ما ينفي عنهم تهم الاتصال بالشياطين والاقتباس منهم.

لكن قصة أفلاطون تواجه تحديات كثيرة، فالمفترض أن سكان أطلانطس أنشأوا حضارة في غاية التقدم قبل 11500 سنة من يومنا هذا، مع أن أقدم الآثار المحفوظة لنشوء الحضارة لا يمتد إلى ما هو أبعد من حضارات العراق التي بدأت قبل نحو خمسة آلاف سنة، وبما أن جميع التنقيبات والأبحاث الجيولوجية لم تسفر عن أي أثر لها، فهناك من افترض أن أفلاطون كان يتحدث عن جزيرة كريت اليونانية وليس عن موقع في المحيط الأطلسي، كما قدم باحثون معاصرون عشرات التأويلات المختلفة لموقع أطلانطس المحتمل. ولا ننسى أن المؤرخين اعتقدوا طوال قرون أن طروادة لم تكن سوى مملكة خيالية وردت في أشعار هوميروس، إلى أن اكتشفت آثارها فعلا في شمال غرب تركيا عام 1871، وكذلك الحال مع الحضارة المينوية التي كان يعتقد أنها أسطورية حتى وجدت آثارها في كريت.

فرنسيس بيكون

في عام 1626، وضع الفيلسوف الإنجليزي المعروف فرانسيس بيكون كتابه “أطلانطس الجديدة”، وكان من أواخر مؤلفاته التي جعلت منه مؤسسا للعلم الحديث في الغرب، وفي العالم كله بحكم التبعية. وما يتداوله العالم بعد نحو أربعمئة سنة أن الكتاب كان يتضمن نبوءة فلسفية بريئة للعالم الحديث القائم على العلم، لكن بيكون كان في رأي بعض المؤرخين الأستاذ الأعظم للماسونية في عصره، ولم يكن هذا الكتاب سوى البيان الختامي الذي قدّم فيه رؤيته لنموذج الدول التي ستُدار من قبل محافل الجمعيات السرية كما كان الحال في أطلانطس، وذلك تحت مسميات العلم والحضارة. [انظر صفحة Occult theories about Francis Bacon في موسوعة ويكيبيديا]

في عام 1882، طرح الأميركي من أصل إيرلندي إغناطيوس دونيلي كتابه “أطلانطس: العالم العتيق”، وقدم فيه أدلة كثيرة تدعم نظريته في صحة وجود أطلانطس، وزعم أن عددا قليلا من سكانها استطاعوا النجاة بالسفن ونقلوا أسرار تلك الحضارة المتقدمة إلى العالم. وقد أطلق دونيلي بذلك موضة الاهتمام العالمي بهذه الأسطورة، وربما كان أول من نقلها من عالم الخيال إلى الأوساط الجادة لتداعب أحلام الكثيرين، كما تأثر بالكتاب العديد من السياسيين، حتى تحمس رئيس وزراء بريطانيا ويليام غلادستون لجمع المال وتمويل حملة استكشافية للعثور على مكان أطلانطس. وما زال الكثيرون يبجلون دونيلي حتى اليوم على اعتبار أنه كان باحثا مجتهدا ومخلصا لنظريته، ولكن معظمهم لا يعرفون أنه كان ماسونيا عتيدا، وأنه كان يمهد كما يبدو لإقناع عامة الناس بأن أطلانطس هي أصل حضارات العالم كله، وأن المنظمات السرية الموجودة اليوم هي الوريث الوحيد لأسرار الحضارة.

وفي عام 1924 بدأ الباحث الأسكتلندي لويس سبينس بنشر سلسلة كتب عن أطلانطس، حيث يرى البعض أن كتاباته كانت أفضل ما كتب علميا بشأن أطلانطس، وعلى أساسها افترض الكثيرون أن جزر أزور البرتغالية هي من بقايا القارة المفقودة، وما يزال حتى اليوم مئات الناشطين والمهتمين يتناقلون عبر الإنترنت نظريات تتحدث عن اكتشاف أهرام ضخمة في عمق المحيط،  لا سيما قرب أزور وفي مثلث برمودا، ويقولون إن الحكومات الغربية تتعمد إخفاء هذه الحقيقة لتحتكر لنفسها أسرار أطلانطس التي لا يعرفها سوى كبار أعضاء الجمعيات السرية، وهي ادعاءات غير مؤكدة ولا يمكن التحقق منها.

ويجدر بالذكر أن عددا من الباحثين في خفايا الجمعيات السرية يؤكدون أن نخبة جمعية “المتنورين” (الإلوميناتي)، وهي جمعية منبثقة عن الماسونية، يعتقدون أنهم أسلاف ملوك وكهنة أطلانطس، أي أنهم من نتاج تزاوج الآلهة مع البشر، ويُعتقد أن فيلم “أطلانطس: الإمبراطورية المفقودة” الذي أنتجته شركة والت ديزني عام 2001 كان يتضمن هذه الفكرة رمزيا، لا سيما وأن ديزني نفسه (توفي عام 1966) كان على الأرجح ماسونيا من الدرجة الثالثة والثلاثين، ولا يزال في داخل مدينته الترفيهية بولاية فلوريدا “ديزني لاند” نادٍ مغلق يحمل اسم “33”، ولا يُسمح بالانضمام إليه إلا للنخبة وبعد دراسة طلب الانضمام التي قد تستغرق عشر سنوات.

المدرسة الفيثاغورية
ربما لا يوجد أحد في العالم لم يسمع باسم العالم اليوناني فيثاغورس، فنظرياته الرياضية والهندسية تُلقن لطلاب المرحلة الابتدائية حول العالم، ولا يكاد معظم الناس يعرفون عنه شيئا أكثر من ذلك، وقد يفاجأ القارئ عندما يعلم أن فيثاغورس الذي ولد قبل الميلاد بنحو ستمئة سنة كان من أهم أقطاب الجمعيات السرية في التاريخ.

اشتهر فيثاغورس بنظرية حملت اسمه في الهندسة، لكن الوثائق التاريخية تشير إلى استخدام مثلثات قائمة بأضلاع أطوالها أعداد صحيحة في بابل قبل فيثاغورس بأكثر من ألف سنة، كما استخدم المصريون القدماء النظرية قبله أثناء عمليات البناء وتقسيم الأراضي.

ويجدر بالذكر أن بعض العلماء المعاصرين يؤكدون أنهم اكتشفوا ثغرات وأخطاء في النظرية المنسوبة لفيثاغورس.

تمثال فيثاغورس بمتحف الفاتيكان

يحظى فيثاغورس اليوم بمكانة عظيمة في مؤلفات الماسون، كما في كتاب مانلي هول، حيث نجد فيه تأريخا لحياته ابتداءً بقصة ولادته التي زعم أنها جاءت بنبوءة عندما قالت كاهنة معبد أبولو لوالديه إنهما سيرزقان بطفل، وإنه سيكون أعظم الرجال جمالا وحكمة، وسيساهم كثيرا في نفع البشرية. كما ينقل عن جودفري هيغينز ما سماه بأوجه التشابهة بين ولادة وحياة فيثاغورس وتاريخ حياة يسوع المسيح، ما دفع البعض لتسمية فيثاغورس بابن الإله أبولو، بل ظن البعض أن الإله حلّ فيه وتجسد.

ويجدر بالذكر هنا أن مؤرخي حياة فيثاغورس قد وضعوا الأساطير عن حياته وشخصية بعد ولادة المسيح بمدة ليست بالقصيرة مع أن فيثاغورس مات قبل ذلك بنحو خمسة قرون، فالذين كتبوا قصة فيثاغورس هم الذين اقتبسوا النبوءة من قصة المسيح، والذين حرّفوا دين المسيح عيسى بن مريم اقتبسوا في المقابل من الفيثاغورية أسطورة الحلولية والتجسد.

يقول المؤرخ والفيلسوف برتراند رَسل في كتابه “تاريخ الفلسفة الغربية” عن فيثاغورس إنه كان من أهم من شهدت الدنيا من رجال من الناحية العقلية، ويضيف “لست أعلم عن رجل آخر كان له من التأثير في نطاق الفكر ما كان لفيثاغورس، وأقول ذلك لأن ما قد يبدو لك أفلاطونيا، ستجده عند التحليل فيثاغوريا في جوهره… ولولاه لما فكر المسيحيون في المسيح على أنه الكلمة”.

ويتضح الأثر الذي تركه فيثاغورس عندما نعلم أن أفلاطون كان معجبا للغاية بأفكاره، ويقال إنه دفع مبلغا كبيرا مقابل الحصول على مخطوطات فيثاغورس التي نجت من التلف، حتى قال أرسطو (تلميذ أفلاطون) إن جمهورية أفلاطون المثالية (اليوتوبيا) لم تكن سوى ترجمة لأفكار فيثاغورس.

يقول المؤرخ الإغريقي ديوجينس ليرتيوس إن فيثاغورس كان يزعم أمام طلابه وأتباعه أن روحه تناسخت خمس مرات، وأنه يتذكر جيدا الحيوات التي عاشها قبل أن يلتقي بهم، ففي الحياة الأولى كان أثاليدس ابن إله الحرب، وفي الثانية كان يوفوربس أحد أبطال حرب طروادة، وفي الثالثة كان هيرموتيموس رسول آلهة الأولمب، ويبدو أنه تواضع في ما قبل الأخيرة فجعل نفسه صيادا عاديا، ثم تجسد على هيئة المعلم فيثاغورس.

ومن الطريف أن نجد هذه المزاعم لدى معلمين آخرين في الجمعيات السرية على مر العصور، ومنهم اليهودي الإيطالي كاجيلوسترو الذي ابتكر طقس ممفيس المصري لصالح المحافل الماسونية وكان له دور في إشعال الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، حيث كان يزعم أن روحه تناسخت عدة مرات، وأنه كان في إحداها صديقا ليسوع المسيح نفسه، وأن حياته الأخيرة امتدت أكثر من ثلاثمئة سنة.

ووفقا للماسوني هول، اكتسب فيثاغورس القدر المستطاع من المعرفة التي كانت متوفرة في اليونان، وانتسب لجمعية الإلوسيسية السرية التي تحدثنا عنها، ثم بدأ رحلاته لاكتساب المزيد من الأسرار، فتتلمذ على يد حاخامات اليهود القبّاليين، ثم سافر إلى مصر، وبعد محاولات عدة سُمح له بالانتساب إلى جمعية إيزيس السرية بمدينة طيبة، ثم توجه إلى سورية وبلاد الفينيقيين (لبنان) وانضم إلى جمعية أدونيس وتلقى أسرارها، وعبر بعد ذلك وادي الفرات ليتعلم أسرار الكلدانيين والبابليين.

ولم يكتف بذلك، فرحل إلى بلاد فارس والهند، حيث بقي هناك عدة سنوات للاطلاع على أسرار البراهمة والمجوس، وبعد نحو ثلاثين سنة من الترحال والتعلم عاد إلى أوروبا وأنشأ مدرسة في مدينة كروتونا (جنوب إيطاليا) التي كانت تحت حكم الإغريق، وأعلن عن فتح الباب لتعليم الرياضيات والهندسة والفلسفة، بينما كانت مدرسته في الباطن بمثابة الجمعية التي تتلخص فيها كل أسرار وطلاسم وطقوس الجمعيات السرية.

وضع فيثاغورس أصول تشكيل الجمعيات السرية التي ما زالت متبعة حتى اليوم، لذا يدين له أتباع الماسونية والصليب الوردي بالفضل، حيث قسّم منتسبي جمعيته إلى ثلاث درجات، بحيث لا يعلم أعضاء كل درجة شيئا عن التي تليها، فلكل منها طقوس وأسرار لا يعلم بها زملاؤهم الآخرون.

يقول مانلي هول إن فيثاغورس كان يتمتع بقدرات خارقة، فذكر أنه كان يزعم قدرته على التنبؤ بالمستقبل، ورجّح أنه كان قادرا على تنويم الناس والحيوانات، وعلى التغلغل إلى عقول الحيوانات لإقناعها بما يريد، وعلى رؤية الأشياء من مسافة بعيدة.

أما الدرجة الأولى فكانت علنية ومكشوفة، كما هو حال الدرجات الأولى من الماسونية اليوم، والتي تُفتح أبوابها للصحافة ويجاهر أعضاؤها بالانتساب لها ويُعلن أن أنشطتها تقتصر على المجال الخيري الإنساني، وكان طلاب هذه الدرجة يجلسون في أماكن مفتوحة للاستماع إلى محاضرات عامة دون مناقشة، حيث كان فيثاغورس يعلمهم أن الحقيقة في أعماقها رياضية وأن العدد هو أساس كل شيء، فلكل عدد معنى رمزي باطني، وبشكل يتطابق تقريبا مع فلسفة القبالاه اليهودية.

كراولي في زي جماعته “الفجر الذهبي”

وبعد خمس سنوات من الانتظام في تلك الدرجة يختار الأساتذة بعناية من يستحق الترقية إلى الدرجة الثانية، وهناك يفتح لهم باب المناقشة والتلقي ولكن داخل محافل سرية. ثم يتم اختيار الصفوة من هؤلاء للترقية إلى الدرجة الثالثة لتلقي الأسرار الخاصة، حيث يكتشفون آنذاك أن المعرفة لا تتعلق فقط بأسرار الهندسة والأعداد، بل هناك عقيدة كاملة بشأن الوجود والإله والموت وما بعده، وهي العقيدة الشيطانية المطابقة للقبالاه.

وقد أقر كبار مؤسسي الحركات الباطنية القبّالية والجمعيات الشيطانية الحديثة في الغرب باقتباس فيثاغورس من القبالاه، ومنهم الإنجليزي ماك غريغور ميثرز الذي شارك عرّاب الحركات الشيطانية الحديثة أليستر كراولي في تأسيس جمعية الفجر الذهبي، وذلك في كتابه “القبالاه بدون حجاب” The Kabbalah Unveiled.

ويمكن القول إن طقوس الجمعيات المندثرة حول العالم قد تم حفظها على يد فيثاغورس، حيث انتشرت عن طريقه تلك الطقوس في أنحاء أوروبا، فوصلت إلى شمالها حوالي عام 50 قبل الميلاد عندما تمرد الكاهن “سيغ” على الرومان وأخذ يدعو القبائل الهمجية الإسكندنافية إلى اتباعه، وخلط كما يبدو دينهم الوثني الذي يعبد الإله “أودن” بطقوس الجمعيات السرية، ثم أصبح بنفسه المعبود “أودن”.

وبعد بعثة النبي عيسى عليه السلام وسعي زعماء بني إسرائيل لإفشال دعوته ومحاولة صلبه وملاحقة أتباعه [انظر مقال المسيحية]، نجح اليهودي شاؤول (بولس) في تحريف رسالته التوحيدية إلى دين وثني زاعما أن عيسى إلهاً تجسد ليفدي الناس بنفسه ويغسل خطيئتهم، ولم يكتب لهذا الدين النجاح سوى بالعمل السري التقليدي كما هو حال جمعيات الإلوسيسية.

القوة الخفية
أوضحنا في مقال “الماسونية” تفاصيل جمعية سرية حملت اسم “القوة الخفية” وتم تأسيسها في عام 43م على يد ملك القدس اليهودي هيرودس أغريباس، وذلك بهدف قمع الدعوة المسيحية التي أخذت بالانتشار. وذكرنا أن هذه القصة لم نجدها سوى في كتاب “تبديد الظلام” الذي يقول مترجمه عوض الخوري إنه ليس سوى ترجمة لوثيقة عبرية يورثها مؤسسو الجمعية التسعة لأبنائهم، حتى قرر آخرهم، ويدعى جوناس، أن يكشف السر في القرن التاسع عشر.

لا يمكننا الجزم بصحة الرواية لعدم وجود مصدر آخر يؤكدها، لكن الثابت تاريخيا أن كلا من اليهود وأتباع المسيح انتهجوا العمل السري في محاربة بعضهم.

وفي عام 330 بعد الميلاد، تبنى الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول نسخة معدلة من مسيحية بولس، وتم بذلك تأسيس الدين المسيحي القائم حتى اليوم [انظر مقال المسيحية]، وانتهى بذلك عهد السرية المسيحية، لكن طقوس العبادات الشيطانية القبّالية ظلت متوارثة داخل الجمعيات السرية في أوروبا لأكثر من سبعة قرون، إلى أن تغلغلت في الفاتيكان ولعبت دورا في إشعال الحروب الصليبية أملا في الوصول إلى هدفها النهائي وهو إنشاء هيكل سليمان في القدس، وهو ما عملت عليه بنشاط جمعية فرسان الهيكل التي أفردنا لها مقالا خاصا.

وبالرغم من نجاح فرسان الهيكل في الوصول إلى القدس والحفر تحت المسجد الأقصى، إلا أن صحوة المسلمين واستعادتهم للقدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ/1187م أفشلت المشروع، كما تصدت الكاثوليكية مجددا للجمعية بعد افتضاح خلفيتها الشيطانية، وتم تشتيتها في أوروبا لتنشأ عنها جمعيات الصليب الوردي والماسونية ومحافل المتنورين، التي كان لها دور كبير في إعادة صياغة المشهد السياسي الغربي عبر المساهمة في إشعال الثورة الفرنسية عام 1789 وما تلاها من انقلابات دامية على الأنظمة الإقطاعية الملكية المتحالفة مع الكنيسة. ثم أعادت النخب الفكرية المرتبطة بالجمعيات السرية صياغة المناهج الفكرية في الغرب، ولاحقا في معظم أنحاء العالم بفعل العولمة، فمعظم النظريات العلمانية بأطيافها المختلفة -وحتى المتضاربة- كُتبت على أيدي كبار الماسون، وكبار مؤسسي النهضة العلمية مثل ليوناردو دافينشي وجوردانو برونو وإسحق نيوتن وفرانسيس بيكون كانوا أقطابا في الجمعيات السرية.

ضرورة أم مؤامرة؟
ذكرنا سابقا أن المؤلفين الماسون حرصوا على تقديم صورة زائفة عن جمعياتهم السرية، واكتفوا بكشف ما يناسب توجهاتهم فقط، ومنهم جرجي زيدان الذي يقول “ولا نظن أحدا يجادلنا في احتياج البشر لمثل هذه الجمعيات السرية، وفي أن العلم لا ينمو وينتشر إلا بواسطتها، على أننا لا نحتاج إلى شديد عناء في إقناعهم إذا أصروا على الجدال؛ كيف لا وإن من أشهر الأديان الحديثة المتدينة لها أكبر دول الأعصر الأخيرة ما لم يَنمُ وينتشر إلا باتباعه خطة تلكم الجماعات من التعاليم والتبشير سرا”. [تاريخ الماسونية العام، ص 21].

ويصدق زيدان عندما يطبق كلامه هذا على دين عائلته المسيحي الذي وضعه بولس وانتشر في الخفاء قبل أن يتبناه قسطنطين، حيث يرى زيدان في هذه السرية فضيلةً للمسيحية، كما يصدق كلامه عندما يُنظر إلى الحضارة الغربية (الموصوفة بالعلم) على أنها الحق، ليبرر بذلك انتهاج العمل السري أولا، ويزعم طهارة تلك الجمعيات السرية ثانيا.

  • في مثل هذا الكهف الواقع في أخدود سحيق بالأناضول كان المسيحيون الأوائل يقيمون كنائسهم السرية هربا من السلطة الوثنية

  • سقف الكنيسة داخل الكهف

لكن الأنبياء جميعا كانوا يجهرون بدعوة التوحيد بالرغم من كل ما كانوا يعانونه من أذى بسبب ذلك، وعندما بُعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى قريش لم يؤمر بالجهر مباشرة حتى تتكون من حوله نواة للدعوة، فظل يدعو أقاربه ومن يتوسم فيهم الخير ثلاث سنوات، ولم يؤمن به طوال تلك المدة أكثر من أربعين شخصا، ثم أمره الوحي بتبليغ الدعوة لعشيرته: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]، فبدأت الدعوة الجهرية واشتد عليهم العذاب.

ومن الواضح أن مرحلة الدعوة “السرية” تلك لم تمتد لأكثر من ثلاث سنوات، ولم يتخللها إنشاء جمعية تراتبية ولا أداء طقوس سرية، ولم يترك النبي حتى مماته أي تعليمات سرية خاصة بالنخبة دون عوام الناس. وكل ما ظهر بعد ذلك من الفلسفة وعلم الكلام والتصوف فهو من العلوم الطارئة على الوحي الواضح الجلي، وليس من صلب الإسلام ولا من أصول دعوته [انظر مقال نبوة محمد].

في المقابل، لا يقدم أنصار الجمعيات السرية أي مبرر مقنع لمنهجهم السري، بالرغم من اجتهادهم الواضح في كتبهم وأفلامهم لإقناع العالم ببراءتهم، فإذا كان أسلافهم مضطرون للتخفي في القرون السابقة هربا من الاضطهاد، فقد زالت اليوم أسباب التكتم وأصبحت جمعياتهم شرعية في معظم دول العالم، ومع ذلك فإن أنشطتهم لاتزال تدار في الخفاء، ومازالوا يعترفون بذلك مع عجزهم عن تقديم أي توضيح يستحق التصديق.

يُنسب إلى الفيلسوف الرومانى ناتالاس قوله إن «الأشياء الحسنة تسعى للانتشار والانفتاح، أما الآثام فتتستر وراء حجاب السر والكتمان»، ومع ذلك فلسنا نتهم الجمعيات السرية بالإثم لمجرد كونها سرية، بل لأن الحقائق التاريخية والمعاصرة تؤكد أنها لم تكن سوى مراكز لتكريس عبودية الأتباع وغسل أدمغتهم ثم توظيفهم لتحقيق مصالح النخبة المسيطرة، كما كانت على مر التاريخ المكان المثالي لاجتذاب الموهوبين ثم توجيههم بأساليب الترغيب والترهيب لبث الأفكار الهدامة وقلب أنظمة الحكم ومواجهة أنصار الوحي، وسنبين في مقالات أخرى المزيد من الأدلة، وهذا لا يغني بطبيعة الحال عن الاطلاع على الكتب المتخصصة في هذا المجال.


أهم المراجع

عبد الوهاب المسيري، اليد الخفية: دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية، دار الشروق، القاهرة، 1998.

مجموعة مؤلفين، الجمعيات السرية، تحرير نورمان ماكنزي، ترجمة إبراهيم محمد، دار الشروق، القاهرة، 1999.

جرجي زيدان، تاريخ الماسونية العام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2013.

عوض الخوري، تبديد الظلام أو أصل الماسونية، بدون ناشر، 2002.

عبد المجيد همّو، الماسونية والمنظمات السرية: ماذا فعلت ومن خدمت؟، دار صفحات، دمشق، الطبعة الخامسة، 2009.

عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق، دار أم البنين، بدون تاريخ.

برتراند رَسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2010.

ﺟﻔﺮي ﺑﺎرﻧﺪر، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﺒﺪ اﻟﻐﻔﺎر ﻣﻜﺎوي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1993.

محمد العزب موسى، حضارات مفقودة، الدار المصرية اللبنانية، 2000.

فراس سواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، دمشق، 2002.

بهاء الأمير، شفرة سورة الإسراء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2016.

Manly P. Hall, The Secret Teachings of All Ages, H. S. Crocker Company Inc., San Francisco, 1928.

الإلحاد ووجود الله

بعد تحققنا من إمكانية المعرفة، وبعد بحثنا في مصادرها التي نشأ عن الاختلاف فيها ظهور عدة تيارات فكرية، سيبدأ مسيرنا في سبيل الحقيقة من أولى الحقائق الوجودية التي تشغل عقل الإنسان، وهي وجود الإله الخالق للموجودات والمدبر لشؤونها، فنستعرض أولا الفكرة المضادة المنكرة لوجوده (الإلحاد)، ثم نناقش أدلتها للتحقق من قدرتها على الإقناع، وسيكون دليلنا في هذا المسير مزيج من العقل والحس (التجربة).

الإلحاد
يُقصد بالإلحاد في العصر الحديث إنكار وجود إله خالق، وهذا المعنى يختلف مع الاستخدام القديم في اللغة العربية للمصطلح، حيث كانوا يُطلقونه على المذاهب الفكرية التي يميل أصحابها عن منهج الإسلام، لأن الإلحاد في اللغة هو الميل، أما إنكار الخالق فكان يسمى “إنكار الصانع”، وهو أمر نادر للغاية في التراث العربي.

ديموقريطس

بل كان إنكار الصانع نادرا في التاريخ البشري كله قبل العصر الحديث، ولعل أول من قال به من الفلاسفة هو اليوناني ديموقريطس في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث رأى أن الكون مادي بحت، ثم أنكر أبيقور في القرن الرابع قبل الميلاد وجود إله لاعتقاده بأن ذلك يتناقض مع وجود الشر في العالم، وذلك حسب ما نقله عنه الفيلسوف ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر (ليس هناك مصدر مؤكد آخر لمقولة أبيقور). ولم يشتهر عن الفلاسفة الآخرين إنكار الخالق بالرغم من التفاوت الكبير في آرائهم بشتى القضايا الوجودية.

في القرن السابع الميلادي، ذكر القرآن فئة من الناس أنكروا البعث بعد الموت، فنقل عنهم: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} [الجاثية: ٢٤]، فأطلق المفسرون على هذه الفئة اسم الدهريين، وظن البعض أنهم يقابلون ملاحدة العصر الحديث، لكن الآية لا تذكر شيئا عن إنكارهم للصانع.

ويرجح باحثون أن كل ما قيل عن إلحاد بعض الفلاسفة في التاريخ الإسلامي ليس دقيقا، ومن أشهر هؤلاء ابن المقفع والكندي والفارابي وابن سينا وأبو العلاء المعري وابن الراوندي، لكن التحقيق يؤكد أنهم كانوا يؤمنون بوجود إله بطريقة أو بأخرى على اختلاف عقائدهم، وقد كان أقصى ما وصل إليه بعضهم هو إنكار رسالات الأنبياء والبعث، وليس إنكار الخالق.

نيوتن

لذا قال ابن رشد في كتابه “الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة” إن العرب كلها تعترف بوجود الباري، كما قال الشهرستاني في موسوعة الملل والنِحل إن شبهات العرب مقصورة على شبهتي إنكار البعث وبعثة الرسول، وقال أيضا “أما تعطيل الصانع العالم القادر الحكيم فلست أراها مقالة لأحد”.

يقول المؤرخ الفرنسي لوسيان فيفر في كتابه “مشكلة عدم الاعتقاد أو اللادينية في القرن السادس عشر: عقيدة رابليه” إن الفيلسوف رابليه لم يكن كذلك ملحدا كما يعتقد الكثيرون اليوم، فمع أنه كان شديد السخرية من الدين ورجال الكهنوت إلا أنه لم يجرؤ على إنكار الإله، لأن الأدوات الفكرية المتاحة حتى القرن السادس عشر لم تكن تسمح بوجود تيار فلسفي إلحادي، كما لم يكن لدى الفلاسفة الدعم العلمي الفيزيائي الذي يسمح لهم بتشكيل رؤية إلحادية مادية للكون.

لكن هذا الإجماع على وجود الإله بدأ بالاهتزاز على يد رواد “الثورة العلمية” المقترنة بثورات سياسية واقتصادية، مثل كوبرنيكوس تل الصلبان في ليتوانيا بأوروبا الشرقية يحتوي على مئات آلاف الصلبان، فمع أنهم كانوا مؤمنين بالله إلا أنهم مهدوا الطريق للشك بوجوده بتقديم رؤية مادية للكون، حيث شاع الاعتقاد آنذاك بأن اكتشاف القوانين المادية التي تتحرك وفقها الأشياء والأجرام يعني عدم الحاجة لوجود خالق.

بيير لابلاس

ومع حلول نهاية القرن الثامن عشر، أهدى عالِم الرياضيات الفرنسي بيير لابلاس نسخة من كتابه “حركة الأجرام السماوية” إلى الإمبراطور نابليون بونابرت، فسأله الأخير عن سبب إغفال ذكر الإله في كتابه الرياضي، فأجابه “سيدي، لست بحاجة لهذه الفرضية”. ويرى العلماء الملحدون اليوم أن هذا الموقف كان مؤشرا على بداية ظهور الإلحاد المدعوم بالعلم، والحقيقة أن نظرية لابلاس الرياضية لم تكن أصلا تستلزم البحث في وجود إله، فهو لم يستغنِ عن اللاهوت كما يقول أوستن فارر، بل تعلم كغيره من العلماء ألا يتدخلوا في الدين وأن يلتزموا حدود تخصصهم. فلو أن نابليون سأل لابلاس من البداية: لماذا يوجد كون من أجرام مادية تتحرك وفقا لقوى الجاذبية التي تعبر عنها معادلاتك؟ فعندئذ سيكون من الصعب أن يجيب بنفس جوابه السابق، لكن الملحدين المعاصرين اعتادوا على اعتبار ذاك الجواب كافيا عندما قرروا توسيع دائرة العلم ليشمل كل شيء.

وبالرغم من شيوع الأفكار العلمانية والتحلل من الأديان كلها في تلك الفترة، ولا سيما في ظل الدعم الذي قدمته الجمعيات السرية للأنظمة السياسية الثورية وللجمعيات العلمية الحديثة، إلا أن الإلحاد لم ينتشر بصورة ملحوظة إلا بعد ظهور نظرية تشارلز داروين في النشوء والارتقاء بمنتصف القرن التاسع عشر، حيث أصبح من الممكن أخيرا تقديم تفسير “علمي” لوجود الكائنات الحية ذات الصنع المتقن -وعلى رأسها الإنسان نفسه- دون حاجة للتصديق بوجود خالق لها، فأنشأ بعض الفلاسفة تيارات جديدة على أساس إلحادي، مثل أوغست كونت وكارل ماركس وفريدريك نيتشه وسيغموند فرويد ولودفيغ فيورباخ.

بعض أدلة وجود الله
سنلخص في هذه الفقرات أهم الأدلة العقلية والحسية التي تؤكد ضرورة وجود إله، ونحن نرى أن مناقشة تفاصيل التساؤلات التي قد يطرحها المشكك قد تستغرق مئات الصفحات وتتطلب من القارئ غير المتخصص جهدا مضاعفا، والأولى أن نبين الأدلة التي تقبلها كل العقول لبداهتها، فلو كان وجود الإله غامضا لكان الإيمان به من شأن النخبة فقط، ثم نستشهد بما أثبته العلم التجريبي من ضرورة الخلق والتدبير.

الدليل الأول: الصنع الغائي
ذكرنا في مقال مصادر المعرفة أن في العقل البشري مبادئ أولية “بدهيات” لا تحتاج إلى إثبات، ومنها دلالة الصنع الغائي على وجود صانع له غاية، فعندما يرى الإنسان قلماً صغيراً بعلامات دقة واضحة فإن عقله يقتنع مباشرة بأن هناك صانعا صنعه ليؤدي غاية ما، فالقلم المُتقن ليس ككومة تراب أو حجارة عشوائية في الصحراء، والأمر ذاته ينطبق على الأشياء الأكثر تعقيدا كالحاسوب والهاتف والسيارة، فكلها تحمل علامات صنع لتؤدي غايات معينة.

والعقل لا يستطيع أن ينكر هذا المبدأ البدهي، وأقصى ما يمكنه أن يفعل هو أن محاولة التشكيك في استمرار العلاقة الدائمة بين التصميم والمُصمم، فيفترض احتمال انفكاك هذه العلاقة في ظرف لا نعلمه بعد، أو يقول إن أحكامنا هذه مبنية على أمثلة نعرفها لأنها تتعلق بأشياء صنعها الإنسان، فيرفض سحب دلالة الصنع الغائي على سائر الأشياء الأخرى لتدل على وجود خالق.

لكن محاولة إنكار اطّراد العلاقة بين التصميم والمُصمم أو المصنوع والصانع هو إنكار للعقل نفسه، فهو كقول قائل إن جمع واحد مع واحد يساوي اثنين لا يصح إلا فيما نعرفه فقط وإنه ليس بالضرورة أن يكون هكذا دوماً في ظروف أخرى لا نعرفها، وهذا نوع من السفسطة، فالبديهيات العقلية لا تتجزأ ولا تنفصل.

في عام 1997 أنتجت هوليود فيلما بعنوان “اتصال” contact، مقتبسا عن رواية بنفس الاسم للعالِم الفلكي كارل ساغان، حيث يحكي الفيلم قصة عالِمة فلك تدعى “إيلي” وهي تدرس مع زملائها في مركز أبحاث “سيتي” إشارات واردة من أعماق الفضاء، ويتبين أنها تتمتع بصفتي التفرد والتعقيد، ما يؤكد استحالة كونها قد نشأت بالصدفة، لذا يصيح أعضاء الفريق “إنها ليست تشويشا كونيا، إنها تحمل نظاما”، ثم تكشف أحداث الفيلم عن ورود تلك الرسائل بالفعل من عوالم أخرى.
واللافت أن كلا من مؤلف القصة ساغان وبطلة الفيلم جودي فوستر ملحدان، فالفيلم يؤكد أن رسالة معقدة واحدة تكفي لإثبات وجود مرسل ذكي، لكن ساغان لا يستخدم نفس هذا المنطق عندما يرى أن تعقيد الحمض النووي لا يمكن أن ينشأ عن صدفة عشوائية!

يقول علي عزت بيجوفيتش في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”: “إذا وجدنا في اكتشاف أثري حجرين موضوعين في نظام معين أو قُطّعا لغرض معين، فإننا جميعاً نستنتج بالتأكيد أن هذا من عمل إنسان ما في الزمان القديم. فإذا وجدنا بالقرب من الحجر جمجمة بشرية أكثر كمالاً وأكثر تعقيداً من الحجر بدرجة لا تقارن، فإن بعض العلماء المكتشفين لن يفكر في أنها من صنع كائن واع، بل ينظرون إلى هذه الجمجمة الكاملة أو إلى الهيكل الكامل الذي تتجلّى فيه قدرة صانعه كأنهما قد نشئا بذاتيهما أو بالصدفة”.

ومن الملاحظ أن الكثير من العلماء الملحدين المعاصرين يدعمون مشاريع عملاقة للبحث عن مؤشرات لوجود كائنات حية في كواكب أخرى، وذلك برصد الإشارات اللاسلكية والميكروية القادمة من أعماق الكون، أملا في أن تحمل رسائل مشفرة تختلف عن النبضات والموجات الكونية العادية، فلو كانوا يعتقدون فعلا بأن العوالم الأخرى لا يجب أن تنسحب عليها مبادئنا العقلية فلا ينبغي إذن أن يعتقدوا بأن ما قد يصل من تلك العوالم من علامات الذكاء هو مؤشر على أي شيء يخص تلك العوالم المجهولة.

حاول فيلسوف الشك والعدمية ديفيد هيوم [انظر مقال مصادر المعرفة] أن ينفي صحة دليل الغائية والتصميم معتبرا أنه من باب قياس الغائب على الشاهد، كأن نقول مثلا إذا كان للبيت مهندس فلا بد أن يكون للكون خالق، وهذا قياس للكون على البيت وقياس للإله على الناس. ويقول هيوم أيضا إننا لم نشاهد عالَما آخر لنقارنه بعالمنا كي نستنتج أن هذا العالم مخلوق بالضرورة.

لكن هيوم لم يلاحظ أن البيت والكون من جنس واحد، فكلاهما كيان مادي حادث في الزمان والمكان، وكلاهما يحتاج إلى طاقة، والاختلاف بينهما يقتصر على الصفات فقط وليس الجنس.

واللافت أن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت كان قد سبق هيوم وأوضح أن “برهان التصميم” يعتمد على الحدس (نقصد هنا الحدس الفلسفي وليس الصوفي)، أي بالإدراك العقلي المباشر وليس بالاستنتاج والقياس، فديكارت يقول إن أولى الحقائق التي يدركها العقل هي وجود الذات (أنا أفكر إذن أنا موجود)، ثم يدرك مباشرة أن هناك خالقا موجودا بالضرورة وهو الذي أوجده، وهذا الإدراك ليس قياسا بل حدسا.

فإذا هبط أحدنا مثلا على سطح كوكب بعيد ووجد عليه جهازا معقدا وهو لا يعرف شيئا عن حقيقته وآلية عمله، فسيدرك فورا وبدون قياس ولا مقدمات أن هناك مصمما ما قام بتصميم هذا الجهاز.

  • العلة الفاعلة والعلة الغائية
    قد يقع الإنسان في الحيرة عندما يخلط بين العلتين الفاعلة والغائية، فالرؤية المادية للكون لا تتجاوز العلة الفاعلة (الكيفية) لتفسير ظواهر الكون، مثل نسبة حركة الكواكب إلى قوى الجاذبية والطرد والتنافر، وهي علل (أسباب) يعترف بها المؤمن ويدرسها ويتعامل معها وفقا لقوانينها، إلا أنه يرى في الوقت نفسه أن هناك علة غائية وراءها تعود إلى إرادة الإله وقدرته.

    ولا تتعارض العلتان بالضرورة، فعندما نقول إن شخصا حُكم عليه بالإعدام شنقا قد فارق الحياة بسبب الشنق؛ فنحن نتحدث هنا عن العلة الفاعلة (كيفية موته)، وسنكون على حق أيضا إذا قلنا إنه مات لأنه قتل شخصا بريئا (علة موته)، فيكون الحديث هنا عن العلة الغائية التي لأجلها تم لف حبل المشنقة حول رقبته.

الدليل الثاني: السببية وعدم التسلسل
تعد السببية من البدهيات العقلية الأولية أيضا، ولتوضيحه نضرب مثالا بجنديّ يحمل سلاحه ويستعد لإطلاق رصاصة عند أمر قائده، ولكن قائده ينتظر أمراً من قائده، وقائده ينتظر أيضا أمر قائده… وهكذا، فإذا افترضنا ان هذه السلسلة من القادة مستمرة إلى ما لا نهاية وأنه لا يوجد قائد أخير تصدر كل الأوامر منه دون أن ينتظر أمرا من أحد؛ فهل ستنطلق رصاصة الجندي؟ والإجابة هي حتما لا.

لذا يجزم العقل البشري باستحالة أن يكون الكون وما فيه من موجودات معقدة قد نشأت عن سلاسل مستمرة من الظهور والفناء للذرات ومكوناتها من غير بداية محددة، فلكل سبب مسبِّب ولكل حادث مُحدِث، ولا بد من وجود موجود أول غني عن كل ما سواه.

من أجل ذلك آمن الفلاسفة على مر العصور بالإله، على اختلاف تصوراتهم له، وعبّر عنه الفلاسفة في التراث الإسلامي بقولهم إنه “واجب الوجود”، وذلك لأن كل الموجودات في هذه القسمة العقلية إما ممكنة الوجود (أي أن وجودها وعدمها يستويان في الاحتمال وهي كل الموجودات في الكون)، وإما مستحيلة الوجود (وهي الأشياء المتناقضة في ذاتها كأن نتخيل وجود مربع بثلاث زوايا في مستوى واحد)، وإما واجبة الوجود (أي التي لا بد من وجودها لأنها سبب وجود الممكنات، وهو الخالق الأزلي).

وقد يتساءل المشكك: لماذا نستثني الإله من التسلسل؟ فإذا كان لا بد لكل موجود من موجِد فلماذا لا يكون للإله خالق أوجده؟ والجواب هو أن إنكار السببية سيوقعنا في مشكلة أكبر، فإذا اعتبرنا الإله محتاجا لموجد آخر فقد أصبح بذاته مشابها للموجودات الأخرى، وسنستمر في التسلسل للبحث عن أصل أول، وبما أن كل الموجودات المادية التي يألفها الحس والعقل لا يمكن لها أن توجد بذاتها فلا بد عقليا من الإيمان بوجود أصل غير مادي وغير محتاج لأحد سواه.

وإذا لم نصل إلى هذه النتيجة، فإما أن نمنح الكون نفسه صفة الألوهية، فيكون أزليا بذاته، وهذا مستحيل عقليا وحسيا، وإما أن يكون الكون هو الذي أوجد نفسه من عدم، وهذا غير معقول أيضا.

إذن فالذي تستثقله النفس هو صعوبة تصور الإله المستغني بذاته، وذلك لأنه مختلف عن كل ما نتصوره ونعرفه، لكن هذا لا يعني استبعاد وجوده، بل وجوده ضروري لكن تصوره مستحيل.

لذا أمر الأنبياء أتباعهم بعدم التفكر في ماهية (حقيقة) هذا الإله، حيث قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم “يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته” [رواه البخاري ومسلم]، فالنبي أوضح أن العقل البشري عندما يصل إلى هذا النوع من التساؤل فإنه قد بلغ حده، ولم تبق له سوى وساوس الشيطان التي تلقي في قلبه الشك، لأن قياس الغائب على الشاهد ليس من المنطق في شيء، ولا يصح للعقل الذي انتهى إلى ضرورة وجود الإله أن يقيس هذا الإله (واجب الوجود) على مخلوقاته (ممكنة الوجود).

لايبنتز

يقول الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز “وإذا كانت عقولكم لا تتصور هذا الإله فلا يلزم عن ذلك عدم وجوده، فكثير من الحقائق لم تتمكنوا من تصورها وهي موجودة عقلا”، لذا فإن قياس الإله على الأشياء هو قياس تمثيل ومغالطة، فيكفي للعقل أن يستدل على وجود الإله بآثاره.

والعقل يستبعد تصور حقائق أخرى كثيرة مع أنها موجودة في عالم الحس وبمتناول اليد، ونذكر منها هذه الأمثلة:

1- قصة الحكيم الذي اخترع الشطرنج: حيث طلب من الملك الذي أعجب باللعبة أن يحصل على مكافأة بدا للملك أنها تافهة، فقال إنه يطلب وضع حبة قمح واحدة في أول خانة من رقعة الشطرنج، وحبتين في الثانية، وأربع حبات في الثالثة، ثم ثماني حبات، وهكذا بمضاعفة الحبات في كل خانة تالية وصولا إلى الخانة الرابعة والستين، فضحك الملك وأمر الحاشية بتنفيذ الطلب، لكن حساب هذه المتتالية خرج بنتيجة مفادها أن خزائن المملكة كلها لا تكفي.

2- أحجية الورقة المقطعة: تصور وجود ورقة رقيقة سمكها 1/100 ملم، واقطعها إلى نصفين، ثم اقطع النصفين إلى أربعة، وتابع القطع مع وضع الأنصاف فوق بعضها، وستجد أن سُمك ما تم تجميعه بعد 48 مرة فقط سيصل إلى القمر.

3- تباطؤ الزمن: كان جميع الفيزيائيين طوال التاريخ يتصورون أن الزمن ثابت، ثم أكد أينشتاين في القرن العشرين أنه نسبي، وأن سرعة الضوء هي الثابت، فالزمن يتمدد ويتقلص حسب سرعة الجسم المتحرك، وهو أمر يصعب على العقل حتى الآن تصوره مع أنه مثبت رياضيا وعمليا.

الدليل الثالث: الفطرة
تنكر المذاهب الحسية والمادية وجود الأفكار الفطرية [انظر مقال مصادر المعرفة]، ويستند إليها الملحدون لتبرير فراغ العقل البشري من أي معلومات أولية قد تدل وجود خالق أنشأها، لكن بحثا أجراه البروفسور جستِن باريت Justin Barrett في جامعة أوكسفورد أثبت العكس، حيث طبق دراسته على أطفال في أعمار مبكرة طوال سنوات ليخرج بنتيجة تؤكد أن الأطفال لديهم القابلية المُسبقة للإيمان بـ”كائن متفوق”، وذلك لأنهم يعتبرون أن كل ما في هذا العالم مخلوق لسبب، وعبر عن ذلك بقوله “إننا إذا وضعنا مجموعة من الأطفال على جزيرة لينشأوا بمفردهم، فأعتقد أنهم سيؤمنون بالله”.

وضع باريت نتائج أبحاثه في كتاب نشر عام 2012 بعنوان “مؤمنون بالفطرة”، كما نشرت عدة وسائل إعلام تقارير عن أبحاثه، ومنها صحيفة تليغراف البريطانية في نوفمبر 2008، بينما قال لإذاعة بي.بي.سي في حوار إذاعي “إن غالبية الأدلة العلمية في السنوات العشر الماضية أظهرت أن الكثير من الأشياء تدخل في البنية الطبيعية لعقول الأطفال بشكل مختلف عما ظننا مسبقاً، من ضمنها القابلية لرؤية العالم الطبيعي على أنه ذو هدف ومصمم بواسطة كائن ذكي مُسبب لذلك الهدف”.

وقد انضم إلى البروفسور باريت باحث آخر، هو البروفسور جوناثان لانمان Jonathan A. Lanman من جامعة أكسفورد، الذي وضع بحثا بعنوان “علم الإيمان الديني” The Science of Religious Beliefs، وتساءل فيه “إذن من أين جاءت هذه الاعتقادات الفطرية بوجود الخالق؟ فنحن لا نستطيع القول بأنهم (الأطفال) تعلموها من المجتمع وذلك لأنها اعتقادات فطرية، وكذلك الدراسات أكدت أنها لا تعتمد على ضغوطات المجتمع وهي مشتركة بين مختلف الثقافات”.

وبالطريقة نفسها، تقول الباحثة في علم نفس النمو والأديان بجامعة أكسفورد أوليفيرا بيتروفيتش Olivera Petrovich في كتابها “نظرية الطفل عن العالم” Child’s Theory of World إن “الإيمان بالله ينمو طبيعياً، أما الإلحاد فهو بالتأكيد موقف مكتسب”.

وهو ما يؤكد المقولة الشهيرة المنسوبة إلى المؤرخ الإغريقي بلوتارخ، عندما قال “لو سافرنا خلال العالم، فمن الممكن أن نجد مدناً بلا أسوار، بلا حروف، بلا ملوك، بلا ثروات، بلا عملات، بلا مدارس ومسارح، ولكن أن نجد مدينة بلا معبد، وبلا ممارسات وعبادة وصلاة ونحوه، فلم ير أحد ذلك قط”.

الدليل الرابع: وجود الشر
بقليل من التأمل يمكننا أن نكتشف أن وجود الشر يؤكد وجود “مصدر مفارق للعالم”، بدلا من أن يكون دليلا على عدم وجوده كما يحاجج الملحدون، فالاعتقاد بأن وجود الشر لا يتناسب مع وجود إله رحيم يحب الخير هو ميل نفسي وليس دليلا عقليا، فلا يتناقض في العقل وجود هذا الإله مع سماحه بوجود الشر في العالم الذي خلقه لغرض الامتحان.

فوجود الشر يؤكد بالفعل وجود إله مفارق لهذا العالم المادي، لأنه اعتراف بوجود إله يمثل الخير بالفطرة، وإلا فمن أين أتى التمييز البشري بين الخير والشر إن كان الأصل في الوجود المادي هو عدم الترجيح في الأفعال بين خير وشر؟ فالإله المفارق للموجودات هو الذي أعطى معنى الخير، وهو الذي منح الإنسان القدرة على تمييزه عن الشر، بينما لا يستطيع أي باحث أن يجزم بأن الخير (بمعناه العام) هو الأصل الوحيد في نفوس الإنسان والحيوانات، خصوصا وأن من يؤمن بنظرية التطور يرى أن استمرار الحياة قائم أصلا على الصراع وأن البقاء للأقوى، فالأقوى هو الأقدر على قتل الضعيف ونهب حقوقه وليس العكس.

وقد اختلف الفلاسفة وعلماء الكلام في التاريخ الإسلامي حول منشأ الحُسن والقبح، فرأى المعتزلة والشيعة والماتريدية أن العقل يدركهما بذاته، بينما رأى الأشعرية والظاهرية أن تحديدهما يعود إلى الوحي فقط، وجاء من يجمع بين الرأيين ويرى أن العقل قد يستقل بمعرفة حُسن وقبح بعض الأفعال دون بعض، كالعدل والظلم، والصدق والكذب.

جوليان باجيني
(Vera de Kok)

وفي أحد التسجيلات المصورة، يوجه الفيلسوف البريطاني الملحد جوليان باجيني سؤالا للمؤمن الذي يلتزم بالأخلاق: هل يأمرك الله بفعل الخير لأنه خير بذاته أم أن الفعل أصبح خيرا لأن الله أمرك بفعله؟ ثم يقول إن “المؤمن لو اختار الخيار الثاني فستكون حجته ركيكة، لذا فإن النقطة الأساسية هي أنه حتى الإله يختار فعل الخير لأنه خير، إذن فهو خير بذاته، ومن ثم فيمكن للملحد أيضا أن يكتشفه بنفسه دون إله”.

وقد يبدو للبعض أن باجيني يشير إلى الخلاف السابق نفسه، لكن جوهر ذاك الخلاف لم يمتد إلى مسألة الوجود الإلهي، فالطرفان يؤمنان بإله خالق للإنسان والفطرة والعقل والأفعال معا، والخلاف بينهما محصور في مدى قدرة العقل البشري على تصنيف الأفعال دون مصدر موجه، أما المعضلة التي تهرب منها باجيني بمحاولة إلقائها على المؤمنين فهي أن الإلحاد يبقيه حبيس المادة أصلاً، والمادة مهما ارتقت في تطورها المفترض فهي محكومة بالغرائز، وليس هناك ما يبرر اكتشافها الذاتي لمفاهيم نبيلة لا تحقق لها أي مصلحة، مثل التضحية والإيثار، لذا لم يجد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (توفي عام 1804م) بداً من الإيمان بوجود إله مفارق لحل معضلة الأخلاق.

ولا يمكن للملحد أن يثبت عمليا استقلال الأخلاق عن الأديان والميتافيزيقيا، فليس هناك مجتمع ملحد ومادي مئة بالمئة، وليس هناك أيضا أي فرد طبيعي في هذا العالم يعيش في عزلة تامة عن كل المؤثرات الدينية في مجتمعه. لذا يقول المفكر والرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش “يوجد ملحدون على خلق، ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي” [الإسلام بين الشرق والغرب، ص175].

وقد أقر العديد من مفكري الإلحاد المعاصرين بمأزق البحث عن أساس أخلاقي دون مرجعية غيبية (ميتافيزيقية)، ومنهم الفيلسوف الأميركي جيمس ريتشلز الذي اعترف في كتابه “مصنوعون من الحيوانات: الآثار الأخلاقية للداروينية” أن السؤال عن بديل للرؤية الأخلاقية الدينية من منظور دارويني إلحادي هو سؤال صعب، ثم أخذ يبحث في الكتاب عن تأصيل فلسفي للأخلاق من منطلق ذاتي، ليثبت بذلك من غير قصد أن الأخلاق المجردة عن المصدر المفارق (الموضوعي) ستؤدي في النهاية حتماً إلى نسبية الأخلاق، ومن ثم إلى انهيار أي مرجعية تثبتها.

أما الفلسفة البراغماتية، التي انبثقت عن الفكر المادي في مطلع القرن العشرين، فلم تستطع تقديم حل مقنع للمعضلة مع تغييب العنصر الإلهي، فاضطرت للاكتفاء بربط الأخلاق بالمصلحة، وزعمت أن ما كان نافعا للإنسان فهو خير.

جون لوك

ولو افترضنا أن البشرية كلها كانت لا تؤمن بإله يراقبها في كل لحظة وسيحاسبها عاجلا أو آجلا، فهل كانت الكائنات البشرية “المتطورة” ستهذب غرائزها بالفعل دون حاجة لوازع ديني؟

يقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك “إذا كانت غاية الإنسان مقتصرة على هذا العالم، وإذا كنا نستمتع بالحياة في هذه الدنيا فحسب، فلن نجافي المنطق إذا بحثنا عن السعادة الشخصية ولو كان ذلك على حساب الآباء والأبناء”. وهذا القول يلخص تعارض الأخلاق مع المادية بكل أمانة، فمفهوم التضحية على سبيل المثال لا يمكن فهمه ولا تبريره بالمنطق المادي الإلحادي، بل هو ضرب من “الغباء” لكونه يتعارض مع المصلحة.

يحاجج البعض بأن بعض المجتمعات المعاصرة التي تزداد فيها نسبة الإلحاد تحتفظ في الوقت نفسه بقدر كبير من الالتزام الأخلاقي، ولا سيما عند مقارنتها بمجتمعات توصف بأنها متدينة، لكن هذه المقارنة لا تكتسب صفة علمية ولا تقدم برهانا سليما، فالسببية في القضايا الاجتماعية أكثر تعقيدا بكثير مما هي عليه في الظواهر الفيزيائية، وعلى الباحث أن يجرد جميع العوامل قبل أن يقارن بين أخلاقيات المجتمعين، وإلا فيمكن الافتراض أن الالتزام الأخلاقي في مجتمع إلحادي (على فرض وجوده) قد ينبع من الانضباط الذي ينشأ عليه الفرد، وأن ارتفاع الدخل وانتشار كاميرات المراقبة وقسوة القانون هي كلها عوامل تحول دون ميل الفرد الملحد في سويسرا مثلا إلى السرقة، وذلك على العكس من فرد ينشأ على الفقر والجهل في بلد يسوده الفساد الإداري ويوصف خطأً بأنه مجتمع متدين.

لكن المقارنة قد تصبح أكثر إقناعا عندما يُقارَن سلوك وانضباط الشخص نفسه قبل تدينه وبعده، كما يحدث مع المجرمين الذين يعتنقون ديناً ما في السجون.

وسيصبح أكثر وضوحا أيضا عندما نستدل ببعض البرامج الترفيهية التي ظهرت مؤخرا على الإنترنت، والتي تم تصويرها بكاميرات خفية لاكتشاف مواقف وردود أفعال أشخاص عشوائيين، فالكثير من هذه التجارب تكشف أن الفرد الغربي الذي نشأ في مجتمع منضبط بالقانون قد يتساهل في ارتكاب سرقة طفيفة عندما يكون بعيدا عن عيون الرقابة والقانون، وهذا السلوك يمكننا أن نفهمه طالما أن الفرد لا يؤمن بإله يراقبه وسيحاسبه على كل كبيرة وصغيرة، فالأصل في حالة الإلحاد والبراغماتية وبقاء الأقوى أن يفكر الإنسان بمصلحته العاجلة قبل مصلحة الآخرين، وأن ينتشي بقدرته على السرقة بدلا من الخجل.

من جهة أخرى، يقول الكاتب الإيرلندي سي.إس لويس، الذي ألحد في فترة من حياته بسبب تشاؤمه من الشر والحروب وموت أقرب الناس إليه بالأمراض، “كانت حُجتي ضد الله أن الكون يبدو في غاية القسوة والظلم. ولكن كيف حصلتُ على مفهوم الظلم والعدل هذا؟ فالإنسان لا يصف الخط بأنه منحني إلا إذا كانت لديه فكرة عن الخط المستقيم، فبماذا كنت أقارن هذا العالم عندما وصفته بأنه ظالم؟ إذا كان العرض كله سيئاً ولا معنى فيه من الألف إلى الياء إن جاز التعبير، لماذا أنا -الذي من المفترض أن أكون جزءًا من هذا العرض- أجد نفسي في رد فعل عنيف معارض لذلك؟ الإنسان يشعر بالبلل عندما يقع في الماء، لأن الإنسان ليس حيواناً مائياً، ولكن السمك لا يشعر بالبلل بالطبع” [Mere Christianity, p. 38-39].

إن محاولة الاحتجاج بالشر على عدم وجود الخالق تحوي في طياتها عوامل الهدم الذاتي والتناقض المنطقي، إذ يحق لأي مؤمن في المقابل أن يقول بالمثل: ووجود الخير في العالم يدل على وجود الله، وإذا افترضنا أن الخالق إله شرير فسنجد أن مشكلة وجود الشر لا علاقة لها في الأصل بوجود خالق أو عدمه، فنحن لا نقول إنه لا توجد حكومة إذا كانت سياستها شريرة، ولا نقول إنه لا وجود لصانع القنبلة النووية لأنها سلاح شرير، فالصواب أن هناك علامات خاصة بالصنع والتصميم (أو الخلق والتقدير) مفصولة عن قيمتي الخير والشر.

لذا يمكننا القول إن هذه “المعضلة” ذات منشأ نفسي لا عقلي، وسنناقش في نهاية مسير بحثنا عن الحقيقة الجانبَ النفسي لوجود الشر، وذلك في مقال “الأسئلة الوجودية الكبرى“.

الدليل الخامس: دقة الضبط الكوني
استند الإلحاد المعاصر في بدايته على فرضية تقول إن الكون (المادة والطاقة) أزلي لا بداية له، ثم صيغت الفرضية على شكل نظرية سميت بالكون المستقر، وكان من أشهر المدافعين عنها عالم الرياضيات والفلك البريطاني فريد هويل.

لكن العلم أثبت استحالة أزلية الكون؛ إذ لو كان كذلك لتبددت طاقته وتوزعت عشوائيا بدلا من التجمع منذ زمن بعيد، ولتوقف بذلك كل نشاط في الوجود، وهذه الحالة التي تسعى للاستقرار تسمى بالإنتروبي حسب القانون الثاني للديناميكية الحرارية.

وفي ستينيات القرن الماضي بدأت نظرية الانفجار العظيم Big Bang بالتغلب على نظرية الكون المستقر، وهي تنص على أن الكون الذي يتسع باستمرار كان قد نشأ من نقطة أولية، وأن النشوء والاتساع الكوني يتوقفان على قوانين وثوابت فيزيائية في غاية الدقة، ما دعا العلماء لإطلاق مصطلح الكون المضبوط بعناية Fine-tuning of universe، وخصوصاً مع دقة الثابت الكوني Cosmological constant لاتساع الكون، والتي بلغت 1 إلى “10 أس 122” (1 وأمامه 122 صفرا) وهو رقم لا يسمح بوجود الصدفة والعشوائية.

وفي محاولة لإنكار وجود القصد (الإلهي) وراء هذه الدقة، افترض الفيزيائيان ستيفن وينبرغ وستيفن هوكينغ أن هذا الكون الدقيق ليس سوى حالة نادرة من بين عدد هائل من الأكوان الأخرى العشوائية التي تسبح في الوجود. وقد حاول هوكينغ في كتابه “التصميم العظيم” The Grand Design حساب احتمال وجود هذا الكون من بين الأكوان العشوائية، فوجد أن الصدفة تتطلب وجود “10 أس 500” كون (أي 1 وأمامه 500 صفرا)، وهو افتراض لا يدعمه دليل أصلا.

كان الملحدون في القرن العشرين يستندون إلى ما يسمى بنظرية القردة، والتي تفترض أننا إذا وضعنا مجموعة قردة أمام لوحة مفاتيح للضرب عليها في زمن غير محدود فلا بد أنها ستنجح بالصدفة يوماً ما في كتابة قصيدة لشكسبير.

حاول عالم الأحياء الملحد ريتشارد دوكينز في كتابه “صانع الساعات الأعمى” (1986) اقتراح آلية لإنجاح التجربة، فكلما كتب قرد حرفا نقارنه مع الحرف الذي نتوقعه، فإن نجح احتفظنا به وإلا حذفناه وسمحنا للقرد بالمتابعة، والعجيب أن دوكينز لم ينتبه إلى أن “التطور الأعمى” الذي يتخيله ليس له هدف أصلا، فالمعلومات التي ينبغي للصدفة والعشوائية أن تنتجها يشترط دوكينز أنها موجودة أصلا في الكائن الحي الذي لم يتطور بعد، وهذا استدلال دائري [انظر المغالطات المنطقية].

وقد بيّن العالِم التطوري رونالد فيشر أن الطبيعة لا تحتفظ بالحرف الصحيح كما يتخيل دوكينز، فمعظم الطفرات النافعة تختفي عشوائيا أو بفعل الطفرات الضارة الأكثر عددا بكثير [العلم ووجود الله، ص 299].

دوكينز (David Shankbone)

ومع ذلك، حاول البعض أن يتحققوا من فرضية القردة عمليا، فوضع باحثون في “المجلس القومي البريطاني للفنون” ستة قرود في قفص مع كمبيوتر لمدة شهر، ولم يحصلوا على كلمة واحدة، مع أن أقصر الكلمات بالإنجليزية مكونة من حرف واحد وهو A، وهي تتطلب النقر على هذا الحرف مع النقر على زر المسافة قبله وبعده فقط. وعندما احتسب الرياضي جيرالد شرويدر في كتابه “علم الإله” Science of God نسبة احتمال الحصول على إحدى قصائد السوناتا لشكسبير والمكونة من 488 حرفا عبر الضرب العشوائي على لوحة مفاتيح مكونة من 26 حرفا، وجد أن هناك احتمالا وحيدا من بين “10 أس 690” من الاحتمالات الخاطئة، ولكي نتخيل ضخامة هذا العدد الهائل يمكننا أن نقارنه بعدد ذرات الكون كله التي تقدر بحوالي “10 أس 80” فقط.

وقد دفعت هذه الحسابات بالملحد الشهير “أنتوني فلو” إلى القول إن البرهان العقلي للإلحاد انهار تماماً، فآمن بوجود الله مؤكدا أن نشوء الحياة أكثر تعقيدا بكثير من الحصول على قصيدة قصيرة بالضرب العشوائي [أنتوني فلو، هناك إله، ص 75].

كما استنتج عالم الرياضيات وليام دمسكي أن “التعقيد المخصص” لا يمكن أن ينشأ بالصدفة، فالنقر على حرف A مخصص لكن دون تعقيد، ونقر جملة طويلة من الحروف العشوائية (كما فعلت القرود) هو أمر معقد لكنه غير مخصص، أما طباعة قصيدة كاملة لشكسبير فهو عمل معقد ومخصص معا.

وبالرغم من ضآلة الاحتمال، فإن المشكلة الأهم هي استحالة رصد تلك الأكوان المفترضة، فأي كون خارج كوننا سيكون خارج ما يسمى بأفق الجسيم the particle horizon، وهي مسافة كبيرة إلى درجة أن أي جسيم حامل للمعلومات لا يستطيع أن يقطعها ليصل إلى الباحث (الراصد) لأن عمر الكون نفسه أقصر من تلك المدة، وهذا يعني أن افتراض الأكوان الأخرى ليس سوى نظرية فلسفية لا علمية.

علاوة على ذلك، أثبت كل من أرفيند بورد وآلان غوث وألكساندر فيلينكن أن أي كون لا بد أن يتوسع طوال تاريخه، وأنه لا بد أن تكون له بداية وليس أزليا، وهذا يعني أنه حتى في حال صحة وجود أكوان أخرى غير هذا الكون، فكل واحد منها لا بد أن يكون قد بدأ من نقطة نشوء ما في الزمن الغابر.

ومع ذلك، يتمسك العلماء الملحدون بفرضية “الأكوان المتعددة” لأنها الملاذ الوحيد، حيث قال وينبرغ في لقاء مع زميله دوكينز “إذا اكتشفت أن هذا الكون المدهش معد فعلياً بعناية… أعتقد أنه ليس أمامك ساعتها إلا أحد احتمالين، إما خالق عظيم، وإما أكوان متعددة”.

لكن وجود تلك الأكوان -والتي يستحيل إثبات وجودها علميا- سيضع وينبرغ أمام بحث آخر حول نشأتها ومصدر قوانينها وثوابتها الفيزيائية، فإذا كان يعتقد أنه سيتخلص عندئذ من معضلة إعداد الكون بعناية fine tuning، فسيجد أكوانا أخرى معدة بعناية أيضا، وربما كانت أكثر إعجازا وتعقيدا، وسيضطر بذلك للبحث عن خالقها بدلا من الاستناد إلى الصدفة.

وبدوره، يقول الفيزيائي اللاديني ليونارد سوسكايند “إن الثابت الكوني من الرهبة بمكان بحيث أنه يصير بهذا المقدار الذي لا يسمح بتدمير النجوم والكواكب والذرات، لكن ما هذه القوة الغامضة والعجيبة التي استطاعت أن تحسب هذا الموقف المعقد للغاية؟ إن قوانين الفيزياء متوازنة على حافة سكين حاد للغاية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يطرح أسئلة كبيرة” [The Cosmic Landscape, p. 88].

يحاول البروفيسور لورنس كراوس في كتابه “كون من لاشيء” إثبات إمكانية انبثاق الكون المادي من العدم من تلقاء نفسه، إلا أن المأخذ الجوهري على نظريته هو أنه حاول إقناع قرائه بأن “اللاشيء” هو “العدم” نفسه، وقد يكون هذا الخلط مقبولا في اللغة إلا أنه مغالطة كبيرة في الفيزياء، فحسب فيزياء الكم لا يوجد فراغ ليس فيه أي شيء أو فيه عدم محض، فالعدم هو نقيض الوجود أصلا ولا يمكن للعدم أن يوجد، وقياس طاقة الفراغ في زمن محدد يجب أن يحوي قدرا ما من الطاقة حتى لو كان للجسيمات الافتراضية التي تظهر وتختفي، وهو ما يسمى بالقدر الأدنى من الطاقة الممكنة Zero-point energy، فلا يمكن إذن أن “يوجد” هذا العدم المحض ليكون هو أصل الوجود (الكون). وقد أوضح هذا المبدأ كل من جوهان رافيلسكي وبيرندت مولر في كتابهما “بنية الفراغ”The structured vacuum.

الدليل السادس: عجز نظرية التطور
تاريخ النظرية
في منتصف القرن الثامن عشر، بدأ ظهور بعض التفسيرات المادية لنشأة وتطور الكائنات الحية على الأرض، وذلك بالتزامن مع انتشار الأفكار العلمانية في أوروبا وحرص العلماء التجريبيين على البحث عن نظريات جديدة لتفسير ظواهر الطبيعة خارج إطار الكنيسة التي احتكرت المعرفة طوال قرون، وكان من أهم المحاولات المبكرة كتاب “زونوميا أو قوانين الحياة العضوية”، الذي كتبه العالِم البريطاني إرازموس داروين عام 1768 ووضع فيه تأملاته الفلسفية حول نشأة الحياة من الأصداف التي شاع اكتشافها في الحفريات، لكن إرازموس لم ينشره لعدم جاهزية بريطانيا بعد لتحدي الكنيسة، والراجح أنه لم يكن ملحداً إلا أنه اعتقد أن دور الإله توقف عند الخلق لتتطور الكائنات وحدها تلقائياً.

جورج دي بوفون

وفي فرنسا التي كانت تتهيأ لثورة عارمة، نشر عالِم الطبيعة جورج دي بوفون كتاب “التاريخ الطبيعي” عام 1780، واقترح فيه أن الكائنات الحية تطورت عن أسلاف مشتركة.

سرعان ما تأثر كثير من المثقفين المتمردين على الكنيسة بنظرية دي بوفون، ودافع عنها بشراسة الفيلسوفان الفرنسيان بارون دولباخ ودينيس ديدرو، حيث وضعا على أساسها نظرية فلسفية تقترح تطور المادة عشوائيا لاكتساب الحياة بدون خالق.

وفي عام 1789 انفجرت الثورة الفرنسية وحملت معها كل الأفكار المادية لتطفو على السطح، فتجرأ إرازموس داروين في بريطانيا على نشر أفكاره، وطرح كتابه “حب النبات” على الجمهور، وقال فيه “لعل كل منتجات الطبيعة في طريقها إلى كمال أعظم”.

وبدوره، حاول عالم الأحياء الفرنسي جان باتيست لامارك تطوير الأفكار المادية الصاعدة في كتابه “التاريخ الطبيعي للحيوانات اللافقارية” الذي نشره عام 1820، حيث رصد أشكال التشابه بين الأجناس المختلفة، واقترح أن يكون لاستخدام الأعضاء أو عدم استخدامها دور في ظهورها وضمورها، كما حاول أن يربط بين تأثير البيئة وتغيراتها وبين ظهور أو اختفاء تلك الأعضاء، ثم تصور أن الآباء يورثون تلك التغييرات في أعضائهم للأبناء لتنشأ أشكال جديدة من المخلوقات.

ومثل جميع الأطروحات المماثلة، كانت نظرية لامارك أقرب إلى الفلسفة من التجريب، لكنها حظيت بالقبول النفسي من المتمردين على الدين، ولا سيما في فرنسا التي كانت قد نجحت ثورتها للتو على الإقطاع والكنيسة، فبذل مزيد من العلماء جهدهم لوضع الإلحاد في إطار علمي مقبول، ومنهم إيتيان جوفري.

في المقابل، لم يتوان علماء آخرون عن المواجهة، مثل جورج كوفييه الذي يعد من مؤسسي علوم الحفريات والتشريح في العصر الحديث، حيث نشر في عام 1812 كتابه “خطاب تمهيدي” الذي أكد فيه أن التغييرات البسيطة في الكائنات الحية تتطلب تغييرا موازيا في الكثير من أجهزتها وأعضائها بالوقت نفسه، وقال إن معجزة التغيير الموازي في كل الأجهزة وفي نفس الوقت لا تختلف عن معجزة الخلق الإلهي التي يرفضها التطوريون.

وقد دخل كوفييه في مناظرة مع جوفري لعدة أسابيع, وتمكن كوفييه من نقض أدلة خصمه وكبح جماح نظرية التطور قليلاً، إلا أن الدعم الأكاديمي كان موجها للتطور المادي فقط.

إرازموس داروين

هناك العديد من الكتابات التي يرى أصحابها أن الداروينية ارتبطت منذ ظهورها بالجمعيات السرية، ويستشهد أصحابها بهذه العبارة التي جاءت في البروتوكول الثاني من بروتوكولات حكماء صهيون: “لا تتصوروا أن تصريحاتنا كلمات جوفاء، ولاحظوا هنا أن نجاح داروين وماركس ونيتشه قد رتبناه من قبل، والأثر غير الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في الفكر الأممي سيكون واضحاً لنا على التأكيد”. وبغض النظر عن صحة نسبة هذه البروتوكولات لجمعيات سرية، فإن العديد من مؤسسي وداعمي فكرة التطور كانوا أعضاء مرموقين في الماسونية، مثل الفرنسي ديدرو، أما إرازموس داروين فتؤكد المراجع الماسونية الرسمية أنه كان من أعضاء محفل “بوابة كانون” في أسكتلندا [انظر: http://freemasonry.bcy.ca]، وبعض المراجع تقول إنه كان أستاذا للمحفل من الدرجة الثالثة والثلاثين، ومن ثم فقد ورّث مهمته إلى ابنه روبرت، والذي ورثها بدوره إلى ابنه تشارلز داروين، واليوم يطلق اسم داروين على أحد المحافل الماسونية في أستراليا.

ويربط الكثير من الباحثين بين الداروينية وآثارها السياسية والاجتماعية، بدءا من مراسلات قيل إنها حدثت بين داروين الحفيد وماركس، ووصولا إلى الاستغلال الحرفي لنظرية التطور في تبرير مذابح العرق الأبيض “الأرقى داروينيا!” للشعوب السوداء والملونة [انظر مقال الشيوعية]، ولعل الباحث التركي المعروف باسم هارون يحيى من أشهر الكتّاب الذين كشفوا هذا الجانب الأسود للداروينية [انظر: http://www.harunyahya.com/]

تشارلز داروين

في عام 1859، برز اسم تشارلز داروين حفيد إرازموس مع نشر كتابه المشهور “أصل الأنواع”، والذي جمع فيه خلاصة تأملاته وملاحظاته بعد رحلة طويلة حول العالم على متن سفينة “بيغل”، وحاول أن يثبت تطور جميع الكائنات الحية -باستثناء الإنسان- من خلية بسيطة عبر آلية الانتخاب الطبيعي، فزعم أن الفرد القوي يستطيع النجاة من الكائنات المفترسة ومصاعب الحياة ليعيش ويورّث عوامل قوته لسلالته، بينما تنقرض الأفراد الضعيفة وتتلاشى، ليستمر بذلك تصاعد السلالات وتطورها، وكلما احتاجت الكائنات إلى مهارة جديدة (مثل الخروج من الماء والسير على اليابسة) تطورت أعضاؤها لتحقق تلك الوظائف الجديدة، مثل تطور زعانف السمكة إلى أطراف تساعدها على الزحف.

كان داروين يدرك أن نظريته تفتقر لأدلة محسوسة، فالنظرة العلمية لأصل الحياة كانت بدائية في عصره قياسا إلى علوم البيولوجيا اليوم، إذ لم يكن الحمض النووي قد اكتُشف أصلا، وكانت فكرة العلماء عن الخلية لا تعدو كونها مجرد مادة هلامية أولية تتكاثر بالانقسام، كما لم تكشف الحفريات في ذلك العصر عن دلائل لل��طور، لا سيما وأن تنوع الكائنات يتفرع إلى أكثر من 8 ملايين نوع من الكائنات الحية، فأوضح داروين في كتابه بصراحة أن نظريته لن تثبت ما لم تظهر الحفريات التي تؤكد التطور، وعلّق الأمر على الاكتشافات المستقبلية.

وفي عام 1871، طوّر داروين فكرته وجعلها شاملة للإنسان أيضا، وقال في كتابه “انحدار الإنسان وعلاقة الانتقاء بالجنس” إن الإنسان انحدر من سلف مشترك مع الكائنات الحية الأخرى، فعارضه عدد من زملائه الذين كانوا على وفاق مع طرحه الأول، لكن النظرية كانت ولاتزال المبرر الوحيد لأي طرح إلحادي لنشأة الحياة، ولا سيما حياة الإنسان.

نقد نظرية التطور
ربما لم تحظ نظرية أخرى في كافة العلوم بمثل ما حظيت به نظرية التطور من جدل، فهناك عدد يصعب حصره من الكتب والأبحاث والأفلام والمقالات التي تحاول نقضها أو إثباتها، فالنظرية لم تكن منذ نشأتها مجرد محاولة لتفسير ظاهرة علمية بل كانت ولا تزال أداة أديولوجية للصراع بين المؤمنين والملحدين. وسنعرض فيما يلي بإيجاز شديد أهم الانتقادات التي تثبت ضعف النظرية:

أولا: من أهم الانتقادات لفرضية الانتخاب الطبيعي، والتي تفترض مثلا أن تنجو الغزلان السريعة وتنقرض الضعيفة تحت أنياب الحيوانات المفترسة، أن أثر الانتخاب المزعوم لا يمكن إلا أن يكون محدوداً، فالكائنات القوية موجودة أصلاً ولا علاقة لنجاتها بظهور صفات جديدة لم تكن موجودة في نوعها، مما اضطر داروين إلى خلع صفات العقل والتفكير على الانتخاب الطبيعي وجعل الأمر يبدو وكأن هناك مربي ماشية يخلط بين الأنواع الموجودة لديه للخروج بتشكيلات هجينة، فيقول “من أجل الإيجاز، فإني أحياناً أتحدث عن الانتخاب الطبيعي كقوة ذكية، وبنفس الطريقة التي يتحدث بها الفلكيون عن قوة الجاذبية في التأثير على الكواكب، أو كما يتحدث الزراعيون عن رجل يصنع سلالاته المحلية بقوة اختياره” [The origin of species, P. 6-7].

وقد اعترف عدد من علماء التطور بالافتقار للأدلة، ومنهم كولن باترسون الذي قال “لم ينتِج أي أحد نوعاً بواسطة آليات الانتخاب الطبيعي، بل لم يقترب أحد منه، ويدور معظم الجدل الحالي في إطار الداروينية الجديدة حول هذه المسألة” [Colin Patterson, “Cladistics” Interview with Brian Leek, Peter Franz, March 4, 1982, BBC].

ثانيا: أدرك داروين مبكرا أن نظريته لن تستطيع تفسير وجود الجَمال، فالجمال لا يفسر من ناحية تكوينه وغايته بالعشوائية والصدفة، خصوصاً أن بعض الأسماك والكائنات البحرية التي تعيش في أعماق مظلمة تعد آية في الجمال، فلمَن كان هذا الجمال طالما أنه لا يراه أحد؟

لذا قال داروين في رسالة بعثها إلى صديقه أسا غراي في 3 أبريل 1860م “أما الآن، فبعض التركيبات الواضحة في الطبيعة تزعجني، مثلاً رؤية ريش الطاووس تمرضني”. [نص الرسالة رقم 2743 في مشروع تجميع رسائل داروين بجامعة كامبردج: اضغط هنا].

ثالثا: اعترف داروين باستحالة تطور الغرائز، وخصوصاً تلك التي ترتبط بها نجاة الكائن من الموت أو نجاة الوليد نفسه أو الأبناء، فالملاحظة تؤكد وجود تلك الغرائز مع الاستعداد للتعلم، فإما أن توجد الغريزة كاملة فينجو بها الوليد وإما ألا توجد فيموت، ولا مكان للتدرج والتطور هنا. كما لم يكتشف أحد حتى الآن أي تمثيل جيني لتلك الغرائز في الكائنات، ولا لكيفية انتقالها من الآباء إلى الأبناء، وخصوصاً لدى الكائنات التي لا تتزاوج أصلاً مثل النحلة الشغالة، لذا قال داروين إن “هناك غرائز كثيرة مُحيرة إلى حد أن تصورها ربما سيعطي قرائي القوة الكافية لإفساد نظريتي بكليتها” [The origin of species, P.233].

نظرية التطور تعجز عن شرح أساليب التمويه التي تتمتع بها الكثير من الكائنات الحية، فما هي الآلية التي لجأت إليها هذه العظاءة لإدراك العلاقة بين شكلها وشكل بيئتها ثم قامت بتعديل شكلها على مدى أجيال لتصل إلى هذا التطابق كي تمنع الحيوانات المفترسة من رؤيتها؟

تقوم فلسفة التطور جذريا على غريزة البقاء Self-preservation، فهي تفترض أن جميع الكائنات الحية -من البكتيريا إلى الإنسان- تشترك في هذه الغريزة، فهي تسعى إلى الغذاء والتكاثر ومقاومة الموت بشكل غريزي، بل يكاد يكون هدف وجودها هو البقاء على قيد الحياة لأطول مدة ممكنة مع ترك بذور حياة السلالة لتبقى من بعدها على قيد الحياة.

وبقليل من التأمل، يبدو أن هذه الغريزة ليس لها أي مبرر مادي، فحتى لو أثبتنا أن الصدفة وقعت فعلا ونقلت مادة جامدة إلى الخلية الحية الأولى؛ فكيف نفسر نشأة غريزة حب الحياة وما يستلزمها من بحث عن الغذاء وطرح الفضلات ومقاومة عوامل الفناء والسعي للتناسل؟

يقول عالم الجينات فرانسيس كولينز إننا لا نعرف كيف نشأت أصلا الكائنات الحية القادرة على إعادة إنتاج نفسها، فليست لدينا فرضية واحدة تقترب من تفسير ما قامت به بيئة ما قبل الحياة لإنشاء الحياة في غضون 150 مليون سنة فقط [The Language of God, p. 90].

رابعا: استحالة صدْفية الحمض النووي: يمكن القول إن هذا النقد هو الدليل الأقوى على تهافت نظرية التطور، وأنه يقدم أقوى دليل علمي يقيني على ضرورة وجود إله. فبعد عشرات السنين من وضع النظرية على يد داروين تبين للعلماء أن تعقيد بنية الخلية الحية لا يمكن أن يسمح للنظرية بالاستمرار على النحو الذي تخيله داروين عندما كان يرى الخلية مجرد كتلة بروتوبلازمية هلامية يمكن تكونها من مواد غير حية بالتوالد التلقائي Spontaneous generation، فهو لم يكن يعرف آنذاك أن بداخلها عالما مستقلا، فبداخل كل خلية حية من خلايا أي كائن حي توجد مصانع لإنتاج الطاقة (ميتوكندريا)، ومصانع تدعى ريبوسومات لإنتاج البروتينات التي تعتبر عماد بناء الخلية نفسها وبناء أنسجة الجسم الأخرى (حتى الشعر والأظافر وقرنية العين وسم الثعبان والإنزيمات وأجزاء من الهرمونات).

يؤكد عالم الفيزياء البريطاني بول ديفيز أن نظرة العلم إزاء الوجود تغيرت في القرن العشرين، فقد كان يُنظر إلى الجزئيات المادية على أنها أساس الكون، لكن الفيزيائيين المعاصرين يرون أن الوجود قائم أصلا على المعلومات التي جاءت المادة لاحقا لتجسيدها. وقد وضع ديفيز عدة كتب تبرهن علميا وجود خالق مدبر للكون، ومن أشهرها كتاب “عقل الإله” (1992).

يقول رئيس الأكاديمية الوطنية للعلوم في أميركا بروس ألبرتس: دائما كنا نقلل من قيمة الخلايا البدائية، ثم اكتشفنا أنها مصنع قائم بذاته، يحتوي على شبكة من خطوط التصنيع المتشابكة التي تتكون كل منها من آلات بروتينية ضخمة، وهي تحوي بذاتها أجزاء متحركة عالية التناسق مثل الآلات الصناعية التي يخترعها البشر. [العلم ووجود الله، ص 215].

وبما أن كل بروتين يتكون من سلسلة طويلة جداً من مئات أو آلاف الأحماض الأمينية، فإن تلك الأحماض لا ترتبط ببعضها بنفس ترتيبها عشوائياً لتكوين البروتينات، فاحتمال التركيب العشوائي لتكوين جزيء بروتين صغير واحد مكون من مئة حمض أميني فقط، وعبر جهاز كمبيوتر خارق (سوبر)، يستغرق من السنوات عددا يُكتب برقم “واحد” وأمامه 127 صفرا، وهي مدة تتجاوز عمر الكون كله بمليارات السنين، مع أن هناك بروتينات تتكون من 27 ألف حمض أميني وليس مئة فقط.

علاوة على ذلك، يعتمد عمل البروتينات على نظام محدد لترتيب أحماضها، فلو اختل ترتيب حمض أميني واحد فقد يؤدي ذلك إلى المرض أو الموت، مثل اختلال حمض أميني واحد في بروتين الهيموغلوبين، حيث يؤدي ذلك إلى الإصابة بمرض أنيميا فقر الدم، فهذا الجزيء يحتوي على 539 حمض أميني، وعدد احتمالات ترتيب هذا العدد يصل إلى “واحد” وأمامه 620 صفرا من الاحتمالات، لكن احتمالا واحدا فقط هو الذي يحدث دائما.

لذلك تبين أن تكوين سلسلة البروتين الطويلة في الريبوسومات من الأحماض الأمينية يأتي نتيجة “أكواد” أو رموز تشفير محمولة في الحمض النووي الوراثي DNA الموجود في نواة كل خلية، فكل ثلاث قواعد من الحمض النووي تمثل شفرة (أو كودون) لاستدعاء حمض أميني معين، وبنفس الترتيب الصحيح وإلا اختل البروتين، ويستحيل على العقل أن يتخيل حدوث هذا بالصدفة والعشوائية.

وإذا كانت فرضية التطور الأولى تقوم على تصور سطحي للخلية في عصر داروين، فقد ثبت لاحقا أن عدد الحروف البرمجية المشفرة التي يتكون منها “البرنامج” الموجود في الحمض النووي للبشر مثلاً هو ثلاثة مليارات ومائة مليون حرف، وهي مرتبة بترتيب محدد مسبقا، لذلك يشبّه مؤسس شركة مايكروسوفت بيل غيتس الحمض النووي بالبرنامج الحاسوبي مؤكدا أن تعقيده الشديد أكبر بكثير من أي برنامج كتبه البشر [ستيفن ماير، “توقيع في الخلية” Signiture in The Cell].

وإزاء هذه الاكتشافات بات التصور الدارويني الأولي لخلية تتطور في بحيرة دافئة أمرا مستحيل الحدوث، وهو ما دفع أتباعه المعاصرين لإيجاد تأويلات أخرى، حيث اعترف عالم الأحياء الملحد المعروف ريتشارد دوكينز بأنه لن يتفاجأ إذا وجد توقيع “مصمم” داخل الخلية الحية، إلا أنه سارع إلى استثناء الإله من هذه الضرورة، وقال إنه ساعتها سيقول إن هذا المصمم هو كائنات فضائية زرعت الخلية الحية الأولى على الأرض بكل ما فيها من إبداع ونظام. لكن هذا الحل الافتراضي لن يحل المعضلة، حيث سنقع هنا في مشكلة التسلسل التي أثبتنا سابقا عدم منطقيتها، وهذا ما دفع دوكينز للقول إن هذه الكائنات الفضائية بالتأكيد قد تطورت داروينياً في مكان آخر من الكون، وكأنه قام بإرجاع أصل البشر إلى أصل سابق متطور بدوره عن أصل آخر، دون أن يقدم جوابا على السؤال الأساسي: من أين أتى الأصل الأول لكل الكائنات؟ [الفيلم الوثائقي: مطرودون.. غير مسموح بالذكاء Expelled: No Intelligence Allowed ].

وعندما سأله المحاور في مجلة “تايم” روث غلدهيل عما إذا كان يستبعد أن يكتشف الفيزيائيون مستقبلا وجود إله في أحد الأبعاد، قال دوكينز إنه مقتنع بأنهم سيكتشفون شيئا مدهشا ويصعب فهمه، وأن كل التصورات اللاهوتية ستكون بسيطة بالمقارنة به، ثم استدرك وقال إن هذا الشيء لا يكفي أن نسميه بالإله وأنه لا بد أن نجد قانونا جديدا لتفسيره مثل التطور، فربما يكون قد تطور بدوره على كوكب آخر وصنع برنامجا حاسوبيا للمحاكاة ونحن جميعا جزء منه (أي كما هو الحال في سلسلة أفلام ماتريكس) [مجلة التايم، 10 مايو 2007]. وهذا يعني أن دوكينز اضطر للإقرار بوجود كائن خارق يشبه في صفاته تماما الإله الذي وصفه الأنبياء، إلا أن نفوره من “التصورات اللاهوتية” وإيمانه العقائدي بنظرية التطور يدفعه إلى جعل التطور قانونا شاملا لتفسير الوجود، وكأنه يضع قانونا وجوديا (دينيا) يحتم باستحالة نشوء الوعي بدون تطور.

ساغان

ويبدو أن اللجوء إلى فرضية التطور عن أصل فضائي باتت أكثر شيوعا لدى علماء التطور الملحدين، مع أن هذا الخيال العلمي لا يحل المعضلة وليس أكثر “علمية” من الإقرار بوجود إله، ومنهم فريد هويل الذي وضع في الثمانينات مع زميله تشاندرا ويكرامسينغي كتابا بعنوان “التطور من الفضاء”. وكذلك عالم الفلك المشهور كارل ساغان الذي سخر يوما ما من الصحفي السويسري إريك فون دانكن بسبب تأليفه كتابا خياليا يحاول البحث عن أصل للحياة على يد كائنات فضائية بعنوان “عربات الآلهة”، ثم تحدث ساغان نفسه عن احتمال وصول الخلية الحية إلى الأرض من مكان آخر في الكون لاستحالة تشكل مكوناتها الأولى بالصدفة، مع أن عمر الكون كله لا يكفي لذلك.

خامسا: لا يوجد دليل واحد حتى الآن على حدوث التطور الماكروي (الكبير)، أي الانتقال من صنف إلى صنف عن طريق الانتخاب الطبيعي، فمع أن الجدل ما زال قائما حول صحة التطور الميكروي (الصغير) داخل الأصناف نفسها، أي حدوث تعديلات في بعض السلالات مثل التغير في سلالة إحدى الأسماك، إلا أنه لم يثبت تطور أي صنف من الأسماك إلى صنف برمائي آخر، بل يؤكد باحثون معاصرون أن هذا مستحيل.

ومنذ ظهور نظرية داروين يحاول الباحثون إخضاعها للتجربة أو حتى إثباتها بالملاحظة، فإذا بحثنا في أجساد ملايين البشر الذين يجرون تعديلات “طقوسية” على أجسادهم على مدى آلاف السنين، مثل ختن أولاد المسلمين واليهود، والتعديلات “الجمالية” التي تقوم بها نساء القبائل المختلفة في أفريقيا وآسيا، سنجد أن الأجيال التالية تولد دائما خالية من أي تغيير.

وكذلك حاول ريتشارد لينسكي من جامعة ميتشيغان أن يثبت تطور البكتيريا، وهي أبسط الكائنات الحية، فظل يراقب نشوء 40 ألف جيل منها طوال 20 سنة، لكنه لم يجد تغيرا مفيدا في أي جين من جيناتها.

لذا يقول أستاذ علم الجراثيم بجامعة بريستول آلان إتش لينتون إنه بعد 150 عاما من نشوء علم الجراثيم، لم يتمكن أي عالم حتى الآن من إيجاد دليل واحد على أن نوعا واحدا من أنواع البكتيريا قد تغير إلى آخر، وذلك بالرغم من تعرضها لطفرات كيميائية وفيزيائية قوية، وبما أنه لا يوجد دليل على تطور الأنواع في أبسط أشكال الحياة وحيدة الخلية، فمن المنطقي إذن عدم وجود دليل على التطور من الكائنات بدائية النواة إلى حقيقية النواة، ناهيك عن جميع الكائنات الحية الأعلى المتعددة الخلايا [المصدر: Alan H. Linton: “scant search for the maker”, Times Higher Education Supplement, April 20, 2001, 29].

ويجدر بالذكر أن داروين الذي لم يستطع تقديم برهان علمي على صحة فرضيته، لجأ إلى مغالطة على هيئة تحدّ مقلوب، فقال في كتابه “أصل الأنواع” إنه إذا ثبتت استحالة تطور أي عضو فإن نظريته ستنهار، وكأنه يطالب المشككين بإثبات استحالة فرضية لم تثبت، وقد تابعه في هذه المغالطة دوكنز أيضا. لكن الأصل في العلم هو أن يُثبت واضع النظرية صحة دعواه أولا، بدلا من مطالبة الآخرين بإثبات خطأ الاحتمالات الأخرى، فعلى داروين وعلماء التطور أن يثبتوا عشوائية التطور قبل مطالبة الآخرين بإثبات العكس.

سادسا: استحالة التطور وفق مفهوم “التعقيد غير القابل للاختزال”، فبالرغم من المغالطة الكامنة في الطرح الذي قدمه داروين في الفقرة السابقة، فقد قبِل البروفسور في جامعة ليهاي الأميركية مايكل بيهي التحدي عام 1996، ووضع في كتابه “صندوق داروين الأسود” أدلة تثبت عجز أنصار داروين عن تفسير “عشوائية التطور” المفترضة، وضرب عدة أمثلة تثبت استحالة التطور، ومن أهمها تعقيد سوط البكتيريا المكون من ثلاثة أجزاء لا بد أن “تُخلق” معا ليكون الذيل قادرا على العمل وتحريك البكتيريا، كما حسب احتمال نشوء هذا السوط بالصدفة فوجد أنه يمثل 1 إلى “عشرة أس 1170”.

مايكل بيهي (The Maine Campus)

وأكد بيهي من خلال دراسته للخلايا البسيطة أن الأنظمة الكيميائية الحيوية لا يمكن أن توجد بالصدفة ولا الضرورة، بل أنشأها “مصمم” كان يعرف الشكل الذي ستؤول إليه عند اكتمالها، فهي معقدة تعقيدا لا يقبل الاختزال لكونها مؤلفة من أجزاء متفاعلة وشديدة التناسق لتحقيق وظيفة واحدة، وهو أمر لا يمكن إنشاؤه بإحداث تطوير طفيف وتدريجي كما يفترض التطوريون، فأي تغيير على نظام لا يقبل الاختزال سيعطله كله عن العمل. ويُعد مفهوم “التعقيد غير القابل للاختزال” إثباتاً تجريبياً رصيناً للملاحظة التي طرحها من قبل جورج كوفييه في القرن التاسع عشر كما ذكرنا سابقاً.

وبعد استنفار الكثيرين للرد على كتاب بيهي، وضع الأخير في عام 2007 كتابا آخر بعنوان “حافة التطور”، وردّ فيه على كل الانتقادات مقدما أدلة أكثر رسوخا على استحالة نشوء مكونات الخلية الحية بالانتخاب الطبيعي العشوائي.

يقول بيهي في هذا الكتاب إن أفضل اختبار لفرضية داروين على الإطلاق هو تاريخ الملاريا، فقد حدثت مئات الطفرات التي تزود الإنسان بالمقاومة ضدها في الجينوم البشري (خريطة الجينات)، ثم انتشرت بين أفراد الجنس البشري بالانتخاب الطبيعي، لكن دراسة هذا التطور المفترض تثبت ما يلي:

  • التطور الدارويني غير متسق ومقيد.
  • التصور المسبق لدى الداروينيين بأن الطفيل (الملاريا) والعائل (الإنسان) يدخلان في سباق تسلح ويسفر عن تطور الجانبين ليس صحيحا، فالصراع أدى إلى تدهور بدلا من التطور.
  • الطفرة العشوائية التي يُفترض أن تؤدي إلى تطور كانت تنهار بعد فترة قصيرة من ظهورها بدلا من الثبات وتحسين النسل، كما أن نسبة حدوث طفرة عنقودية تتطلب منا الانتظار مئة مليون سنة مضروبة في عشرة ملايين سنة، وهي مدة تزيد عن عمر الكون.
  • البيانات الهائلة المتوفرة لدينا عن صراع الإنسان مع الملاريا تثبت عجز التطور الدارويني عن التفسير.

ويضيف بيهي أن فرضية داروين ظهرت في مرحلة لم تكن فيها التجارب والملاحظات قادرة على الإثبات أو النفي، لكن الطبيعة قدمت لنا في السنوات الخمسين الأخيرة دورات لحياة الملاريا وفيروس الأيدز بما يفوق قدرة المختبرات مليار مرة، وأثبتت لنا أن الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي لا يمكن أن ينشئا آلة بيولوجية متسقة إطلاقا.

سابعا: لم تقدم الحفريات حتى الآن أي دليل على صحة فرضية التطور، وقد أدرك داروين من البداية أن سجل الحفريات ليس في صالحه فتساءل “لماذا لا تزخر كل طبقة جيولوجية بالحلقات المتوسطة (الانتقالية من صنف إلى صنف)؟ من المؤكد أن الجيولوجيا لا تكشف عن أي سلسلة عضوية متدرجة، ويبدو أن هذا هو أوضح وأخطر الاعتراضات المثارة ضد نظريتي”.

وبعد مرور قرابة 150 سنة على ظهور الكتاب، وبالرغم من التنقيب الكثيف في معظم طبقات الأرض التي تسجل حفريات الكائنات الحية، لم تظهر الحفريات التي تجسد بدقة التحورات المفترضة بين الكائنات المتطورة من نوع إلى آخر، ولم يُعثر سوى على ظهور مفاجئ لكل نوع على حدة ثم استمراره على ما هو عليه.

يقول العالِم في متحف فيلد للتاريخ الطبيعي ديفيد روب إن المعرفة بسجل الحفريات ازدادت كثيرا منذ عصر داروين، حيث أصبح لدى العلماء ربع مليون من الأنواع المتحجرة، ومع ذلك فإن الوضع لم يتغير كثيرا، وما زال سجل التطور متقطعا، بل إن المتوفر اليوم من الأشكال الانتقالية أقل مما كان مُعتمدا في عصر داروين [العلم ووجود الله، ص 198].

ويؤكد العالم ستيفن غاي غولد أيضا أن حفريات الأنواع المتحجرة تثبت أن معظم تلك الأنواع ظهرت بشكل مفاجئ ومكتمل التكوين دون أن يطرأ عليها تغير تدريجي من الأسلاف، كما أنها احتفظت بشكلها كما هو حتى انقرضت [المرجع السابق، ص 199].

وبالنتيجة، اقترح بعض علماء الأحياء تعديلات على النظرية، فخرج غاي غولد ونيلز إلدردج في عام 1972 بفكرة التوازن النقطي أو المتقطع Punctuated Equilibrium، وهي تفترض أن الكائنات الحية تمر بفترات مستقرة لا تظهر فيها أنواع جديدة، ثم تظهر فترات تطور مفاجئ لتتشعب فيها الأنواع الجديدة.

لكن فرضية غولد وإلدردج لا زالت تعتمد على المصطلحات الافتراضية لنظرية داروين الأولى مثل قد وربما وإذا كان ومن الممكن واحتمال، فضلا عن أنها غير مُبررة منطقيا ولا تجريبيا، فما الذي يدفع آلية التطور -إن وُجدت- إلى المرور عشوائيا بمراحل سكون وانطلاق طالما كانت سيرورة الحياة وتحدياتها قائمة في كل مراحل التاريخ الطبيعي؟

إذن مازال افتراض حدوث التطور أقرب إلى الفرضية الفلسفية التي لم تتحقق بالرصد أو التجربة، وقد يصل الأمر ببعض العلماء الباحثين عن أي دليل إلى وضع افتراضات لسيناريوهات غير منطقية، مثل محاولة تفسير ظهور الحليب لدى الثدييات عبر الصدفة بأن المواليد كانوا يلعقون عرق الأمهات، ثم تطور هذا العرق مع مرور الوقت إلى حليب، وبالرغم من الاختلاف الكبير بين العرق الذي يعد من مخلفات الجسم وبين الحليب الذي لا يضاهيه أي غذاء أو مضاد حيوي طبيعي للمولود، فإن الفرضية لا تستند إلى أي مبرر علمي، كما أنها لا تفسر ظهور “منعكس المص” الفطري لدى المواليد الجدد الذين يبادرون إلى التقام الثدي والرضاعة فطريا دون تعليم. [Mr. Tompkins Inside Himself, p. 149].

رسوم إرنست هيغل

ومن المؤسف أن اندفاع بعض العلماء لمحاولة تبرير النظرية، بعد أن أصبحت الملاذ الوحيد للإلحاد، دفعهم إلى تلفيق بعض الأدلة، مثل رسوم إرنست هيغل لتشابه الأجنة المبكرة بين الإنسان وحيوانات مائية وبرمائية وزواحف وطيور، وهو ما ثبت زيفه وأجبره على الاعتراف في عام 1908م، إلا أنه ظل معتَمدا لدى بعض الكتب العلمية حتى وقت قريب. ونذكر أيضا تلفيق جمجمة “إنسان بلتداون” التي جمعت قحفا بشريا (تمت معالجته كيميائيا ليبدو قديما) مع فك قرد أورانغتان، حيث اعتُمدت هذه الجمجمة كدليل على الحلقة المفقودة لتطور الإنسان في بعض المتاحف قرابة 40 عاما.

وهناك حالات أخرى لتزوير عظام “إنسان جاوه”، والذي لم تُكشف حقيقته إلا بعد نحو 30 سنة، وكذلك وضع تصور لما سمي بإنسان نبراسكا بناء على ضرس واحد، حيث اتضح بعد عامين أنه ضرس خنزير بري، فضلا عن أمثلة أخرى كثيرة لأسماك قيل إنها أسلاف البرمائيات والزواحف، وطيور منقرضة قيل إنها ديناصورات طائرة.

أمثلة لأهم الكتب التي صدرت في المكتبات الغربية لنقض نظرية التطور خلال العقود الماضية

من أهم الكتب التي ناقشت “التصميم الذكي” في الثمانينات

التصميم الذكي
إزاء قصور نظرية التطور عن تفسير الكثير من الظواهر، أصبح الكثير من العلماء يؤمنون بأن الحياة بدأت وفقا لتصميم وضع بذكاء، وبغض النظر عن ماهية المصمم الخالق باعتبار أن صفاته شأن ديني، لكن المنابر الإعلامية لا يتصدرها اليوم سوى التطوريون الذين يرون أن مجرد القول بوجود تصميم ذكي هو قول ديني خارج عن العلم.

في عام 1982، ناقش القضاء في ولاية أركانساس الأميركية دعوى رُفعت للسماح للمدارس بتدريس نظرية التصميم الذكي إلى جانب نظرية التطور، واستنفر الإعلام والمثقفون للمساهمة في الجدل العنيف حول مدى “علمية” نظرية التصميم الذكي، وتضمنت القضية وضع النظرية أمام اختبارات أربعة:

  • الخضوع للملاحظة: فالتطوريون قالوا إن نظرية الخلق لا يمكن ملاحظتها، وكان الرد بأن هناك تصورات علمية كثيرة لا تخضع للملاحظة مثل مكونات الذرة، إلا أن آثارها قابلة للرصد وهي قادرة على تفسير الظواهر العلمية، بل إن التطور من نوع إلى نوع هو مجرد تصور لم يخضع للملاحظة أبدا.
  • التكرار: يطالب التطوريون بضرورة تكرار الخلق ليتمكنوا من دراسته، مع أن نظرية الانفجار العظيم لا يطبق عليها هذا الشرط، بل إن بدء الحياة وفقا لمفهوم التطور أمر لا يمكن تكراره.
  • الاختبار: أعلن القاضي أن التصميم الذكي لا يمكن اختباره علميا، وبنفس الوقت استشهد بمرافعة التطوريين عندما قالوا إنه ثبت خطأ التصميم، فكيف ثبت خطؤه مع أنه لم يخضع للاختبار؟!

وقد مال القاضي إلى التطوريين انطلاقا من ضيق مفهوم العلم في الفلسفة الطبيعية التي تسيطر على الثقافة الغربية، فهي تنطلق من حقيقة أن العلم يقتصر على الأسباب الطبيعية والظواهر القابلة للاختبار الحسي والرياضي، إلا أنها تصر على أن يخضع الكون كله لأدوات اختبار العلم على اعتبار أنه ليس في الوجود سوى مادة وطاقة.

ولو أن العالِم الطبيعي -بالمفهوم الغربي- اقتصر على تفسير الظواهر لكان هذا محل اتفاق، إلا أنه يصر على البحث في أصول الظواهر معتبرا أن علمه صار بديلا عن الدين والفلسفة، وهو يحكم مسبقا على الكون بأنه يجب أن يكون ماديا، ليس لأنه قد ثبت له بأدواته المادية أن الكون حقا كذلك، بل لأن أدواته عاجزة أصلا عن البحث فيما وراء المادة.

وهذا المفهوم القاصر والمتضخم أصبح أساسا لمغالطة شائعة وهي وضع أي ظاهرة ميتافيزيقية في عالم التأجيل، فيقال إننا إذا عجزنا اليوم عن تفسير المعجزات والسحر وما يظهر من عالم الجن فيجب أن نؤجل الأمر إلى وقت غير مسمى أملا في أن يجد العلم الطبيعي المادي تفسيرا لها، والواقع أن العلم يكتشف المزيد من الحقائق التي تزيد من حيرة العلماء بدلا من العكس.

وعندما يقول العالِم إن وراء هذا الخلق تصميما ذكيا فهو لا يسند الخلق إلى إله على اعتبار أنه حدث أول بل هو السبب الأول، فإسناد التعقيد المتفرد في الحمض النووي إلى جهة “عاقلة” هو قرار علمي ضروري وليس هروبا إلى الأيديولوجيا الدينية، أما إنكار الخلق وانتظار ظهور تفسير “علمي” في أجل غير مسمى فهو هروب مؤدلج إلى احتمال غير مؤكد لمجرد النفور من الدين.

يقول الفيلسوف ريتشارد سوينبرن في كتابه “هل هناك إله؟” إن الحديث عن وجود الله هو ليس افتراضا كالذي يتصوره الملحدون تحت مسمى “إله الفجوات”، أي إلهاً وهمياً لتفسير الظواهر التي لم يكتشفها العلم بعد، بل هو إله ضروري يفسر قدرة العلم نفسه على التفسير، فنحن نقر بأن العلم قادر على التفسير لكن الإله هو الذي يفسر لنا سر تلك القدرة التفسيرية للعلم، وهذا يعني أن نجاح العلم يزيد من قوة إيماننا بالله وليس العكس، فكلما ازداد علمنا اكتشفنا أن الكون يتسم بنظام دقيق وأن هناك مسببا له، أما الملحدون فيصرون على تصور الإله على أنه بديل للعلم ويحاججون المؤمنين بناء على هذا الوهم [العلم ووجود الله، ص 82].

جورج والد

عندما حاول عالم الأحياء الملحد جورج والْد الرد على استحالة التوالد التلقائي بالصدفة والعشوائية، قال إنه يمكن للطاولة التي يكتب عليها أن ترتفع فجأة في الهواء إذا تصادف عشوائيا أن تتحرك جميع جزيئات الطاولة (التي تتحرك مكونات ذراتها باستمرار) مرة واحدة إلى الأعلى [Scientific American, Aug. 1954, p. 47]، وهو نفس المثال الذي لجأ إليه ريتشارد دوكينز عندما قال إنه ليس من المستحيل أن تجد ذراع تمثال السيدة مريم يلوح لك، وذلك إذا تحركت جزيئات يد التمثال كلها في اتجاه واحد، بالرغم من أنه طلب من أحد أصدقائه الفيزيائيين حساب إمكانية ذلك فقال له إن عمر الكون كله لن يكفي لكتابة أصفار هذا الاحتمال الضئيل [The Blind Watchmaker, p. 159- 160].

الدليل السابع: فطرية اللغة
تفترض النظريات القائمة على التطور أن اللغات تطورت بدورها عن أصوات بدائية للكائنات الدنيا، وأن حناجر أسلاف الإنسان كانت أشبه بحناجر أطفال عصرنا التي لا يكفي بلعومها القصير لإصدار الكلام الواضح، وأن مراكز النطق لم تكن قد نضجت في أدمغتهم، لكن عالم الأنثروبولوجيا إيان تاتيرسل يقول إن الانتخاب الطبيعي العشوائي يعجز عن تفسير ظهور مراكز النطق والممرات الصوتي في الحناجر قبل أن ينطق “أسلاف الإنسان” بمدة طويلة.

تشومسكي (Duncan Rawlinson)

وفي ستينيات القرن العشرين، أكد عالم اللسانيات الأميركي ناعوم تشومسكي وجود نظام جيني في عقل الطفل منذ ولادته لاكتساب اللغة، فهو يتعلم المفردات من البيئة المحيطة ويكون جاهزا لتشكيلها بمفردات واشتقاقها على هيئة فعل ومفعول وفاعل ثم ربطها بالزمن.

وأكد تشومسكي أيضا أن هذا النظام عالمي، فالجنس البشري يتعامل مع اللغة بطريقة متماثلة مع اختلاف اللغة، ويقول تشومسكي إن اللغات نشأت في لحظة انفجار لغوي عظيم، قياسا على نظرية الانفجار العظيم التي تفسر نشأة المادة، ولا يمكن أن تكون قد تطورت عن أصوات بدائية. كما يعبر زميله ستيفن بنكر في معهد ماساتشوستس للتقنية في كتابه فطرة اللغة: “إذا زار عالم لغويات من كوكب المريخ الأرض فسيستنتج أن أهل الأرض جميعا يتكلمون لغة واحدة، باستثناء بعض الكلمات غير ذات المعنى”.

تعد قصة الفيلسوف البريطاني أنتوني فلو من أشهر قصص الانتقال من الإلحاد إلى الإيمان في العصر الحديث، فبعد نشأته في بيئة متدينة قرر في سن المراهقة معاداة الأديان واختيار الإلحاد، وكانت معضلته الأولى مع وجود الإله هي وجود الشر في العالم، وظل حتى سن الثمانين من أكثر المؤيدين للإلحاد عنادا.

ترددت أنباء عن احتمال انقلابه على الإلحاد منذ عام 2001، إلا أنه أنكر ذلك، ويبدو أن إلحاده لم يصمد أمام عقله الذي لم يكف عن المراجعة، فكانت لديه الجرأة الكافية لإعلان إيمانه بالله في عام 2004، ما أثار ضده الكثير من زملاء الماضي ووسائل الإعلام.

وفي عام 2007، اختتم فلو رحلته الفكرية الطويلة بالكتاب الصادم “هناك إله: كيف غيّر أشرس ملحد رأيه”، وأوضح أن إيمانه بضرورة وجود إله يعود إلى الأسباب الخمسة التالية:

1- فشل العلماء والفلاسفة في إثبات نشأة العالم المادي من العدم بمعزل عن إله خالق.

2- الطبيعة تسير وفق قوانين ثابتة مترابطة ويمكن كتابة كل صيغها الرياضية في صفحة واحدة، ولا بد أن هناك مصدرا عاقلا وضع هذه القوانين.

3- كل قوانين الطبيعة تعجز عن تفسير نشأة الحياة من مادة صماء، ومن المستحيل أن نفسر الغائية والذكاء بالعشوائية والصدفة.

4- كلما ازدادت معرفتنا بالكون نكتشف أنه قد تم إعداده بذكاء لاستقبال البشر، وكل النظريات التي وضعها العلماء لتفسير هذا الإعداد المحكم -كنظرية الأكوان المتعددة- كانت مثيرة للسخرية.

5- لا يمكن للغة الكهروكيميائية للمخ -والتي توجد في بقية الخلايا الحية- أن تفسر قدرات العقل البشري، فلا بد من مصدر غيبي (إله) وراء هذ العقل المبدع.

الأٍسباب النفسية للإلحاد
بعد كل ما مر بنا من أدلة عقلية وعلمية ورياضية على ضرورة وجود إله خالق، قد يتساءل القارئ عن سبب استمرار وجود الإلحاد وانتشاره بين كثير من العلماء والمفكرين في هذا العصر. وللرد على هذا الإشكال لا بد أن نذكّر هنا بمغالطات الاحتكام إلى الأكثرية وإلى السلطة وإلى الحداثة [انظر مقال المغالطات المنطقية]، فكثرة الملحدين لا تعني بالضرورة أن يكونوا على حق، واعتناق علماء العلوم الطبيعية فكرة أيديولوجية ما ليس دليلا على صحة معتقدهم الخارج عن تخصصهم الدقيق، كما أن حداثة فكرة ما (الإلحاد) ليست مؤشرا على أنها الرأي الصائب [انظر مقال مصادر المعرفة].

ومن الواضح أننا نسلّم للعلماء التجريبيين بنتائج أبحاثهم عندما تتم بالنزاهة المطلوبة، لكن اقتناع أحد هؤلاء العلماء بما تؤدي إليه النتائج (مثل وجود الله) هو أمر آخر، فتاريخ العلم حافل بصراعات فكرية “أيديولوجية” بين العلماء، ولا سيما أولئك الذين يجدون صعوبة في التخلي عن نظام معرفي مألوف لصالح نظام آخر جديد مهما كانت الأدلة على صحته قوية. وقد أوضح المؤلفان روبرت أغروس وجورج ستانسيو في كتابهما “العلم فى منظوره الجديد” قصة الصراع بين النظرة العلمية القديمة (التي تعود إلى عصر نيوتن) والنظرة العلمية الجديدة (التي بدأت مطلع القرن العشرين)، فمع أن الكتاب نُشر عام 1989 إلا أن نقد المؤلفَين لتمسك غالبية العلماء بالفلسفة المادية (وما تؤدي إليه من إلحاد) مازال قائما حتى اليوم.

فإذا كان العلماء يتعصبون فعلاً لتوجهاتهم الفكرية (وهذا موقف غير علمي)، فلماذا نستبعد إذن تعصبهم لموقف مسبق تجاه الدين، ومن ثم تجاه وجود الإله نفسه؟

إذن فالأدلة العلمية التي تثبت ضرورة وجود خالق ومصمم أوجد هذا الكون لغاية مسبقة وبفعل إرادي، تبقى بحد ذاتها دليلا إرشاديا لمن يريد أن يقتنع بها من العلماء، لكن الفعل الإرادي المتمثل باتخاذ خطوة أخرى نحو الاقتناع هي سلوك بشري يخضع لرغبة العالِم الشخصية، وليست سلوكا علميا بالضرورة.

علاوة على ذلك، نجد أن الوسط العلمي لا يخلو من السلوكيات المنحرفة والشاذة التي يدينها القانون والعُرف الاجتماعي، وهو ما نجده أيضا لدى بعض أصحاب أفضل العقول وحملة جوائز نوبل، بل نجد أن الكثير من العلماء ينحازون نحو تيارات عنصرية أو فلسفات هدامة، فالنخبة العلمية في ألمانيا النازية كانت تؤيد توجهات هتلر الوحشية، وكذلك الحال في الاتحاد السوفييتي والصين حيث أبيد ملايين البشر لتحقيق الحلم الشيوعي، كما أيد الكثير من العلماء الأميركيين تصنيع أسلحة الدمار الشامل وإلقاءها على البشر، ولا يعني ذلك أن العلم التجريبي في موضع الاتهام، فما ينشأ عن إرادة أهل العلم يعود إلى قراراتهم وليس إلى العلم المجرد.

يناقش البروفسور جون لينوكس بإسهاب في كتابه “هل قتل العلم الايمان بوجود الله؟” -والذي تُرجم إلى العربية بعنوان “العلم ووجود الله”- تهافت الكثير من أقوال زملائه العلماء الملحدين، مثل مقولة الكيميائي البريطاني بيتر أتكنز “تستحيل مصالحة العلم والدين”، ويثبت لينوكس أنه لم يجد مع المئات من زملائه أي تناقض بين الإيمان والعلم، فنحن نهتم بنتائج أبحاث العلماء في تخصصاتهم التجريبية التي أثبتوا صحتها، أما معتقداتهم الشخصية فليست من العلم، سواء كانت اعتقادًا بأساطير قديمة أو إلحاداً.

ويستشهد لينوكس باستبيان أجرته عام 1996 مجلة “نيتشر” عندما سألت عشوائيا ألف عالم عن إيمانهم بإله يستجيب للعبادة وبخلود الإنسان، وهو سؤال يختلف عن مجرد الإيمان بخالق، وقد أجاب 60% منهم عن السؤال، وكانت نسبة من قالوا نعم منهم حوالي 40%، ومع أنهم ليسوا أغلبية فإن وجود هذه النسبة يكفي للقول إن العلم التجريبي ليس مرادفا للإلحاد في عقول العلماء المعاصرين الغربيين [ص 30].

ومن الجدير بالذكر أن المجلة الفرنسية “العلوم والمستقبل” Sciences et Avenir نشرت عام 1998 نتائج استبيان سئل فيه 72 عالم فيزياء عن رأيهم في نظرية تعدد الأكوان، فقال 60 % منهم تقريبا إنهم يؤمنون بها، وهي نسبة تماثل نسبة الملحدين في الاستبيان السابق، مما يرجح صحة مقولة وينبرغ المذكورة أعلاه حول كون هذه النظرية الملاذ الوحيد للملحدين.

لذا قد تكون هناك أسباب نفسية واجتماعية وأيديولوجية عديدة تدفع شخصا ما للإلحاد، وذلك بغض النظر عن ذكائه ونجاحه في مجالات عدة، فقد يتفوق الإنسان في جانب ما ويخفق كثيرا في آخر، وربما نصادف عالِما عبقريا في أحد المجالات وهو يقدّس وثنا أو يؤمن بخرافة. وسنوجز فيما يلي أهم الأسباب النفسية للإلحاد:

شعار الحركات الإلحادية

1- النفور من الدين: في عام 2011 احتفت مواقع كثيرة بإلحاد ليو بيهي، نجل مايكل بيهي الذي أشرنا سابقا إلى مؤلفاته المشهورة في نقض الداروينية، واعتبر الملحدون هذا الخبر بمثابة انتقام من البروفسور الذي أصاب التطور والإلحاد في مقتل، لكن الشاب المراهق الذي قرر أن يلحد في سن السابعة عشرة كان يقول في المقابلات التي أجريت معه إن ريتشارد دوكنز أقنعه بالإلحاد من خلال تفنيده للكتاب المقدس للمسيحيين، كما نجد في مدونة ليو أن مشكلته الأساسية هي المفهوم الكاثوليكي للدين والإله (المجسد في شخص المسيح)، وليس وجود الإله الخالق مجردا عن الكهنوت.

وتكاد هذه الظاهرة تكون الدافع الأول للإلحاد في الغرب، فالتناقض الذي أثبته الباحثون في الكتاب المقدس [انظر مقالَي اليهودية والمسيحية] منذ بدء ترجمته ونشره في عصر النهضة دفع كبار فلاسفة ذاك العصر إلى اعتبار العلم المادي المصدر البديل للمعرفة، فظهرت اللادينية (أو ما سمي بالدين الربوبي) التي تعترف بوجود إله وتنكر الوحي والأديان، ودُعمت بقوة من قبل النخبة الاقتصادية والسياسية عبر الجمعيات السرية، ثم تطور الأمر إلى إنكار وجود الإله نفسه. وقد بيّنا في مقال “مصادر المعرفة” أن العلم لا يملك الأجوبة على الأسئلة الوجودية.

واللافت أن معظم العلماء التجريبيين في عصر النهضة كانوا مؤمنين بالله، فقد وصف الفلكي يوهانس كبلر (توفي عام 1630م) دافعه للعلم بأنه “اكتشاف النظام المنطقي الذي فرضه الله على هذا العالم”، كما أن التصور الشائع عن غاليليو غاليلي بشأن إلحاده ليس صحيحا، فالمؤلفة دافا سوبيل تؤكد في كتابها “ابنة غاليليو” أنه ظل مؤمنا بالله طيلة حياته وأنه كان يعتقد بأن “قوانين الطبيعة مكتوبة بيد الإله وبصيغة رياضية”، فقد كان متمردا على تبني الكنيسة للرؤية الأرسطية وليس على الإيمان والدين. [العلم ووجود الله، ص41].

بل إن الكثير من رجال الكنيسة -وخصوصا اليسوعيين- تبنوا الفتوحات العلمية ولم يجدوا مانعا من تأويل نصوصهم المقدسة بما يوافق المنظور الجديد للفيزياء والفلك الذي طرحه نيوتن، وتخلصوا بذلك من البناء الكوني الأرسطي الذي قدسوه طوال تسعة قرون، حيث يقول البروفسور المعاصر جون بروك، وهو أول أستاذ للعلوم والدين في جامعة أوكسفورد: “إن المفاهيم العلمية التي آمن بها الرواد غالبا ما كانت تثريها معتقدات لاهوتية وميتافيزيقية” [العلم ووجود الله، ص38].

وإذا كان هذا هو حال الصراع بين مؤسسة الكنيسة والتجريبيين في أوروبا، فإن تعميم التجربة على أديان أخرى ليس صحيحا، فالعلماء المسلمون لم يواجهوا تحديا مماثلا في القرون الوسطى التي شهدت ذروة الحضارة الإسلامية، بل لم يثبت إلحاد أي منهم بمعنى إنكار الإله على النحو المعروف اليوم، وإن كان بعضهم قد تبنى مذاهب وفلسفات وأديانا أخرى.

ومع تجدد موجة الإلحاد في العصر الحديث تحت مسمى الإلحاد الجديد The New Atheism، والذي انطلق إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، أصبح من الواضح أن الدافع الرئيس للإلحاد هو معاداة الدين، فمعظم كتابات أقطاب هذه الظاهرة، مثل ريتشارد دوكنز وسام هاريس ودانييل دِنيت، مشغولة بنقد الدين وسلوك المتدينين أكثر من محاولة البرهنة على عدم وجود إله.

2- التمرد: يتجدد انتشار ظاهرتي اللادينية والإلحاد كلما انغمست المجتمعات في نمط الاستهلاك والرفاه، كما تنتشران أيضا في أوساط الشباب إبان فترات الحروب والكوارث، ومنها ما تشهده منطقتنا العربية اليوم من ثورات واضطرابات وحروب، فبعض الشباب الذين وجدوا في أنفسهم القدرة على قلب الحكومات وتحدي السلطات تشجعوا على تحدي السلطة الإلهية الأكبر، ولا سيما عندما رأوا أن الكثير من الفقهاء والدعاة قد مالوا إلى الأنظمة الظالمة ووظفوا الدين في تبرير الخنوع.

ويعترف الدكتور مصطفى محمود في كتابه “رحلتي من الشك إلى الإيمان” بأنه مال إلى الشك في سن الصبا بدافع التمرد والغرور، فكثيرا ما تظهر في محاججات الملحدين اليافعين ميول التمرد والشعور بعدم الحاجة للإله وقيود التدين بالرغم من تغليف تلك الميول بغلاف الجدل العقلي، فالأمر يشبه كثيرا نزوع الشباب في هذا السن إلى خرق قواعد الآباء والأمهات والمجتمع، والتلذذ بذلك للشعور باكتمال الشخصية ونضج الذات، وقد تسيطر هذه النزعة على النفس وتستمر في السيطرة على العقل مدى الحياة مهما امتدت.

3- معضلة الشر: عندما امتد أمد الثورات وانقلبت إلى عنف دموي يحصد أرواح الأطفال والأبرياء؛ سقط قسم آخر من الشباب في هوة اليأس، وحارت عقولهم أمام معضلة الشر وحكمة الابتلاء وتسلط الظلمة دون رادع إلهي فمالوا نفسيا إلى الإلحاد.

سنناقش هذه الأسئلة في مقال “الأسئلة الوجودية الكبرى” بنهاية مسيرنا، لأن بحثنا هنا يتعلق بحقيقة وجود الإله على اعتبار أنها ضرورة عقلية وحقيقة كونية لا بد منها، فالعقل السليم المجرد عن الهوى والضغوط النفسية والدعاية الإعلامية لا يملك إلا أن يسلّم بوجود إله، أما الدوافع النفسية والأخلاقية التي تدور في النفس فسنناقشها بعد استعراضنا لتاريخ علاقة الإنسان بالإله الحافل بنشوء عشرات الأديان والتيارات، وبعد تحققنا من صحة الوحي وصدق النسخة الأخيرة المتبقية منه بين أيدينا (القرآن) كما سيأتي في مقالات لاحقة.

أطفال قُتلوا بالغاز السام في الغوطة بريف دمشق في 21 أغسطس 2013

4- العدمية: تعد الفلسفة الوجودية من مظاهر العدمية البائسة الشهيرة في العصر الحديث، ومع أن مؤسسها الدنماركي سورين كيركغارد الذي عانى من آلام نفسية كان مؤمنا بوجود الله، إلا أن خليفته الفرنسي جان بول سارتر جعل من الوجودية رديفا للإلحاد، وتلقف الكثير من الشباب أفكاره في منتصف القرن العشرين بعد خروج الغرب من حربين عالميتين طاحنتين، حيث كانت العدمية تهيمن على الثقافة العامة في ظل توحش الرأسمالية وتشييء الإنسان (تحويله إلى مادة) وضياع بوصلة القيَم.

في ظل هذه الأجواء المضطربة اجتماعيا، قد ينشأ الإلحاد في نفس الشاب المثقف نتيجة اختلاط الأسباب النفسية السابقة كلها، فيصبح الإلحاد موقفا اجتماعيا أكثر من كونه قرارا فلسفيا متعقلا، وكثيرا ما يتزامن هذا الموقف مع ادعاء الملحد أنه أكثر سعادة من المؤمنين ومن معتنقي كل الأديان.

إسماعيل أدهم

على سبيل المثال، في ثلاثينيات القرن العشرين وضع المفكر المصري إسماعيل أدهم قبل أن يبلغ سن الثلاثين كتابا أسماه “لماذا أنا ملحد”، وحاول أن يؤكد فيه أنه سعيد بإلحاده ومنسجم معه كما هو حال المؤمنين المطمئنين إلى الإيمان.

وتكشف سيرته الذاتية أنه كان عبقريا، حيث حصل على الدكتوراه وأصبح أستاذا للرياضيات في عمر مبكر، والأرجح أنه كان يشعر بغربة اجتماعية وشعور بالتفوق، والمفارقة أنه انتحر في سن الثلاثين عام 1940، حيث وجدت جثته طافية على مياه البحر أمام شواطئ الإسكندرية، وفي معطفه رسالة موجهة إلى رئيس النيابة يخبره فيها أنه انتحر لزهده في الحياة وكراهيته لها.

وإذا كانت الدعاية الإلحادية الشائعة اليوم تحاول إقناع الشباب بأن الملحدين لا يعانون من مشكلات نفسية أو اجتماعية؛ فإن بعض الأبحاث تثبت العكس.

ففي دراسة نشرت عام 2002م بعنوان “منظور عالمي لعلم الأوبئة عن الانتحار”، قال الباحثان خوسيه بيرتولوتي وألكساندرا فليشمان إن الملحدين هم الأكثر انتحارا في العالم، وإن المسلمين هم الأقل انتحارا، [رابط الدراسة].

وبالرغم مما تعرضت له الدراسة السابقة من تشكيك، نُشرت دراسة أخرى عام 2004م في مجلة طب النفس الأميركية The American Journal of Psychiatry بعنوان “الانتماء الديني ومحاولات الانتحار”، حيث أثبتت مجددا وجود تأثير قوي للتعاليم الدينية على الحد من ظاهرة الانتحار، [رابط الدراسة].

أما تأثير الإلحاد والتدين على العلاقات الاجتماعية فقد تم بحثه في عدة دراسات، وكان منها دراسة أجريت في جامعة كولومبيا البريطانية بكندا، حيث تبين للباحثين أن الملحدين هم أكثر الفئات المنبوذة في المجتمع [رابط الدراسة].


أهم المراجع
أنتوني فلو، هناك إله، ترجمة صلاح الفضلي.

جون لينوكس، العلم ووجود الله، ترجمة ماريانا كتكوت، الناشر: خدمة كريدولوغوس، 2015.

عمرو شريف، خرافة الإلحاد، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2014.

مصطفى محمود، رحلتي من الشك إلى الإيمان، 1970.

عبد الله العجيري، ميليشيا الإلحاد: مدخل لفهم الإلحاد الجديد، مركز تكوين، 2014.

George Gamow, Martynas Ycas, Mr. Tompkins Inside Himself, The Viking Press, New York, 1967.

Richard Dawkins, The Blind Watchmaker, W. W. Norton, London, 1986.

Michael J. Behe, The Edge of Evolution: The Search for the Limits of Darwinism, Free Press, 2007.

C.S. Lewis, Mere Christianity, Harper Collins, 2001.

George Wald, “The origin of life,” Scientific American, Aug. 1954.

Francis S. Collins, The Language of God, free press, 2006.

نبوة محمد

تبين لنا في بداية مسيرنا أن وجود الله حقيقة حتمية، وأن الإيمان به ليس سوى بداية الطريق نحو فهمنا للحقائق الوجودية الكبرى، وتعرضنا في مقال “مصادر المعرفة” للانتقادات الموجهة إلى كل مصدر على حدة، ما يجعل أياً منها قاصراً عن الإحاطة بكل جوانب المعرفة وبلوغ اليقين في كل التفاصيل والحقائق، بينما يبقى مصدر الوحي الأكثر يقينا وإحاطة، لكونه صادرا عن الله نفسه.

وبعد مرورنا بشتى الطرق والسبل من الأديان والمذاهب والفلسفات التي نشأت وتراكمت على مدى قرون، وبعد أن تحققنا من جوانب النقص والخلل والتحريف والانحراف في كل منها، ومن عجزها عن تقديم الأجوبة أو تعمد واضعيها تضليل الناس عن بلوغ الحقيقة، نحط رحالنا الآن عند آخر المحطات لاكتشاف سبيل الحق اليقيني الذي لا يشوبه شك، ونبتدئ بالبحث في ضرورة النبوة وحاجة الإنسان إليها كمصدر وحيد لبلوغ الحقيقة في الغيبيات.

الحاجة للنبوة
سنحاول في هذه الفقرة الإجابة على سؤال: هل وجود الأنبياء ضروري؟ وللإجابة سنطرح سؤالا معاكسا: ماذا كان سيحدث لو لم يوجد الأنبياء؟

تبين لنا في مقال “مصادر المعرفة” أن افتقار الإغريق للوحي أدى إلى تخبط واضح في المسائل الميتافيزيقية، وذكرنا بعض الأمثلة على نتائج غياب الوحي، وهي أمثلة تتكرر في كل المجتمعات التي طُمست فيها آثار رسالات الأنبياء، حيث حارت عقول الفلاسفة أمام المعضلات الوجودية الكبرى، فضلا عن الاتفاق في المشكلات الأخلاقية والتشريعات القانونية، ولم يكن من سبيل إلى الحق ودرء الخلاف سوى بالرجوع إلى وحي إلهي يعلو على الجميع ويوافق عقولهم.

حتى كبار الفلاسفة مثل سقراط لم يتمكنوا من وضع فلسفة أخلاقية متكاملة اعتمادا على العقل وحده

والمشكلة هنا لا تقتصر على محدودية العقل البشري، فالإنسان أصلاً ليس كائناً عقلانياً مجرداً، فحتى لو وصل عقله إلى قناعة مجردة فقد تقوده نفسه وهواه إلى مخالفته، ولو كان من كبار الفلاسفة.

وإذا كان العقل البشري لا يكفي وحده، فقد يتساءل أحدنا: لماذا لا ينزل الوحي إلى البشر بطرق أخرى غير الأنبياء، كأن يوحي الله إلى كل شخص على حدة بما يحتاج إليه من حقائق؟ والجواب أننا ذكرنا في المقال المشار إليه أعلاه أن الحدس (الكشف) لا يصلح للاعتماد عليه كمصدر موثوق، فليس هناك أي ضمان يثبت للمرء أن ما يقع في نفسه من مكاشفات هي صادرة عن الله نفسه، ولو أن الله تركنا بالفعل بدون أنبياء وتواصل معنا عبر هذه الوسيلة لتساءلنا عما إذا كانت تلك “الرسائل” واردة من كائنات فضائية تتواصل معنا بالتخاطر أو من حقيقة كونية ما (كما يقول الباطنيون) أو حتى من الشياطين؟

والحدس الشخصي لا يُستفاد منه إلا لتثبيت الإيمان (اليقين) بعد اقتناع العقل وانكشاف الحقائق، لكنه لا يصلح أن يكون مصدرا يتفق عليه الناس لأنه خاص بكل منهم على حدة، ولا يمكن طبعا أن يُعتمد مصدرا للتشريع والقوانين، فلا يمكن لبقية الناس أن يتحققوا من زعم أحد بأنه تلقى قانوناً إلهياً بحدسه الخاص، وإن فعلنا ذلك فسنعود إذن إلى مشروعية وضرورة وجود نبي يتلقى هذا الوحي، بحيث يمكن لنا التحقق من صدقه باعتباره المرجع الشامل والوحيد للأمة كلها وحلقة الوصل بينها وبين الله.

وقد يعود السائل ليقول: فلماذا لا تكون حلقة الوصل هذه من كائنات أخرى غير البشر؟ وهذا الإشكال قد طرحته قريش على النبي محمد الذي كان واحداً منهم، حيث استبعد المنكرون أن يكون نبياً من بينهم، لا سيما وأن بعضهم أقر بأن رفضهم لنبوته كان بدافع الحسد (كما فعل أبو جهل عمرو بن هشام)، وقد ردّ عليهم القرآن نفسه بقوله {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا} [الإسراء: 95]، أي أن الله يبعث على الناس رسولا من جنسهم لكي يتمكنوا من رؤيته ومخالطته والتواصل معه والتعلم من سلوكه وأفعاله وأقواله، وليضعوه أيضا موضع الاختبار والتمحيص، وإذا كان البعض يتصور أن الملائكة أحق بالحصول على هذه المرتبة فقد رأينا في سيرة النبي محمد أن مهمته تضمنت من المشقة ما لا يحتمله معظم الناس، وكأن عبء الرسالة أعظم بكثير مما فيها من التشريف، ولو أن الله منح الناس القدرة على رؤية الملاك المُرسَل (في حال إرساله بدلا من رسول بشري) فربما كان الجاحدون سيطرحون اعتراضا آخر من قبيل: وما الذي يضمن لنا أن هذا الملاك مرسل من الله أيضا وليس مجرد كائن فضائي أو شيطان متجسد… إلخ؟

إذن فلا بد للإنسانية من العودة إلى الوحي بصفته الرسالة الواردة إليها من الإله، كي تكتشف من خلالها غاية وجودها وطبيعة المهمة الموكلة إليها في هذه الحياة، ولتجد أيضا في ثناياها المنهج والطريقة (الشريعة) التي يجب عليها الاحتكام إليها للتمييز بين الصواب والخطأ، وللتعرف على وسائل مكافحة الشر وتقليص مساحته ونفوذه.

وتبدأ مهمة الإنسان في البحث عن الوحي الصحيح والتحقق من صدق نسبته إلى الله وسلامته من التبديل والتحريف، وذلك بالتحقق أولا من صدق الأشخاص الذين زعموا أنهم أنبياء مرسلون من الله، بدراسة سيرتهم ومعجزاتهم وما نُقل عنهم من أقوال وأفعال، ثم بالتحقق من صدق الوحي الذي جاؤوا به، وذلك بعرضه على العقل (المنطق) ودلائل الحس (العلم التجريبي)، ومقارنة قصصه ونبوءاته بحقائق التاريخ، وتمحيص لغته وبيانه ودعاواه وكل ما يتضمنه من حيث كونها صادرة بالفعل عن مصدر إلهي أو غير ذلك.

وسنحاول إيجاز بحثنا في هذا المقال للتحقق من صدق نبوة محمد، على اعتبار أنه قد ادعى كونه آخر الأنبياء والمرسلين في التاريخ، وأنه مُرسل إلى البشرية كلها، ثم نبحث في تراثه وما نُقل إلينا من سنته في مقال لاحق، وأخيراً نتحقق من صدق الوحي الذي جاء به في المقال الذي يليه.

“كل خيرٍ في الوجود فمنشؤه من جهة الرسول، وكل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به، وسعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة، والرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاحٍ للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟”.
ابن تيمية

ذكر النبي محمد في الكتب السابقة على بعثته
تعرضنا في مقالات الوثنية واليهودية والمسيحية إلى الوحي الذي أنزله الله إلى رسل سابقين، وذكرنا في مقال “الهندوسية والبوذية” أن هناك مؤشرات عديدة على أن الأصول البعيدة للبراهمية الأولى تعود إلى مصدر سماوي، واستعرضنا أيضا بعض الأدلة التي تثبت تعرض تلك الكتب المنزَلة للتحريف، فضلا عن إخفاء أجزاء منها عمداً وضياع أجزاء أخرى. ومع ذلك؛ فما زال المتاح من تلك الكتب يتضمن بعض الإشارات التي توحي بأنها تتحدث عن النبي محمد، بينما تصرح أجزاء أخرى منها في الحديث عنه، إما باسمه الصريح أو بصفاته.

فعلى سبيل المثال، نقرأ في سفر أخنوخ (الكتاب المنسوب إلى النبي إدريس عليه السلام وهو من أوائل المرسلين إلى البشرية) وصفاً للقيامة يتضمن حديثا عن الشخص المختار أو المصطفى، فيقول “سيقوم المصطفى ويختار الصالحين والقديسين من بين الموتى، فقد جاء اليوم الذي فيه يُنقذون. سيجلس المصطفى في تلك الأيام على عرشي، وستنطلق من فمه أسرار الحكمة والموعظة التي منحها له رب الأرواح ومجده” [R.H. Charles ,The Book of Enoch, 1917, p. 69]، ويبدو أن الحديث هنا عن شخص مُختار ومميز عن كل البشرية، ينال مرتبة رفيعة يوم القيامة، وهو ما يتطابق مع الوصف الذي ذكره النبي محمد لأحداث القيامة ومقام الشفاعة الذي سيُمنح له.

وسنسرد فيما يلي أهم النصوص التي تنبأت بنبوة محمد قبل قرون من ولادته، وذلك فيما هو متاح بين أيدينا اليوم من كتب الهندوس واليهود والمسيحيين:

أولا: في الكتب الهندوسية
سنسرد فيما يلي أهم النصوص التي وردت في الكتب الهندوسية المقدسة وجاء فيها ذكر محمد وأتباعه، تصريحا أو تلميحا:

1- كتاب بهافيشيا بورانا:
النص الأول: بارف 3، خاند 1، أدهاي 3، شلوكا 21 إلى 23:
“المليخا (شعب أجنبي في بلد أجنبي) سيظهر بينهم معلم روحي مع صحابته. سيكون اسمه مهامادا (محمد). راجا (بوج) -وهو لقب يوصف به ملوك الهند- بعد أن يعطي هذا العربي ماها ديف (تعني ذو الطبيعة الملائكية) غسلا في ماء بانشجافيا فى نهر الكانج (كناية عن التطهير من الذنوب) وبعد أن يعلن دعمه له ورضاه عنه سيقول له: سأضع لك عصا الطاعة. لك أنت يا فخر البشرية يا ساكن الصحراء العربية. يا من تملك قوة عظيمة لقتل الشيطان، وأنت ستكون محفوظا من كل أعدائك”.
وفي هذا النص يظهر اسم النبي محمد صلى الله عليه و سلم بوضوح، ويحدد أيضا موقع ظهور رسالته. ومع أن النبي لم يغتسل في نهر الكانج المقدس لدى الهندوس، فالمقصود بالنص كما يبدو أنه سيكون شخصا مطهرا من الذنوب ومعصوما، وربما يكون النص قد تعرض لهذه الإضافة من قبل كاتبها كي يفهمها الهندوسي بما يوافق طقوسه.

النص الثاني: براتيساراج 3، خاند 3، أدهاي 3، شولكا 10 إلى 27، يتنبأ مهاريشى فياس بالقول:
“المليخا أفسدوا أرض العرب الشهيرة. أريا دارما (طريقة العبادة السليمة) لم تعد موجودة فى البلد. كذلك كنت من قبل قد قتلت الشرير المضلل ولكنه عاد مرة أخرى للظهور مصحوبا بأعداء أقوياء. من أجل إظهار طريق الحق لأولئك الأعداء ومنحهم الهداية، فإن محمدا المعروف جيدا سينشغل بتوجيه هؤلاء البيشاتشا إلى طريق الحق. يا أيها الملك راجا لن تحتاج للذهاب إلى أرض أولئك البيشاتشا الحمقى لأن رحمتي ستطهرك حيثما أنت. وفي الليل، سيقول ذاك الرجل الحكيم ذو الطبيعة الملائكية، وهو في هيئة البيشاتشا، مناديا راجا بوج (يقصد به هنا الرب) “أيها الراجا، طريقك القويم و دينك وُجد ليظهر على كل الأديان الأخرى. ولكن طبقا لتعاليم إيشوار بارماتما سأعزز إيمان آكلي اللحوم (لأن الهندوس لا يأكلون اللحوم). أتباعي سيكونون رجالا مختونين ولا ذيول لهم فى رؤوسهم (لأن الهندوس يطيلون شعرهم ويربطونه) ويطيلون لحاهم، وسيصنعون ثورة ويجهرون بالأذان (مكتوبة بنفس هذا النطق العربي)، ويأكلون كل الطعام المباح. وهو سيأكل كل لحوم الحيوانات باستثناء الخنزير، وأتباعه لن يسعوا وراء التطهر من خلال الشجيرات المقدسة بل في ساحات القتال (الجهاد). وبسبب قتالهم للأمم التي لا دين لها، فإنهم سيعرفون باسم المسلمين (MUSALMAANS)، وسأكون أنا (الرب) منبع دين الأمم التي تأكل اللحوم”.

النص الثالث: بارف 3 خاند 1 أدهاي 3 شلوكا 21 إلى 23:
“انتشر الفساد والشر في سبع مدن مقدسة فى كاشي… الهند أصبحت مسكونة بالراكشاس والشابور والبهيل والكثير من الأقوام الآخرين الحمقى. في أرض المليخا (الشعب الأجنبي) أتباع الماليخا دارما (أتباع الإسلام) يتصفون بالحكمة والشجاعة. كل الصفات الطيبة اجتمعت فى المسلمين (MUSALMAANS) وكل الزعامات اجتمعت على أرض الأرياس (الجزيرة العربية). الإسلام سوف يحكم في الهند وجزرها”.

2- كتاب أتهَرفافيدا:
الكتاب 20، الإنشاد 127، الآيات 1 إلى 13:

مانترا 1:
“إنه ناراشاناش أو طيب الذكر (المحمود). إنه كوراما: المهاجر أو أمير السلام، الآمن حتى وهو فى وسط 60090 عدواً”.
وقد قدّر الشيخ المباركفوري عدد أعداء النبي من قبائل العرب قبل فتح مكة بنحو 60 ألفا، بينما يعتقد الدكتور ذاكر نايك أن هذا العدد هو عدد أتباع قريش في مكة، لكن الصحيح هو الرأي الأول، والله أعلم.

مانترا 2:
“إنه ريشي قائد الجمل، الذي تمس عربته السماء”.
ومصطلح الريشي يعني رجل الدين المقدس. ومع أن تعاليمهم تحرّم على الريشي ركوب الجمل إلا أن النص تنبأ بقدوم هذا الرجل المقدس الذي يركب جملا، والنص يوضح جلال هذا الرجل الذي يعيش حياة بسيطة على الأرض ويصل مع ذلك إلى عالم الملكوت عندما يُعرج به إلى السماء.

مانترا 3:
“إنه الريشي ماماه (أي محمد) الذي يعطى مئة عملة ذهبية…”

الكتاب 20، الإنشاد 21، الآية 6:
“يا مولى كل من آمن بالحق, هؤلاء الفاتحون يتغذون بالشجاعة وبالأناشيد التي ترضيك فى ساحة المعركة. حينما تدفع  العشرة آلاف عدو للحامد (أو الأحمد) المحبوب مهزومين بدون قتال”.
وهذه كما يبدو إشارة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في معركة الأحزاب.

وفي نفس الكتاب والإنشاد، الآية 9:
“لقد استطعت يا إندرا (إله الحرب) أن تهزم عشرين ملكا وستين ألفا وتسعة وتسعين رجلا مسلحين بعربات ذات عجلات قل نظيرها، الذين جاؤوا لقتال طيب الذكر (المحمود) أو ذائع الصيت اليتيم”.
يقول ذاكر نايك إن المقصود هو عدد سكان مكة قبل الفتح البالغ 60 ألفا، وزعماء مكة البالغ أيضا عشرين زعيما.

3- كتاب سامافيدا:
الكتاب الثاني، الإنشاد 6، الآية 8:
“أحمد أخذ من ربه القانون الأبدي. لقد حصلتُ منه على النور كأنه الشمس”.
يقول نايك إن النص جاء باسم أحمد صريحا، وإن العديد من المترجمين أساؤوا فهم الكمة وترجموها بالخطأ، ويضيف أن المقصود بالقانون الموحى به من الله هو الشريعة الإسلامية.

ثانيا: في الكتب اليهودية
سنستعرض طائفة من البشارات المتعلقة ببعثة النبي محمد في كتاب العهد القديم، والذي يتضمن المزامير التي يعتقد أنها الزبور الذي أنزل على النبي داوود، وسفر نشيد الأناشيد المنسوب للنبي سليمان، وما بقي من التوراة التي أنزلت على النبي موسى، والصحف الأخرى التي أنزلت على أنبياء بني إسرائيل بعد موسى، ومن أهمها نذكر ما يلي:

سفر إشعيا

1- جاء في سفر إشعيا (29: 12): “ثم يناول الكتاب لمن لا يعرف الكتاب ويُقال له اقرأ هذا فيقول لا أعرف الكتابة” ولعل مجرد قراءة هذه الكلمات تستدعي إلى ذهن القارئ مباشرة قصة بدء الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال له جبريل “اقرأ” فقال “ما أنا بقارئ”، ولكن لا بدَّ من توضيح أن هذه الترجمة العربية الكاثوليكية لهذا النص- مع وضوح دلالتها-  قد حرَّفت فيه ما بينته الترجمات الإنجليزية والفرنسية والتي جاء النص فيها كما يلي (حسب The New International Version): “or if you give the scroll to someone who cannot read, and say: read this, please) he will answer: I don’t know how to read”.

ونلاحظ الاختلاف البسيط في ترجمتها : “أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف القراءة، مع الرجاء: اقرأ هذا، فيجيب: لا أعرف القراءة”، لكنه على بساطته يكشف تحريفاً متعمداً للنص لإبعاده عن الشخص الذي يشير إليه وهو محمد نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم الذي كانت أهم صفاته أنه أميّ لا يعرف القراءة.

2- جاء في سفر التثنية (32 :21) أن الرب قال في بني إسرائيل غاضباً: “هم أغاروني بمن ليس إلهاً وأغضبوني بأباطيلهم وأنا أغيرهم بمن ليسوا شعباً بقومٍ أغبياء أغضبهم”. (ترجمة المطبعة الكاثوليكية ببيروت). وفي الترجمة العربية المشتركة جاء: “… وأنا أثيرهم بشعبٍ لا شعبٌ هو وأكدِّرهم بقوم جهلاء”. والشعب “الغبي” أو “الجاهل” الذي يخبر الرب أنه سيحل محل بني إسرائيل بعد انحرافهم هو “الأميون” من العرب الذين اشتهروا بهذا الوصف وذكرهم القرآن الكريم به.

3- ورد في سفر التثنية (18: 18) أن الرب قال لموسى: “سأقيم لهم نبياً من بين إخوتهم مثلكَ وألقي كلامي في فمه فينقل إليهم جميع ما أكلمه به وكلُّ من لا يسمع كلامي الذي يتكلم به باسمي أحاسبه عليه”، ويدل هذا على أن النبي المقصود في البشارة من غير بني إسرائيل لقوله: “من بين إخوتهم” فالخطاب لبني إسرائيل ولا يكونون إخوة لأنفسهم، أما إخوتهم فهم أبناء أخي أبيهم إسماعيل أخي إسحاق، وهم العرب. ولو كان المراد به نبياً من بني اسرائيل مثل (صمويل) كما يؤوله اليهود لقال: من بينكم أو من وسطكم.

وقد نبه السموأل بن يحيى -الذي كان من أحبار اليهود في الأندلس واعتنق الإسلام- في كتابه “غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود” أن هذا النصَّ كان يتضمن وصفاً للنبي المبشر به وهو أنه “أمّيٌّ” قبل أن يحذفها اليهود وأنها كانت السبب في إسلامه.

4- في سفر التثنية (33 :2): “جاء نور الرب من سيناء وأشرق لهم من ساعير وتلألأ من جبال فاران وجاء معه عشرة آلاف قديس”. وقد حاول الأحبار إبهام دلالة فاران وقالوا إنها لا تقع في بلاد العرب بل قريبة من سيناء وساعير، لكن مكة عُرفت بهذا الاسم بضعة قرون سالفة، كما أن إسماعيل -وفقاً لهم- سكن برية فاران وتزوج من امرأة مصرية، ومن ولده قادار انحدر أحفاده العرب الذين سكنوا قفار فاران (التكوين 25: 13- 15)، وكان منهم محمد الذي دخل مكة مع عشرة آلاف قديس (وهو عدد الصحابة عند فتح مكة) كما جاء في التثنية (33: 2). وتذكر موسوعة الكتاب المقدس أن اسم (قيدار) مرادف للبلاد العربية وعرّف بعضهم بني قيدار بأنهم قريش.

5- في سفر إشعياء (21: 13- 17): “نبوءة بشأن العرب: بيتوا في غاب العرب يا قبائل الدّدانيين، وافوا بالماء للقاء العطشان يا سكان أرض تيماء استقبلوا الهاربين بالخبز لأنهم قد فروا من السيف المسلول.. لأنه هكذا قال لي الرب بعد سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار وتكون بقية الرماة الأبطال من أبناء قيدار قِلَّة لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم”.

وذكر معجم العهد القديم أن قيدار -كما سبق- هو ابن إسماعيل وأبناؤه العرب من قريش خاصة وأن أحبار اليهود ينادون كل العرب في كل مكان بهذا الاسم، أما الدّدانيون فهم قبيلة عربية مرتبطة بأدوم وتيماء وتقيم شرق البحر الميت، وتيماء: اسم عبري بمعنى “الجنوبي” وهي قبيلة إسماعيلية تسلسلت من تيما وكانت تقطن بلاد العرب وتسمى الجهة التي تسكنها تيماء أيضاً، وهي في بلاد العرب في منتصف الطريق بين دمشق ومكة (حسب قاموس الكتاب المقدس ضمن المجموعة الإلكترونية “البشارة”)، وذكر قاموس الكتاب المقدس أن تيماء واحة شمال المدينة. وهي المدينة التي دعا الرب أهلها لاستقبال “الهارب” بدعوته من بطش بني قيدار في مكة، وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون، وهو الذي عاد بعد عام من هجرته كما نصت البشارة ليهزم أبناء قيدار “قريش” في موقعة بدر.

6- يقول سفر حجَّاي (2: 7،8) مبشراً المستضعفين والمحزونين: “فإنه هكذا قال رب الجنود.. وأزلزل جميع الأمم ويأتي مُتمنَّى جميع الأمم فأملأ هذا البيت مجداً.. وسيكون مجد هذا البيت الأخير أعظم من الأول قال رب الجنود وفي هذا الموضع أعطي السلام يقول رب الجنود”. وقد اضطربت تراجم الكتاب المقدس في عبارة: “ويأتي مُتمنَّى (أو مُشتهى) جميع الأمم”، حيث أكد القس الكلداني الذي اعتنق الإسلام عبد الأحد داود في كتابه “محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس، ص 36” أن هذه النبوءة تتحدث عن مقدم نبي الإسلام “أحمد”، فقد ذكر النص العبري كلمة مُتمنَّى أو مشتهى بلفظ “حِمده”: “في يا فو حِمده كول هاجوييم) ما يعني حرفياً: “وسوف يأتي حِمده لكل الأمم”، وهي كلمة عبرية قديمة تعني “الأمنية الكبيرة” أو “المشتهى”، أما في العربية  فمن جذر (ح م د) التي تعني الإطراء والمديح، والشخص الذي يتاق إليه ويُرغب فيه هو أولى الناس بالمديح، وأكد عبد الأحد داود أن كلمة أحمدهي الصيغة العربية لكلمة حِمده. أما أصل كلمة شالوم بالعبرية و”سلام” و”إسلام” بالعربية فهما مشتقتان من أصل واحد، ورأى المؤلف أن تفسير النبوءة بمعنى الأمنية والسلام يجردها من أي معنى، بينما هي في الحقيقة بشارة صريحة باسم نبي الإسلام.

7- في سفر المزامير (84: 6- 8) : “هنيئاً للذين عزتهم بك وبقلوبهم يتوجهون إليك يعبرون في وادي الجفاف فيجعلونه عيون ماء بل بركاً يغمرها المطر، ينطلقون من جبل إلى جبل”، وفي ترجمة المطبعة الكاثوليكية تأتي العبارة: “يجتازون في وادي البكاء”، أما في النص العبري ومعظم تراجم الكتاب المقدس بالإنكليزية والفرنسية نجد أن الوادي يحمل اسم (Bacah) حيث يبدأ بحرف كبير مما يدل على أنه اسم علم، وبكة هو أحد أسماء مكة المكرمة كما جاء في القرآن الكريم: {إنَّ أوَّل بيتٍ وُضِعَ للناس للذي بِبَكَّة مباركاً وهُدىً للعالمين} [آل عمران: 96].

8- أكثر البشارات وضوحاً هي التي وردت في سفر نشيد الأناشيد المنسوب للنبي سليمان (5: 16) حيث يرد فيه تغزلٌّ بشخص ما: “حلقه من الحلويات وكلُّه مشتهيات، هذا ودودي وهذا صاحبي يا بنات أورشليم”. فعبارة (كله مشتهيات) هي ترجمة محرفة لما ورد في النص العبري والذي ما زال محفوظاً كما هو على الشكل التالي: “حِكو ممتكيم فِكلّو محمديم زيه دودي فزيه ريعي”. ولاحقة “يم” العبرية تستخدم للتفخيم، ويبدو أن هناك من تعمد تحريف الترجمة مع أنها تشير إلى اسم علمٍ مع أنه لا يجوز ترجمة أسماء الأعلام.

ثالثا: في الكتب المسيحية
مع أن العهد الجديد من الكتاب المقدس -الذي توجد منه حالياً أربع نسخ مختلفة- لا يمثل الإنجيل الحقيقي الذي أنزل على النبي عيسى عليه السلام حسب المعتقد الإسلامي، بسبب ما تعرض له من تحريف وتبديل وضياع [انظر مقال المسيحية]، إلا أن المتداوَل منه اليوم يتضمن بعض الإشارات إلى نبوة محمد، وفيما يلي مثالان لهذه الإشارات:

1- يقول القرآن الكريم {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الصف: 6].

وفي سفر يوحنا [14/16] يقول المسيح: “ولسوف أطلب من الأب وسوف يعطيكم معزياً (برقليطوس) آخر يبقى معكم إلى الأبد”، بينما يؤكد البروفسور عبد الأحد داود أن هذا النصٌ تعرض للتشويه، فكلمة “برقليطوس” لا تعني “المعزي”، حيث حرصت الكنيسة على تفسيرها بالروح القدس (الأقنوم الثالث للإله) الذي جاء ليعزي المؤمنين بصلب المسيح ويكون واسطة بينهم وبين الأب، بل تعني الأمجد والمستحق للمديح، وهي مطابقة تماماً لمعنى اسم “أحمد” في اللغة العربية، وبهذا يصبح المقصود بها النبي محمد الذي بشّر المسيح عيسى، وبشكل موافق لنص الآية القرآنية.

2- يذكر العهد الجديد قصة رعاة يرعون أغنامهم قرب بيت لحم في الليلة التي ولد فيها المسيح، إذ ظهر لهم ملاك ليعلن مولد “السيد المخلِّص” ثم ظهر حشدٌ من الملائكة ينشدون: “المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة” [لوقا 2/14]، وما زالت هذه الترنيمة ترتل في الكنائس حتى اليوم، بينما يشكك باحثون في ترجمتها إلى اللغة اليونانية التي كُتب بها هذا الإنجيل، إذ يُفترض أن تكون الملائكة قد رتلت أنشودتها بلغة الرعاة وهي العبرية أو الآرامية وليس اليونانية.

ويقول عبد الأحد داود إن الأصل الآرامي للنص كان يتضمن ثلاث كلمات مهمة حوّرت الترجمة معناها إلى معنى آخر، فاسم الله تُرجم إلى “Theos” باليونانية، وكلمة شلاما (السلام) ترجمت إلى “Eiriny”، وكلمة المسرَّة SobhraTabha تُرجمت إلى “Eudokia”، حيث تتوافق هذه المعاني مع العقيدة المسيحية المعتمدة بعد بولس.

ويضيف داود أن كلمة Eiriny اليونانية مرادفة لكلمتي “شالوم” في العبرية، و”شلاما” في الآرامية، لكنها تعني أيضا “إسلام” في العربية. أما كلمة Eudokia فهي مركبة من مقطعين: “Eu” تعني الأكثر والأحسن، و”dokia” تعني المجد والشرف أو اللطيف المحبوب، وتتفق هذه الكلمة في معناها الصحيح والحرفي مع الكلمات العبرية “مَحْمَد، مَحَمُد، حِمْدَه، حِمِدْ” التي استخدمت بصورة متكررة في العهد القديم [إرميا 1/7،10- 2/4]. وبهذا يمكن أن تتحول الترنيمة إلى “المجد والحمد لله في الأعالي، أوشك أن يجيء الإسلام للأرض، يقدمه للناس أحمد”.

الكعبة في عام 1910م

مقدمات بعثة النبي محمد
قال أبو محمد بن قتيبة “ومن أعلام (علامات) نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لم يسم أحد باسمه قبله صيانةً من الله تعالى لهذا الاسم، كما فعل بيحيى بن زكريا إذ لم يجعل له من قبل سمياً، وذلك أنه سماه في الكتب المتقدمة وبشّرت به الأنبياء، فلو جعل الاسم مشتركا فيه ساغت الدعاوى ووقعت الشبهة، إلا أنه لما قرُب زمانه وبشّر أهل الكتاب بقُربه حضر أربعة أنفس عند راهب وأخبرهم باسمه وقرب زمنه فسموا أولادهم بذلك”.

وذكر عدة مؤرخين أولئك الأشخاص الذين أطلقوا اسم محمد على أطفالهم قبل بعثة محمد الحقيقي بسنوات قليلة، والبعض ذكر أنهم ستة، وكانوا قد التقوا براهب نصراني في أحد أديرة الشام أثناء رحلة لهم للقاء ملك الغساسنة “ابن جفنة”، فقال لهم الراهب عندما عرف أنهم من قبيلة مُضر العربية “إنه يُبعث فيكم وشيكاً نبي خاتم النبيين، فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا”، فقالوا: ما اسمه؟ فقال: اسمه محمد، فلما وُلد لكل منهم ولد سمى ابنه محمداً أملاً بأن يكون هو النبي [ذكره ابن حجر والبغوي وابن سعد وابن شاهين وابن ظفر المكي].

والظاهر أنه لم يدّع أي من الذين حملوا اسم محمد النبوة، والعجيب أن عائلة محمد الحقيقي لم تكن قد سمعت بهذه القصة من أي راهب وأنها أطلقت على مولودها هذا الاسم الجديد -الذي لم تعرفه العرب من قبل- بالصدفة. ففي روايات نقلت من طرق عدة عن عبد المطلب، جدّ النبي محمد لوالده، فإنه رأى في منامه أن سلسلة فضة خرجت من ظهره وامتدت إلى ما بين السماء والأرض، وما بين المشرق والمغرب، ففسرت له كاهنة قريش الرؤيا بأنه سيولد له مولود يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض، فلما ولدت آمنة (زوجة ابنه عبد الله) قال لها سميه محمداً [ذكره أبو نعيم والصالحي والخفاجي والسيوطي]، كما ذكر مؤرخون آخرون أن آمنة أُمرت أثناء حملها (في المنام) بأن تسمي مولودها محمداً [ابن حبان والطبري وابن سعد وغيرهم].

اختار الله أن يبعث خاتم أنبيائه في أرض العرب التي لم تعرف الحضارة، وتحديدا في مكة التي بُني فيها البيت الحرام على يد آدم أبي البشر، والذي جدده إبراهيم عليه السلام بعد أن ضاعت معالمه، وكأن الحكمة من خروجه في هذا المكان أن يجمع بين النشأة في بيئة لا تعرف القراءة والكتابة ولم تقرأ شيئا من الكتب المنزلة على بني إسرائيل وغيرهم، وبين الانطلاق بدعوته من مركز التوحيد وقبلة المؤمنين على مر العصور.

وُلد محمد يتيمًا على الأرجح، حيث توفي والده عبد الله قبل ولادته، كما توفيت والدته آمنة وهو في سن السادسة، ثم كفله جده عبد المطلب (سيد قريش) سنتين قبل أن يرحل أيضا عن الدنيا، لينشأ في كنف عمه أبي طالب، وكأن قدَر النبي أن ينشأ يتيما ليكون أكثر استقلالية منذ الصغر، واللافت أن عمه الذي ظل حياً إلى ما بعد بعثة محمد لم يؤمن به، وهذا يعني أن كل الذين نشأ محمد في كنفهم لم يكن لهم دور في رسالته.

عاش محمد طفولة طبيعية في مكة، وبدأها بمرحلة الرضاعة في مضارب البدو كما هي عادة العرب آنذاك، فحملته حليمة السعدية إلى دارها في مضارب بني سعد لتبدأ أمارات تميز هذا الطفل بحلول البركة في دارها ورزقها، ثم وقعت معجزة شق صدره عندما أخذه الملَك جبريل وهو يلعب مع بقية الأطفال، فشقّ صدره وأخرج قلبه وغسله مادياً في وعاء من ذهب ثم أعاده إلى مكانه، وقد رويت هذه القصة ببعض الاختلافات في التفاصيل في صحيح مسلم وغيره، وأخرج أحمد والدارمي أن حليمة أعادته إلى أمه فوراً بعد هذه الحادثة فلم تُفاجأ بما حدث له، وقالت أمه آمنة “إن رأيت (في المنام أثناء حملها به) خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام”، وليس في هذا المعجزة ما يناقض العقل ولا المنطق السليم.

رعى محمد الغنم لكسب رزقه، وقال لأصحابه بعد أن صار نبياً “ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم”، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال “نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة” [البخاري: 2262]، ولدى الجمع مع روايات أخرى يتبين أنه كان يرعى الغنم أيضا أثناء إقامته صغيراً عند مرضعته حليمة، ويقول أبو الوفاء ابن عقيل “لما كان الرعي يحتاج إلى سعة خلق وانشراع صدر، وكان الأنبياء مُعدّين لإصلاح الأمم، حَسُن هذا في حقهم”.

وفي سن الشباب بدأ يعمل بالتجارة، ففي سن الخامسة والعشرين خرج بقافلة تجارية لصالح خديجة بنت خويلد، وهي إحدى سيدات قريش، وعندما عاد من رحلته إلى بُصرى (في جنوب سورية حالياً)، أو من سوق في تهامة (غرب السعودية) حسب رواية أخرى، أُعجبت بما ذكره لها غلامها ميسرة من أخلاقه، فتزوجا وهي تكبره بنحو خمسة عشرة سنة.

مدخل غار حراء

يقول ابن خلدون في كتابه “المقدمة” إن من علامات نبوة محمد أنه كان قبل الوحي معروفا في قومه بخلق الخير والزكاة ومجانبة المذمومات والرجس، وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات، فقد دعي وهو شاب صغير إلى وليمة عرس فيها رقص ولهو، فغلبه النوم أثناء الحفل حتى طلعت الشمس ولم يحضر شيئا من اللعب، وكأن الله كان ينزّهه عن كل المنكرات حتى لو حدثت بالصدفة ودون قصد منه.

وفي سن الأربعين اكتمل نضجه، وبدأت أمارات النبوة بالظهور، فتقول عائشة “كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء (أي الخلوة واعتزال الناس) فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، وهو التعبد الليالي أولات العدد” [صحيح مسلم: 160].

ووقعت الحادثة المعروفة في الغار باللقاء الأول بين محمد وجبريل، وبدأت بذلك بعثته ونبوته. ومع أنه كان قد واجه العديد من المواقف والعجائب التي أكدت له مسبقاً أنه سيكون نبياً، إلا أن الصدمة كانت بالغة الأثر على نفسه في بدايتها، حتى عاد إلى زوجته خائفاً مرتجفاً وهو يقول زملوني (غطوني)، وعندما هدأت نفسه قال لها “لقد خشيت على نفسي”، لكن خديجة أيقنت على الفور أنه سيكون بخير، مستدلة على ذلك بأخلاقه الحميدة بالرغم من عدم وجود دين ولا شرع في القوم آنذاك، فقالت له “أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، والله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكَلّ (أي تعين الضعيف) وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق” [صحيح مسلم: 160].

ويستنتج ابن خلدون من إسلام أوائل الصحابة أن نبوة محمد لم تكن تحتاج إلى “دليل خارج عن حاله وخلقه”، ومنهم أبو بكر الذي يروى عن النبي أنه قال فيه “ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد، إلا أبا بكر ما تردّد فيه”.

يقول ابن تيمية في كتابه “شرح العقيدة الأصفهانية” إن أي شخصين ادَّعيا أمرًا من الأمور، أحدهما صادق في دعواه والآخر كاذب، فلابد أن يبين صدق هذا وكذب هذا من وجوه كثيرة، إذ الصدق مستلزم للبر، والكذب مستلزم للفجور، ويقول أيضا إن مُدعي النبوة إما أن يكون أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يُلبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين.

وعندما أرسل النبي إلى الملك البيزنطي هرقل رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، كان وفد من قريش في الوقت نفسه يقوم بزيارة لبلاده، فاستدعاهم الملك وسأل قائدهم أبا سفيان عدة أسئلة عن محمد، ومنها: بمَ يأمركم؟ فقال أبو سفيان: بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف، فأجابه هرقل: إن يكن ما تقول حقاً فهو نبي، وسيملك ما تحت قدميّ هاتين”. وقد صدقت نبوءة الملك فعلا عندما فتح المسلمون في خلافة عمر بلاد الروم البيزنطيين.

الفرق بين النبي والسحرة
كان الوليد بن المغيرة من قادة قريش في مكة، وكان ممن تصدوا لدعوة النبي عندما جهر بها، وعندما اقترب موسم الحج ووصول وفود العرب إلى مكة اجتمع الوليد بوجهاء المدينة وطلب منهم أن يتفقوا على رأي واحد بشأن محمد، تحسبا للسؤال الذي قد يُطرح عليهم من الوفود القادمة عندما تعلم بنبأ خروج نبي من بينهم، وبدأ الحاضرون بطرح الاقتراحات.

فقالوا نقول كاهن، قال الوليد: والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته، ولا سجعه. قالوا: مجنون، قال: ما هو بمجنون، ولا بخنقه، ولا وسوسته (أي لا تأتيه نوبات صرع). قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، ولا نفثه ولا عقده (لأن الساحر يعقد عقدا في الحبل وينفخ فيه بعد تلاوة الطلاسم). قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم بقائلين من هذا شيئا، إلا وأنا أعرف أنه باطل، وإن أقرب القول أنه ساحر، فإنه سحر يفرق بين المرء وابنه، والمرء وأخيه، والمرء وزوجه، والمرء وعشيرته.

وفي النص دلالة واضحة على الفارق الكبير بين النبي والساحر في سلوكه وطرحه، إلا أنهم وجدوا هذا التشبيه أقرب اتهام ممكن إليه من حيث كونه قادرا على التأثير في الناس، مع أن تأثيره لم يكن إلا بإقناعهم بصدقه ودون استخدام أي قوى خفية.

ولو قارنا بين سلوك النبي (الذي وصفه الصحابة بأدق التفاصيل) وسلوك السحرة والكهنة والشامانات فلن نجد أي تقاطع، فعلى سبيل المثال يدعي الشامانات اتصالهم بالآلهة أو أرواح الموتى عندما يطلبونها لتلقي الإلهام منها بأمور غيبية، مثل الأحداث المستقبلية التي يزعمونها أو كشف مكان بعض الأشياء المخفية، ويمارسون لذلك طقوسا معروفة لدى كل الشعوب، وهي الطقوس التي يتم فيها استحضار الشياطين ليس إلا، أما النبي فلم يكن يفعل شيئا من ذلك، ولم يستحضر الوحي بنفسه يوماً، بل كان ينتظر أحياناً أياماً أو شهوراً حتى يأتيه الجواب على مسألة ما، وقد يتسبب له ذلك بالحرج، كما في قصة الإفك عندما طعن البعض في عِرض زوجته عائشة وهو ينتظر تبرئتها من الوحي، ولو كان دجالا لافتعل بنفسه نزول الوحي وزعم أن زوجته بريئة على الفور وقطع لسان أعدائه.

والشامان يتحدث بصيغة الناطق باسم الإله أو الروح أو الحقيقة المطلقة، فيزعم أنه اتحد به واستمد منه القداسة مباشرة، أما النبي فمع أن القرآن أكد أنه لا يأتي بالخبر الكاذب: {وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3-4]؛ إلا أن القرآن أوضح للناس أيضا أن النبي لا ينطق بالحق إلا من الله، وأنه إذا لم يستعن بالله فقد ينسى كما ينسى البشر -دون وقوع في الخطأ الفادح بالوقت نفسه- فيقول {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا} [الكهف: 23-24].

ومن المعروف أن النبي لم ينطق يوما بطلاسم أو تعويذات سحرية بأي لغة كانت، وعندما كان يرقي المرضى فلم يكن ينطق بشيء سوى القرآن والدعاء الواضح الصريح، بل كان يتعوذ بالله من السحر والشياطين صباح ومساء كل يوم.

الفرق بين النبي والفلاسفة
يقول الفيلسوف يعقوب الكِندي إن الذين اصطفاهم الله للنبوة لا يشبه العلم الذي يتلقونه بالوحي العلوم الأخرى (الكسبية) التي يكتسبها الإنسان بالتعلم، فعلم الوحي يأتي “بلا طلب ولا تكلف ولا بحث ولا بجبلةٍ بالرياضيات والمنطق ولا بزمان”، فمن يتدبر أجوبة الرسل على الأسئلة التي كان يطرحها عليهم المشككون بشأن الأمور الخفية فسيجد فيها أجوبة تختلف عما كان سيقدمه الفلاسفة في تلك العصور، وذلك من حيث الوجازة والبيان وقرب السبيل والإحاطة بالمطلوب.

ويضرب الكِندي على ذلك بأمثلة، ومنها أن المشركين سألوا محمدا {من يحيي العظام وهي رميم؟}، فجاءه الجواب من الوحي: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80) أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82)} [يس: 79-82]. ويحلل الكندي هذا الجواب بلاغيا وفلسفيا من وجه عدة، ومنها أنه إذا كانت العظام قد وجدت بالفعل بعد أن لم تكن، فإنه من الممكن -إذا بطلت وصارت رميماً- أن توجد من جديد، فجمع المتفرق أسهل من صنعه من العدم، والسائل المنكر لقدرة الله على البعث مقر بخلقه من عدم.

ويضيف أن كون الشيء من نقيضه موجود، كإخراج النار من الشجر الغض، ثم يستشهد النبي في جوابه الموحى به بخلق الله للكون، ما يدل بالبداهة على قدرته على البعث، إلى آخر ما قاله من دلائل فلسفية يختتمها بقوله “فأي بشر يقدر بفلسفة البشر أن يجمع في قول بقدر حروف هذه الآيات ما جمع الله جل وتعالى إلى رسوله فيها من إيضاح”، ليستنتج من هذا النمط من العلم أن مصدره ليس حسا ولا عقلا بل وحيا مفارقا من الله. [رسائل الكندي الفلسفية، 1/372]. وسنبحث في مقال “الوحي القرآني” المزيد من الأدلة على صحة الوحي القرآني ونسبته إلى الخالق مباشرة.

ومن أوضح الاختلافات بين النبي محمد والفلاسفة، أنه ظل أمياً حتى آخر حياته، ولم يعرف عنه خصومه من قريش أنه تعلم القراءة والكتابة فضلا عن تلقي العلم على أي معلم، بل كان قبل البعثة (التي فاجأته وهو في سن الأربعين) مشغولا بتربية أولاده والعمل في التجارة ورعي الغنم، حتى ذكر الوحي في مرحلة لاحقة أن النبي لم يكن قد خطر بباله أصلاً أنه سيصبح نبياً فقال: {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك} [القصص: 86]، ومع ذلك فقد تمكن بعد بعثته من وضع تشريع متكامل قائم بذاته، ومازال جهابذة الفقهاء حتى اليوم يقضون أعمارهم في تعلم الشريعة التي أتى بها واستنباط قواعدها وأصولها والاجتهاد في ضوئها، بينما لم يبذل النبي أي جهد في “وضع” تلك الشريعة التي أوحيت إليه، بل كان مشغولا بالدعوة والجهاد وتأسيس الأمة، وكان وقت فراغه ينصرف إلى العبادة وليس إلى طلب العلم والقراءة، فعِلمه كان يأتيه دون طلب.

وقد تم الاعتراف بالشريعة التي جاء بها النبي كمصدر عالمي للتشريع والقانون في عدة مؤتمرات دولية في القرن العشرين، وكان أولها مؤتمر القانون المقارن الدولي في لاهاي الهولندية عام 1932، حيث أقرت تلك المؤتمرات بأن الشريعة الإسلامية أصيلة وليست مستمدة من القانون الروماني كما حاول بعض المستشرقين أن يثبتوا.

عبد البهاء

ووُضعت عشرات الكتب في كشف معجزات العدالة والإتقان في التشريع المحمدي، وهو أمر لا يتسع هذا المقال للاستشهاد به، إلا أننا نكتفي بالتوقف عند التناسق بين كافة جوانب هذا التشريع، وهو من أدل البراهين على إعجازه وصدوره عن مصدر غير بشري، فكل الشرائع الوضعية التي عرفتها البشرية تطلب وضعها جهودا جماعية متأنية، ثم نضجت عبر تراكمات لأجيال متعاقبة، أما النبي فكان يفتي أحيانا عند وقوع الواقعة، وقد يصمت عندما يُسأل عن أمر لم يأته فيه الوحي فينزل عليه في لحظتها أو بعد برهة قصيرة، فيستدعي صاحب السؤال ويخبره بما جاءه من تشريع، وقد يُنسخ حكم بحكم آخر لتطور الأحداث ونضج المجتمع حديث التشكل، إلا أننا لا نجد أي وجه من وجوه التعارض والتناقض بين كافة الأحكام على ضخامتها، ولا نجد فيها أيضا ما يتعارض مع مقومات العدالة، وهو تحدٍّ لم ينجح فيه كل من ادعى النبوة [انظر مقال شريعة الإسلام].

فعلى سبيل المثال، ينص كتاب “الأقدس” الذي يقدسه البهائيون على أنه “إذا كان المتوفّى أباً وله دار كان يسكنها، يختصّ الابن الأرشد بهذا المسكن”، فالأفضلية للابن الذكر والأكبر سناً فقط، ويزعم مؤسس هذه الديانة عبد البهاء أن هذا التفضيل منصوص عليه في الكتب السماوية السابقة، فيقول “كانت للابن البكر في جميع الشرائع الإلهية امتيازات فوق العادة، حتى النبوة كانت ميراثا له”، وهو ادعاء غير صحيح.

يقول الفيلسوف والحقوقي الفرنسي مونتسكيو “إنه ليس هناك مقنِّن (واضع للقوانين) إلا وله رأي خاص في القانون، فكل مقنن لديه عواطف وأفكار خاصة، وهو يسعى عند وضع القانون إلى أن يجعل مكاناً لنظرياته”، ويستنتج من ذلك حصول التغير الدائم في القوانين الوضعية، فلا يكاد رئيس أو ملك يصل إلى السلطة إلا ويجري تعديلات دستورية وقانونية تتواءم مع رؤيته ورؤية حكومته، ولا يمكن للمقنن البشري أن يحقق العدالة المطلقة إلا بمدد معرفي مفارق للحاجات البشرية ومؤثرات البيئة، وهو ما لا يتوفر إلا للأنبياء الذين يستمدون الشرائع من الوحي.

الفرق بين النبي وأساتذة الجمعيات السرية
أوضحنا في مقال “الجمعيات السرية” أن الكثير منها نشأ داخل الأديان الكبرى لأسباب عدة، وأن نظامها يقوم أساساً على التدرج والترقي في مراتب سرية، وصولا إلى درجة الأستاذية التي يحتلها شخص خفي لا يعرفه إلا أصحاب الدرجة التي تحته مباشرة فقط، كما تحفل عقائد وشعائر هذه الجمعيات بالرمزية التي تحتمل التأويلات المختلفة بكل تفاصيلها، وإلى درجة يمكن فيها أن يجتمع النقيضان في أمر واحد، كأن يشيع مثلا أن جمعية ما تعبد الإله بينما هي تعبد الشيطان نفسه في الحقيقة، ولا يعرف ذلك إلا من يترقى إلى الدرجات العليا فقط.

لقطة من مشهد تمثيلي جاء في الفيلم الوثائقي “سري للغاية-الماسونية” وهي توضح إقرار العضو الجديد في الماسونية بأنه سيعرض نفسه في القتل إذا أفشى أسرار جماعته

وذكرنا أيضا أن أنظمة هذه الجمعيات تشترط على أعضائها الولاء المطلق والطاعة العمياء وكتمان الأسرار التي لا تُكشف إلا بعد تمحيص واختبار شديدين، مع التهديد بالقتل في حال كشف أي سر، ما يعطي “الأستاذ الأعظم” سلطة هائلة على عقول ونفوس وأجساد كل من يوافق على الانضمام إلى جماعته.

في المقابل، لم يقدم النبي محمد نفسه على أنه صاحب رسالة سرية أو تعاليم خفية، ومع أنه اضطر إلى تقليص نطاق دعوته بين المقربين منه في السنوات الثلاثة الأولى من الدعوة فهذا لا يعني أنها كانت خفية، بل أمره الوحي بإعلان نبوته منذ اليوم الأول، فجمع قريشًا عند جبل الصفا وأخبرهم بأنه رسول الله إليهم، إلا أنه لم يوسع الدعوة بعد ذلك حتى لا يتضرر أتباعه القلائل من بطش الرافضين لدعوته وطغيانهم، وكان النبي طوال تلك الفترة يجاهر بدينه وعقيدته دون إظهار التحدي، ويتلقى بالمقابل الكثير من الأذى والاضطهاد، كما كان يفعل ذلك الأقوياء من صحابته الأوائل مثل عمه حمزة وعمر بن الخطاب.

وطوال مدة النبوة التي امتدت ثلاثة وعشرين عاما، لم ينشئ النبي أي كيان سري، ولم يُخفِ عن الناس أي شعائر أو عقائد، بل نصّ القرآن على أن الدين مكشوف وعلني وواضح ومكتمل، فقال في حجة الوداع وقبل وفاة النبي ببضعة أشهر {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام} [المائدة: 3]، وفي حديث صحيح رواه مسروق عن عائشة أنها قالت “من حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته” [رواه البخاري].

وبما أن النبي كان سيد قومه ومؤسسا لدولة ناشئة ويحيط بها الأعداء المتربصون، فقد اضطر من حيث موقعه السياسي إلى إطلاع بعض صحابته الذين يشكلون “الكيان الأمني” للدولة على بعض الأسرار التي لا تتعلق بالدين نفسه، فأخرج البخاري عن أبي الدرداء أنه قال لعلقمة: “أو ليس فيكم صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه أحد غيره؟”، وجاء في روايات أخرى أن صاحب السر هو حذيفة بن اليمان، وهو يشبه ما يسمى اليوم بأمين السر (السكرتير)، وقد أوضح الحافظ ابن حجر في فتح الباري أن المراد بالسر ما أعلمه به النبي صلى الله عليه وسلم من أحوال المنافقين، ولهذا المعنى شواهد كثيرة في كتب الحديث.

كما أخرج البخاري عن أبي هريرة أنه قال “حفظت عن رسول الله وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطع هذا البلعوم”، وبيّن ابن حجر أيضا في الفتح أن وعاء العلم الأول الذي كشفه لنا أبو هريرة هو الدين نفسه، أما الوعاء الذي أخفاه فيتضمن أسماء أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم في عهد بني أمية، والديل أن أبا هريرة كان يكني عن بعضهم ولا يصرح خوفا على نفسه من بطشهم، كقوله “أعوذ بالله من رأس الستين، وإمارة الصبيان”، في إشارة إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، وقد استجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة. وقد أكد هذا المعنى بشواهد كثيرة الذهبي والقرطبي وغيرهما، مما يؤكد أن العلم المخفي هو نبوءات كشفها النبي لأمناء السر عن أسماء المنافقين وما سيحدث من الفتن والظلم بعد موته، وهي أمور لا علاقة لها بالدين نفسه.

“كانت صورة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهيئته وسمته وشمائله، تدل العقلاء على صدقه، ولهذا قال عبد اللَّه بن سلام (كان من أحبار اليهود وأسلم): فلما رأيت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، ولذا كان من سمع كلامه، ورأى آدابه، لم يدخله شك” [التقي المقريزي، إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، 4/179].

وعلاوة على ما سبق، يوجه الوحي النبي مراراً ليوضح للناس أنه ليس وصيّا عليهم، ولا سلطانا على نفوسهم وقلوبهم وعقولهم، فيقول في إحدى الآيات {قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار} [ص: 65]، وهذه الصورة أبعد ما تكون عن الدور الذي يلعبه أساتذة الجمعيات السرية الذين يعشقون السلطة ويشترطون الطاعة العمياء على أتباعهم، بينما لم يطلب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه البيعة إلا من حيث كونه مؤسسا لكيان سياسي، وبما يحقق حلم العدل للناس في مجتمع لا يُعبد فيه بشر ولا حجر.

الفرق بين النبي والملوك

المسجد النبوي في المدينة المنورة بمنتصف القرن التاسع عشر

يميل القادة في العادة عبر التاريخ إلى التمتع بقدر ما من الشهوات، فالأحمق منهم ينغمس فيها حتى الثمالة، والقائد الذكي يوجه طاقته نحو بسط سلطته وتقوية نفوذه ومقاومة أعدائه، لكن كلاهما يهتم بمظاهر العظمة، فأكثر القادة زهدا في الملذات نجده منغمسا في المقابل بشهوة السلطة.

والنبي هو الاستثناء الوحيد من هذه المعادلة الصعبة، فقد كان صاحب سلطة دنيوية معنوية، ومع ذلك لم يؤسس لنفسه ملكا، ولم يتخذ شيئا من مظاهر السلطة والنفوذ فضلا عن الملذات الدنيوية، بل كانت سلطته مستمدة أصلا من انقياد الصحابة له بموجب البيعة على الطاعة دون النص على تأسيس دولة، لذلك حار المفكرون والمنظرون في تصنيف سلطة النبي الاستثنائية، والتي خلفه فيها حكّام حقيقيون (الخلفاء الراشدون) يستمدون شرعيتهم من البيعة بصفتهم خلفاء للنبي، فيقول الماوردي في “الأحكام السلطانية” إن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، ويعرفها ابن خلدون بأنها خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا.

ومن ينظر في سيرة الخلفاء الراشدين يتعجب من زهدهم في ملذات الدنيا بالرغم مما حققوه من فتوحات غير مسبوقة في التاريخ، لكن هذا الزهد لم يكن سوى اقتباس من التطبيق النبوي للزهد، فالنبي ابتدأ دعوته برفض العرض السخي الذي قدمته له قريش عن طريق عمه أبي طالب، حيث عرضوا عليه الأموال والنساء والمُلك مقابل أن يكف عن الدعوة إلى التوحيد ونبذ الوثنية، فرفض بشدة، وتابع مسيرته مطارَدا منبوذا من قبل قومه ومعظم القبائل التي قصدها للدعوة، إلى أن بايعه الأنصار في يثرب (المدينة المنورة) على الطاعة فهاجر إليهم، وأسس بذلك واحدة من أقوى دول التاريخ، دون أن يتغير شيء في طبعه وسلوكه وحياته اليومية.

قال أبو ذر كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرّة المدينة فاستقبلنا (جبل) أُحُد، فقال يا أبا ذر، قلت لبيك يا رسول الله، قال ما يسرني أن عندي مثل أحُد هذا ذهبا تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار إلا شيئا أرصده لدين إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم مشى فقال إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه وقليل ما هم [البخاري: 6079]، أي لو أن النبي كان يملك ذهبا بحجم جبل ضخم فما كانت ستمضي ثلاث ليال إلا ويكون قد أنفقه كله على الناس إلا شيئا قليلا يحتفظ به لوفاء الديون.

كان النبي يستخدم هذا الوعاء الخشبي البسيط، وهو اليوم محفوظ داخل إطار معدني (http://topkapisarayi.gov.tr)

وأما طعامه، فقد كان يمر عليه شهران وما توقد في بيوت زوجاته نار للطبخ، فلا يأكل سوى التمر والماء وما يهدى إليه من أصحابه، وربما ظل يومه يلتوي من شدة الجوع وما يجد من الدَّقل (التمر الرخيص) ما يملأ به بطنه، وما شبع النبي ثلاثة أيام تباعا من خبز برّ حتى مات، وكان أكثر خبزه من الشعير، بل لم يؤثر عنه أنه أكل خبزاً مرقّقا أبداً، وهو الخبز الذي يتاح لنا في هذا العصر يوميا بأرخص الأثمان، وقد قال خادمه أنس بن مالك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجتمع عنده غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا حين يأتيه الضيوف [رواه الترمذي].

ورويت أحاديث كثيرة عن زهد النبي في المسكن والملبس والمظهر أيضا، فكانت حجرات زوجاته أكثر زهدا وبساطة من بيوت الكثير من سكان المدينة، وعندما طالبنه بمزيد من النفقة والرفاه نزل الوحي على الفور بتخييرهن بين أخذ حقوقهن والطلاق بالمعروف وبين الصبر على الحياة مع النبي وبالقدر الأدنى من مقومات الحياة، فأخبرهن النبي بما نزل عليه من القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28-29]، فاخترن جميعا الصبر، وكأن حياة النبي لا تقبل التوسع في ملذات الدنيا ليكون أبعد الناس عن التهم.

وعندما رأى عمر بن الخطاب النبي مضطجعا على فراش من الخصف وتحت رأسه وسادة محشوة بالليف، قال يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك فإن فارس والروم وُسع عليهم وأُعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، فجلس النبي وقال: “أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا” [صحيح البخاري: 2336].

وكان النبي يجلس مع أصحابه في مسجده الملاصق لحجرات زوجاته، فلم يكن يملك قصورا ولا ديوان ملك، وعندما يدخل عليه أعرابي لا يعرفه فإنه يسأل أيّكم محمد؟ والنبي متكئ بين ظهرانيهم لا يختلف عنهم في شيء. [صحيح البخاري: 1/23].

وخلافا للمشاهير في كل الأزمنة والحضارات والمجالات، لم يكن النبي يخشى الاختلاط بالناس، بل كان يقضي معظم وقته بينهم وبدون حواجز مادية ولا معنوية. فالمشاهير يتجنبون في العادة الاحتكاك بالناس كي لا تسقط هيبتهم وتظهر عيوبهم البشرية، ولا سيما الملوك الذين يحرصون على عدم الظهور إلا في المناسبات، أما النبي فكان يسافر مع أصحابه وكأنه واحد منهم، ويتعرض للمواقف شديدة القسوة فلا يظهر منه ما يطعن في كمال شخصيته، ومن بين آلاف الأحاديث التي نقلت إلينا أدق تفاصيل حياته اليومية لا نجد تصرفا واحدا غير لائق، فضلا عن أي تصرف عادي كالغضب والزلل وفلتات اللسان، بل نقل لنا الصحابة قصصا عجيبة عن حلمه وسعة صدره في التعامل مع أعدائه أو مع السفهاء من قومه.

قال ابن عباس “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشاة (يحلبها)، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير” [رواه الطبراني وصححها الألباني].

ومن المعروف في سيرة الملوك أنهم إذا خرجوا إلى أرض المعركة فإنهم كانوا يتحصنون في مقصوراتهم الملكية وراء الصفوف بعيدًا عن الخطر، أما النبي محمد فكان يحمل السيف ويقاتل بنفسه في الصفوف الأولى، حتى قال علي بن أبي طالب -وهو من أشد الفرسان شجاعة- “كنا إذا حمي الوطيس واشتدت المعركة اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم” [رواه البخاري و مسلم]، أي أن النبي نفسه كان هو الذي يحمي أصحابه في الميدان بسلاحه، وليس هذا لشجاعة النبي وإقدامه فقط بل لأنه كان يعلم أنه لن يُقتل حتى يتم الرسالة التي بعثه الله بها، وهو أمر لا يمكن لأي شخص يدعي النبوة أو يطمح إلى المُلك أن يزعمه لنفسه ثم يخاطر بحياته في سبيله.

وعندما توفي بعد 23 سنة من الجهاد المتواصل لنشر دعوته، لم يترك النبي درهما ولا دينارا ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة، وقالت زوجته عائشة “توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي”.

سيف النبي محفوظ في متحف توب كابي بإسطنبول، علما بأن الجواهر والمقبض قد أضيفت إليه في العصر العثماني

معجزات النبي
يرى الإمام أبو حامد الغزالي أن المعجزة وحدها قد لا تكون كافية لإقناع البعض، فمن يكتفي بالنظر في خوارق العادات مثل قلب العصا ثعبانا وشق القمر فقد يظن أنه سحر وتخييل وتضليل، ومن يستند إلى دعوى النبوة بالكلام المنظوم فقط فربما يقع أيضا في التضليل كما يفعل الشعر المتقن في نفس الإنسان.

لذلك فالخوارق تأتي على يد النبي من باب الإعجاز لمن يتحداه وليست كافية وحدها، لكن التحقق من نبوة من يدعي النبوة يتطلب النظر في معرفة أحواله، فمن يدرس أحوال “جالينوس” (طبيب إغريقي) مثلا ويقرأ كتبه يصل إلى علم يقيني بأنه كان طبيبا، وكذلك إذا فهمنا معنى النبوة وأكثرنا النظر في القرآن والأخبار نصل إلى “علم ضروري” بكونه نبيا.

ويضيف الغزالي أنه يمكن لمن يريد بلوغ اليقين أن يخوض تجربة العبادات التي جاء بها محمد، وأن يعيش بنفسه أثر تلك الشعائر على نفسه، وأن يطبق أيضا وصايا النبي في العلم والعمل. أما المعجزات الحسية الخارقة للعادة فهي من قبيل الرد على تحدي الخصوم، ولا يحتاج إليها الباحث عن الحقيقة بعقله المجرد.

ويقول ابن القيم في “إغاثة اللهفان” (2/691) إن معجزات النبي تتجاوز الألف، منها ما حصل وانتهى، ومنها ما هو باق، وهو القرآن الكريم الذي يعد المعجزة العظمى، وذلك من جهة لفظه التي تحدى الله بها فصحاء العرب، ومن جهة إخباره بأحداث مستقبلة وقعت لاحقا، ومن حيث احتوائه على تشريعات محكمة وأخبار قصص الأمم السابقة وبعض أسرار الكون.

سنفصل الحديث عن القرآن (المعجزة الكبرى) في مقال مستقل، وسنكتفي هنا بسرد بعض الأمثلة للمعجزات التي حدثت في عصر النبوة، ثم نورد أمثلة أخرى لبعض نبوءاته المستقبلية.

قبة الصخرة في المسجد الأقصى التي عرج منها بالنبي إلى السماء

أما المعجزات التي حصلت وانتهت فمن أشهرها ما يلي:
1- الإسراء والمعراج: حيث انتقل النبي في ليلة واحدة من مكة إلى القدس، ثم عُرج به من هناك إلى السماء, ووصل إلى سدرة المنتهى حيث لم يقترب أحد من العرش مثله، والتقى بالأنبياء الذين سبقوه، ورأى شواهد كثيرة من عالم الملكوت ونعيم الجنة وعذاب النار، ثم عاد في الليلة نفسها إلى مكة، وعندما أخبر أبا جهل بما رأه جمع له الناس كي يستمعوا إليه ويكذبوه، فكان النبي يقص القصة على قريش وهم يسخرون، بل ارتد كثير ممن كان قد أسلم عن الإسلام، وطار بعضهم بالخبر إلى أبي بكر ليختبروه فقال لهم “إنه ليخبرني أن الخبر (الوحي) ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه ، فهذا أبعد مما تعجبون منه”، أي أن نزول جبريل إليه ليس مستحيلا في العقل وقد صدّقته فلماذا أستبعد انتقالا عكسيا للنبي من الأرض إلى السماء، حتى لو كان ذلك خارقا للعادة ولا يقدر عليه البشر العاديون.

ثم حاول البعض أن يمتحن النبي فسألوه عن صفات المسجد الأقصى، فوصفه لهم وهم كانوا قد سافروا إليه في رحلات التجارة ويعرفونه، ثم أخبرهم عن تفاصيل القوافل (العير) التي رأها في طريق عودته وهي توشك على الوصول إلى مكة، فوصلت عند مغيب الشمس وعلى النحو الذي وصفه بدقة، ومع ذلك قال المشركون “هذا سحر مبين”. [البداية والنهاية: 4/282].

وأنزل الله آية في حق الذين أنكروا القصة فقال {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً} [الإسراء: 60].

2- انشقاق القمر: جاء وصف هذه المعجزة العجيبة في القرآن والسنة بالتواتر، فسُميت سورة كاملة من القرآن باسم القمر، وكان مطلعها: {اقتربت الساعة وانشق القمر (1) وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر}، كما روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُريهم آية (معجزة)، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما.

وللواقعة روايات كثيرة من قبل الصحابة، بما فيهم صغار السن مثل عبد الله بن عمر، وجبير بن مطعم بن عدي الذي لم يكن قد أسلم حينئذ. ويدور في العصر الحديث جدل بشأن إمكانية العثور على دليل يؤكد وقوع الانشقاق عبر دراسة ما تطرحه وكالة ناسا للفضاء من صور قمرية، لكن عدم العثور على صور لشقوق أو أخاديد كافية لا يعني عدم وقوع الحدث، فالانشقاق المعجز قد تبعه التحام معجز أيضا، ومن الطبيعي ألا يترك الالتحام أثرا، لأن التحدي كان لمن شهد الواقعة فقط.

وبما أن الانشقاق قد حدث لبرهة قصيرة، ولم يكن نتيجة ظاهرة مرصودة يترقبها الناس، فالأرجح أنه لم يرها من سكان الأرض سوى من صادف أنه كان ينظر إلى القمر في تلك اللحظة، وممن كان أيضا في منطقة يطل عليها القمر في الوقت نفسه، ولعل هذا يفسر عدم انتشار الخبر في تاريخ الشعوب الأخرى، أو عدم وصوله مدونا إلينا بكثرة، مع أن بعض الباحثين رصدوا توثيقا في مخطوطات فارسية وإسبانية تعود إلى عصر النبي نفسه.

المقال التالي بعنوان “القمر المنشق في وثيقة مدريد والمخطوطات الفارسية”، وقد نشر للمرة الأولى في موقع http://www.mayalords.org عام 2000، ثم تم تعديله عشرات المرات قبل أن يحذف نهائيا، وما زال موقع “أرشيف الإنترنت” يحتفظ بالنسخة الأولى وكل تعديلاتها، ويمكنك الاطلاع على ذلك بالضغط هنا.

3- تكثير القليل من الطعام بين يدي النبي أو بدعائه لطعام ما بالبركة، وقد تكرر ذلك في مرات كثيرة جدا وشاهدها عشرات الصحابة، ورويت تلك الروايات في صحيحي البخاري ومسلم، وأشهرها حديث جابر بن عبد الله في غزوة الخندق.

4- نبع الماء من بين أصابع النبي، وتكثيره الماء القليل حتى يشرب ويتوضأ منه جميع جنود الجيش، وهو حديث أثبته البخاري ومسلم عن أنس بن مالك وشهده حوالي ثلاثمئة صحابي، وفي حديث آخر شرب نحو 1400 صحابي من بئر جاف لا ماء فيه في غزوة ذات الرقاع.

كسرى الثاني جالسا على عرشه في لوحة جدارية

5- قصة إسلام أهل اليمن، حيث أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسالةً إلى كسرى ملك الفرس (كسرى الثاني أو خسرو الثاني) يدعوه فيها للإسلام، فمزق كسرى الرسالة وأرسل إلى باذان بن ساسان عامله على اليمن يأمره فيها بإرسال رجلين قويين إلى الحجاز واعتقال النبي واقتياده إليه (وفي رواية أخرى أن يأمراه فقط بالتوقف عن الدعوة)، فنفذ باذان الأوامر، ودخل الرجلان على النبي وقالا له إن شاهنشاه (ملك الملوك) كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك وهدداه، فلم يرد النبي وأمرهما أن يلاقياه غدًا. وفي اليوم التالي قال لهما النبي أخبِرا الذي أرسلكما -أي باذان- أن ربي قتل ربه الليلة -أي أهلك الله كسرى- وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى وينتهي إلى منتهى الخف والحافر، وقولا له إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملّكتك على قومك من الأبناء، ثم أعطى النبي إلى رسولَي باذان “منطقة” فيها ذهب وفضة، كان بعض الملوك أهداها له.

عاد الرجلان إلى باذان يخبرانه بالأمر، وبعد شهر وصل الرسل من فارس (إيران) إلى اليمن فسألهم باذان على الفور: هل قُتل كسرى؟ فتعجبوا وسألوه من أخبرك بذلك؟ وأخبروه أن شيرويه بن كسرى ثار على أبيه فقتله ونصب نفسه ملكا في نفس الليلة التي ذكرها النبي، فآمن باذان بأن محمدا نبي يأتيه الوحي من السماء، وأسلم معه أهل اليمن. [أخرجه الطبري وابن كثير وابن سعد عن ابن مسعود بسند صحيح، وأخرجه ابن بشران عن أبي هريرة وحسنه الألباني].

ملحمة الشاهنامه الفارسية تحكي قصة مقتل كسرى الثاني على يد ابنه قباز شيرويه في 28 فبراير 628م

النبوءات المستقبلية
تنبأ النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعدد كبير من الأحداث التي وقع الكثير منها ومازال بعضها ينتظر التحقق، فكل ما وعد بحدوثه في حياته أو في حياة بعض أصحابه وقع بدقة، وكأنه كان ينظر إلى المستقبل بعين الحاضر، وفيما يلي بعض الأمثلة:

1- قبل بدء معركة بدر بيوم واحد، وهي أول المعارك التي خاضها المسلمون بعد تأسيس نواة دولتهم في المدينة المنورة، تفقد الرسول أرض المعركة وأخذ يشير إلى موابع مقتل المشركين فيها ويقول “هذا مصرع فلان”، فيسميهم بالاسم وكأنه كان يرى بعينه نتائج المعركة، ويقول أنس بن مالك “فما ماط (ابتعد) أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم” [رواه مسلم].

2- كان الصحابة الأوائل يلقون الأذى الشديد من قريش، فاشتكوا إلى النبي وقالوا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال “قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويُمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون” [رواه البخاري]، وقد تحقق هذا الوعد الذي كان يبدو خياليا في حينه.

وعندما كان النبي وصحابته يحفرون الخندق حول المدينة تحسبا لهجوم قريش وحلفائها، شكا الصحابة صخرة لم يستطيعوا كسرها، فأخذ الفأس وقال بسم الله، وضرب ضربة كسر منها ثلث الحجر، وقال “الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إنى لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا”، وفي الضربة الثانية قال “الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إنى لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا”، وفي الثالثة قال “الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنى لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا” [رواه أحمد]، وقد سخر المنافقون فيما بينهم من هذه النبوءات الطموحة جدا، فالنبي الذي كان على وشك التعرض لحصار خانق يتنبأ بإسقاط أقوى الدول على وجه الأرض، وقد تحقق وعده فعلا في حياته وقبل نهاية خلافة عمر بن الخطاب.

كما وعد النبي أيضا الصحابي سُراقة بن مالك بأنه سيلبس سِوارَي كسرى، وعندما فتح عمر بلاد فارس أعطى سواري أعظم ملوك الأرض لسراقة تحقيقا لوعد النبي.

الفيديو التالي يوضح أن الإسلام كان أسرع أديان التاريخ انتشارا في العالم.

3- بالرغم من وعده لأصحابه بالنصر والفتوحات، فقد أخبرهم أيضا أن الضعف سينال من جسد أمتهم وأنهم سيتقاتلون فيما بينهم، فقال “يوشك الأمم أن تدّاعى عليكم كما تداعى الأكَلَة إلى قصعتها”، فقال قائل “ومن قلةٍ نحن يومئذ؟”، قال “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت” [صححه الألباني] .

وهناك أحاديث كثيرة نُقلت عن النبي وهو يحدث أصحابه عن الفتن التي سيتعرضون لها، وهذه من أعجب المعجزات، فقد كان الصحابة يعلمون بحدوث تلك الفتن ولم يستطيعوا منعها، كما تحدث النبي بالتفصيل عن فتنة الخوارج ووصف أشكالهم وأفعالهم، مع أنهم لم يبدأوا فتنتهم إلا في عهد علي بن أبي طالب ولم يكن خروجهم وارداً في ذهن أحد، وكان يجدر بهم أن ينتبهوا إلى ما قاله النبي قبل سنوات قليلة عنهم وأن يحذروا من سوء عاقبتهم.

ومن أدل روايات الفتن على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم أنه عندما خرج كل من علي والزبير في جيشين وكانا على وشك الاقتتال بينهما، وهما من كبار الصحابة والمبشرين بالجنة، نادى عليّ الزبير فأقبل عليه، فقال علي: يا زبير أنشدتك بالله أتذكر يوم مر بك رسول الله ونحن في مكان كذا وكذا؟ فقال النبي يا زبير تحب عليًا؟ فقلت: ألا أحب ابن خالي وابن عمي وعلى ديني فقال: يا علي أتحبه؟ فقلت: يا رسول الله، ألا أحب ابن عمتي وعلى ديني، فقال النبي: يا زبير، أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم. فتذكر الزبير الحادثة على الفور وقال: بلى، والله لقد نسيته منذ سمعته من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرته الآن، والله لا أقاتلك، وتراجع عن المعركة قبل أن تبدأ.

4- أخبر النبي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان وعلي بن أبي طالب بأنهم سيموتون شهداء، وقد قتُل عمر وعثمان فعلا في الفتن التي أخبر بها النبي، وعندما مرض علي مرضا شديدا قال له بعض أصحابه وهم يعودونه لقد تخوفنا عليك يا أمير المؤمنين في شكواك هذه، فقال بكل ثقة: لكني والله ما تخوفت على نفسي منه، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصادق المصدوق يقول “إنك ستُضرب ضربة ها هنا وضربة ها هنا -وأشار إلى صدغيه- فيسيل دمها حتى تختضب لحيتك..”، وكأن النبي كان يرى بعينه كيف سيُقتل علي، وقد حدث هذا فعلا.

وفي السياق نفسه، قال النبي عن عمّار بن ياسر “ويح عمار تقتله الفئة الباغية” [رواه البخاري]، وقد قُتل بسهم أطلقه معسكر معاوية على معسكر علي، وكان النبي يقول عند زيارته أم ورقة بن نوفل “انطلقوا بنا نزور الشهيدة” [رواه أحمد وابن خزيمة]، وقد قتلها غلام وجارية لها في عهد عمر فصلبهما، كما أخبر النبي ثابت بن قيس باستشهاده في قوله “يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة، قال بلى يا رسول الله” [رواه الحاكم]، وقد عاش حميدا واستشهد في المعركة ضد مسيلمة الكذاب، وأخبر النبي أم حرام بنت ملحان أنه رأى في منامه ناس من أمته يغزون في البحر، مع أنه لم يكن من الوارد لدى العرب ركوب السفن وشن الغزوات فيها، فقالت أم حرام: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: أنت من الأولين، وقد ركبت أم حرام أول أسطول إسلامي بالفعل في زمن عثمان، وما إن نزلت أرض جزيرة قبرص حتى سقطت عن دابتها وكانت أول الشهداء هناك، وما زال قبرها معروفا [أخرجه البخاري ومسلم].

ويجدر بالذكر أنه من غير المنطقي أن يستغل المشككون في عصرنا الحالي الفتن التي وقعت بين الصحابة للطعن في الإسلام نفسه، وذلك من باب الطعن في الصحابة والتقليل من شأنهم، بل هي من أقوى الأدلة على صحة الإسلام الذي جاء به النبي، فقد وقعت كما أخبرهم عنها تماما، ولم يقوَ أحد على منعها. أما وقوع الأخطاء من الصحابة فليس سوى دليل على بشريتهم وعدم بلوغهم الكمال الذي بلغه النبي وحده، فالوحي لم يقل إن الصحابة معصومون أصلا بل أكد العكس.

وإذا حاولنا التشكيك في تلك النبوءات كلها، وزعمنا أن أتباع النبي قد اخترعوها بعد حدوثها ونسبوها إليه، فمن غير المنطقي أن يتواطأ جميع الرواة على الكذب، فالكثير من تلك الروايات وردت من أكثر من طريق وثبتت لدى المحدثين صحتها، وسنبين في مقال “السنة النبوية” المنهج العلمي الدقيق الذي جُمعت به الأحاديث والسنن ودُققت واعتُمدت، وهو منهج لا يقبل المحاباة والمجاملة والعبث، ولا يدانيه أي منهج في دراسات التاريخ المقارَن لدى كل حضارات العالم.

ميرزا غلام أحمد

في المقابل، لم يستطع مدّعو النبوة المعروفون في التاريخ المعاصر أن يثبتوا صحة نبوتهم عبر التنبؤ بالمستقبل، ولعل أشهرهم مؤسس طائفة القاديانية الميرزا غلام أحمد (توفي عام 1908م) الذي حاول أن يثبت نبوته بوضع العديد من التنبؤات المستقبلية فكان الفشل حليفه، ونذكر منها المثال التالي:

فقد تنبأ غلام أحمد بأن الطاعون الذي ضرب الهند في زمانه لن يدخل بلدته قاديان أبداً، وقال: “هو الإله الحق الذي أرسل رسوله في قاديان وهو يحفظ القاديان ويحرسها من الطاعون ولو يستمر الطاعون إلى سبعين سنة، لأن القاديان مسكن رسوله وفي هذا آية للأمم” [دافع البلاء للقادياني10، 11]، لكن الطاعون دخل البلدة وفتك بأهلها حتى وصل إلى بيته، فقال: “إن بيتي كسفينة نوح من دخله حُفظ من كل الآفات والمصائب”، ثم اعترف بأنه خاف على نفسه: “ودخل الطاعون بيتنا فابتليت غوثان الكبيرة فأخرجناها من البيت.. ومرضتُ أيضاً حتى ظننتُ أنه ليس بيني وبين الموت إلا دقائق قليلة” [إحسان ظهير، القاديانية، 1984، ص 180].

الخاتمة
حاولنا في هذا المقال الموجز تركيز الإجابة على التساؤلات الكبرى بشأن النبوة نفسها، ثم بشأن مصداقية نبوة محمد نفسه. وقد يتطلب البحث عن السبيل مزيدا من التوسع، وأن يواصل الباحث التحقق من الأدلة والغوص في تفاصيل سيرة النبي العامرة بآلاف التفاصيل والأحداث والتصريحات والوقائع، والتي تتفرع باستفاضة عن الأصول التي حاولنا الإلمام بها.

وفي المحطات التالية، سنتوقف عند حقيقة الوحي الذي جاء به النبي، ونبحث في القرآن لنتأكد من كونه الكتاب الموحى به فعلا من الله تعالى، وأنه المعجزة التي تحدى بها الإله مخلوقاته، وأنه ما زال محفوظا على هيئته الإعجازية الأولى دون تحريف ولا نقصان. ثم سنتعرف على التراث الذي أورثه النبي المُرسل إلى البشرية من بعده، من الأحاديث والسنن، وما يستفاد منها من تشريعات وعقائد وعلوم أخرى.

أهم المراجع
القاضي عياض السبتي، كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى، دار الفكر، 2002.

أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، دلائل النبوة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985.

أبو نعيم الأصبهاني، دلائل النبوة، تحقيق محمد رواس قلعة جي وعبد البر عباس، دار النفائس، بيروت، 1986.

ابن ناصر الدين الدمشقي، جامع الآثار في السير ومولد المختار، تحقيق نشأت كمال، وزارة الأوقاف القطرية، 2010.

صفي الرحمن المباركفوري، وإنك لعلى خلق عظيم: الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، شركة كندة للإعلام والنشر، 2006.

أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق سميح دغيم، دار الفكر، بيروت.

إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، دار عالم الكتب، بيروت، 2003.

عبد الأحد داود، محمد كما ورد في كتاب اليهود والنصارى، ترجمة محمد فاروق الزين، مكتبة العبيكان، الرياض 1417هـ.

سامي العامري، محمد رسول الله في الكتب المقدسة، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، 2006م، ط1.

العهد القديم العبري، ترجمة بين السطور عبري-عربي، الأبوان بولس الفغالي وأنطوان عوكر، الجامعة الأنطونية، لبنان 2007.

الكتاب المقدس، المطبعة الكاثوليكية في بيروت.

http://www.irf.net/Hinduism_Muhammad.html

مصادر المعرفة

تعريفات
المعرفة: مصطلح يدل على إدراك صور الأشياء أو صفاتها أو إدراك المعاني المجردة (مثل الصدق والحرية) سواء كان لها وجود موضوعي أو في الذهن فقط.

العلم: حسب تعريف أهل المنطق هو إدراك الشيء أو المعنى على ما هو عليه في الواقع، أي أنه المعرفة الصحيحة التي تتطابق فيه الصورة الذهنية للشيء مع واقع هذا الشيء. أما “العلم” بالاصطلاح الشائع اليوم فهو ترجمة غير دقيقة لكلمة science التي تتعلق بنتائج العلم التجريبي فقط.

الخبرة Experience: هي تراكم المعارف التي يكتسبها الإنسان في حياته عبر نشاطه الذاتي وتفاعله مع عناصر البيئة المحيطة به، فهي مجموع المعارف العملية لكل فرد على حدة، وتعد لدى المدرسة البراغماتية المصدر الأساسي للمعرفة الإنسانية.

اليقين: هو الجزم بأن معرفة الشخص لأمر ما هي مطابقة للواقع قطعا (أي علم) مع وجود الدليل القاطع على ذلك. واليقين يورث الطمأنينة في القلب لأنه لا يحتمل وجود النقيض، وهو ما طلبه إبراهيم عليه السلام عندما قال {رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260].

الاعتقاد: هو الجزم بأن المعرفة مطابقة للواقع قطعا ولكن دون تقديم دليل قاطع، وهذا هو “الإيمان”. وفي حال كون الاعتقاد خاطئا أصلا فهو “اعتقاد فاسد”، ولكنه قد يكون صحيحا بالرغم من عدم تقديم الدليل.

الظن الراجح: هو الذي يكون أقل وثوقية من اليقين، فتتراوح نسبة الوثوق فيه ما بين 99% و51%.

الشك: هو الذي تتساوى فيها الاحتمالات تساوياً تاماً، فلا يكون لبعضها رجحان على بعض، وتكون نسبة الوثوق فيه 50%.

الظن المرجوح: هو الظن الوهمي، ويسمى “وهماً”، وهو ما كانت نسبة الوثوق فيه أقل من 50%، وإذا وصلت النسبة إلى الصفر فهو باطل بيقين.

هل المعرفة ممكنة؟
قبل بحثنا عن المعرفة وأدواتها، يجدر بنا التعرف على آراء الفلاسفة في إمكانية الوصول إلى المعرفة أولا، حيث اختلفت العقول كعادتها في الإجابة عن هذا السؤال إلى درجة تقديم أطروحات في غاية الغرابة.

ربما كان السفسطائيون في اليونان هم أول من شكك في إمكانية تحصيل المعرفة، وكانوا على ثلاثة آراء، هي:

1-  اللاأدرية: هم الذين يشكّون في إمكانية معرفة وجود الأشياء وخواصها، فهم يعتبرون أن التوصل إلى اليقين أمر مستحيل ويقدحون في كون الحواس والعقل مصادر موثوقة للمعرفة، وهكذا يمتنعون عن الجزم بأي شيء.

2- العِنادية: هم الذين يقولون إن أي قضية بديهية أو نظرية لا بد أن يكون هناك ما يعارضها، فيجزمون بأنه لا توجد حقائق في الكون.

3- العِندية: هم الذين أنكروا حقائق الأشياء، وزعموا أنه لا توجد حقيقة موضوعية، فما يراه أي شخص موجوداً فهو عنده موجود، ولا يصبح موجودا عند غيره حتى يراه كذلك، فالوجود والعدم والحق والباطل والمعايير كلها نسبية تتعلق بكل شخص على حدة، وهو ما يلخصه بروتاغوراس بقوله “الإنسان هو معيار كل شيء”.

بيرون

يعد الفيلسوف بيرون من أشهر الشكاك في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، فقد رحل مع جيش الإسكندر الكبير إلى الهند، وتلقى الفلسفة هناك على يد طائفة من الهندوس تسمى “الفلاسفة العراة”، الذين ما زال لهم وجود حتى اليوم في الهند وهم لا يرتدون أي ملابس تستر عوراتهم، ويُعتقد أنه أخذ عنهم بعض آرائهم عن التشكك ثم نقلها إلى اليونان.

رأى بيرون أن جميع الأديان والأساطير من حوله غير مقنعة، فقرر بذلك أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها وأنه ينبغي على الفيلسوف أن يبحث عن الطمأنينة لا الحقيقة، وكي لا يبقى الإنسان بلا عقيدة نصح أتباعه بأن يقبلوا الأساطير السائدة في بلادهم وزمانهم دون اكتراث لمدى صحتها.

انتهى الأمر بفلسفة بيرون إلى السلبية، حيث قرر أن أفضل ما يفعله الإنسان هو أن يقبل الحياة كما هي دون أن يحاول إصلاح العالم، وحتى دون أن يبذل جهدا في تجنب الأخطار ومعالجة الأمراض.

ومع أن النزعة الشكية انتشرت في اليونان وكادت أن تخرب العقول إلا أن الفيلسوف سقراط تمكن من الرد عليهم وتسخيف منهجهم، ثم تصدى لهم من بعده أفلاطون وأرسطو، فأنقذوا بلادهم من السقوط في العدمية، إذ يمكننا أن نتخيل مصير أي مجتمع ينتشر فيه هذا النوع من الشك الذي ينفي اليقين ويجعل المعرفة أمرا مستحيلا، بل ويترك معيار الحكم على الأخلاق والمعارف إلى الفرد ذاته بنسبية مطلقة.

السفسطائية “sophism”
هي حركة فكرية انتشرت في اليونان، وتحديدا في مدينة أثينا، خلال النصف الأخير من القرن الخامس قبل الميلاد، واشتهرت بنقل اهتمامات الفلاسفة من التأمل في القوانين الطبيعية والكونية إلى شؤون الإنسان الأخلاقية والسياسية، حيث كان الإنسان موضع اهتمام الأدباء وليس الفلاسفة، وتزامن ذلك مع قيام حروب دامية بين اليونان والفرس وبين أثينا وإسبرطة، وتزعزع الحكم الديمقراطي الأثيني، وتسلط الأرستقراطيين على الحكم مما جعل الأخلاق والسياسة وحقوق الناس هي القضايا المصيرية التي تستحق اهتمام الفلاسفة.

هنا ظهر فلاسفة الجماعة السفسطائية، وعلى رأسها “بروتاغوراس” و”غورجياس”، الذين سخِروا من الاهتمام بالقضايا الميتافيزيقية (الدينية والأسطورية) وركزوا اهتمامهم على السياسة والفصاحة والنجاح الدنيوي، وأصبح معيار الحق والعدل لديهم مرتبط بمدى قدرة الإنسان على المناظرة والجدل والمواهب الخطابية في إقناع الجماهير.

ميشيل دي مونتين

في القرن السادس عشر، أعاد الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين إحياء مذهب الشك، وكان له أثر كبير في إدخال الشك في فكر الحداثة، حيث تأثر به بعض المفكرين الذين انتهى بهم الحال إلى العدمية، ثم طوّر الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم (توفي عام 1777م) فكرة الشك وقال إن المعرفة ليست مؤكدة بل مبنية على تصور الإنسان وإدراكه للأشياء.

استبعد هيوم مفهوم المعرفة الفطرية والمبادئ العقلية (البديهيات) وزعم أنها مكتسبة من العادة والتجربة وليست فطرية، كما أنكر الرابطة الضرورية بين السبب والمسبب (السببية) وحولها إلى رابطة ظاهرية ناتجة عن الألفة والعادة، فيقول مثلا إننا نعتقد بأن قطعة الفحم تشتعل عندما تُلقى في النار لأننا اعتدنا على رؤية ذلك كلما جربناه، ولكن ما الذي يضمن لنا أن التجربة ستنجح في المرة التالية؟

ومن الواضح أن نفي السببية يعني السقوط في نسبية مطلقة واستحالة الوصول إلى معرفة حقيقية أو يقينية، ما دفع بعدد من كبار الفلاسفة للرد على هيوم، وعلى رأسهم الألماني إيمانويل كانط (توفي عام 1804م) الذي يُعتبر اليوم بمثابة المنقذ للعقل الغربي من السقوط في الشك العدمي.

وفي مناقشة طويلة ومعقدة، أقام كانط حجته على أن شكية هيوم لن تؤدي إلى الشك في قيام عالم موضوعي بل إلى زعزعة اعتقادنا بضرورة السببية فقط، فينبغي أن ننطلق من مسلّمة بوجود تعاقب موضوعي بين الحوادث مستقلا عن إدراكاتنا الحسية، ثم نسأل: كيف نميز بين التعاقب في أفكارنا والتعاقب في الحوادث الموضوعية؟

الرد على الشك الفلسفي
وللرد على الشكاك والريبيين، نقتبس بإيجاز من كتاب الدكتور راجح الكردي “نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة” النقاط التالية:

1- ركز الشكاك طعنهم في الحواس كمصدر وحيد للمعرفة وأنها أساس البديهيات، وقد رد عليهم أفلاطون بأن أخطاء الحواس لا يصح الإستناد إليها في إنكار العلم لأنه يمكن تصحيحها، سواء باستخدام حاسة أخرى أو بالتجربة مع العقل والبرهان. كما أنه من الممكن جدا تصحيح أخطاء الحواس والتمييز بين حواس كل شخص على حدة بمنهج عقلي سليم تمحص فيه الحقيقة، فما تقدمه الحواس المختلفة من نتائج قد تكون مختلفة ولكنها ليست متناقضة، بينما يزعم الشكاك أنها متناقضة.

2- اختلاف الآراء جائز ولكن اتفاق الناس على أمور أساسية من البديهيات والمسلمات المعقولة والمبادىء ليس مستحيلا، مثل الاتفاق على الفضائل الأخلاقية والحقائق الرياضية.

3- هناك قضايا تتضح صحتها في العقل بمجرد تصورها بدون برهان، وهي قضايا بديهية أولية ومطلقة، فمن ذا الذي لا يصدق أن الكل أكبر من الجزء؟ ومن الذي يطلب دليلا عليه؟

أما الشك المطلق الذي ينفي إمكانية التعرف على الحقيقة نهائيا، فيردّ عليه الدكتور الكردي بما يلي:

1- إذا أراد الشاك إثبات مذهبه والبرهنة على صحة قوله فهذا يتطلب منه الاعتراف بأنه يستطيع أن يعلم شيئا علما يقينيا، وهذا يناقض دعواه بامتناع اليقين.

2- الشاك إما أن يعلم وجوب الشك في كل شيء وهذا يعني أنه يعلم علما يقينيا بأنه ينبغي أن يشك في كل شيء، ويعلم من ثم علما يقينيا بأنه لا ينبغي الشك في كل شيء، وإما أن يعلم علما يقينياً أن مذهبه راجح فقط، فلديه مرجح يأخذ به. وإما أن يعترف بأنه لا يعلم علما يقينيا ولا راجحا وحينئذ فهو لا يضع الشك كمذهب ويقر بالعجز.

3- الشك نفسه يتضمن ثلاث بديهيات يأبى العقل الشك فيها، وهي: وجود الذات المفكرة (ذات الشخص الشاك نفسه فهو يعلم يقينا أنه موجود ويفكر)، وعدم جواز التناقض (لأنه يعلم ما الشك وما العلم وما الجهل وما اليقين وما الإنسان… إلخ، فهو يقر أن اليقين غير الشك وأنه من غير المستطاع أن يجمع بين الإثبات والنفي معا)، وكفاية العقل لمعرفة الحقيقة (فهو يعول على عقله في طرح مذهبه).

لودفيغ فتغنشتاين

يقول الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين إن الشك يستلزم مرجعاً، ما يعني أن الشك المطلق لغو، فهو استخدام خاطئ لكلمة الشك التي يستخدمها الشخص العادي عند المقارنة مع اليقين. وعندما كان يتحدث هيوم عن الشك مستخفاً بوجود العالم المادي وبالمعرفة الإنسانية فهو لم ينتبه إلى أنه قد تعلّم الشك نفسه من لغة الإنسان العادي، وكان عليه أن يستخدم لغة أخرى خاصة لا يفهمها إلا هو بناء على مفهومه المطلق للشك.

الشك المنهجي
إذا كان الشك الفلسفي -الذي تحدثنا عنه أعلاه- مذهبا مستقلا يقوم على إنكار المعرفة فإن الشك المنهجي يجعل من الشك مجرد وسيلة للوصول إلى اليقين، ويتطلب ذلك من الباحث أن يجرد عقله عن كل المعلومات والأفكار والمعارف، وينطلق تدريجيا بالتأمل والتفكير نحو اكتساب الحقائق المجردة.

أرسطو

أوصى أرسطو (توفي عام 322ق.م) في وقت مبكر بضرورة الشك المنهجي، وقال إن هناك علاقة ضرورية بين الشك والمعرفة الصحيحة، لأن المعرفة التي تعقب الشك أقرب إلى الصواب.

كان أبو حامد الغزالي (حجة الإسلام المتوفى عام 1111م) أيضا من رواد هذا الشك، ففي كتاب “المنقذ من الضلال” تحدث عن تجربته مع الشك عندما بدأ بالشك في الحواس لعدم قدرتها على كشف الكثير من مظاهر الزيغ، ثم أخذ يشك في العقل نفسه إزاء نتيجة خوضه في المناظرات الفكرية العميقة مع شتى التيارات الفكرية السائدة، حتى وصل به الأمر إلى المرض النفسي والجسدي (الاكتئاب)، حيث كان يعاني من صعوبة في الكلام وفقدان الشهية للطعام، واستمر على هذا الحال ستة أشھر، ولم ينته إلا بعد أن قذف الله في صدره نور الحقيقة، فاستعاد عقله الثقة بالبديهيات والحقائق الأولى، ورجع إليه إيمانه بالمحسوسات والمعقولات. وقد دفعته هذه التجربة إلى الميل نحو الكشف الصوفي بعد أن كان من المؤيدين للمنهج العقلاني، لكن الأرجح أنه تخلى عن المنهج الصوفي في المرحلة الأخيرة من حياته.

في القرن السابع عشر سار الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت على خطا الغزالي، وقال إنه ينبغي علينا أن نطرح كل ما في داخل عقلنا من معارف، ونشك في جميع طرق العلم وأساليبه، حتى نصل إلى العقل مجردا خالصا. وقد مارس بنفسه هذا النهج في التأمل وطرح الاعتقاد بوجود كل شيء، حتى وصل إلى حقيقة واحدة يجب الإيمان بها وهي أنه يفكر، واستنتج منها المقولة الأولى للمعرفة “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، ثم استنتج من تلك الحقيقة حقيقة وجود الله وبقية الحقائق الأخرى.

طبيعة المعرفة
بعد الانتهاء من نقض الشك الفلسفي المطلق، والاعتقاد بإمكانية المعرفة واليقين، تفرعت مذاهب الفلاسفة في طبيعة معرفة الإنسان للأشياء وكيفية إدراكه لها إلى تيارين رئيسين، ثم حاول البعض إنشاء تيار توفيقي ثالث، ونوجزها بما يلي:

1- الواقعية: هو تيار يشمل مذاهب عديدة، وتعتقد جميعها بوجود عالم خارجي للموضوعات (الأشياء) مستقل عن الذات العارفة (الإنسان)، فمعرفة العقل للأشياء مطابقة للاشياء كما هي في الواقع، وهذا يعني أن المعرفة هي الصورة المنعكسة للعالم الخارجي في العقل.

ومن مذاهب هذا التيار الاعتقاد بصحة إدراك الحواس بشكل تام، وهو ما ثبت خطؤه بالتجربة، فالحواس قد تكون خادعة أحيانا مثل خدعة السراب.

ومن مذاهبه أيضا الواقعية النقدية التي تخفف من غلو الاعتقاد بصحة مدركات الحواس وترى أن المعرفة ليست مطابقة لهذه المدركات بل هي صورة معدلة في العقل، وهذا هو مذهب “الوضعية” الذي يرفع من قيمة العلم التجريبي ويجعل الفكر مجرد انعكاس للوجود المادي.

2- المثالية: أصحاب هذا التيار لا يرون وجودا إلا للفكر وتصوراته، فالمادة والأشياء كلها تابعة لما يفكر به العقل، ولا وجود للشيء إذا لم يدركه العقل، حتى أصبح العالم الموضوعي لدى بعضهم مجرد أفكار وخواطر، وهو تطرف غير منطقي وتنكره التجربة، فهناك أشياء موجودة في الكون ولا يدركها أي عقل، وهناك أشياء كانت موجودة منذ ملايين السنين ولم تُدرك إلا في وقت متأخر، ما دفعهم إلى القول إن تلك الأشياء كانت موجودة في “عقل إلهي” ثم استقبلها العقل البشري منه.

إيمانويل كانط

3- التيار النقدي: وضع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط مذهبا نقديا للتوفيق بين الواقعية والمثالية، فميز بين الظواهر العقلية السابقة على التجربة وبين الظواهر التي تكتسب بالحواس، وقال إن المعرفة لا تكتسب إلا بالحس والعقل معا، فنحن لا نعرف الأشياء كما هي بل كما تظهر لنا فقط، ومعرفتها تتم عبر نقلها بالحواس إلى الذهن ثم مطابقتها للمقولات والمبادئ العقلية.

منذ بداية القرن التاسع عشر، أصبح مذهب كانط بمثابة المرجع الأساسي للفكر الغربي، حيث أعاد للعقل بعض التوازن باتخاذه موقفا وسطيا والاعتقاد بوجود مبادئ فطرية وضرورية في العقل، لكن مذهبه لم يتمكن من إلغاء النظرة الوضعية لأنه جعل استخدام المبادئ الفطرية في غير المحسوس أمراً مستحيلاً، مما جعل إدراك العقل للحقائق الجزئية بمثابة حقيقة كلية، فقد ميّز كانط بين ما أسماه بالعقل النظري والعقل العملي، وأنكر قدرة العقل النظري (الخالص) على الوصول إلى “معرفة راسخة للحق العلوي”، فالعقل حسب رأيه لا ينتج معرفة ما لم يتصل بالأشياء المادية والتجارب الحسية التي تمدُّه بالمادة والمضمون عبر قوة الفهم، ومع ذلك فقد رأى كانط أنه لا بد من الاعتقاد بوجود إله ويوم آخر لتأسيس فعل أخلاقي.

وهذا يعني أن كانط لم يكن متوازنا ووسطيا بالفعل، بل أعطى المادة قيمة أكبر ولم يعترف بقيمة المبادئ الفطرية العقلية إلا بشكل تابع للمادة، حتى لم يجد مبررا لوجود الإله إلا من حيث الضرورة لتبرير الأخلاق، وهكذا أصبح الدين في العقل الغربي مسألة نفسية ذاتية خارجة عن مفهوم الحقائق، وأصبحت الوقائع تابعة لمصلحة الإنسان بدلاً من اعتماد العقل للبحث عن حقائق الأشياء [انظر مقال البراغماتية].

والمفارقة أن العقل الغربي الوضعي، الذي يعتقد أن المعرفة الدينية تحتاج إلى إيمان غيبي غير عقلاني، لا ينتبه إلى أن معرفته الوضعية المادية ليست أقل غيبية، فهو يجزم بمرجعية المادة وحدها دون برهان مع أنها مجرد خيار واحد من بين خيارات أخرى ممكنة.

ويجدر بالذكر أن المذاهب الحداثية كلها فقدت الكثير من بريقها في القرن العشرين مع ظهور تيارات ما بعد الحداثة وفيزياء الكم، بما فيها المذهب النقدي لكانط، حيث أدرك الكثيرون أن الأسس التي صاغت المعرفة الغربية نشأت داخل حركة تاريخية متأثرة بتسلط الكنيسة السياسي ومحاربتها للعلم، وهناك اعتقاد شائع اليوم بين فلاسفة العلم والعلماء التجريبيين أن المعرفة الكلية مستحيلة، وأن المعرفة العلمية المادية ليست يقينية.

مصادر المعرفة

بعد استعادة الإنسان ثقته بإمكانية التوصل إلى المعرفة، سيجد نفسه أمام عدة تيارات فكرية يؤمن كل منها بأولوية أحد المصادر أو الوسائل المؤدية للمعرفة، فهناك من يرى أن المعرفة لا تتحقق إلا بوسيلة واحدة، وهناك من يؤمن بمصادر أخرى غير أنه يثق بواحدة منها للتوصل إلى اليقين.

وسنتحدث فيما يلي عن خمسة مصادر رئيسة للمعرفة، وهي الإلهام والحدس والكشف، العقل، الحس، الإجماع، والوحي. ويجدر بالذكر أن مدارس الفلسفة الحداثية وما بعد الحداثية والعلماء التجريبيون لا يعترفون بالوحي والكشف، دون أن يمنع ذلك عشرات الملايين في الغرب من التمسك بإيمانهم بالوحي المسيحي-اليهودي وبالكشف على الطريقة الباطنية الغنوصية. وسنستعرض فيما موجزا لهذه المصادر الخمسة.

المصدر الأول: الإلهام والحدس

الإلهام هو ما يلقيه الإله في الروع، وبحسب المتصوفة فهو الإيقاع في القلب من العلم غير القائم على الاستدلال، أما أتباع المذاهب الباطنية الغنوصية الذين يؤمنون بوجود ما يسمى بالعقل الفعال، مثل ابن سينا، فيقولون إن الإلهام هو ما يلقيه العقل الفعال في نفس الإنسان المؤيدة بشدة الصفاء.

وحدوث الإلهام يسمى بالإشراق والكشف والذوق لدى المتصوفة، أما الجزء البشري الذي يحدث فيه هذا الإشراق فيسمونه بالبصيرة، وهو يرى حقائق الأشياء وبواطنها كما يرى البصر ظواهر الأشياء المادية.

أما الحدس فهو الانتقال السريع للذهن من المبادئ إلى المطالب، ويعرّفه ديكارت بأنه عمل عقلي يدرك به الذهن حقيقة ما بشكل تام وبزمن واحد، أي بدون تدرج في الاستدلال، فهذا النوع من المعرفة يحصل تلقائيا في الذهن بمجرد تصور أمر ما ودون استدلال منطقي، ويضرب أهل المنطق على ذلك مثالا بقولهم إن مجرد رؤية أحدنا لشعاع ضوء يتسلل من ثقب في جدار يدفع الذهن للاعتقاد مباشرة بأن هناك مصدرا للضوء وراءه دون تفكير ولا تأمل.

هنري برغسون

أما الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (توفي عام 1941م) فقد وضع مذهبا فلسفيا جديدا في القرن العشرين على مفهوم الحدس، معتبرا أن الحدس عند الإنسان يشبه الغريزة عند الحيوان، وهو أمر لا يمكن التعبير عنه بالكلمات بل يجب تذوقه ومعايشته واختباره من قبل كل شخص على حدة حتى يكتسب به المعرفة. وبما أنه فيلسوف غربي من أصل يهودي فلم يكن ميالا إلى الإيمان بالإله المجرَّد بالرغم من أفكاره التي تبدو صوفية للوهلة الأولى، بل جعل الحدس معرفة منبثقة من داخل الإنسان وليست مصدرا للمعرفة التي تهبط عليه من الإله.

كان هنري برغسون يرى أن الحياة انطلقت من خزان كبير وانتشرت بين الكواكب، ثم اتخذت أشكالا متنوعة على شكل مادي، ومن الواضح أن هذه الفكرة الميتافيزيقية (الغيبية) لتفسير نشوء الكون والحياة لا يؤيدها أي دليل.

يضع برغسون المادة والحياة في موقعين متقابلين، فالحياة انطلاق وحرية، والمادة سكون وخضوع للقوانين الفيزيائية، وكلما اكتسب الشيء قدرا أكبر من الحياة كان أسمى، وهو ما يفسر سمو الإنسان على بقية الموجودات، وهو يختلف عن التطوريين (أتباع نظرية داروين) في أن لكل كائن حي قدره الخاص من الحياة والمادة منذ البداية، وإذا كان الحيوان يمتلك غريزة للتوصل إلى معرفته الخاصة فإن الإنسان يمتلك عقلا بالمقابل، كما يمتلك أيضا وجدانا أو بصيرة يتوصل بها إلى الحدس الذي هو أسمى أنواع المعرفة.

يضع برغسون أيضا الزمان والمكان في موقعين متقابلين، فالزمان متغير وحر، والمكان جامد ومقيد. والزمان هو الواقع الحقيقي وهو الحياة، وبما أن الكائنات الحية تعيش في حالة صيرورة دائمة بالانتقال من حال إلى آخر فإن علاقتها بالزمان هي “الديمومة”.

والتغير المستمر للأحياء هو حالة من التطور الخلاق، وهذه الحياة المبدعة هي الإله نفسه برأيه، فهي التي توجد الأشياء وتتابع تتطورها، وهي نفسها في حالة تطور. أما المعرفة الحقيقية لهذا الواقع الحي المتطور فهي الحدس، لأن العقل لا يستطيع أن يدرك الحياة بخصوصيتها، وعلى كل حي أن يندمج مع الحياة الباطنة ليتوصل إلى هذه المعرفة اليقينية المطلقة.

ويرى بعض المفكرين أن برغسون لم يأت بجديد، وأنه أعاد صياغة الباطنية اليهودية (القبالاه) في صورة جديدة تناسب العصر، وأنه تأثر أيضا بكل من أفلاطون وديكارت ومالبرانش وباسكال [مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا، ج. بنروبي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص 176].

ويبدو أن طغيان الاتجاه المادي في القرن التاسع عشر على الفكر الغربي كان له أكبر الأثر في جنوح برغسون نحو الحدس، ليضع فلسفة معاصرة تعيد الاعتبار للروح، إلا أنه تطرف أيضا في اتجاهه الروحي كتطرف الوضعيين في المادية، فألغى الواقع العملي وقلل من شأن المعرفة العقلية المجردة، كما أن فلسفته لا تعدو قدر الفلسفات الغربية الأخرى في تناولها للقضايا الميتافيزيقية (الغيبية)، فالحدس ليس سوى جزء من الإنسان ومحدود بدائرتي المكان والزمان كمحدودية الإنسان نفسه، ولن يستطيع تجاوزهما حتى في خياله.

من جهة أخرى، يرى الباطنيون أن الحدس هو قبول الإلهام الذي يلقيه العقل الفعال في النفس، ويرى المتصوفة أن الحدس (الكشف) لا يتم إلا بعد رياضة روحية ومجاهدة نفس بطرق مدروسة وممنهجة، وهو ما اقتبسوه كما يبدو من الديانات الباطنية كالهندوسية والبوذية، أما عند الفلاسفة العقليين فالحدس والإلهام مصطلحان لشيء واحد، وهو حسب رأيهم المعرفة المباشرة دون استدلال وتجربة.

ويؤمن الباطنيون والمتصوفة بأن البصيرة لا تعمل عملها باكتساف المعرفة (سواء من الإله أو العقل الفعال أو الحقيقة الكونية) إلا بعد الاعتقاد بأن الجانب المادي من الإنسان هو عائق للروح والبصيرة، كما يعتقدون أن الحواس والعقل لا تتوصل إلا إلى حد معين من المعرفة لا يمكنها تجاوزه، وأن الحقائق لا تُكتسب إلا بالحدس والإلهام بعد القضاء على المادية. وقد يختلف الباطني مع المتصوف في الطريقة لكن الهدف واحد.

هل يكفي الحدس للمعرفة؟
سنناقش في مقال “الصوفية” مبدأ الإلهام كمصدر رئيس للمعرفة في مجال العقائد والشرائع لدى المتصوفة المسلمين، ونكتفي هنا بتوضيح ما يراه ابن تيمية من أن الإلهام مصدر معتبر، وأن إنكار كونه طريقا من طرق المعرفة هو خطأ يماثل خطأ الذين جعلوا طريقا شرعيا على الإطلاق، فيقول إن مذهب السنة الوسطي هو أن يكون الإلهام في الأحكام الشرعية محصورا بما لم تأت فيه أدلة شرعية نقلية أو عقلية، فيكون الإلهام هنا من باب الترجيح والفهم المنضبطين بالقواعد المتفق عليها [فتاوى ابن تيمية 10/473]، وهذا الفهم هو ما تؤيده حوادث الإلهام التي وقعت للصحابة والتابعين، وتدخل فيه الكرامات التي لا تخالف النص.

أما أهم الانتقادات الموجهة للحدس والإلهام كمصدر للمعرفة فنوجزها في النقاط التالية:

1- البصيرة لدى الإشراقيين ليست سوى إحدى ملَكات الإنسان، فهي محدودة القدرة والمدى ولا يمكن بأي حال أن تحصر العلوم بها.

2- حتى في حال عدم اعتماد البصيرة مصدرا وحيدا، والاكتفاء بالقول إنها المصدر الرئيس للمعرفة، فليس هناك أي ضمان لسلامة البصيرة من الزيغ والضلال، فالمعرفة المستفادة من الكشف تخص صاحبها فقط ولا يمكنه شرحها ولا نقلها للآخرين فضلا عن إثباته صحتها لهم.

3- يعترف كبار الإشراقيين بأن إلهاماتهم جاءت متاثرة بثقافتهم العامة، فكان فلاسفة الإشراق في اليونان ومصر يرون في مكاشفاتهم ما يؤيد أساطيرهم الوثنية، وهو ما حدث أيضا لفلاسفة الإشراق المسلمين (مثل الفارابي وابن سينا) الذين كانوا يشاهدون ما يسمى بالعقول العشرة التي اقتبسوها من نظرية الفيض اليونانية [انظر مقال الباطنية]، بينما يرى المتصوفة المسلمون ما يوافق عقيدتهم أثناء استغراقهم في الذكر، فلو كانت البصيرة مجردة عن هوى النفس وتأثيرات الثقافة كان ينبغي ألا ترى إلا الحقيقة المجردة التي يشترك فيها كل البشر.

4- ليس هناك أي ضمان عقلي أو نقلي أو حتى كشفي يثبت لنا أن ما يستقر في نفس الإنسان من مكاشفات هو من مصدر موثوق، سواء كان إلهًا أو حقيقة كونية أو الزمان الحيوي (لدى برغسون) أو حتى خيال الإنسان وأوهامه، فما الذي يمنع أن تكون الجهة التي تتصل بالعقل الباطن للإنسان هي شيطان خبيث؟

وفي الإسلام نصوص صريحة تحذر من اللبس الذي قد يحدث لدى البعض في الخلط بين الإلهام الرباني ووساوس الشياطين وأوهام العقل الباطن، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم “الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة” [صحيح البخاري: 8/72، صحيح مسلم 4/1773]، وسيأتي تفصيل هذا النقد في ظل المفهوم الإسلامي ضمن مقال “الصوفية“.

ديفيد آيك بين أنصاره

5- بدأت تظهر في العقود الأخيرة ادعاءات كثيرة من قبل شخصيات باطنية غربية تزعم أنها تتصل بالتخاطر مع كائنات فضائية، وأقيمت بناء على هذه المزاعم أديان ومذاهب وتيارات فكرية يتبعها الملايين من الناس، ومن أهم المنظّرين لهذه الفكرة البريطاني ديفيد آيك الذي زعم في كتابه “السر الأكبر” وجود كائنات فضائية من الزواحف العاقلة تعيش تحت قشرة الأرض وأنها تسيطر على البشر بطرق عدة، وقال إن الكثير من تفاصيل هبوط الكائنات إلى الأرض قد تلقاه بالإشراق الباطني الذي يتلقاه منها مباشرة، ودون أن يقدم أي دليل على صحة وجود هذا الإشراق الذي لم يختبره أحد سواه، ودون أن يثبت لنفسه -فضلا عن غيره- أن تلك الإشراقات التي يتلقاها صحيحة وصادقة فعلا وليست من قِبل شياطين يعبثون به.

المصدر الثاني: العقل

يصنف العقل لدى الفلاسفة القدماء إلى صنفين: الأول غريزي، وهو الملَكة التي يعلم بها الإنسان الضروريات، فهو غريزة تمتلك علوما أولية أو مبادئ ثابتة. أما الثاني فهو مُكتسب، وهو الذي يفهم به الإنسان ويفكر.

ويتفق الفلاسفة الحداثيون مع هذا التصنيف، فيقول الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند إن العقل ينقسم إلى عقل منشئ وعقل مُنشأ، فالأول قوة فطرية تجريدية ثابتة، أما الثاني فيتكون على يد الأول بعد إعداد طويل، وبتراكم الحقائق المكتسبة والمقولات التي كرسها الاستعمال والقيم المقبولة من قبل المجتمع. [المعجم الفلسفي: 2/87].

إسبينوزا

وبحسب اعتبار بعض الفلاسفة لأولوية العقل، ظهر المذهب العقلي الذي وُجد داخل الكثير من الأديان، ففي المسيحية واليهودية يؤمن العقليون -مثل سبينوزا وشتراوس- بأن العقل مقياس لحقائق الوحي، في مقابل أتباع مذهب خوارق الطبيعة الذين يرون أن حقائق الوحي لا يمكن عرضها على العقل لأنها ليست في متناوله. وفي الإسلام نجد أيضا أن المعتزلة والفلاسفة يصرون على بناء عقيدة قائمة على العقل ورفض ما يرونه مناقضا له مما يرد في الوحي من نصوص، بينما يقول أهل الحديث وعلماء الكلام إن النقل أولى من العقل عند التعارض، كما يؤكد من تخصص منهم في العقائد أنه ليس هناك تعارض أصلا، وهذا ما قرره ابن تيمية في كتابه المشهور “درء تعارض العقل والنقل”.

أما أتباع المذهب العقلي من العلمانيين فلا يلتفتون إلى الوحي، ويجعلون المفاضلة بين العقل والحس والحدس فقط، بحيث يكون العقل هو الأولى باليقين، أو يكون هو المصدر الوحيد للمعرفة.

وعند دراسة أقوال ومناقشات هذه المذاهب، نرى أن مفهوم العقليين للعقل ليس خاصا بالعقل الغريزي بل يتعلق بالعقل المكتسب، فهو عقل تشكل في ظل التأثيرات الثقافية لكل عصر، حيث نرى أن العقليين داخل الأديان اليهودية والمسيحية والإسلامية متأثرين بالمنطق اليوناني وفلسفته العقلية، بينما يتشكل عقل المعاصرين بما أحدثته الثورة العلمية من اكتشافات.

الأوليات العقلية
تنقسم الأوليات إلى قسمين، الأول هو التصورات: وهي الإدراكات البسيطة مثل اللون والحرارة، والمركبة مثل تصور جبل من ذهب. والثاني هو التصديقات: وهي الإدركات التي تنطوي على حكم، أي تتضمن نسبة بين طرفين، مثل قولنا إن النار محرقة.

ويؤمن بعض أتباع المذهب العقلي بأن الأصول الأولى للمعرفة تعود كلها إلى التصورات، بينما يؤمن آخرون من العقليين بأنها تعود للتصديقات، حيث يرى الفريق الآخر أن التصورات قد تكون مجرد خواطر ووساوس وليست مبادئ أولية.

ويقول الفلاسفة إن العقل مفطور على أربعة مبادئ أولية، تنبثق منها المبادئ الأخرى، وهي:
1- مبدأ الهوية: الشيء لا يكون غيره، وبلغة المنطق يقال “ما هو هو، وما ليس هو ليس هو”.

2- مبدأ عدم التناقض: الشيء الواحد لا يمكن أن يكون وألا يكون في وقت واحد.

3- مبدأ نفي الثالث (الوسط المرفوع): أي شيء هو إما (أ) أو ليس (أ) ولا يمكن أن يكون لا هذا ولا ذاك، فمثلا إما أن يكون العدد زوجيا أو فرديا ولا يمكن أن يكون إلا أحدهما.

4- مبدأ العلية: لا يمكن أن يحدث شيء دون علة محددة، سواء كانت علة واحدة كافية للتفسير أو بالاشتراك مع علل أخرى.

تتصف المبادئ الأولية بصفتين رئيستين هما:
1- الفطرية: فالعقل البشري يولد وهي مفطور عليها، وقد تغيب عنه بفعل التربية أو الغفلة أو لقلة الذكاء، لكن تذكير العقل بها يساعد على استحضارها والتيقن بصحتها، وهذا يستلزم أيضا أن تكون بدهية فهي بارزة في العقل دون مقدمات وبراهين، ويصفها بعض الفلاسفة أيضا بأنها قبلية وأولية لأنها لا تحتاج إلى تجربة تؤكدها.

2- العمومية: حيث يرى العقليون أن تلك المبادئ معروفة لدى كل العقول، فكان ديكارت يقول إن العقل أحسن الأشياء توزعا بين الناس بالتساوي، حتى جعل معيار الحقيقة هو وضوحها في الذهن، وهو ما قاله أيضا بعض علماء الكلام المسلمين من الأشاعرة والمعتزلة، لكن آخرين يرون أن الناس يتفاوتون في العقول، فيقول الغزالي “أما الأصل وهو الغريزة فالتفاوت فيه لا سبيل إلى جحده” [إحياء علوم الدين 1/88]، ويرى ابن تيمية أيضا أن المبادئ الفطرية قد تضمر في العقل بسبب تفاوت الناس في قوة الذهن مثل تفاوتهم في قوة البدن.
ويمكن القول إن هذا التفاوت لا يعني أن المبادئ نفسها نسبية في دلالتها على الحقيقة بل من حيث صلة الناس بها، وذلك نظرا لتفاوت قدراتهم العقلية وغفلة بعضهم، فلا يمكن لعقل سليم أن ينكر مثلا أن النقيضين لا يجتمعان.

هل يكفي العقل وحده؟
اختلفت آراء العقليين بحسب الثقافة السائدة على مر العصور، فعندما سادت ثقافة الباطنية في الهند وفارس وبعض المناطق اليونانية كان الكهنة يزعمون عدم الحاجة للوحي، على اعتبار أن العقل الذي يتلقى الفيض من الإله (الحقيقة الكونية بحسب مفهومهم) في غنى عن تلقي المعرفة نفسها بالوحي المباشر على يد الأنبياء، وتأثر بهذا المفهوم الفلاسفة العقليون الذين نشأوا في البيئة نفسها، كما لحق بهم بعض فلاسفة الإسلام مثل الطبيب الرازي المتوفى عام 313هـ.

ومن الأمثلة المشهورة لهذا المنهج في البيئة الإسلامية، رواية “حي بن يقظان” للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، التي تحكي قصة طفل ينشأ وحيدا في جزيرة نائية، حيث يبدأ بالتأمل في ذاته وفي الكون والحقائق الوجودية دون تربية ولا توجيه، فيصل إلى المعرفة بعقله دون حاجة للوحي.

وعندما بدأت ترجمة الفلسفة اليونانية العقلية وشبيهتها الإسلامية إلى اللغات الأوروبية ظهرت أفكار مماثلة لدى الأوروبيين، فاعتبر سبينوزا أن العقل أوثق من الوحي لأن دلائل صدقه متضمنة فيه بينما يحتاج الوحي إلى المعجزة لإثبات صدقه، كما سار لايبنتز على نفس النهج، وحاول الاثنان في القرن السابع عشر إقامة دين جديد تحت مسمى دين الطبيعة، بحيث يُحتكم فيه إلى العقل دون الوحي، ثم دعم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط هذا التوجه في القرن التاسع عشر.

ديكارت

ويبدو أن الفلاسفة العقليين في عصر النهضة الأوروبية كانوا يسعون إلى رد الاعتبار للعقل ضمن صراعهم مع كهنوت الكاثوليكية من جانب، وضمن صراعهم أيضا مع فلاسفة المذهب الحسي، ولكن ديكارت نفسه (وهو رائد هذا المذهب) اعترف بأن هناك حقائق ميتافزيقية (غيبية) لا يمكن للعقل الخوض فيها، ثم جاء أتباعه من بعده ليحصروا المعرفة في العقل وحده.

لم يكن هناك فصل آنذاك بين الفلسفة وعلوم الاجتماع والنفس والطب، ما سمح للعقليين بمنح العقل تلك المنزلة العالية، لكن الكثير من الدراسات الاجتماعية التي ظهرت في القرن العشرين أكدت أن الفطرة لا يمكن أن تبقى مصونة عن الزيف بعد وقوعها تحت تأثير الوراثة والبيئة [محمد تقي الأميني، عصر الإلحاد، ص74]، فمن شبه المستحيل التوصل إلى نتائج عقلية مجردة في العلوم الضرورية التي تقوم على الأوليات العقلية (الفطرة)، وهو ما يؤكده الفليسوف الألماني كولبه بقوله “إنه من الصعب أن نضع حدا فاصلا بين الأحكام الأولية للعقل وبين الأحكام المكتسبة من التجربة”.

وصعوبة تجرد العقل البشري تنبع من طبيعة الإنسان، حيث يستحيل عليه التحول إلى آلة صماء كأجهزة الحاسوب المبرمجة على التسلسل المنطقي، فالتداخل بين العقل والنفس هو جوهر الإنسان منذ بدء خلقه.

كما أن وضع منهج معرفي متكامل للعقل من خلال العقل نفسه أمر متعذر، فلا يمكن للآلة أن تدرك ذاتها والمؤثرات المحيطة بها على وجه التمام، وأن تحدد بدقة حدود قدراتها ومنتهاها، ثم تضع منهجا يضبط عملها ويصحح مسارها فيه دون حاجة لمرشد خارجي. لذا اضطر ديكارت منذ بداية وضعه لمنهج المعرفة العقلي أن يسلّم بوجود إله خالق ومرشد كخطوة ضرورية وتلقائية بعد تسليمه بالحقيقة الأولى، وهي أن يعقل ذاته، وكأن العقل لا يستطيع أن يخطو خطوته الثانية دون مصدر علوي يستند عليه.

نتيجة لذلك، تعاني جميع المناهج العقلية من عيوب ونواقص لا تزال تظهر عمليا بعد إخضاعها للتطبيق، ومن أبرزها منطق أرسطو الذي تعرض للنقد على يد عدد من كبار العلماء المسلمين قبل أن يُنقد لاحقا في أوروبا، ومن أبرزهم ابن تيمية الذي أبرز في كتابه “الرد على المنطقيين” عجز المنطق عن التوصل إلى حقائق يقينية في الميتافيزيقيا، فالاستدلال بالقياس ينطلق من المقدمة الكلية إلى النتائج، مع أن الكلي لا يدل إلا على القدر المشترك من الأشياء الكلية، بينما تكون قضايا العقيدة معيّنة ولا يمكن للقياس الكلي أن يدل عليها.

ومن عيوب المنطق أيضا “قياس الغائب على الشاهد”، فمن خلال البحث في العلة المشتركة بينهما يمكن فقط للعقل أن يستنتج الحقائق، وهذا يؤدي إلى قياس الإله على الإنسان، وهو افتراض غير مبرر أصلا. يقول ابن تيمية إنه لا يجوز أن يدخل الإله مع غيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها، وعندما فعل علماء الكلام والفلاسفة ذلك تناقضت أدلتهم ولم تبلغ اليقين.

وهذا القصور في المنهج، وفي الأداة نفسها (العقل)، تظهر آثاره في كل الفلسفات العقلية التي بحثت في الإلهيات والميافيزيقيا بلا استثناء، بل نجده واضحا أيضا في المدارس العقلية التي نشأت داخل الأديان، سواء لدى علماء الكلام (المتكلمين) والفلاسفة المسلمين أو لدى فلاسفة اللاهوت المسيحي في القرون الوسطى، حتى تراجع بعضهم عن التزام المنهج العقلي كله في الإلهيات بعد أن بلغ غايته في البحث والتبحر، مثل الرازي والآمدي والشهرستاني والغزالي.

ويُنقل عن أفضل الدين الخونجي (توفي عام 646هـ) قوله “أموت وما عرفت شيئا”، كما ينقل عن معاصره شمس الدين الخسروشاهي أنه قال عند موته “والله ما أدري ما أعتقد”، وقد سبقهما بذلك سقراط عندما قال “لا أعرف سوى شيء واحد، وهو أني لا أعرف شيئا” [العقيدة الطحاوية، ص 227-228].

ومع ذلك، فلا نقول إن العقل أداة عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة، بل ينبغي التفريق بين وجود حقائق العقيدة وبين كنهها وتفاصيلها وما هي عليه، فالعقل قادر على إثبات وجود الحقائق الكبرى والبرهنة عليها، لكن التخبط يبدأ عندما يخوض في محاولة تعقل الكيفيات التي تكون عليها الحقائق الغيبية لأنها غائبة عنه وعن الحواس، ولا يستطيع النفاذ إلى عوالمها المفارقة للزمان والمكان مهما اشتط به الخيال، لذا قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن أثبت للناس وجود الخالق وصفاته “تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا” [صححه الألباني]، وهذا ليس حَجرا على العقل بل حفظ له من الخوض في ما لا يقدر عليه.

أبيقور

المصدر الثالث: الحس والتجربة

يفرق علماء المنطق بين القضايا الحسية التي يجزم العقل بوجودها لمجرد تصورها، مثل وجود الشمس عند الإحساس بحرارتها أو رؤية ضيائها، وبين القضايا التجريبية التي يدخل فيها الحس ولكنها تتطلب المزيد من الملاحظة والتجربة.

والمذهب الحسي في الفلسفة هو الذي يقول أتباعه إن المعرفة محصورة بما تتلقاه الحواس الخمس، فكل التصورات العقلية مقتبسة من المعلومات التي تقدمها له الحواس، أما المنهج التجريبي فيقول أصحابه إن التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة من خلال توظيف المدرَكات الحسية في التجربة، ومن المعلوم أن التجربة تتطلب تدخل الباحث في الموضوع لاختباره ولا تكتفي بالملاحظة.

ابتدأ التيار الحسي بالظهور في اليونان على يد أبيقور خلال القرن الثالث قبل الميلاد، ووافقه على ذلك الرواقيون الذين حصروا المعرفة بالحس مع أنهم لم ينفوا فاعلية العقل تماما.

وفي أوروبا، تأثر الفيلسوف الإنجليزي روجر بيكون (توفي عام 1349م) بأفكار الحسن بن الهيثم وابن رشد بعد ترجمتها، وحاول نقل المنهج العلمي التجريبي عن ابن الهيثم (توفي عام 1040م) رغم رفض الكنيسة له، ثم تبنى هذا الاتجاه من بعده فرانسيس بيكون.

فرنسيس بيكون

ويعد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (توفي عام 1704م) من رواد المذهب الحسي، حيث انطلق في وضع نظريته للمعرفة دون الالتفات إلى ما أقره ديكارت ومعظم الفلاسفة من ثنائية النفس والجسم، وأنكر وجود الفطرة والأوليات العقلية بناء على ملاحظته لتنوع الخبرات البشرية، فقال إن ما هو فطري لدى البعض ليس كذلك لدى البعض الآخر، وهكذا أخذ يبحث في انعكاس المعرفة على الذهن من إحساسات وإدراكات وأفكار وكلمات، وانتهى إلى القول إن العقل البشري يولد كصفحة بيضاء خالية من أي علامات موروثة أو فطرية، ثم تكتب عليها الخبرة التجريبية ما تتلقاه من المعرفة من خلال الحواس.

ظهر ديفيد هيوم بعد وفاة لوك ليأخذ المذهب الحسي إلى غايته القصوى، فأنكر فاعلية العقل تماما حتى وصل إلى الشك كما ذكرنا في موضع سابق من هذا المقال، فبعد أن كان لوك يعترف بأن للعقل دور في المضاهاة والجمع والتجريد للمعرفة التي يتلقاها عن الحس لم يقر هيوم بأي دور للعقل بل جعه مجرد موطن للانفعالات الحسية.

ديفيد هيوم

وفي أواخر القرن الثامن عشر، وضع أوغست كونت الفلسفة الوضعية على أساس الثقة المطلقة بالعلم التجريبي، فقد ساد في تلك المرحلة الاعتقاد بأن الإنسان بلغ ذروة التقدم مع تكاثر الاختراعات والاكتشافات بأسرع وتيرة عرفها التاريخ، ما دفع بأنصار هذا المذهب إلى الاعتقاد بأن العلم التجريبي هو المصدر المعرفي الوحيد الذي سيجيب على كل الأسئلة.

تصور كونت أن البشرية تطورت طوال تاريخها عبر ثلاث مراحل، الأولى هي المرحلة اللاهوتية التي كان الإنسان يفسر فيها ظواهر الطبيعة بإعادتها إلى موجودات غيبية، سواء كانت إلهاً واحدا أو عدة آلهة، والثانية هي المرحلة الميتافيزيقية التي صار الإنسان يتوهم فيها وجود علل ذاتية داخل الظواهر بدلا من الآلهة، وفي المرحلة الثالثة صار الإنسان يفسر كل شيء بمنطق العلم التجريبي.

وقد رد كثير من الفلاسفة على هذه النظرية بأنها مجردة من البرهان التجريبي أصلا، فهي ليست سوى رواية ميتافيزيقية لتطور المجتمعات البشرية، واستقراء التاريخ يثبت عكسها، فالأوضاع الثلاثة التي تخيل أنها مراحل متعاقبة ما زالت قائمة حتى اليوم، وكانت متعايشة أيضا في مراحل قديمة من التاريخ.

تفسير مبدأ العلية والاستقراء
يقول العقليون إن السببية (العلية) مبدأ فطري كلي، فهو موجود في العقل بالفطرة ويمكن تعميمه على كل التجارب والأحداث في الكون بحيث يجزم العقل بأن لكل حادثة سببا ولكل معلول علة، لكن الحسيين انقسموا في تفسير العلة إلى ثلاثة اتجاهات، هي:

1- اتجاه الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل الذي آمن بمبدأ السببية والعلية إلا أنه ردّه إلى الحس والتجربة بدلا من العقل، فرأى أن الإنسان يتعلم من التجربة أن كل حادثة في الطبيعة تسبقها أسباب وعلل، واعتبر هذا الارتباط ضروريا مع أن الضرورة لا ينبغي أن تكون إلا بالعقل، وهو يرفض منح العقل أي فاعلية. وقد وافقته الفلسفة الماركسية المادية في هذا التفسير.

2- الاتجاه الذي أخذ به فلاسفة الوضعية المنطقية يرى أن تعميم الاستقراء لا يعطي حكما يقينيا، فتكرار التجربة والحوادث لا يتجاوز دوره تقديم احتمال بالوصول إلى النتيجة المطلوبة، مثل احتراق الخشب كلما تعرض للنار.

3- رأي هيوم الذي ينفي أي قيمة موضوعية للاستقراء، والذي يعتبر أن الربط بين العلة والمعلول مجرد انطباع نفسي ناشئ عن العادة دون أي ضرورة، فالسببية بين النار واحتراق الخشب ليست ضرورية ولا حتمية بل موجودة داخل نفوسنا بسبب تكرار العادة. وقد سبقه الغزالي إلى القول بهذا الرأي، كما أخذ به علماء النفس في المدرسة السلوكية الحديثة.

هل تكفي الحواس والتجربة مصدرا للمعرفة؟
لا يمكن لنا أن نسلّم للتجريبيين بحصر مصدر تصورات العقل كلها بالحس والتجربة، فقد يتصور الذهن تصورات مفارقة للمادة تماما مثل الوحدة والكثرة، لكن هذا لا يعني بالمقابل أنها تصورات عقلية محضة، لأنها ليست من البديهيات، بل هي نتيجة لتفاعل الحس والعقل.

ويظهر خلل الحسية التجريبية أكثر في مجال الميتافيزيقيا والأخلاق، فقد رد أصحاب هذا المذهب كل الأخلاق إلى التجربة وحاولوا دراستها سلوكيا كما يدرس العالم المخبري أي ظاهرة طبيعية، إلا أنهم لم يتمكنوا من تقديم تفسير مقنع، فالشكاك هيوم اعتبر أن الأحكام الأخلاقية لا تعبر عن حقيقة موضوعية بل تنشأ عن مشاعر الاستحسان والاستياء، ودون أن يقدم تفسيرا مقنعا لأصل هذه المشاعر. وعندما حاول الماركسيون ربط الأخلاق بالاقتصاد والصراع الطبقي داسوا على قيم العدالة تماما وحوّلوا الإنسان إلى جزء مسحوق في آلة المجتمع الجارفة.

جون لوك

ويبدو أن جون لوك قد وضع كل أتباع المذهب العقلي في خانة واحدة واعتقد أنهم يرون المبادئ العقلية صورة عن عالم المُثل الخيالي الذي تخيله أفلاطون، حيث كان الأخير يفترض أن الإنسان يحتاج فقط إلى تذكر الحقائق بعد ولادته لأنها موجودة كلها في عقله، لكن معظم العقليين كانوا يعترفون بدور الإدراكات الحسية بعد أن تعود إلى الأصول الثابتة في العقل، لتتحول إلى معرفة علمية.

من جهة ثانية، ينتقد التجريبيون الخطأ الذي يقع فيه بعض العقليين عندما يخلطون بين العقل الغريزي والعقل المكتسب (سبق توضيحهما)، وهو الخطأ الذي بدأ في اليونان وانتقل إلى الكثير من المتكلمين والفلاسفة المسلمين عندما اعتبر كل منهم أن مذهبه هو العقيدة الصحيحة التي يتوافق فيها العقل والنقل. وإذا كان هؤلاء قد ظنوا أن العقل كله غريزي فقد رد عليهم التجريبيون باتخاذ الموقف المعاكس والقول بأن العقل كله مكتسب، ومن ثم فهو يتأثر بالبيئة والمشاعر والخواطر النفسية، ولا يستحق أن يكون مصدرا للمعرفة. والواقع أن كلا الرأيين تطرف في موقفه.

ومن نتائج هذا التطرف المادي المتصاعد حتى بداية القرن العشرين، ساد في الغرب الاعتقاد بأن الإنسان نفسه ليس سوى مادة متطورة، فبعد أن وضعت الحسية التجريبية في عصر النهضة الإنسان بمركز الكون ليحتل موقع الإله نفسه، انزلق الإنسان المادي تدريجيا تحت ضغط الاكتشاف المتزايد لأسرار الكون المادي، لتصبح المادة هي الأساس والمركز، ويتحول الإنسان إلى موضوع تافه وهامشي، حتى ظهرت مدارس ما بعد الحداثة التي أنكرت كل مصادر المعرفة العقلية والحسية وأعلنت نهاية المدارس الفلسفية الكبرى والعودة إلى شك السفسطة، وهي نتيجة طبيعية لتفكيك الإنسان وتشييئه (تحويله إلى شيء مادي).

واللافت أن الحسيين والتجريبيين في عصر النهضة كانوا يؤمنون بالميتافيزيقا وبوجود الله، بل كان بعضهم من رجال الدين مثل جورج باركلي (توفي عام 1753)، إلا أن حصرهم للمعرفة بالحواس فتح الباب أمام الوضعيين والماركسيين إلى حصر الوجود كله بالمادة، وإذا كان موقف الحسيين الأوائل مجرد افتراض فلسفي ولم يرق إلى درجة العلم؛ فلن يجد الوضعيون والماركسيون والماديون دليلا علميا على إنكار وجود الغيبيات [انظر مقال “وجود الله“].

هل يجيب العلم التجريبي على كل الأسئلة؟

أينشتاين

شهدت بداية القرن العشرين ثورات علمية هائلة، ومن أبرزها نظرية النسبية لألبرت أينشتاين، ثم مجموعة نظريات شكلت مفهوما جديدا للفيزياء تحت مسمى الكمّ (كوانتم)، فضلا عن التطور في الطب وعلوم الأحياء، وكان لهذه الفتوحات وآثارها العملية التكنولوجية دور كبير في ظهور العالِم التجريبي في صورة خارقة وكأنه الوحيد القادر على الإجابة على الأسئلة الوجودية بدلا من الفلاسفة، فضلا عن “رجال الدين”، لذا طالب العالم الفرنسي المعروف لويس باستور السلطات برعاية المؤسسات العلمية بصفتها “مؤسسات مقدسة” وقال إنها ستكون “معابد المستقبل”، كما وافقه على ذلك الفيلسوف الفرنسي ليكومت دي نوي عندما قال “إن ثقة الناس بعلماء الطبيعة اليوم هي ثقتهم بالكهنة في العهد القديم” [دي نوي، مصير الإنسان، 1967، ص275].

يقول الفيزيائي البريطاني المعاصر ستيفن هوكنغ في كتابه التصميم العظيم “الفلسفة ماتت… وعلماء الطبيعة باتوا هم حملة شعلة الاكتشاف في رحلتنا نحو المعرفة” [ص 13]، ويقول الفيزيائي الأميركي لورنس كراوس “إن الفلسفة حقل يذكرني للأسف بالنكتة القديمة لوودي آلن (ممثل كوميدي): أولئك الذين لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا يدرّسون، والذين لا يستطيعون أن يدرّسوا يدرّسون الرياضة”.

وبالرغم من إنكار الكثير من العلماء -الذين يحظون بالاحتفاء الإعلامي- أهمية الفلسفة وتنديدهم بها، فإن نظرياتهم الكبرى تقوم أساسا على مواقف أيديولوجية مفلسفة. فعلى سبيل المثال، يقول الفلكي البريطاني كارل ساغان في افتتاحية برنامجه “الكون” Cosmos -الذي حقق أعلى نسب المشاهدات بدعم من شبكة بي.بي.سي- إنه “لا يوجد ولم يوجد ولن يوجد شيء سوى الكون (أي المادة فقط)”، وهذا تعبير فلسفي وليس تصريحا علميا، فليس في وسع العلم التجريبي أصلا أن يجري تجربة مادية تنفي وجود عوالم أو كائنات غير مادية طالما أنها لا تخضع لأدواته، ومقولة ساغان هي تعبير صريح عن جوهر الفلسفة الطبيعية، والتي يعرّفها ستيرلنغ لامبرت بأنها موقف فلسفي ومنهج تجريبي يعتبر أن الوجود محكوم بعوامل عشوائية داخل نظام شامل في الطبيعة.

يقول عالم الوراثة في جامعة هارفارد ريتشارد ليونتن إن “استعدادنا لقبول المزاعم العلمية التي تخالف الحس السليم هو مفتاح فهم الصراع الحقيقي بين العلم وما هو ميتافيزيقي (غيبي)، فنحن نميل إلى صف العلم رغم ما يشوب بعض أفكاره من عبث… والمجتمع العلمي يتسامح مع القصص التي تُقبل دون برهان لأننا ملتزمون مسبقا بالفلسفة المادية، فمناهج العلم لا تجبرنا على قبول تفسير مادي للعالم بل التزامنا البديهي بالمادية هو الذي يجبرنا على إنتاج تفسيرات مادية مهما كانت مناقضة للحدس” [العلم ووجود الله، ص 62].، وليس هناك ما هو أوضح من هذا الاعتراف بتعصب العلماء الماديين للفلسفة المادية على أساس أيديولوجي بحت.

هوكنغ

ومن نتائج تبني هذه الفلسفة -المنكرة للتفلسف أصلا- أن التصورات الفلسفية للكثير من العلماء التجريبيين لم تعد تجد أي حرج في خرق المنطق، وهو ما يؤكده الاقتباس السابق عن ليونتن نفسه، كما يقول هوكنغ “إن الكثير من المفاهيم العلمية الحديثة تخالف المنطق السليم المبني على التجربة اليومية، أما طبيعة الكون فتكشف عن نفسها من خلال عجائب التكنولوجيا” [التصميم العظيم، ص 15]، كما يكرر الفيزيائي ميشيو كاكو في صفحات عدة من كتابه “فيزياء المستحيل” أن نظرية الكم تغير قوانين العقل الأساسية، وإلى درجة إسقاط مفهوم المستحيل من الوجود.

ويأتي الإشكال أولا من خرق نظرية النسبية لما هو مألوف ومعتاد، فقد كان يُعتقد أن الزمن ثابت كوني لا يتأثر بأي عامل من العوامل، لكن المعادلات الرياضية أثبتت أن سرعة الضوء هي الثابتة وأن الزمن نسبي، فعندما يتحرك جسم ما بسرعة كبيرة جدا فإن الزمن الخاص به يتمدد (يتباطأ)، فمثلا تقيس الساعة الموضوعة على صاروخ خارق السرعة مدة زمنية أقصر مما تقيسه ساعة أخرى على الأرض مثلا، وهذا أمر لم يكن ليخطر على بال أحد، وقد أثبتته التجارب العملية بالفعل.

ونتيجة لذلك بدأ كتّاب الخيال العلمي بالتجرؤ على خرق المنطق وطرح رؤى خيالية، فظهرت روايات السفر عبر الزمن كنوع من الخيال ثم لحق بهم الفيزيائيون النظريون (فئة من العلماء تدرس الآثار الفلسفية للعلم) على اعتبار أن الرياضيات لا تنكر تلك التخيلات، وظهرت معضلات فلسفية في العديد من الكتب العلمية “الرصينة” لتتساءل ما الذي سيحدث إذا عاد شخص بالزمن إلى الوراء وقتل والده مثلا، فهذا يعني أنه لن يُخلق أصلا، ثم ظهرت نظريات عدة لمناقشة هذه المشكلة دون أن ينتبه كثير من العلماء إلى التناقض العقلي في هذه العودة إلى الماضي.

والحقيقة أن نظرية النسبية العامة ليست معنية بما هو أبعد من دراسة تباطؤ مرور الزمن على اﻟﺠسم اﻟﻤتحرك بالنسبة ﻟﺠسم آخر ثابت، وهي لا تتعلق بالبنية اﻟﻤادية ﻟلجسم اﻟﻤتحرك كما هو اﻟﺤال ﻓﻲ نظرية الكم، ومن ثمّ فإن “منحنى الزمكان” ليس أكثر من مفهوم مثاﻟﻲ تخيلي، وتعبير “انحنائه” لا يعني أكثر من انحناء مسار حركة الجسم مع تمدد الزمن اﻟﻤقاس عليه بالنسبة إﻟﻰ ﻤراقب خارجه، وحتى ﻓﻲ حال انغلاق منحنى الزمكان فهذا لا يعني أن يدخل اﻟﺠسم ﻓﻲ مرحلة زمنية سابقة، بل غاية الأمر أن يعود للتحرك ﻓﻲ خط سيره من النقطة التي انغلق عندها اﻟﻤسار مع الاستمرار ﻓﻲ تباطؤ تغير حركته إﻟﻰ درجة الانعدام والدخول ﻓﻲ حالة “التفردية اﻟﻤركزية” التي لا يمكن اختبارها ﺗﺠريبياً، فضلاً عن ثبوت استحالة تحقق هذا الانغلاق فيزيائياً.

وعندما ظهرت فيزياء الكم التي تدرس أبسط عناصر الوجود على المستوى دون الذري (مكونات الذرة) كان فهمها أكثر صعوبة، لكن غموضها المشابه لغموض النسبية دفع بعض العلماء للمضي في وضع المزيد من السيناريوهات الخيالية. فيقول جون ويلر “إذا لم تكن حائرا إزاء مكانيكا الكم فإنك لم تفهمها”، ويؤيده روجر بينروس بقوله إن “ميكانيكا الكم لا معنى لها إطلاقا”، كما يقول ريتشارد فينمان “يمكن القول بثقة إنه لا أحد على الإطلاق يمكنه أن يفهم فيزياء الكم”.

ومن الأمثلة التي يطرحها الفيزيائيون لنقض المنطق العقلي أن تجارب فيزياء الكم أثبتت إمكانية وجود الإلكترون في مكانين في وقت واحد، وهذا يخالف بوضوح أحد أهم مبادئ العقل الأولية. وأن الإلكترونات والفوتونات وغيرها من المكونات تبدي سلوكا مغايرا في التجارب، فتبدو أحيانا في صورة جسيمات بينما تظهر على أنها موجات في أحيان أخرى.

والجواب أنه لم يثبت أصلا أن الإلكترون يوجد فعلا في مكانين معا كما هو حال الأجسام التي نعرفها، بل تظهر التجارب أن هذا الكائن الذي لا يُمكن أن يُرى بأي مجهر حتى الآن (لأنه أصغر من الموجة الضوئية) والذي يبدي سلوكا متقلبا بين الجسيمات والموجات يترك أثرا في مكانين معا، كما أن فيزياء الكم تنص وفقا لنظرية عدم التأكد على أنه لا يمكن فصل عملية المشاهدة عن سلوك المُشاهَد، فالإلكترون يتأثر برصدنا له أثناء خضوعه للتجربة ولا يقدم لنا سلوكا طبيعيا، فلسنا متأكدين إذن من حقيقة نقضه للمنطق عندما نرصد سلوكه العجيب.

ومن المغالطات التي نتجت عن سوء فهم فيزياء الكم وجود تعارض بين السببية وميكانيكا الكم، والحقيقة أن السببية موجودة أيضا في العالم دون الذري، لكن الجسيمات الذرية لا تقدم ردود الفعل المتوقعة دائما بل يكون سلوكها قائما ضمن احتمالات الدوال الموجية، حيث يقول الفيزيائي الألماني ماكس بورن في كتابه “ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﻁﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﻌﻠﺔ ﻭﺍﻟﻤﺼﺎﺩﻓﺔ” إن فيزياء الكم لا تنقض السببية بل الحتمية فقط، أي أن كل الموجودات –حتى دون الذرية- تخضع للسببية والاطراد .

ويبدو أن تزامن الفتوحات العلمية وظهور نتائجها التكنولوجية مع سقوط النظريات الفلسفية الكبرى في عالم ما بعد الحداثة قد شجع العلماء على تجاوز لعب دور الفلاسفة إلى النكوص للسفسطة والشكوكية العدمية، حتى دعا كثير منهم إلى اعتبار صورة العالم عند الإنسان العادي صورة وهمية، مثل قول العالم البريطاني آرثر إدينغتون إن تصور الرجل العادي للمنضدة يختلف عن تصور العالِم لها، فالأول يراها جسما له لون وملمس وشكل وصلابة وثبات مكاني وديمومة زمنية، بينما يراها العالِم مجموعة ذرات بينها خلاء وتصدر عنها شحنات كهربية خاطفة. لكن الخلط بين اللغة التي تستخدم استخداما سليمًا للتعبير عن الأشياء التي نتعامل معها وبين اللغة المستخدمة لغرض المناقشة الفلسفية والعلمية لن يؤدي سوى إلى الفوضى.

ومن الأمثلة المشهورة على القصور الفلسفي لدى بعض كبار الفيزيائيين، نذكر النظرية التي طرحها النمساوي إرفين شرودنغر لقطة نضعها (فرضيا) في صندوق مغلق، ومعها عداد غايغر (لحساب الإشعاع) وكمية من مادة مشعة، بحيث يكون احتمال تحلل ذرة واحدة خلال ساعة ممكنا وغير مؤكد، فإذا تحللت الذرة سيطرق عداد غايغر مطرقة تكسر زجاجة تحتوي غازا خانقا فيقتل القطة، ويقول شرودنغر إننا لن نعرف وضع القطة حتى نفتح الصندوق بعد ساعة، وهي قبل ذلك من وجهة نظر ميكانيكا الكم تعتبر في حالة مركبة من الحياة والموت، أي أنها تجمع حالتين متناقضتين.

وكان شرودنغر يقصد بهذا المثال السخرية من اعتقاد بعض علماء الفيزياء النظرية أنه يقدم “دليلا” على اجتماع النقيضين، فهذه ليست سوى سفسطة.

رسم توضيحي لتجربة قطة شرودنغر (Dhatfield)

يقول أليستر راي في كتابه “فيزياء الكوانتم: حقيقة أم خيال؟” إن القارئ عندما يقرأ أن فيزياء الكوانتم تقول بأن القطة نصف حية ونصف ميتة، سيستنتج أن هذه سخافة تافهة، وسيلقي بالكتاب وينسى كل هذا الجنون. والحقيقة أن استعارة المصطلحات والمفاهيم من عالم ما دون الذرة لضرب الأمثلة على العالم المحسوس هو أصل المشكلة، فالفيزيائي بالكاد يستطيع أن يرصد آثار سلوك الجسيمات غير المرئية فتبدو له في لحظة ما وكأنها تجمع نقيضين، ولكن هذا لا يعني أنها كذلك في الحقيقة [فيزياء الكوانتم: حقيقة أم خيال؟، مركز براهين، ص 126].

ويسعى بعض فلاسفة العلم المعاصرين اليوم إلى تبني اتجاه يدعى بالأداتية، يطالبون من خلاله بإعادة النظر ﻓﻲ الكثير من التصورات العلمية الناشئة عن نقل المفاهيم الرياضية اﻟﻤجردة إلى الحقائق المتشخصة على أرض الواقع، مثل تخيل “نسيج الزمكان” على هيئة حقيقية يمكن لها أن تنحني وتتداخل.

وبالنتيجة، إذا حاولنا الإجابة على سؤال هذه الفقرة “هل يجيب العلم على كل الأسئلة؟” فسنوجز الجواب بنقطتين:

النقطة الأولى: الملاحظة العلمية ليست مستقلة، حيث أثبت العالم فرنسي بيير دويم أن التجربة الفيزيائية ليست مجرد ملاحظة، بل هي أيضا تأويل للظاهرة التي تدرسها، ويقول مؤلف “نظريات العلم” آلان شالمرز إن ما يلاحظه العالِم يتوقف في جانب كبير منه على تجربته الماضية ومعارفه [شالمرز، نظريات العلم، دار توبقال، ص 36]. كما أن وضع الفرضيات لتأويل الظواهر الفيزيائية يخضع بدوره في الكثير من الأحيان لخلفية الباحث وتوقعاته. فعلى سبيل المثال، كان الفيزيائي ماكس بورن يقر بأن ما أنجزه في حقل اكتشافات المكونات الذرية كان مجرد تعميمات فلسفية لا فيزيائية، وما زالت الفرضيات المعتمدة اليوم لفهم عالم الذرة غير مثبتة تجريبيا إلا أنها مقبولة كأحد التأويلات الممكنة، والأمر ذاته ينطبق على نظرية التطور الدارويني.

والاستقراء مبدأ فطري، وتبريره فطري، لكن تحديد لحظة الانتقال من الخاص إلى العام قابل للخطأ، والكثير من العلماء المعاصرين يرفضون ذلك بسبب سوء فهمهم لمعنى الفطرة، فغالبية كتب فلسفة العلوم لا تناقش التبرير الفطري أصلا، فهو أمر مستبعد من العلم المادي التجريبي، وهو خلل في مفهوم “المعقولية” أو التأسيس لها. [الإجماع الإنساني، ص 139].

ويقول جون هوت “عند نقطة معينة في سلسلة التحقق من كل فرضية، لا بد من قفزة إيمانية تُعد مكونا أساسيا في العملية، وعنصر الثقة هو عنصر أساسي في كل بحث بشري عن الحقيقة، وإن وجدت نفسك تشك فيما قلتُه الآن فهذا لأنك في هذه اللحظة بالذات تثق في عقلك بما يكفي للتعبير عن شكك في كلامي، فلا يمكنك التخلص من الثقة في عقلك حتى عندما تساورك الشكوك، وأنت لا تطرح أسئلتك النقدية إلا لأنك تؤمن بأن الحق يستحق البحث، فالإيمان بهذا المعنى، وليس بمعنى الخيال الجامح، يكمن في جذور كل دين حقيقي، وكذلك في جذور العلم… وهذا يؤكد أن محاولات الإلحاد الجديد لتخليص الوعي البشري من الإيمان هي مجرد محاولة عبثية” [العلم ووجود الله، ص 107].

وبما أن العلم التجريبي قائم على الملاحظة والتجريب والاستقراء ثم تعميم النتائج على الظواهر الكونية، فهو إذن قائم على الاحتمال، حيث لا يمكن للعالِم أن يجزم بأن الشمس ستشرق غدا كما كانت تشرق كل يوم، ويقول بول ديفيز إن التقدم العلمي يتطلب “فعلا إيمانيا” للاعتقاد بوجود انتظام في الطبيعة، كما يقول الفيلسوف الإنجليزي روجر تريغ “من أجل أن يتولى العلم مهمة تقديم التفسيرات لجميع الأشياء فنحن بحاجة إلى ما يبرر لنا الوثوق بالعلم” [Rationality and Science, p. 9].

“مع أن التزوير مخالف لأهداف العلم كنشاط ثقافي، إلا أنه متوطن بنيويًا في العلم المؤسس لمجتمعاتنا المعاصرة”.
أستاذة علم الاجتماع دينا فينشتاين.

كما يؤكد مبدأ “عدم اليقين” للفيزيائي فيرنر هايزنبرغ استحالة الحصول على نتائج دقيقة مئة بالمئة عند دراسة خاصيتين معا لشيء واحد من بين جملة خواص كمومية، أي أن معرفتنا للعالم ستبقى منقوصة حتما.

وبالرغم من جنوح خيال ميشيو كاكو في كتابه “فيزياء المستحيل” نحو ما يشبه تأليه العقل البشري، فإنه يعترف بأن “نظرية الكم مبنية على رمال من المصادفة والحظ والاحتمالات، وأنها لا تعطي أجوبة محددة” [العلم ووجود الله، ص276].

يعتبر الكثير من العلماء اليوم أن العلم هو الطريق الوحيد للحق وأنه قادر على تفسير كل شيء، وهذا ليس سوى موقف أيديولوجي مسبق اصطلح الفلاسفة المعاصرون على تسميته بالمذهب العلمي scientism، فليس هناك دليل علمي يثبت أن الوجود مادي بحت وأن التجربة هي المصدر الوحيد لاكتشافه.

يقول الفيلسوف البريطاني برتراند رَسل إن كل ما لا يمكن للعلم اكتشافه لا يمكن للبشرية أن تعرفه، وهذه عبارة متناقضة، فكيف عرف رَسل ذلك طالما أن عبارته ليست مثبتة علميا أصلا؟ ما يعني أنها ليست صحيحة بناءً على موقفه نفسه [العلم ووجود الله، ص106].

النقطة الثانية: حتى إذا اعتبرنا أن الرياضيات هي المصدر العلمي الموثوق للأجوبة على الأسئلة الوجودية، طالما أن الملاحظة الفيزيائية ليست نزيهة بالمطلق، فقد أثبت النمساوي كيرت غودل في عام 1931م أن هناك مقولات صادقة في الرياضيات لا يمكن البرهنة عليها، فعلى سبيل المثال ما زالت حدسية غولدباخ الموضوعة منذ عام 1742م غير مبرهنة، وبات الرياضيون يؤمنون اليوم بأن حلم فيثاغورس بفهم العالم كله عبر الأرقام والحساب مستحيل.

واستنتج الأمريكي المعاصر فريمان دايسون من نظرية “عدم الاكتمال” لغودل أن عالم الفيزياء والفلك غير قابلين للاكتمال أيضا، فمهما ابتعدنا في المستقبل فسيكون هناك دائما أشياء جديدة تحدث ومعلومات ترد وعوالم جديدة تُكتشف. ويلخص الفلكي جون بارو هذه الحقيقة بقوله إن العلم مبني على الرياضيات، ولا يمكن للرياضيات أن تكتشف الحقيقة كلها، فلا يمكن للعلم أن يكتشف الحقائق كلها.

لذلك اقتنع هوكنغ أخيرا باستحالة اكتشاف “نظرية كل شيء” التي تجمع النسبية مع الكم وتلخص كل ظواهر الوجود في معادلة واحدة، فالأمر لا يتعلق بنقص الأدوات وضيق الوقت فقط، بل لأن الملاحِظ (الباحث) سيظل أبدا جزءا من الكون نفسه ومن موضوع البحث، ولن يصبح “إلهاً” منفصلا عن الكون ليكتشفه على حقيقته التامة.

يقول البروفسور بيتر مدوّر في كتابه “نصائح لعالم شاب”: إن أسرع طريقة يسيء بها العالِم إلى سمعته هي أن يصرح بكل جرأة ودون مبرر بأن العلم يعرف أو سيكتشف قريبا الأجوبة على كل الأسئلة، وأن الأسئلة التي لا تقبل الأجوبة العلمية هي أسئلة زائفة وساذجة… لكن محدودية العلم تتضح في عجزه عن الإجابة على الأسئلة البدائية الوجودية، مثل البحث في كيفية بدء الخلق وغاية الوجود ومغزى الحياة. [Advice To A Young  Scientist, harper & row, 1979, p. 31].

ويقول في كتابه “حدود العلم”: من المحتمل أن هناك أسئلة يعجز العلم عن تقديم إجابات عنها نظرا لمحدوديته، كما لا يمكن لأي تطور علمي متوقع أن يؤهله لذلك. إنها الأسئلة التي يطرحها الأطفال، والأسئلة النهائية لكارل بوبر، ولدي أيضا أسئلة من قبيل: كيف بدأت الأشياء، لماذا نحن موجودون هنا؟ من أي شيء تم خلقنا؟ ما هي غاية الحياة؟… فليس في وسع العلم أن يجيب على اسئلة تتعلق ببدايات الأشياء ونهاياتها، والذي يجيب عليها هو الميتافيزيقيا والأدب والدين. [The Limits of Science, Oxford, 1984, p. 60].


المصدر الرابع: الإجماع
ربما لا تعتبر الكثير من المراجع الإجماع الإنساني بمثابة مصدر مستقل للمعرفة، إلا أننا ارتأينا تخصيصه كمصدر على أساس بعض الأبحاث الحديثة التي تعطي المجتمع دورا جوهريا في بلورة المعطيات الحسية والنفسية التي يتلقاها الإنسان منذ طفولته لتتحول إلى معرفة.

اهتم المفكر الإسلامي ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميلادي بالمعنى الاجتماعي لتعريف “العادة الإنسانية الصحيحة”، فكان يرى أن تصحيحها يستند إلى انتشارها بين كافة المجتمعات البشرية، وكونها عادة نفسية واجتماعية أصيلة في البشر، فضلا عن تعبيرها عن حاجة ضرورية.

وعندما أعاد هيوم نشر فلسفة الشك السفسطائية في القرن الثامن عشر الميلادي، تصدى له الفيلسوف الأسكتلندي توماس ريد وأكد أن إجماع الأمم من العامة والمتعلمين ينبغي أن يكون له على الأقل سلطان كبير، إلا إذا استطعنا أن نثبت وجود تحيز ما من العموم لإجماع ما، فالأصل في الإجماع أن يكون مبررا بنفسه وأن المشكك هو الذي ينبغي أن يثبت وجود التحيز.

واعتبر ريد أن خصائص المشتركات الإنسانية هي: الإدراك بالحدس، الميل النفسي للتصديق بها في بنية الإنسان، الشعور بالحيرة عند الشك فيها، وأن تكون ضرورية للتعامل مع العالم بنجاح.

وأيضا تصدى كانط لشكية هيوم كما أسلفنا أعلاه، ورأى أن التعاقب الموضوعي ناشئ عن مبدأ عقلي أولي، فأعطى بذلك لما أسماه بالعقل الفعال دورا جوهريا في المعرفة.

وفي بداية القرن العشرين أحيا الفيلسوف البريطاني جورج مور فلسفة ريد وانتصر للفطرة السليمة، كما تصدى لمن يشكك بوجود العالم الخارجي بمناقشات شهيرة، ومن أشهر ردوده عليهم: حين أرفع يدي إلى أعلى وأقول: هذه يد، ثم أرفع يدي الأخرى وأقول: هذه يد أخرى، فبذلك أكون قد برهنت على وجود العالم الخارجي.

جون سيرل (FranksValli)

ثم أصدر الفيلسوف الأمريكي جون سيرل كتاب “العقل واللغة والمجتمع” الذي يعد من أهم الكتب المتخصصة في الانتصار لموقف الإنسان العادي، وقال فيه إن معيار المواقف التلقائية هو الثبات البشري العام على التمسك بها خلال التاريخ الطويل المليء بالدواعي الكاشفة للحقيقة، فطالما أن هذه القضايا لم تُكذب مطلقا فهذه قيمة موضوعية، كما اعتبر أن المواقف التلقائية سابقة على أي رؤية ذوقية فهي تتمتع بالكثير من الموضوعية.

ويعد الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين (توفي عام 1951م) من أهم المفكرين الذين لفتوا النظر إلى أهمية المجتمع في تكوين المعرفة من خلال دراساته في اللغة، وقد أكدت العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية الحديثة نظريته، فكان ينكر إمكان تمييز المعطيات الحسية والحالات النفسية دون ربط مجتمعي لكل حالة بلفظ معين، فالإنسان يتعرف على نفسه وعلى العالم من خلال علاقة إشارية موضوعية، ومن المستحيل عليه أن ينشئ لغة خاصة به من خلال المعطيات الحسية. والمعيار الأصلي هو الجماعة لا الذات، فالجماعة توفر له المعرفة الصحيحة بعلاقات واضحة ورمزية بشكل أفضل بكثير من المعيار الفردي الذي يفهم به الطفل الوليد قبل أن يتعلم اللغة، .

لودفيغ فتغنشتاين

وبحسب فتغنشتاين فنحن نتصور الألم من خلال اللغة، وبدون لغة سنتألم دون وعي بالألم. وبالخلاصة فلا يمكن الحديث عن أي “معقولية للعالم” بدون قواعد معيارية نكتسبها من الجماعة، ولا يمكن لأحد أن ينشئ لغة خاصة به (استبطان) دون استناد إلى معايير عامة يفهمها الناس.

ويقول فيلسوف العلم الأميركي المعاصر إرنست ناغل إن اللغة التي نستخدمها لوصف تجاربنا المباشرة هي اللغة المعتادة للتواصل الاجتماعي، فتطابق المباني اللغوية الأساسية في كافة المجتمعات مع اختلاف التجارب والمناخ والمعتقدات يبرهن على أن هناك بنية إنسانية عامة.

وهذا يعني أن المجتمع هو الذي يحدد شروط معرفتنا، ويوجه حواسنا منذ طفولتنا لنرى العالم كما نراه، والحاجة النفسية العميقة (الفطرية) هي التي تدفع الطفل للمسارعة في اتباع القواعد الإنسانية العامة وتعلم طرق التصنيف الإنساني والإيمان باطراد الحوادث. وقد لخص ناغل شروط تحقق الفطرة في نقطتين: أن تكون شرطا للعبة الجماعة البشرية، وأن تعبر عن حاجة اجتماعية ونفسية.

ويستنتج العالم البريطاني “ألفرد جول آير” أن حواس الإنسان ليست خاصة به بل محكومة بالتجربة الجماعية العامة، ولذلك لا نقول عن شيء إنه قابل للإدراك إلا إذا كان من الممكن وصفه من خلال مجموعة أشخاص على الأقل [The problem of knowledge, p.85].

وبناء على هذه المعطيات الحديثة، يمكن أن نجري بعض التعديلات على نظرية كانط بشأن “العقل الفعال” التي تعرضنا لها سابقا، فقد كان يرى أن المبدأ الكلي الضروري لا يصدر عن حس خالص أو معطيات حسية بل هو من طبيعة العقل الإنساني الفردي، والتجارب الحديثة تثبت أن القاعدة لا يمكن أن تنشأ من عقل واحد ولو كان فعالا، وأن الطفل لا يكتسب اللغة من ذاته بل في إطار اجتماعي تقبله الغريزة بمجرد الاحتكاك بالقواعد.

ومن الخطأ الخلط بين مغالطة الاحتكام إلى الأكثرية [انظر مقال المغالطات المنطقية] وبين استنباط البنية الطبيعية لإدراك البشر من خلال اتفاقهم الفطري رغم اختلاف الظروف والعادات بين المجتمعات.

المصدر الخامس: الوحي

يعرّف ابن فارس في “معجم مقاييس اللغة” الوحي بأنه أصل يدل على إلقاء علم من أحد لغيره، وقيّده البعض بأنه خفي وسريع. ونجد في القرآن الكريم صورا للوحي لا تتقيد بالمعنى الديني، فهو يشمل الإلهام الغريزي للحيوان: {وأوحى ربك إلى النحل} [النحل: 67]، والإلهام الفطري للإنسان: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7]، والإشارة السريعة من شخص لأشخاص آخرين: {فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا} [مريم: 11]، ووسوسة الشياطين: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} [الأنعام: 121].

لكن المقصود بالوحي هنا هو الذي يوحي به الله إلى أنبيائه ورسله: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به} [الأنعام: 19]، وهو الوسيلة التي أبلغ الله بها رسله برسالتهم وطالبهم بتبليغها للناس: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163].

وإذا تجاوز الإنسان مرحلة الشك وآمن بوجود الله، سواء عن طريق العقل أو الكشف، أو بالتحقق من صدق الأنبياء ومعجزاتهم، فمن البدهي أن يعتبر الوحي الإلهي أعلى درجات مصادر المعرفة، وأن يعتبر كل ما يصدر عنه بمثابة العلم اليقيني. وبما أننا ما نزال في بداية طريق البحث عن الحقيقة فسنؤجل الحديث عن ضرورة اللجوء إلى الوحي بعد أن نتحقق من وجود الله أولاً، ثم سنتعرض في مقال “نبوة محمد” وما يليه لتفاصيل هذا المصدر المعرفي.

وما يهمنا بالدرجة الأولى في مصدرية الوحي للمعرفة هو الجانب الميتافيزيقي، فبعد أن ثبت لنا عجز العقل عن الخوض في عوالم الغيب، وعدم امتلاكنا لأي برهان يضمن صدور المكاشفات الحدسية -بشأن الغيبيات- عن مصدر موثوق، واستحالة التوصل إلى العالم الغيبي بالحواس لأنه مفارق للحس أصلا، وعجز التجربة والرياضيات عن الإحاطة بحقائق الكون المادي نفسه فضلا عن العالم الغيبي، فلن يبقى لدينا سوى اللجوء إلى الوحي بعد التحقق من صدق نسبته إلى الله.

ويجدر بالذكر أن الوحي بوصفه مصدرا للمعرفة يُصنف لدى علماء المسلمين تحت باب أوسع هو النقليات أو الخبريات، والذي يشمل كلا من: الخبر الصادق القطعي المثبت بالتواتر (القرآن الكريم والسنة والأخبار المتواترة)، والخبر الظني (روايات التاريخ والأحاديث التي لم تبلغ درجة التواتر)، والأساطير.

أما الفلاسفة المنكرين للوحي فيعتدون بمصدرية الخبر عندما تتحقق شروط الثقة في نقل الرواية، وإلا فلا قيمة لعلم التاريخ ولكل ما يصل إلينا من معارف وأخبار غابت عن حواسنا. فعلى سبيل المثال لا يمكن لأحد في العالم أن يرى بعينه كل مدن العالم بما فيها من سكان ومنازل وأسواق، إلا أنه يصدّق بوجود أي منها إذا تواترت الأخبار التي يتداولها الناس بوجود تلك المدينة ولو كانت في أقصى أصقاع الأرض ويصعب عليه التحقق شخصيا من وجودها.

ولم يخل تاريخ الفلسفة من منكري قيمة النقل، فالتيار السفسطائي الشكي في اليونان ممثلا بغورجياس كان يرى أنه لا يمكن معرفة شيء، وإن أمكن فلا يمكن نقل المعرفة للآخرين.

تمثال زيوس كبير الآلهة اليونانية

مواقف الفلاسفة من الوحي
إذا اعتبرنا اليونان مهداً للفلسفة، فسنبدأ عرضنا التاريخي من مواقف فلاسفتها تجاه الوحي، وسيأتي ذكر نشأة الأديان والأساطير هناك في مقال الوثنية، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن ما وصلنا من تراث فلاسفة اليونان قد لا يدل في الظاهر على أن الوحي بلغهم في ظل سيادة الأساطير على المشهد، ولذلك لم يصلنا من تراثهم الفلسفي شيء عن البحث في مسألة الوحي، سواء في المرحلة العقلانية الأولى على يد طاليس وأنكسيماندر، أو في مرحلة السفسطة، أو حتى في مرحلة سقراط ومن بعده ممن أعادوا الاعتبار للعقل، وذلك بالرغم من إيمانهم بوجود إله خالق من منطلق الضرورة العقلية. لكن التحقيق يرجح أن الأساطير الإغريقية نفسها لم تكن سوى تحريف لرسالة الوحي، حتى انقلبت الملائكة إلى آلهة تسكن جبل الأوليمب، ومع ذلك فالأثر الباقي في تراث الفلاسفة يبدو خاليا من آثار الوحي لأنه لم يبق لديهم منه شيء.

وقد أدى افتقار الإغريق للوحي إلى تخبط واضح في المسائل الميتافيزيقية، فيقال إن سقراط ناقش مع مجموعة من أتباع فيثاغورس قضية خلود النفس البشرية، حيث حاولوا أن يدافعوا عن نظريتهم في التناسخ انطلاقا من خلفيتهم الباطنية، فاثبت لهم سقراط تهافت النظرية، فاقترحوا القول بخلودها بعد موت الجسد، فناقشهم أيضا في هذا الطرح ولم يتمكنوا من البرهنة عليه، وعندئذ سكت الجميع برهة، وقال أحدهم ويدعى سيمياس إن العلم بحقائق هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا، ومن الجبن اليأس في البحث حتى الوصول إلى آخر حدود العقل، وإذا لم نستوثق من الحق فعلينا أن نكتشف الدليل الأقوى ما دام أنه لا سبيل لنا إلى بلوغ اليقين بالوحي الإلهي [يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص91].

وعندما انتشرت المسيحية في أوروبا، رأى قسم من الفلاسفة أن الفلسفة والدين متغايران ولا يمكن جمعهما، وأن الدين لا يُعتنق إلا بالإيمان الأعمى دون تعقل، بينما رأى غالبية فلاسفة القرون الوسطى أن الوحي والعقل كلاهما من الله فلا يمكن أن يتعارضا، وقالوا إن ما جاء في الأناجيل من غيبيات لا يمكن للعقل أن يدركه بنفسه، فعليه أن يصدّق به كما جاء في تلك الكتب.

وفي القرن الثالث عشر بدأت فلسفة أرسطو العقلانية بالانتشار، واستفاد منها القديس الإيطالي توما الأكويني في محاولة إثبات ما جاء في الأناجيل بالمنطق، ثم ظهر من الفلاسفة من يقدم العقل على النقل ويرى أنه في حال تعارضهما فلا بد أن يكون العقل هو الأولى، ومن هؤلاء جون سكوت وآلان ديليل. وعندما انطلق عصر النهضة في القرن الرابع عشر كان الفلاسفة قد حسموا أمرهم في الفصل بين الفلسفة واللاهوت، واعتبروا أن “الوحي” مناقض للعقل ولا يدعمه الدليل العلمي.

ويجدر بالذكر هنا أن الوحي الذي كان موضع البحث لم يكن هو إنجيل عيسى عليه السلام، بل مجموعة الأناجيل الأربعة التي أقرها مجمع نيقية في القرن الرابع الميلادي، وقد فقد فلاسفة عصر النهضة الثقة بها عندما شرعوا في نقدها تاريخيا وتبين لهم احتواؤها على الكثير من التناقضات، فضلا عن عدم وجود أي دليل على صحة نسبتها إلى عيسى نفسه [انظر مقال المسيحية]، لذا أقر بعض الفلاسفة في القرن السابع عشر وما بعده -مثل سبينوزا- بأن هناك وحيا نزل بالفعل على النبيين موسى وعيسى عليهما السلام إلا أن الكتاب المقدس المعترف به من قبل الكنيسة ليس سوى نسخة محرفة، بينما قرر فلاسفة نزعة “التنوير” التخلي عن الإيمان بالوحي والاكتفاء بمصدرية العقل أو الحس أو الحدس.

ومن الواضح أن نقد فلاسفة الغرب للوحي صادر عن اعتقادهم بأنه يقتصر فقط على الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، بينما لا يكاد يتعرض أحدهم للقرآن في بحثه، وقد وضعوا الأديان كلها في سلة واحدة من خلال منظورهم للدين من زاوية تراثهم اليهودي-المسيحي فقط، ولم يميزوا بين القرآن وغيره لانطلاقهم في دراسته -إن فعلوا- من أبحاث المستشرقين الذين أقر معظمهم أن القرآن ليس وحيا إلهيا أصلا.

وفيما يتعلق بالإسلام، فسنبحث في مقال مستقل مرجعية الوحي الإسلامي ومصداقية نسبته إلى الله، ونكتفي هنا في سياق العرض التاريخي بالإشارة إلى أن مواقف فلاسفة الإسلام من مصدرية الوحي للمعرفة تنوعت كتنوع المواقف في أوروبا، فكان المعتزلة يحاولون إثبات حقائق الوحي بأدوات المنطق مع تقديم العقل عند “التعارض” مع النقل، بينما كان الأشاعرة يستخدمون الأدوات نفسها لإثبات عدم التعارض، كما وضع ابن رشد كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” لإثبات توافق العقل والنقل من خلال مفهومه الخاص للعقل والذي يقتصر على المنطق الأرسطي، ثم وضع ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميلادي كتاب “درء تعارض العقل والنقل” ليثبت أيضا عدم التعارض، ولكن دون قصر العقل على فلسفة أرسطو.


أهم المراجع
برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1967.

يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي.

عبد الرحمن حبنكة الميداني، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دار القلم، دمشق، 1993.

عبد الرحمن الزنيدي، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي: دراسة نقدية في ضوء الإسلام، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992.

علي سامي نشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، 1984.

محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، مكتبة الأنجلو المصرية، 1949.

ميشيو كاكو، فيزياء المستحيل، ترجمة سعد الدين خرفان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، أبريل 2013.

رضا زيدان، الإجماع الإنساني، مركز براهين، 2017.

لؤي صافي، إعمال العقل من النظرة التجزيئية إلى النظرة التكاملية، دار الفكر، دمشق، 1998.

طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2012.

راجح الكردي، نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992.

جون لينوكس، العلم ووجود الله، ترجمة ماريانا كتكوت، الناشر خدمة كريدولوغوس، 2015.

عبد الله العجيري، ميليشيا الإلحاد: مدخل لفهم الإلحاد الجديد، مركز تكوين، 2014.

عبد الرحمن الحاج، مقال “أزمة المعرفة في سياق الحداثة”، موقع إسلام أونلاين، 23 نوفمبر 2002.

إسماعيل عرفة، مقال “خائنو الحقيقة.. كيف يخدع علماء الطبيعة الجماهير؟”، موقع ميدان، 2 سبتمبر 2017.

J. Ayer, The Problem of Knowledge, Penguin, New York, 1956.

Sterling Lamprecht, The Metaphysics of Naturalism, Appleton Century Crofts, New York, 1960.

Roger Trigg, Rationality and Science, Oxford: Blackwell, 1993.

http://www.almasalik.com

فرسان الهيكل

فرسان الهيكل هو اختصار لاسم أول منظمة عسكرية وأشهرها في تاريخ أوروبا، وهي المنظمة الأم التي كانت كل المنظمات العسكرية في تاريخ أوربا فرعاً منها أو تقليداً لها، واسمها الكامل هو “الجنود الفقراء من أتباع المسيح وهيكل سليمان” The Poor Fellow Soldiers of Christ and of Temple of Solomon، ولا توجد معلومات موثقة عن نشأة المنظمة ولا بداية تكوينها، وكل الذين أرخوا لفرسان الهيكل لجأوا إلى مصدر وحيد كُتب بعد سبعين سنة من إنشائها على يد وليَم الصوري. وقبل أن نستعرض نشأة المنظمة وتطورها وصولا إلى أفولها وتفتتها إلى عشرات المنظمات السرية القائمة حتى اليوم، يجدر بنا الحديث عن الجذور التاريخية التي تعود إلى بني إسرائيل.

رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)

الجذور الإسرائيلية
يقول مؤرخون إن هيكل سليمان في بيت المقدس كان يضم مدرستين إحداهما للصبيان والأخرى للفتيات، وكانت الأولى تخرج كهنة الهيكل والربانيين والأحبار ليكونوا صفوة المجتمع اليهودي، وكانوا يُختارون من العائلات الثابت انحدارها من سبط لاوي المتحدر من هارون، بينما يختص سبط يهوذا المتحدر من داوود بالمُلك.

وعندما هدم الإمبراطور الروماني فسباسيان الهيكل سنة ٧٠ تفرق رؤساء السبطين وأسرهم ومن تبعهم في أرجاء الأرض، واستقر عدد كبير منهم في أوربا الغربية. وكانت تقاليدهم تقتضي الاندماج في المجتمعات الأخرى والتظاهر باتباع الدين السائد وإخفاء أنسابهم الحقيقية، بخلاف عوام اليهود ممن يعلنون أنسابهم ويمارسون شعائرهم.

وطوال قرون حرص سبط المُلك وسبط الكهانة على التوغل في المجتمعات والصعود إلى قمتها، فأحد فروع أسر الملك الإلهي صار هو صلب الأسرة السكسونية الحاكمة في إنجلترا، كما امتزج فرع آخر مع الأسرة الميروفنجية التي حكمت فرنسا مابين القرنين الخامس والثامن الميلاديين، بينما وصل فرع آل سيتوارت إلى عرش اسكتلندا.

ومن هذه الأسر أيضا آل سان كلير التي حكمت نورماندي شمال غرب فرنسا، وتزاوج أبناؤها مع أسر الملك الإلهي الأخرى في فرنسا وهي شومو وجيزور وكونت وكونت شامبان وبلْوا وبولون.

ووفقا لكتاب “المُلك الإلهي” Rex Deus الصادر عام 2000 للمؤلفين الثلاثة غراهام سيمانز وتيم والاس ميرفي وماريلين هوبكنز، فإن مجموعة أسر الملك الإلهي كانت قد سيطرت على معظم أوربا الغربية مع مطلع القرن العاشر الميلادي بتغلغلها في الأسر الحاكمة، وهو أمر لم يلاحظه معظم المؤرخين التقليديين.

ونتيجة لهذا النفوذ نجحت الأسرة الميروفنجية في التغلغل إلى داخل الكنيسة الكاثوليكية وصولا إلى تعيين ستة بابوات من أصول ميروفنجية، كان أولهم البابا سلفستر الثاني سنة ٩٩٩، وآخرهم هو أوربان الثاني الذي أعلن بدء الحروب الصليبية عام 1096 باسم الكاثوليكية، وذلك بعد استكمال خطة حشد أوربا المسيحية وراء أسر الملك الإلهي التي تجري فيها الدماء الإسرائيلية.

هوج دي بايان

تشكيل المنظمة
مع وصول الصليبيين إلى الأراضي المقدسة وسيطرتهم على بيت المقدس، انتقلت خطة أسر الملك الإلهي إلى المرحلة التالية، ففي سنة ١١١٨ سافر إلى القدس تسعة فرسان من السلالة الإسرائيلية وعلى رأسهم هوج دي بايان وأندريه دي مونتبارد، والتقوا بالملك بلدوين الثاني الأخ الأصغر لأول ملوك مملكة أورشليم اللاتينية الصليبية جودفروا دي بويون وخلفه عليها، وأسفر اللقاء عن تكوين منظمة فرسان الهيكل تحت مسمى “الجنود الفقراء من أتباع المسيح وهيكل سليمان”.

وكان الهدف المعلن للمنظمة هو حراسة طرق الحج المسيحية من سواحل يافا إلى أورشليم وحماية الحجاج المسيحيين القادمين من أوربا من قطّاع الطرق.

وذهب بعض الباحثين إلى أن هذا الهدف لم يكن سوى غطاء لأهدافهم الحقيقية، وذلك لسببين، الأول هو أن تأمين طرق الحج الطويلة من يافا إلى أورشليم مهمة يستحيل أن يقوم بها تسعة فرسان في الأربعينيات من العمر، والثاني أنهم جعلوا مقر قيادتهم في المسجد الأقصى وليس على طريق الحج كما يُفترض.

فبعد استيلاء الصليبيين على القدس وتحويلها إلى مملكة أورشليم اللاتينية، حوّلوا المسجد الأقصى إلى “هيكل الرب”، وفي السنوات العشر الأولى من عمر المنظمة لم تفعل شيئا له علاقة بالمهمة التي ادعتها بل كانت مشغولة فقط بالحفر والتنقيب تحت المسجد الأقصى، حيث اكتشف الكابتن البريطاني وارين في سنة ١٨٦٧ الأنفاق التي حفرها فرسان الهيكل وفيها بعض آثارهم من تروس وصلبان.

دي كليرفو

في مجمع طروادة سنة ١١٢٩ م تمكن برنارد دي كليرفو -كبير مستشاري البابا وابن أخ مونتبارد- من الحصول على اعتراف الكنيسة بفرسان الهيكل. وبما أن الكنيسة لم تكن تقبل فكرة أن يكون الرهبان مقاتلين، فقد كتب دي كليرفو عدة رسائل ومقالات، كان أشهرها رسالة كتبها سنة ١١٣٥ بعنوان “في مدح فرسان الهيكل” ووصف فيها فارس الهيكل بأنه “فارس لا يعرف الخوف الطريق إلى قلبه، وما يحرسه ويقوم على حمايته آمن ومصون، قوة الإيمان تحرس روحه، كما أن الحديد يحمي جسده، ولأن سلاحه في جسده وفي روحه معاً، فلا خوف يعتريه ولا يتمكن منه إنسان”.

وفي سنة ١١٣٩ تمكن دي كليرفو من استصدار مرسوم بابوي من البابا الجديد إنوسنت الثاني يمنح فرسان الهيكل حق المرور عبر حدود الممالك والإمارات الأوربية كافة بحرية تامة ودون دفع ضرائب عبور، كما استثناهم من الالتزام بالقوانين المحلية في كل أوربا، بحيث لا يخضع فرسان الهيكل إلا لأستاذهم الأعظم، بينما لا يخضع هو سوى للبابا نفسه. وهي امتيازات لم يحصل عليها أحد في كل أوربا.

وهكذا انهالت على المنظمة العطايا والهبات من النبلاء والملوك، فبعد انتهاء الفرسان التسعة من حفرياتهم تحت المسجد الأقصى وحصولهم على الشرعية عادوا إلى فرنسا سنة ١١٢٩، ثم رحل الأستاذ الأعظم دي بايان ومعه دي مونتبارد إلى إنجلترا ثم اسكتلندا، فحصلوا من آل سنكلير على أرض واسعة تحولت لاحقا إلى مقر قيادة.

ارتبط تكوين فرسان الهيكل ثم صعودهم بالحروب الصليبية، فهي التي جلبت لهم الشرعية وأجبرت الكنيسة الكاثوليكية على غض الطرف عن الجمع بين الرهبنة والقتال. ونظرا لكفاءتهم في القتال فقد أصبحت المنظمة القوة الأولى في مملكة أورشليم الصليبية، ففارس الهيكل الذي يجمع بين الرهبنة والفروسية يتصف بصفات لا يناظره فيها أي جندي آخر، كقوة البنية والتدريب العالي والتسليح الجيد.

ويُقسِم الفارس ألا يفر من القتال أو يخرج من الميدان إلا بإذن قائده أو إذا واجهه ثلاثة مقاتلين معاً على الأقل، والموت في الميدان هو أسمى صور الموت عنده. كما كانت خيول فرسان الهيكل مدربة على أجواء القتال، وكانت كتائبهم أشبه بقوات الصاعقة في الجيوش الحديثة، حيث تساند الجيوش الكبيرة بأعداد قليلة تنقض على العدو في سرعة خاطفة لخلخلة الصفوف.

القوة الاقتصادية

كنيسة تابعة لفرسان الهيكل في لندن وتبدو كالقلعة

مع الوقت طور فرسان الهيكل مهاراتهم ليصبح استثمار الأموال وإدارة المزارع وتربية الخيول وإقراض الأموال والتجارة من أبرز أنشطتهم، بل تقدمت على القتال الذي صار واجهة الفرسان لجلب الشرعية فقط .

كان النبلاء المتجهون إلى الأرض المقدسة للمشاركة في الحروب يتغيبون سنوات طويلة، فيضعون ثروتهم كلها تحت سيطرة فرسان الهيكل لحمايتها، فإذا مات أو لم يعد نقلوها إلى ورثته أو إلى المنظمة إن رغب في ذلك، ويقال إن ملك فرنسا فيليب أوجست أودع ثروة التاج الفرنسي بمقر فرسان الهيكل في باريس وفوضه في إدارة الأملاك الملكية، وطوال فترة غيابه كانت عوائد إدارة هذه الثروة تذهب إليهم.

وأقام فرسان الهيكل شبكة بنكية داخل أوربا، وبينها وبين الأرض المقدسة وعبر الطرق الممتدة بينهما، فإذا أراد أوربي الحج ذهب إلى أقرب مقر لهم ليودع أموالا تغطي تكاليف الرحلة ويأخذ ما يشبه الصك ليقدمه عند كل مرحلة في رحلته إلى مقر لفرسان الهيكل فيمنحوه ما يشاء من مال، وقد أكسبت هذه التقنية فرسان الهيكل قوة سياسية ونفوذاً اقتصادياً حتى انخرطوا في تمويل التجارة ونقل البضائع، فأنشأوا أسطولاً حربياً تجارياً يتكون من ثماني عشر سفينة، ولم تكن أي دولة أوربية في حينه تملك أسطولاً بمثل سرعته وكفاءته.

صار الفرسان بمثابة شركات متعددة القوميات وعابرة للبحار تستثمر أموال الأمراء والنبلاء وتدير أراضي الإقطاعيين وتؤجر ما تمتلكه من أراض للمزارعين، وبعد خمسين عاماً من تكوينها صارت قوتها الاقتصادية تفوق قوة دول غرب أوربا مجتمعة.

وكان من أبرز أنشطة فرسان الهيكل الإقراض بالربا، حيث التفّوا على حكم الكنيسة بتحريم الربا عبر تسميته بالأجرة بدلا من الفائدة، واضطرت الكنيسة للتغاضي عن الأمر لحاجتها إلى تمويل الجيوش، فمنذ النصف الثاني للقرن الثاني عشر أصبحت المنظمة هي الممول الأبرز للحملات الصليبية.

وفي عام 1200 زاد البابا إنوسنت الثالث من قوتهم بإصدار مرسوم ينص على عدم خضوع الأفراد والأموال والبضائع داخل مقرات فرسان الهيكل ومنازلهم للقوانين المحلية الأوروبية.

إحدى قلاع فرسان الهيكل بالبرتغال
(DanielFeliciano)

وبالإضافة إلى قوتهم الاقتصادية، كان فرسان الهيكل أعظم البنائين في القرون الوسطى، فشيدوا لمنظمتهم خمسة عشر ألف مقر خلال قرنين، وكانت مقراتهم تتضمن مزارع وطواحين وحظائر خيول وكنائس وأديرة وحصونا، ومن أشهر آثارهم قلعة صفد في فلسطين.

وكان إنوسنت الثاني قد سمح لهم سنة 1139 ببناء كنائس خاصة بهم لا تخضع لسيطرة الأبرشيات والأسقفيات المحلية، فكثفوا عملية البناء، واختاروا لمقراتهم مواقع مرتفعة للإطلال على طرق الحج والتجارة، وابتدعوا تصميما جديدا للكنائس هو الطراز الدائري القوطي، والذي تعمدوا فيه محاكاة تصميم هيكل سليمان.

وخلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر تمايز البناؤون في أوربا إلى ثلاث طوائف، الأولى هي أبناء الأب سوبيس التي تتولى بناء الكنائس على الطراز الروماني، والثانية أبناء ميتر جاك المختصة بتشييد القناطر والجسور، أما الثالثة وهي المرتبطة بفرسان الهيكل فاسمها أبناء سليمان، وكانت تهتم ببناء الكنائس والأديرة الضخمة على نمط العمارة القوطية، وهي تنسب نفسها للنبي سليمان بن داوود باني الهيكل، وقد وضع فرسان الهيكل في عام 1145 لائحة قواعد تنظم شؤون الحياة اليومية لأبناء سليمان، بما فيها طريقة الأكل والنوم والثياب، فهي تجعل من بناء الكنائس رسالة خالدة ولها طقوس وشروط ونمط حياة خاص، وكانت هذه الطائفة هي بذرة الماسونية كما سنرى لاحقا.

العلاقة بالباطنيين
يقول ول ديورانت في موسوعة “قصة الحضارة” إن الإسماعيليين استخدموا أعضاء جماعاتهم السرية في التجسس والدسائس السياسية، ثم انتقلت طقوسهم إلى بيت المقدس وأوربا، وكان لها أكبر الأثر في أنظمة فرسان الهيكل ومنظمة النور البافارية (إلوميناتي)، وغيرها من الجماعات السرية التي قامت في العالم الغربي، كما كان لها أكبر الأثر أيضًا في طقوسها وملابسها.

أما مؤلف كتاب “تاريخ الماسونية” كلافل –وهو من أقطاب الماسونية- فيؤكد أن منظمة فرسان الهيكل كانت على علاقة وثيقة بالإسماعيلية [ويقصد جماعة الحشاشين تحديداً]، فكلاهما اختارتا اللونين الأحمر والأبيض شعارًا لهما، واتبعتا النظام نفسه والمراتب نفسها، فكانت مراتب الفدائيين والرفاق والدعاة تقابل المراتب نفسها لدى فرسان الهيكل وهي المبتدئ والمنتهي والفارس، كما تآمرت المنظمتان على “هدم الدين” الذي تظاهرت باعتناقه، وشيدتا الحصون العديدة للاحتماء بها.

ويتفق معه الباحثان الماسونيان كرستوفر نايت وروبرت لوماس في كتابهما الشهير “مفتاح حيرام” بتأكيدهما على أن أصل الماسونية يرجع إلى فرسان الهيكل.

وتحدث مؤرخون عدة في الشرق والغرب عن زيارة قام بها دي مونتبارد إلى قلعة شيخ الجبل سنان بن سلمان ليتلقى على يديه أصول العمل السري والاغتيالات، ما دفعهم إلى القول إن الحشاشين الإسماعيليين لعبوا دورا جوهريا في تطوير أنظمة الجمعيات السرية لتصل إلى وضعها الحالي في العصر الحديث.


الأفول
كانت موقعة حطين سنة 1187 التي كسرت الممالك الصليبية هي بداية أفول الفرسان، حيث ارتكب الأستاذ الأعظم للمنظمة جيرار دي ريدفورد أخطاء فادحة، إذ خرج بثمانين من نخبة فرسانه لمباغتة صلاح الدين الأيوبي قائد جيوش المسلمين، لكن هذا الأخير أحاط بهم وقضى عليهم، فأخطأ دي ريدفورد مجددا واستسلم ليقع أسيرا مخالفا دستور الفرسان، ثم أطلق سراحه بعد حطين بفدية باهظة.

يؤكد مؤرخون أوروبيون أن صلاح الدين أطلق سراح معظم الأسرى بعد حطين باستثناء فرسان الهيكل وفرسان مالطة، ويرى الأستاذ بجامعة نونتنغهام ديفيد نيكول في كتابه “حطين 1187” أن إعدامهم لم يكن عملاً قاسياً إذا ما أخذ بعين الإعتبار أن صلاح الدين يعلم استعداد هؤلاء الفرسان للموت بشكل دائم، فكان القضاء عليهم وعدم القبول بالفدية وسيلة ناجعة للقضاء على القوة الضاربة للصليبيين.

حاول فرسان الهيكل دفع أوروبا إلى معركة أخرى مع صلاح الدين لاستعادة القدس، لا سيما بعد سقوط إمارة صفد التي كانت تضم أمنع قلاع فرسان الهيكل، وانضم الفرسان إلى الحملة الصليبية الثالثة التي يقودها ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد وملك فرنسا فيليب الثاني، لكن الصليبيين عجزوا عن استعادة القدس بالرغم من محاولاتهم المتكررة، فركزوا جهودهم على المدن الثلاث المتبقية لديهم وهي أنطاكية وطرابلس وصور، ونجحوا أخيرا في السيطرة على ميناء عكا عام 1191.

وبعد قرن كامل من احتلال الصليبيين لعكا، فتحها المسلمون المماليك عام 1292، وسقطت بذلك آخر قلاع فرسان الهيكل في الشرق الإسلامي، فنقل أستاذهم الأعظم جاك دي مولاي مقر قيادتهم إلى جزيرة قبرص، وقام بجولات واسعة في أوربا لتحريض البابا والملوك على شن حملة صليبية جديدة ففشل، لكنه تمكن من الحفاظ على امتيازات منظمته.

حاول فرسان الهيكل عام 1300 استعادة طرطوس على الساحل السوري، فنقلوا أسطولهم إلى جزيرة أرواد، لكن المماليك طردوهم منها بعد سنتين. ومن حينها صارت فرسان الهيكل منظمة عسكرية بلا هدف وجيشاً بلا معركة، ولم يعد في حوزتها سوى السيطرة المالية والنفوذ الاقتصادي.

وفي سنة 1305 صعد البابا كليمنت الخامس إلى الفاتيكان، وبناء على رغبة ملك فرنسا فيليب الرابع طلب من جاك دي مولاي وفولك دي فيلاريه الأستاذ الأعظم لفرسان مالطة الحضور إلى فرنسا لمناقشة دمج المنظمتين، وعندما وصل دي مولاي بدأ التحقيق معه باتهامات فيليب الرابع له بالهرطقة وممارسة السحر والخروج عن المسيحية، حيث أكد الملك أنه تمكن من اختراق منظمته باثني عشر جاسوساً تحققوا من تلك الاتهامات.

أمر فيليب الرابع باعتقال دي مولاي مع سبعين من قياداته، فاعترفوا تحت التعذيب بالاتهامات، وخلال السنوات الخمس التالية اعتقل مئة وخمسة وثلاثون آخرون واعترفوا جميعاً.

إحراق بعض فرسان الهيكل بالنار

أصدر البابا مرسوماً باعتقال فرسان الهيكل في كل أوربا ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم والتحفظ عليها، وفي عام 1310 أمر فيليب الرابع بإحراق أربعة وأربعين فارساً منهم أحياء وعلناً في باريس، وقرر البابا حل المنظمة وتحويل ممتلكاتها إلى منظمة فرسان مالطة.

وفي السنة نفسها انتهت اللجنة التي كونها البابا لمتابعة قضية فرسان الهيكل وتقديم تقرير عن المنظمة وممارساتها، وكانت النتيجة هي الحكم على دي مولاي بالإعدام على الخازوق عام 1314.

وانتهت بذلك (ظاهريا) قصة الصعود الاستثنائي لأحد أكثر التنظيمات العسكرية نفوذاً، والتي نجحت خلال قرنين فقط من السيطرة على أكثر من 900 مستوطنة، وامتلاك عشرات القلاع والحصون، فضلا عن ابتكارها لأحدث أساليب التسليح والتخطيط العسكري والأعمال المصرفية والنقل والزراعة والتجارة، والتي كان لها فضل في تطور المجتمع الغربي لاحقاً.

منظمة فرسان مالطة
ما زالت هذه المنظمة قائمة حتى اليوم، بل تحولت إلى دولة ذات سيادة ومعترف بها من قبل المجتمع الدولي، فهي الدولة الوحيدة في العالم التي ليس لها وجود جغرافي على الأرض ولا حدود، بل هي منظمة تتخذ من قصر مالطة بمدينة روما مقرا لها، وأعضاؤها الذين يعيشون في شتى أنحاء العالم هم مواطنوها.

الأسد (يسار) يُمنح الوشاح الأحمر لإعلان قبوله عضوا ومواطنا في منظمة ودولة فرسان مالطة عام 2008

وكما هو حال الجمعيات السرية القائمة اليوم، فإنها تزعم أن نشاطها يقتصر على الأعمال الخيرية والطبية، حيث تدير مئات المستشفيات وتساعد في عمليات الإنقاذ والإسعاف في أكثر من 120 دولة حول العالم، إلا أنها تعلن أيضا أن هدفها الأساسي هو حماية الحق المسيحي في الحج إلى القدس، وهو الهدف الظاهري الذي أنشئت من أجله إبان الحروب الصليبية.

وتضم قوائم أعضاء المنظمة عددا من كبار السياسيين والمتنفذين في العالم، مثل رونالد ريغان وتوني بلير والملكة إليزابيث، إضافة إلى عدد من المسؤولين العرب، مثل رئيس النظام السوري بشار الأسد.

وقد أنتجت قناة الجزيرة في عام 2008 فيلما وثائقيا يبحث في علاقة دولة فرسان مالطة بعمليات عسكرية قذرة في العالم الإسلامي، وأهمها المشاركة في غزو العراق عبر شركة “بلاك ووتر” الأمنية.


اتهامات خطيرة
هناك ثلاثة أنواع من التهم التي وجهت لفرسان الهيكل وهي:

1- الهرطقة: إهانة المسيح وإنكار ألوهيته، البصق على الصليب والتبول فوقه، احتقار القداس ورجال الكنيسة، وإنكار المقدسات.

2- الجرائم الأخلاقية: الشذوذ الجنسي الجماعي والمنظم، وابتكار طقوس للترقي داخل المنظمة تتضمن ممارسة الشذوذ وتقبيل أعضاء التناسل.

3- الوثنية: عبادة رأس حجري لكبش ذي قرون اسمه بافوميت، عبادة وثن العذراء السوداء، وعبادة وثن لساحرة على شكل قطة سوداء.

بافوميت بريشة إليفاس ليفاي

وهذه الأفعال كانت تمارس في سرية تامة، فلم يكن للمنظمة سجلات علنية بل تحفظ كل أوراقها داخل كنائسها وقلاعها بسرية بالغة.

انقسم المؤرخون بشأن هذه الاتهامات إلى قسمين، الأول يرى أنه تم تلفيقها لفرسان الهيكل بعد أن حقد عليهم الملوك لتزايد قوتهم، وأن اعترافهم جاء تحت التعذيب.

أما الفريق الثاني فيرى أنها منظمة مهرطقة غايتها القضاء على المسيحية، حيث اعترف الفرسان بالتهم كلها في دول أخرى غير فرنسا دون تعذيب، بل كان بعضهم في حماية ملوك إنجلترا وإسبانيا والبرتغال ومع ذلك اعترفوا بالهرطقة والشذوذ الجنسي وهي جرائم تستحق الإعدام في أوربا البابوية.

كما أن عبادة أوثان محددة هي ليست من ذلك النوع من التهم الذى يختلقه أحد ويقر به تحت وطأة تعذيب، فهذه تهم لم يقر بها أحد غيرهم، وكان يمكنهم أن ينكروها بعد اعترافهم بما هو أخطر من الهرطقة والشذوذ.

ما هو معبودهم؟
تعددت النظريات لتفسير رمزية بافوميت، فرأى البعض أن هذه الرأس الحجرية ترمز لرأس يوحنا المعمدان (النبي يحيى) التي قطعها هيرود، فكان فرسان الهيكل يرون أن يوحنا المعمدان هو المسيّا الحقيقي وأن عيسى المسيح نبي كذاب. وقال آخرون إن الفرسان عثروا حقا على رأس يوحنا المعمدان في الحملة الصليبية الرابعة، بينما ذهب رأي ثالث إلى أن رأس بافوميت ترمز إلى رأس دي بايان مؤسس فرسان الهيكل، كما فسره آخرون بأنه يرمز إلى أزموديوس الجني الحارس الذي ساعد سليمان في بناء الهيكل.

رسم لطقس عبادة بافوميت التي اقتبسها الماسون من فرسان الهيكل أورده الماسوني الفرنسي ليو تاكسيل في كتاب نشره عام 1884 لفضحهم

أما هوج شونفيلد فقام بتحليل كلمة بافوميت Baphomet وفقا لشفرة أتباش اليهودية القديمة واستنبط أنها تعني كلمة صوفيا Sophia، أي ربة الحكمة الإغريقية وكل ربات الحكمة الأخريات ومنهن إيزيس المصرية، ويدل على ذلك أن فرسان الهيكل قدسوا رموزا وأفكارا مصرية قديمة تختلط بالتقاليد اليهودية.

وتشير الرسوم والتماثيل إلى تشابه رأس بافوميت مع “كبش مِندِس” الذي كان يُعبد في مصر وبابل على أنه تمثيل للشيطان إبليس، حيث قالوا إن إبليس دخل الجنة في جلد أفعى ليشجع الإنسان (آدم وحواء) على اكتساب المعرفة بالأكل من الشجرة، وإن إبليس عندما يهبط إلى الأرض فإنه يتجسد في هيئة كبش له قرون.

وكانت الأساطير المصرية تقول إن إيزيس تعلمت السحر من والدها “سِب”، فجسدها الكهنة في صورة امرأة لها تاج على هيئة قرنين تتوسطهما الشمس. وإذا أعدنا قراءة هذه الرمزية في ظل الوحي الإسلامي فسنجد تطابقا عجيبا مع الأحاديث النبوية التي تحظر على المسلمين الصلاة في وقتي الشروق والغروب لأن الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان، مما يقوي اعتقادنا بأن إيزيس هي إحدى تجسدات الشيطان نفسه.

وتقول أساطير الفراعنة إن “حورس” الذي يُصور على هيئة صقر قد نتج عن تزاوج إيزيس مع أخيها أوزيريس، وإنه سعى للانتقام من جده “سب” الذي قتل أباه، فأصيبت إحدى عينيه ليبقى أعوراً بعين واحدة تمثل الشمس [انظر مقال الوثنية].

ولا نجد لهذه الأساطير في مناهج البحث الغربية تأويلات أبعد من الربط فيما بينها وفي ضوء ما قاله كتبة الأساطير نفسها، كما لا نجد لدى المؤرخين والفقهاء المسلمين في القرون الماضية سوى محاولات لفهم ما رواه لهم أهل الكتاب بعد إخفاء وتحريف الكثير، وذلك قبل أن تُكتشف في العصر الحديث الكثير من الأساطير إبان الفتوحات الكبيرة في استخراج الآثار واكتشاف أسرار اللغة الهيروغليفية.

كما نجد تشابها كبيرا بين حورس ذي العين الواحدة وبين الأعور الدجال الذي ورد ذكره فيه الحديث النبوي لدى المسلمين: {لم يُبعث نبي قبلي إلا حذر قومه من الدجال الكذاب} [رواه أحمد].

ويمكن القول إن إيزيس المصرية تحل أيضا سر العذراء السوداء، فهي تُجسد بتمثال لسيدة سوداء تحمل بين يديها رضيعًا أسود، لكن الكاثوليك في أوروبا كانوا يظنون أن فرسان الهيكل أرادوا بذلك تحقير العذراء والمسيح، وظل هذا الاعتقاد سائداً حتى القرن الثامن عشر عندما اكتشف باحثون في الآثار المصرية أن العذراء السوداء ليست سوى أم الحكمة والمعرفة ومصدر الخصوبة (إيزيس) وهي تحمل وليدها حورس، وهو الرأي الذي دافع عنه المؤرخ إيان بيغ والبروفيسور ستيفان بينكو، كما أثبته بالوثائق والصور المؤلفان لين بيكنيت وكلايف برنس في كتابهما المنشور عام 1994 “كفن تورينو: صورة من؟ كشف الحقيقة الصادمة”.

واحد من بين نحو 180 تمثالا للعذراء السوداء المتبقية حتى اليوم في فرنسا

ورجح باحثون -ومنهم إيان بيغ في كتابه “وثن العذراء السوداء”- أن دي كليرفو هو الذي ابتكر هذه العبادة عندما نظم مئتين وثمانين أنشودة، يتضمن كثير منها مقولة مأخوة من نشيد الأنشاد التوراتي تقول “أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم” [1: 5-6]، وهي عبارة تم نقشها على كثير من تماثيل العذراء السوداء، وما زال نحو خمسمئة تمثال منها قائما وتؤدى عندها طقوس العبادة المسيحية في كنائس أوروبا.

بناء على ما سبق، يمكن القول إن العقيدة التي كان يخفيها فرسان الهيكل وكل من تبعهم لاحقا في الجمعيات السرية المتعددة هي قريبة جدا من الديانة المانوية الفارسية القديمة، والتي تدور حول ثنائية الآلهة، بحيث يكون الشيطان نداً للإله وأجدر منه بالعبادة والتعظيم، لذا نرى في بعض طقوسهم رموزا تبدو على النقيض من الطقوس الدينية للكاثوليكية، كالقداس الأسود والعذراء السوداء. ونظرا لممارسة الجمعيات السرية في درجاتها العليا طقوس السحر والاتصال بالشياطين فلا يُستبعد أن تتلقى “مكافأتها” من الشياطين بمزيد من النفوذ والملذات.

ولادة الجمعيات السرية
لم يكن عدد المعتقلين والمحاكَمين سوى بضع مئات، بينما يقدر باحثون أن عدد الفرسان كان يتراوح ما بين 20 و50 ألفا، وقد اختفوا فور إعلان حل المنظمة، كما اختفت جميع وثائقهم وبياناتهم المالية وحتى ثرواتهم سفن أسطولهم.

قرر باحثون أن فرسان الهيكل انضموا إلى فرسان مالطة، بينما رأى آخرون أنهم اختفوا في جبال الألب السويسرية كما اندمج بعضهم في الحياة المدنية بدول أخرى وخصوصا اسكتلندا التي كانت خارج سلطة البابا، أما في البرتغال فاحتفظوا بكيانهم بعد تغيير اسمه إلى فرسان المسيح وظل قائما حتى أواخر القرن السادس عشر، وقد ساهمت هذه المنظمة في حركة الكشوف الجغرافية التي انطلقت من إسبانيا والبرتغال، فكان منهم هنري الملاح وفاسكو دي غاما، كما أبحر كريستوفر كولمبوس على متن سفن تحمل شعارهم لاكتشاف أميركا، وهو يحمل أحلاما توراتية لاستعادة أورشليم وبناء الهيكل بعد اكتشاف العالم الجديد ونهب ثرواته.

“أصول الماسونية تعود إلى عهد الحملة الصليبية الأولى، والذي أسسها في فلسطين هو أول ملوك أورشليم جودفروا دى بويون”. [كتاب الجمعيات السرية والحركات الخفية للمؤرخة نستا وبستر، نقلا عن نشرة أصدرها لمؤرخ الماسوني شيفالييه دي باراج عام 1747].

أما مؤرخو الماسونية والجمعيات السرية فيقولون إن محافل الماسون -التي كانت في الأصل أماكن لتجمع البنائين- أصبحت ملاذاً مثالياً لفرسان الهيكل، فهي الفرع الوحيد من المنظمة الذي نجا من الحل والتدمير والملاحقة، وهكذا بدأت نشأة الماسونية على يد فرسان الهيكل.

ويقول الأستاذ الأعظم للماسونية في القرن التاسع عشر الجنرال الأمريكي ألبرت بايك في كتابه “عقيدة الطقس الأسكتلندي القديم وآدابه” المنشور عام 1872: “إن هدف فرسان الهيكل الظاهر الذي أسبغ عليهم الشرعية ومنحهم الهبات وأكسبهم السلطة كان حماية الحجاج الكاثوليك، لكن الهدف الحقيقي الذي انخرطوا من أجله في الحملات الصليبية هو العمل على إعادة بناء هيكل سليمان كما وصفه النبي حزقيال وصفاً مفصلاً في السفر المسمى باسمه، فالهيكل حين يعاد بناؤه باسم الكاثوليكية وتحت راياتها سيكون قبلة العالم ومركز ومصدر أمنه وسلامه، وسيحكم بنو إسرائيل من خلاله كل الشعوب”.

ألبرت بايك

أما الهدف الثاني كما يقول بايك فهو إزالة الكاثوليكية وتأسيس عالم جديد له ديانة جديدة تستمد عقائدها من “التقاليد المسيحية الأولى والنقية” التي يمثلها يوحنا المعمدان. فالقديس يوحنا هو الأب الروحي لكل الحركات الغنوصية التي تؤمن بأن خلاص البشر في المعرفة والأفكار وليس في مطلق الإيمان، وهي الحركات التي يمتزج فيها نموذج يوحنا المعمدان بالتراث الشفوي اليهودي الباطني وما يحويه من معارف وأسرار القبّالاه، وفقا لكتاب بايك.

ويضيف بايك أنه كانت توجد في الشرق إبان الحملة الصليبية الأولى طائفة من المسيحيين من أتباع يوحنا وكانت تعرف التاريخ الحقيقي للمسيح والتقاليد اليهودية وروايات التلمود والقبالاه، وهي طائفة تعارض كنيسة القديس بطرس ومسيحها (عيسى) المتمثلة في الفاتيكان.

وتعد هذه الكنيسة سرية للغاية، ويقودها أحبار عظام يتسلسلون إلى يوحنا المعمدان، وفي زمن الحروب الصليبية كان الحبر الأعظم لها يدعى ثيوكليتس، وقد تعرف على دي بايان وأطلعه على أسرار كنيسته ونصّبه خلفاً له على رئاسة الطائفة، وهذا اعتراف من بايك بأن منظمة فرسان الهيكل لم تكن سوى واجهة مسيحية لكنيسة تعادي الكاثوليكية نفسها وتنتسب إلى يوحنا وتؤمن بعقيدة غنوصية قبالية يهودية.

ويقول بايك إنه حين كان دي مولاي ينتظر حكم الإعدام في السجن أمر بتكوين أربعة محافل مركزية، الأول في نابولي لقيادة فرسان الهيكل في شرق أوروبا، والثاني في إدنبره من أجل قيادتهم في غربها، والثالث في ستوكهولم لفرسان الشمال، والرابع في باريس لفرسان الجنوب .كما انشطرت المنظمة إلى عشرات الجمعيات السرية والمنظمات الخفية وجماعات السحر والشعوذة، وتحولت مقاطعة لانجدوك جنوب فرنسا -وهي معقل فرسان الهيكل- إلى مأوى للملحدين والمهرطقين واليهود والوثنيين. ويؤكد بايك أن الماسونية الاسكتلندية هي الوريث الأقدم لفرسان الهيكل والامتداد الشرعي لها.

وكان من أبرز الجماعات الإلحادية والشيطانية التي نشطت في مناطق نفوذ فرسان الهيكل جماعة “الألبيين”، والتي حكمت عليها الفاتيكان عام 1139 بالهرطقة وبدأت بمطاردتها، ثم انضمت إلى الجمعيات السرية المشابهة التي انبثقت عن فرسان الهيكل بعد حلّها.

بيل كلينتون كان عضوا في تنظيم دي مولاي الدولي أثناء شبابه (demolay.org)

وتوجد في أوربا والقارة الأمريكية اليوم عشرات المنظمات السرية التي تقول إنها وريثة فرسان الهيكل، وكثير منها تضع في اسمها الهيكل أو فرسانه أو اسم أحد أساتذة فرسان الهيكل العظام، كما تحاكي في تنظيمها ودرجاتها ورموزها وطقوسها فرسان الهيكل.

ومن أهم هذه المنظمات تنظيم دي مولاي الدولي المخصص للشباب في الولايات المتحدة، الذي كان الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون من أعضائه [حسب موقع المنظمة]، ومنظمة فرسان الهيكل الاسكتلندية، وعصبة فرسان الهيكل الاسكتلندية، ومنظمة هيكل الشمس، ومنظمة دير صهيون التي سيأتي ذكرها بالتفصيل لاحقاً.

ومن أكثر المنظمات انتشارا اليوم “التنظيم العسكري السامي لهيكل أورشليم” OSMTH، وهي تؤكد أنها امتداد لفرسان الهيكل وأن دي مولاي عهد بالأستاذية إلى يوهانس لارمينيوس ثم توالى الأساتذة العظام دون انقطاع، إلى أن أخرجها الماسوني الفرنسي برنارد ريموند فابري بالابرا إلى النور سنة ١٨٠٤، وأن نابليون بونابرت كان أباً روحياً لها. وفي سنة 2001 اعترفت الأمم المتحدة بهذا التنظيم كمنظمة عاملة من أجل السلام ووضعتها في قائمة الجمعيات المدنية التي تحظى باستشارة منظمات الأمم المتحدة لها في الأزمات وتفويضها في فض النزاعات. بينما تعلن المنظمة أنها تهدف إلى الحفاظ على الأراضي المقدسة في أورشليم وحولها، وإجراء البحوث الأثرية، ودعم السلام. وكثيرا ما يتم إرسال وفودها تحت غطاء الشرعية الدولية من الأمم المتحدة إلى أماكن النزاعات في العالم الإسلامي.

كتاب أصدره “التنظيم العسكري السامي لهيكل أورشليم” عام 2017 بمناسبة “مرور خمسمئة عام على التأسيس”.

منظمة دير صهيون
طبقاً للوثائق السرية التي نشرها الفرنسي بيير بلانتار في ستينيات القرن العشرين فإن جذور دير صهيون تعود إلى جمعية سرية غنوصية لا يعرف تاريخها، حيث أسسها رجل اسمه أورمس ومزج فيها المسيحية مع الوثنية، ثم أعيد بناؤها -حسب بلانتار- سنة 1070 عندما اجتمع عدة رهبان في إيطاليا لتأسيس منظمة سرية اسمها دير أورفال، وشاركوا بأنفسهم في الحملة الصليبية الأولى. وبعد سقوط بيت المقدس في يد الصليبين ساهموا في انتخاب دي بويون ليكون أول ملوك مملكة أورشليم الصليبية، لأنه سليل الأسرة الميروفنجية المتحدرة من الملك داوود.

وفي السنة نفسها أسس هؤلاء الرهبان ديرًا في جبل صهيون حسب رواية بلانتار، وكانت مهمتهم الأولى هي البحث عن كنز هيكل سليمان الذي نهبه الرومان أثناء اجتياحهم أورشليم إبان ثورة اليهود عليهم سنة 70م، ثم إعادة تكوين الأسرة الميروفنجية وإعادتها إلى حكم فرنسا وصولا إلى حكم أوروبا كلها، وكانت منظمة فرسان الهيكل جناحاً عسكرياً لدير صهيون طوال مائة عام تقريباً.

اصطدم ملك فرنسا فيليب الثاني مع ملك إنجلترا هنري الثاني عام 1188 في معركة عند قلعة جيزور بفرنسا في صراع على شرعية الحكم، حيث تنافس كلاهما على أحقية تمثيل السلالة الميروفنجية، وكان النصر من نصيب فيليب الثاني، لكن المعركة تسببت بانشقاق فرسان الهيكل المؤيدة للإنجليز عن دير صهيون المنحازة للفرنسيين، وهكذا اندثرت آثار الجمعية السرية وظلت خفية ثمانية قرون كاملة، وفقا لمزاعم بلانتار.

وفي عام 1989 نشر بلانتار قائمة بأسماء أساتذة دير صهيون العظام، زاعما أنه كان هو نفسه أستاذها الأعظم ما بين عامي 1981 و1984، كما ادعى أن كلا من إسحق نيوتن وروبرت بويل وكيجان كوكتو وليوناردو دافنشي وفيكتور هوغو كانوا في القائمة، واشتهرت هذا الجمعية باسم أخوية صهيون (أخوية سيون)، ولا سيما بعد ظهورها مؤخرا في الرواية الشهيرة “شفرة دافنشي” للبريطاني دان براون، والتي تحولت إلى فيلم هوليودي.

وبعكس المنظمات التي انحدرت من فرسان الهيكل أو زعمت أنها هي فرسان الهيكل أو أحد فروعها، فقد قدمت دير صهيون نفسها على أنها هي الأصل وأن فرسان الهيكل فرع منها. ويعد بلانتار هو المصدر الوحيد لهذه الوثائق والمعلومات، ما دفع الكثيرين للتشكيك فيها، حيث يقول المؤرخ أحمد دراج في كتابه “وثائق دير صهيون بالقدس الشريف” إن المراجع الأوروبية تجمع على أن بناء دير صهيون في القدس لم يتم إلا بعد أن اشترى ملك صقلية روبرت أنجو المنطقة من السلطان محمد بن قلاوون عام 1335، كما أن وجود الدير هناك لا يعني بالضرورة ارتباطه بجمعية سرية.


أهم المراجع
بهاء الأمير، اليهود والحركات السرية في الحروب الصليبية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2012.

ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة وتحقيق سهيل محمد ديب، مؤسسة الرسالة، 2002.

محمد عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق، دار الهلال، 1925.

أحمد دراج، وثائق دير صهيون بالقدس الشريف، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1968.

Charles G. Addison, The History of the Knights Templar, Longman, Brown Green, London, 1842.

Nesta Webster, Secret societies and submersive movements, Boswell Publishing Co. Lltd, London, 1924.

Christopher Knight and Robert Lomas, The Hiram Key, The Century Books, 1996.

Albert Pike, Morals and dogma of the Ancient and Accepted Scottish Rite of Freemasonry, published by the authority of The Supreme Council of the thirty third degree, Charleston, 1871.

M.p. Hall, The secret teachings of all ages, H.S. Crocker Company, San Francisco, 1928.

David Nicolle, Hattin 1187: Saladin’s Greatest Victory, Osprey Publishing, 1993.

الوثنية وتعدد الآلهة

استعرضنا في مقال “الإنسان والدين” رواية الوحي والنظريات اللادينية لنشأة الدين، وأوضحنا أن الرواية الثانية تنطلق من منظور إلحادي في تفسيرها لنشوء كل العقائد والجوانب الروحية والشعائر والممارسات السحرية في حياة البشر، وسنتابع في هذا المقال تطور هذه العقائد والعبادات من منظوري الوحي والنظريات اللادينية بعد نشوء الحضارة وظهور الكتابة والتاريخ.

ولا بد لنا من مراجعة الفارق بين الروايتين والخلل في المنهج، حيث لا نجد في أي كتاب علمي حديث وصفا “علميا” يمكن الركون إليه عن نشأة الدين، والسبب ببساطة يعود إلى أن العلماء يبنون نظرياتهم بهذا الشأن على أساس من التخمين، فلم يترك لنا البشر الأوائل أي أثر مكتوب عن نشأة معتقداتهم، بل تركوا وراءهم وصفا أدبيا لأساطيرهم على هيئة ملاحم أدبية، بجانب ما بقي من المعابد والتماثيل والصور (الأوثان) التي كانوا يقدسونها، أما تفسير نشوء المعتقد نفسه ودوافعه فليس هناك أي دليل تاريخي عليه.

تعود هذه المشكلة إلى المنهج العلمي نفسه، حيث تقوم جميع الأبحاث العلمانية في نشأة الأديان ومقارنتها -وهي الأبحاث التي توسم وحدها بأنها علمية- على فكرة مفادها أن “العلم” يقتضي عدم البناء على أي نص ديني، ويمكن أن تُقبل هذه القاعدة طالما كان العلم التجريبي يبحث في أمور مجردة، بحيث يتوصل العلماء من كل الأديان على نتائج التجربة العلمية، إلا أن المشكلة تبدأ عندما يصر الباحث على اعتبار العلم التجريبي مصدرا وحيدا للمعرفة في كل شيء وأنه لا وجود للحقيقة إلا في إطار المادة والتجربة، ففي حال غياب أي معلومة علمية تجريبية عن نشأة الإنسان الأول ومعتقداته لن يكون “العلم” مفيدا ولا قادرا على تقديم أي جواب سوى التخمين، والمشكلة لا تكمن في التخمين فقط بل في افتراض أن أي تفسيرات غيبية لنشوء الكون والحياة والدين هي غير مقبولة طالما أنه لا يستطيع اختبارها بأدواته المحدودة، والمؤسف أن تصر المؤسسات العلمية حول العالم على منح “العلم” هذا الدور التخميني والمضي فيه إلى أبعد مدى، حتى باتت كتب الأكاديميين الكبار تخلط بين العلم والفلسفة.

انطلقت الأبحاث العلمانية لنشأة الدين من نظرية التطور (الداروينية) باعتبارها التفسير “العلمي” الوحيد لنشأة الإنسان [انظر مقال “وجود الله“]، وعليه فإن نظريات نشوء الدين تدور حول رغبة الإنسان الأولى في اكتشاف العالم والبحث عن أجوبة شافية للأسئلة الوجودية الكبرى وتفسير الظواهر الطبيعية، دون تطرق لاحتمال أن يكون هذا الإنسان قد خُلق من قبل إله واعٍ وأنه منحه المعارف الأولى منذ وجوده على الأرض ليتمكن من العيش وإعمار الأرض.

إدوارد تايلور

هيمنت أفكار الأنثروبولوجي الإنجليزي إدوارد تايلور التطورية على الفكر الأنثروبولوجي خلال القرن التاسع عشر، فكان يزعم أن “الإحيائية” Animisme هي الشكل الأولي الوحيد للدين الذي تطور عبر العصور خلافا لباقي الأشكال الأخرى، وصار شائعا لدى الباحثين في الأديان تفسير كل ما يتجمع لديهم من معلومات عن حياة المجتمعات غير الغربية –التي سموها بالشعوب البدائية- من منطلق التطور.

في الوقت نفسه، زعم جيمس فريزر أن الدين تطور مع ظهور الزراعة في عصور ما قبل التاريخ، وأن البشر تطوروا بتطور عقولهم عبر ثلاث مراحل، هي السحر البدائي ثم الدين وصولا إلى العلم. ووافقه في ذلك أوغست كونت وفريدريك هيغل، أما إميل دوركهايم فرأى أن الدين نشأ بتقديس القبائل “البدائية” لما يسمى بالطوطم، وهو رمز (أيقونة) حيواني كان يُشكل هوية القبائل ويحظى باحترامها، وتلاقى معظم الباحثين الغربيين على الإيمان بالتطور الدارويني في المجال الديني سواء عن طريق الصدفة أو بالحتمية الاجتماعية.

طوطم

تفترض تلك الأبحاث أن السحر هو الأصل، وأن الإنسان “البدائي” حاول السيطرة على الطبيعة عبر ادعاء حصوله على قوى السحر والشعوذة، ثم قرر بعد قرون من الفشل أن يتجه إلى الدين ويعبد الإله أو الآلهة المتعددة ليسترضيها. لكن هذا الزعم لا تسعفه الأدلة التاريخية لأن السحر والدين يعيشان جنبا إلى جنب في ظل الجماعات القديمة والحديثة، فالفارق بينهما في الوظيفة وطبيعة النظم وليس في التسلسل التاريخي. كما أن السحر نقيض الدين، فهو يتضمن الجانب العقائدي والشعائري لعبادة الشياطين في مقابل عبادة الإله أو الآلهة الوثنية، وليس هناك أي دليل تاريخي يؤكد فرضيات أسبقية السحر على الدين أو حتى يفسر نشوء السحر عن غريزة السيطرة أو الحاجة إليها في ظل غياب الدين.

كما أثبت روبرت شميت تهافت نظرية الطوطمية لدى دوركهايم، فهناك أمم عديدة لم تعرف شيئا عن الطوطم [The Making of Religion, 95]، بينما اكتشف جيمس فريزر وأندرو لانغ أن الطوطمية كانت تمثل منظومة اقتصادية مدنية وقومية وليست ذات بعد ديني. [العودة إلى الإيمان، 183].

وبحسب الرواية الإسلامية (الوحي) فإن الدين الحق الذي يقوم على عبادة الله هو الأصل منذ بدء البشرية في نسل آدم، أما ظهور السحر والأديان الوثنية فكان بعد عدة أجيال، ويقول ابن كثير في تفسيره للقرآن الكريم إن ظهور الملَكين هاروت وماروت -اللذين نسب إليهما القرآن تعليم السحر للناس- كان في زمن النبي إدريس، وهو أول الأنبياء بعد آدم، أي أن السحر أقدم من الوثنية نفسها، وهذا الرأي يتشابه جزئيا مع الرواية اليهودية -التي نعتبرها محرفة عن الوحي الأصلي- فهي تتهم الملائكة بارتكاب الخطيئة ومعصية الرب والسقوط إلى الأرض في زمن إدريس (أخنوخ) أيضا. ومع أن هناك الكثير من الروايات الإسرائيلية التي تداولها المفسرون عن حقيقة هاروت وماروت، وهي قصص أسطورية لا يدعمها دليل، ومع أن القرطبي استبعد أن يكونا من الملائكة أصلا ورأى أنهما شيطانين، فإن ما يهمنا هنا هو أن تعلم بعض الناس للسحر كان متزامنا مع نشوء العبادات الوثنية والأديان المحرفة، أو متقدما عليها بفترة وجيزة، ولكنه لم يكن متقدما على الدين الأصلي وهو عبادة الله.

 يقول ستيفن لانغدن في كتابه “الميثولوجيا الساميّة”: إن تاريخ الحضارة القديمة تزامن مع تدهور التوحيد إلى الوثنية والاعتقاد بالأرواح والأشباح، وهذا يشكل انحطاطًا للإنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
[Semitic Mythology].

ونظرًا لسيطرة الفكر الغربي بمدارسه المتعددة على العلوم الاجتماعية في أنحاء العالم، بما فيها العالم الإسلامي، فقد تغلغلت في عقول الكثير من العرب فكرة تطور الأديان التوحيدية عن الوثنية والأرواحية، وليس العكس، بل حاول بعضهم إيجاد طريقة ما للجمع بين هذه الفكرة مع الإسلام بالرغم من التناقض الجلي، وسيتبين لنا في ثنايا المقال بطلان هذه الفكرة وتناقضها مع الكثير من الأبحاث التي صدرت في القرن العشرين، حيث نستعرض أهم المحطات التاريخية لظهور العبادات الوثنية (تعدد الآلهة) بعد الانتقال المفترض للمجتمع الإنساني من النظام البدوي والعشائري إلى نظام المدن وتشكل الدول والحضارات، وما رافق ذلك من ظهور المؤسسة الدينية الوثنية (الكهنوت) وتحالفها مع المؤسسة السياسية الملكية. 

يقول الباحث آرثر كوستانس في كتابه “سلسلة أوراق المدخل”: مع اكتشافنا لألواح أثرية أقدم، ومع تقدم كفاءتنا في فك الرموز، تغيرت فكرتنا عن الوثنية القديمة، واستبدلنا بها تصورا آخر هو الترتيب الهرمي للأرواح التي يحتل قمتها كائن مطلق.
كما يرى أن نظرية التطور مبنية على اعتقاد مُسبق بأن الإنسان يرقى بتفكيره مع مرور الزمن، بينما تثبت الآثار أن ما حدث كان تدهورا وليس تطورا.
[The Doorway Papers Series, 3- 34].

 

يقول الباحث الألماني فيلهيلم شميدت في كتابه “أصل ونمو الدين” إن زعم هربرت سبنسر بأن البشر الأوائل قدسوا آباءهم وأجدادهم ثم عبدوهم وفق تراتب هرمي حتى ظهرت الآلهة والأديان هو تصور خاطئ، فالعالَم القديم كانت لديه صورة نقية عن الإله الواحد، ومع تقدم الحضارات زادت فكرة الإله تعقيدا حيث نُسبت له الزوجة، ثم تعددت الآلهة، حيث لم توجد عبادة الأسلاف في الكثير من قبائل وسط أفريقيا وجنوب شرق أستراليا وغرب أمريكا.
[The Origin And Growth of Religion, 61].

ستونهنج في بريطانيا من أشهر الأنصاب الميغاليثية

 

المعابد الأولى
ذكرنا في مقال “الإنسان والدين” أن الآثار المتبقية في تركيا ومصر والشام وأوروبا الغربية والشمالية ترجح ظهور المعابد الأولى على هيئة كتل صخرية ضخمة أطلق عليها اسم “الأنصاب الميغاليثية”، وهي تعود إلى العصر الحجري الحديث (النيوليت)، أي ما بين 9000 و4500 قبل الميلاد، ويُعتقد أنها كانت مخصصة لعبادة أرواح الموتى.

وفي عام 1994، اكتُشف موقع “غوبكلي تيبي” بولاية أورفة جنوب تركيا، وهو يضم 20 معبدا، ويعد أقدم معبد مكتشف حتى اليوم، ويعود تاريخ بنائه إلى ما قبل 12 ألف سنة تقريبا، ومازالت حجارته تحتفظ بنقوش لأشخاص ونساء عاريات وحيوانات أسطورية وبرية. [gobeklitepe.info].

تعود كل تلك المعابد إلى العصر الحجري الذي لم يترك لنا نصوصا مكتوبة عن تاريخها وعقائدها، لكن النقوش تؤكد أن الوثنية بدأت بتقديس الآباء والأجداد، وهو ما يتوافق مع ما جاء في الوحي الإسلامي، حيث أشرنا في مقال “الإنسان والدين” إلى أن بداية الانحراف عن عبادة الله كانت مع إيحاء الشيطان إلى الناس بصناعة أنصاب تحمل أسماء آبائهم الصالحين دون أن تُعبد، ثم جاءت أجيال أخرى فعبدتها.

وإذا كانت بقايا المعابد الأولى لا تكشف لنا شيئاً عن مساجد يُعبد فيها الله وحده دون وثنية ولا شرك، فهذا لا يعني أن الوثنية سابقة على التوحيد والوحي بالضرورة، فليس هناك ما يمنع تاريخياً ولا عقلياً أن تكون آثار المساجد الأولى قد اندثرت أو دُمرت عمداً، وأن المعابد الوثنية التي اهتم بها الطغاة والكهنة هي التي كُتب لها البقاء.

ويرى مؤرخون مسلمون -مثل القرطبي وابن حجر وابن الجوزي- أن آدم (أول البشر) كان قد بنى بنفسه أول المعابد على الأرض، وهو المسجد الحرام في مكة، فكان بذلك سابقاً على كل المعابد الوثنية، واستندوا بذلك إلى الحديث الصحيح الذي قال فيه أبو ذر: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ فقال صلى الله عليه وسلم “المسجد الحرام”، قال ثم أي؟ قال “المسجد الأقصى”، قال كم كان بينهما؟ قال “أربعون سنة” [البخاري: 3366، ومسلم: 520]. لكن أثر المسجد الحرام اندثر عدة أجيال، حتى أرشد الوحي إبراهيم إلى مكانه فأعاد بناءه.

قائمة ملوك سومر

 

بلاد الرافدين
بالعودة إلى بلاد الرافدين (العراق) التي ينسب إليها التاريخ المدوَّن أول الحضارات البشرية، نجد لوحا طينيا يدعى “قائمة ملوك سومر” وهو يقول إن أول الملوك بعد الطوفان كان يسمى “جشور”، وهو الذي أنشأ مدينة كيش (تل الأحيمر حالياً) في منطقة بين دجلة والفرات، لكن الباحث العراقي خزعل الماجدي يقول في كتابه “أصول الناصورائية المندائية في آريدو وسومر” إن الناصورائيين (المندائيين) أسّسوا أول مدينة في التاريخ وهي إريدو (تل أبو شهرين حالياً)، وهناك ظهر أول معبد في التاريخ (أي بعد العصر الحجري)، وكان لعبادة الإله (إيا)، ونجد في كتاب المندائيين المقدس “الكتاب العظيم” أن صفاته لا تكاد تختلف عن صفات الله المذكور في القرآن، ومنها على سبيل المثال العظيم، القديم، ملك النور، رب العوالم قاطبة، ذو الحول الشامل، الرؤوف التواب، الغفور الرحيم، العزيز الحكيم، البصير، الذي على كل شيء قدير. لكن السومريين الذين ورثوا مدينة إريدو لاحقاً حوّلوا هذا الإله إلى “إنكي”، والذي يجسد إبليس نفسه كما سنرى.

لا نجد في “قائمة ملوك سومر” اسم النمرود، إلا أنه ورد في نصوص أخرى، وأهمها الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل المتبقيان اليوم) الذي يقول إنه ابن كوش بن حام بن نوح، ويضيف أنه أول من أسس مملكة في تاريخ البشرية بتأسيسه مملكة بابل، وأنه كان طاغية جبارا كافرا بالله، كما يربط التلمود (كتاب يتضمن شروح التوراة) بين النمرود والملك إمرافيل الذي كان حاكما في عصر النبي إبراهيم، وفي القصص الشعبية التي جمعها مؤرخون في العصر الإسلامي نجد توجها عاما للاعتقاد بأن النمرود هو أول جبار في الأرض وأول من ادعى الألوهية، ويقول بعضهم إنه رأى حلما أوّله الكهنة والمنجمون بأنه سيولد ولد في قومه ويكون هلاكك على يديه، فأمر بذبح كل من يولد في تلك السنة، لكن إبراهيم نجى عندما نجحت والدته في إخفائه حتى كبر وتحدى النمرود، وعندما فشل الملك في محاججته بالعقل أمر بحرق إبراهيم بالنار، لكن المعجزة اقتضت ألا تمسه النار بسوء، وهي معجزة أكدها القرآن الكريم.

بقايا بناء يقال إنه بيت إبراهيم في أور (Aziz1005)

لا يذكر القرآن أيضا اسم النمرود، إلا أنه يورد بإيجاز المحاججة بين إبراهيم وملك جبار يدعي الألوهية [سورة البقرة: 258]، كما يذكر أن إبراهيم حاجج قومه في ألوهية الشمس والقمر [سورة الأنعام: 74- 79]، وسنذكر لاحقا أن السومريين والبابليين عبدوهما تحت مسمى شمش ونانا، وقد ذكرنا في حديث نبوي سابق أن بين نوح وإبراهيم عشرة قرون (مع احتمال أن يكون معنى القرن هو الجيل وليس مئة سنة)، وهذا يوافق ما ورد في التوراة عن كون إبراهيم العاشر في شجرة النسب من جده نوح.

نستنتج مما سبق أن إبراهيم بُعث في وقت مبكر من عمر الحضارة ببلاد الرافدين التي بدأت بالتشكل بعد الطوفان، وأنه حاول إعادة الناس إلى التوحيد ونبذ الشرك والوثنية، وقام في سبيل ذلك برحلات طويلة انطلاقا من مدينة أور بجنوب العراق ومرورا بحرّان في جنوب تركيا ثم إلى مصر ومكة التي أعاد فيها بناء الكعبة التي بناها آدم (أول مسجد ومعبد على الإطلاق)، وانتهاء بفلسطين التي توفي فيها، حيث لم يجد سوى التحدي والصدّ من الملوك والجبابرة.

وقد تبع ظهور السومريين نشوء حضارات مماثلة في مناطق متفرقة من العراق، وهي الأكادية والبابلية والكلدانية والآشورية، وظهرت فيها جميعا أساطير وثنية على يد الكهنة المتواطئين مع الملوك وبطرق متشابهة.

بحسب القرآن الكريم، يخاطب الله المسلمين من أتباع آخر الأنبياء محمد بقوله {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس} [الحج: 78]، ما يعني أن الإسلام كان ملة الأنبياء جميعا، وأن أتباع آخر الأنبياء سيشهدون على الناس يوم القيامة بأن ملة الإسلام كانت واحدة وأنها بقيت محفوظة حتى النهاية بالرغم من سعي الطغاة لتشويهها.

بالعودة إلى الأساطير التي نشأت في بلاد ما بين النهرين بعد الطوفان، نجد أن قصة الخلق وعقيدة الألوهية والإيمان بالغيبيات تختلف بحسب اختلاف المكان والزمان، وأيضا بحسب فهمنا المعاصر لما تركته تلك الحضارات من تاريخ مدون على الطين، فنجد تفسيرات وقراءات متعددة يصعب معها الجزم بما كانت عليه عقيدة العراقيين القدماء، إلا أننا نجد في تلك الأساطير نقاطا مشتركة وكأنها تقتبس من مصدر واحد، كما يبدو أن الحضارة المنتصرة كانت تضيف وتعدّل على أساطير الحضارة المندثرة، حتى وصلت إلينا أساطيرهم على هيئة تراكمية.

وبحسب الوحي الإسلامي، كان الإله الواحد موجودا وحده قبل وجود أي شيء آخر معه، ثم خلق الماء والعرش، ثم بدأ خلق الكون، ففي حديث رواه البخاري في صحيحه دخل ناس من أهل اليمن على النبي فقالوا “جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان”، فقال “كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض…”، كما تقول الآية في سورة هود {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7].

لكن المندائية أجرت كما يبدو تعديلاً طفيفاً على قصة الخلق، ففي نص التكوين من كتاب “الكنز العظيم” نجد أن الإله كان موجوداً في الأزل وكان الكون (الثمرة العظيمة) متداخلا بعضه مع بعض (الأثير بداخل الأثير)، وبأمر الإله تكونت المانات العظيمة وانتشر بريقها بما يشبه الانفجار العظيم للكون، فتكونت آلاف مؤلفة من الثمار بلا نهاية (المجرات)  وملايين الملايين من المواطن بلا عدد (الكواكب)، وهذا يعني أن الكون كان موجوداً في بذرته الأولى مع الإله في الأزل وأنه تشكل لاحقاً بأمر الإله وتوسع إلى ما لا نهاية. [mandaeannetwork.com].

وإذا كان السومريون هم ورثة المندائيين -كما يقول خزعل الماجدي- فقد أجروا تعديلاً آخر، إذ يبدو أن الذي وضع أسطورة الخلق السومرية أراد تحريف رواية الوحي فدمج الإله الخالق بالماء وجعله بداية الوجود، ثم افترض أن المخلوقات انبثقت منه مباشرة عبر مراحل متتالية. وقد أثرت أسطورة الخلق هذه على معظم الأساطير اللاحقة حول العالم، لا سيما من حيث ابتكار مفهوم تعدد الآلهة، حيث لم تعد الوثنية هنا مقتصرة على تقديس أرواح الموتى كما كان في الأقوام السابقة، بل تغلغلت الوثنية إلى قصة الخلق نفسها وجعلت للإله شركاء في كل شيء.

وبإيجاز، زعم مخترع أسطورة الخلق السومرية أن الوجود كان يقتصر على حالة غير مفهومة من العماء المائي الذي يسمى “نمو”، فهناك ماء ولكنه غير متشكل وغير مادي، وفي لحظة ما انبثق عنه إله السماء المذكر “آن” وإلهة الأرض المؤنثة “كي”، ومن زواجهما نتج الإله إنليل الذي أصبح رئيس مجمع الآلهة. أما البابليون فزعموا أن البداية كانت مع الأب أبسو والأم تعامة والابن ممو، وأنهم أنجبوا سبعة من الآلهة الأقل شأنا أو أنصاف الآلهة (الأنوناكي)، الذين أنجبوا بدورهم جيلا آخر يدعى “الإيجيجي”، ثم تم خلق السماء والكواكب والأرض وبدأت حياة الحيوانات والنباتات.

تقول ملحمة أتراحاسيس، وهي نص بابلي يعود تاريخه تقريبا إلى عام 1700 ق.م، إن الأنوناكي الذين في السماء حمَّلوا عبء العمل على عاتق الإيجيجي الذين في الأرض، مثل حفر نهري دجلة والفرات وتفجير الينابيع، لكن الإيجيجي قرروا التمرد، ومنعا لاندلاع الحرب قررت الأنوناكي خلق الجنس البشري ليحمل عبء العمل عن الآلهة. [الرحمن والشيطان].

جلجامش

وتقول الأسطورة إن الإنسان خُلق من تربة الأرض الممزوجة بلحم ودم إله قتيل قُدم قرباناً لهذه الغاية، لكنه مع ذلك سيظل بحاجة إلى الآلهة، فهو يقدم لها شعائر العبادة والقرابين، كما تظل الآلهة بحاجة له في علاقة تبادلية، إلا أن الآلهة تبدو غير منصفة ولها مشيئة غير مفهومة، كما أن تصرفاتها تتسم أحيانا بالعدوانية والقسوة وغير ملتزمة بالقواعد الأخلاقية، حتى إن قصة الطوفان الذي دمر المدن الإنسانية الأولى وردت في ملحمة جلجامش وفي النص السومري المعروف باسم “هلاك مدينة أور” على أنها قرار اتخذه الإله إنليل (وهو نظير الإله البابلي أبسو) بعد أن أزعجه ضجيج البشر بسبب تكاثرهم، حيث قرر في البداية تجويعهم بالقحط والطاعون لكنهم لم يموتوا، فقرر لاحقا إغراقهم بالطوفان، وأمر إنليل الحكيم “أتراحاسيس” (وهو نوح عليه السلام) ببناء سفينة وإنقاذ أهله وما يقدر على حمله من الحيوانات، وقد توسلت إلهة أور بقوة إلى إنليل للتراجع عن قراره، ولكن دون جدوى.

ويبدو أن واضعي هذه الأسطورة أرادوا وضع البشر في مواجهة الآلهة، فزعموا أن أتراحاسيس تمكن بذكائه من إقناع الآلهة بالنجاة من الطوفان والإبادة.

وهكذا تم ابتكار الفصل بين الدين والأخلاق طالما كانت الآلهة نفسها غير أخلاقية، لا سيما وأن هناك العديد من الآلهة الشريرة التي تشبه الشياطين، كما زُرعت في نفوس الناس عقيدة تحدي الآلهة التي خلقتهم أصلا ليكونوا في خدمتها.

ومع انتفاء العدالة في هذه العقيدة لم تعد هناك حاجة للبعث والقيامة والحساب، فالأسطورة تقول إن الأفراد ينالون ثوابهم وعقابهم في الدنيا فقط، مع أنهم يرون بأعينهم أن العدالة غير متحققة في الدنيا، لذا لم يكن المرء يرى لنفسه قيمة أعلى من البهيمة سوى في درجة الوعي، كما أن انتفاء مفهوم الخلاص والمحاسبة والعدالة أدى إلى سقوط القيَم بالجملة، وإلى عدم جدوى التفكير في الغاية من الوجود وقيمة الحرية والاختيار وجوهر الإنسانية.

وبالرغم من التعددية الواضحة في هذه الأساطير، نجد في التراتيل السومرية والبابلية والأكادية أن الأصل ينبع من الإيمان بإله واحد أعظم، ففي مدينية أوروك (الوركاء حاليا) كان الإله “آن” هو الإله الأعلى، ثم انتصرت عليها مدينة نيبور فأصبح ابنه إنليل هو الإله الرئيسي الذي لا شريك له، أما بقية الأنوناكي الذين يشكلون آلهة المجمع السماوي فليسوا أكثر من مجمع ملائكة وقديسين.

إنكي

وفي مقابل استعلاء آن وإنليل، قرر السحرة أن يرفعوا من مكانة إله آخر نجد فيه شبها كبيرا بإبليس، وهو “إنكي” الذي كان من الأنوناكي وأصبح إله العالم السفلي، فجعلوا منه إلهًا أقرب إلى البشر، وقالوا إنه كان يعلم جميع الأسرار التي أخفتها الآلهة فقرر أن يكشفها للإنسان الأول، لا سيما بعد أن اكتشف خطط الآلهة التي أرادت حرمان البشر من المعرفة، لذا كان الناس يعودون إليه ليستوضحوه بعض الأسرار، وهي ليست سوى خليط من علوم الهندسة والطب والرياضيات مع فنون السحر والتنجيم والشعوذة، فمنذ ذلك العصر القديم اختلطت العلوم بالسحر واحتكرها السحرة والكهنة. وباتت مدينة إريدو بجنوب العراق المركز الرئيسي لعبادته، كما جعلوا ابنه مردوخ رئيس مجمع الآلهة في بابل التي سيطرت على معظم بلاد ما بين النهرين وصارت العاصمة الكبرى للمنطقة.

عشتار

في الوقت نفسه، رفعت شعوب عراقية أخرى آلهتها إلى مستوى إنليل، كما فعل كهنة ربة القمر إنانا التي كانت تُعبد في كل معابد المدن السومرية، وقدّس آخرون كوكب الزهرة وأعطوه اسما أنثويا هو عشتار (فينوس)، ومن بين التراتيل البابلية الموجهة إليها نقرأ هذا الاستهلال “إليك أرفع صلاتي يا ربّة الربّات ويا إلهة الإلهات.. يا عشتار، يا ربّة البشر أجمعين ومسدِّدة خطاهم..”.

هناك أيضا تراتيل أخرى تعود إلى الدولة الأكادية تسمي الإله الأعلى بإله القمر نانا، وهو الإله الواحد الذي يجمع بين يديه كل صلاحيات الآلهة الأخرى، وهو “الذي أنجب نفسه بنفسه”، أي لم يوجده أحد. وفي إحدى الصلوات الآشورية تُوجه العبادة إلى إله الشمس “شمش”، وهو يمتلك بدوره كل الصفات التي تُطلق على الإله الواحد في الحضارات العراقية المختلفة.

إذن فهناك من تمسك بعبادة إله أعظم مطلق الصفات ولديه آلهة تساعده أقل شأنا تشبه الملائكة، وهناك من رفع الشيطان (إله العالم السفلي) إلى مرتبة الإله الأعلى وجعل من حوله أيضا آلهة تساعده، لكن سلطة الكهنوت في كل حضارة كانت تعيد صياغة الدين وتربطه بإحدى المظاهر الكونية كالكواكب والنجوم لتشخيص وتجسيد العوالم الغيبية (الميتافيزيقية)، ثم تربط تلك الآلهة المشخصة بالقوم والوطن حتى تختلط مفاهيم الدين والقومية والوطنية وتنصهر في بوتقة واحدة، فيُنزع عن الإله جزء من عظمته ويُضاف إلى الملوك والكهنة جزء من القداسة، ويصبح الولاء للملك والكهنة والدولة جزءا من الإيمان بالإله.

وعليه، نجد أن مفهوم الوثنية ارتبط ارتباطا وثيقا بالسياسة، حيث لم يظهر “مجمّع الآلهة” (البانثيون) pantheon في عالم الأديان والأساطير إلا بعد ترسيخ السلطة المدنية في دويلات المدن البشرية الأولى التي توسعت لتشمل القرى والأرياف ثم الدويلات المدنية الصغيرة الأضعف لتصبح كلها تحت سلطة مدينة (عاصمة) واحدة، إذ يبدو أن حلف السلطة الملكية مع الكهنوت ابتكر مفهوم مجمع الآلهة لتوحيد المجتمعات الصغيرة المتفرقة تحت لواء العاصمة، فيكون لكل إقليم إلهه الخاص الذي يمثله في مجمع الآلهة (الاتحادي) الذي يسوده الإله الواحد صاحب السلطة المطلقة. لكن مفهوم الإله الواحد (التوحيد) كان سابقا على تعددية الآلهة (الشرك)، وتجريد الإله وتنزيهه كان مقدما أيضا على تشخيصه وتجسيده في الأوثان والصور.

يقول الباحث ستيفن لانغدن في مقال بعنوان “الأسكتلندي” إن تتبع نقوش الحضارة السومرية يثبت وجود التوحيد أصلا عندهم، وإن أقدم النقوش والآثار التي بين أيدينا تشير بقوة إلى اعتناقهم توحيدا “بدائيا”، وإن ادعاء نشوء الدين اليهودي (الذي يعتبر لدى الغرب أصل الأديان التوحيدية) من أصل طوطمي (وثني) هو ادعاء كاذب. [The Scotsman, 18 November 1936].

 

الوثنية في الشام
تبدو أساطير بلاد الهلال الخصيب مستنسخة بعضها من بعض، وكأنها انتقلت من بلاد سومر إلى الكلدانيين والبابليين وصولا إلى الكنعانيين والآراميين والفينيقيين في سورية ولبنان وفلسطين، إلا أن واضعي تلك الأساطير كانوا يعيدون صياغتها بمنظورهم الخاص ليصبح أكثر مواءمة مع البيئة المحلية.

تمثال بعل مكتشف في أوغاريت

يُعتقد أن الكنعانيين هم أول الشعوب التي سكنت سورية، وأن مملكة إيبلا تزامنت مع وجود حضارة سومر العراقية، وكانت عاصمة إيبلا في إدلب بينما امتد نفوذها على معظم أراضي سورية الحالية، ويُعتقد أن تاريخها المكتوب بدأ في العام 3100 قبل الميلاد. وبحسب لوح طيني اكتشفته البعثة الإيطالية في أوائل الثمانينات فقد كان الكنعانيون الأوائل يعبدون إلها واحدا هو خالق كل شيء، إذ يقول الابتهال في اللوح المكتشف “رب السماوات والأرض، أنت… من خلقتها، لم تكن بعد قد صيَّرتَ الضوء في الوجود، أنت لم تضع الشمس بل خلقتها”.

لا يكشف النص السابق متى ظهر الشرك (تعدد الآلهة) في تلك المنطقة، لكن الألواح المكتشفة في ممالك ماري وإيبلا وأوغاريت تشير إلى وجود مجمع للآلهة (بانثيون) على شاكلة المجمع الأسطوري الذي وُجد في بلاد الرافدين. وكان على رأس الآلهة “إيل”، ثم يليه بعل أو حَدد الذي نُسب إليه المطر والسحاب والصواعق فكانوا يتوسلون إليه للحصول على مواسم زراعة جيدة، أما الإله “موت” فكان في مقابل بعل لكونه إله الجفاف والعالم السفلي.

كما عبد الكنعانيون “عشيرة” أو “إيلات” زوجة إيل، وعناة (التي تقابل عشتار أو عشتارت في بابل) وهي زوجة بعل، وأما إلهة الشمس فتسمى شبش وهي تقابل شمش في بابل. ويمكن للباحث المتعمق أن يكتشف التشابه الكبير بين الأساطير الكنعانية والفينيقية وبين سابقتها السومرية والأكادية والبابلية، كما يظهر أيضا أثر الأساطير السورية على ما ظهر لاحقا في بلاد الإغريق.

 

الوثنيات المصرية
بحسب كتاب نديم السيار “المصريون القدماء أول الحنفاء”، والذي يتضمن الكثير من الوثائق والصور، فقد تعلم المصريون الأوائل عبادة الإله الواحد من نبيهم هرمس (إدريس حسب أحد الأقوال)، وكانت الصلاة لديهم الركن الثاني بعد الشهادة، وكانوا يصلون خمس مرات في اليوم، ويُشترط لصحة صلاتهم التطهر وستر العورة واستقبال القبلة في الجنوب، كما تتضمن الطهارة لديهم غسل أعضاء الوضوء كما هو متبع اليوم في الإسلام بالضبط، بل إن نواقض الوضوء لديهم هي ذاتها المعروفة لدى المسلمين.

وبحسب تعاليم هرمس (إدريس) في مصر، كان هناك منادٍ ينادي للصلاة كما يفعل المؤذن، وقد أوردت الدكتورة هدى درويش في كتابها “نبي الله إدريس” تفاصيل التطابق بين صلاة أتباع إدريس وصلاة المسلمين اليوم، وذكرت أنهم عرفوا التسبيح وصلاة الجنازة وصلاة العيد وتقديم الأضاحي قبل الخروج للصلاة في العيد، كما أكد ابن العبري والقفطي أن إدريس أمر قومه بالزكاة، وأنه أمرهم أيضا بالصيام عن الطعام والشراب وإتيان النساء، ونقل السيوطي عن طائفة الصابئة المندائية (التي ما زالت تعيش في العراق) اعتقادهم بأن إدريس هو الذي بنى الكعبة في مكة وأنه كان يحج إليها هو ومن بعد من الأنبياء، إلى أن اندثرت فأعاد إبراهيم بناءها.

تؤكد د. هدى درويش أن ديانة النبي إدريس التوحيدية انحدرت لاحقا على أيدي الكهنة المصريين الذين جعلوا تعاليمه سرية حتى اندثرت وغابت عن عوام الناس، ثم نصبوا آمون إلها يُعبد بعد أن كان رمزا للشمس فقط، فأصبحت الوثنية المصرية بذلك أساسا للوثنيات الكلدانية والفارسية والإغريقية والرومانية، قبل ظهور اليهودية والمسيحية والإسلام.

منحوتة “تحوت” عند مدخل مكتبة الكونغرس بواشنطن

ومع تشوه رسالة إدريس، أعاد الوثنيون المصريون تقديمه في صورة إله أو حكيم يحمل صفات إلهية اسمه “تحوت” Thot (وقد يكتب أحيانا توت أو طوط)، وظهر في الرسوم الجدارية برأس طائر أبو منجل وهو يحمل لوح كتابة ويدوّن نتائج وزن أعمال الأموات في الحساب الأخروي داخل قاعة أوزيريس، وهذه الصورة انتقلت رمزيا إلى المحافل الماسونية لاحقا. ومن الملفت أن نجد لدى القبالاه اليهودية فكرة رفع إدريس إلى السماء ومنحه درجة الملائكة تحت اسم “مطاطرون” ليصبح مسؤولا عن محاسبة الناس في الآخرة، وقد ناقش المفسرون المسلمون احتمال أن يكون النبي إدريس قد رُفع فعلا إلى السماء (معراج) تكريما له حيث يقول عنه القرآن الكريم “ورفعناه مكانا عليا”، ومن المحتمل أن يكون قد رُفع بالفعل لكن الأساطير أعادت صياغة هذا الرفع لتمنحه درجات الآلهة والملائكة.

تُنسب إلى هرمس أيضا مجموعة مخطوطات تدعى “متون هرمس”، يُعتقد أنها كُتبت في مصر، أو في اليونان بعد الميلاد، ومع أنها تتضمن عقيدة التوحيد إلا أنها تضع أيضا أصول الفكر الباطني (الغنوصي)، وقد نُسبت إلى هرمس لاحقا آلاف الكتب المليئة بالفكر الباطني والسحر وشتى أنواع العلوم، لكن التشابه بين أجزاء من تلك الكتب وبين عقيدة التوحيد الواردة في الكتب السماوية يشير إلى أن هناك أصلا واحدا.

على سبيل المثال، يسمى المتن الثاني من متون هرمس باسم بويماندريس  Poimandres، ويطلق عليه أيضا اسم “سفر الرؤيا” فهو يتحدث عن نشأة الكون وخبايا الروح الإنسانية من وجهة نظر فرعونية، ويشبّهه بعض الباحثين بسفر التكوين في التوراة الذي يتحدث عن خلق العالم، ومع أن الكتاب يتضمن رؤية فرعونية باطنية وثنية للكون والخلق والإله، لكن أثر الوحي واضح فيه، وكأنه يحكي قصة نزول الملاك على النبي إدريس عندما اختاره الله نبيا، ليبدأ بتعليمه أسرار الكون.

يقول الكتاب إن هرمس كان يتأمل منعزلا في مكان مقفر بين الصخور، فظهر له كائن رهيب يسميه بالتنين العظيم وهو باسط أجنحته في الأفق والنور يشع منه، فنادى التنين العظيم هرمس باسمه وسأله عن سبب عزلته، ومع أن هرمس فزع من منظر هذا المخلوق فقد توسل إليه أن يكشف له أسرار العالم، فعُرج به إلى عالم نوراني لا مادي، وتلقى من الإله بويماندريس قصة الخلق التي بدأت بكلمة مقدسة فاضت عن النور، وهبطت على الماء ليتشكل منها عمود عظيم، ثم انبثق منها النار والهواء, ثم تم فصل ماء النور عن ماء الظلمة, وتشكلت بذلك العوالم العلوية والعوالم السفلية. ومن الملفت أن هذه القصة تشبه تماما مطلع سفر التكوين الذي يقول “في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة”.

وبعد جلاء الأصل التوحيدي لهذه العقيدة في “سفر الرؤيا”، نجد أثر التدخل الفلسفي الذي يحرفها باتجاه الغنوصية بوضوح، وفي النهاية يطلب بويماندريس من هرمس أن يعود إلى الأرض ويكون رسوله إلى الناس فيقول “آمرك بأن تنطلق وتكون هادياً لأولئك الذين يهيمون في الظلمة, لكل البشر الذين تكمن في دواخلهم روح العقل الكوني لعلهم ينجون مهتدين بعقلي الكامن فيك”. وهنا يعود هرمس إلى العالم المادي ويبدأ بنشر “الحقيقة” فيسخر منه معظم الناس، ثم يستأمن تلاميذه وأنصاره على الأسرار في هذا الكتاب لتصل إلى كل الأجيال اللاحقة.

وهكذا نرى أن تعاليم هرمس وعباداته تتشابه كثيرا مع ما جاء به نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، كما تتقاطع في بعض جوانبها مع ما ينسب إلى النبيين موسى وعيسى، ما يدل على التأثر والاقتباس، وسيتضح لنا في مقالات أخرى أن الوحي السماوي واحد ومنبعه واحد، وأن التحريفات التي طرأت عليه كانت تقتبس وتتأثر بأساطير سابقة.

“يلد ولم يولد، ينجب ولم ينجبه أحد.
خالق ولم يخلقه أحد، صنع نفسه بنفسه.
هو الوجود بذاته، لا يزيد ولا ينقص.
خالق الكون، صانع ما كان والذي يكون وما سيكون”.
جزء من ترتيلة مصرية تصف الإله الواحد، أوردها واليس بدج في كتاب “أوزيريس والبعث المصري”.

منذ مطلع القرن العشرين، تخصص الباحث البريطاني واليس بَدْج في دراسة معتقدات قدماء المصريين، واستنتج أنهم كانوا يؤمنون بإله واحد موجود بذاته، وأنه خفيّ، أبدي وأزلي، مطلق القدرة والعلم، لا تدركه العقول، وهو خالق الكون والقائم عليه، وأنه خلق كائنات روحانية لإيصال رسالته إلى خلقه ومساعدته في تصريف شؤون الكون، ورأى “بدج” أن المصريين الأوائل لم يشخصوا إلههم ولم يجسدوه في التماثيل والصور، لكن الملائكة التي كانت تساعده اكتسبت بعض صفات الألوهية مع أنها مخلوقة.

عائلة الآلهة المصرية (JeffDahl)

ابتدأت الحضارة عموما في مصر قبل سبعة آلاف سنة تقريبا، لكن تاريخها الأول مجهول لعدم تدوينه، فلا نعرف الكثير عن عقائدها الأولى وما زال هناك خلاف كبير بين من يرى أنهم كانوا موحدين ومن يرى أنهم عبدوا الحيوانات أو أنهم تخيلوا الآلهة كالبشر من البداية، لكن المؤكد أن التاريخ المدون ابتدأ مع ما يسمى بعصر الأسرات (السلالات الحاكمة) عبر توحيد البلاد المصرية على يد الملك مينا (نارمر) قبل الميلاد بنحو 3100 سنة.

وإذا صحت نظرية “بدج” فقد نُزعت القدسية عن الإله الواحد بالتدريج، فبعد أن أشركوا معه ملائكته، وبعد أن نُسي الإله وعُبدت الآلهة التي تشبه البشر في أهوائها وتعرضها للمرض والموت، صار لكل مدينة وبلدة في مصر إلهها الخاص،  ووضع الكهنة عقائدهم الخاصة بما يوائم الظروف ومصالح الطبقة الحاكمة، لكن بعض الآلهة الإقليمية خرج من دائرته الضيقة واكتسب صلاحيات آلهة أخرى حتى صار تجسيداً للألوهة المطلقة، مثل تيمو إله هليوبوليس، وبتاح إله ممفيس، وآمون إله طيبة. وبالرغم من كثرة الآلهة التي بلغ عددها الآلاف، فقد أكد العلامة الفرنسي جون فرانسوا شامبليون في القرن التاسع عشر أن “الدين المصري يقوم على معتقد توحيدي صافٍ، يعبر عن نفسه خارجياً بصيغ شِركية تعددية”.

يُعتقد أن الميثولوجيا الوثنية التي طرأت على المجتمع المصري كانت مستوردة في أصولها من العراق والشام، ويبدو أن هناك عدة روايات أسطورية لبداية الخلق في مصر، إلا أن أشهرها يفترض انبثاق الكون من كائن أولي غير محدد الملامح ويدعى “نون”، وهو ماء الأزل (يذكرنا بأساطير بلاد الرافدين)، تولدت عنه الشمس المتمثلة بالإله “رع” بطريقة مجهولة، وما إن أشرقت أشعة الشمس على الخواء حتى بدأ الكون بالتشكل، كما انبثق عن نون أبو الآلهة “آتوم” الذي نتجت عنه العائلة الأساسية كما في معظم الأساطير السابقة واللاحقة، وبما أن آتوم لم تكن له زوجة فقد استمنى لينتج عنه “شو” وأخته “تفنوت”، ثم تزوج الأخوان وأنجبا رب الأرض “جب” وربة السماء “نوت”، اللذين أنجبا بدورهما أربعة أبناء، ثم بدأ الصراع بين الإخوة الأربعة عندما غار الإله الشرير ست من أخيه أوزوريس وقتله، فعملت الأخت إيزيس على إعادة تجميع أشلاء حبيبها وأخيها القتيل بمساعدة أختهما نفتيس ورب الموتى أنوبيس، وأعاد رع الحياة لأوزوريس الذي أنجب من أخته إيزيس طفلا يسمى حورس، فخبأته الأم في مستنقعات الدلتا وتركته في عهدة الإلهة حتحور (على هيئة بقرة) حتى كبر، ثم عاد وانتقم من عمه ست، وهكذا أصبحت السيادة لحورس المتجسد في هيئة صقر، بينما هبط والده أوزوريس إلى عالم الموتى ليصبح إلهه السفلي.

شو في الوسط يرفع نوت (السماء) بينما يتمدد جب (الأرض)

لم تظهر أسطورة الصراع بين الآلهة إلا في عصر الأهرامات (حوالي 2600 قبل الميلاد) عندما احتاج الفراعنة لملحمة درامية على شاكلة ملاحم الإمبراطوريات المجاورة، وقد زعموا الاتحاد بالإله حورس الذي يحرس مصر كالصقر، واتخذوا من عينه شعارا مازال حاضرا في الوثنيات المعاصرة والحركات السرية، ثم زعم بعض الفراعنة أنهم أبناء “رع” المتمثل بالشمس.

أخناتون ونفرتيتي تباركهما الشمس

بعد نحو ألف سنة اندمج مع رع إله محلي كان يُعبد في مدينة طيبة واسمه “آمون”، ثم حاول الفرعون أمنحوتب الرابع (توفي عام 1334ق.م. تقريبا) نبذ الشرك وعبادة إله واحد، فغيّر اسم آمون إلى “أتون” واتخذ لنفسه اسم “أخناتون”، ومحى ملامح تعدد الآلهة الوثنية من المعابد، لكن كهنة آمون لم يسمحوا لهذه العقيدة بالبقاء، وأجبروا ابنه الصغير الذي خلفه “سمنخ كا رع” على العودة إلى عبادة الآلهة المتعددة، ثم توفي في ظروف غامضة بعد ثلاث سنين وخلفه أخوه “توت عنخ أتون” الذي كان عمره 9 سنوات، حيث أجبره الكهنة أيضا على الشرك وتغيير اسمه إلى “توت عنخ آمون”، ومُسح اسم أتون من كل المعابد، ثم توفي الفرعون الصغير في سن الثامنة عشرة في ظروف أكثر غموضا من وفاة أخيه، حيث يعتقد الكثيرون أنه قُتل وأن وزراءه الذين خلفوه في الحكم طمسوا الكثير من الأدلة.

بما أن الملوك اللاحقين طمسوا تاريخ أخناتون فلا ندري بالضبط ما إذا كان قد عبد الإله الواحد المنزه عن التمثيل والتجسيد الذي دعا إليه الأنبياء، أم أنه حاول فقط توحيد العبادة لرب واحد متمثل بالشمس، إلا أننا نعلم أن النبي موسى عليه السلام بُعث إلى أحد الفراعنة لدعوته إلى التخلي عن تأليه نفسه وعن استعباد قومه والسماح لبني إسرائيل بالخروج من مصر. وبحسب الكتاب المقدس فإن موسى نشأ في كنف أحد الفراعنة ثم عاد لدعوة ابنه الذي خلفه قبل أن يموت غرقا في خليج السويس أثناء المطاردة، ويُعتقد أن الأول هو رمسيس الثاني وأن ابنه هو مرنبتاح (توفي عام 1203 ق.م)، بينما لا يذكر القرآن الكريم سوى فرعون واحد، ومازال الخلاف قائما بشأن هويته، حيث يؤكد باحثون أن مومياءه تكشف عن وفاة طبيعية وأن آثاره تحكي عن غزوه لبلاد بني إسرائيل وانتصاره عليهم. ولم تترك المدونات المصرية أي ذكر لموسى ولخروج بني إسرائيل وهزيمة الفرعون بمقتله غرقا، إذ يبدو أن هذه النكبة التي حلت بمؤسسة السلطة والكهنوت قد طُمست كما طمست القصة الحقيقية لأخناتون، وأن الوثنية ظلت قائمة في مصر بعد خروج موسى وقومه إلى فلسطين دون أن تبقي على أثر يُذكر للوحي والتوحيد.

“وإني أرجح أن كثيرًا من فلسفة الأقدمين في مصر والصين والهند هي بقايا نبوات نسيها التاريخ فحُشر أصحابها في عداد الفلاسفة، ولعلهم من الرسل أو أتباع الرسل”. [نديم الجسر، قصة الإيمان، ص35].

رسم تخيلي لزرادشت من القرن الثالث الميلادي

 

الزرادشتية والمجوسية
في القرن السادس قبل الميلاد (على الأرجح)، ظهر في شمال إيران زرادشت الذي تتقاطع الكثير من تعاليمه مع عقائد الأنبياء كما نجدها اليوم في الإسلام. وتقول الروايات التاريخية التي دخلت فيها الكثير من الأساطير والتحريفات إن ولادته ترافقت بسلسلة من المعجزات، فاختبأ الشيطان خوفا من ظهوره المنتظر، وعندما أصبح شابا حاول الشيطان إغراءه بمنحه سلطة على الأرض مقابل تخليه عن الرسالة الدينية فلم يقبل، وتقول الروايات أيضا أن زرادشت كان كاهنا على دين قومه، ثم انشق عنهم ونزل عليه وحي النبوة في سن الثلاثين عن طريق أحد الملائكة، حيث عرج به إلى السماء للقاء الإله “أهورا مزدا”.

تنص هذه الديانة على أن الإله لم يكن سواه في الوجود، فاختار أن يخلق روحين توأمين هما سبينتا ماينيو وأنغرا ماينيو، ومنحهما حرية الاختيار، فاختار الأول الخير ودُعي بالروح القدس، واختار الثاني الشر ودُعي بالروح الخبيث، ثم بدأ الصراع بينهما، ومع أن الإله كان قادراً على سحق أنجرا ماينيو إلا أنه آثر عدم التناقض مع نفسه بالقضاء على مبدأ الحرية الذي أقره، فخلق ستة كائنات روحانية قدسية تدعى “الأميشا سبينتا” أي الخالدون المقدسون ليدعموا الروح  القدس، وذلك عن طريق “الفيض” من نوره، كما تقتبس الشمعة نورها من المشعل، وبالفيض أيضا أوجدت هذه الكائنات كائنات طيبة أخرى هي “الآهوريون”، بينما أخرج أنغرا ماينيو إلى الوجود كائنات روحانية متفوقة اسمها “ديفا” لمساعدته في التخريب، وهكذا تشكلت الملائكة والشياطين قبل خلق العالم المادي.

وكان أهورا مزدا يعلم أن القضاء على الشيطان أنغرا ماينيو وأتباعه لن يتيسر قبل خلق العالم المادي، فخلق هذا العالم ليكون ساحة الصراع، وذلك على ست مراحل زمنية، ثم أوجد آدم “ماشيا” وحواء “ماشو”، وبدأ الصراع بين بني آدم والشيطان، وسينتهي في آخر الزمان بدحر الشيطان وسيادة الخير على العالم بعد ظهور المخلّص المنتظر “ساوشيانط”.

ونصّت الزرادشتية على أن الإنسان يُحاسب بعد ثلاثة أيام من موته، فتوزن أعماله بالميزان، ويتم امتحانه بالعبور على صراط المصير، وهو جسر يتسع ويضيق بحسب أعمال الشخص فإما أن يتيح له الوصول إلى الجنة أو يلقي به في الجحيم.

وعلى صعيد العبادات، تتضمن النصوص القديمة الصلاة خمس مرات في اليوم، وتسبقها عملية تنظيف تشبه الوضوء، تتضمن غسل الوجه واليدين والقدمين، وهي تبدأ بالوقوف في حضرة الإله وتلاوة مقاطع خاصة من أناشيد الغاثا القديمة المنسوبة إلى زرادشت. وتنقل تلك النصوص عن زرادشت أن الصلاة تقام في أي مكان طاهر دون اشتراط وجود المعبد، وقد شدد كثيرا على طهارة الجسد والملابس، كما منع زرادشت صنع الصور والتماثيل للإله والملائكة.

ويشاع عن هذه الديانة أنها تعبد النار لذاتها، لكن تقديسهم لها لا يزيد عن اتخاذها رمزًا للإله، وفي عصور لاحقة شُيدت المعابد المليئة بالصور والتماثيل، وزودت بمواقد للنار المقدسة.

ومع توالي هذه التغييرات على الديانة في ظل الإمبراطورية الأخمينية، نشأت طبقة الكهنة المتفرغين لطقوس النار الذين عُرفوا باسم “موغان” ومفردها “موغ”، وهو مصطلح كان يُطلق على الكهنة في الأديان الفارسية السابقة لدى القبائل الميديّة، لكن الكهنة الزرادشتيين أصبحوا أكثر سلطة وتنظيما في العصر الأخميني، ثم ازدادت سيطرتهم في عصر الدولة الساسانية اللاحقة.

ومن هنا جاء مصطلح “المجوس” الذي تداوله العرب للدلالة على الكهنة “الموغان”، حتى نُسبت الديانة إليهم فسُميت بالمجوسية. كما اشتق الأوروبيون من هذه الكلمة مصطلح “ماجيك” magic باللاتينية، والتي تعني السحر، نظرا للإرث السحري القديم للكهانة الفارسية.

معبد النار في باكو عاصمة أذربيجان (السبيل)

أدخلت طبقة الكهنة الجدد (المجوس) على النصوص الزرادشتية القديمة (أناشيد الغاثا) شروحهم الخاصة التي جُمعت تحت اسم الأفيستا؛ ثم ظهرت شروح إضافية جُمعت في كتاب “زند أفيستا”، وانتهى الحال بالزرادشتية التوحيدية إلى المجوسية المثنوية (الثنائية) التي جعلت الشيطان ندًا للإله.

وفي القرن الثاني بعد الميلاد، كان مذهب الزورفانية قد أصبح مسيطرا في ظل الدولة الساسانية، وبتأثير من عوامل يونانية وبابلية قديمة -كما يرى بعض المؤرخين- أعيد تشكيل العقيدة الزرادشتية ليصبح الزمن اللامتناهي “زورفان أكاناراك” هو الأصل، ويُعدَّل اسم أهورا مزدا إلى أوهرامَزد، ويُبتكر إلهٌ جديد للشر اسمه “أهريمان” بدلا من أنغرا ماينيو، وهكذا زعم المجوس الجدد أن أهريمان وأوهرامَزد توأمين أزليين، وذلك بعدما كان الشيطان أنغرا ماينيو إلهًا حادثًا لا أزليًّا وموازيًا لإله الخير سبينتا ماينيو، وأصبحت هذه العقيدة هي الدين الرسمي للدولة الساسانية، كما تم ربطها بالقومية الفارسية بعد أن كانت ديانة عالمية تسعى لهداية كل البشر.

وبما أن التراث الأصلي لزرادشت لم يُحفظ دون تشويه وتحريف، فلا يمكن الجزم بما كان يدعو إليه، بل إن بعض المؤرخين يشككون في وجوده ويعتبرونه مجرد شخصية أسطورية نُسبت إليها الكثير من التعاليم، لكننا لا نستبعد أن يكون نبيا حقيقيا أوحي إليه كما أوحي إلى الأنبياء على مر العصور، لا سيما أن الكثير من تعاليمه وعباداته وتفاصيل عقيدته في الخلق والموت والبعث تتشابه مع ما جاء به آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.

منحوتة تصور الملك الساساني أردشير على حصانه وهو يطأ خصمه أردافان وينال البركة من أهورا مازدا الذي يطأ بحصانه خصمه أهريمان (MiladVandaee)

ومن المعروف أيضا أن الكثير من اليهود الذين أسرهم الملك البابلي نبوخذ نصر قد انتقلوا إلى بلاد فارس وحملوا معهم شيئا من آثار الوحي (التوراة)، فحدث بذلك نوع من التداخل بين الثقافتين.

كما نقلت كتب الحديث عن العديد من الصحابة بأسانيد صحيحة أنهم عندما فتحوا مدينة “تستر” الفارسية في عهد عمر بن الخطاب وجدوا جثة النبي دانيال الذي كان معاصرا لنبوخذ نصر عندما أسر بني إسرائيل مع نبيهم إلى بلاد العراق وفارس، حيث تُركت جثته محفوظة طوال تلك المدة ليتبرك بها الناس حتى دفنه الصحابة. [مصنف ابن أبي شيبة (7/ 4)].

وفي رواية للبيهقي في كتاب “دلائل النبوة” عن خالد بن دينار أنهم وجدوا عند رأس دانيال كتابا، فترجمه كعب بن مالك إلى العربية بأمر من عمر بن الخطاب، ووجدوا فيه وحيا سماويا يشبه القرآن الكريم، فكان يتضمن نبوءات عديدة مما جرى لاحقا بالفعل وخصوصا نبوة عيسى ومحمد. [دلائل النبوة: (1/ 381)].

أما ما يردّده المنصّرون في العصر الحديث عن اقتباس المسلمين من التراث الزرادشتي قصة صعود المخلّص الزرادشتي ويراذ إلى السماء، واعتبارها أصلا لقصة معراج النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء، فيُردّ على هذه المزاعم بأن القصة وردت في “نصوص أردا ويراذ ناماك” التي تعود إلى القرنين التاسع والعاشر الميلادي، أي بعد فتح بلاد فارس على يد المسلمين واندثار المملكة الساسانية، فالظاهر أن من بقي من الكهنة المجوس هم الذين اقتبسوا القصة من المسلمين وليس العكس، لذا نجد تطابقًا في بعض التفاصيل التي قيل إن ويراذ رآها في رحلته عند مقارنتها بما تحدث عنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

وبالرغم من التشويه الكبير الذي طرأ على الزرادشتية، فقد تركت آثارًا من الوحي السماوي في أديان ومعتقدات شعوب كثيرة في المنطقة وساهمت في تخليصها من عقائد تتناقض مع التوحيد، ونقتبس من كتاب “الرحمن والشيطان” لفراس سواح أهم هذه الآثار، كما يلي:

1- توحيد الإله وتنزيهه عن المخلوقات، وذلك وفق عقيدة أكثر وضوحا وتقديسا من الأديان الشرقية الأخرى.

2- كانت أديان العراق والشام تنظر للزمان على أنه مفتوح لانهائي، وكانت أديان الهند وشرق آسيا تقول إن الزمان يدور في حلقات، فالعالم يفنى في كل مرحلة من مراحل الزمن بكارثة كونية ثم يعود من جديد بدورة زمنية أخرى، لكن الزرادشتية أعادت للتاريخ معناه وغايته بحيث ينطلق من بداية الخلق ويتطور من خلال صراع الخير والشر قبل أن ينتهي وفقا لرؤية محددة مسبقا لآخر الزمان وقيام الساعة، وعندها تُبعث الأجساد من الموت ويبدأ زمن سرمدي جديد في عالم الآخرة.

3- التاريخ ينتهي بظهور المخلِّص، وهو إنسان طبيعي يولد من أبوين بشريين لكن ميلاده يحدث بمعجزة، وهو الذي سيقود الأشخاص الصالحين في آخر الزمان للانتصار على الشر.

4- لم تعد العبادات مجرد وسيلة للخضوع للإله، بل تهدف إلى تربية الإنسان وتنمية أخلاقه، ولم تعد الأخلاق مجرد سلوك نفعي “براغماتي” لتحقيق المصلحة بل هي قيمة ناجزة وطبيعة كامنة في الوجود لأن الإله نفسه إله أخلاقي كامل الأوصاف.

5- كان الإنسان في ديانات الشرق القديم يسعى إلى موافقة مشيئة الآلهة في حياة لا معنى لها، كما كان هدف الإنسان في شرق آسيا هو فهم العالم والتناغم معه فهو غير قادر على إصلاحه لأنه يسير وفق قوانين ثابتة في دورة حتمية، أما الزرادشتية فأعادت مفهوم الوحي السماوي القائل بأن العالم قابل للإصلاح، وأن الإنسان هو الذي يحمل هذه المسؤولية.

6- أعادت الزرادشتية للشيطان دوره وحجمه الطبيعي، فهو ليس إلهاً أزلياً ولا خالداً بالرغم من تحديه للإله، وسيكون مصيره خائبا في النهاية، وهو أصل كل الشرور في الوجود.

7- الإنسان يتمتع بالوعي ويتميز عن الكائنات الأخرى بحرية الاختيار دون جبر. وحريته هذه تستدعي المسؤولية والمحاسبة.

ومع أن بعض الأديان في مصر والمشرق آمنت بالحساب بعد الموت ثم بذهاب الأرواح إلى جنة أو جحيم، فهي لم تؤمن بيوم القيامة الذي ينتهي فيه الزمان الدنيوي ويبدأ زمان جديد مختلف جذريا، على خلاف الزرادشتية التي قالت إن الأرواح ستعود إلى الأجساد بعد البعث وستعيش في عالم أبدي ينقسم بين جنة وجحيم.

 

الوثنية اليونانية (الإغريقية)
تعود أصول الأساطير الوثنية اليونانية إلى الشاعر هوميروس الذي وضع ملحمتي “الإلياذة” و”الأوديسا”، وهناك من يشكك في وجود هذا الرجل أصلا ويرى أن أساطيره وضعت على يد جهة مجهولة ونسبت إلى شخص خيالي، وحتى في حال وجوده فهناك تضارب كبير بشأن الزمن الذي عاصره، لكن الأرجح أنه عاش (إن كان حقيقيا) ما بين عامي 1100 و850 قبل الميلاد.

رأس تمثال يعتقد أنه لهزيود

أما البناء المتكامل للوثنية اليونانية فكان على يد الشاعر هزيود، حيث يقول روبن هارد في كتابه “الميثولوجيا الإغريقية” إن هزيود هو الذي وضع قوائم معظم الآلهة في ملحمته وقسمها إلى مجموعات محددا أنسابها وأسماءها. [ص 36].

ويرجح المؤرخون أن هزيود عاش ما بين عامي 750 و650 قبل الميلاد، وقد تحدث عن نفسه في ملحمة “الأعمال والأيام” قائلا إن والده كان فلاحا في إيوليا بآسيا الصغرى (تركيا حاليا) فهاجر تحت ضغط الفقر والحاجة إلى اليونان، ثم عمل هزيود في عمل أبيه مزارعا وراعيا للغنم، وظل مجهولا إلى أن وضع في شبابه كبرى الملاحم التي شكلت ديانة الإغريق والرومان من بعدهم، وأهمها “الأعمال والأيام” و”مولد الآلهة”، كما وضع كتابا في التنجيم، ويرى مؤرخون أنه من أوائل المفكرين الاقتصاديين أيضا، وقد وضع كل هذه الأعمال الكبرى دون أن يذكر شيئا عن انتقاله من عالم الزراعة والرعي إلى الفكر، بل اكتفى بالقول إن ربّات الفنون “الموسيات” ظهرن له وأوحين له بتلك الأشعار الرائعة!

وفي كتابه أساطير إغريقية، يقول عبد المعطي شعراوي “وهكذا قدم لنا القروي الإغريقي البسيط هزيود تساؤلات وملاحظات حول كيفية حدوث كل شيء وحاول أن يصل إلى تفسير لكل ظاهرة أو عادة أو شعيرة أو تقليد، ولعله أول إغريقي يفعل ذلك، إذ إن هوميروس لم يفعل في الإلياذة والأوديسا مثلما فعل هزيود في قصائده، ومن هنا جاءت أهمية هزيود كصانع للأساطير الإغريقية”. [ج 1، ص 18].

لكن مؤرخي الحركات السرية يؤكدون أن هذه الأساطير لم تكن من وحي “الموسيات” الخرافيات، إذ يقول زعيم حركة الصليب الوردي في القرن السادس عشر فرانسيس بيكون في مقدمة كتابه “حكمة القدماء” إن تلك الأساطير لم تكن من ابتكار هوميروس ولا هزيود، بل انتقلت إليهما من أزمنة أقدم ومصادر أعرق، ويضيف “في اعتقادي أصولها واحدة، وليس هناك ما هو أعظم ولا أشرف من هذه الأصول”. [ص 320]. وهذا يعني أن بيكون -الذي لا يُعرف اليوم سوى بأنه مؤسس العلم الحديث- ينسب جميع الوثنيات إلى مصدر شيطاني واحد، وأن الشعراء الذين صاغوها في هيئة أعمال أدبية ونصوص دينية ليتعبد بها العوام لم يلجأوا إلى التأمل في غوامض الكون وأسرار الطبيعة أملا في إيجاد أجوبة وجودية لتفسيرها، بل وضعوا تلك الخرافات لتضليل البشر عن طريق الوحي.

تزعم أسطورة الخلق التي بثها هزيود في عقول الإغريق أن الربة كاوس هي الحالة الأولية للوجود فهي اللاشيء الذي انبثقت منه الأشياء، وكأنها كانت تجمع بين الوجود والعدم بطريقة غير مفهومة منذ الأزل، وقد تولّدت عنها ربة الأرض غايا، وربة الليل نيكس، ورب الظلام في العالم السفلي إيريبوس، ورب جهنم (العالم السفلي) تارتاروس، ورب الشهوة والرغبة إيروس. ثم ولدت غايا إلهًا يمثل السماء وهو أورانوس, و أصبح زوجا لها، أي تزوج الابن أمه, وأنجبا 3 سلالات مختلفة، الأولى عمالقة جبابرة (تيتان) وعددهم 12 ابنا، والثانية تسمى “السيكلوب” وهي مخلوقات بشعة لها عين واحدة في وسط الجبين, أما الثالثة فأكثر بشاعة وتسمى “ذوو المئة ذراع”، وعندما خاف الأب أورانوس من كثرة أولاده من السلالتين الثانية والثالثة خبأهم في أعماق الأرض أي في جسد أمهم غايا، فغضبت غايا على أورانوس وحرضت ابنها كرونوس (أحد الجبابرة) على الانتقام من أبيه وضربه بالمنجل، فقتل الابن أباه وورثه بأن أصبح إله السماء، ثم تزوج كرونوس أخته ريا, ونتجت عنهما السلالة البشرية الأولى المصنوعة من الذهب.

يقول عبد المعطي شعراوي في كتابه “أساطير إغريقية” إن الآلهة ليست هي التي خلقت الكون بل الكون خُلق أولا، ففي البدء كان الخواء ثم الأرض والبحار والجبال ثم السماء، ثم مجموعة العمالقة، ثم الآلهة وعلى رأسهم كبيرهم زيوس. [ج 2، ص 38].

وهذا يشير إلى أن أسطورة الخلق اليونانية التي ابتكرها هزيود هي أولى الخطوات التي مهدت للإلحاد في التاريخ المعروف، فقد مرّ بنا أن الأساطير الشرقية في العراق ومصر والشام كانت تؤمن بوجود الآلهة أولا ثم ينبثق عنها الكون والإنسان، أما هزيود فجعل الآلهة والإنسان ينبثقان معا من الكون نفسه. واللافت أن فلاسفة وأدباء عصر النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر عملوا على بعث الأساطير الإغريقية من جديد تمهيدا لنشر العلمانية والإلحاد السائدتين اليوم في الغرب.

رأس زيوس في الفاتيكان

ظهرت لكرونوس نبوءة تقول إنه سيلقى مصير أبيه على يد أحد أبنائه فقرر أن يبتلعهم, إلا أن ريا أخفت ابنها زيوس في مغارة بجزيرة كريت, حيث اعتنت به الحوريات وحرسته العفاريت حتى كبر، وعندها سقى والده دواء دفعه للتقيؤ فخرج من جوفه أبناءه الذين ابتلعهم، وانضم الإخوة إلى جيوش من الجبابرة والسيكلوب لمحاربة أبيهم كرونوس، وانتهت المعركة بمقتل السلالة الذهبية كلها وبانتصار زيوس وإخوته، فصار هو الإله الأعظم واستقر في قصر على قمة أعلى جبل باليونان (الأوليمب).

تزوج زيوس أخته هيرا ونساء أخريات، وكان شهوانيا لدرجة مفرطة، حتى صارت لديه سلالة جديدة الأبناء المصنوعين من الفضة، إلا أنهم لم يقدسوا الآلهة كما ينبغي فغضب منهم زيوس ونفاهم إلى العالم السفلي. ثم وُلدت السلالة البشرية الثالثة المصنوعة من البرونز, وكانت عدوانية وفاسدة فنفاها زيوس أيضا إلى العالم السفلي. وتبع هؤلاء جيل من الأبطال الذين نشأوا في العالم السفلي, ثم خلفتهم أخيرا السلالة الحديدية (البشر الحقيقيين).

وبطريقة تشبه أساطير بلاد الرافدين، يشقى الناس على الأرض ويكابدون مشقة الحياة لكي تعيش الآلهة الخالدة على قمة الأوليمب، بينما تمدهم تلك الآلهة بالدعم والنصر في الحروب وتمدهم بالقوت والمطر وتشفيهم من الأمراض بشرط أن يقدسوها ويتقوا غضبها ويقدموا لها القرابين.

وقد يبدو التداخل عجيبا بين الواقع والخيال لدى عوام الإغريق، إذ كانوا يصدّقون وجود قصور فارهة للآلهة على قمة الجبل، مع أنهم يرونه بأعينهم وهو جبل أجرد لا حياة فيه، كما كانوا يزورون مغارة في كريت لتقديم القرابين ويطرقون على قطع معدنية (مازالت محفوظة في المتاحف اليوم) بهدف التغطية على صوت زيوس الذي يتصورونه طفلا يعيش هناك، كي لا يسمع أباه كرونوس صوته ويبتلعه، مع أنهم لا يرون طفلا ولا يسمعون صوتا بل تقول الأسطورة إنه كبر وانتهى من قتل أبيه!

حرص هوميروس وهزيود على منح جميع الآلهة صفات بشرية، فهم يتصارعون على السلطة والنفوذ، بل يتعرض بعضهم للموت والبعث، ولهم خطايا أشد فداحة من خطايا البشر، وكأنهم أقرب إلى الشياطين من الملائكة، مما يبرر نزعات السيطرة لدى السلطات السياسية والكهنوتية التي وظفت هذه الأساطير لاستعباد البشر، كما كرست تلك الأساطير الطبقية الحادة في المجتمع ووجود العبيد والعمال والفلاحين الذين فُرض عليهم العمل بالسخرة لصالح الطبقات الأعلى وكأنه قدر محتوم.

وكما هو حال الوثنيات السابقة، تقدس الميثولوجيا اليونانية إلها واحدا أعظم وتجعله على رأس مجمع الآلهة وهو زيوس، وكل إله أو إلهة يمثل وظيفة أو قوة من قوى الطبيعة أو صفة ما من صفات الإنسان حتى لو كانت رذيلة، كما لكل قبيلة أو عشيرة أو دولة من دول البلقان المدينية الصغيرة إلهها الخاص، فكانت مدينة أثينا تعبد الإلهة أثينا، وإيلوسيس تعبد ديمتر، وساموس تعبد هيرا، وإفسوس تعبد أرتميس، وبوسيدونيا تعبد بوسيدون. وعندما تحارب دولة إحدى الدول الأخرى فإن أتباع الملك والكهنوت يربطون الأمر بصراع أعلى يجري بين الآلهة، فالشعب الغالب هو الذي يغلب إلهه إله العدو، وإذا قصّر الشعب في نصرة إلهه فعليه أن يتحمل تبعات غضبه.

لوحة تخيلية لمعبد أكروبوليس في أثينا من القرن التاسع عشر

 

الفلسفة والأسطورة
بالرغم من شيوع النظر العقلي الفلسفي لدى اليونان، وهو الأمر الذي يفخر به الغرب اليوم على اعتبار أنه وريث للفلسفة اليونانية التجريدية و”المنزهة” عن الدين والأسطورة، إلا أن معظم الفلاسفة الإغريق لم يتحرروا من البعد الغيبي، فالفيلسوف طاليس الملطي الذي وضع أسس الفلسفة العلمية في بداية القرن السادس قبل الميلاد حاول أن يقدم تفسيرات مادية لنشأة الكون، إلا أنه ربط تشكل الحياة من الماء بنزول زيوس عن عرشه وإحلال الدوامة محله.

والظاهر أن النزعة العقلية لدى الفلاسفة كانت تميل إلى رفض الوثنية وليس الدين نفسه، فانتقد إكزينوفان تشبيه الآلهة بالبشر، وكانت المدرسة الإيلية التي أسهها تعلم الناس العودة إلى التوحيد بدلا من الوثنية المتعددة، كما أنكر أنكساغوراس ألوهية الشمس وقال إنها مجرد حجر أحمر ملتهب وأكبر حجما من جبل البليونيز، أما كريتياس فتجرأ على القول إن البعض اخترعوا الآلهة ليرهبوا بها الأعداء، بينما رأى أويهيمروس أن الآلهة ﻟﻴﺴﻮا ﺳﻮى أﺑﻄﺎل وﻃﻨﻴين أدوا ﺧﺪﻣﺎت ﺟﻠﻴﻠﺔ ﻓﺮﻓﻌﻬﻢ الخيال اﻟﺸﻌﺒﻲ إﻟﻰ ﻣﺼﺎف اﻵلهة، وهذا يذكرنا برواية الوحي عن قصة قوم نوح الذين ابتدعوا بدعة الوثنية عندما جسدوا الأموات الصالحين على هيئة أصنام ثم عبدوها.

وعندما عجز الفلاسفة الأوائل عن تقديم أجوبة مقبولة على الأسئلة الوجودية الكبرى، نظرا لعجز العقل عن الخوض في الغيبيات، أو ربما للطمس المتعمد لآثار الوحي فلم يصلنا من بقاياه لدى الإغريق شيء، نشر السفسطائيون مذهبهم في الشك واعتقدوا أنه يستحيل على العقل أن يعرف شيئا، وأنه ينبغي على الفلاسفة الاهتمام بحياة الإنسان العملية فقط.

سقراط يتجرع السم راضيا بعد الحكم بإعدامه، لوحة للرسام جاك ديفيد

استعاد سقراط هيبة العقل بعد أن كاد السفسطائيون أن يغرقوا الإغريق في هوة الشك والعدمية [انظر مقال مصادر المعرفة]، إلا أنه لم يستطع أيضا أن يقدم أجوبة على الأسئلة الدينية التي لا يمكن التوصل إليها إلا بالوحي، وحُكم عليه بالإعدام بتهمة “عدم الإيمان بمعتقدات أثينا”. ثم تابع أفلاطون المهمة ما بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، وكان يرى أن الدين ينقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول دين أسطوري اخترعه الشعراء والفنانون لتسلية العوام، والثاني صنعه كهنة السلاطين لضمان انقياد الشعب لهم بخوفهم من الآلهة وتقديسهم للملوك، والثالث هو دين الفلاسفة الذي يكشف الحقيقة. أما تلميذه أرسطو فهرب من أثينا قائلا إنه لا يريد للمدينة أن ترتكب حماقة أخرى عندما أعدمت سقراط.

لقد كان بإمكان الشعراء الكبار أن يعترفوا بأن الأساطير مجرد أعمال مجازية لا حقيقة لها، كما كان في وسع الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون أن يعدلوها لتتوافق مع العقل، إلا أن غياب الوحي (وربما طمسه وتحريفه في عصر هزيود) جعل المهمة مستحيلة، وهم مع ذلك لم يرضخوا للأساطير المفروضة بقوة السلطة، بل دعوا للتوحيد أو اقتربوا منه.

وحين طاف المؤرخ بوزنياس ببلاد اليونان بعد خمسة قرون من عصر أفلاطون وجد أن الأساطير ما زالت حية في قلوب الجماهير، حيث لم يجد الناس غيرها للإجابة على تساؤلاتهم الوجودية، وكما يقول ويل ديورانت في موسوعته “قصة الحضارة” فإن أساطير هزيود شكلت عقيدة اليونان وفلسفتهم وآدابهم وتاريخهم، واستمد منها الفانون (أي البشر غير الخالدين كالآلهة) زخارفهم التي زينوا بها الأواني، كما كانت هي المصدر الأساس لمواضيع النحاتين والرسامين في معظم أعمالهم التي عاشت آلاف السنين.

سيرابيس يتشكل من دمج أوزيريس وأبيس

ويرجح غلبرت موراي أن الديانة اليونانية مرت بعدة مراحل، وأن البداية كانت دينا سماويا موحى به من الله، ثم تحولت إلى ديانة بشرية أسطورية، ثم فلسفية. [فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط للأهواني، ص22].

اتفق المؤرخون على إطلاق تسمية الحقبة الهيلينية على الفترة الممتدة من أوائل القرن الرابع قبل الميلاد وحتى موت الإسكندر المقدوني عام 323 قبل الميلاد، وهي الفترة التي ازدهرت خلالها الحضارة الإغريقية وبلغت أوجها فكريا وعلميا.

وعندما احتل الإسكندر الأكبر مصر سارع إلى مزج معبود الإغريق “زيوس” الذي كان يُجسد على هيئة رجل كبير كث اللحية, مع معبود مصر “أمون” الذي يتخذ هيئة كبش ذي قرنين, فكانت النتيجة هي اختراع إله يوناني مصري اسمه “سيرابيس” مع تجسيده أحيانا على هيئة رجل له لحية وقرون كبش، بينما يرى مؤرخون أن “سيرابيس” مزيج من أوزوريس وأبيس وزيوس.

أما الحقبة الهيلينستية فتبدأ عند أغلب المؤرخين بموت الإسكندر، حيث تقاسم خلفاؤه مملكته المترامية الأطراف وظهرت بذلك آثار التلاقح بين فلسفة اليونان وغنوصية الشعوب الشرقية، وامتدت هذه الفترة إلى الغزو الروماني لقلب اليونان عام 146 قبل الميلاد أو حتى الهزيمة النهائية لآخر دولة لخلفاء الإسكندر في معركة أكتيوم عام 30 قبل الميلاد حيث سقطت فيها مصر البطلمية بيد الرومان.

 

الوثنية الرومانية
يُعتقد أن بداية الحضارة في إيطاليا تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد عندما انتقلت شعوب الأتروسكيين من ليديا (غرب تركيا حاليا) إلى شمال نهر التيبر، وعلى الأرجح أنهم تأثروا بالوثنيات المجاورة من اليونان ووسط أوروبا، لكن السيادة كانت لآلهة العالم السفلي المقتبسة عن المستعمرات اليونانية في الجنوب، حيث يعتقد أنهم كانوا يعظمون الشياطين ويمارسون السحر.

جوبيتر

ربما يصعب تقصي الإله الأعظم من بين الآلهة المتعددة التي عبدها الرومان، لكن يبدو أن جوبيتر (كوكب المشتري) كان هو الإله الأعظم، وبجانبه كل من مارس (المريخ) و كويرينوس (أحد أقمار زحل)، ثم في مرحلة لاحقة أصبح بجانب جوبيتر زوجته جونو وابنته مينيرفا.

استمتع أباطرة روما برفع مكانتهم الدينية حتى قدستهم شعوبهم وذبحت لهم القرابين، كما قرر كل من دوميتيان وكاليغولا ونيرون أن يتألهوا بأنفسهم وينافسوا الآلهة الخيالية على مناصبها، بينما تواضع آخرون واعتبروا أن الألوهية لقب ينالونه بعد موتهم.

بدأ عصر الرومان الذهبي بعد عام 30 قبل الميلاد الذي شهد سقوط آخر ممالك اليونان في أيديهم، وهي مملكة البطالمة في مصر، وأخذ الإمبراطور أغسطس في تلك المرحلة بتشييد الكثير من المعابد المكرسة للآلهة التي جسدها الكهنة في الكواكب، ثم أعلن أغسطس نفسه الكاهن الأكبر.

ومن الواضح أن الرومان اقتبسوا ميثولوجيتهم (أساطيرهم) من اليونان، حيث يؤكد المؤلف بي كوملان في كتاب “الأساطير اليونانية والرومانية” أن الدولة الرومانية “جعلت أغلب آلهة الإغريق أربابا لها، إلا أنها عندما أدخلتها في طقوسها الدينية وآدابها أطلقت عليها أسماء لاتينية”. [ص 7].

انتشر السحر في بلاد الروم على يد البابليين، ووجد له تربة خصبة مع عبادة النجوم والكواكب واهتمام الكهنة بالتنجيم، فالتنجيم يفترض وجود قوة روحية في الكواكب تؤثر على الإنسان الذي يعيش على الأرض، ومن خلال دراسة الأبراج المعقدة يتم التنبؤ بالمستقبل، وغالبا ما يتداخل هذا الفعل بالسحر القائم على التعامل مع الشياطين. وفي عصر الإمبراطور تبريوس (ابن أغسطس) حظي المنجمون بنفوذ أكبر من ذي قبل، وصار شائعا استخدام السحر بديلا عن الطب.

وكما هو حال الوثنيات السابقة، اهتم الرومان بأرواح الموتى وقدسوها، وجسدوا أجدادهم في التماثيل، وزعم السحرة أنهم قادرون على استحضار أرواحهم. كما قدسوا الشمس إلى جانب الكواكب الأخرى، حتى أصبحت عبادتها مهيمنة في عهد أسرة سيفروس في القرن الميلادي الثالث، لذا عندما قرر الإمبراطور قسطنطين تحويل ديانة روما إلى المسيحية تم دمج ديانة أتباع بولس بعبادة الشمس، وما زال حضور الشمس واضحا في الرموز المسيحية حتى اليوم.

الإله ثور يصارع العمالقة في لوحة من القرن التاسع عشر

 

الوثنية الإسكندنافية
يعود تاريخ الفايكنغ في المنطقة الإسكندنافية بشمال أوروبا إلى القرن التاسع الميلادي، ويُعتقد أن الأساطير الإسكندنافية (النوردية) هي أصل الوثنيات الجرمانية الأخرى في شمال ووسط أوروبا.

لا يُعرف أصل الميثولوجيا الإسكندنافية بالتحديد، فقد ظلت أشعارها متداولة شفهيا دون تدوين، ما يعني صعوبة تتبع مصدرها، ويبدو أن الذي صاغها قد استورد فكرتها الأساسية من الإغريق (هوميروس وهزيود)، ثم أعاد بناءها بما يناسب طبيعة حياة الفايكنغ القائمة على الإبحار والقرصنة، وبثها في وعي تلك الشعوب الأمية لتصبح مصدر ثقافتها وعقيدتها وفنونها.

تتعدد الآلهة في الأساطير الإسكندنافية كما هو حال الأساطير السابقة، ويتربع أيضا على رأسها إله عظيم يدعى أودِن Odin، وهو نفسه وودِن لدى الشعوب الأنغلوسكسونية، كما عرفه الجرمان باسم ووتان. وتتكرر في هذه الأساطير أيضا عادة تثليث الآلهة كمعظم الوثنيات حول العالم، فهناك الإلهة الزوجة فريغ (أو فرييا عند الجرمان)، والابن ثور Thor إله الرعد.

ونظرا لخطورة الأعاصير والعواصف على البحارة الفايكنغ، رأى مخترع الأسطورة أن يجعل “ثور” على هيئة شاب ضخم مفتول العضلات ويحمل بيده مطرقة ليهاجم بها العفاريت التي تسبب العواصف والأمواج العاتية، فكان البحارة يستبشرون بصوت الرعد الذي تصدره المطرقة معتقدين أنها تصرع الشياطين.

تتشابه الأساطير الإسكندنافية مع أصولها الإغريقية بافتراض وجود عوالم خفية تعيش فيها كائنات عدة، من آلهة وعمالقة وأنصاف آلهة وأقزام وبشر، لكن مبتكر هذه الأساطير كان فيما يبدو أوسع خيالا، كما يبدو أن العديد من الشعراء والأدباء أضافوا خلال قرون طويلة المزيد من الخرافات عن عوالم خفية تسكنها كائنات عجيبة، حتى أصبح العوام يعتقدون أن كل ما حولهم في هذا العالم من كائنات حية وجمادات مسكونة بأرواح، وأن لها نوعا ما من الحياة الخفية.

ثور كما قدمته هوليود في أحد أضخم أفلامها

آمن واضعو الأساطير بوجود جنة بعد الموت، وهي عالم الفالهالا، إلا أنها مجرد مرحلة مؤقتة، كما اشترط واضعو الأسطورة لدخولها التمتع بالشجاعة لتشجيع الناس على الانخراط في المعارك. وتشبه الفالهالا قصرا ضخما يحكمه الإله أودين، حيث يحتفل فيه مع ضيوفه كل يوم بذبح خنزير لأكل لحمه مع شرب الخمر.

وعندما يحين الوقت يخرج أودين مع جنوده هؤلاء لخوض المعركة النهائية “راغناروك” ضد العمالقة، وهي المصير المحتوم للآلهة والعمالقة والبشر، إلا أن هذه النهاية ليست سوى بداية عالم جديد تسوده الأراضي الخضراء ويعم فيه السلام، حيث يُبعث بعد المعركة الآلهة من الموت ويحكمون العالم، ويتوالد البشر مجددا من رجل وامرأة تمكنا من النجاة من المعركة باختبائهما في مكان ما.

وإذا كانت الأساطير اليونانية، وبعدها الرومانية والإسكندنافية، نسخة محرفة عن الوحي وتصورا مشوها لحقيقة الإله الواحد وأدوار مخلوقاته من الجن والملائكة، فإن هذه الأسطورة تبدو وكأنها تحريف للملاحم الكبرى التي تنبأ بوقوعها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان.

مما يؤكد أن واضعي الأساطير جعلوا من الجن والملائكة آلهة، أن مؤسِّسة جمعية الثيوصوفية هيلينا بلافاتسكي صرحت في كتابها “العقيدة السرية” بأن سمائيل الذي يعتبره التلمود رئيسا للجن هو أحد الآلهة الذين تذكرهم التوراة (المحرفة) باسم إلوهيم، وتضيف أن سمائيل في القبالاه اليهودية هو شكل رمزي للعمالقة.

 

الوثنية في الجزيرة العربية
تحدثنا سابقا عن ظهور تعدد الآلهة (عبادة الأوثان) في الجزيرة العربية منذ فجر الحضارة وقبل بدء التاريخ، وذلك على يد عاد وثمود، وما تلاهم من الأنباط الذين اتخذوا من سلع (البتراء في الأردن) عاصمة لهم، إلا أن التوحيد عاد إلى العرب على يد النبي إسماعيل بن إبراهيم الذين نشأ في مكة واختلط بالعماليق (قوم من العرب الأوائل)، ثم ارتدوا مجددا إلى الوثنية على يد رجل يدعى عمرو بن لُحَيّ.

منحوتة للإلهة اللات عثر عليها في الطائف

يقول المؤرخ ابن كثير إن عمرو بن لحي كان أحد رؤساء خزاعة الذين تولوا زعامة البيت (الكعبة في مكة)، وإنه كان أول من غيّر دين إبراهيم الخليل بين العرب، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها.

واشتهرت في مكة عبادة أصنام كثيرة، وعلى رأسها “هُبل” الذي كان بمثابة كبير الآلهة، حيث نصبت قريش له صنما في جوف الكعبة، ثم تأتي من بعده ثلاثة آلهة مشهورة هن اللات والعزّى ومناة، حيث يشكلن ثالوثاً أنثوياً على اعتبار أنهن أبناء الله، كما خصصت كل قبيلة من القبائل الكبرى لنفسها واحدا من الأوثان لتشتهر بعبادته وتقديسه وجذب المتعبدين وقوافل التجارة إليه، فاختارت قبيلة ثقيف في الطائف عبادة اللات وجعلت لها بيتاً يضاهي كعبة مكة، وروي أن ابن لحي استغل وفاة رجل صالح من ثقيف كان يحمل اسم اللات فقال لهم إنه لم يمت بل حلّت روحه في صخرة، فنحتوا الصخرة وجعلوها وثنا يُعبد.

وبالطريقة نفسها، أرادت قبيلة غطفان منافسة قريش، فجعلت لنفسها معبدا يسعى فيه الناس بين حجرين كما يسعون بين الصفا والمروة بمكة، ونصبت صنم العزى في بيت مهيب يضاهي الكعبة.

أما مناة فكان لها صنم في موضع يقال له “المشلل”، وكانت مقدسة تحديداً عند قبيلتي الأوس والخزرج في يثرب (التي سميت لاحقاً المدينة المنورة بعد هجرة النبي محمد إليها)، ويقول المؤرخون إن العرب أصبحوا يقدسون هذه الأصنام الثلاثة ويحجون إليها ويذبحون عندها القرابين كلما حجوا إلى مكة في موسم الحج السنوي. وعندما نزل القرآن على النبي انتقد تلك الأصنام الثلاثة فقال {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 19-23].

وكما طرأ التحريف لدى العرب على العقيدة، فقد غيروا أيضا في شرائعهم، فيقال إن ابن لحي فتح الباب أيضا لوضع تشريعات جديدة في الأنعام (ذبح الحيوانات) وغيرها، فأصبح العرب يحرّمون على  أنفسهم أنواعا من الجمال والغنم دون أي مبرر أو اقتباس من مصدر آخر، والعجيب أن التشريع الجديد انتشر بين القبائل وكأنه دين موحى به من السماء. ويرى ابن كثير أن القرآن ذكر ابن لحي في سورة الأنعام بقوله {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا…} [الأنعام: 136] إلى آخر الآيات.

وقبل أن يُبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس برسالة التوحيد من داخل قبيلته قريش، كانت قريش قد نجحت في بسط سيادتها المعنوية على كافة القبائل في شبه الجزيرة العربية بحكم سيطرتها على البيت في مكة، فقد جمعت لنفسها الرئاسة الدينية والدنيوية وميّزت نفسها في شعائر الحج وتفاصيل شرعية أخرى مما كان قد بقي من شريعة جدهم إسماعيل، فبينما كانت قبائل العرب تقف في جبل عرفة تركت قريش الوقوف هناك والإفاضة، وكان سادتها يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس، حيث لقبوا أنفسهم بالحمس (جمع أحمس) لتحمسهم في دينهم.

رسم لمكة يعود إلى عام 1790

وابتدعوا أمورا أخرى مثل قولهم لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط (أي يتخذوا الأقط وهو لبن مجفف)، ولا يسلئوا السمن (أي يطبخوه) وهم حرُم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيود الأدم ما كانوا حرماً، وغير ذلك من الأحكام المُخترعة التي شددوا فيها على أنفسهم من باب الحماسة، ويبدو أنهم فعلوا ذلك ليثبتوا للعرب أنهم أولى بالزعامة كما يفعل الرهبان في أديان أخرى بانقطاعهم عن الزواج وملذات الحياة مقابل تقديس الناس لهم، وقد دانت العرب لقريش بالفعل وجعلتهم أشرف القبائل، فتركت قريش الغزو واشتغلت بالتجارة ووضعت شروطا لكل من يريد الزواج بإحدى بناتهن.

وعندما نزل الوحي على أحد أبناء قريش، وأمرهم بالتساوي مع بقية شعوب الأرض رفضوا دعوته بشدة، مع اعترافهم بأنه كان معروفا بينهم بالصدق والأمانة ولم يجربوا عليه الكذب، إلا أن معظم قادتهم وجدوا في دعوته انتزاعا للسلطة التي منحوها لأنفسهم.

وبعد سنوات طويلة من الصراع الشاق، تمكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من تبليغ دعوة التوحيد وإنهاء وجود الوثنية في أرض العرب وفي مناطق أخرى واسعة من العالم، وتؤكد الموسوعات التاريخية الحديثة أن انتشار الإسلام كان أسرع انتشار لأي حضارة عرفها التاريخ حتى اليوم.

فيديو يوضح كيفية انتشار الأديان ويثبت أن الإسلام كان الأسرع انتشارا في التاريخ

ويؤكد القرآن أنه جاء ليجدد الرسالة نفسها التي بُعث بها كل الأنبياء لمقاومة الوثنية والانحراف عن التوحيد، وأن دين الإسلام نفسه هو دين واحد منذ بدء البشرية وليس دينا خاصا بمحمد وأمته، حيث قال نوح لقومه {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، كما وصف القرآن إبراهيم بقوله {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]، وكان الإسلام هو الدين الذي أقر به أبناء يعقوب الذين يُعتبرون أجداد بني إسرائيل، حيث تقول الآية {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]، وهذا ما أقره موسى أيضا في خطابه لبني إسرائيل: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس:84]، كما قال سليمان في رسالته لملكة سبأ {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30-31]، وقد أقر بذلك أيضا أتباع عيسى قبل تحريف رسالته عندما سألهم من أنصاري من الله؟ فقال الحواريون {نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52].

الكعبة في المسجد الحرام بمكة المكرمة

 

خلاصة
بعد هذه الجولة الموجزة في تاريخ تطور الأديان الوثنية، سنوجز في النقاط الآتية أهم الخلاصات التي يمكن استنتاجها والانطلاق منها إلى دراسة الأديان اللاحقة:

1- تنطلق الأبحاث الإنثروبولوجية اللادينية -كما أسلفنا في بداية المقال- من منطلق إلحادي/لاديني مسبق، وهذا يعني بطبيعة الحال افتراض أن أي تشابه بين النصوص الدينية وبين الأساطير والسحر يعني أن الأولى مقتبسة من الثانية، وذلك لاعتقاد الباحثين مسبقا بأنه لا وجود لمصدر إلهي للوحي أصلا.

لذا يجتهد الباحثون في محاولة إثبات اقتباس التوراة والإنجيل (بالنسخ المتبقية اليوم) والقرآن من الأساطير السابقة، ويفترض بعضهم أن وجود أي شبه بين شعائر الصيام والصلاة والحج الإسلامية اليوم وبين مثيلتها في بلاد الرافدين ومصر الفرعونية هو دليل على “وثنية” الإسلام.

وهذا الافتراض يتضمن مغالطة منطقية، فتلازم أمرين لا يعني بالضرورة نشوء أحدهما عن الآخر. وفي حال ثبوت تأثر أي منهما بالآخر فإن الافتراض اللاديني يتخذ مسبقا قراره بالانطلاق باتجاه واحد ويشترط عدم صحة الاتجاه الآخر، فما الذي يمنع أصلا أن يكون الإسلام هو دين الأنبياء جميعًا، بدءًا من آدم أول البشر، وأن الوثنية العراقية والمصرية وغيرهما هي التي اقتبست وحرّفت وليس العكس؟

برستد

2- يضاف إلى الخلل في وضع الفرضيات أن بعض الأدلة التي يطرحها اللادينيون تفتقر إلى الصحة أصلا، حيث يزعم البعض -مثل المؤرخ جيمس هنري برستد في كتابه “فجر الضمير”- أن “الظاهرة الدينية” بدأت بأساطير قائمة على تعدد الآلهة، وأن أخناتون المصري هو أول من ابتكر مفهوم الإله الواحد ثم ترك أثره على الأديان التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، لكن هذه المقولة التي راجت طويلا في القرن العشرين ثبت تهافتها أخيراً كما يقول جون ولسن في كتابه “الحضارة المصرية”، فالتوحيد كان معروفاً وقديماً في العراق ومصر والشام قبل ظهور مفهوم “مجمع الآلهة” لدى السومريين ومن جاء بعدهم.

وفي حين يزعم البعض أن “الكتاب المقدس” اقتبس من الميثولوجيا اليونانية والمصرية قصتي إخفاء المسيح من الإمبراطور الروماني وإخفاء موسى من فرعون في تابوت وإلقائه بالنيل، يتبين لنا أن هزيود الذي ابتكر هذه الأسطورة في اليونان عاش بعد قصة موسى وأنه هو الذي اقتبس منها، وكذلك الحال في قصة أوزيريس وإيزيس التي ظهرت بعد ذلك، وسنستعرض المزيد من هذه الاقتباسات في مقالي اليهودية والمسيحية.

ملاحظة السميط في أفريقيا
للتحقق من آلية هذا التحريف للوحي، نجد مثالا معاصرا ما زال حاضرا أمام أعيننا في جزيرة مدغشقر المنعزلة بالمحيط الهندي، حيث قال الداعية الكويتي والعامل في مجال الإغاثة د. عبد الرحمن السميط إنه سمع أثناء وجوده هناك عن قرية نائية تدعى مكة وتقيم فيها قبيلة تسمى الأنتيمور، وإن الوصول إليها يتطلب الخوض في مستنقعات من الماء الراكد والروث لأربع ساعات، وعندما بلغها وتحاور مع أهلها أخبروه أنهم جاؤوا من مدينة في الشمال تدعى “جدا” وهي جدة في السعودية، وأنها قريبة من بلدة طيبة تدعى “مكا” أي مكة، كما قالوا إنه كان فيها جار طيب اسمه محمد، ومع أنهم لا يعرفون أنه نبي إلا أنهم يقرون بمحبته، وهم يوقرون أيضا أسماء رجال صالحين يعتقدون أنهم كانوا من أجدادهم، ومنهم “راماكاري” أي المبجل أبو بكر، و”راماأهي” أي المبجل عمر، و”راأوسماني” أي المبجل عثمان، أما أمهم فاسمها “رامونا” أي المبجلة آمنة، وهي والدة النبي محمد.

السميط

وعندما سألهم السميط عن دينهم قالوا إنهم “مسلمون بروتستانت”، وأضافوا أن أجدادهم أخبروهم قبل مئات السنين أنهم مسلمون إلا أنهم فقدوا طريقة التعبد لأن معظمهم لا يعرفون القراءة والكتابة، فجاءتهم بعثة تبشيرية من البروتستانت وأقنعتهم بأنها ستعلمهم الإسلام، وهكذا شيدت لهم كنيسة وأعطتهم نسخا من الإنجيل زاعمة أن هذا هو دين أجدادهم المندثر، فاختلطت لديهم تعاليم الأجداد بما جاءهم به المبشرون، ومع أنهم مازالوا يعظمون يوم الجمعة ويصرون على الذبح الحلال ويحرّمون على أنفسهم لحم الخنزير إلا أنهم باتوا يقدسون الكنيسة والإنجيل.

ومن المفارقات أن السميط وجد لديهم كتابا مقدسا يطلقون عليه اسم السورابي، أي الكتاب الكبير، وفيه بعض سور القرآن بالخط العربي، إلا أنها مشوبة بكثير من الأخطاء والتحريف، وإلى جانبها طلاسم سحرية وتوسلات بالموتى.

وحسب دراسة السميط، فقد بدأت هجرة هذه القبيلة من سواحل جدة قبل 1200 سنة، أي بعد نحو مئتي سنة فقط من بعثة النبي محمد، واستمرت دفعات المهاجرين بالوصول ستمئة سنة، ثم انعزلوا عن العالم ستة قرون، مُكتفين بما لديهم من خيرات الأرض والبحر، وليس لديهم سوى رجال الدين والسحرة الذين يحتكرون لأنفسهم القراءة والكتابة وأسرار الدين، وقد تمكن هؤلاء الكهنة من تحريف دينهم ودمج النصوص الأصلية للوحي القرآني بالأساطير والطلاسم، وبما أن عامة الناس كانوا أميين فقد نجح التحريف وضاعت الحقيقة خلال بضع قرون، ونتج دين وثني جديد يخلط بين الوحي والخرافة والسحر.
[المصدر: حوار مع الشيخ عبد الرحمن السميط في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة: http://goo.gl/cbIIaL]

3- علاوة على مغالطة الانطلاق من منطلق لاديني مسبق، ووضع الافتراضات الممنهجة والمؤدلجة، فإن المنهج اللاديني نفسه قائم منذ نشوئه في القرن الثامن عشر على الفلسفة المادية التي تفترض أن الوجود محصور في عالم الشهود (المادة والطاقة) أصلا، وأن عالم الغيب ليس موجوداً. فالمشكلة لا تقتصر على أن أدوات “العلم الحديث” لا تستطيع التحقق من وجود الغيب بل يفترض العقل المادي مسبقاً أن هذا العالم لا وجود له من البداية، لذا فإن أكثر العلماء انفتاحاً وتقبلاً للرأي الآخر يكتفون بالقول إن وجود الإله والملائكة والجن والوحي هي مقولات “غير علمية” وإن كونهم علماء يدفعهم إلى عدم الخوض في هذه المقولات الخارجة عن تخصصه، ولو أنهم وقفوا عند هذا الحد لكان موقفهم سليماً، لكن معظمهم يتجاوزون هذا الحد ويقدمون تفسيراً “علمياً” للكون والتاريخ والدين من داخل فلسفتهم المادية، ويعتبرون أن أي مقولة تعارض هذه التفسيرات المليئة بالتفاصيل الخيالية (الافتراضية) هي مقولة غير علمية، وبما أنها “غير علمية” فهي تعني في العرف العام والمقررات التعليمية ووسائل الإعلام أنها “غير صحيحة”.

لذا يصرح العلماء بأنهم مضطرون لاعتماد نظرية تطور الإنسان عن كائن شبيه بالقرد، بالرغم من افتقارها لأي دليل علمي [كما يوثق الفيلم الوثائقي مطرودون Expelled]، لأنها التفسير “العلمي” الوحيد الذي يتناسب مع فلسفتهم المادية، ولا بديل عنها سوى الإيمان بوجود عالم الغيب، مع أن وجود هذا العالم لا يتعارض مع وجود المادة ولا مع جدوى العلم المادي ونزاهته. ويتبع اعتمادهم لنظرية التطور وضع افتراضات لا نهاية لها عن نشأة الدين وتطوره، وهي جميعا سيناريوهات متخيلة لا يدعمها دليل.

على سبيل المثال، لا يملك العلماء المعاصرون أدلة علمية تكشف لهم حقيقة نشوء الدين فيما قبل التاريخ سوى آثار التماثيل الصغيرة وبقايا المعابد، وبما أن الإنسان في ذلك العصر لم يترك تاريخاً مدوناً، يلجأ علماء التاريخ والإنثروبولوجيا إلى الخيال لوضع نظريات “علمية”، تتحول لاحقاً إلى ما يشبه الحقائق والمسلّمات، حول دوافع إنشاء المعابد وتشكيل التماثيل وما قامت عليه من أسس تتعلق بدورات الخصب الزراعي وما دار حولها من طقوس، ثم يدعمون هذه الفرضيات بما تركه اللاحقون من أساطير مدونة بعد ظهور الكتابة، وقد لا يترك لنا مؤرخو تلك المراحل سوى مدونة واحدة، مثل ملحمة جلجامش، فيعتمدها العلماء بمثابة الدليل العلمي الوحيد لأديان وعقائد ذلك العصر، مع أننا نشاهد في عصرنا الحديث روايات متعددة للأفكار والمعتقدات والأحداث بالرغم من الانفتاح العالمي وسهولة الاتصال، فلا يمكن الجزم بأن رواية واحدة يكتبها مؤرخ أو كاهن مؤدلج هي الممثل الوحيد لما آمن به الناس في عصر ما.

واللافت أن العلماء الماديين يعتمدون أي نص منقوش على الطين والحجر أو مخطوطة مدونة على الجلد، ليكون بمثابة دليل علمي يؤرخ لتاريخ الأحداث وتطور الفكر والدين، إلا أنهم يعتبرون أن الكتاب المقدس (التوراة والزبور والإنجيل) لا يحظى بالمصداقية الكافية ليعتبر مصدرا تاريخيا موثوقا، ولا مشكلة في الشق الثاني من هذه المقولة لأن التحقيق العلمي يكشف عن أخطاء وتناقضات فادحة في الكتاب المقدس، لكن هذا يؤدي إلى التشكيك أيضاً في مصداقية النصوص الأخرى الأكثر قدماً، فإذا كان واضعو الكتاب المقدس قد حرفوا التاريخ لمصالحهم الدينية فيجدر أيضاً بمؤرخي العراق والشام ومصر القدماء أن يفعلوا ذلك. لكن المذهب المادي الذي انبثق عنه المنهج العلمي يدفع العلماء إلى السير في اتجاه واحد والحكم على الكتاب المقدس من خلال النصوص الطينية وليس العكس، وكأن تلك النصوص التي يؤسس عليها علم الآثار هي المرجعية “العلمية” الوحيدة التي يجب الرجوع إليها في كل الحقائق!

في عام 2014 تناقلت وسائل إعلام عدة نبأ اكتشاف نسخة قديمة لقصة آدم وحواء على يد عالمين هولنديين، وقيل إنهما فككا رموزا باللغة الأوغاريتية للوحين طينين عُثر عليهما في سوريا ويعودان إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، حيث يذكران أن الإله الأعلى في الميثولوجيا الكنعانية إيل كان في صراع مع الإله الشرير حورون (إبليس)، وعندما عُوقب حورون بالطرد من الجبل سمَّم “شجرة الحياة”، فأرسل إيل إلى الأرض إلهاً آخر يدعى آدم ليضع حداً لتمرد حورون، فحوَّل حورون نفسه إلى ثعبان ولدغ آدم، فخسر الأخير طبيعته الخالدة. ولكي يسليه إيل أمر إلهة الشمس (حواء) بالنزول إليه والتزاوج معه.

احتفت المواقع الإلحادية بهذه القصة كثيراً، واعتبرت أنها كشف “علمي” يؤكد أسبقية هذه الأسطورة على القصة الواردة في الكتاب المقدس والقرآن الكريم، وأجمعت تلك المواقع أن القرآن ينقل القصة نفسها عن التوراة، وهي مغالطة شائعة، فالقرآن لا يتهم حواء بإغواء آدم ليأكل تفاحة، ولا يجعل نزول آدم وحواء من الجنة عقاباً على خطيئة، بل أكل كلاهما من الشجرة المحرمة (دون تحديد نوعها) بعد أن أغواهما إبليس معاً، وتاب الله على آدم عندما ندم، وأنزله إلى الأرض بعد ندمه وليس عقاباً له.

وإذا كانت هذه القصة قد وردت في نص طيني أسطوري قبل التوراة بثمانمئة عام فهذا لا يعني منطقياً أن التوراة والإنجيل والقرآن قد أخذا عنها، إلا إذا انطلقنا مسبقاً من مسلّمات الفلسفة المادية التي تنكر وجود إله غيبي يوحي إلى الأنبياء كلهم وحياً واحداً ويتم تحريفه بالأساطير مراراً قبل أن يعاود الأنبياء تصحيحه جيلاً بعد جيل. وهذا موقف فلسفي لاديني ولا علاقة له بالعلم المجرد.

4- إذا كان العلماء قد اتخذوا موقفا مسبقا واعتمدوا النقوش الطينية مصدرا للتاريخ بدلا من الكتاب المقدس بعد ثبوت تهافته، فإنهم لم يلتفتوا أصلا إلى القرآن الكريم، ولم يعتبروه مصدراً للتاريخ والمقارنة ولا حتى الأساطير، فالأوساط العلمية الغربية تتجاهل هذا الكتاب وتترك أمر دراسته للدراسات الاستشراقية التي نشأت أصلا في رعاية الإدارات السياسية الاستعمارية ولتحقيق مصالحها، والباحثون اللاحقون والمعاصرون ما زالوا ينهلون من المناهج والأفكار المسبقة التي وضعها رواد الاستشراق المؤدلجون [للمزيد: ينصح بالاطلاع على كتاب “الاستشراق: قراءة نقدية” للمؤلف صلاح الجابري]، ويتابعهم في ذلك الباحثون والمؤرخون العرب أنفسهم بحكم التبعية الحضارية للغرب، وهذه المواقف تضع مصداقية مناهج علوم الآثار والإنثروبولوجيا ومقارنة الأديان والتاريخ كلها على المحك.

5- في مقابل الرواية اللادينية التي يعتبر العلماء أنها الوحيدة المتوافقة مع “العلم”، ومن ثم تُقدم للطلاب في المدارس والجامعات على أنها الوحيدة الصحيحة، ثمة رواية أخرى يقدمها الوحي، ويتوقف الحكم بصحتها أولاً على التجرد من مسلمات الفلسفة المادية، والتسليم مبدئياً بأن الرواية التي يبنيها العلماء على افتراضات هي مجرد احتمال يقبل التكذيب (كما تؤكد فلسفة العلم الحديثة التي وضعها كارل بوبر).

وبناء على القصة المذكورة أعلاه للدكتور السميط في أفريقيا، يمكن القول إن التحقق من الرواية الأخرى يتوافق مع المنهج العلمي المجرد، لكن البدء بهذا التحقق يشترط أولاً الاعتراف بوجود الإله الذي أثبتنا وجوده يقيناً في مقال “وجود الله“، ومن ثم الاعتراف بإمكانية اتصاله بالبشر منذ بدء خلقهم عن طريق الأنبياء، وبإمكانية إنزاله وحياً يوضح لهم قصة الخلق الحقيقية، ويبيّن لهم طريق العبادة الصحيحة للتقرب إليه وكسب رضاه والنجاح في الابتلاء الذي خلقوا لأجله.

وإذا كان علماء الغرب اليوم يقرون بعدم مصداقية النسخ المتوفرة اليوم للكتاب المقدس، فمن المقبول علميا إذن أن نصدق بأن كل الكتب السماوية السابقة قد تعرضت للتحريف الذي كان الدكتور السميط شاهداً عليه، فالوحي كان يتنزل ويتلى على ألسنة الأنبياء ويُقدم في سلوكهم العملي، إلا أنه كان يُحارب دائما من قبل السلطات والمتنفذين وكهنة المعابد، كي يحتفظوا بسلطتهم وبالنظام الاجتماعي الطبقي الاستغلالي الذي أقاموه على أديانهم المحرفة، والذي مزجوا فيه النعرات القبلية وتبجيل الأوطان بقداسة الملوك والكهنوت، فصارت أي محاولة لإعادة تصحيح المسار بمثابة التمرد وإعلان العصيان لتخريب المجتمع وزعزعة الاستقرار، وسيتبين لنا في مقالات أخرى أنه من السذاجة الاعتقاد بأن واضعي القصص الأسطورية كانوا مجرد باحثين أبرياء عن تفسيرات غيبية لظواهر طبيعية غامضة، وهو الافتراض الذي تبتدئ به كل نظريات علوم الآثار والإنثروبولوجيا الحديثة.

وعندما نتابع مسيرنا مرورا بمحطتي اليهودية والمسيحية، ويتبين لنا أن الكتب المقدسة لدى هاتين الديانتين قد تعرضت للفقد والتحريف والتبديل، فلن يتبقى للرواية الأخرى (المفترضة حتى الآن) سوى التحقق من صحة القرآن نفسه، وهو ما سندرسه بالتفصيل في النهاية إن شاء الله.


أهم المراجع
ﺟﻔﺮي ﺑﺎرﻧﺪر، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﺒﺪ اﻟﻐﻔﺎر ﻣﻜﺎوي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1993.

فراس سواح، الرحمن والشيطان، دار علاء الدين، دمشق، 2000.

فراس سواح، دين الإنسان، دار علاء الدين، دمشق، 1998.

فراس سواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، دمشق، 2002.

فراس سواح، مقال “معتقدات الشرق القديم: وثنية أم توحيد؟”، موقع معابر.

جون كيرتشر، كيف وُجدت الآلهة، ترجمة إبراهيم جركس، 1929، نسخة إلكترونية.

عبد المعطي شعراوي، أساطير إغريقية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982.

خزعل الماجدي، كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد، المركز الثقافي العربي، 2014.

هدى درويش، نبي الله إدريس بين المصرية القديمة واليهودية والإسلام، دار السلام، القاهرة، 2009.

بهاء الأمير، شفرة سورة الإسراء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2016.

ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق عمر تدمري، دار الكتاب العربي، 1997.

كتب تفسير القرآن الكريم الكبرى، مثل تفسير الطبري والقرطبي وابن كثير والبغوي.

موقع الباحث آرثر كوستانس: http://www.custance.org

حوار مع الشيخ عبد الرحمن السميط في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة: http://goo.gl/cbIIaL

Manly P. Hall, THE SECRET TEACHINGS OF ALL AGES, H.S. CROCKER COMPANY INCORPORATED, SAN FRANCISCO, 1928.

Wallis Budge, Osiris and the Egyptian Resurrection, Dover, New York, 1973.

Andrew Lange, The Making of Religion, Longmans Green, New York, 1909.

Arthur C. Custance, The Doorway Papers Series.

Stephen Langdon, Semitic Mythology, 1931.

Wilhelm Schmidt, The Origin And Growth of Religion: Facts and Theories, 1930.

المغالطات المنطقية

بالرغم من المزايا العظيمة لثورة المعلومات والاتصالات التي نعيشها، فإن الفوضى الفكرية هي إحدى أبرز ملامحها، فالأجيال التي نشأت في ظل هذا الانفتاح غير المسبوق في التاريخ باتت تتعرض يوميا لسيل هائل من المعلومات.

ومع تزايد الدفق المتواصل للأفكار والأخبار، يزداد نهم المتلقي للاطلاع السريع والسطحي على أكبر قدر من المحتوى المطروح، فيفقد الكثير من قدراته الدفاعية للمغالطات، ويمتلئ عقله لاشعوريا بالأفكار والمعلومات الخاطئة والمضللة التي قد تقلب عقيدته بالكامل.

وبما أن الشباب يعيش حاليا في ظل اضطرابات سياسية وتدهور اقتصادي في العديد من الدول العربية، فهو يشهد بعينه تزايد الاحتقان والاستقطاب بين أتباع الطوائف والأديان المختلفة، حتى بات الكثير منهم معرضا لضغط التمحيص في أفكاره ومعتقداته.

أرسطو

وإذا كان أرسطو قد لاحظ أن القادة السياسيين يكتسبون شرعيتهم وشعبيتهم من قدراتهم الخطابية وليس من التزامهم بقواعد المنطق، فقد لاحظ الفيلسوف غوستاف لوبون بعد دراسته للثورة الفرنسية أن القائد الذي يلجأ للمنطق في خطابه الجماهيري يضحي بشعبيته، مما دفع كبار السياسيين في الغرب خلال القرن العشرين للاستفادة من كتابه “سيكولوجية الجماهير” بطرح الجدل المنطقي جانبا والاهتمام بإلهاب حماس الجماهير وإثارة عواطفها.

المشكلة هنا لا تكمن في استغلال المشاعر بل في توظيفها لتحقيق مصالح ذاتية على حساب المنطق وبما يخالف العقل، ولا نقصد بالمنطق هنا المجادلات الفلسفية التي تقبل الأخذ والرد، بل القواعد العقلية المتفق عليها. ويقع هذا الاستغلال المغرض عندما يتعمد أحدهم ارتكاب مغالطات منطقية بهدف التضليل والإيهام.

تعود أصول المنطق الصوري إلى أرسطو في القرن الثالث قبل الميلاد، وهو منطق لم يسلم من النقد على يد بعض العلماء المسلمين، إلا أنه لعب دورا جوهريا في وضع أسس المنطق الرياضي والمنطق العملي في العصر الحديث، حيث يهتم بعض المختصين في المنطق اليوم بتطبيقات هذه القواعد في مجالات اللغة وعلم النفس والبرمجة ووسائل الاتصال والإعلام.

ويُعد مبحث “المغالطات المنطقية” من أهم تطبيقات المنطق العملي اليوم، فهو يساعدنا على كشف أساليب الخداع والتضليل التي نتعرض لها عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وحتى الكتب التي يفترض بها أن تكون أكثر عمقا، ما يجعل من دراسة هذه المغالطات وتعميمها ضرورة حتمية.

القضايا
يتكون كلامنا في العادة من نوعين من الجُمل هما:

1- الجُمل الإنشائية، كالتي تقوم على الأمر والنهي وإنشاء العقود، وهي لا تحتمل الصدق ولا الكذب، فلا يهتم بها المنطق.
أمثلة: اكتب لي رسالة، لا تذهب إلى السوق، زوجتُك ابنتي.

2- الجمل التامة الخبرية، وهي التي تتضمن أحكاما موجبة أو سالبة، فهي تحتمل الصدق أو الكذب، وهي التي يهتم بها المنطق لمعرفة حقيقتها، لذا يُطلق عليها في علم المنطق اسم القضية.
أمثلة: كتبتُ لك رسالة، ذهبتُ إلى السوق، فلان هو زوج فلانة.

وتتكون القضية من عدة عبارات، أولها المقدمة –وقد تتضمن القضية عدة مقدمات- وتليها النتيجة. وتنقسم القضايا إلى حمْلية وشرطية، ولكل منهما أشكال متعددة.

مراتب الحجج
صنّف علماء المنطق الحجج المنطقية إلى خمس مراتب بحسب قوة إلزامها، وهي كالآتي:

1- الحجة البرهانية: هي التي تفيد اليقين، ويتحقق ذلك إما بالاستدلال المباشر٬ أو بالقياس الصحيح على قضية يقينية أخرى.

مثال: العدد 4 ينقسم إلى عددين متساويين٬ وكل عدد منقسم بمتساويين هو عدد زوجي، إذن فالعدد 4 زوجي.

2- الحجة الجدلية: هي حجة تتكون من مقدمات مشهورة يعتقد عامة الناس بصحتها بدرجة تقترب من اليقين٬ أو تكون مقدماتها من المسلّم بها عند الآخرين ولكن لا ترقى إلى مرتبة اليقين التام، وهي تشمل معظم القضايا التي نتداولها في القوانين والمبادئ الأخلاقية والنظريات العلمية.

3- الحجة الخَطابية: هي حجة غير ملزمة ولكنها تفيد الظن الراجح٬ فهي تعتمد على مقدمات ظنية، ومن أمثلتها الأحكام الفقهية التي تكتسب عند صاحبها صفة الرجحان.

4- الحجة الشعرية: هي الحجة لا تفيد ظنًّا راجحا لاعتمادها على مقدمات وهمية، إلا أن صاحبها يتلاعب بمشاعر الآخرين فيتأثرون بها. ومن أمثلتها الحجج التي يطرحها الشعراء والخطباء والقادة السياسيون لإشعال الحماس في الجماهير، وكثيرا ما تنتشر في وسائل الإعلام لحشد الرأي العام بما يوافق مصالح السلطات.

5- الحجة الباطلة: هي التي تقوم على الغلط أو المغالطة: فإذا تضمنت مقدمات الحجة خطأ غير مقصود فهي “غلط” منطقي، ويجب على صاحب القضية أن يصححه. أما إذا تعمد صاحبها وضع هذا الغلط قصداً بهدف التضليل فيسمى عمله هذا “مغالطة”، ولا خلاف على أن هذا التعمد يُعد عملا منافيا للأخلاق والشرائع.

أشكال المغالطات

الاستدلال الدائري
هو أن يضع المغالِط حجته في حلقة مفرغة، فالمقدمة التي يطرحها لا يمكن إثباتها قبل إثبات النتيجة. وهي مغالطة شائعة جدا وتأخذ أشكالا عدة، حيث يتعمد المغالِط إيهام الناس بأنهم يصدقونه بتقديم ادعاءاته على أنها مسلّمات وأنهم لا يشككون فيها، فيضطر المتلقي تحت تأثير الوهم للتصديق، وربما يعتقد لاشعوريا بأن الجميع من حوله يصدقون.

مثال: يقول شخص ما إن “الكاهن فلان صادق، لأنه أكد أنه لا يكذب”، ويسمى هذا الاستدلال الخاطئ في المنطق بالدَّور، فنحن هنا أمام حلقة مفرغة.

المصادرة على المطلوب
هي من أشكال الاستدلال الدائري، حيث يجعل المغالِط النتيجة التي يريدها في المقدمة نفسها، أو يضمنها في المقدمة جزئيا بشكل غير صريح، وهو لا يبرهن عليها بل يفترض صحتها بإعادة صياغتها في النتيجة بطريقة توهمنا بأننا حصلنا عليها كنتيجة للمقدمة.

مثال: يقول أحدهم “إن الإسلام يجرّم المثلية الجنسية، والمثلية حق طبيعي لدى فئة من الناس، إذن الإسلام يدعو للتمييز ضد الأقليات”.

فالقائل هنا انطلق من مقدمة متفق عليها وهي تحريم الشذوذ الجنسي، إلا أنه أراد أن يضع النتيجة في المقدمة الثانية وهي أن الشذوذ ليس سوى حالة طبيعية تتعلق بالجينات فقط، وهذا ادعاء غير مبرهن عليه، فالنتيجة إذن لا يمكن التسليم بها.

التعميم المتسرع
تستند معظم معارفنا العلمية على التعميم الاستقرائي، فالنظريات العلمية تدرس تجريبيا حالات عشوائية للظاهرة وتستخرج منها نتيجة ما تعممها على بقية الحالات المشابهة، فيتفق العلماء على اعتمادها نظرية صحيحة مع بقاء احتمال تكذيبها يوماً ما في حال اكتشاف حالات مشابهة لا تخضع لهذا التفسير.

ولا تصح التجارب التي تُعتمد لصحة النظرية ما لم يكن اختيار الظواهر المدروسة عشوائيا وواسعا بحيث يشمل عددا كبيرا من كل أصناف الحالات المقصودة، لكن عندما يقوم الباحث بالانتقاء فلن تكون نتيجة تجاربه صحيحة، كأن يُجري بحثا في علم الاجتماع ويوزع استبيانات على طبقة معينة من المجتمع دون غيرها، فيحصل على نتائج لا تمثل المجتمع كله.

ومغالطة التعميم المتسرع هي تجسيد عملي لهذا البحث الفاشل، ومعظم الناس يمارسونها في حياتهم اليومية بناء على مشاهداتهم الشخصية.

أمثلة:
1- يرصد صحفي غربي وضع المرأة في أفغانستان فيجد أنها محرومة من التعليم ومن حقوق أخرى، فيكتب تقريرا صحفيا يقول فيه “إن شريعة الإسلام مطبقة في أفغانستان وإن المرأة الأفغانية مضطهدة، إذن فالإسلام يظلم المرأة”. فالكاتب هنا جعل من التطبيق الأفغاني للشريعة مقياسا وحيدا يعممه على الإسلام في العالم كله.

2- يقول كاتب أوربي: “إن رجال الكنيسة في القرون الوسطى كانوا يجبرون الناس على الإيمان الأعمى بالنص المقدس، لذا فالدين يقوم أساسا على معارضة العلم والعقل”. فالكاتب هنا يعمم خبرته بالدين المسيحي في عصر ما على مئات الأديان الأخرى دون أن يقدم الدليل.

التعميم المطلق
يرتكب البعض هذه المغالطة عندما يصرون على تعميم حكم ما ليشمل كافة العناصر المعنية به دون السماح بأي استثناء، وهذا غير مقبول منطقيا ولا علميا، فقد يكتشف الإنسان في المستقبل وجود استثناء للقاعدة.

أمثلة:
1- يقول أحد المعلقين “إن أتباع إحدى الطوائف الدينية مؤيدون لنظام دكتاتوري في جرائمه ضد الأكثرية من أتباع دين آخر، والمؤيدون لجرائم النظام تجب محاسبتهم، إذن علينا محاسبة كل من ينتمي لتلك الطائفة”.

2- يقول كاتب لاديني “إن حرية التعبير تعني حق الجميع بالإفصاح عن قناعاتهم، وأنا مقتنع بأن المقدسات الدينية ليست سوى خرافة، إذن يحق لي أن أشتم تلك المقدسات كما أشاء وعبر وسائل الإعلام”.

وقد تأتي هذه المغالطة بطريقة معكوسة، حيث يعمد المغالِط إلى تعميم حكم واحد سبق حدوثه استثنائيا، فيعتبره حكما عاما يطبق على جميع الحالات، وهذه من أكثر المغالطات فحشاً.

مثال: يقول أحدهم “إن أحد المسلمين في بلد ما فجّر نفسه داخل محطة قطارات وقتل العشرات، إذن فالإسلام هو الإرهاب”.

كارل ماركس

ويمكن أن نصنف ضمن هذه المغالطات بعض التطبيقات المتطرفة للنظريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث يرى أصحابها أن هناك تفسيرات حتمية لمسار التاريخ لا يمكن الخروج عنها، وتسمى النظريات التي تحكم على المستقبل بهذه الدرجة من اليقين بالنظريات الحديدية. ومن أوضح الأمثلة عليها نظرية كارل ماركس لصراع الطبقات وحتمية صعود الشيوعية في نهاية المطاف، ونظرية نهاية التاريخ التي أطلقها فرانسيس فوكوياما أواخر القرن العشرين وأكد فيها حتمية صعود الرأسمالية كنهاية للتاريخ البشري، ونظريات المؤامرة التي تنسب كل شيء إلى الكائنات الفضائية واليهود وأقطاب رؤوس الأموال في العالم وتستبعد وجود استثناءات خارجة عن معاييرها.

مغالطة التركيب
تتضمن هذه المغالطة نوعين:
الأول هو زعم أن الصفات المشتركة بين معظم أو بعض أشياء أو أشخاص ينتمون لفئة ما يجب أن تنطبق على كل شيء أو شخص ضمن هذه الفئة على حده.

مثال: “بما أن معظم أتباع الهندوسية لا يأكلون لحم البقر، إذن فهذا الشخص الذي يأكل لحم البقر لا يمكن أن يكون هندوسيا”، وهذا ليس ضروريا فقد يكون أحد الهندوس غير ملتزم بهذا الشرط الذي يفرضه عليه دينه.

النوع الثاني هو زعم أن صفات الأشياء أو الأشخاص يجب أن تطبق على المجموع، أي على الشيء الذي تتركب منه الأشياء أو على المجتمع الذي يضم الأشخاص.

مثال: “كل جنود الجيش الفارسي في معركة القادسية كانوا مسلحين ومدربين، إذن الجيش لن يهزم”، لكن الجيش هُزم أمام جيش المسلمين الذي لا يقارن حجمه الصغير أمام ضخامة جيش الفرس، لأن التدريب والتسليح على المستوى الفردي لا يكفي لتحويل الجيش بمجموعه إلى قوة ضاربة.

وهذين النوعين من المغالطة غير لازمين منطقيا في كل الأحوال لكنهما قد يصحا في أحوال أخرى عندما يكون هناك مسوغ منطقي، وذلك بناء على طبيعة الصفة التي نتحدث عنها، لذا علينا أن نميز بين الصفات المطلقة التي لا تتضمن مقارنة مثل اللون والخامة والجنس، في مقابل الصفات النسبية التي تتضمن المقارنة مثل الطول والمقاس والحجم وصفات الشخصية.

وتقع المغالطة عندما يتعمد المغالط تعميم صفات الأجزاء لجعلها صفة للمجموعة كلها في حال كونها صفات نسبية، لكن هذا التعميم مقبول في الصفات المطلقة، فيجوز مثلا أن نقول إن السرير خشبي لأن جميع أجزاءه مصنوعة من الخشب، ولكن لا يجوز القول إن السرير رخيص لأن كل قطعة منه على حدة رخيصة الثمن.

مغالطة التفكيك
هي عكس المغالطة السابقة بنوعيها، حيث يتم فيها الانتقال من الكل إلى الأجزاء.

مثال النوع الأول: “معظم الأديان تتضمن مؤسسة دينية كهنوتية، إذن كل دين يجب أن يكون كهنوتيا”.

مثال النوع الثاني: “إن المجتمع الإيماني هو مجتمع متكافل، إذن كل مؤمن يتكافل مع أقرانه”.

التحريف
يتعمد البعض تحريف الكلمات لتغيير معانيها بما يحقق أهدافه، وقد يكون ذلك بالتصرف في حركات الكلمة أو حروفها.

مثال: “إن العِلمانية مشتقة من العِلم فهي لا تصطدم بالدين بل تسعى للاحتكام إلى المنهج العلمي التجريبي بدلا من الاعتقاد بنفي السببية عن سنن الكون”.

تكمن هذه المغالطة في لجوء صاحبها إلى التحريف عندما زعم أن مصطلح العلمانية (بكسر العين) مشتق من العِلم، مع أنه يُنطق في الأصل بفتح العين اشتقاقا من العالَم الدنيوي كما هو الأصل في اللغات الأوربية التي تُرجم المصطلح عنها، فالعَلمانية تعني الدنيوية التي تقف على النقيض مع الدين.

الألفاظ الملغومة
يقول ابن جني في كتابه “‏الخصائص‏” إن الكلام لا يسمى لغة إلا إذا تم العقد (الاتفاق) على مصطلحاته الدلالية بين المتكلم والسامع‏، وبذلك تأخذ اللغة صفة‏ العقود الدلالية المتفق عليها بين طرفين.

وكثيرا ما تحمل الألفاظ معاني مترادفة تختلف مدلولاتها بحسب مقصود القائل، ‏فإذا كانت‏ لإحدى الكلمات احتمالات متساوية في المعنى المراد منها‏ وجب التوقف في تفسيرها‏ والرجوع في ذلك إلى معرفة مراد المتكلم، كما يقول ابن جني. وهذا أمر متفق عليه بين علماء اللغة والتفسير وأصول الفقه والمنطق.

وقد وضع بعض مفكري ما بعد الحداثة نظريات جديدة في العقود الأخيرة تعطي المتلقي الحق في التفسير والفهم كما يشاء، وما زالت هذه النظريات تلقى الكثير من النقد، وهي تبقى على أي حال ضمن دائرة الاجتهاد الأدبي في قراءة النص ولا تعني تغير المنطق العقلي وقواعده.

إذن فعندما يحاول المغالِط استخدام بعض الألفاظ “الملغومة” بما تحمله من معاني متعددة لصرف الانتباه عن الحجة فهو يرتكب مغالطة منطقية.

مثال: “الديمقراطية تعني حكم الشعب، أي منح الشعب سلطة التشريع، والتشريع لا يكون إلا لله، إذن فالديمقراطية كفر”، لكن مصطلح الديمقراطية في الأدبيات السياسية بات يحمل تطبيقات وأشكالا كثيرة، وهو لا يستلزم هذا المعنى بالضرورة.

السؤال الملغوم
يتعمد المغالِط في هذه الحالة طرح سؤال يتضمن بذاته اتهاما غير مبرَّر، فيضع خصمه أمام خيار صعب بحيث تصبح إجابته اعترافا ضمنيا بالتهمة، وهذه الصياغة يستخدمها المحققون في العادة لتوريط المتهم عملا بالقاعدة المغلوطة “المتهم مدان حتى تثبت براءته” بدلا من العكس، وينبغي لمن يشارك في مناظرة فكرية ألا يجيب على مثل هذا السؤال عندما يتعرض له وأن يكشف المغالطة التي تكمن فيه.

مثال: شخص يسأل خصمه لإحراجه “هل توقفت عن تأييد الإرهابيين؟”، فحتى لو أجاب الآخر بقوله “نعم” فهو يعترف ضمنيا بأنه كان يؤيدهم سابقا.

ويجب على المسؤول أن يوضح للسائل أن سؤاله مركب من سؤالين، هما: هل كنت تؤيد الإرهابيين؟ وإذا كنتَ تؤيدهم فهل توقفت عن التلقي؟ ويكفي أن يجيب عن السؤال الأول بالنفي ولا يوقع نفسه بمأزق.

استخدام المتشابِهات
الألفاظ والعبارات “المتشابهة” هي التي تحمل أكثر من معنى ويصعب التحقق من مراد قائلها، كما تُطلق على الألفاظ التي لا يمكن إدراك معناها وفقا لتعريف الجرجاني، ويقابلها في الضد الألفاظ المُحْكمة، أي التي تحمل معنى واحدا لا لبْس فيه.

وقد وردت بعض العبارات والألفاظ المتشابهة في النص القرآني الكريم، ولعل الحكمة من ورودها هي الامتحان والإعجاز، إذ تقول الآية الكريمة {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7].

وعندما يذكر المغالِط عبارة متشابهة كمقدمة وهو يقصد بها معنى ما، ثم يستخرج منها نتيجة بناءً على معنى آخر فقد ارتكب مغالطة منطقية.

وكثيرا ما يلجأ المنجّمون والدجالون لهذه الحيلة كي تبقى نبوءاتهم الكاذبة حمّالة أوجه، فيتمكنون من تأويلها لتتوافق مع مستجدات المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله، ولعل أوضح مثال على هذه الخدعة نبوءات نوستراداموس.

مثال: يقول شخص غير مسلم “إن القرآن يخاطب دائما المؤمنين بقوله يا أيها الذين آمنوا، والإيمان صفة عامة تشمل كل من يؤمن بالله، فلماذا يصر البعض على تكفيرنا لمجرد كوننا غير مسلمين؟”. فالمتحدث هنا استشهد بمقدمة صحيحة عن ورود صفة الإيمان في القرآن الكريم، ثم ادعى دون دليل أنها تشمل أديانا أخرى غير الإسلام، ليصل إلى نتيجة باطلة.

(Owain.davies,Wikimedia)

سمكة الرنكة الحمراء
هناك خلاف بشأن أصل هذه التسمية، ومن أرجح الأقوال أنها تعود لاستخدام سمكة الرنكة الحمراء من قبل الفارين من العدالة والصيادين بسحبها على الأرض وراءهم في البراري والغابات، وذلك لتضليل كلاب الحراسة برائحتها فلا تتمكن من تمييز رائحتهم وتعقبهم، ثم استُخدمت هذه الاستعارة في المنطق أوائل القرن التاسع عشر في بريطانيا.

ويتعمد مرتكب هذه المغالطة صرف اهتمام الآخرين بالحديث عن قضية أخرى وإثارة مشاعرهم بها للتغطية على قضيته التي يعجز عن إثباتها، وهذه مغالطة أكثر تضليلا من السابقة (تجاهل القضية) فالمغالِط هنا لا يسعى لإثبات قضية أخرى صحيحة بتجاهل قضيته بل يقفز إلى قضية مغايرة لإثارة المشاعر، وقد تكون أيضا خاطئة.

مثال: قد يُسأل شخص ما أثناء مناظرة دينية عن الأخطاء التي يمارسها الكهنة في دينه، وبدلا من الدفاع عنهم يحاول الحديث عن أخطاء الكهنة في دين خصمه، وذلك لإثارة حنق الخصم فقط وقلب الطاولة عليه، مع أن أخطاء الآخرين لا تبرر أخطاءه.

التفسير بالتسمية
يرتكب المغالط هذه المغالطة عندما يقفز فوق أسباب المشكلة ويكتفي بتسميتها بطريقة لا تخلو من التضليل، فقد تكون هناك أسباب عدة ولا يكفي الاقتصار على التسمية.

فمثلا عندما يقول أتباع الباطنية (الغنوصية) إن المرض النفسي أو الجسدي الذي يصيب شخصا ما ناشئ عن خلل في “الطاقة الحيوية”، فهذا مجرد افتراض قائم على اعتقاد غيبي، وإطلاق تسمية الطاقة على شيء غير مثبت هو مجرد مغالطة.

المغالطة البهلوانية (مهاجمة رجل القش)
كان الجنود الأوربيون في القرون الوسطى يتدربون على المبارزة والرمي بمهاجمة دمية كبيرة مصنوعة من القش، وقد اشتُقت هذه المغالطة من تلك المبارزة لأن المغالِط يهدف فيها إلى مبارزة خصم مزيف بدلا من خصمه الحقيقي، فهو يحيد عن القضية الأساسية ويناقش بعض أجزائها الضعيفة أو يضرب عليها أمثلة جزئية لا يصح تعميمها، ثم يصرف الانتباه إلى مجادلاته تلك بعيدا عن جوهر القضية.

وتعد هذه المغالطة من أكثر المغالطات شيوعا في الحوارات التلفزيونية والمناقشات المتبادلة في مواقع التواصل، حيث حاول الكثيرون تسليط الضوء على جانب أو مثال أو قصة ما ليسارعوا إلى التعميم واستدرار المشاعر تجاه قضية أكثر شمولا.

مثال: قد يقول أحدهم لشخص آخر إن جمعية الحكمة الإلهية (الثيوصوفيا) هي إحدى الجمعيات السرية الباطنية التي تقوم أساسا على عبادة الشيطان “لوسيفر”، وبدلا من أن يحاول الآخر نفي العلاقة بين الجمعية وبين عقيدة عبادة الشيطان، فإنه يبدأ بتعداد حسنات الجمعية مثل الدعوة إلى السلام وتجميع الشعوب تحت مظلة واحدة وغير ذلك، وهي أهداف قد تكون صحيحة ظاهرية إلا أنها قد تكون كذلك غطاءً لهدف آخر، أو يكون لها تفسير مختلف، وهي بكل الأحوال لا تنفي الافتراض الذي طرحه الشخص الأول والذي يجب أن يكون موضوع النقاش.

مغالطة وماذا عن؟
هذه المغالطة تشبه المغالطة السابقة، ويستهدف فيها المغالط صرف النظر عن الموضوع الأصلي إلى موضوع آخر مشابه للتهرب، وهي أيضا مغالطة شائعة للغاية في الحياة اليومية.

مثال: قد تجادل شخصا في المجازر التي ارتكبتها الشيوعية بحق شعوب الاتحاد السوفييتي، وخصوصا في عهد ستالين، فيرد عليك بسؤال: وماذا عن مجازر الأمريكيين بحق السكان الأصليين (الهنود الحمر)؟ فالمنطق يقتضي ألا نخلط بين الأمرين، فإقرارنا بالمجازر الأولى لا ينفي الثانية بالضرورة.

مغالطات الشخصنة
كثيرا ما يتعمد المغالِط الطعن في شخصية صاحب القضية بدلا من الانشغال بتفنيد القضية نفسها، وتأخذ هذه المغالطات ثلاثة أشكال معروفة وشائعة:

1- القدح: عندما يطعن أحد المتحاورين في الخصم مستحضرا تاريخه وأخطاءه، وقد يكون هذا مقبولا عندما يتعلق الطعن بالقضية نفسها ويشكك في مصداقية قائلها، ولا سيما عندما يكون هذا القائل ناقلا لرواية ما وهو شخص غير مؤهل للثقة في النقل، لذا اهتم علماء الحديث المسلمون بالجرح والتعديل في تصنيف الرواة حسب عدالتهم وقدرتهم على الحفظ والضبط.

2- التعريض بالانتماء: عندما يلجأ المغالِط للغمز واللمز بشأن انتماءات خصمه وميوله السياسية وخلفيته الطبقية أو الأيديولوجية.

مثال: يقول أحدهم لخصمه “كيف لي أن أصدق ما تقول وأنت تنتمي أصلا إلى دين يتضمن كتابه المقدس الكثير من الأكاذيب؟”، فالمتحدث هنا يحاول إثبات خطأ قضية ما بناء على انتماء قائلها مع أن القضية قد تكون صحيحة.

3- أنت أيضا تفعل ذلك: عندما يتهرب المغالِط من تهمة ما بمحاولة اتهام خصمه بها، فهو لا يناقش التهمة نفسها بل يكتفي بإثبات أنه ليس وحده المخطئ، مع أن خطأ الخصم لا يبرر خطأ المغالِط، كما أن الخصم قد يكون تائبا عن خطئه.

الاحتكام إلى السلطة
كثيرا ما نلجأ في أحكامنا وقراراتنا ومعلوماتنا إلى الخبراء والمتخصصين وأصحاب النفوذ، وهو أمر مقبول عندما يكون احتكامنا إليهم في مجال تخصصهم وخاليا من التقديس، لكن المغالطة تقع عندما يعمد أحدهم إلى القول بأن صحة القضية ترتبط فقط بصدورها عن سلطة ما سواء كانت علمية أو سياسية أو مشهورة، وذلك وفقا للحالات الآتية:

1- عندما يكون الاحتكام إلى السلطة في قضية تقع خارج اختصاصها: مثل الاستشهاد بآراء دينية شاذة يطرحها عالم كبير في مجال الطاقة النووية، فكونه مرجعا في الفيزياء لا يجعله مؤهلا للإفتاء في الدين.

2- عندما تكون السلطة مجهولة: كأن يقول أحدهم “إن الكثير من المؤرخين الكبار أنكروا وقوع حادثة ما”، فالمغالِط لم يذكر أسماء المؤرخين واكتفى بوصفهم بالكبار، دون أن يقدم دليلا على صحة قوله.

3- عندما تكون السلطة منحازة وغير محايدة: مثل الكهنة العاملين في سلك الكهنوتية الرسمي لدولة ما، فآراؤهم السياسية لا تكون نزيهة بالضرورة.

4- عند تجاهل الخلاف بين السلطة المُحتكَم إليها وسلطات أخرى مماثلة: فقد يلجأ شخص مثلا إلى فتوى لأحد الفقهاء في قضية خلافية بما يناسب رأيه، معتبرا أنها هي الحكم الشرعي الصحيح، ويتجنب الإشارة إلى آراء فقهاء أخرى مخالفة.

5- عندما يكون رأي السلطة قديما وبحاجة للتجديد: فعلى سبيل المثال قد تكون بعض الفتاوى الدينية المتعلقة بأنظمة سياسية واجتماعية اندثرت قبل قرون غير صالحة للتطبيق اليوم.

الاحتكام إلى الأكثرية
يلجأ المغالِط إلى رأي الأكثرية بدلا من الحجة، وقد يكون رأي الأكثرية صحيحا بالفعل، كما يمكن أن يكون خاطئا. وقد نُقل عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله “الجماعة ما وافق الحق؛ ولو كنت وحدك”.

والاحتكام إلى الأكثرية ليس خطأ بذاته، فالحكم الديمقراطي قائم على اختيار الأغلبية في صناديق الاقتراع، والتجارب العلمية تأخذ صفة النظرية عندما تتحقق بالتكرار، كما يُحتكم في الشريعة إلى رأي جمهور الفقهاء عادةً، وعندما يتحقق الإجماع (أي موافقة جميع الفقهاء في عصر ما) على أحد الآراء يُصبح ملزما، لكن هذا الاحتكام الذي يصح عادة في مجالات السياسة والعلم والقانون والفقه لا يعني بالضرورة أن يؤدي إلى نتيجة عقلية صحيحة، بل هو مجرد اتفاق على تطبيق نتائجه عمليا.

يتحدث الفيلسوف البريطاني جوليان باجيني في كتابه “هل تحكم على الكتاب من عنوانه؟” عما يسميه “خديعة الحكمة”، وينتقد الاستخدام اليومي للأمثال والمقولات المأثورة على أنها بمثابة حقائق يُجمع عليها الناس، مع أنها قد تكون خاطئة ومضللة.

الاحتكام إلى سلطة الآباء والتقاليد
هذا الغلط شائع جدا ولا يكاد ينتبه إلى ارتكابه معظم الناس، لذا أوضح القرآن الكريم في عدة آيات أن تقليد الآباء هو السبب المشترك للضلال بين الأمم، ومنها قوله تعالى {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف: 23].

التجريم بالتبعية
يرتكب البعض هذه المغالطة عندما يحكمون على قضية ما بأنها باطلة لمجرد أن إحدى الجهات تؤيدها، فقد تكون آراء تلك الجهة خاطئة في أمور كثيرة لكن هذا لا يستلزم أن يكون موقفها من القضية المعنية خاطئا بالضرورة.

مثال: “الحدث الفلاني ورد ذكره في الكتاب المقدس، وهذا الكتاب محرّف ومزيف، إذن فالحدث لم يحدث أصلا”.

ويجدر بالذكر أن سقوط مصداقية بعض المصادر قد يكون مبرِّرا لنفي صحة ما يصدر عنها، ولكن هذا يتطلب تقديم أدلة كافية لإثبات انعدام مصداقيتها في كل ما يصدر عنها مئة بالمئة، كي نحصل على نتيجة منطقية تفيد اليقين.

فإذا قال علماء الحديث على سبيل المثال إن شخصا ما “متروك الحديث” بعد أن تيقنوا من كذبه، فهذا يعني أنه لا يمكن اعتماد شيء مما يرويه من الأحاديث لوجود شك فيها، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن كل ما يقوله حتماً كذِب.

وقد تأخذ هذه المغالطة شكلا آخر، حيث يتهم المغالِط شخصا أو جهة ما بالانتماء لجهة أخرى لمجرد إثبات توافقهما بالآراء في قضية أو عدة قضايا، لكن هذا الاتهام يتطلب إثبات الانتماء نفسه وليس التوافق في الرأي.

مثال: “المؤرخ الفلاني أثبت وقوع ذاك الحدث، والكتاب المقدس تحدث أيضا عن وقوع نفس الحدث، إذن فالمؤرخ يؤمن بذلك الكتاب ويدين بدينه”.

مغالطة المنشأ
في هذه الحالة يحكم المغالِط بصحة أو خطأ القضية بناء على مصدرها، فإذا كان هناك رأي ما قد صدر عن جهة يبغضها سارع إلى الحكم ببطلانه، والعكس صحيح.

مثال: “إن فكرة ظهور المخلّص في آخر الزمان وردت في التوراة المحرّفة، إذن هي فكرة يهودية خالصة وتأثر بها أتباع أديان أخرى”.

الاحتكام إلى الحداثة
يحاول المغالِط في هذه المغالطة إيهام خصمه بأنه متخلف عن ركب الحداثة، كي يجبره لاشعوريا على الاقتناع بحجته، فيكتفي المغالِط بالقول إن رأيه هو الأحدث ومن ثم فهو صحيح، مع أن الحق لا يرتبط بالقِدم ولا الحداثة.

مثال: “نظرية التصميم الذكي (الخلق) تتعارض مع نظرية التطور الأكثر حداثة، إذن نظرية الخلق خاطئة”، فالمغالِط هنا لم يناقش أدلة النظريتين واحتكم إلى معيار الحداثة فقط.

الاحتكام إلى الاشمئزاز
يحاول المغالِط هنا اللعب على وتر الغرائز والمشاعر فيربط بين القضية التي يريد تفنيدها وبين أمور أخرى تثير الاشمئزاز أو النفور، دون أن يطرح حجة منطقية، وهذا ما تفعله الأعمال الكوميدية ورسوم الكاريكاتير أيضا.

مثال: “معظم المتدينين في مدينة ما من الطبقات الدنيا، ومعظم الملحدين أغنياء، إذن الدين مرتبط بالفقر”، فالمغالط لم يناقش الدين ولا الإلحاد، بل اكتفى بربط الدين بالفقر.

الاحتكام إلى الشفقة
يستند المغالِط في هذه الحالة إلى استدرار عطف الآخرين لإثبات قضيته بدلا من اللجوء للحجة العقلية، ومع أن التعاطف مع المظلومين والمنكوبين ضروري أخلاقيا إلا أنه ليس حجة لإثبات أو تفنيد أي قضية.

مثال: “الضحية الفلانية تعرضت للقتل على يد أقاربها في جريمة شرف، إذن يجب التخلص من مفاهيم الشرف والعار”، فالمغالط لم يناقش القضية بكل أبعادها، ولم يذكر ما فعلته الضحية قبل أن تتعرض للقتل، بل اكتفى باعتبارها ضحية لتسليط الضوء على جانب واحد وهو مفهوم الشرف.

الاحتكام إلى الأُمنية
قد نرتكب هذه المغالطة في حياتنا اليومية كثيرا دون أن نشعر، فنحن نرفض أو نقر بعض الخيارات بناء على أمنياتنا بدلا من تبريرها منطقيا، وإذا كان هذا مقبولا من الناحية النفسية أو العملية في بعض الأحيان فهو غلط منطقي لا يؤدي إلى نتائج عقلية صحيحة، وقد يصبح مغالطة عندما يتعمد أحدنا استغلالها للمحاججة.

مثال: “الله رحيم بعباده، ونحن بشر ناقصون، إذن الله لن يعذبنا”. وهذا ليس ضروريا بالمنطق، فرحمة الله لا تتعارض مع إنزاله العذاب بمن يستحق.

الاحتكام إلى الجهل
يزعم المغالِط أن قضية ما صحيحة أو خاطئة طالما لم يستطع خصمه أن يثبت العكس، فهو يحتكم بذلك إلى جهل الخصم بالدليل، مع أن الدليل قد يكون موجودا ولكن الخصم نفسه لا يعرفه. وربما يخيره بين أمرين فيقول: إما أن تسلّم بكلامي أو تأتي بأفضل منه، وهذا ليس ضروريا، فيمكنك أن تبطل حجة المغالِط وتبثت مثلا أنه دجال في ادعائه بأنه قد اخترع علاجا لمرض عضال دون أن يكون مطلوبا منك اختراع علاج بديل.

ومن القواعد المعروفة لدى علماء المنطق أن عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود، أي أن عدم علم أحد من الناس (أو الناس جميعا) بوجود شيء ما فهذا لا يعني أنه غير موجود، فقد تكون هناك عوالم غيبية لا نشعر بها ولم يُحدثنا عنها الوحي، لكن جهلنا بها لا يعني أنها ليست موجودة.

الاحتكام إلى القوة (التهديد)
يكتفي المغالِط باللجوء إلى منطق التهديد والتخويف، متجاوزا بذلك عبء البحث عن حجة، لذا تُسمى هذه المغالطة أيضا بمغالطة التلويح بالعصا.

وليام جيمس

الاحتكام إلى النتيجة
يتهرب المغالِط من مناقشة الحجة بالحديث عن نتائجها، محاولا إثباتها لأن نتيجتها جيدة، أو تفنيدها لمجرد أن نتيجتها سيئة.

والاحتكام إلى النتائج في الحياة العملية أمر مقبول، فالعاقل هو من يتعظ بغيره ويستفيد من التجارب، لكن النتيجة لا تكون حجة عندما يكون السؤال نظريا ويبحث في الحق والباطل.

مثال: كان الفيلسوف البراغماتي وليام جيمس يعتقد أن الإيمان بوجود الله يحقق نتائج مُرضية تُساعد الإنسان على تحسين وضعيته الواقعية وترتقي بحالته النفسية، لذا فالإله بحسب رأيه موجود.

وهذا احتكام إلى النتيجة فقط، مع أن وجود الله موضوعي وليس شأنا ذاتيا، لكن البراغماتية تقوم أساسا على ربط الحقائق بالنتائج.

التجربة الذاتية
يفترض المغالِط أن الطريقة الوحيدة لإثبات أي قضية هي التجربة الشخصية فقط، فيقول إنه لا يستطيع أن يؤمن بما يقوله الخصم ما لم يجربه هو بنفسه. ولو كان هذا الزعم صحيحا لما آمن الناس بغالبية حقائق الوجود، فنحن مثلا لم نحلّق في الفضاء لنشاهد كروية الأرض بأعيننا، ولم نرافق العلماء في مختبراتهم لنتحقق من صحة تجاربهم الفيزيائية والكيميائية.

المنزلق الحدِر
يتخيل المغالِط سلسلة من النتائج التي يؤكد أنها ستحدث تبعا للمقدمة، ليصل في النهاية إلى نتيجة مفادها إثبات أو تفنيد القضية، فهو يحتكم إلى النتيجة ولكن عبر سلسلة من الأحداث التي تترك انطباعا جيدا أو سيئا دون احتكام إلى الحجة المنطقية.

فعلى سبيل المثال، تكرس عدة وسائل إعلام غربية صورة نمطية للإسلام ترتبط بالعنف والتخلف، فنجد مثلا في الفيلم الهوليودي الكوميدي American Carol “ترنيمة أمريكية” (2008) تبريرا لما كان يسمى بالحرب على الإرهاب عبر تخويف المشاهد الأمريكي من احتمال سيطرة المسلمين “إرهابيين” على الحكم، وذلك في سلسلة مشاهد متخيلة تتضمن قمعا للنساء وفرضا للحجاب عليهن.

الحلول الكاملة
يصرّ المغالط على أن أي حل للمشكلة التي يتم بحثها يجب أن يكون كاملا ولا تشوبه شائبة، وإلا فهو حل مرفوض. وهذا غير منطقي لأن الحل الجزئي قد يخفف المشكلة، وقد يؤدي إلى انتهائها بعد زمن ما.

مثال: “إن انتشار الحجاب بين النساء في المجتمع لم يؤد إلى القضاء على ظاهرة التحرش، فلماذا يحاول الدعاة إقناعنا بجدوى الحجاب؟”، فالمغالط يفترض أصلا أن الحكمة من فرض الحجاب هي القضاء على المشكلة كلها، وبما أنه لن يحلها فهو يرفضه بالجملة.

الأبيض أو الأسود
يضع المغالِط خيارين لا ثالث لهما أمام خصمه، وكأنه يفترض مسبقا عدم وجود خيارات أخرى، وقد يكون المغالط أكثر تطرفا عندما يضع خصمه أمام خيار واحد فقط دون مبرر منطقي.

وكثيرا ما نسمع هذه المغالطات الديماغوجية في خطابات السياسيين، ولا سيما عندما يتحدث مسؤولون غربيون عن ضرورة “اندماج” الجاليات المسلمة بالثقافة الغربية، بما يتضمن أحيانا إكراه طالبات المدارس على خلع الحجاب، وقد يصل الأمر إلى درجة التصريح بمقولة “من لم يكن معنا فهو ضدنا”.

التماس المديح
قد يتعمد المغالط كيل المديح لخصمه أو للمتلقي عبر وسائل الإعلام بهدف إحراجه ودفعه لاشعوريا للاقتناع برأيه، دون أن يقدم الحجة والدليل.

وتكثر هذه المغالطة أيضا في الخطابات السياسية، مثل كيل المديح للشعب والأمة في سياق دفع الرأي العام باتجاه ما، وقد يستخدمها المغالط في الحوار فيقول لخصمه “أنت شخص عاقل ولا يليق بك أن تقول كذا”.

العلة الزائفة
يحاول المغالِط تزييف الحجة عبر ربط القضية بعلة غير صحيحة ليصل إلى نتيجة خاطئة، وذلك في أحد الأشكال الأربعة الآتية:

دير بحيرا الراهب في بصرى الشام

1- خلط السببية بالمصادفة: قد يتصادف وجود حدث ما مع حدث آخر في الزمان والمكان دون أي علاقة سببية بينهما، لكن المغالِط يتعمد الربط بينهما للتضليل.
مثال: اتهام بعض المستشرقين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنه تلقى قصص الأمم السابقة عن أهل الكتاب، ويمكن صياغة هذه المغالطة كالآتي “محمد التقى بحيرا الراهب أثناء صباه في بصرى الشام، وبحيرا الراهب كان حافظا للروايات التوراتية، إذن فمحمد تلقى عنه تلك الروايات ولم يأخذها عن الوحي”.

2- المغالطة البَعدية: قد يأتي حدث ما بعد حدث آخر فيربط المغالِط بينهما مؤكدا أن الأول لا بد أن يكون سببا للتالي، مع أن التعاقب الزمني لأي حدثين لا يستلزم بالضرورة وجود سببية بينهما.
مثال: “الآثار تؤكد أن الأساطير التي وصلتنا من القرون السابقة أقدم من الكتب الإبراهيمية، إذن فالأديان الإبراهيمية مقتبسة من الأساطير الوثنية وليست وحيا من السماء”. وهذا افتراض لا دليل عليه، فمن حيث المنطق يمكننا افتراض نزول الوحي على أنبياء قبل إبراهيم ثم حُرفت ووصلت إلينا على هيئة أساطير، بينما ظلت الكتب الأخيرة محفوظة من التحريف جزئيا أو كليا، وحتى في حال حدوث الأساطير أولاً فإن الباحث لم يقدم أي دليل على أن الأنبياء اقتبسوا عنها كتبهم.

3- إغفال أسباب أخرى مشتركة: قد يكون الربط بين السبب والنتيجة صحيحا لكن المغالِط يتعمد إغفال أسباب أخرى.
مثال: “نسبة مشاهدة الأفلام الخليعة مرتفعة في المجتمعات المحافظة، إذن التدين يؤدي إلى الهوس الجنسي”، فالمغالط قد يكون مصيبا في المقدمة، إلا أنه أغفل أسبابا أخرى أدت إلى ارتفاع نسبة المشاهدة، ثم توصل إلى نتيجة غير مثبتة منطقيا.

4- الاتجاه الخاطئ للسببية: يتعمد المغالِط هنا عكس العلاقة السببية بجعل السبب نتيجة والنتيجة سبباً.
مثال: “التشدد الديني ينتشر في الشرائح الاجتماعية الأقل تعليما، إذن فالتشدد يؤدي إلى الجهل”، فالمغالط لم يثبت الانتقال من السبب إلى النتيجة، فقد يكون الجهل هو الذي أدى إلى التشدد وليس العكس.

مغالطة المقامر
تعود هذه المغالطة إلى اعتقاد لاشعوري بأن الأمور تجري في الكون بما يجعل الأمور الاحتمالية تميل إلى التعادل تلقائيا، فإذا رمى شخص ما عملة معدنية تسع مرات مثلا وسقطت في كل مرة على أحد الوجوه فسيميل لاشعوريا للاعتقاد بأن المرة العاشرة ستأتي بنتيجة مختلفة، وهذه مغالطة منطقية، فليس هناك سبب منطقي يدفعنا للاعتقاد بأن سقوط العملة 99 مرة مثلا على أحد الوجوه سيجعلها في المرة التالية تسقط على وجه آخر، ففي كل مرة نرميها يكون احتمال سقوطها على أحد الوجهين هو 50 بالمئة، وليس واحدا إلى مئة.

الاحتكام إلى العادة
تستند هذه المغالطة أيضا إلى ميل نفسي لاشعوري يدفعنا للاعتقاد بأن الأمور تسير في الحياة على مجرى العادة، فنتوقع تكرارها دائما بالطريقة نفسها.

وقد يكون هذا الشعور مقبولا من الناحية العلمية في الظواهر الكونية الكبرى، فتكرار شروق الشمس من المشرق هو أمر اعتيادي مازال يتكرر منذ أقدم العصور، ومن الطبيعي أن نتوقع استمرار هذه العادة إلى ما شاء الله، لكن المنطق العقلي المجرد لا يجزم بأن يحدث شروق الشمس في اليوم التالي بالطريقة المعتادة نفسها.

وتقع المغالطة عندما يتعمد المغالِط استخدام هذا الميل النفسي في أمور لا تسير وفقا لأي قانون فيزيائي، كما يخلط الملحدون بين الجانبين العقلي والفيزيائي عندما يعتقدون أن سيرورة الكون وفقا لقوانين القوى الأربعة (بما فيها الجاذبية) المتواصلة منذ ملايين السنين تكفي للاستغناء عن الإله.

التشبيه والتشييء الخاطئين
نميل في العادة لتشبيه الكثير من الأمور بأمثلة نقتبسها من مشاهداتنا وتقاليدنا وتجاربنا السابقة، كما نقوم أحيانا بتجسيدها وتشييئها (تحويلها إلى أشياء مادية نتصورها في أذهاننا)، وقد يكون التشبيه والتشييء مفيدين للتبسيط والفهم والوعظ، حيث نجد للتمثيل الصوري أمثلة كثيرة في النصوص الدينية والأعمال الأدبية، لكن المغالطة تقع عندما يتحول التشبيه والتجسيد إلى مطابقة تامة، فيأتي القياس بنتائج خاطئة.

ومن الأمثلة الشائعة تشبيه “الطبيعة” بكائن حي، ثم وصفها بصفات الوعي والقدرة والإرادة لتقوم بانتخاب الأقوى كي يبقى ويتطور، ولتحافظ بنفسها على التوازن البيئي وتجدد الموارد.

إثبات التالي
تتكون القضية الشرطية من قضيتين تكون إحداهما شرطا للأخرى، ويسمى القسم الأول من القضية مقدَّماً (وهو الشرط)، بينما يسمى الثاني تالياً (وهو ما يلزم عن الشرط).

يعمد المغالِط إلى عكس المعادلة، فيبدأ بإثبات تحقق التالي ليستنتج منه صحة الشرط وتشير بعض الدراسات إلى أن ثلثي الناس لا ينتبهون إلى هذه المغالطة ويقعون ضحية لمرتكبها بسبب غموضها.

مثال: “إذا ارتكب فلان معصية كبرى فيحق للبابا أن يعاقبه بالحرمان الكنسي، وبما أن البابا طبق عليه الحرمان الكنسي، فلا بد أن فلانًا ارتكب المعصية”.

ويتضح التضليل هنا عندما نلاحظ أنه كان ينبغي إثبات أن الشخص ارتكب المعصية لنقتنع بحق البابا في معاقبته، إلا أن المغالط قفز إلى ما فعله البابا ليعتبره دليلا على معصية الشخص.

إنكار المقدَّم
في هذه المغالطة ينكر المغالِط المقدم (الشرط) ليستنتج من ذلك نفي التالي، وهذا غير لازم، فالقضية الشرطية تؤدي إلى إثبات التالي بناء على إثبات المقدم ولكنها لا تقول إن عدم إثبات المقدم سيؤدي بالضرورة إلى نفي التالي.

مثال: “إذا تحقق القصاص العادل من الطاغية الذي قتل ملايين البشر قبل موته فهناك إذن عدالة إلهية، ولكن الطاغية مات على فِراشه بسلام، إذن فكيف تقولون إن هناك عدالة؟”. فالشرط الذي وضعه المغالط في البداية صحيح، ولكن عدم تحقق الشرط لا يعني أنه سيحصل على نتيجة معاكسة بالضرورة، فقد يموت الطاغية دون قصاص في الدنيا ثم يقتص المظلومون منه في محكمة الآخرة، ويتحقق بذلك العدل بالتمام دون نقصان.


أهم المراجع
عبد الرحمن حبنكة الميداني، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دار القلم، دمشق، 1993.

عادل مصطفى، المغالطات المنطقية: طبيعتنا الثانية وخبزنا اليومي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2007.

م.نيل براون وستيوارت م.كيلي، طرح الأسئلة المناسبة: مرشد للتفكير الناقد، ترجمة نجيب الحصادي، ومحمد أحمد السيد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009.

علي سامي نشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، 1984.

محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، مكتبة الأنجلو المصرية، 1949.

عبد الرحمن بدوي، المنطق الصوري والرياضي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1997.

أبو الفتح عثمان بن جني، ‏الخصائص‏، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999.

Stephen Downes Guide to the Logical Fallacies Website: https://fallacies.ca/welcome.htm

The Skeptics’ Guide to the Universe Website: https://www.theskepticsguide.org

Logical Fallacies Website: https://web.archive.org/web/20191121214240/https://www.logicalfallacies.info/

42 fallacies, Dr. Michael C. LaBossiere, A Philosopher’s Blog: http://aphilosopher.files.wordpress.com/