مقالات

أزمة تعريف الدين

من العبث أن يشرع الإنسان في دراسة علم ما في معزل عن فهم حقيقته وكنهه ومباحثه الأساسية. فكيف بمن يماري حول حاجتنا إلى الدين، أو يشكك حول بعض حقائقه، أو يجادل حول تشريعاته، متخطيا التعريف الشامل عن معنى (الدين)!

أساطير الأولين

يخبرنا القرآن الكريم أن عددًا غفيرًا من الناس كانوا ينظرون إلى الدين على أنه خرفات وأوهام ورثتها الشعوب من الأمم السالفة ولا حاجة لإعادة بعثها إلى الحياة في العصور الحديثة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْۙ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24]، بل إن مصطلح (أساطير الأولين) يتكرر في القرآن بغزارة، لأن البشر تختلف حول تعريفاتهم عن الدين، ولكن الغالبية كانت تتفق حول كونه خرافة من مخلفات العصور القديمة. وعلى هذا الأساس، أخرج لنا الغرب عشرات المفكرين الذين أنكروا الدين بهذا الدافع حتى لو اختلفت نظرياتهم حول تفسيره. والعامل الذي يجمع كل تلك النظريات أنها كانت تقع في مغالطة (المصادرة على المطلوب)، فهي تفترض بطلان وجود الإله والغيب والنبوات أولًا، ثم تشرع في رسم ملامح النظرية ثانيًا، وعندي أن المشكلة لم تكن في المصادرة على المطلوب بقدر خطر اختزال مفهوم الدين في تعريفات سطحية أبعد ما تكون عن حقيقته ومقاصده الكبرى. فللغرب في عصر التنوير أمثلة كثيرة من محاولات تعريف الدين والتعامل معه وكأنه مجرد ظاهره إنسانية شأنه شأن اللغة، وإليك بعض الأمثلة:

أعرض جون لوك عن الدين بحجة أن العلم التجريبي يوفر للإنسان الحقائق اليقينية، ومن ثم لا حاجة لدين مشكوك في عصمته العلمية! أما كارل ماركس فذهب إلى تعريف الدين على أنه وليد صراع مادي بين الطبقات الاجتماعية المقهورة وبين الطبقات المنعمة، وقال الكلمة الشهيرة في وصف الدين بأنه “أفيون الشعوب” الذي تستخدمه الطبقات القاهرة لتستعبد وتسيطر على المقهورة فحسب. فعند ماركس كل النصوص الدينية بمختلف مواضيعها من قصص الأولين والأنباء المستقبلية والتشريعات التفصيلية كانت من تأليف بشري إثر أزمة اقتصادية!

ويذهب سيغموند فرويد إلى أن الدين نشأ في حضارات ما قبل التاريخ نتاج جلد عنيف للذات من قِبَل من ارتكبوا إثما أدى إلى حالة من الندم والكبت العنيف، ثم تحول الكبت إلى محرمات دينية، فكان الدين!

فالدين عند هؤلاء، إما مجرد مصدر آخر للمعرفة في علوم الطبيعة، أو مجرد أفيون يستخدمه الطغاة في استعباد الضعفاء، أو مجرد حالة نفسية من الكبت ولّدت تأليف الدين لرسم الحلال والحرام وتوفير مساحة آمنة لعشاق دموع الندم ولهواه جلد الذات!

جون لوك (على اليمين)، كارل ماركس (في الوسط)، سيغموند فرويد (على اليسار)

تعريف الدين

الدين في تعريفه وفي هدفه الأكبر هو الهداية في شؤون الغيب التي لا يهتدي إليها الإنسان عن طريق عقله المجرد وحده. إذ إن العقل البشري مؤهَّلٌ أن يكتشف كل أسرار المادة ويفك أعقد ألغازها، ولكنه يقف أمام الغيب وكأنه يقف أمام جبل شاهق لا يدري ما وراءه. فهو إما أن يجازف ويحاول عن طريق الديانات الباطنية التي تدعي قدرة كل إنسان على الاتصال بالغيب، ثم يقف حائرا بين معرفة الغيب وشكوك التعرض إلى الهلاوس، أو أن ييأس ويرضى بما قدر له من نصيب محدود في المعرفة ويكون وجوديا ماديا. أو أن يسعى للبحث في الدين لعله يصل إلى أطراف من الحقيقة قد تهديه إلى الحق المطلق!

والإنسان لا يرضيه معنى الحياة السطحي المتوفر له الآن من أمور معيشته الشخصية، فهو في بحث دائم عن اكتمال المعنى. والعقل المجرد يربط الجزئيات الصغيرة ليشكل معنى محدود، ولكنه يقف أمام الأسئلة الكبرى وهو عاجز عن توفير إجابات كاملة بعيدا عن اتباع الظنون ومكر الأهواء!

فالدين هو الهداية في الأسئلة الوجودية الكبرى التي لا يجيب عنها الإنسان وحده. وهو السبيل الآمن للإجابات اليقينية بلا مجازفات، وبه يتملك الإنسان رؤية كاملة شاملة عن الوجود بأسره، وتلك الحكمة من نزول الدين أول الأمر! فقد قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1]

فبالدين تكتمل نعمة الخالق على الإنسان، لتكون النعمة الأولى هي الإيجاد والإنعام المادي الذي يتلقاه كل البشر، وبهدايته وإرشاده في تساؤلاته الكبرى تتم نعمة الله عليه، وهو مصداق قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].

أما تعريف الدين لغويا، فإن اللغة العربية تمتاز بتغير معنى الكلمة بمجرد تغيير تشكيل الحروف. فقد تتحول (كَبَر) – بفتح الكاف والباء – من معنى ازدياد السن وبلوغ العجز إلى (كِبر) – بكسر الكاف – معنى الغرور والنرجسية. فتغيير التشكيل من الفتحة إلى الكسرة يغير المعنى من المادية إلى المعنوية. ولذلك الدين يأتي على وزن (دين) بفتح الدال، وهو القسط المادي من الأموال الذي يلتزم به الإنسان. فما إن أصبحت (دين) بكسر الدال، أصبحت قسطًا معنويًّا يسدده الإنسان. ولما كان الإسلام ينص أنه لا إله إلا الله، وأن ما من نعمة إلا وهي من الله، فكانت العلاقة بين الخالق والمخلوق هي علاقة المتفضّل بمتلقي الفضل العاجز عن رده! فالدين معناه اللغوي هو محاولة تسديد الدين الإلهي على الإنسان، فيصبح الإنسان مدينًا لله لأن الله متفضِّلٌ عليه!

الغالب والمغلوب

لمّا كان الدين -بمعناه الغربي- هو الاستسلام الكامل لكهنوت الكنيسة في كل شؤون الحياة من أول حكم الدولة إلى احتكار العلوم والمعارف كلها. كانت العالمانية هي الملاذ الوحيد لبناء الحضارة وتقدم الأمم في نقطة فاصلة في التاريخ الغربي، بين عصور الظلام التي تمسكت بالكهنوت الكنسي وبين عصر التنوير الذي تحرر العقل من الكنيسة فتقدم. فلا عجب أن ينظر هؤلاء إلى الدين – المسيحية المحرفة – على أنه أساطير الأولين!

ولكن المشكلة الكبرى في هذه الأيام، أن المسلم المعاصر بات ينظر إلى السيناريو الغربي على أنه تحرر من الدين – بإطلاق – لا تحرر من الديانة المسيحية التي تشربت بالوثنيات والتحريف! فأصبح المسلم المعاصر ينظر إلى الإسلام مثلما ينظر الغربي إلى المسيحية، وبما أن النهضة الغربية كانت تحت قيادة العالمانية، توهم بعض المسلمين أن العالمانية هي الملاذ الأخير لنهضة إسلامية حديثة!

وعندي أن الغالبية لو صدقت مع أنفسها أكثر لاعترفت أنها تنظر إلى الدين على أنه أساطير الأولين حقًّا، ويبرهن على ذلك الواقع المعاصر. فالدين عندهم لا علاقة له بالرؤية الكونية الشاملة، ولا بالهداية في الأسئلة الوجودية الكبرى! ونادرًا ما تجد من يثق في أهلية الدين على قيادة البشرية أكثر ممن يثق في أهلية فلسفات البشر على القيادة! بل تجد أن منهم من حصر الدين في لائحة طويلة من المكروهات والمباحات، ومنهم من حصر الدين في مراسم ميتة لا تظهر إلا في الأعياد والمناسبات، ومنهم من حصر الدين في الحديث عن القصص القرآني من باب التسلية، ومنهم من حصر الدين في التقليد الموروث والاتباع الأعمى، مما يحجر قدرات العقل ويعطل بناء الحضارة!

وعندي أن الحوار مع العلمانيين الذين ولدوا على الإسلام لا يبدأ من تصحيح مفاهيمهم الخاطئة، بل إننا بحاجة إلى أن نرجع خطوة إلى الوراء حتى نعرف الدين الذي نجادل حوله أولا. ونحن بحاجة بأن نرسم خطا أحمر بين السيناريو الأوربي عن السيناريو الإسلامي. فالأول كان تحريرًا للعقل من سلطان الخرافة، والثاني هو دين حق يرسم للعقل طريق الحقيقة ويحذره من الوقوع في الخرافة!

فوثوق المسلم في قدرة العالمانية لقيادة الركب الإنساني مع كامل إعراضه عن الدين ينبع من عدم الاقتناع بصحته لا محالة. فكيف يقر الإنسان أن الدين نزل من الله الذي خلق ثم يتهم الدين أنه لا يتماشى مع طبيعة البشر أفرادا ومجتمعات! وكيف يكون الإنسان المنصف معترفا بحاجته إلى الدين لأن العقل وحده يعجز عن إدراك الحقائق الكلية ثم يتمرد المسلم على الدين بدعوى أن العقل وحده يكفي!؟

أما عن انتشار فلسفات الغرب ورؤاه كالعالمانية، والليبرالية، والماركسية –فيما مضى- وتوغلها بين المسلمين بإرادتهم فما ذلك إلا لمشكلة نفسية لا فكرية. فمن يفتقر إلى ثقته بذاته واعتزازه بهويته سيتبع كل غالب مهما كان بين يديه بضاعة مزجاة، وسيعرض عن كل مغلوب مهما كان بين يديه الدواء الشافي! أو كما قال ابن خلدون: “المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب. والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها!” [المقدمة]


مصادر للتوسع

كتاب (الدين) د. محمد عبد الله دراز

حاجتنا إلى الفقه في الدين

لا يكاد المتابع لما يجرى على أرض الواقع أو الساحات الافتراضية يلتقط أنفاسه من توابع قضية أو جدل ما حتى تصدمه أخرى بما لم يتخيل، وكل قضية تلقي بظلالها على قناعات الناس وتتداخل تداخلا وثيقا مع ما يؤمنون به ويقيمون به أساس حياتهم، وأخص ما يحدث فيه التأثر سلبا وإيجابا هو رؤية الناس لأحكام دينهم وشعائره وما فيه من ضوابط وتزكية وأوامر.

ولقد رأينا من يهاجمون دينهم صراحة لا يصدّهم بقية خشية ولا مراعاة، ومن يتبعون الهوى في صورة دين لا يخالف ما اعتادوا عليه ولا يقف أمام تطلعاتهم، ثم رأينا ذلك الصنف المتردد المتابع الذي تشده كلمة من هنا ويجذبه رأي من هناك، وعلى حسب ما في القلب من إيمان أو مرض يكون اختياره وقبوله لما يرى ويسمع.

إن الاختلاف في مسائل الدين الفرعية مما جبل الله الناس عليه، لكن الذي عليه أغلب الناس اليوم وتدور عليه النقاشات هو ما يتعلق بركائز كانت أولى بالاتفاق مما يصدق فيها تحذير الله لنا: {ولَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، وإن أحد أهم جوانب حماية الدين للمسلمين حفظه من أن تنفصم عراه ويتفرق في مسائل العلم كما اختلف الذين من قبلهم، هو الفقه في الدين، وفهم مسائله فهما دقيقا، ولذلك دعا الله طائفة من المؤمنين أن يتفقهوا في دينهم وأن يكونوا رسلاً إلى أقوامهم في الإنذار والتبليغ عن الله، فقال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

وقد يبدو لنا في عصر انفتاح الفضاءات وسيل المعلومات المتدفق بلا توقف وكتب العلم المعروضة على الناس بلا ثمن أن الجميع قد أصاب من العلم شيئا، وأن كل أحد قرأ بعض السطور أو استمع لبعض الشروح يمكنه أن يقطع برأي أو ينفرد بفتوى أو بترجيح، لكن الأمر غير ذلك بل هو أعمق وأدق. إن سهولة تحصيل العلم في زمننا تتيح لكل من أراد أن يلتحق ببرنامج أو يقرأ كتابا أن يفعل وقد يحصل على أوراق تثبت براعته أو حصوله على مفاتيح علم ما، لكنك إذا جئت تستمع إليه أو تقرأ ما يدعو إليه وجدت اعوجاجا وميلا لا يشي بفهم فضلا عن براعة. وإن زماننا الذي بلغت به الغواية حدها الأكبر وعلا فيه الزبد حتى فتن به من فتن ليتوجب فيه على من يقرأ أن يفهم ومن يتعلم أن يفقه، حتى يكون ذا بصيرة تعينه على أن يتبين مهاوي الطريق أمامه فيتجنب مصائد الغواية ويحاذر المسالك المؤدية إليها.

ماهية الفقه في الدين

يعرف غالب الناس أن الفقه هو معرفة أحكام الشرع، وقد ضبط العلماء حقيقة الفِقْهِ بأنَّه العلم بالأحكام الشرعيَّة العمليَّة المُكتَسَبة من أدلَّتها التفصيلية بالاجتهاد، والفقه في أصل اللغة يعني الفهم أو دقيق الفهم إلا أنه صار علما على أحد علوم الدين وفرع من فروع الشريعة لأنه يحتاج نظرا واجتهادا في تنزيل النص على الواقعة وسياقاتها، ولا يكون ذلك إلا بفهم النصوص الشرعية واستخراج الأحكام من مجموعها بما يتوافق مع قواعد الدين وكلياته الكبرى.

ولا يقتصر الفهم على ما في الشريعة من أحكام عامة أو تفصيلات فقهية، بل إن أعظم من ذاك هو فهم الدين فهما كليا يتصور به مراد الخالق وما يرضى به وما لا يرضى به، ويتوصل به إلى فهم مقاصد الشريعة العامة ومراتبها وأنواعها، ويرافقه بصر بالواقع وإدراك بما يجري فيه بما يمكن من معرفة مآلات الأمور وتقدير تبعات الكلمة وخطرها، فلا يلبس حينها على المتعبد شيطان ولا يزري بالعالِم سلطان.

فالفقه في معناه اللغوي يوحي بالقدرة على استخدام ما هو ظاهر وحاضر من النصوص والوقائع الشرعية للتوصل إلى حكم كان غائبا عن الأذهان أو غير ظاهر بصورة صريحة لغير المتفقهين. لذلك كان الفقيه في علمه أيا كان هو من يعرف العلم بأدلته ولديه نظر متسع يأخذ من الأصول الكلية والمبادئ الكبرى ليوضح للناس ما خفي عنهم، ولذلك وجه الله المؤمنين إلى رد الأمر لأصحاب العلم والفقه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59]وقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]

 من هو الفقيه؟

ولا يكون صاحب العلم فقيها حتى تكون لديه مَلَكَة العمل مع النصوص والنظر فيها، واستخراج ما فيها من أحكام ومقاصد ودقائق، فهو يجمع النصوص ويستخرج منها الحكم ويعلم الاستثناءات وما يجرى عليه الحكم والقياس وما لا يقع عليه صورة الحكم ولا يصح وقوعه تحته.

وإن نظرة أولية لكتب الفقه بتفريعاته وأصوله ترسم للمطلع عليها صورة للفقيه المسلم والكيفية التي كان علمه فيها، فلا يقتصر على المسائل التفصيلية التي يسأل عنها الناس، بل إن علمه وفهمه لكتاب الله وسنة نبيه أدّيا به إلى استخلاص قواعد الاستدلال واستنباط الأحكام ومقاصدها وموضعها في أبواب العلم الشرعي، وكيف قاده هذا التخصص ليضع أصولا عامة وقواعد فقهية كلية أو غالبة صارت تعرف بعد ذلك بأصول الفقه.

لقد كان نظر الحسن البصري واسعًا حين عرّف الفقيه بأنه “الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه، الكاف عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم” [أخرجه نعيم بن حمّاد في مسنده] وقد تبعه الإمام الغزالي في ذلك فبين أن مفهوم الفقه شامل لكل ما يحصل به الإنذار والتذكير بالآخرة بحيث تكون الفتاوى والأحكام العملية المتعلقة بالعبادات والمعاملات جزءًا من الفقه في الدين لا تقتصر عليه ولا تختص وحدها به.

فقه العالم

لا يترك الشيطان وظيفته في إضلال الناس وإشباع غرائزهم، وكما يزين للغافلين عن ربهم وعن أنفسهم، يزين لمن أوتوا حظا من العلم، فيوحي إليهم بمكر خبيث ويلبس عليهم بحسب ما وصلوا إليه من علم، فله كيد خاص بهم، إذ يلّبس وحيه ثوب النصيحة للناس مرة، وثوب مراعاتهم والإحسان إليهم مرة أخرى، ويوقعه في الإثم وقبول الظلم حينًا بدافع المصلحة وفقه الواقع وفي فتح باب الشبهات والشهوات بدافع الضرورة والحرص على المصالح حينا آخر.

إن العالم أشد الناس حاجة إلى الفقه بمعناه الواسع الذي لا يختص بواقعه الآني فحسب، بل يجب أن تبصر عينه المستقبل القريب والبعيد، وتربط الأسباب بالنتائج ربطا مستمدا من كتاب ربه، فيبلغ الناس بلاغا يعيد إليهم رشدهم ويبصرهم بعاقبة كل أمر ولوازم كل اختبار.

وآية الفقه أن يزاوج العلم العمل وأن تصدق أعمال الإنسان في الأرض أقواله، فتحصل له المجاهدة والكبد الذي تستخرج به معادن الانسان القّيمة وتصفى به شوائبها، فإذا تحدث فعن واقع خبرة، وإذا نصح فمن حب وإشفاق، وإذا أفتى فعن خشية وإخلاص، ولا يكون ذلك لمن غاية علمه كلمات يقرأها ولا يستصحبها معه دينا تدور حياته عليه وتصطبغ به.

ولكي يكون العالم أو المتعلم على قدر حقيقي من الفقه، لابد له من أن يرد النبع بإخلاص وصدق، لا بتشكك وتغليب للهوى، فيقرر المسألة في نفسه ثم يقلب في النصوص ينتقى منها ما يوافق فهمه أو ميله، فذاك محروم من علم شريف خص الله به المقبلين عليه المعظمين لشرعه، الراغبين في نشر شريعته وبيان منهجه لعموم الناس.

فقه المتعلم

أما وقد فتحت للناس منصات للتأثير والتأثر لم تعد للعلماء فيها الكلمة الأخيرة وصارت بضائع الأفكار مزينة ومعروضة للصغير والكبير، للمتعلم والجاهل، فإن واجب الوقت ليس فقط لمن يرد تلك المنصات، بل لكل من آتاه الله عقلا يعقل به، أن يتعلم كيف يتلقى كل ما يرد عليه وما يمر إلى قلبه وعقله. فيقرأ بفهم ويرجع إلى من هم أفقه منهم فيسأل ويبحث، ويبني عقله بناء معرفيًّا صحيحًا بحيث يستطيع أن يضع التصور اللائق بكل مسألة، وأن يرتب ما يرده من أخبار ومصادر حسب ما ينبغي لا حسب ما يقرره صاحب تلك المقالة أو ذاك. لذلك فإن المتعلم على سبيل النجاة، والمقبل على ربه-وكلنا كذلك- واجبه الأول أن يعرف أصول دينه ومصادره، وأن يعرف كيف يرد الأمر إلى صاحب الأمر وكيف وعن من يتلقى قبل أن يتشرب عقله الشبهات ويخبط خبط عشواء يظن نفسه على هدى وهو أبعد ما يكون عنه ويرى أهل الدليل على هوى لأنهم يخافونه ويردون عن دينهم السهام..

نسأل الله أن يفقهنا في ديننا وأن يرزق هذه الأمة بالفقهاء العاملين الذين يدركون مواضع الخلل فيسدونها بعلمهم وفقههم.

تعليم الدين في زمن الوسائط المفتوحة: تعلّم الدين من غير معلم!

عندما كنت صغيرًا كانت أجمل اللحظات التي عشتها هي وقوفي في الأرصفة أمام بائعي الكتب، أطالع العناوين الشائعة والمرغوبة من العامة، من الروايات البوليسية إلى كتبٍ الطبخ والتمثيل، وهناك بالطبع الكتب التي تدعي أنها تعلمك اللغات الأجنبية من غير معلم في خمسة أيام أو في أسبوع…

لقد كان أسلوب هذه الكتب قائمًا على كتابة بعض الجمل المهمة بحروف عربية، ثم ما عليك –أيها المتعلّم- سوى أن تهجّئ هذه الكلمات لتصل إلى الادّعاء بأنك قد تعلمت اللغة في فترة قصيرة من غير معلّم كما يدعي الكتاب.

سؤال الموثوقية؟

فكرة هذه الكتب لم تكن سوى بداية القصة بتصوّري، ففي عصر الانترنت والوسائط المفتوحة، وفّرت كثير من المنصات في عالم الشبكة المفتوحة -وخاصة يوتيوب-مئات الفيديوهات لكثير من الموضوعات العلمية وغيرها، يقدّمها أشخاصٌ لا يمكن التأكّد من خلفيّاتهم، وهنا تبرز المشكلة؛ وهي أن هذه الفيديوهات لا تخضع للتدقيق، ولا تمرّ –في غالبيّتها- على مبضع الرقيب العلميّ[1]، حيث يتبادر بلا شكّ سؤال الموثوقية إلى عقل المشاهد، فما الذي يدفعُه للوثوق بهذا المحتوى، وهل كثرةُ التفاعلات بالإعجاب هي الطريق الصحيح للتأكد من الموثوقية؟

أم إن الباعث هو جِدَّة الفكرة التي تقدّم –وهنا نقول إن الفكرة الجديدة لا تعني أنها جيدة كما يتبادر إلى كثيرٍ من الأذهان-؟ أم إن المعيار هو كثرة المشتركين والمشاركين للفيديو أو المنشور؟!

بتعبير آخر: ما مرجعية الصحّة والبطلان في المعلومات المذكورة أو مصدرها؟

هذا السؤال يعني سؤال الموثوقية يكون واضحاً ومهماً في المواضيع الحساسة كالطب أو الدين، فكما أنه لا يجوز سماع نصيحة من شخص يقول شيئا متعلقاً بالطب إلا بعد فحص ما يقوله عند من يعرف الطب معرفة واسعة، فإنه كذلك لا يصح منطقاً السماع إلى من يقدم شيئًا حول الدين إلا بعد التأكد من صحة ما يقوله هذا الإنسان، ولعلنا نذكر هنا كثرة التسجيلات المصوّرة التي ظهرت في فترة كورونا حول مصدره وعلاجه، ولعلنا نذكر كيف أن غالبها كان دجلاً وتلفيقاً.

وإذا انتقلنا إلى الفيديوهات الدينية فإن الأمر لا يختلف، فيكفي أن تبحث بحثًا صغيرًا في اليوتيوب عن موضوع ما لترى كثرة المحتوى فيه من مختص وغير مختص؛ حيث إن كثيراً من “صانعي المحتوى” في العالم الافتراضي يقدمون سلاسل معينة عن موضوع ديني ما، ويحاولون أن يقدّموا رأياً معيناً أو أن ينتقدوا فكرة ما، إلا أنه في أيامنا هذه ظهر-إلى جانب ذلك- “موضة” الاستنباط المباشر من القرآن مع تغييب السنة ودون امتلاك أساس شرعي أو علمي.

تابعتُ أخيرًا فيديوهات –كل فيديو أكثر من نصف ساعة– عن كيفية الصلاة وأعداد ركعاتها بالاعتماد على آيات القرآن فقط، وتابعت فيديوهات أخرى في نفس الموضوع لشخص يستنبط أعداد الصلاة بنظام حسابي معقّد[2]، وكان الهدف من ذلك كله، إلغاء العودة إلى السنة!

هذه الفيديوهات القصيرة والسريعة في إيقاعها والتي تعتمد على المؤثرات الصوتية والصورية، هي تمامًا مثل كتب تعلّم اللغة من غير معلم، ذلك أن المعلم لا يهتم للتعليم السريع، بل بإنشاء البناء المعرفي القائم على أصول معينة، والذي يؤتي أكُله بعد جهد جهيد.

أبنية بلا أسس!

في كل نوع من أنواع المجالات العلمية والبحثية ثمة اختلافات في الرأي، ويصدق هذا في الطب والهندسة وغيرهما من مجالات العلوم التطبيقية والنظرية، إلا أنه بالرغم من الاختلاف، ثمة أصول عامة ومبادئ كلية تحكم هذه الاختلافات وتؤطرها، بحيث تجعل الاختلاف ممكنًا، لكن المشكلة في أنماط الفيديوهات التي أشرنا إليها وغيرها من مناشير العالم الافتراضي أنها لم تبنَ على أصولٍ واضحة ومتسقة مع بعضها، وكثيرًا ما يجري الحديث عن آراء ذاتية وشخصية قد تكون معتمدة على فهم ناقص أو نظر قاصر، ومن ثمّ فإنه لا يمكن الاعتماد عليها في التعلّم أو اكتساب العلم.

إن التعليم يحتاج إلى تخصص، والتخصص هنا لا يعني الدراسة في كلية معينة فحسب، بل أن يكون مطلعًا على مصادر الاختصاص مع فهم تاريخه وتاريخ تطور الآراء وكيفية استنباط الحكم من الأصول.

ومن مشاكل فيديوهات ومناشير العالم الافتراضي أنها لا تقوم على أرضية ثابتة من الأصول الفكرية، إنما يعتمد جمعٌ غفيرٌ من المؤثرين فيها على رصيدهم من المعجبين والمشاركين[3]، كما قد يعتمد بعضهم على حاجات المجتمع، فتستغل هذه الحاجة لتقديم رأي شخصيٍّ يقدّمه صاحبه وكأنه الحق الذي ليس بعده إلا الضلال المبين، بالرغم أن الشخص ذاته يقدم نفسه على أنه منافح عن حرية الرأي.

إن بناء الرأي الشخصي القائم على التفكير وفق أصول متسقة هو المطلوب، سواءً اتفقنا معه أو اختلفنا، فوجود الأسس يحاكِم البناء، وبه يظهر الثبات من الانهيار، وذلك كما قبل المسلمون سابقًا وجود اختلاف بين المعتزلة والأشاعرة مثلًا، كون الطرفين قد اعتمدا في إبداء تصوراتهم على قراءات معمقة وأصول واضحة.

يمكن القول إن فيديوهات “صانعي المحتوى” وغيرهم تعتمد الضغطَ على الوتر العاطفي لدى المشاهد، فيتم الانتقال على الفور إلى تلقين النتائج دون إبراز الأدلة المقنعة، ولدى مشاهدتي لعدد من الفيديوهات وجدت أنّ بعضهم يردُّ أحاديث كثيرة ممّا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه عقله لم يقتنع به ويكفي هذا دليلاً على أن الحديث مثلاً لم يتناسب مع فكره أو يَرُق لعقله[4]، ولكم أن تتخيلوا خطورة هذا الوضع فإذا فتحنا باب القَبول الشخصي معيارًا لأيّ فكرة؛ فهذا يعني أننا فتحنا باب “التشهّي الذاتي” الذي سينتهي بنا في دوامة من الاشتهاءات المتضادة.

أسطورة الاجتهاد الشخصي!

هنا قد يعترض البعض قائلاً بأن الاجتهاد مفتوح، وبأن ما يقوله صانع المحتوى إنما هو رأي قد يصيب وقد يخطئ، وللمصيب أجران وللمخطئ أجرٌ!

وددتُّ لو أنّ هذا الأمر يكون على هذا النحو، إلا أن هذا الادعاء لا يصح في باب التعليم ونشر الوعي؛ إذ إن جرم الإفساد والخطأ المتعمّد فيه مضاعف، لما له من أثر ممتدٍّ في عقول أجيال متتالية، كما أن مقولة “المخطئ له أجر” تتجه لمعنىً آخر، فالمجتهد المخطئ المأجور هو من حاز وأدرك شروط الاجتهاد وأولها معرفة القرآن والسنة معرفة تامة مع معرفته باللغة، واللغة هنا ليست مجرد قواعد نحوية بل الاطلاع على فقها ومنطقها، فكما لا يجوز الاجتهاد في معالجة المريض إلا ممن حاز فهمًا ومعرفة وممارسة بالطب، فكذلك لا يصح الاجتهاد في معالجة المسائل الدينية إلا ممن حاز المعرفة والفهم والاجتهاد في الدين.

وهنا لا بد من التنبيه إلى أنه ثمّة خلط خطير في زمن الوسائط المفتوحة بين نقطتين هما: المعلومات والتعلّم، حيث التركيز الأكبرُ على جمع المعلومات وإغراق المستمع بالكثير منها لإيهام المستمع بأن المقدم على اطلاع واسع وتبحُّر كبير، وهذا من آثار العصور الحديثة، ففرق بين المعلومة وبين العلم والتعلّم، إذ إن كثرة المعلومات دونما إدراك لها وهضمها لا يؤدي إلا إلى آلام في العقل وسوء تصرفات في السلوك، وذلك كحال من يكثر من أنواع الطعام فيصاب بآلام المعدة؛ إذ إن العلم يبدأ من حسن التعلم وحسن استخدام المعلومات وإدراك العلاقات من المنشأ إلى النتيجة ليصل إلى ترتيب منطقي من المعلومات إلى التعلم فالعلم.

في عصر الوسائط المفتوحة، ما الواجب؟

لعل هذا هو السؤال الأهم، فالدين عنصر مكمّل لمعنى الإنسان ومن دون الدين سيفقد الإنسان بُعده المعنوي؛ إذ إن انتفاء وجود الدين سيقطع الصلة بين الإنسان وبين الله؛ ولذا فإنه من الضروري أن يكوّن الإنسان تصورًا واعيًا وشاملًا عن الدين حتى يستطيع أن يستكمل حياته الإنسانية، ولا بد –بكل تأكيد- أن يكون ذلك التصور مبنيًّا على أسس متينة، وهنا يظهر لنا أهمية السؤال: “ما الواجب في عصر الوسائط المفتوحة”؟، وكيف لي أن أقوّم التصور الذي يقدمه شخص ما حتى آخذ منه؟

إنّ التعلّم الديني تخصُّص من الاختصاصات التي يحتاجها أي مجتمع مهما كان دينه، ذلك أن الدين عنصر أصيل في حياة الإنسان، نظرًا لكون الدين منظومة تعنى بالعالم الغيبي وبالبحث عن المعنى من الوجود، وإذا حصل أي اختلال في تصوّر مجتمَع عن الدين فإن حياته ستصاب بالفساد، وعلى هذا فإن المختصّين بالدين عليهم أن يكونوا على وعي كبير واطلاع واسع بالدين ونصوصه وأهدافه ومقاصده، إضافة إلى فهم لأبعاد الحياة والإنسان، وهنا أحيل إلى فكرة مفادها أن علوم الآلة – والتي تعني العلوم المساعدة لطالب العلم في فهم النصوص الدينية كالنحو والبلاغة والصرف والمنطق- تتغيّر حدودها ومساحاتها بحسب الاحتياج لها على تغيّر الأزمان، فقد يكون من الأفضل أن تنطلق علوم الآلة في عصرنا من علوم الاجتماع، ولا أعني أن يكون طالب العلم مختصًّا بها بل أن يكون مطلعًا عليها ومتابعًا لسيرها.

إنّ المعلم الديني يدرك فقه الأولويات في التعليم فلا يبدأ من بائه إلا بعد أن ينتهي من ألفه وهكذا، فهو خبير بتسلسل المواضيع وتراتُبيّتها وعلاقاتها مع بعضها، فلا يُقدِم على موضوع إلا بعد أن يؤسس له وهكذا، كما أن هدف التعليم الديني ليس إخراج المتخصصين في الدين -بالدرجة الأولى-، بل تخريج المثقّفين من ذوي التمكّن الديني والشرعي، كما أن ليس هدف هذا التعليم تأهيل الناس جميعًا لتقديم الفتوى؛ إذ إن الفتوى ليست عملية رياضية يمكن لأي إنسان القيام بها، وإنما هي عملية تقويم واسعة المدخلات ودقيقة الإجراء.

إن الواجب الأول –في عصر الوسائط المفتوحة- هو عدم التسرع في الاستماع وبناء القناعات بناءً عليها، أو على الأقل التمهّل في تبني ما نسمع في فيديوهات هذا العالم المفتوح إلى حين البحث والتمحيص والسؤال عن قيمة ما يُقدّم لي فيها، فالتريث وعدم التعجّل واجب يفرضه إيقاع نمط حياتنا،  وسؤال من نثق بهم ومن نعرفهم من الثقات العدول قد يكون دواء –مبدئيًّا- مانعًا للانكسار ودافعًا للنهوض بالتدريج.


[1] في أحد الفيديوهات يقدم أحدهم عدة فيديوهات لكيفية الصلاة وأوقاتها بالاعتماد فقط على القرآن دون الرجوع إلى بيان الرسول العلمي لكيفية الصلاة. والإشكالية أن مثل هذه الفيديوهات تلقى رواجا دون رقيب علمي.

[2] ثمة فيديوهات كثيرة تنطلق من أن القرآن هو المصدر المطلق والأوحد، ومن بينها قناة سمى صاحبها نفسه بالباحث وقناته بالتدبر في القرآن الكريم.

[3] فمثلاً، أشار أحدهم في فيديو عندما بلغ عدد المشتركين في قناته إلى مليون مشترك أن هذا دليل يشير إلى أهمية ما يقدمه انظر:
http://www.youtube.com/watch?v=jhXNqBGVlBc

[4] قدم أحدهم  – وهو مختص في الصحة النفسية كما يقول – برنامجا سماه روائع يوم القيامة، وقد قمت بمتابعته لأرى أنه خصص أكثر من حلقة ليرد عدد من الأحاديث لأنها غير متفقة مع العقل أو لمخالفتها – كما يدعي – للقرآن. ولم يقدم في سياق الرد أي دليل أو فكرة يمكن الاستناد إليها. والمشكلة في مثل هؤلاء الأشخاص أنهم يكسبون جمهورهم بالخطاب العاطفي الذي يقنّع بأنه عقلي.

كورونا والدين والخشية من الموت

عجيبٌ أمرُ هذا الإنسان، يحثُّ الخُطا ويشيد الحصون هاربًا من الموت، يهرب من عدو يعلم يقينًا أنه مهزوم أمامه لا محالة، وأن العدو سيتمكن منه في نهاية المطاف، لكنه فقط يريد أن يُطيل أمد الصراع، وأن يحظى بأكبر قدر ممكن من الحياة؛ يلزم بيته، يلتزم بالتعليمات الطبية الصارمة، يبالغ في غسل يده، يعقم بيته ومَحَلَّتَه، يرتدي قُفَّازًا وكمامة، ويرش المطهرات خوفًا من أن يقتحم عليه العدو الحصن في غفلة وحتى يضمن هزيمة العدو في لحظةِ أن يتجرأ ويكسر باب حصنه المنيع. وربما يخشى البعض أن يموت وسط هذا الضجيج والزحام فيُنسى اسمُه ولا يحتفل بموته!

اختراع يضمن البقاء
تقول الحضارة الحديثة المنكرة للخالق: لا بأس، اهرب ما استطعت، فلربما استطعنا يومًا أن ننجيك من الموت نهائيًّا، وإن لم نستطع فيكفيك أنك عشت حياة ملؤها اللذة والسعادة، وليس هنالك حياة أخرى فلا تخف ولا تحزن!

 لكنها الأماني والآمال التي لم تتحقق يومًا، فلا الإنسان استطاع أن يمنع الموت، ولا هو عاش حياة رغدة خالية من الآلام والمنغصات والقلق والاضطرابات.

ثم لو افترضنا -مجرد افتراض- أن هذا الإنسان المتمرد استطاع يومًا ما أن يمنع الموت، وتوصّلت مختبراته العلمية إلى عقار يمنح الناس الخلود ويقيهم شر المَنون، هل ستسعد البشرية حقًّا بهذا؟

سيكون هذا اليوم حتمًا بداية النهاية للبشرية وبداية تعاستها الحقيقية! إذ ستضيق موارد الأرض المحدودة عن إمداد كل هؤلاء البشر بالغذاء والماء والدواء بل وبالهواء، سيتقاتل الناس ويتفانون ويقيد بعضهم حركة بعض، لن ينتظروا الموت بل سيخترعونه اختراعًا، سيقتلون أفرادهم ويُفنون جماعاتِهم حتى يضمنوا بقاء نوعهم! وستكون المفارقة العجيبة أن الموت نفسه سيكون ذلك الاختراع الذي يضمن البقاء!

أن تقتل الحضارة الإنسان
لم تستطع الحضارة المنكرة للخالق أن تمنح الإنسان الاطمئنان المرجو له كإنسان، فعصرُنا هو عصر القلق الداخلي العميق، وزلزلات لا تنتهي لفكر الإنسان ووجدانه، وتهافت محموم على قضاء لذات لا تشبع أبدًا، وكيف تشبع وأمامها كل يوم إغراء وإغواء من نوع جديد!

 المدنية الحديثة تحتقر إنسانية الإنسان حتى في تسميتها له، فهو في عرفها (دافع ضرائب، يد عاملة، مواطن رشيد) إنه ينتمي فقط للمكان وما يمليه من أعراف وتقاليد، يعمل كالترس في الآلة بكل جهده وقوته، فإن كلَّ أو ضَعُف استبدل به غيرُه ثم عاش هو وحيدًا أو رُمِيَ به بعيدًا في دور العجزة والمسنين، وهذا الإنسان أحادي البعد (يعمل لحاجات جسده وغرائزه الآنية فقط).

في فرنسا -قائدة المدنية الحديثة- وفي بلدان أوروبية أخرى تصاعدت موجة التغيير رغم ما تغيّر مسبقًا، فضنُّوا على الإنسان بلقب أب أو أم حتّى، فصار يُكتب في المستندات الرسمية: والد أول (مكان كلمة الأب) ووالد ثان (مكان كلمة الأم)، فالعلاقة بين الأب وأولاده أو بين الأم وأولادها لابد أن تبقى في إطار الجسد فحسب، علاقة ولادة فقط، ليست علاقة أبوة وأمومة بما لهاتين الكلمتين من دَلالات وظلال نفسية وعاطفية أو بالأحرى إنسانية عميقة تنفر منها المدنية الحديثة، وكذلك حتى يضمنوا لمثليي الجنس القدرة والحق في تبني الأولاد دون أن يضطروا لإحراجهم في الخلاف حول أيهما يُسَمِّي نفسَه أبًا وأيهما يسمي نفسه أمًّا، لكن الطفل المسكين نفسه سيُحْرَمُ حقُّه في أن ينمو نموًّا طبيعيًّا كباقي أقرانه بين أبوة ذكورية وأمومة أنثوية.

أساس الالتزام واحد
حين رأى هؤلاء الناس الموت يدور حول بيوتهم جراء انتشار وباء كورونا تحصنوا ببيوتهم والتزموا التعليمات بدقة، حتى من لم يلتزم بها تراه على معرفة بتفاصيلها، وهو مع ذلك يحاول أن يلتزم بها قدر الاستطاعة.

 إنها الخشية من الموت إذن هي صاحبة السر الأكبر في هذا كله، في قراءة التعليمات بدقة والتزامها بصرامة، وتأنيب النفس على ما يفوت منها، خوفًا من أن يكون في هذا الفوت ضرر محقق.

 أليس هو الأساس نفسه الذي بنى عليه الدين تعاليمه!  أليس هو التحذير من الموت وما بعد الموت!

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)}. الملك: 2

 نعم إنه الأساس نفسه، إنه هو بعينه!
إن الدين أمر الناس بالتزام تعاليم محددة فردية ومجتمعية طلبًا لنجاتهم وسعادتهم فيما قبل وما بعد الموت، وخشية أن يأتيهم الموت وهم عنه غافلون!

 لكن الفرق هنا أن تعاليم الحضارة الحديثة تحذر الناس أن يصابوا فيفقدوا شيئا من منافع جسدهم أو تنقص لذاتهم، فالجسد -في عُرْفِها- ما هو إلا وعاء للحياة في نهاية الأمر -أي حياة!- أمَّا التعاليم الدينية فتحذر الناس أن يصابوا فيكونوا قد ضيعوا أمانة الجسد التي ائتمنهم الله عليها، أو يصبحوا عاجزين عن استكمال رسالتهم الحياتية في فعل الخير والدعوة إليه وهداية الناس إلى الله، فـ }الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ{ [مسلم: 2664]

 التعاليم الكورونية تحذر الناس أن يموتوا، والتعاليم الدينية تحذرهم أن يموتوا وهم غير مستعدين!، لذا كان الدين أكثر واقعية وأوسع كرمًا وأفسح أملًا بكثير جدًّا من المدنية الحديثة التي أُسِّسَ جزء كبير منها ـ بل الجزء الأهم والأساس فيها ـ على الإلحاد وإنكار الخالق!

 الوباء يُقلِق والإيمان يُطمئِن
قال القرآن للناس: }كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ{. [آل عمران: 185] فكلهم سيموتون حتمًا لا مناص من هذا، لكن ذلك لا يعني أن يُهملوا أسباب السلامة على هذه الأرض، ولا يعني ذلك بكل تأكيد أن عليهم إهمال التشبث بالحياة قدر ما يستطيعون، بل يعني فقط أن يعمل الإنسان لسلامته وسعادته في الحياة الآخرة كما يعمل لسلامته وسعادته في الحياة الأولى، }وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ{. [آل عمران: 185]  

 قال الدين للناس: إن الموت دائمًا يدور حول بيوتكم بل دخل بيوتَكم قسرًا أكثر من مرة واختطف منها أحب الناس إليكم، فما الذي جعلكم الآن أكثر وعيًا به وأشد فرارًا منه؟ هل لأنه الآن أسرع وتيرة وأعلى صوتًا؟

محقون أنتم فالغافل لابد له من تنبيه، فها قد نُبِّهتُم فأفيقوا، واعلموا أن الموت موجود في كل لحظة وفي كل آن لا ينفك عنه زمان ولا مكان فكونوا دائمًا على استعداد!

 قال الدين للإنسان: الموت حق لا جدال فيه، لكن لا تخف ولا تحزن، سأُكَرِّمُكَ في حياتك وبعد مماتك! سأسميك عبدًا لله، ومؤمنًا، وتقيًّا، وأبًا وأمًّا، وأخًا وأختًا، وخليفة في الأرض! حتى وإن سميتك كافرًا وظالمًا وجحودًا فإن الدين لا يلغي معاني الإنسانية فيك، وذلك كله لتقلع عن ظلمك وجحودك وكفرانك وتستعيد طمأنينتك وإنسانيتك وإيمانك، سيناديك ربك حتى حال شرودك عنه: يا عبادي، يا أيها الناس، يا أيها الإنسان. لن يسميك الدين أبدًا دافع ضرائب أو يدًا عاملة، لن يربط بينك وبين قيمتك الاقتصادية بل سيربط بينك وبين قيمتك الإنسانية والأخلاقية، فالدين لن يعتبرك شيئًا بل إنسانًا.

وماذا أيضًا؟
يقول الدين للإنسان: لا تخف حتى وإن مِتَّ وسط الفوضى والضجيج والصخب لن ينتهي بك المطاف أن يصير جسدك عرضة للموازنة بين تكاليف حرقه أو سحقه أو دفنه أو الاستفادة منه كقطع غيار ومادة خام، لن تكون رقمًا بين أرقام كثيرة، أو تكون فقط اسمًا تائهًا بين أسماء عديدة على لوحة كبيرة تنصب في الشوارع والميادين، يمر من تحتها آلاف الناس كل يوم فلا يُلقون لها بالًا ولا يعيرونها اهتمامًا، بل سيجعل الناس إخوانك في الإنسانية يجتمعون لموتك ويدعون لك باسمك ويطهرونك غاية التطهير، وإن لم يستطيعوا؛ فلا أقل من الصلاة عليك حتى وهم بعيدون عنك، ولا أقل من الدعاء لك عند موتك وكلما ذُكِرْت، ولا أقل من أن يواروا جسدك التراب مستورًا مكرمًا، حتى تكون آخر صورة لك في أذهانهم صورة إنسان مكرم كامل الإنسانية لا صورة رمادٍ محترق أو جسدٍ ممزق.

 يقول الدين للإنسان: لا تتقاتل مع أخيك الإنسان طلبًا لأرزاقكم على هذه الأرض من الماء والهواء والغذاء فقد خلقها الله تَسَعُ الجميع وتكفي الجميع، }وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ{ الزمر: 10، }وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ{ هود:6، ابحث عن حقك واحرص عليه لكن دون أن تتعدى على حقوق غيرك من المخلوقات، حتى وإن أصابك نصَبٌ في حياتك لكنك لم تَظلم ولم تَغدر ولم تَسرق ولم تَنهب فسوف أعوضك عندي دارًا ليس فيها شُحٌّ مصطنع في الموارد، ولا أزمةُ إسكان، ولا أزمة زواج، ولا أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية ولا حكام متسلطون، ولا خوف من مستقبل لا تدري ما فيه، بل }لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ{. الحجر: 48

 إن أزمة كورونا أيقظت في الإنسان مشاعر الخشية من الموت والأخذ بأسباب السلامة منه، وهي المشاعر ذاتها التي دأب الدين على إيقاظها ودعوة الناس من خلالها، لكن الدين بَسَطَ دروب الأمل أمام الإنسان وأعطاه طوق نجاة من بحار أوهامه وتشتته وحفظ كرامته حيًّا ومَيْتًا، ودعاه ليس فقط للنجاة من الموت، وإنما للنجاة والسعادة كذلك فيما بعده.

فلماذا يا تُرَى اتبع كثيرٌ من الناس تعليماتِ كورونا ولم يتبعوا تعاليم الدين؟!

قراءة في كتاب “لماذا الدين ضرورة حتمية؟”

تمحورت كثير من كتابات د. هيوستن سميث اللاهوتي الأمريكي وأستاذ الفلسفة وعلم الأديان في عدة جامعات أمريكية، حول الأزمة الروحية الحاضرة لإنسان عصر الحداثة وما بعدها، وقدم في كتب متعددة دراسات نقدية وفلسفية واجتماعية وتاريخية تشرح ملامح تلك الأزمة وما أنتجته من تصور مادي للعالم يقلص وجود الإنسان ويحرمه من كل أبعاده الروحية، وما يتبع ذلك من اختناق روحي وفقدان للأمل وسيطرة للمادية والفردية والاستهلاكية والأنظمة القانونية المتنكرة للقيم الدينية والسياسات الحكومية المجردة من المبادئ الأخلاقية مشبهاً ذلك بنفق مظلم حبس فيه إنسان الحداثة الفاقد للإيمان.

نقصد في المراجعة الآتية التعرض لأحد أهم كتبه، “لماذا الدين ضرورة حتمية”[1]، باحثين عن أهم الأفكار التي نطقت بها كتاباته المدافعة عن الدين في وجه انبعاثات الإلحاد وامتداداته.

من هو د. هيوستن سميث؟
هو أستاذ الفلسفة وعلم الأديان في عدة جامعات أمريكية وصاحب مؤلّف “أديان العالم” أحد أكثر الكتب مبيعا ورواجا في الولايات المتحدة وعدة دول أخرى، وقد دافع في كتاباته ومحاضراته عن ضرورة وجود الدّين في حياة البشرية مؤكّدًا أنه الطريق الحتمي لمواجهة طغيان المادة وانحطاط الأخلاق، وركّز على في كتابه هذا على “بيان روح وحكمة أديان العالم وفلسفتها وجوهرها المشترك، ومخاطر عصر العلم والحداثة في ابتعاده عن الإيمان وخوائه الروحي الذي أغرق الغرب في نفق المادية المظلم وسجن الفردانية والأنانية التعيس.” كما يُلخّص ذلك مترجم الكتاب.

هيوستن سميث كاتب كتاب "لماذا الدين ضرورة حتمية؟"

هيوستن سميث

أعرب المؤلّف عن رفضه الشديد لفكرة انحصار النجاة بالديانة المسيحية التي تتردّد كثيرا في أوساط البروتستانتية، معتبرا إيّاها جهلا ذريعا بحقيقة ما يتضمنه معنى الدين الحقيقي من عُمق روحيّ أصيل، فقد أكسبت دراسة الكاتب للأديان الوضعية والسماوية آفاقًا متعددة في فهم دور الدين وضرورته في مواجهة التيارات المادية في الحضارة المعاصرة

أهمّ أفكار الكتاب:
ينطلق الكتاب من مقولة عالم الأحياء البريطاني “جوليان هوكسلي”[2] حوالي منتصف القرن الماضي أنّه عما: “قريب سيصبح من المستحيل لأي رجل أو امرأة ذكيّ ومتعلّم أن يعتقد بوجود الله كما هو من المستحيل اليوم الاعتقاد بأنّ الأرض مسطّحة” ومن ثمّ يبدأ بتفكيك هذه المقولة، ويؤكّد في سياقاته المختلفة قضية “لماذا الدين ضرورة حتمية؟”.

يشير الكاتب إلى أن الفكر المادي لا يتجاوز النظر فيما هو مادي محسوس إلى ما هو معنوي مُجرّد، وأنه يشبه إلى حدّ بعيد قدرات العقل في مراحل الإنسان الأولى حيث يسهل عليه استيعاب المفاهيم المادية ويصعب عليه إدراك المجرّد والمعنوي، إضافة إلى أن مقولة “جوليان” تتضمن الأفكار الثلاثة التي تقلقه –حسب تحليل مؤلّف الكتاب- وهي: نقد النظرية الداروينية، والاستدلال على أنّ الكون تمّ تصميمه بدقة عظيمة غير متناهية، والقبول بإمكانية أن يتدخّل الله في التاريخ.[3]

في معرض حديثه عن نظرية داروين، يقول الدكتور هوستن سميث: “في الواقع هناك نقاش مشتعل بشراسة بين العلماء أنفسهم حول نظرية دارون، وتغذّي ذلك النّقاش تعليقات مثل: “فريد هويل” المشهور اليوم، الذي يقول إنّ فرصة الاصطفاء الطبيعي لإنتاج إنزيم واحد تماثل فرصة أن يؤدي إعصار يهبّ على فناء صناعة إلى إنتاج طائرة بوينغ747، فنراه وغيره من العلماء متراصّين في دعم الداروينية عندما يظهر الدّين في الصورة.

الحاجة إلى بديل
لا شكّ أننا نحتاج إلى بديل، يحدث المؤلف قارئيه عن توماس تشارلمز الذي كان يلقي خطبه في الكنيسة، فتحدث في إحداها عن حادثة جرت معه عندما كان على متن عربة خيول تسير بهم في طريق جبلي، فعندما وصلت العربة إلى طريق ضيّق على حافة منحدر شديد، بدأ الحوذيّ (سائق العربة) بضرب خيوله بالسوط بشدة، الأمر الذي بدا لـ “تشارلمز” عملا خطيرا، لكن قائد العربة أوضح له أنّه كان عليه فِعْل ذلك ليصرف انتباه الخيول عن الخطر المُحدِق بهم في ذلك الطريق. إنّ لذع السياط جعلتهم ينشغلون بشيء آخر يُفكّرون به.

ينقل هيوستن عن تشارلمز قوله: إنّ الأمر لا يختلف بالنسبة للبشر. إنّ الناس لا يتخلّون أبدا عن عاداتهم المألوفة السيّئة بقوّة العقل ولا بقوة الإرادة، إنّهم يحتاجون إلى شيء جديد يُفكّرون به ويستجيبون له”، يعقب هيوستن في معرض استدلاله عن رأيه بأنه بدلًا من تضييع الوقت في تفنيد نظريات فرويد مثلا، فإنّ في فهم روعة البديل الآخر ما يُغنينا عن ذلك تماما كما فعلت لذعات السياط بالخيول.

بين التصوّر التقليدي والتصور المادي للعالم
هنا يستفيض هيوستن في الحديث عن مساوئ فكرة البديل إذا كان أسوأ من المستعاض عنه: فـ”إذا سعى شخص ما إلى صُنع مصيدة للفئران أفضل من المصائد المتوفّرة حاليا فإنّ هدفه مفهوم ومحترم ولا نملك إلاّ أن نرجو له التوفيق. ولكن إذا سعى أحدنا إلى صُنع مصيدة للفئران أسوأ من الموجود، فإنّ مسعاه قد يحتاج إلى تفسير يُقدّمه لنا طبيب نفساني. إذا نقلنا هذه الاستعارة إلى ساحة الإيمان بالغيبيات، فإنّ المعنى هو التالي: سواء كان التصور التقليدي للعالم حقا أم باطلا فإنّه تصوّر واضح وقابل للفهم على نحو شفّاف. أمّا التصوّر العلمي للعالم فإنّه ليس كذلك، لأنّه طالما أقصى العلة الأولى والنهائية من حسابه مطلقا، فإنّه يضعنا أمام طريق مسدود بشأن أسئلة ليس لديها أي إجابة عنها.” هنا يعلّق المترجم على هذا الكلام شارحا: لدينا تصور قديم للعالم  يعطينا إجابة عن كل شيء. سواء آمن به العلميون أم لم يؤمنوا، لا يحق لهم أن يطالبونا باستبداله إلاّ إذا كانوا بصدد إعطائنا تصورا أفضل منه.

لا يخفى أنّ هدف الكتاب الرئيسي هو تبيين قُصور التفسير المادي العلمي للعالم واقتناع صاحبه أنّ التفسير التقليدي (الديني) للعالم هو التفسير الأصحّ. فقد سعى الكاتب لحشد البراهين والنماذج الشاهدة على صحّة ما ذهب إليه.

فقد شبّه النظرة العلمية المادية للعالم بهذه الصورة في الحكاية الآتية:

تصوّر نفسك في بيت شعبي من طابق واحد في شمال الهند، وأنت أمام شباك زينة يُطلّ على منظر مدهش لجبال الهمالايا؛ إنّ ما فعلته الحداثة، في الواقع، مُشابه تماما لكونك تقوم بإسدال ستارة أمام تلك النافذة حتى مقدار بوصتين فقط فوق عتبتها وأرضيّتها. عندما أُمِيلت أعيُننا نحو الأسفل أصبح كلّ ما يُمكننا أن نراه الآن من الفضاء الخارجي هو الأرض التي بُنيَ عليها البيت.

في تشبيهنا هذا تُمثّل الأرض العالم الماديّ، ولكي نُعطي الأمور حقّها عندما تستحق ذلك بجدارة، نقول: إنّ العلم قد أظهر لنا العالم رائعا جدا بشكل لا يُصدّق. ولكن مع ذلك فإنّ هذا العالم الذي يظهر لنا، ليس جبل ايفريست.

إي إف سكيوماخر (من موقع جودريدز)

في موضع آخر ينقل حكاية عن دليل الحائر للكاتب “إي إف سكيوماخر” تحدث فيها عن تيهه وضلاله الطريق بينما كان يُشاهد معالم مدينة موسكو في العهد الستاليني. وبينما كان يبحث مرتبكا محتارا في خريطته، اقترب منه مرشد سياحي وأشار بأصبعه على الخريطة ليُبيّن له المكان الذي كانا يقفان فيه، فاعترض “سكيوماخر” قائلا:

– “ولكن أين تلك الكنائس الكبيرة التي نراها حولنا؟؟”

– أجابه المرشد السياحي بكل جفاف: “إنّها ليست مبيّنة على هذه الخريطة، نحن لا نُظهر مواضع الكنائس على خرائطنا.”

– “ولكن هذا غير صحيح، إنّ الكنيسة الموجودة هناك في زاوية الشارع، نجدها مُشارا إليها في الخريطة.” أصرّ “سكيوماخر” معترضا.

– أجابه المرشد السياحي: “أوه، هذه كانت كنيسة فيما سبق، أمّا الآن فهي متحف.”

ويُواصل “سكيوماخر” قائلا: حالتنا تشابه هذه القصة تماما. إنّ أغلب الأشياء التي اعتقد بها معظم البشرية، لا تظهر على خريطة الحقيقة التي حَصَلْتُ عليها من تعليمي في جامعة أكسفورد، أو لو ظهر شيء من تلك العقائد على الخريطة فإنّه يظهر كإشارات إلى متاحف، أي إلى أشياء اعتقد بها الجنس البشري في عهد طفولته (قبل أن ينضج)، ثمّ عندما بلغت البشرية سنّ الرشد، لم يَعُد الناس يؤمنون بها (صاروا ينظرون إليها كآثار الأسلاف كما ينظرون لآثار القدماء في المتاحف)” !!

 إنّ الغرض من هذه الحكاية ومن الصورة التي سبقتها: أن نستحضر في أذهاننا حقيقة أن العلم “في عملية إمطارنا بالمنافع المادية والمعرفة الهائلة بالكون المادي الطبيعي “محا وأزال الأمور الفائقة على المادة، من خريطتنا للحقيقة”

عندما ينكر العلماء –الماديون المقتنعون بالمادية- وجود أيّ شيء سوى الأشياء التي يمكنهم أن يُشغّلوا أدواتهم العلمية عليها، يجب أن يُوضّحوا أنّهم إنّما يُعبّرون في هذا الأمر عن آرائهم الشخصية كأيّ شخص آخر، ولا يدّعون حجية العلم في رأيهم هذا. ومن جهة أخرى، يجب على المتديّنين ألاّ يتدخّلوا في العلم طالما كان علما أصيلا لم يُنمّق ويُزخرف بالآراء الفلسفية التي هي من حقّ كل شخص.

ملاحظات وتنويهات عامة
يتألف الكتاب من جزأين وخاتمة ويتضمن كل جزءٍ عدداً من الفصول، أما الفصل الأول فيقدم تمهيداً تاريخياً متبعاً فيه المراحل التاريخية الثلاث التي أوصلتنا للمرحلة الحاضرة، ملقياً الضوء على الإنجازات والإخفاقات في كل عصر، والفصل الثاني يصف الأبعاد الروحية للعالم الذي كان يعيش فيه الناس قبل أن تحولهم القراءة الخاطئة للعلم الحديث إلى النفق المظلم وهي العبارة التي استخدمها المؤلف كاستعارة رئيسة في هذا الكتاب. وصف هذا النفق المظلم وجوانبه الأربعة يحتل الجزء الأول من الكتاب.

أما الجزء الثاني من الكتاب فينظر للمستقبل الذي رمز إليه المؤلف بالنور في آخر النفق، حيث تلامس فصوله الأولى بعض التنبؤات، ثم تستقر على مهمتها الأساسية وهي وصف ميزات ومعالم الرواية الدينية الواسعة الثابتة غير المتغيرة. والاستراتيجية المتبعة هي المعالجة الواضحة والمباشرة.

لعل مما يلفت انتباه القارئ العربي في الكتاب هو كثرة استطراد الكاتب في سرد تجاربه الشخصية لأجل توضيح أفكاره ونتائجه التي يُريد الوصول إليها ممّا يجعل الفهم سهلا في بعض الأحيان و مستعصيا في أخرى.

يقوم الكتاب على منهج الاستعانة بالكتب في معظم الفصول والمباحث التي ألّفها؛ فيختار لكل فصل كتابا يدعم فكرته ومن خلال مناقشته للكتاب يُوصل رأيه بسهولة ويُسر. فهو يُضفي على النص ثراءً ويعرّف القارئ بعناوين جديدة.

تحدّث الكاتب كذلك عن مساهمة الإعلام والتعليم الجامعي والقانون في تكريس النظرة المادية للعالم، فهذه الفصول من الكتاب تُعطي فكرة مجملة عمّا وصل إليه التفكير في المجتمعات الغربية حول الدين والإيمان، وهي من بين أهم الفصول الواردة في الكتاب.

في خاتمة كتابه توجّه د. سميث بانتقادات، على شكل نداء، للعلميين الذين يعتبرهم مجرّد قلّة قليلة. ذكّرهم في ذلك بعظماء بينهم أفضل منهم يحترمون الدين ويولونه أهمية. فعليهم إذا أن يحترموا الدين كما يحترم المهتمون بالدين العلم موجهًا خطابه لهم “هذه القراءة الخاطئة للعلم هي المسؤول الأوّل والرئيس عن إدخالنا في النفق –أي نفق المادية المظلم-، لأنّها تُقلّل من شأن الفن والدين والحبّ ومعظم الحياة التي نعيشها على نحوٍ مباشر عندما تنكر قدرة تلك العناصر على أن تعطينا أية بصائر، نحتاج إليها لإكمال ما يمُدّنا به العلم. هذا الموقف يُشبه أن نقول إنّ أهمّ ما في الإنسان هيكله العظمي كما يظهر على لوحة الأشعّة السينيّة !. إنّ خروجنا من النفق يتطلّب من العلم أن يُشارك في مشروع المعرفة مع سائر المناهج والطرق المعرفيّة الأخرى بدرجة متساوية لا سيما مشاركته منهج المعرفة الذي يتّبعه “طالبو الله”.


[1]  الكتاب من ترجمة د. سعد رستم وقد ترجمه ترجمة رفيعة وأثراه بإضافة الهوامش والتعليقات الجانبية التي تسهّل على القارئ العربي عملية الاستيعاب والتعرّف على أسماء جديدة، وقد نشرت الكتاب دار الجسور الثقافية، سوريا.ط1، 2005.

[2]  جوليان هوكسلي(1887-1975) عالم أحياء بريطاني اشتهر بإيضاحه المفاهيم العلمية لعامة الناس، متخرّج من جامعة اكسفورد.

[3]   د.هوستن سميث: مصدر سابق، ص103.

الدين بين الضرورة والوراثة (2)

عندما ندرك الحدّ الذي وصلت إليه البشرية في الظمأ إلى هذا الدين ونُقارنه بتأثيراتنا السلبية التي تحول دون انتشار الإسلام في أرجاء المعمورة بالسرعة التي كان عليها الانتشار في عصور الازدهار حينها نلمس أهمية التفريق بين الإيمان الضروري والتقليدي.

لاشكّ أنّ هناك الكثير من الوقائع السلبية والأفكار التي لا تلائم الإسلام في تاريخنا، لكننا عندما نتأمّل هذه الأسباب نجد أن جُلّها منغرس في عمق التوارث الجامد فتنتقل هذه السلبيات والأفكار المنحرفة بانتقال التدين ذاته من الآباء إلى الأبناء دون وعي أو بحث عن حقيقة الدين وروحه.

إن كثيرًا من الناس مسلمون بالهوية، أو هم كذلك لأنهم ولدوا لأبوين مسلمين، وهؤلاء وأولئك لا يدركون -في الحقيقة- معنى انتمائهم للإسلام، ولا يعرفون مستلزمات هذا الانتماء، ولذا فإنهم في وادٍ والإسلام في وادٍ غيره[1].

سلبيات توارث الدين
الوارث لدينه لا يصمد ذاتيًّا أمام التيارات المتصارعة في العالم، بما أن الأساس الذي بنى عليه حياته هشٌّ فلا يمكن له من ثمّ مواصلة الطريق والوصول إلى برّ الأمان بسلامة واطمئنان، وهكذا تمرّ فترات عصيبة جدا في حياة الوارثين لدينهم فمنهم من يُكابد المخاطر ويُجرّب الكثير من الطرق إلى أن يعود إلى دينه من جديد بعزيمة أشدّ وباقتناع أرسخ أنّه هو الحق المبين ويتحوّل إلى خادم وحامٍ له بكل ما أوتي من عزم وقوة، والأمثلة على ذلك كثيرة يمكن أن نكتشفها فيمن حولنا وحتى عندما نقرأ السير الفكرية لعلمائنا، إلا أن أسوأ ما في الأمر: هو أنّ بعض الوارثين أيضًا لا يصمدون أمام سهام الشبهات وزعزعة الأفكار فيرتدون عن الدين إلى غير رجعة، وهنا تكمن خطورة الموضوع.

إن الإسلام ليس علامةً تجاريّة مباحة يمنح اسمه مجاناً لكل الناس، فكما أنّ أيّ حزب لا يقبل الأفراد في عداده دون أن يعملوا بمبادئه ويروجوا لأفكاره، فكذلك الإسلام لا يصح إطلاقه على شخص لا تظهر أعماله مطابقة لتعاليمه[2]، “فكم من حضارة في العالم ماتت لأنّها تحولت إلى مراسم ورياء، وكم من ديانة انتهى أمدها وقضى الله بانقضاء أجلها لأنها تجاوزت القلوب وأضحت بين أصحابها تزويرا وانتفاعا رخيصا وأثرة ومروقا عن أمر الله”[3]، وهذا ما يوجب علينا أن نحيي الدين في قلوبنا في كل وقت وحين.

من مظاهر الوراثة السلبية للدين أيضاً: عدم تكليف النفس عناء البحث عن المعلومات بدقة من قبل المسلم، وبالتالي فإن فريضة إيصال رسالة الإسلام إلى غير المسلمين تكون مشوهة وذا تأثيرٍ باهتٍ أحيانًا ومضلّلاً لهم في كثير من الأحيان، لذلك فـإنه “لاشك أن توثيق المصادر قد يستغرق جهدا إضافيا لدى المسلم ولكنه أساسي إذا كان المرء يريد أن يُقدّم صورة دقيقة محكمة عن الإسلام، كما أنّ ذلك من شأنه أن يساعد المستمعين في أن يبقوا فوق الشبهات وفوق مستوى المواضيع الثانوية التي قد تكون مثيرة للجدل من جهة، ومن جهة أخرى يتيح لهم اكتساب فهم أفضل وأشمل لرسالة الإسلام”[4] فهذه التصرفات وغيرها ليست مضرة فقط على المسلم نفسه بعدم الاستفادة من روح الإسلام الحقيقي بل تتعدّى ذلك إلى كونها عالة ومعوّقا كبيرا في مسار دعوة غير المسلمين إلى الإسلام.

لنختر الإسلام عن علم وباقتناع
“إنّ العقيدة الدينية فطرة في النفس الإنسانية، وهي الملاذ الوحيد الذي يعتصم به في الملمات، هذه العقيدة جديرة بأن تأخذ حظًّا وافيًا من البحث والدراسة وأن تكون مبنية على الاقتناع في هدي من العقل الباحث المتحرر”[5]

فلا يمكن أن نتصوّر لأيّ دين أن يُمثّله أتباعه أحسنَ تمثيل إذا لم يفقهوه، بل يمكن في كثير من الأحيان أن يكونوا عالة عليه ومصدر صدّ للناس عنه بسبب تصرفاتهم المناقضة له، ولهذا فإنه ليكون المرء مسلما بحق فإن أوّلا وقبل كل شيء: أن يتشبّع عقله بمعاني الإسلام السامية ومقاصده العليا وأهدافه النبيلة، وأن يتحرّى الصدق ويتبعه ليكون دليلا عليه، وأن يكون أبعد ما يكون عن براثن الشك والظن في العقيدة.

إن العمل يأتي بعد اليقين الذي يعكس صورة الإيمان في القلب والذي يُعتبر رسالة أبلغ من الكلمات فـ”الإسلام معرفة بالحقيقة الواحدة وقيام بحقوقها، وإنّما ترجح كفة المسلم بالإيمان والعمل جميعا، ولا بدّ –لكي تُشفى الأمة الإسلامية من هذا الطيش- أن يتعلّم كل مسلم دينه على الوجه الصحيح، فيعلم أنّ الإيمان لا ينفك عن العمل وأنّ الظفر بخير الله في الدنيا والآخرة لا يأتي جُزافا، بل هو وفق ذلك الناموس الخالد: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”[6].

إن على المسلم أن يضيء كل بقعة من الأرض حلّ بها بما يمتلكه بين جنبيه من نور الله، وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة. حيث إنه لا يكفي أن يكون المسلم مسلماً وحده دونما اهتمام بمن حوله، ذلك لأن من الآثار التي يبعثها الإسلام ويسكبها في النفس البشرية –إن هي آمنت وأحسنت– الاهتمام بالآخرين ودعوتهم والنصح لهم والغيرة عليهم”[7]

الابتعاد عن توارث الدين بين الضرورة والواقع
نؤمن أنّ قيام الجيل المسلم الحالي بهذه العملية يُعتبر عملًا شاقا لكنّه ضروري وواجب على كلّ فرد أراد أن يكون تجسيدا لتعاليم الإسلام. وهذا هو المخرج الأهم من التديّن التقليدي الوراثي، فعلينا أن نُحسّ بمسؤولية كوننا مسلمين نحمل هذا الدين واسمه.

إننا إن تهاونّا بالقيام بهذا الواجب وكنّا نُسَخا طبق الأصل لآبائنا وأجدادنا نُردد كلمات ونقوم بحركات لا نفقه كُنهها فإنّ ذلك يُوشك أن يكون خطرا علينا: فمن جهة نكون أكثر عرضة للشك في معتقداتنا لأدنى تغيّر نراه وبذلك نكون في بداية الطريق نحو الخروج عن هذا الدين ومن جهة أخرى نكون بسلوكنا التقليدي وأجوبتنا الأقل جدوى ندعو غيرنا لترك الإسلام والتخلي عنه[8].

 إن الأفكار التي لا تجد مجالا لتطبيقها على صاحبها؛ لا تجد حسن القبول المطلوب لدى الناس مهما كانت جاذبة وضرورية للحياة، إذ إنّ الكلمات إن لم تنطلق من وُجدان القائل فمن المحال طلب استقرار فِكر لم يستقر بعد في وُجدان صاحبه، وفي هذا يقول سيد قطب رحمه الله: “إنّ هذا القرآن ينبغي وأن يُقرأ وأن يُتلقى من أجيال الأمّة المسلمة بوعي. وينبغي أن يُتدبّر على أنّه توجيهات حية تتنزل اليوم لتُعالج مسائل اليوم، ولتنير الطريق إلى المستقبل، لا على أنّه مُجرّد كلام جميل يُرتّل أو على أنّه سِجلّ لحقيقة مضت ولن تعود. ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأه لنلتمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة في يومنا وفي غدنا، كما كانت الجماعة الإسلامية الأولى تتلقاه”[9].

مراد هوفمان

مراد هوفمان

ويقول مراد هوفمان في هذا الصدد أيضاً: “أعتقد أن التجديد يأتي بأن تعيد الأجيال الجديدة قراءة القرآن باستمرار وتسعى دائما لتطبيقه على ما يستجد من أمور، وأعتقد أن كل جيل جديد يأتي بعد الجيل الذي سبقه يجب أن يعيد اعتناقه للإسلام.. وهو ما يعني إعادة فهمه للإسلام ويعيد قراءته وللشاعر الألماني المعروف “جوته” حكمة يقول فيها: إنه يجب عليك الحصول على إرثك حتى تمتلكه، يعني لا يكفي أنك ترث الإسلام بل عليك أن تمتلكه وتكتسبه بجدارة”[10].

ختامًا، فإننا نأمل أن يُحدث هذا التناول المتواضع للموضوع: اهتزازًا في ضمير الإنسان المسلم يُؤدي به إلى الشعور بمسؤولية أفعاله المناقضة لدينه والتي تعوق مسار دعوة البشرية إلى الإسلام. وأن ينتج عن هذا خطوة إلى الأمام تتجاوز الآراء النمطية والسلبيّة حول الإسلام وتتجاوز الصراعات المميتة بين المسلمين وفتح أعينهم وعقولهم لإدراك أنّ هذا الواقع لابد له أن يتغيّر، وأن لا نسخّر طاقاتنا المهدرة في تلك الخصومات، بل التفكير بجدية في أمر البشرية، تفكيرًا يعود بالنفع على المسلمين أنفسهم وعلى غيرهم بالتَّبَع، وأن يؤدي هذا إلى تفكير جدي من قبل علمائنا المحترمين وتوجيه طاقاتهم وجهودهم إلى ما ينفع المسلمين كافة والقيام بتنقية موضوعية، بكل روح مخلصة، لما شاب فهم الإسلام من أغلال، فإذا تحقق هذا بتوفيق من الله وبعزم وحزم من طرفنا، حينها سنكون قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح وتسلّمنا مشعل الحضارة من جديد بإذن الله وما ذلك على الله بعزيز.


الهوامش:

[1]  فتحي يكن: “ماذا يعني انتمائي للإسلام” ص2.(نسخة الكترونية)

[2]  عفيف طبارة: “روح الدين الإسلامي” ط7/ 1966. ص15.

[3]  محمد الغزالي، “الإسلام والطاقات المعطلة”، دار الزيتونة، الجزائر، 1987، ص124.

[4]  جيفري لانغ، “حتى الملائكة تسأل”، تر: منذر العبسي، دار الفكر، سوريا ط2/ 2006، ص 319.

[5]  عفيف طبارة: مرجع سابق، ص 14.

[6]  محمد الغزالي: مرجع سابق، ص125.

[7]  فتحي يكن: مرجع سابق، ص15.

[8]  للتوسع في هذه القضية أكثر، ينظر كتاب د. جيفري لانغ: “ضياع ديني، صرخة المسلمين في الغرب.”

[9]  سيد قطب: “في ظلال القرآن” ج1 ص261.

[10]  “مراد هوفمان: تجديد الإسلام سيأتي من الغرب” http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&pagename=Zone-Arabic-ArtCulture%2FACALayout&cid=1179664545974

مرجعية الأخلاق بين الفردانيّة والدين

من البدهيّ أن يكون للإنسان مرجعيّة يستمدّ منها مفاهيمه ويَبني من خلالها تصوّراته التّي تنبثق منها سُلوكيّاته، وبها يُصدر أحكامًا ومواقف حول الأحداث التّي تعترضُه، ومن الطبيعي أن اختلاف المرجعيّات يُنتج مفاهيم مُتباينة ومُتناقضة، وسينعكس ذلك على سُلُوكيّاتنا داخل مُجتمعاتنا.

في ظلّ واقعنا الذّي يَشْهد موجةً مُتسارعة للتّحديث الهادف لطمس الهويّة الإسلاميّة واجتثاثها من نُفوس المُنتمين إليها، فإنّنا نُلاحظ تكوّن تيّارٍ اجتماعيّ يجعلُ الغرب مرجعيّته في الحياة، ممّا إنعكس ذلك على مُختلف جوانب حياتنا اليوميّة. ولعلّ من أبرز هذه الانعكاسات هو التغيّرات التي طرأت على مفهوم الأخلاق، ومن هنا أصبح هنالك تساؤل جديد فيما بيننا حول مرجعيّة الأخلاق: هل هي الدّين وفق المنهج الإسلامي أم هي العقل وفق منهج الفردانيّة والتمركز حول الذات؟

مرجعية الأخلاق، بحثٌ عن الجواب
يُجيبنا عن هذا التّساؤل الدّكتور عبد الوهّاب المسيري فيقول:” كيف يُمكن للعقل في إطار العقلانيّة الماديّة أن يفرّق بين ما هو أخلاقي وبين ما هو غير أخلاقي؟ فالعقل إذا كانت مرجعيّته النهائية الطبيعة، أي المادة، وهو قادر على اكتشاف مبدأ السببيّة العامّة في الأشياء والدوافع الغريزيّة في الإنسان، التّي تؤكّد الحتميّات الماديّة الخارجيّة، وتنكر ضمنًا استقلاليّة الإنسان وحركته، علمًا بأنّ العقل المادي المحض يوجد داخل حيّز الماديّة فحسب، وقد وصفه أحد المُفكّرين بأنّه لا يشع نورًا، وإنّما هو موصل جيّد للنور أو الظّلام”(1) فإن العقل المادّي ههنا سيبقى وحده عاجزًا عن أن يصل للمفهوم الصّحيح للأخلاق، بل قد يجعل من الباطل والظُلم خُلُقًا يُدافع عنه!

ولنضرب مثالاً قريبًا على ذلك، فعندما بلغ انتشار فيروس كورونا ذروته وتدَهور الوضع الاقتصادي العالمي، قرّرت الحكومة الأمريكيّة -استنادًا إلى العقل الاقتصادي- التخلّي عن الكبار في السنّ وذوي الاحتياجات الخاصّة لأنّهم لا يُمثّلون قوّة إنتاجيّة في المجتمع وفي المُقابل منح الأوليّة في الرّعاية الصحيّة لباقي أفراد المُجتمع بسبب التّكلفة الباهظة للمُعدّات الصّحيّة، إذ إن العقل المادي المُحايد لا يُحابي أحدًا، فهو لا يرى إلاّ مصلحته الآنية الضيّقة المُستندة على الأرقام والإحصائيّات ولو كان ذلك على حساب المصلحة العامّة.

إن الخلاصة من هذا كلّه أنّ الدّفع بالأخلاق عن كلّ مرجعيّة دينيّة هو دفعٌ بها نحو أخلاق الجاهليّة العمياء.

 ولنا أن نتساءل هنا: كيف وصل الغرب إلى مفهوم “الأخلاقي” وما هي مرجعيّته في ذلك؟ وكيف انعكس هذا المفهوم على مُجتمعاتنا المُسلمة وما هي حقيقة نظرة الإسلام للأخلاق؟

فلسفة الأخلاق في الغرب
كان مصدر الأخلاق في أوروبا هو الدّين المتمثّل في الدّيانة المسيحيّة التّي تعرضت لتحريف حقائقها فكانت النّتيجة الحتميّة الابتعاد عن المفهوم الصّحيح للأخلاق لأنّها قرينة للعقيدة ومُنبثقة منها، وعندما احتكّ الغرب فترة الحروب الصّليبيّة بالمُسلمين ودخلوا بُلدانًا إسلاميّة ومكثوا فيها، استفادوا من الأخلاق الإسلاميّة فقد لاحظوا سلوكيات أخلاقية متعددة لديهم كالأمانة عندما يترك التجّار دكاكينهم للصّلاة مفتوحة ثمّ يعودون إليها ولم ينقص منها شيء، ولاحظوا أخلاق الأخوّة والتّعاون والمحبّة والرّحمة بين أفراد المُجتمع الواحد، إضافة إلى إتقان ونشاط واجتهاد العامل المُسلم في عمله، وتعلّموا أيضًا معنى الوفاء بالعهد خاصّة في تعامُلهم مع صلاح الدّين الأيّوبي، و لنضف إلى ذلك كلّه الرّوح الرّومانيّة القديمة التي كانت تتميّز بالنّشاط و النّظام و التّحسين في عالم المادة و الإنتاج، و من هذا المُنطلق الدّيني و الرّوماني تكوّنت مجموعة من الفضائل والأخلاق الكريمة في الغرب بقيت مُنتشرة بينهم لأنّهم لاحظوا منفعتها داخل مُجتمعاتهم ومدى أهمّيتها في تنظيم حياتهم. ولا ننسى أيضًا تأثير الفلسفة اليونانيّة على حصيلة الأخلاق الأروبيّة حيث أصبحت قائمة على التّفرقة بين النّظريّة والتّطبيق، فتحوّلت الأخلاق إلى نظريّة في عالم المُثل وبقي الالتزام بها وتطبيقها مُرتبطًا بالظّروف و محكومًا بالضّرورات.

ففي السياسة أصبحت القاعدة العامّة “الوسيلة تُبرّرُ الغاية” وأصبح هنالك نوع من المكر والخداع واستغلال النّفوذ من أجل تحقيق مصالح حزبيّة أو شخصيّة ضيّقة، وتحوّلت السياسة الخارجيّة إلى فكر استعماري هدفه السيطرة على الدّول الأخرى واستنزاف خيراتها عن طريق الحروب المُدمّرة ومُساندة المُستبدّين والظّالمين حفاظًا على مصالحهم. فعلى سبيل المثال تمّ عقد اتّفاقيّة سريّة سنة 1916 بين فرنسا و بريطانيا و روسيا عُرفت باسم اتّفاقيّة “سايكس بيكو” هدفها إقتسام الدّول العربيّة الواقعة شرقي المتوسّط، و تمّ الاتّفاق على أن تقوم فرنسا بالاستلاء على غرب سوريا و لبنان و ولاية أضنة، و أن تقوم بريطانيا بالاستيلاء على منطقة جنوب و أواسط العراق بما فيها مدينة بغداد و كذلك ميناء عكا و حيفا في فلسطين، و أمّا روسيا فمن حقّها الدّفاع عن مصالح الأرثوذكس بالأماكن المُقدّسة بفلسطين. و من الأمثلة أيضًا السياسة الخارجيّة التّي تنتهجها الإدارة الأمريكيّة في تعاملها مع عالمنا العربي الإسلامي، حيث أصدر “مركز القرن الأمريكي الجديد” بحثًا جديدًا بعنوان “التّكيّف الإستراتيجي” وردت فيه التوصيّات التّالية التّي تعتمدها أمريكا: أ- حماية أمن حلفاء أمريكا و رعاية السّلام العربي الإسرائيلي، ب- نشر القيم الأمريكيّة و أسلوب الحياة الأمريكية، ت-محاربة الإرهاب، ث- الوصول الآمن للنّفط، ج-دعم الأنظمة العربيّة المُستقرّة و لو كانت ديكتاتوريّة، ح- التّمييز بين الأفراد و الحركات المعادية للقيم الأمريكيّة و بين من يقبلونها (2).

سيغموند فرويد

وفي الاقتصاد قامت الرّأسماليّة على الرّبا والاستئثار بالثّروات وعلى الجشع والأنانيّة ونهب المواد الخام من الشّرق من أجل الرّبح المادي مع الحرص على  إغراق أصحاب هذه المواد في الفقر والتخلّف والجهل  مع تصدير لهم المفاسد والملذّات وأدوات الزّينة والملابس من أجل تحقيق الرّبح المادّي، وفي الجنس أصبح هنالك انفصال عن الأخلاق أساسه التّفسير الحيواني للإنسان ولا غرابة من أن نجد الفيلسوف فرويد يقول:” إنّ الإنسان لا يُحقّق ذاته بغير الإشباع الجنسي وكلّ قيد من دين أو أخلاق أو مُجتمع أو تقاليد هو قيد باطل ومدمّر لطاقة الإنسان وهو كبت غير مشروع”(3).

وبذلك أصبح الجنس عمليّة بيولوجيّة لا علاقة لها بالأخلاق، ولا ننسى أيضًا المثليّة الجنسيّة حيث أصبحنا نشاهد في الغرب مراسيم زواج بين طرفين من نفس الجنس باسم الحرّية الزّائفة. وقد وقع هذا التحوّل الأخلاقي تدريجيًّا ولم يبق من الأخلاق إلاّ فضائل محدودة في التّعامُلات اليوميّة، والسؤال المطروح هنا كيف انعكس ذلك على مُجتمعاتنا المُسلمة؟!

الأخلاق الغربية، انعكاسات وآثار
بسبب انبهار المسلمين بالتقدّم العلمي والمادي في الغرب، وظن كثيرٍ من المؤثرين فيهم بأن سبيلنا للنّهوض هو التّقليد الأعمى للغرب، فقد صار المسلمون يقلّدونهم في كلّ شيء، إلاّ في تطبيق شروط التقدّم والتّطوير العلمي! فقد أصبحنا نشهد انفصالاً بين الإسلام والواقع، ففي السّياسة أصبحت الفكرة السّائدة إذا أردت مُمارسة السّياسة فعليك ترك القيم والمبادئ الأخلاقيّة واستبدالها بالنّفاق والكذب والخداع والغشّ، وأصبح الحُكم عندنا غاية هدفُها تلبية غريزة السّلطة في نُفوسنا وتحوّلت السّياسة إلى سبيل لخدمة المصالح الذّاتيّة وبيع الذّمَم كالقبول بالذلّ وخدمة المصالح الغربيّة وبيع الوطن من أجل البقاء في الحكم، وفي الاقتصاد أصبح همّنا الرّبح المادّي وتحقيق الثّراء الفاحش حتّى عن طريق السّرقة من المال العام والظّلم والسّلب والاحتيال والرّشوة والتّعامُل بالرّبا ولم يعُد هنالك وزنٌ لكلمة “المال الحرام”، وفي الجنس انتشرت بيننا الميوعة، وبات يُطلق اليوم على الزّنا “علاقة حبّ” وأصبحت الزّانيات يُطلق عليهنّ ” الأمّهات العازبات” وأصبح التعرّي دليل على الرّقيّ والثقافة وأصبح الشّذوذ حريّة وجب القبول بها. ورغم هذا الفساد الأخلاقي مازال منّا من يقول أنّ للغرب فضائل مثل الصدق والأمانة والعدل والإتقان والجودة في العمل ولو التزمنا بها سنُصبح مثلهم، ولكنّنا تناسينا أنّ هذه الفضائل نفسها لا يخلوا منها مُجتمع، حتّى في الجاهليّة حيث كان العرب يتّسمون بالشجاعة والصّدق والكرم، وفي المُقابل كان الظلم والفساد والكُفر مُنتشراً بينهم، وما حافظ الغرب على هذه الفضائل إلاّ في حدود القوميّة والمنفعة من أجل استقرار مُجتمعاتهم وحُسن تنظيمها، وأمّا خارجها وعند تعارض المصلحة فلن تكون لهذه الأخلاق قيمة وخير مثال على ذلك الإساءة التّي حصلت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في فرنسا، فمن الأخلاق احترام الآخرين وخاصّة الأنبياء، وعدم السّخرية منهم وترويج الأكاذيب حولهم، ولكنّهم في المُقابل يُعاقبون من يسخر من مسؤول حكومي عندهم لأنّه قد يتسبّب ذلك في عدم الاستقرار وتفقد حكومتهم هيبتها داخل مُجتمعهم!

علم قوس قزح لتأييد حقوق المثليين والشواذ

 

مفهوم الأخلاق في الإسلام
إنّ المُسلم الذي يلتزم بالأخلاق الفاضلة إنما يطيع الله ويسعى لنشرها في واقع النّاس وتطبيقها، وسعيُه هذا عبوديّة لله، فالأصل أنه لا وجود لانفصال بين الإسلام والواقع عملاً بقوله تعالى:” قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ”(4).

ففي السياسة نرى أن كلّ مسؤول مُطالب بتحقيق العدل والإصلاح ومُحاربة الفساد مُلتزمًا في ذلك بالمنهج الإسلامي عملاً بالقاعدة التّي أرساها الخليفة عمر بن عبد العزيز حيث قال له والي خراسان إنّ شعبها لن يُصلحه إلاّ السيف والسّوط، فكان جواب عمر له: ” كذبت، بل يُصلحهم العدل والحقّ فابسط ذلك فيهم واعلم أن الله لا يُصلح عمل المُفسدين”(5).

وفي الاقتصاد نرى أن كلّ مُسلم مُطالب بمُقاطعة المال الحرام والالتزام بالصّدق والأمانة وحُسن الأداء عملاً بقوله صلّي الله عليه وسلّم:” التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ”(6)، وفي العلاقة بين الجنسين فإننا مُطالبون بالعفّة ونقاوة السّريرة وبغضّ البصر والسّتر والحياء في القول والفعل وفي اللّباس عملاً بقوله تعالى:” قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ” (7).

إن أخلاق الإسلام واضحة وعلينا أن نكون مُخلصين فيها لله وحده وما تشهده مُجتمعاتنا من أزمة القيم والمبادئ هو بسبب تخلُّفنا نحن عن ديننا وبداية الإصلاح تكون بتصحيح المفاهيم وبمُجاهدة النّفس على الالتزام بمنهج الإسلام.


الهوامش:

(1): حوار حول التّراث والحداثة، د. نعمان عبد الرزاق السامرائي، سلسلة كتاب الأمة، الطبعة الأولى، 2015، ص: 80.

(2): المسلمون و الحضارة الغربية، د. سفر عبد الرحمن الحوالى، الطبعة التمهديّة،2018، ص: 38.

(3): جاهليّة القرن العشرين، محمد قطب، دار الشروق للنشر، 1993، ص: 175.

(4): سورة الأنعام، الآية 162-163.

(5): الدولة في الإسلام، خالد محمد خالد، دار ثابت للنشر، الطبعة الأولى، 1981، ص: 109.

(6): تحفة الأحوذي، كتاب البيوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في التجار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، الحديث رقم: 1209، ج4- ص” 335.

(7): سورة النور الآية 30-31.

 

  

  

هل لنوعية لباس المرأة علاقة بالتحرّش الجنسي؟

عادةً ما يُعتبر الحديث عن موضوع التحرّش وعلاقته باللباس من أكثر الموضوعات الشائكة التي يمكن أن يتحدث عنها أي رجل. لأن الكثير من النساء يعتبرنّ أن الرجال يحملون ضدهنّ تحيّزات معينة مسبقة، حتى وإن كان هؤلاء الرجال يتحدثون بإنصاف حول الأمر. يعود هذا لما فعلته الحركات النسوية وخاصة الراديكالية منها خلال عقود من نشاطها المتواصل تحريضاً للنساء عبر الحركات التي دعت إلى تحرير المرأة والثورة على المجتمع الأبوي الذكوري. وهذا المقال ليس انتصاراً للرجال على النساء ولا تأييداً للقيم الذكورية على حساب قيم الأنوثة؛ فالاختلافات والتفضيلات المقررة بين الجنسين في شريعة الإسلام مبنية على أساس ما يملك كل جنس من خاصيات ومزايا تؤهله للقيام بدوره في هذه الحياة وليس من باب أن الإسلام دين ذكوري كما روّجت لهذا الحركات النسوية والعلمانية.

(It is about understanding not justification) فهماً لا تبريراً 
عندما يتم دراسة أي ظاهرة اجتماعية ومعرفة سياقاتها وأسبابها، فهذا الأمر يهدف لفهم الأمر وأبعاده وليس لإيجاد المبررات له. فعندما يدرس باحث غربيٌ أو عربيٌ ظاهرة نشوء تنظيم الدولة وأسباب انضمام بعض الشباب له، ويحاول فهم الأوضاع الاجتماعية والنفسية للمنضمين؛ فهذا ليس بالضرورة تبريراً للظاهرة وموافقةً ضمنية على ما يحدث. نفس الأمر لو أخذنا مثالاً آخر وهو موضوع الأحياء الفقيرة أو ما يسمى الغيتوهات المنغلقة على نفسها في المدن الكبيرة مثل أمريكا مثلاً والتي تتجمع فيها أقليات عرقية معينة، ففي هذه الأحياء تكثر نسبة اتجاه الأفراد نحو سلوك الجريمة المنظّمة كالاتجار بالمخدرات وغيرها. فعندما تتم دراسة الأوضاع الاجتماعية لهذه الأحياء وأفرادها فالهدف ليس تبرير سلوك الإجرام والحث عليه. ومن هنا فعندما يتم الربط بين نوعية لباس المرأة وازدياد نسب التحرّش والعنف الجنسي فالهدف ليس تبريراً للمتحرِّش فهو مدانٌ بفعلته في الشريعة الإسلامية وعقوبته التعزير الذي يقرره القاضي الشرعي.

ويبدو في هذا الأمر أن هناك طرفان يحاولان دائماً جعل من يبحث في أسباب التحرش شخصاً مبرراً له وهما: الطرف الأول وهم من يحكمون على الأمر بشكل عاطفي دون أي محاكمة عقلية أو منطقية، وأما الطرف الثاني فهم المأخوذون بسلطة الثقافة العلمانية والليبرالية السائدة في العالم.

ففي الليبرالية يحق للمرأة أن تلبس ما تريد وأن تخرج شبه عارية ولا يحق لأحدٍ التحرّش بها، أما في الإسلام فهذا الكلام مرفوض في جزئه الأول تماماً وكما هو معروف فتبرّج المرأة حرام كما تحرّش الرجل بها حرام وهذا ما لا يرضي أصحاب الفكر الليبرالي وأتباعه.

هل للباس المرأة علاقة بالتحرش؟
1- في دراسة قام بها عدد من الباحثين بعنوان “The Influence of Sex, Gender Bias, and Dress Style on Attitudes Toward Sexual Harassment” أي “تأثير الجنس، التحيّزات النوعية ونوعية اللباس على المواقف تجاه التحرّش الجنسي” جرت بالتعاون بين جامعة بيبردين وجامعة ميسوري تمّ تصنيف العوامل المؤدية للتحرش إلى قسمين: الأول وهي عوامل خارجية “External factors” مثل نوعية اللباس وتأثير الكحول على المُتحرِّش، والثاني هو عوامل داخلية “Internal factors” مثل التحيّزات النوعية أي تحيّز الرجل لذكورته ضد النساء. ما يهمنا هنا هو التحيزات الخارجية وبالأخص نوعية لباس المرأة وتوصلت الدراسة إلى أن تصورات الرجال تتأثر جداً في موضوع التحرّش الجنسي باللباس المثير للمرأة. بينما النساء أقل احتمالاً منهم للموافقة على عدم وجود عقوبات على المتحرِّش في حال كان لباس المُتحَرش بها مثيراً. [1]

2- في مقال بعنوان ” From Attire to Assault: Clothing,Objectification, and De-humanization – A Possible Prelude to Sexual Violence?”  أي “من الكسوة إلى الاعتداء: اللباس، التشييء ونزع الطابع الإنساني -أمقدمةٌ ممكنة للعنف الجنسي؟” يستعرض الدكتور بوفانش أوستاهي ما يقوله علم الأعصاب حول موضوع اللباس وعلاقته بالتحرّش. حيث يجعل الموضوع في سياق معين يبدأ بما تقوم به وسائل الإعلام من عملية تشييء “Objectification” لجسد المرأة ووضع صور نمطية معينة لنوعية اللباس تنتقل هذه الصور النمطية إلى أدمغة الرجال فتصبح نظرتهم للنساء كأشياء “objects”. ومما أشار له المقال أيضاً أن العُري والصور المثيرة لأجساد النساء تجعل الدماغ يُحول آلياته المعرفية بحيث ينظر للمرأة كشيء وليس كإنسان. [2]

3-في مقال هام بعنوان ” Dress and sex: a review of empirical research involving human participants and published in refereed journals” أي “اللباس والجنس: مراجعة للأبحاث الإمبريقية والتي تضمنت مشاركين بشر ونُشرت في مجلات مُحكّمة” استعرض المقال العديد من الأبحاث التي تحدثت عن علاقة اللباس بالتحرش الجنسي والتشيئ “Objectification” وجميعها أشارت لعلاقة بين نوعية اللباس وحصول التحرّش من وجهة نظر من جرت عليهم هذه الدراسات، فقط دراستان من بين الكثير من هذه الدراسات لم تشيرا لعلاقة بين اللباس والتحرّش. [3]

4-الدراسة الأخيرة التي سيتحدث عنها المقال هي بعنوان ” The Psycho-Social Aspect of Indecent Dressing: Influence of Gender, Dress Pattern and Physical Attractiveness on Sexual Harassment”   أي “الجانب النفسي الاجتماعي للملابس غير المحتشمة: تأثير النوع، نمط اللباس والجاذبية الجسدية على التحرّش الجنسي” أثبتت الدراسة أن الملابس غير المحتشمة تُعرّض أصحابها للتحرّش الجنسي وكشفت أن نمط اللباس يُعد عاملاً رئيساً في التحرّش. ومما توصلت له أيضاً الدراسة أمرٌ لافتٌ وهو أن الجاذبية الجسدية ”Physical attractivness” ليست عاملاً في التحرّش ونبّهت إلى النساء يجب أن يأخذنّ بعين الاعتبار أنهنّ سواء كنّ جذّابات جسدياً أو لا “physically attractive or not”  فإن لباسهنّ غير المحتشم سيجعلهنّ أكثر عُرضة للتحرّش الجنسي. [4]

أسباب أخرى
من خلال نظرة أوسع وأشمل لموضوع التحرّش فإنه توجد العديد من المسببات الأخرى له غير اللباس والتي قد تكون أكثر عمقاً وأهمية في فهم الموضوع وكثيرٌ منها منطبق على البلاد العربية خاصة. ومن أول هذه الأسباب ما تفعله وسائل الإعلام من تسليع لجسد المرأة خدمةً لأهداف اقتصادية من خلال الإعلانات مثلاً، وكذلك ما تروج له الأغاني والمسلسلات من تبرّج وعُري لإثارة الغرائز، هذا عدا عن انتشار الأفلام الإباحية وتأخير سن الزواج وغلاء المهور وضعف الجانب الديني في الإنسان بفعل علمنة المجتمعات وتعطيل شريعة الله عن الحكم؛ كل هذه العوامل وغيرها مما يستحق البحث والدراسة تُشكل الإطار العام الأشمل الذي يعطي فكرة عن أسباب وكيفية حدوث التحرّش في المجتمعات.

خاتمة
من خلال ما تقدم يمكن أن نستنتج أن الملابس هي الحلقة الأخيرة في سلسلة ممتدة من الحلقات التي تؤدي في نهايتها لحدوث التحرّش وارتفاع نسبه في الآونة الأخيرة والربط بين الملابس والتحرّش مباشرة هو أمر لا يعطي فهماً واضحاً للموضوع حيث تبقى أمور مفقودة لفهم هذه الظاهرة مع التأكيد على أن اللباس له دوره أيضاً في حدوث التحرّش. ويبقى أن يُقال أن تأكيد المؤكدات وتوضيح البديهيات من أصعب الأمور وأقربها للاستحالة لمن لم يقتنع بها فطرةً وبداهة، ذاك أن الأمر تدخل فيه العاطفة ويحكم فيه الهوى ويبتعد عن أحكام الدين والمنطق والعقل فالله سبحانه وتعالى أمر بالستر والابتعاد عن العُري والتبرّج وأن العقل والمنطق يقولان أن الرجال ينجذبون للنساء وبقدر سفور المرأة وتبرّجها يكون هذا الانجذاب أكثر ويُقرّب صاحبته من التحرش بها.

 قال سبحانه تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [الأحزاب: 36]. قال صاحب الظلال -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية الكريمة: “إنه الاستسلام المطلق ليد الله تقود خطاهم، وتصرف حركاتهم؛ وهم مطمئنون لليد التي تقودهم، شاعرون معها بالأمن والثقة واليقين، سائرون معها في بساطة ويسر ولين.” فالله سبحانه حين أمر بالستر وحرّم التبرج فهو عزّ وجل يعرف نفوس الرجال والنساء ويعرف مكنونات هذه النفوس ولم يأمر بأمرٍ إلا لحكمة ظاهرة أو باطنة قد يدركها الإنسان وقد لا يدركها. وهذا المقال حاول أن يفسّر علمياً ظاهرة علاقة نوعية اللباس بالتحرّش وتبقى حكمة وأوامر الله تعالى أعلم وأكبر والالتزام بها هو الطريق الصحيح لمنع التحرّش وغيره من الظواهر السلبية في المجتمعات.


الهوامش

  1. عبد العزيز بن سعدون العبد المنعم، أحكام التحرش الجنسي دراسة مقارنة، المملكة العربية السعودية،رسالة ماجستير; 2012
  2. Kyle P. Weber LMBaTEM. The Influence of Sex, Gender Bias, and Dress Style on Attitudes Toward Sexual Harassment. THE INTERNATIONAL HONOR SOCIETY IN PSYCHOLOGY. 2012; 17.
  3. Awasthi B. From Attire to Assault: Clothing,Objectification, and De-humanization – A Possible Prelude to Sexual Violence? Frontiers in Psychology. 2017 March; 8.
  4. Sharron J. Lennon ADAJKaKKPJ. Dress and sex: a review of empirical research involving human participants and published in refereed journals. Fashion and Textiles. 2017; 4.
  5. Haruna AAIaA. The Psycho-Social Aspect of Indecent Dressing: Influence of Gender, Dress Pattern and Physical Attractiveness on Sexual Harassment. Journal Of Humanities And Social Science. 2014 Mars; 19(3).

القرآن الكريم في الفكر الحداثي

يمثل الفكر الحداثي أحد الأفكار التي بدأت بالتأثير على الساحة العربية المعاصرة، فهو الفكر الذي أعاد دراسة التراث العربي والإسلامي على أنه مادة قابلة للدراسة الموضوعية بعيداً عن المبادئ والمقدسات الإسلامية، أو الأصول الدينية التي تنظم الحياة الفكرية للمسلمين.

وينظر الحداثيون إلى التراث الإسلامي على أنه تراث مقلوب يمشي على رأسه، ولابد من تعديله لكي يسير على قدميه، وأعلنوا عن نظريتهم المبتدعة في دراسة جديدة للتراث الإسلامي، وهم يحاولون جاهدين نزع الجانب المقدس والإلهي (اللاهوتي) في التراث الإسلامي.

وأن يُنزع التقديس من بعض الأقوال الفقهية للعلماء المسلمين قد يفهم، ومن يفعل ذلك قد يجد له سلفا من علماء الأمة الإسلامية الذين دعوا إلى التحرر من التقليد الأعمى، أما أن يسعى الحداثيون إلى نزع القدسية عن القرآن الكريم فهذا يشكل انقلاباً على المفاهيم الإسلامية، فبناءً على ذلك يكون النص القرآني كأي نص في جريدة أو مادة قانونية وضعت من قبل البشر، فلابد من تسليط الضوء على موقفهم من القرآن الكريم.

تعريف القرآن عند الحداثيين
عرف الحداثيون القرآن الكريم تعريفات متعددة، فعرفه حسن حنفي في كتابه دراسات فلسفية بأنه تجارب الأمم والشعوب على مدى التاريخ، التراكم المعرفي الإنساني الشامل المتحقق مع مراجعة العقل والفطرة وكما تبدو في الحكم والأمثال والمأثورات والآداب الشعبية [ص 103].

وعرفه كذلك في كتابه “دراسات إسلامية” بأنه “مجموعة من المواقف التي طرأت على الواقع الإسلامي الأول والتي استدعت حلولاً وكل موقف يمثل نمطاً مثالياً يمكن أن يتكرر في كل زمان ومكان” [ص 408].

وتناول حنفي القرآن الكريم ضمن مشروعه العلمي الذي وسمه بالتراث والتجديد، فكان لا يتناوله على أنه كتاب منزل من عند الله تعالى، بل على أنه تراث وتاريخ لأمة من الأمم؛ ويقصد بهذا التعريف أن الكتاب وتأويل ما جاء به من أحكام وغيرها ليست ثابتة ومستمرة بل متغيرة حسب الزمان والمكان، وتواكب التطور التشريعي الذي حصل في المجتمعات.

علي حرب

أهمية التأويل المنفلت
القضية الأساسية التي يسعى الحداثيون إلى ترسيخها في أذهان الناس أن كل شيء في النصوص القرآنية يحتمل التأويل، ومن الممكن صرفه عن ظاهره إلى المجاز، وبالتالي نستطيع أن نجعل من الإسلام ديناً مرناً نسقط الكثير من أصوله التي توارثها المسلمون عبر الأجيال، ويستطيع المسلمون من خلال التأويل في كل عصر أن يفصِّلوا إسلاماً يناسب مصالحهم.

يقول علي حرب في كتابه نقد النص: “مع أن مبرر كل مفكر جدير بلقبه أن يمارس التفكير بطريقة مغايرة للذين سبقوه إذا لم يشأ أن يكون مجرد شارح مبسط، أو تابع مقلد، أو حارس مدافع عن العقيدة والحقيقة، والتفكير بصورة مغايرة، يعني: أن نبدل وننسخ، أو نحرف ونحور، أو نزحزح ونقلب، أو ننقب ونكشف، أو نحفر ونفكك، أو نرمم ونطعِّم، أو نفسر ونؤول، فهذه وجوه للتفكير وللقراءة في النصوص لا أزعم أني أقوم بحصرها واستقصائها” [ص 133].

وعلي حرب بهذا النص يهدم كل الضوابط التي وضعها العلماء لاستنباط الأحكام أو تفسير القرآن، وبالتالي لا يوجد نص مقدس منزه عن التأويل، إذ ينظر إلى القرآن على أن التاريخ هو من أسبغ عليه صفة القدسية، لا تنزيله من قبل الله تعالى.

ووضح الحداثيون أنه من خلال التأويل يتم اختراق النص بأفق اجتهادي تجديدي، ومن خلاله نقيم التوازن بين القرآن وبين الواقع المتغير.

وقد استدل نصر حامد أبو زيد على ضرورة التأويل في كتابه “[مفهوم النص، ص 256] وجعله أصلاً، أنه مرادف للتفسير، وأن من السلف من استعملهما بذات المعنى، فالنص القرآني عنده وعند غيره من الحداثيين لا يمكن أن يحتمل معنى واحداً فقط، فهذا النص الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً لا وجود له في الأرض، وقد يكون موجوداً في السماء، فكل نص قابل للتأويل إلى أكثر من معنى، وفق فهم القارئ له.

محمد أركون

أنسنة القرآن ونزع قدسيته
صرح الحداثيون بأن الحديث عن القرآن الكريم وعن غيره من النصوص متساو، فلا استثناء للقرآن، ولا قدسية للنص القرآني، وقد بنوا على ذلك أنه لا توجد لألفاظ القرآن الكريم معان ثابتة، ولا دلالات ذاتية من الممكن الكشف عنها من خلال اللغة واحتمالاتها، بل التاريخ والواقع الاجتماعي هما من يكشف عن معنى النص، فالنص في نظرهم عبارة عن فضاء دلالي، وإمكان تأويلي، ومأزق القراءة في العقل العربي والإسلامي مرجعه إلى النظرة الأحادية لمعنى ألفاظ القرآن الكريم، فلا حقيقة ثابتة للنص، وبالتالي دراسة القرآن الكريم لابد أن تكون إنسانية تاريخية لا إلهية مقدسة (!)، وما دام النص القرآني إنساني فلا يجوز لإنسان احتكار المعنى الحق أو الصواب، فلكلٍ صوابه وحقه، وهذا ما يعني ضياع المعنى بين المؤولين أياً كانوا!

يقول محمد أركون في كتابه “القرآن من التفسير” إن “التقديس للكتب المقدسة خلع عليها وأسدل بواسطة عدد من الشعائر والطقوس والتلاعبات الفكرية الاستدلالية، ومناهج التفسير المتعلقة بكثير من الظروف المحسوسة المعروفة أو تمكن معرفتها، وأقصد الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية” [ص 26].

وهو لا يستثني القرآن من هذا الكلام، بل يعممه على جميع الكتب المقدسة، إلا أنه يستثنيه في قضية فرعية، وهي أن أسباب تقديس القرآن غطت عليها الظروف السياسية والثقافية والتربوية، بحيث لم تكتشف بعد، ولم يحرف، أو يتلاعب بألفاظه، أو معانيه، على عكس الكتب المقدسة الأخرى، فالنص القرآني قدسيته تاريخية لا إلهية!

نقد النظرة الحداثية
لا شك أن الحداثيين يخالفون جمهور المسلمين وعلماءهم الذين يرون القرآن الكريم كلام الله تعالى المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعجز بنفسه، والمتعبد بتلاوته، المبدوء بالفاتحة والمختوم بسورة الناس، وأنه نص مقدس لا يجوز التعدي عليه بزيادة أو نقصان أبداً.

وما زال علماء الأمة يركزون على قدسية النص القرآني، ويفهمونه ضمن الضوابط التي وضعها علماء التفسير واللغة، فتفسير الحداثيين للقرآن الكريم يؤصل للتفسير الباطني والمنحرف، والذي يؤدي بدوره إلى ضياع الأحكام الشرعية، حيث يتم تفسيرها تفسيرات بعيدة عن حقيقتها المرادة، فمثل هذه التفاسير هي التي جرأت الفرق الباطنية كالإسماعيلية والدرزية والقاديانية لتحريف معاني القرآن وصرفها عن حقيقتها.

قال المفسر أبو حيان في مقدمته لتفسيره (1/104) مبيناً منهجه المتبع: “وتركتُ أقوال الملحدين الباطنية، المخرجين الألفاظ العربية عن مدلولاتها في اللغة، إلى هذيان افتروه على الله، وعلى علىٍّ كرَّم الله تعالى وجهه، وعلى ذُرِّيته، ويسمونه علم التأويل”.

وقد بين محمد حسين الذهبي في كتابه التفسير والمفسرون (4/49) خطأ هذا المنهج الذي اتبعه الحداثيون اليوم، واتبعه قبله الفرق الباطنية حيث قال: “ومن هنا بدأ الخروج عن دائرة الرأي المحمود إلى دائرة الرأي المذموم، واستفحل الأمر إلى حد جعل القوم يتسعون في حماية عقائدهم، والترويج لمذاهبهم، بما أخرجوه للناس من تفاسير حملوا فيها كلام الله على وفق أهوائهم، ومقتضى نزعاتهم ونحلهم”.

وفي كلام الحداثيين المنقول مغالطة كبيرة وفهم أعوج، فالتفسير وفي مقابله التأويل لهما ضوابط فصلت في كتب علوم القرآن والتفسير، ولا يجوز لأي قارئ ان يطرح رأيه ويفسر القرآن الكريم على هواه، ولذلك نجد الكثير من العلماء اتبعوا التفسير بالمأثور، ففسروا النص بالنص، ومن عمد إلى التفسير بالرأي فإنه فسره وفق الضوابط والرؤية الإسلامية للنص، ووفق مقاصد الشرع وحدوده، فتأويل الإسلام ينبغي أن يكون تأويلاً منضبطاً لا تأويلاً منفلتاً فوضوياً.


المراجع والمصادر

مفهوم النص، نصر حامد أبو زيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993م.

قضايا في نقد العقل الديني، آركون، ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط:1، 1998م.

نقد النص، علي حرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط:1، 1993م.

نقد الحقيقة، علي حرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط:1، 1993م.

دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر.

دراسات إسلامية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر.

منهج حسن حنفي، فهد بن محمد السرحاني القرشي، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، ط: 1.

التراث والتجديد، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر، ط: 3، 1987م.

تفسير البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، دار الكتب العلمية، لبنان، بيروت، 1422 هـ، 2001م، ط: الأولى، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض.

التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، القاهرة، د/ط.

خيارات الإسلاميين لتجاوز أزمة الحداثة

أصدر المفكر الجزائري د. عبد الرزاق بلعقروز في عام 2013 كتابه القيم “أزمة الحداثة ورهانات الخطاب الإسلامي”، ووضع في خلاصة نقده للمفكرين العرب الذين حاولوا الخروج من أزمة الخطاب الإسلامي عبر استعارة أدوات ما بعد الحداثة من الغرب، وقدم قراءة واعية لفكر إسماعيل الفاروقي وطه عبد الرحمن باعتبارهما نموذجين ناضجين لتجاوز أزمات الغرب وإحياء الحضارة الإسلامية، مركزا على مسائل الحداثة وأزمة الحقيقة والتعارف والعقلانية والكونية.

يتساءل الكاتب: ما الذى يملكه الخطاب الإسلامى المعاصر من أجل الإسهام فى التحولات المعاصرة؟ وهل يؤسس هذه الخطاب رؤاه الفكرية منفصلا عن خطاب الحداثة وما بعدها؟

ويقول بلعقروز إن مُمكنات الخروج من نفق الطور الحداثي المُظلم، وإصلاح العطب في هذا المشروع لن تكون ممكنة دون إعادة تفعيل التوجيه الديني وقيم الإيمان في بناء الإنسان وملء العالم بالمعنى من جديد، لأنه لا فتوحات ممكنة تلوح سوى بأربعة شروط، وهي:

1- أن يستفتح الإنسان من جديد، من أجل أن يفتح اللّه له، ويعيد ترتيب الصّلة معه، لأن الذات دون إيمان ودون معنويات تنتج أنماط الحياة التي لا تُطاق.

2- أن ينتهي الإنسان عن غيه وظلمه وتخريبه للعالم، أي تدمير المعنى والعالم المحسوس.

3- أن يحذر من السقوط في أزمات المشروع الحداثي الغربي، لأنه لن يثْمر إلا عودة المآزق وفقدان الأمن الوجود ونَسْبنة المعرفة واختزالها في المصلحة، واختلال التوازن القيمي، ومن ثم الوصول إلى العَمى الوجودي والعبث السُّلوكي والتَّخريب للأرض.

4- التَّفكير في الارتقاء إلى مستوى الحدث الحضاري من أجل فهم هذه المشكلة بعمق، أي فهم الحداثة الغربية بعمق والكشف عن الفقر المعنوي والأخلاقي الذي ينخر أساساتها، وإعادة ترتيب سُلّم القيم الضائعة وبلورة نموذج إدراكي جديد للعالم.

ويرى المفكر الجزائري أننا لم نتعامل مع الحداثة في طورها الغربي بشكل ناضج بعد، فنحن فاقدون للرؤية والمنهج والإرادة، كما أننا لم نفهم الحضارة الإسلامية بعمق وشمول حتى نبحث في تراثنا المعنوي والأخلاقي الضخم ونفسّره من جديد.

ويعتبر أن النهضة تبدأ بإعداد قادة في الفكر من أجل إنجاز وظيفة الفهم المزدوج للحضارة الغربية وأسسها بعمق، وفهم الحضارة الإسلامية بعمق أيضا.

ويسعى في كتابه إلى رصد جوانب الاجتهاد في الخطاب الإسلامي المعاصر الساعية إلى بلورة رؤى فاعلة مستقلة عن سياق الحداثة.

ومن مباحث الكتاب المهمة أنه بيّن حدود النظريات التواصلية الغربية التي تأثر بها الفكر العربي المعاصر، وشدد على الحاجة إلى الأخذ بالرؤية التَّعارفية التي اقتبسها من قوله تعالى {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}، مستندا في الأساس إلى المبدأ القرآني لرؤية الإنسان للوجود من خلال التوحيد، فوحدانية الله هي أساس كل شيء، ومن ثم انفصال الذات الإلهية عن الإنسان والعالم المخلوق دون حلول ولا اتحاد، وتأتي بعد ذلك الرؤية التعارفية بناء على مفاهيم: التَّكريم الإنساني {ولقد كرمنا بني آدم}.، ووِحدة الإنسانية (دون تمييز عرقي)، والاختلاف التّكاملي (وليس التفاضلي العنصري).

وفي نقده لأزمة الحقيقة والقيمة، يشرح بلعقروز كيف هيمنت الاتجاهات الارتيابية على الفلسفة الغربية فيما بعد الحداثة، ثم استعرض أفكار إسماعيل الفاروقي التي تتجاوز هذه الاتجاهات وتؤسس الرؤية على وحدة الحقيقة والقيمة والحياة، وتستمدها من وحدانية الله.

أما أزمة العقلانية فقد عرضها المؤلف في فكر محمد أركون، ثم استعرض نقد طه عبد الرحمن لأركون الذي فضح افتتانه بمناهج العلوم الإنسانية الغربية ومحاولته تطبيقها على المعرفة الإسلامية، حتى في نصوصه المقدّسة، حيث كشف طه أن ادعاءات أركون لا ترقى إلى تصورات الفقهاء، ويقول إنه لو كانت مذاهب الفقهاء فعلا امتدادا لتناحُرات السّياسيين لما اختصّت بالوفاء لشروط الاستدلال والبناء النّسقي، فالسّلطة لا تخاطب العقل بل تتوسل العاطفة.

وفي الفصل الخامس والأخير، ينقد المؤلف طرح “الفلسفة الكونية” لدى المثقفين الحداثيين العرب، ويطرح البديل المتمثل في “الفلسفة المقارِنة” التي تدرك العالم بالمعنى الاختلافي، معتبرا أن الفلسفة الكونية تؤدي للانغراس في أنماط فكرية أخرى لا تخرج من عمق معاناتنا ولا تستجيب لمشكلاتنا.