القراءة ليست غاية بذاتها

image_print

تمر المنطقة العربية بسبع سنوات عجاف منذ انطلاق ما عُرف بـ”ثورات الربيع العربي”. والناظر إلى مآلاتها يدرك أن لا فائدة تُرجى من إسقاط رأس الهرم إن لم تكن قاعدة الهرم سليمة. فما يُبنى على مجرد العواطف الجياشة والخطب الرنانة لا يُحدث تغييرًا.

يكون التغيير حتميًا حين يوجد الوعي، فتتحدد الأهداف وتتضح السُبل، بدلًا مما يستشري بين الشباب من فقدان للبوصلة ونظرة دونية للذات تصل إلى عدم محاولة التغيير أو التفكير فيه حتى، على اعتبار أن انحطاطنا هو الأمر الطبيعي والمفروغ منه، فينصرف الشباب إلى عبادة أوثان القرن الحادي والعشرين من موضة وأزياء ومشاهير وغيره من ماديات جوفاء، تزيد من حالة الانحطاط القائم، وتوجه جهودهم -إن وجدت- نحو أهداف ذاتية شخصية مادية بحتة للنجاة من دوامة التخلف هنا، إلى الغرب المتطور حيث شاطئ الأمان، في تناسٍ لمسؤولية الفرد تجاه دينه وأمته، و{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].

ومما سبق تظهر ضرورة بذل كل الجهود اللازمة لزيادة وعي الشباب وتوسيع أفق تفكيرهم وزيادة مداركهم، لمواجهة التجهيل الممنهج الساعي إلى صرف نظرهم عن القضايا الأساسية وشغلهم بسفاسف الأمور، وكذلك ما يتم من بث لبذور الفتن وتعزيز لكل عوامل التفرقة من خلال انتماءات تشتت لا توحد، وبالتالي تَسهُل السيطرة على الشباب واستغلالهم.

وهنا تبزغ القراءة شمسًا تبدد ظلمات الجهل، فبها تُنال علوم الشعوب وفكرها الذي احتضنته الكتب بين ثنايا صفحاتها منذ القدم، فتكون القراءة مفتاحا لليقظة وسبيلا للنهضة، حيث ترقى بوعي الشباب وفكرهم وتوجه تركيزهم نحو قضايا الأمة بدل الانشغال بصغائر الأمور وتوافهها، وتعزز انتماءهم لهويتهم ودينهم وأمتهم.

أضف لذلك دور القراءة المحوري في إخراج الشباب من سجن التلقين، لميدان البحث والتقييم، وما في ذلك من نبذ للتعصب الأعمى وتمكين للمنهج العلمي والاحتجاج المنطقي، وما يؤديه ذلك من احتواء للخلافات وتقبل للاختلافات وخلق لنقاشات بنّاءة توحّد لا تفرق.

لكن ليست كل القراءة هكذا، فكما توجد قراءة تنمي الفكر وتقومه، فهناك قراءة تفعل العكس. وحيث أننا منذ الصغر نكتب المواضيع الإنشائية عن القراءة وأهميتها، فقد أحدث هذا لُبسًا، فأصبحت القراءة بذاتها هدفًا، حتى أنَّ من يقرأ بضعة روايات رومنسية سطحية صار يرى نفسه، ليس فقط قارئًا، بل من “النخبة المثقفة” في المجتمع.

وأما من تكون منشوراته على مواقع التواصل عاميّة اللغة ركيكة المعنى، فيأتي ويضعها بين دفتي “كتاب”، تراه يترفع عن مجالسة “العوام”، فهو أيضًا بات من “النخبة المثقفة”.

القراءة المعاصرة
وحيث أن هذا العصر يشهد ثورة تكنولوجية لم يسبق لها مثيل، فإنّ محركات البحث وشبكات التواصل ألقت بظلالها على كافة جوانب حياتنا، بما في ذلك القراءة.

فمع محركات البحث انتفت الحاجة للقراءة بمفهومها النهضوي، وبدلًا من الغوص في بحار الكتب بحثًا عن المعلومات والتعمق بها، بات يمكن الوصول إلى المعلومة بدقائق بل ثوانٍ، وبالتالي صارت العقول تعمل بتقنية “التخزين السحابي”، وهي تقنية تُستخدم لحفظ البيانات في خوادم خارجية، وتكون الأجهزة مجرد أدوات للوصول للبيانات، ورغم أنّ هذا يبدو -للوهلة الأولى- ذا نفع، إلّا أنّه يجعل ذاكرة الأجهزة –وكذا ذاكرتنا- خالية كصحراء قاحلة.

وأما موقع فيسبوك فله بالغ الأثر وشديد الضرر على القراءة ومفهومها والغاية منها. فبالإضافة لما يشيعه من منشورات لا يتعدى الواحد منها –في أحسن الأحوال- بضعة أسطر، جاعلًا قراءة بضع صفحات من كتاب أمرًا مفزعًا. وعدا عما يحويه من مشتتات تجعل القراءة المتعمقة أمرًا مستعصيًا. فإنّه ساهم في خلق “الواقع الافتراضي” الذي غيّر الغاية من القراءة واقتناء الكتب.

وهكذا أصبحت غاية الكثيرين من اقتناء الكتب هي نشر صورة جميلة لفنجان القهوة وقطع الحلوى بجانب كتاب، وبعضهم يقتني الكتب بحثًا عن الاقتباسات لنشرها، حيث تعددت الطرق التي تسمح لأحدهم بأن يغدو من “النخبة المثقفة”.

لذا فلا عجب من أن الكثير من “المجموعات” المتعلقة بالقراءة والكتب أضحت ذات محتوى ضحل، وأقصى ما قد تقدمه هو إخبارك بمدى قسوة من يطوي صفحات الكتاب عوضًا عن استخدام فواصل الكتب.

وفي بيئة كهذه يكون الإقبال الكبير على نشر الكتب والروايات الملآى بالسخافات نتيجة حتمية، فالقراءة أمست وسيلة لتكريس السذاجة وتغييب الوعي، مما أنشأ حلقة مفرغة من القرّاء السطحيين يقرؤون لكُتّاب أشد سطحية.

وفي النهاية نتج ما يسمى بـ”وهم المعرفة”، فلكثرة ما “يلمحه” الشباب من معلومات، يظنون أنفسهم من الحكماء، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك.

ختامًا، فإنّ ما تم التعرض له من بعض نماذج “النخبة المثقفة” مغزاه أن استخدام الروايات والكتب ذات المحتوى البسيط لترغيب الشباب بالقراءة وتقريبها إلى نفوسهم، ليس نهاية المطاف، بل مجرد البداية لمساعدة الشباب للغوص في بحار الفكر والمعرفة.

وما يغفله الكثيرون أنّ القراءة بمفهومها الصحيح هي أيضًا ليست غاية بذاتها، فهي تغدو بلا طائل إن لم تفترن بمحاولة تغيير المجتمع ونشر الوعي فيه. فالقراءة لم تكن يومًا إلا وسيلة تُساهم في نشر وعي مجتمعي يكون بدايةً لنهضة أمة.

وفي الخلاصة، على من لا يقرأ أن يقرأ، وعلى من يقرأ أن يعرف ماذا يقرأ، وعلى من يعرف ماذا يقرأ أن يحاول التغيير وينشر الوعي.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد