كيف تكسر حلقات الإدمان في ثمان خطوات؟
لو أجرى أي شخص منا جرد حساب لسنواته الماضية وعاد بالزمن عشر سنوات أو ربما أكثر إلى الوراء لوجد حرقة في القلب، فكم من أهدافٍ وُضعت ولم يتحقق منها شيء حتى الآن؟ وكم من مشاريع خُطط لها ولم يُنفّذ منها شيء وأصبحت طي النسيان؟ فالعمر يمضي والزمن يتقدم والوقت يضيق كلما زادت مسؤوليات الإنسان. وفي كل هذا هناك عامل خطير في حياة أي إنسان قد يؤخره كثيراً عن بلوغ أحلامه وأهدافه، وقد يمنعه من صعود سُلّم النجاح فتمضي السنون وهو مراوح في نفس المكان نهاره كليله ويومه كأمسه مقيدٌ بسلاسل شديدة لا يستطيع الانعتاق من أسرها.
الإدمان هو المدمر الأكبر لأحلام الناس والمتهم الرئيسي بقتل آمالهم وطموحاتهم، وعادةً يُقسم المختصون الإدمان إلى نوعين: الأول هو الإدمان المادي الذي تسبب فيه مواد معينة الإدمان لصاحبها ومنها الكوكايين والحشيش والتبغ وغيرها. والثاني هو الإدمان السلوكي، حيث تتحول سلوكيات معينة يقوم بها الفرد إلى إدمان يصاحبه ويضطره إلى إعادة فعلها في كل مرة، مثل إدمان القمار أو مشاهدة الأفلام الإباحية والاستمناء واللعب بألعاب الفيديو، أو إدمان التسوق أو الطعام تدخل في تصنيف الإدمان السلوكي.
التخلص من الإدمان وكسر عاداته يمر بمحطة أولى وهي فهم طبيعة الدماغ وكيف تتشكل عاداتنا وسلوكياتنا التي نكررها ويتحول بعضها بعد فترة إلى نوع من أنواع الإدمان، ومن أفضل الكتب لفهم هذا الأمر كتاب “قوة العادات” لتشارلز دويج والذي يشرح بالتفصيل كيفية تشكُل عاداتنا كبشر من خلال عدد من القصص الواقعية والأبحاث التي نُشرت في السابق. فبحسب الكاتب يمر تشكل أي عادةٍ في أدمغتنا بثلاث مراحل تتكرر في كل مرة:
المرحلة الأولى: يتلقى الدماغ الإشارة أو الحافز الأولي والذي يعتبر الشرارة الأولى لأي فعل وهنا يضعف دماغنا العقلاني ويبدأ الإنسان بالتصرف حينها دون إدراك حقيقي.
المرحلة الثانية: يتجه الإنسان لفعل الأمر الروتيني.
المرحلة الثالثة: يتلقى الدماغ المكافأة عن طريق إفراز الدوبامين.
ومع تكرار هذه الخطوات الثلاث في كل مرة تترسخ العادة في دماغنا حتى تصل في مراحل متقدمة إلى نوع من أنواع الإدمانات سابقة الذكر. فلو أخذنا أي نوع من الإدمانات لوجدناها تتشابه بهذه الخطوات الثلاث، فالمدخن مثلاً يتلقى إشارة من الدماغ عند شربه لفنجان قهوة أو شعوره بالغضب، فيسارع إلى أخذ سيجارته وإشعالها وبعدها يتلقى المكافأة. وكذلك مدمن الأفلام الإباحية فهو يتلقى الإشارة أو الحافز في ساعات الملل أو الفراغ فيبدأ حينها بمشاهدة هذه الأفلام ويتلقى المكافأة بدفقة من الدوبامين من دماغه وهكذا مع كل أنواع الإدمانات الأخرى التي تتشارك في هذه الخطوات الثلاث دائماً.
الأمر السيء بما يتعلق بالإدمان أن عاداتنا السيئة لا تُمحى من الدماغ أبداً، فقد تشكل لها مسارات خاصة فيه لكثرة تكرارها ، ولكن الخبر الجيد أننا نستطيع تشكيل ممرات جديدة في الدماغ نستعملها بدلاً من الممرات القديمة، وحال هذا الأمر يُشبه مرور شخص ما في طريق عشبي معين كل يوم فمع كثرة تردده على هذا الطريق تنطبع آثار خطوات أقدامه ويصبح الطريق واضح المعالم سهل الممشى بالنسبة إليه ، ولكنه لو حدث وأن قرر أن يستعمل طريقاً جديداً فسيبقى الطريق القديم لكن مع مرور الزمن سيعود سيرته الأولى وبهذه الحال فسيصعب على الإنسان العودة إليه وسيختار سلوك الطريق الجديد الذي مهده لنفسه عوضاً عنه.
للتغلب على الإدمان لا بد من اتخاذ خطوات عملية عديدة قد تتغير بتغير الشيء المُدمن عليه، ولكنني هنا أسرد بعضاً من الخطوات العملية المتنوعة والتي تتلاءم مع معظم حالات الإدمان على اختلافها:
1- ترك الشيء لله واحتساب الأجر عليه:
وهذه الخطوة ليست من باب رفع العتب بل هي خطوة أساسية ورئيسية في ترك الإدمان، فكما هو معروف بعد الأيام الأولى من الإقلاع عن الإدمان يعاني المدمن من رغبة شديدة في العودة إلى سلوكياته السابقة أو إلى تعاطي المواد الإدمانية، وقد يعاني من أعراض انسحابية كما هو معروف كالصداع والقلق والتوتر وعدم الرغبة بفعل اي شيء ، وهنا يأتي الدور المهم لهذه الخطوة فمع هذه المرحلة الصعبة يكون حال استشعار احتساب الأجر على الله هو المُصبّر الأول والمعين للنفس على تجاوز هذه المدة حتى الإقلاع النهائي، وأما ترك الادمان لله فهو دافع كبير للإنسان يمنحه الحافز اللازم لمواصلة طريقه في كفاح الإدمان والحديث النبوي معروف والذي رواه أحمد:( إنك لن تدعً شيئاً لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه)
يقول ابن القيم رحمه الله:” إنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله فأما من تركها صادقاً مخلصاً من قلبه لله؛ فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة؛ ليُمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب؟ فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة”[1]
2- القضاء على الوحدة والخروج إلى الحياة:
أكبر صديق للإدمان هو الوحدة والابتعاد عن الحياة الاجتماعية، فالإنسان مخلوق اجتماعي بتكوينه يحب الاختلاط بالناس ويفضّل الصداقات. ولكن الإدمان يجعل الإنسان منكفئاً على نفسه ولهذا فمن أفضل الحلول لمواجهة الإدمان هو الاستعانة بالصحبة الصالحة والجلوس مع الأهل وزيارة الأقارب وتجنب الوحدة –قدر المستطاع-وخاصة في الأيام الأولى للإقلاع عن الإدمان فهذه الأمور تعين الفرد على كسر حلقات إدمانه بشكل كبير.
3- تركّيز الجهود:
إذا كان الإنسان مُدمناً لعدة أشياء في وقت واحد فلا يجب عليه فتح جميع الجبهات في نفس الوقت للقضاء على جميع سلوكياته الإدمانية والأفضل أن يركّز جهوده على شيء واحد ينهي إدمانه فيه، وبعد أن يتأكد من هذا الأمر ينطلق للقضاء على شيء آخر يعاني من إدمانه، ومع قدوم رمضان ولأهمية هذا الشهر بتربية النفس وكبح جماح شهواتها فالأفضل للإنسان أن يختار أصعب شيء تعوّد الإدمان عليه وأن يركّز جهوده للتخلص منه وفترة ثلاثين يوم كافية وحاسمة للقضاء على إدمان أي شيء فإن استطاع الإنسان الصبر فيها كان ما بعدها أسهل إن شاء الله.
4- تكريس النفس لفكرة عظيمة:
لا يجب أن يبقى الإنسان دون هدف في الحياة ودون أن يعرف غاية وجوده فإذا غابت هذه الأشياء عن ذهن الإنسان غرق في عالم المادة وامتلكته الأشياء بدلاً من أن يمتلكها هو؛ حتى يصل إلى حالة الإدمان عليها ومن أفضل الحلول للابتعاد عن الإدمان أو التخلص منه هو أن يكرس الإنسان نفسه لفكرة عظيمة أو هدف نبيل فتعلو حينها همته ويستشعر أهمية وجوده في الحياة.
هذا الفيديو للدكتور وليد فتحي يوضح كثيراً حول هذه الفكرة:
5- التأمل والكتابة:
هاتان خطوتان هامتان جداً فالتأمل يزيد من فرص الشخص المدمن على كبح نفسه بدرجة عالية وليس المقصود هنا ما يسمى باليوغا أو ما يتعلق بها من خرافات ؛ بل التأمل هو الجلوس مع الذات لدقائق معدودة يحاول الإنسان فيها الخلو بنفسه والابتعاد عن ضغوطات الحياة وقد يكون التأمل في مخلوقات الله أو في الطبيعة وجمالها وحسن إتقان الله سبحانه وتعالى لصنعها ،وأما الكتابة فأمرها هام لأنها تعين الإنسان على التعلم من أخطائه لمحاولة عدم تكرارها كما تُفرّغ كثيراً من الضغوطات على النفس وتجعل الإنسان يخرج ما بداخله حتى وإن كان على الورق.
6- التوقف مع النفس:
في كل مرة يأتي فيها الباعث أو الحافز على تكرار السلوك الإدماني، فعلى الإنسان أن يتوقف مع نفسه وأن ينظر إلى نفسه في المرآة مخاطباً إياها بكلمات مناسبة، وهذا يساهم في زيادة درجة الوعي في دماغه ويعزز دماغه العقلاني الذي يستطيع من خلاله كبح شهوة الفعل الإدماني -أياً كان-وقد دلت الكثير من الدراسات والتجارب الحديثة على أهمية هذه الخطوة وهذا الفيديو يوضح بشيء من التفصيل كيفية القيام بهذا الأمر.
7- استبدال الدوبامين الحرام بالدوبامين الحلال:
يرتبط الإدمان دائماً مع الدوبامين وكما بينت في السابق فإن المرحلة الثالثة في حلقة الإدمان أو تشكل العادة هي المكافأة التي يحصل عليها الدماغ، والتي تكون مركباً كيميائياً يدعى الدوبامين وإفراز هذا المركب بعد كل أمر روتيني هو الذي يدفع الفرد لإعادة وتكرار الفعل في كل مرة؛ حتى ولو كان يعلم أن هذا الفعل يدمره نفسياً أو جسدياً بعد مدة ولذلك لا يتعلم المدمن من أخطائه ويكررها. من أهم العوامل لكسر حلقات الإدمان هو استبدال المرحلة الثانية في حلقة الإدمان فمثلاً بالنسبة للمدخن عند الشعور بالغضب أو شرب فنجان قهوة فلا داعي للمسارعة إلى إشعال سيجارة بل استبدال هذا الفعل بالخروج في نزهة قصيرة أو تناول قطعة صغيرة من الحلوى كنوع من المكافأة للدماغ ونفس هذا الأمر ينطبق على الإدمانات الأخرى. وهنا قد يغير الإدمان حياة الإنسان بشكل جذري نحو الأفضل إذا عرف كيف يستبدل العادات السيئة بعادات مفيدة له. يشير دويج في كتاب قوة العادات إلى أهمية هذا الأمر بما يطلق عليه القاعدة الذهبية لتغيير العادات:” إذا استخدمت الدليل نفسه وقدمت المكافأة نفسها يمكنك تغيير الأمر الروتيني، وبالتالي تتغير العادة. ومن الممكن تحويل أي سلوك إذا ظل الدليل والمكافأة على حالهما”[2]
8- عدم جلد الذات ومعرفة حقيقة الوحش الإدماني:
يجب أن يعلم الإنسان أن التخلص من الإدمان ليس بالأمر الهين والسهل؛ وخاصة إذا ترسخت العادة كثيراً في دماغه وإيضاح هذا الأمر ليس تيئيساً للإنسان بل لمعرفة حقيقة ما يمكن أن نسميه بالوحش الإدماني الذي يواجهه ويتحداه، ولكيلا يستسهل الأمر كثيراً فيعاود الفشل مع كل مرة. فإذا حدث وفشل الإنسان أو انتكس بعد فترة من الإقلاع عن إدمان معين فلا داعي لجلد الذات بل المطلوب فقط الشعور بالندم وطلب الاستغفار من الله تعالى ومعاودة المحاولة من جديد بثقة وتفاؤل كبيرين وبعزم على التخلص من الإدمان بإذن الله.
قبل الختام أريد أن أتحدث عن تجربة شخصية متواضعة مع أحد أنواع الإدمان وهو إدمان التدخين فقبل عام ونصف قرر العبد الفقير إلى ربه كاتب هذه السطور أن يقلع عن التدخين وبعد محاولات لمدة نصف عام تقريباً باءت جميعها بالفشل؛ جاء الوقت المناسب للإقلاع عن هذا الإدمان بقدوم شهر رمضان في العام الماضي، وقبل يوم من بدايته أطفأت آخر سيجارة لي وقررت حينها الإقلاع النهائي عن التدخين. مر الأسبوعان الأول والثاني بشكل صعب وقاسي، ومر ب��دها الأسبوع الثالث أقل صعوبة وانتهى بعد ذلك رمضان ومر عام كامل دون تدخين وبفضل الله تعالى أقلعت عن هذا الإدمان وأصبحت الآن أكره رائحة التدخين واستبدلته بالرياضة المنتظمة. والآن مع قدوم رمضان هذا العام فقد جاء الوقت المناسب للإقلاع عن أي إدمان بعون الله تعالى وبالصبر ومجاهدة النفس واحتساب الأجر على الله تعالى. فلعلّ نفحةً من نفحات هذا الشهر الكريم تقضي على إدمان المرء ولعلّ ركعتين ودعاءً صادقاً في جوف الليل ببركة هذا الشهر تُخرج الإنسان من حياة الإدمان -أياً كان نوعه-إلى حياة ملؤها الطمأنينة والسعادة والبحث عن رضا الله تعالى في الدنيا والفوز بجنته في الآخرة فلماذا لا يكون رمضان ثورة على عادتنا السيئة وعلى إدماننا؟ ثورة ًعلى كسلنا وتسويفنا وتقصيرنا في حق الله وحق أنفسنا، ثورة تغيرنا وتغير حياتنا معها للأفضل إن شاء الله.
[1] ابن القيم الجوزية، الفوائد، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع ص156
[2] تشارلز دويج، قوة العادات، مكتبة جرير ص62