رحلةٌ في سحر العاديات

image_print

هناك بين ثنايا حروف راحت تُنسج بإتقان لتنبثق منها تلك السطور، تحت مزيجٍ من المشاعر والمعاني التي ما لبثت أن غُلّفت بها تلك الكلمات وجُمعت تباعاً لترسم قصائداً وأشعاراً راح الشعراء يحملونها ذخيرة فيخوضون بها تلك الملحمة الأدبية التي سرعان ما لقيت الاهتمام و أصبحت محط الأنظار، وإذ بنا بهذا الاهتمام وهذا الشغف نسهو عن كلمات أرقى ومعانٍ أنقى، وإذ بها لحظات عمرنا تنزلق منا تباعاً دون أن نحظى بارتشاف لذة سحرها واغتنام عمق معانيها وما تضمره سطورها من إعجاز وبلاغة، كلمات ربي جل وعلا التي حُملت بين سطور قرآنه العظيم فجعلت منه كنزاً يحمل بين طياته ما عجز عنه لسان العرب بطلاقته وبلاغته أن يأتي بمثله في خضمّ ملحمتهم الأدبية، فما يسعنا تجاه هذا الإعجاز وهذه العظمة إلا أن نلوذ ببعض ما يخفى بين جدران ذلك الكنز من مجوهرات ونرسو على شرفات محطة من محطات هذا العالم الواسع الذي ينبض بجزيل الكلمات وعميق المعاني، ألا وهي سورة العاديات تلك السورة التي لامست واقع الإنسان ومشاعره بما تضمر بين طياتها من تجسيدٍ لحاله وقد أُترع في حياته البلاء والمحن ليكون قلبه الأساس في صلاحه، وذلك عندما شبه سبحانه الخيل المجاهدة في سبيل الله بجهاد المسلم وماقد يعتريه في ذلك من حزن و قتل وإصابة .

 هذا هو سبب اهتمامي بها وتعمّقي بمعانيها وبأسلوبها البلاغي المتميز، حيث أنني اجتهدت في تحصيل المعلومات من كتب ومقالات عده منها (تفسير ابن كثير _تفسير النسفي _تفسر الزمخشري-اختصاره للبيضاوي- تفسير الظلال-تفسير الجلالين-التصوير الفني في القرآن لسيد قطب-روح المعاني للآلوسي-السعدي-تفسير كلام المنان-بحث جامعي لمحمد يورداني-ومقال للأستاذ جمال عبد العزيز أحمد….) لأعرضها عليكم آيةً تلو الأخرى .. نبدأها بقوله تعالى:

(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحَاً):
إن الإقسام لا يكون إلا بما هو عظيم الشأن، فلا يجوز لبشرٍ الإقسام بما سواه تعالى، ولكن عند تلاوة آياته جل وعلا توجل القلوب عند استشعار عظمة قسمه عز وجل بمخلوقاته التي قد خفي علينا عظيم أمرها ألا وهي الخيل الجارية العادية في سبيل خالقها، ولقد عرّف الله تعالى كلمة (العاديات) تعظيماً لشأن المذكور ولو أن الله تعالى نكّر الكلمة لم يكن القارئ والسامع للآية ليفهم المعنى المقصود بالخيل، ولذلك عرّفها الله ليضيق دائرة المعنى فيقصد بالخيل العاديات خيلَ الجهاد التي لها قدسيه عند الله، وهذا ما نلاحظه في حديث  رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال :{الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة}. نرى في هذه الآية أيضاً استعاره مكنيه حيث شبه الخيل بأبطال أقوياء يعدون فيسرعون و تخرج منهم أصوات الأنفاس عند عدوهم (ضبحاً: صوت الفرس حين يعدو وهي دليل على اشتداد العدو)، وفيها أيضاً إيحاء بالسرعة والعدو الشديد ..

الخيل مثل خَيالِنا أشعار            يُورَى الجمال بعَدْوها ويُثار

خُيَلاؤها عنوانها في ضَبْحها      وإذا تُسالِم فالصَّهيل شِعار

لو لم يكن من شأنها إلا الذي      ذكر القرآن فإنه لفَخَار

“والعاديات” إذا رمت يتحَمحَم     كبِدُ العدو فيَعتَريه دُوار

(فَالمُورِيَاتِ قَدْحَاً):
كلمة الموريات كنايه عن موصوف وهو الخيل أو ما يقوم مقامه في عصرنا الحاضر، أما كلمة (قدحا) هي كنايه عن صفه سرعتها وشدة ضربها بالحجارة فتُحدث لهيباً خلفها ويوحي ذلك بسرعه جريها ومُرَاسِها وذُربَتِها في ميادين القتال، كما تبرز لنا هذه الكناية مدى فهم هذه الخيول المجاهدة لطبيعةِ الدور الذي نِيْطَ بها ودُرِّبت سلفاً عليه .. ولقد عطفت (فَالمُورِيات) على (العَادِيَات) بالفاء وفيها ملحظ السببية لأن الإيراء أثر للعَدْوِ الشديد ينقدحُ به الشرر من حوافر الخيل

” فالمُورِياتُ “القَدْحَ تحت سَنَابِكِ      إنّ البَهاء إذا يُزمجرُ نارُ   

(فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحَاً):
كلمة المغيرات كنايه عن الخيل التي تعدو لتهجم على العَدُوّ وقت الصباح[1]، ولم يَفُتِ  المفسرين إدراكُ ما ذُكِرَ في الآية من تخصيص لوقت الصباح وما في ذلك من توضيحً لموقف المباغتة والإنذار[2]  في حال الغزو، ولقد عطفت (الْمُغِيرَاتُ) بالفاء ليُرسَم لنا ترتيب الأحداث دون تراخ ما بين عدوها ضبحاً وإغارتها صُبحاً، ونجد في الآية استعاره مكنية حيث شبه الله الخيل بعدوّ يُغِيْرُ، ولديه القدرة على تحقيق النصر، وفيها كنايه عن حسن الإعداد ودقة التنفيذ وكمال الخطة العسكرية، ونجد أن في كل من كلمة (ضَبْحَاً – صُبْحَاً) جناس ناقص، وفي (ضَبْحَاً وصُبْحَاً و قَدْحَاً) سجع.

وهي” المُغِيْرَاتُ “التي من حسنها     يَثِبُ الصَّباحُ وينجلي ويَغارُ

(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعَاً):
نجد أن الآية هي كنايه عن شدة الخيل وكثرتها وسرعتها وسيطرتها على ميدان المعركة، ولقد عُطفت كلمة (فَأَثَرْنَ) على اسم الفاعل (العاديات و الموريات والمغيرات )ليصبح معناه: اللاتي عَدَوْن فَأَوْرَين فأَغَرْن فأَثَرْن[3]، وقوله (به)عائدة على ميدان المعركة أو على وقت الإغارة في الصباح[4]، وكلمة (نَقْعَاً) بمعنى التراب أُنكرت لبيان مدى علوّه وابتلاء الجو به وانتشاره فيُحِيلُ نهارَه ليلاً أسوداً دامساً، ونجد أن كلمة (أَثَرْن) تناسب كلمة (نَقْعَاً) حيث لم يختر الله كلمة هَيَجْنَ مع أن المعنى واحد ولكن في كلمة (أثرن) جمال وقوه كأنها تولد ثورة في قلب هذا الغبار.

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعَاً):
توسطن برُكبَانِهِنّ جموع الأعداء وفيها كنايهة عن قوة الجيوش وامتلاكِ ناصية الحرب والسيطرة على الميدان كرّاً وفرّاً وتكتيكاً ونصراً، ونجد في كلمتي (نَقْعَاً و جَمْعَاً) سجعاً .

(إِنّ الإِنْسَانَ لِرَبّه لَكَنُود):
فيها جمله من المؤكدات (إن-لام المزحلقة-استعمال الجملة الإسمية)وهو ما يسمى عند البلاغيين بالخبر الإنكاري، ويقصد بـ (كَنُود: كفور) كأن الإنسان ينكر ذلك ويداهن فتأتي المؤكدات لتأكد له شدة جحوده وكفرانه، وأن تكذيبه بنعم الله لا محل له ولامعنى، ولكن الإنسان ينسى النعم ويتذكر الابتلاءات فلا يشكر ولا يُثني بل يكفر بربه وينثني عنه ويبتعد.

(وَإِنّه على ذلِكَ لَشَهِيد):
لهذه الآية معنيان فإما أن يكون الله شاهد على كفر جحود الإنسان أو أن يكون الإنسان شهيدا بلسان حاله على كنوده [5]، ولذلك استخدم كلمة (شَهِيْد)، وهي صفه مشبه أي هو شهيدٌ على ذلك شهادة دائمة، وفي الآية أسلوب قصر بتقديم ماحقه التأخير حيث قدم الله شبه الجملة (عَلَى ذَلِك) على متعلقة (لَشَهِيد)وكرر التوكيد (إن ولام) إمعاناً في ذكر جحوده وإبرازاً لخطورة مسلكه .

(وَإِنّهُ لِحُبَّ الخَيْرِ لَشَدِيْد):
عبر الله بضمير الغائب الذي تتناسب مع سلوكه، وفي الآية أسلوب قصر حيث قصر بخل الإنسان وحب المال على نفسه وكذا إنفاقه على ذاته في وجوه الخير، و(أل) التعريف في كلمة (الْخَير) إما أن تكون عهديه أي الخير المعهود عند الإنسان وهو المال وإما أن تكون جنسيه أي جنس الخير فهو يبخل به، وكلمة (شَدِيْد) صفه مشبه بمعنى بخيل، ونجد في كل من كلمة (لشَهِيد) و(لشَدِيد) جناس ناقص وفي كل من (كَنُود-شَهِيد-شَدِيد) سجعاً .

(أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِر مَا فِي القُبُور):
هنا إيجاز بالحث في جملة وقعت بين الهمزة والفاء (أفلا) أي أفعمي فلم يعلم؟! أو أَجَهِل فلم يدرك ؟!، واستعمال الهمزة هنا يفيد التقرير والتقريع،  والفعل (يَعْلَم)من أفعال القلوب أي يجب أن يعلم ويدرك ويوقن، و(بُعثِرَ)مبني لما لم يسمى فاعله لتركيز الاهتمام على الحدث بصرف النظر عن محدثه، و(ما) لغير العاقل مع أن المبعوث عاقل وهو إما لقيام (ما) مقام (من) لكثرة من يبعث من إنسان وحيوان، وإما جاءت (ما) على أصلها احتقاراً  لشأن الإنسان، و(أل) في كلمة (القُبُور) جنسيةٌ: أي جنس قبور الأرض ستلفظ ما فيها حياً يمضي إلى عرصات يوم القيامة.

(وَحُصّلَ ما فِي  الصُّدُور):
بُني الفعل لما لم يُسمى فاعله كنايه عن الموصوف وهو الله القادر على تحصيل وجمع ما في الصدور[6]، وكلمته (الصُّدور) مجاز مرسل علاقته محليه ،حيث أطلق المحل وأراد الحال فيه وهو القلب فالمقصود حُصّل ما في القلوب التي هي وعاء الأحداث، و(أل) فيها جنسيّةٌ: أي جنس صدور البشر، وفيها كنايه على طلاقة القدرة الإلهية والهيمنة الكاملة على مجريات الكون، ونجد في كل من (قُبُور-صدُور) جناس ناقص .

 (إِنَّ رَبّهُم بِهِم يَوْمَئِذٍ لخَبِير):
في هذه الآية نجد أسلوب توكيد وذلك لانتشال الشك من قلوب الشاكّين ولبيان عظمة الله في كل شيء، وفيها أيضاً أسلوب قصر بتقديم ماحقه التأخير حيث تعلق شبه الجملة (بهم) بقوله (خبير)، وفيها إيجازٌ بالحذف حيث حُذفت جمله كامله أي (إن ربهم بهم يوم إذ يُبعثَر ما في القبور ويُحصل ما في الصدور لخبير)، وكلمة (لخبير) صفه مشبهه  تثبت أن علم الله أزلي شامل وجزاءه محيط كامل.

في الآية (١-٥) أواخرها نجد الصوائت الطويله، وهي حرف (أ) مقرونه بالصوامت المختلفة، منها بالصوامت الاحتكاكية وهي حرف الحاء (ح)، وحرف العين (ع)  حتى تصير الأصوات مختلفة وهي (حا) و(ع)[7].

وفي الآية (٦-١١) نجد الصوائت الطويلة وهي حرف الياء (ي) وحرف الواو (و) مقرونه بالصوامت المختلفة وهي (نون -هاء – دال باء) ومنتهيه بالصوامت الانفجارية وهي حرف الدال (د) والصوامت المكررة وهي حرف الراء (ر) حتى تصير الأصوات مختلفة وهي (نود- هيد-ديد- بيد) وهذا التناسق مقرونة بالصوائت المتنوعة كأن فيها انحراف من النغم الموجود[8]، وتناسق الأصوات دفع إلى تناسق الكلمة والجملة كلها، والوتيرة التي ارتداها القرآن يبقى انطباعها بطيئة وسريعة، والوتيرة السريعة تأتي تصير التعذيب والعجيب، والوتيرة البطيئة تأتي المواعظ والمعارف عادة [9]، والعاديات توجد الوتيرة البطيئة التي تدل على المواعظ وهي المواعظ بتصوير عن أهوال القيامة وشدائدها ومن ناحيه أخرى تدفع إلى اللفظ المحسن والسجع لأن كثيراً من فواصلها متوافقة في الأحرف الأخيرة، ونجد في فواصل سورة العاديات من بدائع السجع وأفضل السجع ما تساوت فقره كما في الآية الكريمة (وإنه على ذلك لشهيد-وإنه لحب الخير لشديد).

ونجد في هذه الآيات التي تصف العدوْ والهجوم وتوسط مرابع العدو جاءت خاطفه سريعة تستثير الخيال وتسرع في الانتقال من مشهد إلى مشهد، أو انقل من عنصر من عناصر الصورة إلى عنصر آخر بينما ما جاء بعدها من آيات كلها تحوي المد لأنها موضع تأمل فتقرأها على مهل لتحس بها.

تم بعون الله وحمده بحثي المتواضع الذي زرع في حياتي بذرة ستنمو معي طيلة حياتي وستزهر لتنشر عبقها في أرجاء الكون، فسارع أيها القارئ لتحصل على مثل هذه البذرة فتزرعها في نفسك لتغدو سعيداً هنيئاً في حياتك مُسعِداً ومبهجاً لقلب غيرك، فمجردُ بذرةٍ تزرعها وتنساها على دَربكَ، تُورِد خيراً وتجمعها ثمراً يكبر على رسمك ..


[1] وهبة الزحيلي، التفسير المنير صفحة ٣٦٩

[2] روح المعاني، تفسير القرآن صفحة ١٠٧

[3] تفسير النسفي صفحه ٦٧١ و ٦٧٢

[4] تفسير الجلالين صفحة ٦٠

[5] ابن كثير صفحة ٦٦٩

[6] شهاب الدين القيلوبي صفحة ١٨٢

[7] شهاب الدين القيلوبي صفحة ١٧٥

[8] شهاب الدين القيلوبي صفحة ١٧٥

[9] السيد الهاشمي، جوهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع صفحة ٣٥١

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد