أسلوب مؤمن آل فرعون في الدّعوة

image_print

تعرّف الدعوة بأنها بذل الجهود المتنوعة والمحاولات المتعددة لتبليغ القضية التي يؤمن بها الإنسان لغيره من الناس، وكذلك حال الدعوة إلى دين الإسلام، فإنّه يجب على المسلم بذل الجهود لتبليغ ما اشتمل الإسلام من عقيدة وشريعة وأخلاق للناس، وحثهم على تطبيقه والاستقامة على صراطه، فيكون لهم الفوز في الدنيا والثواب في الآخرة.

إن الدعوة للإسلام دعوة هادفة لها غاية ومساعٍ وأساليب، أما الغاية فتبليغ الناس الإسلام على اختلاف مراتبهم وتنوع أقسامهم، وأما المساعي فتكون بمختلف الأدوات التقنيّة والوسائل المساندة المتاحة التي تحقق للداعي كفاءة عالية في التبليغ، وأما الأسلوب فهو الحال المقنع عقلاً وعاطفة ويملك التأثير في المدعوّين بسموه ووضوحه.

لقد أخبرنا الله أنّ الدعوة إلى دينه من أشرف الأعمال عنده، فقال في كتابـــه العزيز: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]

وقد امتدح الله هذه الخصلة في عباده، بدءًا بالأنبياء وصولاً لمن يسلك طريقهم، فقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46] وبلّغ أمته بقوله {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

وقد وضّحه النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله (مَنْ دَعَــا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا)[1].

القرآن وأساليب الدعوة
وضّح الله عزّ وجلّ لنا أســاليب مختلفة للدعوة إليه في أكثر مـن موضع فـي القرآن الكريم، ولعلّ أسلوب مؤمن آل فرعون الّذي ذكره الله عزّ وجلّ في سورة غافر خير نموذجٍ يقتدى به للدّعوة إلى الخالق عزّ وجلّ.

قف معي عند سرد الله لقصته بدءًا من قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَـــاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّـــكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} حتى تصل إلى قوله {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}  [غافر: 28- 44].

حين تقرأ هذه الآيات فإنها ستأخذ بيدي ويدك لخطوط عامة مهمّة في الدعوة إلى الله:
وأول ما تنبئنا به هو أن الدّاعي الحكيم من يتكتّم حتى يختار الوقت والمكان المناسبين اللّذين يمكن للمتـلقّي أن يستجيب له مـن خلالـهما، فالنّبي صلّى الله علـيه وســلّم مكث الثّلاث السّــنوات الأولى في مكّة دون أن يجاهر  بالدّعوة إلى أن جاء الوقت المناسب بأمر الله فأعلن عن دعوته، ثم انتشرت حتى استجاب له البشر من كلّ فجٍّ عميقٍ، وكذلك مؤمن آل فرعون فقد أخبرنا الله عـزّ وجلّ أنه كان كاتماً لإيمانه إلى أن أتى الوقت المناسب فأظهر إيمانه وراح يدافع عن المؤمنين {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28]

أما الأسلوب الثاني المستفاد فهو محاورة المتلقّي ودفعه بفطرته وعقله السّــليم للتراجع عن أفكاره ومعتقداته الخاطئة، وقد اســتخدم صلّى الله عليه وسلّم هذا الأسلوب مرارًا، فانظر إليه صلّى الله عليه وســلّم حين يسأل الصحابة (أتدرون من المفلس) وهنا يتناقش الصحبُ الكرام فيه، حتى يمنحهم الرسول صلى الله عليه وسلم معنىً غاب عن عقولهم فالمفلس من “يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، وقدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ”[2]

وكذلك فعل مؤمن آل فرعون، حيث تساءل عن سبب توجههم لقتل موسى عليه السّلام، حين قال لهم: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}

إلى جانب التساؤل، فقد علمنا الله أسلوب التذكير بالنعم، فما من عبد إلّا وقد أنعم الله عليه بنعمٍ لا تعدّ ولا تحصى (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [النحل: 18] فعلى الدّاعي أن يكون دائم التّذكير بفضل الله ونعمه على العباد أجمعين.

 لقد كان لقوم فرعون الملك العظيم والسّلطة الواسعة، وقد راح مؤمن آل فرعون يذكّرهم بأنّ الله أنعم عليهم بهذا الملك والظّهور في الأرض بالكلمة النّافذة والجاه العريض فلا بد من مراعاة هذه النّعمة بشكر الله تعالى وتصديق رسوله[3]   قال تعالى: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا} [غافر: 29]

فإن لم يجد الدّاعي تلك الاستجابة بالتّذكير بنعم الله فعليه “أن يطرق القلوب بإيقاعٍ آخر لعلّها تحسّ وتستيقظ وترتعش وتلين، فيذكّرها بمصارع الأحزاب قبلهم فهي شاهدةٌ ببأس الله في أخذ المكذبين والطّغاة”[4]

وقد ذكّر مؤمن آل فرعون قومه بذلك، {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)} [غافر]

الترغيب والتودّد بابًا للدعوة
إن كان ضرب الأمثلة والتحاور بالاستفهام هما المدخل العقليّ فإنّ التودّد والّلين مدخلان للقلب، فمهمّة الدّاعي أن يفتح القلوب لا أن يغلقها، وقد أخبر الله نبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم أن يدعوَ بالّلين والرّحمة وحسـن الخلق وأن يبتعد عن الفظاظة وقسـوة القلب قال تعالى ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159] وأمر موسى وهارون عليهما السّلام أن يدعُوَا فرعون بالقول الّلين قال تعالى {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)[طه] وعن عائشة رضي الله عنها عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال : (إنّ الله يحبّ الرِّفق في الأمر كلّه)[5] وكذلك مؤمن آل فرعون قد دعاهم بالّلين وذلك بمخاطبته لهم بقوله (يا قوم) والّتي تكرّرت خمس مرّاتٍ في القصّة.

وإلى جانب ترهيب المتلقّي وضرب الأمثلة له، فإن على الداعية أن يرغّب ويبيّن الأجر الكبير في اتّباع أوامر الله وهدي نبيّه ليس له جزاءٌ إلّا الجنّة والله تعالى قد رغّبنا مرارًا في القرآن كما قال (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133]

لقد دعا مؤمنُ آل فرعون قومه إلى النّجاة ورغّبهم بثواب الله على الأعمال الصّالحة، ووصف لهم فساد الدنيا وبقاء الآخر {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)}[غافر]

التوكّل في البَدء والختام
على المرء أن يلزم نفسه بالتوكّل على الله في كل كلماته وحركاته وسكناته، فالداعية حين يقوم بضرب الأمثلة ويذكر الترغيب والترهيب ويتودّد لمن يسمعه بشتى الأساليب، فإن عمله لن يكون خالصًا لله إلا بكمال التوكّل عليه، إذ لا يستطيع أحدٌ أن يهدي  أحداً إلّا بإرادة الله ومشيئته، وهذا حال النّبي صلّى الله عليه وسلّم الذي قال الله له (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص: 56] وهذا مؤمن آل فرعون حين جهر بإيمانه أعلن في مواجهة فرعون وملئه بلا تردّدٍ ولا تلعثم أنه مؤمن وأنه قد فوّض الأمر لله وقد ذكر لهم أنهم سيذكرون كلماته في يوم لا تنفع فيه الذّكرى والأمر كلّه إلى الله {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44]

إنّ الدّعوة إلى الله من أحبّ الأعمال عند الله وهي أمرٌ للأنبياء ومن تبعهم وقد ذكر الله في كتابه آيات تدلّ على أساليب ومناهج الدّعوة إليه ومنها أسلوب مؤمن آل فرعون في دعوة قومه الّتي يمكن أن نستنبط منها خطوات عمليّة في الدّعوة إلى الله، إذ على الدّاعي أولاً أن يستغلّ الوقت المناسب للدّعوة وأن يطرح الأسئلة ويضرب الأمثلة التي تخاطب العقل وتقنع المتلقّي ولا ينسى الأسلوب اللّطيف اللّين في دعائه وتحفيز وتشويق من يدعوه من خلال تبيين الجزاء العظيم في اتباعه وأخيراً التوكّل على الله وتفويض الأمور إليه.


[1] أخرجه الإمام مسلم في الصحيح، رقمه: 2674

[2] أخرجه الإمام مسلم في الصحيح، رقمه: 2581.

[3] تفسير ابن كثير

[4] من كتاب (في ظلال القرآن) صفحة 3874

[5] أخرجه البخاري في صحيحه، رقمه: 5678

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد