تفرّقت أيادي سبأ!

image_print

سمعتَ من قبلُ بقول العرب: “تفرقت أيادي سبأ” أو “تفرقت شذر مذر”.. وكيف تُراها ردة فعلك إن علمتَ أنهم تمنَّوا ذلك الشتاتَ حتى ابتُلوا به فعلاً!

جاءت قصة سبأ مرويّةً على لسان ربّ العزة في كتابه الكريم وفي سورةٍ خاصةٍ باسم هذه الأمة “سورة سبأ”، ضمنَ سياقٍ متسلسلٍ قد يبدو غريباً للوهلة الأولى، ذو انطباعٍ أوليٍّ دافعٍ لإطلاقِ حكمٍ بالسذاجةِ أو حتى الغباء المستنكِرِ جدّاً لتصرِّفٍ بشريٍّ كهذا.

بدأ السياق بوصف حياتهم ونعيمهم، بوصف جنّتَي سبأ:

{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:١٥]

كان المطلوبُ التنعّمَ والشكر، أو لعلّنا نستطيع أن نقول: التنعّم وأقل واجباتِ الامتنان، الحمد للمنعمِ المتفضل، فما الذي جرى؟

 يستمر السياق بوصف كفرهم وإعراضهم حتى بدّل الله جنتَيهم بجنتين فاسدتَين كريهتين، جزاءً على قدر الفعل.. ويبدو الأمر مألوفاً في النص القرآنيّ؛ أمّةٌ عاصية وربٌّ عدل، يجازي الكفر بالعذاب.

يأخذنا السياق في بحره إلى وصف تفصيلٍ خاص من أوجه النعم التي اختصّ بها الله المعطي قوم سبأ وهي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:١٨]

تصف الآية حالةً من الرخاءِ الذي عاشته سبأ إن أرادوا السفر تحديداً؛ وهي أنّه كان يسيراً هيّناً.. فقد وصف ابن كثير ذلك في تفسيره بقوله: “إنَّ مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماء وثمراً، ويقيل في قرية ويبيت في أخرى، بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم”[1]   أي أنّ قرىً حيّةً كانت موجودةً على امتداد مسار سفرهم، فلا يصيبهم ما يصيب المسافرَ أو ابنَ السبيل من مشقةٍ أو انقطاع أو حاجةٍ لحمل الزاد، وقد قال البغوي في تفسيره: “كان مسيرهم على قدر نصف يوم، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قريةٍ ذات مياه وأشجار”[2]

{ربَّنا باعد بين أسفارِنا}
جاء ردُّ سبأ هنا مخالفاً للمعتاد فهم قد طلبوا المشقّةَ من الله الكريمِ طلباً! وذكروها باسمها ذكراً صريحاً بكامل إدراكهم، {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [سبأ:١٩]، وهذا ينقل ذاكرتَنا دون مقدماتٍ إلى ذاتِ الفعل المتناقض الذي مارسه بنو إسرائيل حين طلبوا استبدال محصول الأرض بخيراتِ السماء، والتعب عوضَ الرخاء، وكما ذكرنا سالفين؛ يبدو الأمرُ ساذجاً للوهلة الأولى ولكنّه يستحقُّ النظرَ ليُفهَمَ ويفسَّر..

يمكن أن نقول إن نظرتهم للنعيم لم تكن حينها نظرتنا المتّزنةَ هذه، بل إن سرَّ تناقضهم هو استخدام منظورٍ مختلٍّ يبدّل الرؤية، حتى رأوُا النعمةَ نقمة، والبراحَ سجناً.

إن تعامُل الإنسان مع ملك اليدِ على أنّه أمرٌ مضمون، قد يصل به للشعور بالملل، للخروج من حيز رؤيته كنعمة، إلى حيز رؤيته أمراً تمتلكه النفس وتريد سواه، إلى اعتبار الطير على الشجرة، أفضل مما في اليد، وإن كان ما في يده صقراً قوياً أو طاووساً بهيَّ الألوان! فتتجاوز النفس بذلك مساحةَ الحكم على كونِ المراد أفضلَ أم أسوأ، إلى حيز مجرد امتلاكه.

وقد يقصّر الأمر الرؤية حتى تنكبّ على الأمر دون سواه، وقد لا ترى سواه أصلاً، بل تستمر تكوّراً على النعمة، عبثاً بها، وخروجاً من مساحةِ جحود شكرها، إلى تمني زوالها حتّى.

واستبدالها بالدون المختار! بالتربّص بها، وإيقاع العيوب فيها، وإقامة الحجج المنهارة للدفاع عن ذلك الخلل النفسيّ الجليّ، والبطر العيان.

هذا وقد تصل بالنفسِ السفاهةُ أن تغفل حتى عن آثار نعمتها الموجودة -بالتعامل معها كمعطياتٍ ثابتة- فلا تدرك غيابها حقّ الإدراك، ولا تقدّر ذلك تقديراً صحيحاً، وقد فسَّر البعض طلب سبأ هذا تفسيراً اقتصادياً؛ حيث أرادوا ذلك حتى لا تكون طريق التجارة مسهّلةً للجميع، فيتميّزوا في قطع المشقات وتحصيل الأرباح دوناً عن سواهم، ناسينَ بذلك طبيعةَ هذه المشقّات، وصعوبةَ المسافات أمام حيَلهم الضعيفة، ظانّين نعيمهم الحاليَّ ملكاً أصيلاً عندهم وقدرة.

شتاتُ سبأ
جاء وصفُ شتاتهم على لسان القابض الباسط بليغاً يصف قسوةَ المآل؛ {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ..}! [سبأ:١٩] فقد باتوا العبرَةَ الحقّة التي أصبحَ الناس يتعظون بها في سمرهم وحديثهم، كان شتاتهم في حالةٍ من ذُرى العشوائية والتفرقة، انتزعهم من الوحدةِ والأنس إلى ذلِّ الغربة، كانَ تمزّقاً كما اختارَ الله أن يصفَه، انكسارُ اللُّحمَةِ ويباسُ النعيم. كانَ السبب الذي أرسله الله لانهيار تلك المملكة هو سيل العرم، الذي تسبّبَ بانهيار سدّ مأرب العظيم، أكبر ما شيّدت تلك المملكة وأنجزت، فأغرقَ الزرع والبساتين والجنّات وأتلفها جميعاً.

القرآن والذي يحتوي سورة سبأ

بعد أن جُعلوا عبرة، مَن المعتبِرونَ الذين خصَّهم الله بالانتفاع من ذلك؟ هم أناسٌ أدركوا هفوةَ سبأ فاجتنبوها {.. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:١٩]

هو الصبر؛ صبرٌ على النعم والنقم على حدٍّ سواء، الصبرُ الذي يقتل التملّل في مهده، ويطهو على نارِ التؤدةِ ثماراً حصادها الخيرُ والحكمة، واستخدام النعم على الوجه الذي يرضي المنعم. وهو الشُّكرُ؛ لسانُ عباد الرحمن مديمي الحمد والثناء، متبصّري الاصطفاء الساعين لأداءِ حقّه الليل والنهار.

أُسدلَ الستار بوصفٍ مُهينٍ، وبغطاءٍ أسودٍ سَمتُه الخزي؛ {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:٢٠] بأن كانوا ورقةً رابحةً لظنون إبليسَ اللعينة، وجنداً خاسراً من جيشهِ الذي توعّد بإضلاله.. كانت مَهمته سهلة؛ {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ..} [سبأ:٢١]، أضلّهم بتمويه النعم، وتزيين الجحودِ والنقم، إغواءٌ وضلال وسطَ جنّاتٍ غضّة، ورفاهٍ وبنين، لم يكن له سلطانُ قهرٍ أو إجبار، بل بمحض الاختيار، ويا لخيبةَ الاختيار إن كانَ المرءُ متبطِّراً، والنفس فاسدة.

تفرّقت أيادي سبأ” أي تفرقوا تفرقاً لا اجتماع بعده، جاء في تهذيب اللغة للأزهري: “وقولهم: ذهب القوم أيدي سبأ، وأيادي سبأ: أي متفرقين، شبهوا بأهل سبأ لمّا مزقهم الله في الأرض كل ممزق، فأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة. واليد: الطريق”[3] [تهذيب اللغة، ص٧٢ ]

فيا لخيبةَ سبأ وأيادي سبأ!


المراجع:

 ابن كثير، دار طيبة، السعودية، ١٩٩٩م

الحسين بن مسعود البغوي، دار طيبة، السعودية، ١٩٩٠م

محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي،

https://al-maktaba.org/book/7031/3704#p5

 

[1] ينظر تفسير ابن كثير في تفسيره لهذه الآية.

[2]  ينظر تفسير البغوي، في تفسيره هذه الآية.

[3] ينظر تهذيب اللغة دار إحياء التراث العربي، بيروت، ٢٠٠١م، ط1، 27.

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد