فلسفة التفرّد في الإسلام
أبتدئ مقالي هذا بالسؤال الآتي: هل هناك أسمى من رسالة الإسلام لكي تصل عموم البشر وتخرجهم من الضلال إلى الهداية والنور؟
بالنسبة لنا –نحن المسلمين- فإننا لا نظن بغير ذلك. لكن هل يبرر لهذه الغاية النبيلة أن تعمّم عبر إغواء الناس بمن يعظّمونهم ويقتدون بأفعالهم وقراراتهم؟ ومن يقرأ في حادثة ابن مكتوم الأعمى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجد أن الجواب “لا”، حتى إن كان ذلك يعني الوصول لأعداد غفيرة في وقت قصير ودخولهم الإسلام جميعًا، فلم تشفع غاية الرسول في دعوة أشراف مكة ليتبعهم أهلها، في دفع العتاب الرباني على عبوسه وإعراضه عمن قصده في السؤال ليهتدي إلى دين الله بنية صادقة.
ولعلّ الحكم في هذا، أن دخول هذا الدين يبدأ بتزكية النفس أولاً من الاتباع، اتباع الشهوات والهوى وما ينطوي فيهما من رجاء وابتغاء في الآخرين، فذلك جوهر تسليم الأمر كله لله تعالى، في رد الشر وجلب الخير.
هي العبودية الأمثل والأجدر للاعتناق، لأنها تحترم مشيئة الإنسان فتدعوه بمخاطبة عقله وإجابة أسئلته ومن ثم تستميل الإيمان في قلبه حتى يبلغ اليقين. إنها ليست عبودية رِقٍّ تسلب الإنسان حريته، بل عبودية رُقِيٍّ تضبط النفس البشرية وتهذبها بما يتوافق مع تكليفها.
عِبَرٌ لا بدّ منها!
نمرّ على هذه الحادثة التي خلّدها الله تعالى في كتابه العزيز، ونغفل عن ماهية تفرد كل إنسان في اختياره المكفول له حتى يلقى حسابه.
إن كل طفل يولد، يتعلّم مفتاح الحرية في كلمة (لماذا؟)، ويستمر الأطفال بممارسة هذه الحرّيّة في السؤال حتى يتوقف بعضهم في مرحلة ما، أهمّ الأسئلة بدأت بهذه الكلمة، وأعظم الاكتشافات نتجت عنها.
لماذا سقطت التفاحة؟ وكأن التفاح لم يسقط قبل ذلك من شجرته! إنه استفهام السببيّة الذي يُظهِر حرية عقلك في التفكير، ويدل على أنك لست خاضعًا لفهم من حولك، والذي يمكن أن يكون قاصرًا أو منحرفًا أو متقاعسًا ومؤدٍّ لعللٍ عديدة أخطرها أنه ليس هناك قدرة على الالتزام بمتطلبات التغيير أو حتى الرغبة في ذلك.
يمكننا أن نرى انعكاس أبعاد هذا الهدي الرباني في قصة الأعمى على ما وصلنا إليه من ضعف في هويتنا الإسلامية. ولا أقول بسبب قوة التأثير، بل هو ضعف حقيقي بدرجات متفاوتة تصل للافتتان التام.
أتباع الثقافة الغالبة
هم فئة يدينون في تصرفاتهم لما يملى عليهم بشكل غير مباشر، فيتابعونهم عبر التقليد والإجابة عن سؤال المظهر لديهم، كيف يلبسون؟ ماذا يأكلون؟ كيف يتكلمون؟ من يصادقون وينصرون؟.
يظنون أنهم عبيد لله تعالى ويدينون بحقه وعلى صراطه المستقيم فيما يفعلون لكنهم تابعون للمؤثرين حاملي لواء الثقافة المشوهة من الغرب على أنها جزء من حضارته. وأدهى من ذلك اعتقادهم أنهم أحرار في خياراتهم ومتفردين في اتخاذها.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، يا معلّمنا وقدوتنا لو كنت بيننا اليوم، فكيف نقول ونوضحُ لجنابك –حتى- أصغر خيارات المسلمين في حياتهم؟
تضع بعض الفتيات الطلاء على أظافرهن، وتخالف لون البنصر عن بقية الأصابع. تسأل إحداهن لماذا اخترت ذلك؟ فتقول: لا أعلم، قد رأيت هذا الشكل على أظافر غيري فأعجبني، ففعلت! فإن أعلمتها أن هذا الفعل يعرف أساسًا بـ(Femme Flagging) في الثقافة الغربية بأنه كان سائدًا كإشارة بين الشاذين والشاذات لرغبتهم في ملاقاة نفس الجنس، فحينها –قد- تشعر بالخجل.
بمثال آخر، فإنك قد تتكلّم مع أحد الفتيان، فيحدّثك بفخر عن عمل قام به ثم يتبعها بحركة (Dabbing)، فتسأله لماذا اخترت هذه الحركة تحديدا فيقول: لا أعلم، حركة رائعة يفعلها الجميع. فإن أعلمته أنها إشارة رمزية لتدخين الحشيش بين مغنّي الراب، لربما شعر بالخجل.
والشعور بالخجل -على الأقل- أمر محمود؛ إذ إنّه مرتبط بالهوية الدينية ويضعها فوق الاعتبار. أما أولئك الذين ينكرون المعلومة، ويستخفّون بضررها، ويحفظون القاعدة الفقهية القائلة: “الأصل في الأشياء الإباحة” دونما تحرٍّ في البحث، فإن مفتاح الحرية لديهم يتحوّل من (لماذا)؟ إلى (لِمَ لا)؟ في كل جديدٍ طارئٍ مستحدَث.
بكل تأكيد فإن هناك فرق بين السؤالين ولو بدا ظاهرا الحرية فيهما، إلا أنّ الأول متحفِّظٌ والثاني متحرر. وبينما يتحقق الأول من الموانع والضوابط، نجدُ الثاني دافعًا للترغيب بالمنفعة واللذة كيفما اتفق. وهؤلاء “المتحررون” من الضوابط أولُ من يسارع لاتهام المحافظين بالتشدّد، وشعارهم في الحياة لكل بدعة جديدة أن “الدين يسر” وأن مضمون الرسالة الإسلامية العقدية أهم من هذه الشكليات المرمّزة. ولو أنك اقترحت عليهم جدلًا تزيين الأظافر بشعار الحزب النازي، أو حيَّيْتَهم بتحية هتلر، لرأيت الزجر والتشدد في الهوية الإنسانويَّة المستحدَثة!
حين يتحوّل التهديد الناعم إلى وحشٍ شرس!
تهديد الهوية الإسلامية هنا تحديدًا ليس في اتباع المسلم للسمت العام المتحرر وتعرضه للزلل في السلوكيات الناجمة عنه، فكل امرئ –غير معصوم- ضعيف أمام المغريات وقد يقع في الأخطاء، وإنما التهديد هنا بارتضاء التبعية وما تبطنه من قناعات قد تتعارض مع الإسلام دون التثبّت منها، بحيث يتأثر تدريجيًّا بأفكار ما بعد الحداثة التي يهمين على محتوى قنوات التواصل الاجتماعي، والتأثر بالبيئة الخصبة لترويج الاستهلاكية واللحظات الآنية والسخرية.
فوق ذلك، نرى أولئك وجوه الإعلام الافتراضي المؤثرين -ممن يرسّخ هذا الفكر- يسعون لإضفاء طابعهم الشخصي المتفرّد في كل أمر عن علم ودون علم، وفي أحيان كثيرة يصبح رأيهم بمثابة التشريع لمتابعيهم.
إن المفارقة هنا أن القول السديد عند غالبية المؤثرين يفصّل على قياس سعة قبول المتابعين، فلا أحد يريد أن يخسر متابعيه. وفي غياب المرجعية الدينية وتحت وطأة اعتناق هذا الفكر اللقيط والمضطرب ذاتيًّا، سواء من المؤثر أو المتابع، لا مناص من انتقاد الإسلام بنفس كيفية التشكيك في جزئيّات العقيدة والعبادات والمعاملات، وتغليب أجزاء على بعضها؛ وهكذا يغدو من الطبيعي الإيمان بأن الله الرحيم سيدخل الملحد الخلوق الجنة! وأن في بعض مناسك الحج مظاهر وثنية يجب أن تلغى! وأن الاقتراض مع وجود أضرار الربا تَحِلُّ للمحتاج! وغير ذلك مما يقدّمه هؤلاء المؤثرون، وكل هذا على فرض أن المؤثر الجاهل يقدِّم فكره بحسن نية، فكيف لو كان مدفوعًا لتغيير فكر المتابعين؟!.
إن المصيبة الحقيقية تكمن في أن عمل المؤثر على المنصات الافتراضية معرّضٌ دائمًا للاستغلال من قبل أجندات كثيرة تخدم مصالح الساعين لإفشال أي محاولة نهضويّة أو إصلاحية في مجتمعاتنا، وتلك المصالح التي تقتضي تغيير فكر العامة في إنشاء انطباعات بديلة، واستحسان بِدَعٍ جديدة، وتبنّي آراء غريبة …إلخ، بما يمتلكون من أساليب إعادة التوجيه وإحكام السيطرة.
وهذا الأمر مارسته الشركات الرأسمالية في الإعلانات بصفاقة قبل أن تعتمده الحكومات. إذ ما معنى أن يدعو لاعب رياضي محبيه لأكل الدجاج المقلي، ورقائق البطاطس المهدرج زيتها، وأن يشربوا المياه الغازية المحلّاة في الوقت الذي يمتنع هو عن ذلك لدواعي الصحة واللياقة؟
وفيكَ انطوى العالَم الأكبر
هناك شيء ما في فطرة الإنسان يدفعه في قرارة نفسه للاعتقاد بأنه مميز ومتفرد كبصماته. أليس عجيبًا أن نتشابه في الأسس التشريحية للأجساد ونتمايز في تفاصيل البصمات البيولوجية؟ وكأن الله تعالى يقول لك إنك متفرد لديه، فلا تظننّ نفسك نكرة بين الناس.
إنّ تَفرّد الإنسان في فلسفة الوجودية يكمن في حريته التامة في التفكير والاختيار والإرادة، دون قيود مادية أو معنوية، ولعل ذلك ما يلتبس على البعض فينزع صفة التفرّد عن العبودية لله في الإسلام، مستندين على تلقين الله الدين لعبده. لكن في ذات الوقت هذه الحرية التامة (الخيالية) تقتضي عدم التأثر بحوافز وأحكام ومنافع… إلخ مما يجعل وجودها في الإنسان يعدُّ ضربًا من الخيال، لأنه مجبول على حب الشهوات، ويُسأل عما يفعل، ويحتاج لوجود الآخرين.
إن ذلك يقودنا إلى أن حرية الإنسان تحتاج لأن تكون مقيدة بشكل أو بآخر كي تكون واقعية؛ أي أن تكون متأثرة بضوابط معيّنة سواء بتعاليم الدين أو القانون أو العرف الاجتماعي أو غير ذلك. وهنا نستطيع أن نقول: إن تفرد المرء لا يتعارض مع الحرية المقيدة إن كان من يفرض القيود ذو حرية تامة مطلقة.
يتمثل هذا التفرّد –في الإسلام- بحرية المرء في مقاومة هوى النفس. بمعنى آخر، حتى لو وحّدنا الدين على الناس جميعًا لبقي كل إنسان متفردًا في عمله الصالح وتقربه لله تعالى؛ لا يطغى عمل عبد على آخر، ولا يجزى عبد دون الآخر، ولا يؤاخذ عبد بعمل الآخر.
وهذا هو التفرّد الحقيقي القيّم بمعزل عن التفرّد الظاهري في خيارات الناس وتصرفاتها المتأثرة ببعضها البعض. وهو ما يحقِّقُه الله تعالى لكل عبد وضع دينه نصب عينيه في تفكيره وخياراته، وابتغى مرضاة ربه في عمله.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!