بصائر من معاناة المسلمين

ليعذرني القارئ حين أبدأ مقالي بهذا التشبيه، فلي من ورائه غاية.. إن مثل أمتنا الإسلامية كمثل رجل غافل منهك، ليس له هدف من الحياة إلا البحث المجهِد عن لقمة العيش، وتقديس الماديات، واغتنام بعض لحظات العمر في النزول عند رغباته، لكنه يجد نفسه أمام صدمات قوية على حين غرّة، تجعله تائها حيرانًا، فهو غير مهيّأ لها، ولا يدري ماذا يفعل أمامها، فتبين له هذه الصدمات مدى عجزه وتكشف له عن ضعفه وعدم قدرته على تحمل المسؤوليات عند الشدائد والأزمات، مما يستدعينا للوقوف مع هذا الضعف، نتأمله ببصائر وتفكّر.

معاناة في كل مكان

تكاد المعاناة لا تتوقف في عالمنا الإسلامي، لم يكد العقل يصحو أمام مفاجأة الإبادات والدمار وانتهاكات المتتالية التي يشيب لها الرأس ويعجز اللسان عن وصفها.

سواء من احتلال السوفييت لأفغانستان وما حدث في البوسنة والهرسك وما تلاه من احتلال أمريكي لأفغانستان ثم احتلال العراق والدمار الذي عاشته سورية على يد طاغيتها وكذلك ليبيا، وها هي غزة والسودان وميانمار والإيغور تخضع لمحو وإبادات لا تتوقف..

عندما عصفت بنا هذه الأزمات كشفت الغطاء عن أعيننا بأن وصف “غثاء السيل” بات ينطبق علينا، فلا نستطيع درء الظلم، ولا الدفاع عن مقدساتنا، أو رفع راية المقاومة ضد الأعداء الفاتكين بأمتنا!

لقد تعلمت سابقا من أساتذتنا أن الشدائد والابتلاءات تجعل الفرد يتأمل في نفسه، وفي ما قدمته يداه، لعله يستفيق ويتدارك نفسه، ويغير من حاله، حتى تنصلح أحواله، ويعود لرشده، ويلتزم بالصراط المستقيم، وما المعاناة التي تجتاح أمتنا اليوم إلا رسائل ربانية تجعلنا ندرك واقعنا المرير ونستفيق من غفلتنا، وتأمل معي معانى هذه الآية الدالة على ذلك: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} [الروم: 41].

فأي فساد أكبر من سفك دماء المسلمين وانتهاك أعراضهم وأموالهم واغتصاب أراضيهم؟ ومتى يكون رجوعنا إلى الله؟

الحجة البينة

إن المعاناة التي يعيشها مسلمو اليوم هي من قدر الله في سابق علمه، ولعل من حكمته أنها تدفعنا لنستفيق من غفلتنا، حيث لا يكون لدينا خيار ولا سبيل نتخذه ولا حجة للهروب من هذا الواقع.

إن حرب غزة اليوم -على سبيل المثال- واضحة المعالم، فالعدو واضح ومعروف، والمواجهة واضحة بين فئة مسلمة وأخرى محتلة كافرة، فإما أن نكون في صف الحق في مختلف المجالات أو نكون في صف الباطل ونصفق له. حتى إن من يزعم الحياد والصمت ما هو إلا مساند للباطل وجبروته. وقد صدق الله حين قال واصفا ما حدث يوم بدر: {وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]، وها نحن اليوم أمام لحظات حاسمة شبيهة بما وصفه الله، فعلى كل فرد منا، أمام الشدائد والابتلاءات التي تكشف لنا حقيقتنا وحقيقة واقعنا، أن يسأل نفسه بصدق: أين أنا مما يحدث اليوم؟ وماذا قدمت لنصرة الإسلام والمسلمين؟ وما هي مساهمتي في تغيير الواقع؟

هنالك من يتخذ سبيل الهروب والمواجهة غير المباشرة والاكتفاء بالمنهج السياسي أو بعض الدعم الاقتصادي، لكننا وصلنا اليوم إلى حالة لا تقبل هذه الحلول. لقد كشفت لنا الوقائع مدى تخاذل الحكومات وتعاملها اقتصاديا عن طريق التجارة وحركة التصدير والتوريد مع كيان الاحتلال مثلا، ومواصلة تزويد أعداء الأمة الداعمين للاحتلال كأمريكا وغيرها من دول الغرب بالمواد الخام من نفط وغاز وغيرها، رغم أنهم يدعمون الاحتلال في إبادته للمسلمين في غزة، وهم كذلك يدعمون الحكومات الظالمة الخادمة لهم في افقار وإضعاف شعوبهم، ويدعمون المنظمات التي تدعو لتغيير قيم الإسلام والمجتمعات المسلِمة، وحين تقع الانتهاكات من أطراف يدعمونها يغضون الطرف عنها، فاليوم نرى في السودان نساء تغتصب على يد ميليشيات ظالمة مدعومة من عدة دول عربية وغربية، فأين المنظمات النسوية العالمية التي صدعت رؤوسنا بالمساواة المطلقة للمرأة والداعية للحرية المطلقة للمرأة من كل قيود الدين؟

إن الشدائد المعاصرة التي نعيشها اليوم في حرب غزة تكشف لنا الحجة البينة التي لا شك فيها، لنرى فيها حكمة الله وتمحيصه، فإما أن نكون من المؤمنين الصادقين والثابتين والمجاهدين في سبيل الحق وإما أن نكون مع أهل النفاق والضلال والكفر، ولولا هذه الأحداث في مختلف البقاع ما عرفنا حقيقة الحكومات والشعوب والأفراد!

إن من سنة الله في خلقه تواصل الصراع بين الحق والباطل، ومن يقف في صف الحق سواء في نقل الحقائق كما هي أو بالكلمة أو بالحركة الميدانية فإنه سيجد نفسه فردا كان أو جماعة في مواجهة مختلف التيارات المتفرعة عن الباطل سواء كانوا أفرادا أو منظمات أو حكومات ولذلك وجب علينا التشبث بالحق والثبات عليه بدون مداهنة، لأن هذا ديدنهم في مواجهتنا كما بينه الله عز وجل في قوله: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102]، ورغم أن الإطار العام لهذه الآية يتحدث عن حالة الحرب وأداء الصلاة التي هي عبادة بأن لا يغفل المسلمون عن أسلحتهم التي هي وسيلة للجهاد حتى لا يفتك بهم أعداؤهم من الكفار الذين قد تختلف جهات انتمائهم، فنحن أيضا يجب أن لا نغفل عن أسلحتنا في مختلف الميادين كالعلم أو الكلمة أو النشاط الميداني أو الصناعة أو السياسة أو العمل حتى لا يتمكن أعداؤنا سواء كانوا حكومات أو منظمات أو أفراد أو جماعات من الفتك بنا!

السعي للتّغيير

يقول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16]، يخاطب الله في هذه الآية المؤمنين، أي نحن، وليس أحدًا غيرنا، فبالإيمان تستقيم الحياة ويصبح لها هدف ومعنى، ويغدو الإنسان مسؤولا وخليفة في الأرض بما يحمل من قضايا، وقوله {أَلَمْ يَأْنِ} يشير للفورية دون تسويف أو تأجيل، فلا نعلم كم بقي من العمر، وما نعيشه اليوم من معاناة يستوجب علينا التعجيل والإسراع.

لكن بماذا نسرع؟ تجيبنا الآية نفسها بأنه يجب الإسراع بخشوع القلب لله، بالإخلاص لله والاستسلام له، وبمعنى أوضح سمو النفس والقلب فوق حب الذات والأنانية والمصلحة وفوق المطامع والغايات الفاسدة وسموها عن طاعة الأهواء واتباع إغواءات الشيطان وأعوانه من بنى آدم، وإن لم يخشع القلب لله أصبح قاسيا متبلدا لا يحركه شيء من أجل فعل الخير أو نصرة الحق وتستعبده الشهوات والمفاسد.

إن الخشوع يكون لما “نزل من الحق” وما أنزله له لنا الله لنصلح به الحياة هو القرآن وما جاء معه من السنة النبوية، فليس في قلب مؤمن مكان لتعظيم شيء دون شريعة الله والخضوع لها بصدق، وإننا إن ابتعدنا عنه -كما هو حالنا الآن- أصبحنا أمة ضعيفة لا وزن لها تنتهك حرماتها في كل مكان بدون رادع!

فكأن هذه الآيات في هذا التوقيت بالذات تخاطبنا وتقول لنا ألم يأن لكم أن تعودوا لمنهج الله؟ ألم يأن لكم أن تعيدوا صياغة حياتكم وفق القرآن وسنة رسولكم عليه الصلاة والسلام؟ ألم يأن لكم أن تتوجهوا لتحقيق الخلافة في الأرض وتنزعوا عنكم ثوب الجهل والتخلف والجبن والوهن؟ ألم يأن لكم أن تعودوا لمفهوم الجهاد في سبيل الله الشامل بداية من جهاد النفس وتقويمها ومقاومة العدو بالسلاح وجهاد العلم بالصناعة وجهاد الدعوة بكلمة الحق؟ ألم يأن لكم وأنتم تنظرون بعجز لإخوانكم في مختلف بقاع العالم يبادون ويطردون من أراضيهم بأن تتوحدوا وتكونوا جسدًا واحد يشد بعضه البعض وتتركوا الحقد والكراهية والخلافات الموهومة جانبا؟ ألم يأن لنا أيها المؤمن وأيتها المؤمنة أن نراجع أنفسنا ونتوب ونشمر للعمل ونتحول من موضع ضعف إلى قوة كل من موقعه؟ ألم يأن لنا أن نترك البعد عن الشرع والعصيان والتمرد على أمر الله وأن تكون حياتنا كلها إسلامية؟ ألم يأن لكم أن تكسروا قيود القهر والطغيان المفروضة عليكم من قبل المستبدين؟ ألم يأن لكم أن تقاطعوا كل داعم لقتلة أهل غزة وأن تقاطعوا الثقافة الغربية التي تناصر هذه الإبادة؟ ألم يأن لنا، ألم يأن، ألم يأن.. إلخ

ليكن شعارنا منذ اليوم في الحياة: “الآن مادام في العمر بقية” ومنهجنا: “شرف الحياة في التزامنا بديننا” و طريقتنا فيها “العمل في كل الميادين في سبيل الله”، إنّ أقلّ القليل في ما نشاهده اليوم من مآسي تقع في أمتنا أن تجعلنا نستفيق من غفلتنا ونبادر بالتغيير.. والله الموفق لما فيه سواء السبيل.

شارك المقال