مقالات

أزمة تعريف الدين

من العبث أن يشرع الإنسان في دراسة علم ما في معزل عن فهم حقيقته وكنهه ومباحثه الأساسية. فكيف بمن يماري حول حاجتنا إلى الدين، أو يشكك حول بعض حقائقه، أو يجادل حول تشريعاته، متخطيا التعريف الشامل عن معنى (الدين)!

أساطير الأولين

يخبرنا القرآن الكريم أن عددًا غفيرًا من الناس كانوا ينظرون إلى الدين على أنه خرفات وأوهام ورثتها الشعوب من الأمم السالفة ولا حاجة لإعادة بعثها إلى الحياة في العصور الحديثة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْۙ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24]، بل إن مصطلح (أساطير الأولين) يتكرر في القرآن بغزارة، لأن البشر تختلف حول تعريفاتهم عن الدين، ولكن الغالبية كانت تتفق حول كونه خرافة من مخلفات العصور القديمة. وعلى هذا الأساس، أخرج لنا الغرب عشرات المفكرين الذين أنكروا الدين بهذا الدافع حتى لو اختلفت نظرياتهم حول تفسيره. والعامل الذي يجمع كل تلك النظريات أنها كانت تقع في مغالطة (المصادرة على المطلوب)، فهي تفترض بطلان وجود الإله والغيب والنبوات أولًا، ثم تشرع في رسم ملامح النظرية ثانيًا، وعندي أن المشكلة لم تكن في المصادرة على المطلوب بقدر خطر اختزال مفهوم الدين في تعريفات سطحية أبعد ما تكون عن حقيقته ومقاصده الكبرى. فللغرب في عصر التنوير أمثلة كثيرة من محاولات تعريف الدين والتعامل معه وكأنه مجرد ظاهره إنسانية شأنه شأن اللغة، وإليك بعض الأمثلة:

أعرض جون لوك عن الدين بحجة أن العلم التجريبي يوفر للإنسان الحقائق اليقينية، ومن ثم لا حاجة لدين مشكوك في عصمته العلمية! أما كارل ماركس فذهب إلى تعريف الدين على أنه وليد صراع مادي بين الطبقات الاجتماعية المقهورة وبين الطبقات المنعمة، وقال الكلمة الشهيرة في وصف الدين بأنه “أفيون الشعوب” الذي تستخدمه الطبقات القاهرة لتستعبد وتسيطر على المقهورة فحسب. فعند ماركس كل النصوص الدينية بمختلف مواضيعها من قصص الأولين والأنباء المستقبلية والتشريعات التفصيلية كانت من تأليف بشري إثر أزمة اقتصادية!

ويذهب سيغموند فرويد إلى أن الدين نشأ في حضارات ما قبل التاريخ نتاج جلد عنيف للذات من قِبَل من ارتكبوا إثما أدى إلى حالة من الندم والكبت العنيف، ثم تحول الكبت إلى محرمات دينية، فكان الدين!

فالدين عند هؤلاء، إما مجرد مصدر آخر للمعرفة في علوم الطبيعة، أو مجرد أفيون يستخدمه الطغاة في استعباد الضعفاء، أو مجرد حالة نفسية من الكبت ولّدت تأليف الدين لرسم الحلال والحرام وتوفير مساحة آمنة لعشاق دموع الندم ولهواه جلد الذات!

جون لوك (على اليمين)، كارل ماركس (في الوسط)، سيغموند فرويد (على اليسار)

تعريف الدين

الدين في تعريفه وفي هدفه الأكبر هو الهداية في شؤون الغيب التي لا يهتدي إليها الإنسان عن طريق عقله المجرد وحده. إذ إن العقل البشري مؤهَّلٌ أن يكتشف كل أسرار المادة ويفك أعقد ألغازها، ولكنه يقف أمام الغيب وكأنه يقف أمام جبل شاهق لا يدري ما وراءه. فهو إما أن يجازف ويحاول عن طريق الديانات الباطنية التي تدعي قدرة كل إنسان على الاتصال بالغيب، ثم يقف حائرا بين معرفة الغيب وشكوك التعرض إلى الهلاوس، أو أن ييأس ويرضى بما قدر له من نصيب محدود في المعرفة ويكون وجوديا ماديا. أو أن يسعى للبحث في الدين لعله يصل إلى أطراف من الحقيقة قد تهديه إلى الحق المطلق!

والإنسان لا يرضيه معنى الحياة السطحي المتوفر له الآن من أمور معيشته الشخصية، فهو في بحث دائم عن اكتمال المعنى. والعقل المجرد يربط الجزئيات الصغيرة ليشكل معنى محدود، ولكنه يقف أمام الأسئلة الكبرى وهو عاجز عن توفير إجابات كاملة بعيدا عن اتباع الظنون ومكر الأهواء!

فالدين هو الهداية في الأسئلة الوجودية الكبرى التي لا يجيب عنها الإنسان وحده. وهو السبيل الآمن للإجابات اليقينية بلا مجازفات، وبه يتملك الإنسان رؤية كاملة شاملة عن الوجود بأسره، وتلك الحكمة من نزول الدين أول الأمر! فقد قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1]

فبالدين تكتمل نعمة الخالق على الإنسان، لتكون النعمة الأولى هي الإيجاد والإنعام المادي الذي يتلقاه كل البشر، وبهدايته وإرشاده في تساؤلاته الكبرى تتم نعمة الله عليه، وهو مصداق قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].

أما تعريف الدين لغويا، فإن اللغة العربية تمتاز بتغير معنى الكلمة بمجرد تغيير تشكيل الحروف. فقد تتحول (كَبَر) – بفتح الكاف والباء – من معنى ازدياد السن وبلوغ العجز إلى (كِبر) – بكسر الكاف – معنى الغرور والنرجسية. فتغيير التشكيل من الفتحة إلى الكسرة يغير المعنى من المادية إلى المعنوية. ولذلك الدين يأتي على وزن (دين) بفتح الدال، وهو القسط المادي من الأموال الذي يلتزم به الإنسان. فما إن أصبحت (دين) بكسر الدال، أصبحت قسطًا معنويًّا يسدده الإنسان. ولما كان الإسلام ينص أنه لا إله إلا الله، وأن ما من نعمة إلا وهي من الله، فكانت العلاقة بين الخالق والمخلوق هي علاقة المتفضّل بمتلقي الفضل العاجز عن رده! فالدين معناه اللغوي هو محاولة تسديد الدين الإلهي على الإنسان، فيصبح الإنسان مدينًا لله لأن الله متفضِّلٌ عليه!

الغالب والمغلوب

لمّا كان الدين -بمعناه الغربي- هو الاستسلام الكامل لكهنوت الكنيسة في كل شؤون الحياة من أول حكم الدولة إلى احتكار العلوم والمعارف كلها. كانت العالمانية هي الملاذ الوحيد لبناء الحضارة وتقدم الأمم في نقطة فاصلة في التاريخ الغربي، بين عصور الظلام التي تمسكت بالكهنوت الكنسي وبين عصر التنوير الذي تحرر العقل من الكنيسة فتقدم. فلا عجب أن ينظر هؤلاء إلى الدين – المسيحية المحرفة – على أنه أساطير الأولين!

ولكن المشكلة الكبرى في هذه الأيام، أن المسلم المعاصر بات ينظر إلى السيناريو الغربي على أنه تحرر من الدين – بإطلاق – لا تحرر من الديانة المسيحية التي تشربت بالوثنيات والتحريف! فأصبح المسلم المعاصر ينظر إلى الإسلام مثلما ينظر الغربي إلى المسيحية، وبما أن النهضة الغربية كانت تحت قيادة العالمانية، توهم بعض المسلمين أن العالمانية هي الملاذ الأخير لنهضة إسلامية حديثة!

وعندي أن الغالبية لو صدقت مع أنفسها أكثر لاعترفت أنها تنظر إلى الدين على أنه أساطير الأولين حقًّا، ويبرهن على ذلك الواقع المعاصر. فالدين عندهم لا علاقة له بالرؤية الكونية الشاملة، ولا بالهداية في الأسئلة الوجودية الكبرى! ونادرًا ما تجد من يثق في أهلية الدين على قيادة البشرية أكثر ممن يثق في أهلية فلسفات البشر على القيادة! بل تجد أن منهم من حصر الدين في لائحة طويلة من المكروهات والمباحات، ومنهم من حصر الدين في مراسم ميتة لا تظهر إلا في الأعياد والمناسبات، ومنهم من حصر الدين في الحديث عن القصص القرآني من باب التسلية، ومنهم من حصر الدين في التقليد الموروث والاتباع الأعمى، مما يحجر قدرات العقل ويعطل بناء الحضارة!

وعندي أن الحوار مع العلمانيين الذين ولدوا على الإسلام لا يبدأ من تصحيح مفاهيمهم الخاطئة، بل إننا بحاجة إلى أن نرجع خطوة إلى الوراء حتى نعرف الدين الذي نجادل حوله أولا. ونحن بحاجة بأن نرسم خطا أحمر بين السيناريو الأوربي عن السيناريو الإسلامي. فالأول كان تحريرًا للعقل من سلطان الخرافة، والثاني هو دين حق يرسم للعقل طريق الحقيقة ويحذره من الوقوع في الخرافة!

فوثوق المسلم في قدرة العالمانية لقيادة الركب الإنساني مع كامل إعراضه عن الدين ينبع من عدم الاقتناع بصحته لا محالة. فكيف يقر الإنسان أن الدين نزل من الله الذي خلق ثم يتهم الدين أنه لا يتماشى مع طبيعة البشر أفرادا ومجتمعات! وكيف يكون الإنسان المنصف معترفا بحاجته إلى الدين لأن العقل وحده يعجز عن إدراك الحقائق الكلية ثم يتمرد المسلم على الدين بدعوى أن العقل وحده يكفي!؟

أما عن انتشار فلسفات الغرب ورؤاه كالعالمانية، والليبرالية، والماركسية –فيما مضى- وتوغلها بين المسلمين بإرادتهم فما ذلك إلا لمشكلة نفسية لا فكرية. فمن يفتقر إلى ثقته بذاته واعتزازه بهويته سيتبع كل غالب مهما كان بين يديه بضاعة مزجاة، وسيعرض عن كل مغلوب مهما كان بين يديه الدواء الشافي! أو كما قال ابن خلدون: “المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب. والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها!” [المقدمة]


مصادر للتوسع

كتاب (الدين) د. محمد عبد الله دراز

سيرورة الحداثة والعلمنة.. من حداثة السوق إلى علمنة الحياة!

لم تكن الحداثة مجرد مرحلة زمنية عابرة، بل سيرورة جديدة يدخل فيها الإنسان في مرحلة جديدة من الوجود، حيث تغير فيها -بحسب تعبير د. هبة رؤوف عزت- “مقومات العيش الإنساني وأُعيد تعريف الزمان والمكان لتمنحهما معاني أكثر اقترانا بالرأسمالية في مراحلها المتتالية؛ وبالتالي أعادت طرح سؤال: ماذا نعني بالإنسانية وما خصائصها” [من مقدمة كتاب الحداثة السائلة]. فالحداثة لها طرفان: هدم ومن ثم بناء جديد، وأثناء هذا وذاك، ثمة حديث عن فصل شديد بين المجالات وخاصة الأخلاقية والدينية عن مجرى الحياة ومن ثم إعادة تمركز متطرف حول الإنسان فقط باعتباره مالكًا وليس مستخلَفًا، وهذا ما يمكن أن يشار إليه بالعَلْمَنة.

العلمنة .. فصلٌ مؤقّت أم مسار حياة؟

ثمة محاولات للخداع تدور دائمًا على الألسنة –خاصة في الوقت الراهن- في وسائل التواصل الاجتماعي مفادها أن العلمنة فصل للدين عن الدولة، أي أن تقف الدولة على مسافة حيادية واحدة من جميع منتسبي الأديان، وألا تفضل أحدا لسبب ديني.

لقد انتبه إلى هذه الخدعة عدد من المفكرين مبينين أن العلمنة في جوهرها فصل للقيم الأخلاقية عن الحياة، لكن أي حياة؟

اصطدم د. عبد الوهاب المسيري بالمجتمع الأمريكي الحداثي، وكان هذا دافعًا له ليحلله مقارنًا إياه بمجتمعه المصري التراحمي، فأبدع مفهومين مركزين للدلالة على حال الحداثة المقترنة بالرأسمالية، فصار لدينا (مجتمع التراحم) في مقابل (مجتمع التعاقد)، وتبرز هنا مفاهيم الرحمة والعقد كمفاهيم مركزية ومفتاحية لفهم النماذج الفكرية في كلا المجتمعين، ففي المجتمع الأول تبرز الأخلاق القائمة على الرحمة في حين أن المصالح القائمة على الاتفاقات الشديدة الوضوح والتي لا تحتمل التأويل ولا التراجع عنها هي أس القيم للرأسمالية النفعية.

الثورة الصناعية .. صعود أم انحدار؟

جوهر القيم الأخلاقية يتركز في كونها عقلًا يمنع الإنسان عن مقارفة ما يسيئُ ويدفعه للقيام بما هو واجب، وكلما زادت أخلاق امرئٍ ما زادت دائرة واجباته، فالكريم لا يكتفي بإعطاء الزكاة بل يتبعها بالصدقات نظرًا لأنه يرى أنه موكل بوظيفة مساعدة الناس، وفي هذا الإطار يمكن فهم تصرفات عدد من الصحابة وغيرهم من الذين أخرجوا نصف أموالهم أو أكثر صدقة.

غير أن الثورة الصناعية التي تحققت في عصر النهضة غيَّرت كثيرًا من المفاهيم، لقد فتحت عجلة الصناعة ودورة التصدير شهية التملك والسيطرة وكسب المال، فظهرت سرديات فلسفية تمجد من الإنسان –الغربي- وقدراته وقوته واكتفائه بذاته، وانعكست هذه الفلسفات على الواقع بشكل أفكار الرأسمالية والاستعمار واستجلاب العبيد ونشأت سرديات تمجد النجاح المادي وبدأت أسطورة تحقيق ثروات بالتخلق وساعدتها لاحقًا الدعايات والأفلام في التضخيم.

في ضوء كل هذا أعيد النظر إلى الأخلاق على أنها قوانين يحتمي الضعيف بها، ومن أجل تخفيف القيود نُظِر إلى الأخلاق –التي هي تجلٍّ حقيقي للدين في حياة الفرد– على أنها قيد يجب التخلص منه. وهكذا بات ينظَر للدين –والأخلاق بالتالي– على أنها شأن شخصي بعد أن كانت مرتكزًا جمعيًّا واجتماعيًّا.

من دكان “المعلم” إلى الشركات العابرة للقارات.

في إحدى القصص -التي قد لا تكون حقيقية وإنما تشير إلى الحالة الجمعية والمخيال الجمعي– يفِد جواسيس من جيش الأعداء إلى المدينة فيدخلون السوق متنكرين ويذهبون إلى أحد الدكاكين ليشتروا بعض الأشياء فلما اشتروا حاجتهم الأولى وأرادوا ابتياع شيئا آخر طلب منهم صاحب الدكان أن يشتروها من جاره بحجة أنه باع بعض الأشياء في حين أن جاره لم يبع شيئًا بعد، فلما أخبر الجواسيس قائدهم عدل عن فكرة غزو البلدة مبينا أن هزيمة هذا الشعب غير ممكن.

هذه الحكاية قد تكون من نسج الخيال كما أشرت لكنها مهمة لفهم المجتمع وارتباطه بالأخلاق حتى في مجال الاقتصاد، بتعبير آخر فإنه لا يمكن الحديث عن شعب متماسك دون أخلاق حاكمة حتى في المجال الاقتصادي، هذه الأخلاق كانت تُعلَّم وتنقل عبر الأجيال بواسطة (المعلم) الذي كان يعلّم (الصناع) الجانب التطبيقي مع الجانب الأخلاقي بتعبير آخر ثمة معرفة نظرية وتطبيقية تتوارث وتنقل عبر الأجيال، وفي هذا الإطار ظهرت عائلات اشتهرت بـ”شيخ الكار” الذي يمثّل رئيس الحكماء في مهنته، فهذه المعرفة كانت تنتقل وتهذّب وتشذّب، غير أن فترة الحداثة غيّرت هذا وجعلت مهمة “المعلم وشيخ الكار” في يد مدرّبي التسويق وخبراء التنمية البشرية، وثمة فرق شاسع بين “المعلم” و”المدرب” فالتدريب يحيل إلى تعليم تقني مبرمج أكثر من “المعلم” الذي يأتي من العلم بداية والاحتكاك والاستمرار والمداومة. كما تغيّرت فكرة الاتجار مع الناس من الاستفادة وبناء ثروة شخصية إلى الاحتكار العالمي والسيطرة على الموارد وتركيز الثروات في أيدي الشركات العائلية –في جوهرها- العابرة للقارات.

رحلة المعرفة من الكلية إلى الجزئية

من الكتاتيب ومدارس الأمس إلى معاهد وجامعات اليوم، هذا ما جرى في رحلة المعرفة، فالتعليم الحديث بالرغم مما حققه من قفزات فإنه في الأصل يهدف إلى تخريج جيل من الشباب المهيئين نفسيا و”معرفيا” للعمل في معامل الحداثة وشركاتها العابرة للقارات، وهو تعليم يشتغل بتطوير مهارات معينة مع إغفال مهارات أخرى، لذلك فإن علوم الرياضيات والفيزياء وغيرها أكثر حضورا فيه.

بتعبير آخر فإن التعليم في زمن الحداثة تعليم تجزيئي ولا يمكن أن يقدم تصورا كليا عن العلوم والمعرفة. لأن هذا لا يخدم “الثورة الصناعية” وما ترتبط به من الرأسمالية والعلمانية.

ثمة تصور للمعرفة قائم على الإدراك الكلي للروابط بين العلوم المختلفة، فكل العلوم تؤدي –في نهاية المطاف- إلى نقطة واحدة، فالطالب –من خلال هذا المنهج- يطّلع على كل العلوم النظرية والتطبيقية ثم يختص بواحد منه مدرِكًا لعلاقة اختصاصه ببقية العلوم، ولذلك نجد في وصف العلماء القدماء ما يلفت النظر من كونه عارفًا بالعلوم النظرية وغيرها، وخذ مثالًا على ذلك الإمام الغزالي والرازي أو الفارابي وابن سينا وابن رشد حيث كان اطلاعهم على بقية العلوم المختلفة عاملا في توازن نظرتهم وعدم وجود تصادم معرفي مفرطٍ في حياتهم، أما المعرفة الحالية فهي معرفة مبتسرة مختزلة لا تستطيع إيجاد تصور كامل وشامل للكون، ولذلك نرى إشكالات معرفية في أفكار بعض من يوصفون بأنهم (رجالات العلم) حيث وجود أي دورٍ للعلوم الإنسانية والتفكير القائم عليها إلى جانب طغيان العلم المادي وتطوره بشكل يدعو إلى القلق، فالعلم في جانب من جوانب تطوره أصبح قاتلا ومخيفا وقد بدأت أصوات تتعالى بضرورة وجود حدود أخلاقية له.

لقد أفضت هذه الحالة التعليمية التجزيئية إلى أن تظلم بعض التخصصات المعرفية بتحميلها ما لا تحتمل فيدفع بها لتقديم أجوبة عن أسئلة ليست من حدودها وهذا ما نراه في حالة (العلموية) حيث ينظَر مثل إلى الفيزياء على أنها العلم الذي يجدر به تقديم الجواب عن أسئلة كلية كبرى كونية والحال أن هذا العلم مثلًا لا يستطيع أن يجيب عن أكثر من سؤال ” كيف”، وليس “لماذا”، وشتان بين السؤالين!

قصة نقل الحياة من “نحن” إلى “أنا”!

اِلْحق شغفك واسعَ وراءه، قم بما تحب، ادرس ما تحب، عبارات قد تكون جميلة ومحفزة في ظاهرها، لكن من المحتمل أنه لو درسنا خلفياتها لرأينا شيئا مختلفًا! فالسعي وراء الشغف يُخفي وراءه حياة فردية تتنكر لمتطلبات كون الإنسان مخلوقًا اجتماعيًّا، فثمة تصور للحياة مسبق قائم على التجمع والتكافل -أو كما سماه المسيري- فهو مجتمع التراحم، وقد ظهر الآن مكانه مجتمع الحياة الفردية بتسميته الأخرى مجتمع التعاقد.

في هذا الإطار ليس على الفرد إلا القيام بما يراه مصلحة أو يحقق سعادة له وهكذا ظهر في أدبيات التحفيز والتنمية عبارات من مثل الحق بشغفك، وحقق ما تحب، وقد تخفي هذه العبارات أشياء أخرى توحي بأنه يجب عليك أن تعيش في هذه الحياة فردًا لا يبصر معاناة الآخرين، ولا يهتم بما يواجه المجتمع من تحديات مختلفة!

ناقش المسيري هذه الفردانية وأساسها المتمثل في الحرية بناء على أنه قد ‏”أصبح من الممكن إغواء الإنسان الفرد وإيهامُه بأن ما يرغبُ فيه هو قرارٌ حرٌ نابعٌ من داخله، ولكنه في الحقيقة، شاهدَ مئات الإعلانات التي ولَّدت الرغبة الذاتية، وخلقت عنده الرغبة التلقائية” [الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، عبد الوهاب المسيري]

وهنا، فإنه من المؤكد أننا لا ندعو إلى محو الإنسان لذاته على حساب الجماعة، إلا أنه في الوقت نفسه يجب ألا ينظَر إلى الحياة ضمن منظور فردي يؤدي إلى نزاعات وإشكالات تظهر آثارها التدميرية على الكون منذ الآن، فالجشع المرافق للنظرة الفردانية وحب التملك الذي سيؤدي إلى التدمير البيئي آفات نراها اليوم في كل مكان.

خلاصة

إن العلمانية المتضمنة في جوهرها لتيارات الحداثة قد ولّدت كثيرًا من الإشكالات على المستويات الوجودية والمعرفية والأخلاقية، فعلى المستوى الوجودي بات الإنسان يرى نفسه مالك الكون وليس مجرد مستخلَف فيه، وكونه مالكا يعني أن كل شيء في منظور مباحٌ، ولهذا اكتسبت العلوم التي تهيئُ له السيطرة عليه أولوية في النظام المعرفي والعلمي، وهنا نواجه مشكلة معرفية فالعلم الكلي غاب عن مناهج التعليم لحساب العلم الجزئي.

إن نصف حقيقة -كما يقال- أخطر من كذبة، فالعلم الجزئي يولد كثيرا من الإشكالات التي لن تستطيع العلوم الرياضية والفيزيائية حلها، أما على المستوى الأخلاقي، فالإنسان الاجتماعي الذي يعيش ضمن منظومة جمعية من القواعد والمعارف بدأ يغيب لحساب الإنسان الفردي الذي يميل لقضاء حياة وحده وغاب مفهوم الأسرة لحساب المعاشرات السريعة وهكذا بدأنا نرى حروبا -وإن لم تكن معلنة- بين الناس الأفراد الموجودين في مدن مدججة بأنظمة المراقبة والأمن.

علمنة الإسلام المشروع الفاشل

كان الكاتب الروسي العظيم ليو تولستوي رجلًا غنيًّا، يمتلك الكثير من القرى والأراضي، لكنه لم يكن كأمثال النبلاء والأغنياء الروس، فقد عُرف عنه عطفه على الفقراء والمعدومين، فبنى لهم المدارس والكنائس، اقتناعًا منه بأن سعادته تنبع من سعادة الآخرين.

رغم كل هذا فقد وصل الأديب الروسي إلى منزلق خطير للغاية، حيث وصل به الأمر إلى التفكير في الانتحار، إلا أنه ضعُف أمام الموت، وعاش كئيبًا لفترة طويلة من حياته هائمًا لا يعرف لنفسه طريقًا واضحًا، فكان يصرخ “يا إلهي رحمتك، أنقذني، أرني الطريق”، واستمرّ على حاله هذه حتى اختار في النهاية أن يخرج من الكنيسة الأرثودوكسية وأن تتبعه لعنات رجال الدين إلى قبره، وقبل موته بفترة ليست بالقصيرة بدأ جديا يقترب من الإسلام، بل أصبح مدافعًا عنه، وكتابه “حكم النبي محمد” شاهد على هذا، كما  كان بينه وبين الشيخ محمد عبده علاقة صداقة وتبادل للرسائل ومناقشات مختلفة، إلى أن مات، ويقال إنه أسلم بحسب ما اشتُهِر عنه، فقد طلب ليو تولستوي ألّا يقرأ عليه أي قسيس وألا يدفن في مدافن المسيحين وألا يوضع على قبره صليب ودُفن كما يدفن المسلم.

قصة هذا الأديب الروسي مع الإسلام مثال واحد فقط من قصص العظماء مع هذا الدين العظيم، الذي ما إن يعرفه المرء حقًّا حتى تسكن روحه إليه وتذوب جوارحه فيه، وهذا ما حدث مع الكثير من المثقفين الأوربيين؛ ولو أنهم لم يسلموا إلا أنهم ظلوا يكنون للإسلام الاحترام الكبير.

ليو تولستوي (مصدر الصورة ويكيبيديا)

وإذا ما عدنا إلى بلاد المسلمين وجدنا قومًا يرون في تعاليم هذا الدين تناقضًا، وفي سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم رجعية، وقرأنا أنهم يطالبون بتجديد الدين ووضع تفسير جديد للقرآن الكريم دون ضوابط تقيم الحقّ؛ ومراجعةً للتاريخ الإسلامي واعتذارات عما فعله الصحابة والمسلمون من فتوحات. وللسخرية، فإن هؤلاء في نظر البعض “قواد التنوير”.

الإسلام الجديد أو الإسلام الإنساني

في 1933 ظهر البيان الإنسانوي الأول على يد روي سيلرز وريمون براغ، وتحدث هذا البيان عن دين جديد وعرَّف الإنسانوية باعتبارها حركة دينية تهدف إلى التعالي وتجاوز الأديان السابقة ذات الأصل الإلهي [إبراهيم بن عبد الله الرماح، الإنسانوية المستحيلة، ص22]، وفي خمسينات وسيتنات القرن العشرين، بدأت موجات هذا الفكر تصل إلينا بشكل لافت، وكان من تجليات الوصول، ظهور كتابات إنسانية أو إنسنة عربية؛ ويقصد بالأنسنة ما هو مرتبط تاريخيا بفترة عصر النهضة في إيطاليا، والأنسنة تعني عمومًا جعل الإنسان موضوع كل شيء ومرجع كل شيء، انطلاقًا من الفكر الإغريقي  المعروف بتمجيده للإنسان.

كتب الكثيرون أمثال حسن حنفي ومحمد أركون وسيد قمني -وغيرهم كثيرون- بأقلامهم أفكار المستشرقين، وحاولوا تطبيق فكر الأنسنة على الإسلام، واستغلوا جهل الناس فاعتبروا نقلهم إنجازات شخصية،  وفي هذا الصدد يقول  الدكتور أحمد إدريس الطعان: “تلقف بعض الباحثين العرب النظريات الفلسفية الوضعية حول الأديان وطفق بعضهم يعرضها  بين المسلمين على أنها من إبداعها مستغلا في ذلك جهل السواد الأعظم  من الأمة باللغات الأجنبية” [أحمد  إدريس الطعان، العلمانيون والقرآن الكريم، ص: 314].

وعلى خطى العَلمانيين الغربيين الذين استطاعوا تحرير الأوربيين من قيود الدين وحصر النصرانية والرجوع بأوربا نحو الوثنية كما يذكر الدكتور عبد المجيد الشرفي في كتابه (لبنات) [ص 54] “أصبحت العلمانية تعني -حسب موقع كل طرف- إما التحرر من قيود الدين وسلطة رجاله، وإما انحسار النصرانية والرجوع إلى الوثنية” سار بعض المفكرين المعجبين بالفكر الغربي، وعلى رأسهم محمد أركون، الذي لا ينفك طيلة كتابه “القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني” يذكر المستشرقين وكتبهم حول القرآن وحول الإسلام، وهو ينطلق حسب قوله من أفكارهم ويطبق ما وصلوا إليه من معارف وطرق تحليلية وخاصة “الفيلولوجيا” على النص القرآني وعلى التراث والمجتمع الإسلامي عمومًا.

يقول: “لقد حاولت أن أطبق النظريات الأنثربولوجية للعالمين كاردينير ولينتون على دراسة الفكر والمجتمع والسياقات الإسلامية” [ص: 43]

وطبعًا -كما واضح ومعروف- فإن استخدام هذه الطرق والمناهج في التحليل والتأويل لا تؤدي إلى تفريغ النص الديني من محتواه فحسب، بل إلى إزالة القدسية عنه وتحويله من كتاب إلهي ووحي إلى كتاب تاريخي -حسب أركون-، وبالتالي إضفاء صبغة بشرية على القرآن وتعاليمه وهو ما يعني عدم قدسيتها وإمكانية تكذيبها ووضعها جانبًا على الهامش كما حدث مع الإنجيل مثلاً.

وكما كتب “لودفيج فويرباخ” عن ظاهرة الدين أو كون الدين اختراعًا بشريًّا، أعاد حسن حنفي وكرّر ذلك في كتابه “التراث والتجديد” [ص 127-130] فيقول: “إن الله لفظة نعبر بها عن صرخات الألم وصيحات الفرح، إنه تعبير إنشائي أكثر منه وصفًا خبريًّا، هو رد فعل على حالة نفسية” ونحسب أن المعنى واضح في هذا الكلام، ومثل هذا نراه في كتابات فويرباخ وتلميذه ماركس وغيرهم، فالله ليس سوى سلوة للضعفاء والمساكين، والجنة ليست سوى تعويض عن جحيم الأرض وألمها، وهكذا دواليك.

إذًا، نرى هنا ونكتشف أن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم مفكرين ينتمون للإسلام، يسعون وبكل الوسائل إلى إفراغه من كل قيمة إلهية مقدّسة، وتحويله إلى ترانيم وكلمات جوفاء تقال في الاحتفالات، وهم يأملون أن يتنازل الشيوخ عن تمسكهم بالشرع والفقه، كما حدث وتنازل الباباوات والقساوسة، وعوض أن نسعى لإدخال العالم في الإسلام يقولون: لماذا لا ندخل الإسلام في العالم كما حدث مع المسيحية؟!

إسلام على المقاس

في الحقيقة يصعب تحقيق ما يصبو إليه العلمانيون العرب وذلك لوجود اختلاف تام بين الإسلام، والذي لا يمكن أن نطلق على لفظ  “الدين” –بمعناه الغربي المضيّق- لكونه يتجاوز هذا الإطار الضيق، وينطلق ليمسّ مجالات الحياة البشرية جميعها، وبذلك يتجاوز النظرة المادّيّة للدين؛ كما أن الإسلام ذاته يقدّم رؤية مختلفة لكل من الدنيا والآخرة بخلاف ما عليه الدين المسيحي، حيث إن من تعاليمه ما يحمل مبادئ أولية للعلمانية “دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر” وهنا فإن الإسلام يرفض هذا التقسيم، ففي نص القرآن: {لله ما في السموات والأرض} [البقرة: 284] و{إن الحكم إلا لله} [يوسف: 40]، وبذلك فأي فكرة تبيح فصل منهج الدين عن مختلف المجالات اليومية -كالسياسة مثلا- فإنها قطعًا لا مستند صريح لها في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية.

يبقى الأمر إذًا محصورًا أمام العلمانيين في محاولة علمنة حياة المسلمين وبالتالي علمنة تديّنهم -لا دينهم-، وهذا حدث بالفعل ونجح بمقدار هائل، وذلك راجع بالأساس لثقافة التي يتلقفها المسلمون من قنوات الاتصال مع الغرب، وكذا لسيطرة الفكر الليبرالي على الحياة العامة، كما أن تأثير الاقتصاد مما لا يمكن إغفاله.

إن التعامل اليوم بمبادئ الليبرالية والبراغماتية خاصة توقع المسلم ضحية لانفصام خطير، فهو من جهة يؤمن بدين يقر بوجود الأخلاق والمبادئ السامية، ومن جهة أخرى فإن كل ما حوله معلمَن يتجاوز هذه المبادئ ويعوضها بمبادئ أرضية. وهنا يختار مكرها أو دون أن يشعر العلمنة والطريق الليبرالي أو الأخلاق الرأسمالية، ولعل الأمر يذكرنا بالحركة البروتستانتية التي حللت المعاملات الربوية، وانقلب الدين المسيحي من دين يشجع على الرهبنة إلى دين يحفز على الاستثمار والربح، وهذه كانت اللبنة الأولى للفكر الرأسمالي، [يُراجَع: ماكس فيبر، أخلاق البروتستانية وروح الرأسمالية] فيرى ماكس –في كتابه- أن الإسلام لم يشجع على التجارة لإيمان المسلمين بأن الرزق بيد الله وأن كل شيء يرجع إليه، وهو بذلك أخطأ كما ما يزال الكثيرون يخطئون في هذه النقطة، فالإسلام لم يدعُ للتواكل والكسل البتّة، بل حثّ على العمل والاتجار ضمن ضوابط الشرع والمرحمة، والدليل أن معظم الصحابة كانوا تجارًا؛ والرسول صلى الله عليه وسلم اتّجر قبل البعثة، والذي وقع فيه ماكس فيبر هو ربطه الإسلام بدعوة من دعوات “المرجئة” –إحدى الفرق الإسلاميّة غير المنضبطة والقديمة-.

نخلص من هذا إلى أن الحديث عن علمنة الإسلام غير ممكن إلا باختراع تعاليم جديدة له وقراءات شاذة، وما دون ذلك فإن الأمر بالغ الاستحالة.

قراءات شاذة

على ضوء ما تقدّم فإنه ليس من الغريب أن نرى اليوم نسخًا مستَحْدَثَةً -من مسمّى الإسلام- تبيح كل المحرمات وتدافع عنها؛ نسخًا تسوق لحِلّ الزنا وتدعو الناس إلى الإقبال عليها بدعوى أنها مما لم يحرم الله ولا رسوله وإن حصل وحرمها فإن ذلك حكم خاصّ بزمانه لا أكثر.

نرى اليوم (إسلامًا) يجعل  كل إنسان –مهما بلغ من فساد عقيدته ودينه- مسلمًا، بل  مهما كانت ديانته ولو عبد الحجر والشجر وسجد للشمس، إسلاماً نخاف أن نصبح في يوم على فتوى تبيح الصلاة بالترانيم أو بشعر عنترة وقيس!!

يتكئ دعاة الإسلام الجديد أو إسلام السوق الجديد على تأويلات شخصية لآيات القرآن تعتمد تجديداً للخطاب الديني ونشراً للتسامح برأيهم، وهذا أمر حسن -ظاهرًا- فمن هذا الذي يرفض التسامح؛ إلا أن  التسامح المقبول ليس الذي يعمد إلى لي عنق الآيات لتناسب أهواء الناس وأفكارهم، فالإسلام لم يأتِ ليساير هوى الناس بل جاء ليضادّ أهواءهم البشرية الناقصة، وكذلك سيبقى، ومن هنا فإن التلاعب بمعاني الآيات ليس انتصارًا للتنوير كما يظن ويتوهم من  يلقب بالمفكر الإسلامي، بل هو تغيير للدين وإحداث دين جديد لا علاقة له بالدين الإسلامي الحقيقي،  وإن كان هدفهم التسامح فتاريخنا مليء – بفضل الله- بالتسامح مع الآخر بناء على توجيهات الدين ونصوصه، ومن ثم فإننا لا نحتاج خطاباً يغير ملامحه ليرضي نزوات مختلفة مبنية على جهل طافح بأحكام الشرع الحكيم.

محمد شحرور

من المضحك والمبكي -في آنٍ معًا- أن إحدى الممثلات المصريات خرجت بتفسير جديد لقوله تعالى {وأما بنعمة ربك فحدِّث} [الضحى: 11] وادّعت بأنّ ظهور بعض أجزاء الجسم بشكل ملفت أمرٌ لا مشكلة فيه، بل هو مقبول ومرغوب به، وذلك عملاً -بحسب ادعائها- بهذه الآية، وهذا التفسير يذكّرنا بمنهجية القراءات المعاصرة للقرآن والتي كان أحد أبرز أبطالها المهندس المتوفّى محمد شحرور، ولعلّ هذا التفسير بناء على منهجه مقبولٌ!

ينسب لسيدنا علي قوله لابن عباس حينما كان متوجها لمناقشة الخوارج (لا تُخاصِمهم بالقرآن؛ فإنَ القُرآن حمَّال أوجه، تقول ويقولون، ولكن حاجِجهم بالسنَة؛ فإنَّهم لن يَجدوا عنها مَحيصًا) [الدر المنثور، السيوطي، ج1، ص:40] ورغم وجود عددٍ من العلماء شككوا بصحة نسبة هذه المقولة عن علي رضي الله عنه، إلا أن مغزاها صحيح، فإن تأويلات القرآن قد تنفتح إلى ما لا نهاية في حال عدم اللجوء للسنة النبوية التي فسرت القرآن، وإلا فإن الإنسان سيجد نفسه في ربوع إسلام آخر، وهذا ما وقع فيه للأسف جماعة من المسلمين يلقبون أنفسهم بـ”القرآنيين” وهم غير مدركين –أو لعل الأرجح أنهم مدركون- لكونهم حين يقدمون هذه التجديدات والرؤى فإنهم يؤسسون لدين جديد مختلف عن الإسلام الذي أنزل الله، وبالتالي فإن عمليتهم هذه، عملية إنزال للسماء -كما قال ماركس-.

خلاصة القول

إن البحث في الدين والتساؤل فيه بهدف فهمه حق لجميع الناس إذا كانت الغاية الوصول للحق لا إثارة الشبه، ومن ثم فإنه كذلك لا يحق لهؤلاء المتسائلين أو الباحثين منع الناس من انتقادهم والتعبير عن رأيهم بحرية وبهذا تتقدم الأفكار في الأمم.

إنا نرى أن من يدعو لغير ما عُرف عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو لا يدعو إلى دين الله، فعوض أن يدعو العالم لاتباع للإسلام يدعو الإسلام لاتباع العالم، ولو كان هذا العالم وتعاليمه باعتراف حتى أشد الملحدين يسير بالإنسان نحو الهاوية، والإسلام لم يأتِ ليساير أهواء الناس وخيالهم -كما قلنا- بل العكس، فقد تحدى قريشًا وأخلاقها وقلب مفاهيمها وهذا ما شجع الصحابة الذين كانوا قد ملوا مدنية قريش المزيفة، وهو الذي ما زال يشجع الكثيرين على اعتناقه، كونه يخلصهم من الزيف والوهم لأنه جاء بالعلم وباليقين.

كيف صارت العلمانية الطريق إلى موت الإنسان؟

ليس من المبالغة القول: إن المفهوم الأكثر مركزية واستمرارًا في الدين –أي دين- هو الإيمان، وأن التجارِب العلمانية مهما حاولت قياس هذا المفهوم أو عقلنته فإنها تفشل بذلك، فتجربة التديّن تنبع عن الإيمان، وقد يضعف التدين إلا أن ذلك لا يعني غياب الإيمان أو موته، وبهذا فإن الواقعية الحضارية التي يبنيها الإنسان المؤمن وتنسَب إلى الدين نابعة من الإيمان من ناحية وتتعزّز به في ناحية أخرى.

هذا الأمر يدفعنا لأن ننظر إلى الدين والتدين والإيمان بوصف ذلك كله جهة واحدة لا يمكن وقوع الانفكاك فيها، فهي متداخلة لا يمكن لأي جزء منها أن يكون منفصلاً في نطاقه ووجوده عن الأخرى، وهذا ما تريد العلمانية -بمختلف توصيفاتها- ترسيخه، أي الفصل التام بين أجزاء الدين، مما يغيّر من طبيعة الدين ويغيّر من جهة النظر في فحوى وجوده.

بلوى التقليد العلماني

يقف مثقفون تقليديون ومن معهم موقف سلامة موسى وغيره موقفًا يضرب باجتهادات القدامى وتاريخهم عرض الحائط، ولهذا لن يقبل المسلم العلمانية المحضة خاصة أن الذين ينادون بها يعتنقون أفكاراً تعارض كل مسلماته وكتبهم تتعارض  مع القرآن الكريم جملة وتفصيلًا وليس بينها وبين الإسلام سوى الخير والإحسان؛ إضافة إلى احتقار دعاتها وتشكيكهم في كل ما هو ديني، والدين بالنسبة للمسلم هو الأصل وهو سر القوة؛ وحين يصرح في أنه يرفض هذه العلمانية، لا يعني ذلك أنه ينكر أن العلمانية غيرت أوروبا، وإنما كونه  ضد من اجتزأ أفكارهم وعزلها عن السياق ورمى شعبه بها من فوق.

على المسلم أن يقف موقف د. علي شريعتي الذي وصف حال المنافحين عن العلمانية المنسلخة عن التاريخ والواقع الإسلامي، حيث “يقال: إن كل من يريد أن يصير متحضراً عليه أن يستهلك الحضارة التي يصنعها الغربيون، وإذا أراد أن يرفضها فليظل وحشياً وبدائيًا، ويقول السيد موريس تورز إنه لا يوجد شعب باسم الجزائر، ذلك أنه يريد أن يتجاهل تمامًا حضارة شمال إفريقيا العظيمة، وكل ما كان لدى الغرب هو (أغاني رولان) في ذلك الوقت كان المكان الوحيد المتحضر في أوربا هو إسبانيا أو الأندلس” [العودة إلى الذات، ص: 37]

علي شريعتي

إن المسلم المقتنع بهويته يفتخر بتاريخه التليد، ويرفض إسقاط النظريات عليه من السماء بدعاوى تناسبها مع الكل، فالنظريات ليست قمصانًا جاهزة تتناسب مع مختلف الشعوب، فحتى في القمصان هناك أحجام، وما يناسب هذا ليس مما يناسب ذاك، وبالتالي فالعلمانية التي تناسب أوربا ليس بالضرورة أن تناسب العالم، فلكل شعب خصوصياته.

وما يقال عن العلمانية يقال عن “تعليمات صندوق النقد الدولي “، والتي تنحصر في إزالة التعريفات الجمركية على الواردات وفرض سياسات تقشفية حادة، ورغم أن هذه التعليمات توصف غالبًا بالإصلاحات إلا أنها أدّت إلى خراب عدة دول إلا أن هناك من يدافع عنها ويراها حلًّا لكل مشاكل الدول الضعيفة.

ثم ليس بالضرورة أن نقلد أوربا حتى نكون مثلها، فنحن نمتلك نماذج إسلامية هي خير من أوروبا وأقصد الأندلس في العصور الذهبية؛ كما يوجد نموذج عالمي استطاع بناء تفوقه بالاستناد على تراثه الخصب دون الحاجة لاتباع أوربا وهو اليابان؛ زد على ذلك، أن العلمانية لا تطبق في الدول المتقدمة فقط، بل تعتمدها دول متخلّفة كالهندوراس وتوغو وغيرها، وتبنتها من قبل حكومات شديدة التطرف والعنف كالفاشية والنازية والستالينية والماوية في الصين، إلا أنّ العلمانية لم تنقذ هذه الدول من الفقر والتطرف، فلماذا؟

ولعل الجواب بسيط وواضح، فالعَلمانية ليست المنتَج الكامل، وليست المقولة الخالدة التي تسقى بماء الشباب الدائم الذي تحكي عنه الأساطير، وليست الدواء لكل داء؛ وشعار “العَلمانية هي الحل ” كذبة اعتادت الأفواه ترديدها كما تُردد الببغاوات الكلمات والجمل، دون إدراكٍ للمعنى.

 ما هكذا تورد الإبل!.

يجب على المنظّرين أن يدركوا أنّنا لسنا فئران تجارب أو دمًى خشبية، وأن الشعوب العربية ليست قاصرةً حتى تحتاج لمن يوجهها، فهي تمتلك إرادتها وتعرف طريقها جيداً، حتى وإن بدت تائهة، فما هي إلا مسألة وقت فقط وستستعيد زمام المبادرة علميًّا وعمليًّا وأخلاقيًّا، والشعوب العربية تعرف ما يصلح لها وما لها لا يفعل؛ وعلى المثقف والسياسي أن يترفع عن كونه “حْرْكي قلم”، لأن هؤلاء يدسون الأفكار الخاطئة التي لا علاقة لها بالحياة، وبالمشاعر وبمتاعب الشعوب كما يقول مالك بن نبي، [من أجل التغيير، ص: 15].

وبالجملة، فثمة ثلاثة أمور مهمة يجب التنبّه لها:

أوّلها: أن للمسلمين ذكريات سيئة مع العلمانية، ولعل الجميع يتذكر المرارة التي أذاقها الرئيس التونسي بورقيبة للمسلمين في تونس، بعد أن أنزل العلمانية الفرنسية  أو اللائكية كما هي صافية؛ حيث إن لائكية فرنسا، تأثرت كثيرًا بالأوضاع الاجتماعية والسياسية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، ولهذا كانت لها مواقف واضحة من الدين، فحرّم على الناس الحجاب وأغلق دور القرآن وراقب المساجد بل وأراد إلغاء الصوم، في عام 1961م  دعا العمال إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج ولأسباب أخرى، وطلب من العلّامة ابن عاشور أن يفتي في الإذاعة بما يوافق ذلك، حيث ترقب النّاس ظهوره من خلال البث، فما كان من الشيخ العلّامة إلا أن قرأ آية الصيام وبيّن فرضه، ثم قال: ” صدق الله وكذب بورقيبة” [ينظر: موقع الإسلام ويب: الطاهر بن عاشور: العالم الشجاع].

الحبيب بورقيبة رسخ العلمانية في تونس

الحبيب بورقيبة

وما فعله حكّام تركيا في بدء تأسيس الجمهورية هو نسخة طبق الأصل عمّا قام به بورقيبة، وكلاهما تحدثا باسم الدين ودعيا إليه ولكن بطريقة ومنهج خاص، وأباحوا للسياسي التدخل في الشأن الديني مع أنهم حرموا على  الشيخ التدخل في الشأن السياسي، وهذه العقلية مستمرة إلى اليوم ولن تنتهي، فقبل رمضان هذا العام، خرج أحد دعاة العلمانية المدعو “أحمد عصيد” في المغرب في فيديو، يحذر الناس من الصوم كونه سيسبب لهم في الإصابة بفيروس كورونا، وذلك لأن الصوم يؤدي إلى تيبس الحلق وفيروس كرونا ينشط في الحلق الناشف -رغم أن الدراسات لم تتحدث عن الأمر- ولكن أهل التنوير هذا حالهم، يتهافتون على كل ما قد يعكر على المسلم صفاءه، ولو بالكذب على الطب وأهله، بل على كل علوم الدنيا، التي يستبيحون حرمتها نصرة لأفكارهم.

أما الثاني فهو أن مجموعة من أسس العلمانية مطبقة في العالم العربي والكثير من أفكار العلمانية أصبحت مسلمات لدى العديد من المسلمين، وهذا خطير للغاية، حتى أن المرء بات لا يمكنه تخيل حياته دونها، رغم تأكيد المرء تشبثه بدينه وتاريخه، وهو صادق كل الصدق وليس بإمكاننا تكذيبه، ولكننا نحذّر، كما حذرنا الشيخ سفر الحوالي في كتابه:” المسلمون والحضارة الغربية”: “يجب أن نحذر تسرب العلمانية الى مجتمعاتنا ونحن لا نشعر، العلمانية التي تعتمد المنهج التدريجي البطيء والتغيير القيمي بعيد المدى، ويراهنون على أن الجيل التالي سيكون جيلاً يضع شهواته فوق كل اعتبار”.

ولو قال القائل أن ما نتبعه جزء فقط، قلنا إن العلمانية لا يمكننا أن نفهمها انطلاقا من الجزء الصغير، وإنما انطلاقًا من شكلها الشامل والعام، والذي يختلف تمام الاختلاف عن الجزء، وفي هذا  يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري: “يوجد في تصورنا علمانيتان لا علمانية واحدة، الأولى جزئية ونعني بها العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، والثانية شاملة ولا تعني فصل الدين عن الدولة وحسب، وإنما فصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، لا عن الدولة وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص” [العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ج1، ص: 16]

أما الثالث: فهو أن أوربا رغم دخولها عالم الغنى والرفاهية المادية والقوة السياسية والصناعية والعسكرية، ورغم أنها حلت  الكثير من مشاكلها السياسية والاقتصادية، ولكنها في الوقت التي بنت فيه هذا البنيان هدمت جوهر الإنسان.

نعم، اختفت مصطلحات “الإكليروس، والسيد، والإقطاع، ودولة الكنيسة” إلا أنه ظهر مكانها مصطلحات جديدة، تشير إلى نتيجة عملية علمنة العالم الإنسي، منها:” أزمة الإنسان في العصر الحديث، وثمن التقدم، وهيمنة النماذج المادية والكمية والآلية والاغتراب وأزمة المعنى، وتفشي النسبية المعرفية والأخلاقية، وتآكل الأسرة، وتراجع المساحة الفردية والخصوصية، والتشييء والتسليع” [عبد الوهاب المسيري، عين على العلمانية، ص: 33]، وبالتالي نعيد التأكيد على أن شعار “العلمانية هي الحل” كذبة وشعار زائف، ولما أعلنت العلمانية في نهاية تشكلها –أي القرن التاسع عشر- عن اختفاء السماء، كما أشار كارل ماركس، وموت الإله، كما وصّف نيتشه رؤاه في الحالة الأوروبية، فإنها أعلنت ذلك دون أن تدرك أنها بشّرت  بـ” موت الإنسان”، كما أشار إلى ذلك ميشيل فوكو بقوله: “فالإنسان اختراع يبين لنا علم الآثار بيسر وسهولة حداثة عهده ووشكان نهايته” [ميشيل فوكو، الألفاظ والأشياء، ص397 :]

لا بد من العودة للدين

يتجاهل العلمانيون العرب حقيقة ما يدور في ساحة الفكر، وأقصد دعاوى تجاوز العلمانية أو ما يسمى “ما بعد العلمانية post-secularism” والتي يتزعمها الفيلسوف الألماني هابرماس سليل مدرسة فرانكفورت، وهابرماس كما هو معروف لدى الجميع كان من المدافعين الشرسين عن العلمانية، وواحد ممن قالوا بأفول نجم الدين في زمن العلم (ماركس ونيتشه وغيرهم)، ولكنه اليوم يرى بأن القول باختفاء الدين من الحياة العامة يقف على أرجل من قصب.

وبإرادة الفيلسوف الباحث عن الحقيقة بدأ هابرماس تصحيح نظرته حول الدين وحول دور الدين في المجتمع، وهكذا تصالح الاثنين فنجد أنه في سنة 2001 يلقي محاضرة بعنوان ” الدين والمعرفة “، وبعدها بسنة واحدة يكتب كتابا بعنوان “الدين والعقلانية”، في 2005 شارك في مؤتمر دولس حول ” الفلسفة والدين “…الخ.

لم يتراجع هابرماس عن كونه شخصاً علمانيا ولكنه بات الآن يعي دور الدين وجمالية الدين ويصعب عليه التحدث تحييده كما كان يحلو سابقًا، وفي نفس الصدد يتحدث الدكتور التونسي فتحي المسكيني وهو أحد المنادين بالعلمانية عن دور الدين فيقول: “إنّ الحداثة الأخلاقية قد علمنت القيم لكنّها قامت بذلك على حساب الفضائل. وإنّ تأسيس قيم من دون فضائل هو إخفاق فلسفي لعصر إنسانوي وفردانيّ يزعم أنّه أرسى العقلانية العلمانية بوصفها منقذًا أخلاقيًّا من عصور مسحورة. فإذا بالعالم المنزوع السحر -أي الذي صار نصًّا معلمنًا من دون أيّ حاجة إلى إنقاذ- قد أخذ يعبّر أكثر فأكثر عن حاجة روحية جعلت عودة الديني ليس فقط ممكنًا، بل مطلبًا مثيرًا لأجيال ما بعد الحداثة[1].


[1]  ينظر الرابط الآتي: http://www.siironline.org/alabwab/derasat(01)/076.htm

خيارات الإسلاميين لتجاوز أزمة الحداثة

أصدر المفكر الجزائري د. عبد الرزاق بلعقروز في عام 2013 كتابه القيم “أزمة الحداثة ورهانات الخطاب الإسلامي”، ووضع في خلاصة نقده للمفكرين العرب الذين حاولوا الخروج من أزمة الخطاب الإسلامي عبر استعارة أدوات ما بعد الحداثة من الغرب، وقدم قراءة واعية لفكر إسماعيل الفاروقي وطه عبد الرحمن باعتبارهما نموذجين ناضجين لتجاوز أزمات الغرب وإحياء الحضارة الإسلامية، مركزا على مسائل الحداثة وأزمة الحقيقة والتعارف والعقلانية والكونية.

يتساءل الكاتب: ما الذى يملكه الخطاب الإسلامى المعاصر من أجل الإسهام فى التحولات المعاصرة؟ وهل يؤسس هذه الخطاب رؤاه الفكرية منفصلا عن خطاب الحداثة وما بعدها؟

ويقول بلعقروز إن مُمكنات الخروج من نفق الطور الحداثي المُظلم، وإصلاح العطب في هذا المشروع لن تكون ممكنة دون إعادة تفعيل التوجيه الديني وقيم الإيمان في بناء الإنسان وملء العالم بالمعنى من جديد، لأنه لا فتوحات ممكنة تلوح سوى بأربعة شروط، وهي:

1- أن يستفتح الإنسان من جديد، من أجل أن يفتح اللّه له، ويعيد ترتيب الصّلة معه، لأن الذات دون إيمان ودون معنويات تنتج أنماط الحياة التي لا تُطاق.

2- أن ينتهي الإنسان عن غيه وظلمه وتخريبه للعالم، أي تدمير المعنى والعالم المحسوس.

3- أن يحذر من السقوط في أزمات المشروع الحداثي الغربي، لأنه لن يثْمر إلا عودة المآزق وفقدان الأمن الوجود ونَسْبنة المعرفة واختزالها في المصلحة، واختلال التوازن القيمي، ومن ثم الوصول إلى العَمى الوجودي والعبث السُّلوكي والتَّخريب للأرض.

4- التَّفكير في الارتقاء إلى مستوى الحدث الحضاري من أجل فهم هذه المشكلة بعمق، أي فهم الحداثة الغربية بعمق والكشف عن الفقر المعنوي والأخلاقي الذي ينخر أساساتها، وإعادة ترتيب سُلّم القيم الضائعة وبلورة نموذج إدراكي جديد للعالم.

ويرى المفكر الجزائري أننا لم نتعامل مع الحداثة في طورها الغربي بشكل ناضج بعد، فنحن فاقدون للرؤية والمنهج والإرادة، كما أننا لم نفهم الحضارة الإسلامية بعمق وشمول حتى نبحث في تراثنا المعنوي والأخلاقي الضخم ونفسّره من جديد.

ويعتبر أن النهضة تبدأ بإعداد قادة في الفكر من أجل إنجاز وظيفة الفهم المزدوج للحضارة الغربية وأسسها بعمق، وفهم الحضارة الإسلامية بعمق أيضا.

ويسعى في كتابه إلى رصد جوانب الاجتهاد في الخطاب الإسلامي المعاصر الساعية إلى بلورة رؤى فاعلة مستقلة عن سياق الحداثة.

ومن مباحث الكتاب المهمة أنه بيّن حدود النظريات التواصلية الغربية التي تأثر بها الفكر العربي المعاصر، وشدد على الحاجة إلى الأخذ بالرؤية التَّعارفية التي اقتبسها من قوله تعالى {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}، مستندا في الأساس إلى المبدأ القرآني لرؤية الإنسان للوجود من خلال التوحيد، فوحدانية الله هي أساس كل شيء، ومن ثم انفصال الذات الإلهية عن الإنسان والعالم المخلوق دون حلول ولا اتحاد، وتأتي بعد ذلك الرؤية التعارفية بناء على مفاهيم: التَّكريم الإنساني {ولقد كرمنا بني آدم}.، ووِحدة الإنسانية (دون تمييز عرقي)، والاختلاف التّكاملي (وليس التفاضلي العنصري).

وفي نقده لأزمة الحقيقة والقيمة، يشرح بلعقروز كيف هيمنت الاتجاهات الارتيابية على الفلسفة الغربية فيما بعد الحداثة، ثم استعرض أفكار إسماعيل الفاروقي التي تتجاوز هذه الاتجاهات وتؤسس الرؤية على وحدة الحقيقة والقيمة والحياة، وتستمدها من وحدانية الله.

أما أزمة العقلانية فقد عرضها المؤلف في فكر محمد أركون، ثم استعرض نقد طه عبد الرحمن لأركون الذي فضح افتتانه بمناهج العلوم الإنسانية الغربية ومحاولته تطبيقها على المعرفة الإسلامية، حتى في نصوصه المقدّسة، حيث كشف طه أن ادعاءات أركون لا ترقى إلى تصورات الفقهاء، ويقول إنه لو كانت مذاهب الفقهاء فعلا امتدادا لتناحُرات السّياسيين لما اختصّت بالوفاء لشروط الاستدلال والبناء النّسقي، فالسّلطة لا تخاطب العقل بل تتوسل العاطفة.

وفي الفصل الخامس والأخير، ينقد المؤلف طرح “الفلسفة الكونية” لدى المثقفين الحداثيين العرب، ويطرح البديل المتمثل في “الفلسفة المقارِنة” التي تدرك العالم بالمعنى الاختلافي، معتبرا أن الفلسفة الكونية تؤدي للانغراس في أنماط فكرية أخرى لا تخرج من عمق معاناتنا ولا تستجيب لمشكلاتنا.

كيف يؤثر الخطاب النسوي على مجتمعنا؟

إن القراءة في التحولات المجتمعية التي طرأت في العصر الحديث على النساء خصوصا، والفكر التحرري -الذي أخذ مداه لديهن بشكل غير مسبوق- يعيدنا تلقائيا لدراسة الخطاب النسوي الموجّه من الحركات النسوية وحركات تحرير المرأة، الذي أثّر بنا وصنعنا دون شعور منذ القرن الماضي إلى الآن.

عادة ما يؤرخ لبدايات النسوية في القرن التاسع عشر ضمن الموجة النسوية الأولى والتي بدأت بالمطالبة بالحقوق الأولية كحق التملك وحق التعليم وحق العمل وغيرها وإبراز بعض ألوان الظلم الذي تتعرض له المرأة وانتقادات للنظرة الدونية للأنوثة لدى الغرب المتأثرة بالخطاب الكنسي و نصوص الإنجيل، وأطروحات بعض الفلاسفة. وضمن سياقات تاريخية معينة وإعلاء لقيم الحرية المطلقة والليبرالية التي استغلتها هذه الحركات للدعوة لتحرير المرأة الكامل وإشراكها في التيار الرئيسي للمجتمع بأن تحصل على كل امتيازاته وتتولى كل مسؤولياته بالمشاركة الكاملة مع الرجل، تزامن مع تطور للأطروحات النظرية التي أخذت في معالجة مفهوم المرأة والأنوثة وأنها لا تولد امرأة بل تصبح كذلك، بسبب التوجيه المجتمعي الذي يدفعها للخضوع والاستسلام على حد تعبير سيمون دي بوفوار إحدى أبرز رائدات الحركة النسوية [النسوية وما بعد النسوية، ص64].

كمجتمع عربي لا يمكن إنكار ما يحصل فيه من قمع لشخصية الأنثى ومحاولة لجعلها العنصر الضعيف في المعادلة، وهذا الشعور الخانق لدى النساء ولّد الكثير من الحنق الذي وجد صداه في النموذج الغربي المُصدّر إلينا من حركات تحرر المرأة والموجات النسوية التي أرادت تحريرها من قيد فأدخلتها في قيود أخرى، وأثرت في نظرتها لنفسها أولاً وفي علاقتها بالجنس الآخر وفي وظيفتها الحقيقية والقيود التي يحل لها أن تتحكم بها، وفي نظرتها للتدين والأحكام الدينية والشرائع.

يتناول هذا المقال أبرز المجالات التي استطاع الخطاب النسوي التأثير بها علينا بوصفنا مجتمعات عربية محافظة نسبيًا.

التعليم والعمل
عندما ننظر في إدراج النسوية للتعليم والعمل على رأس قائمة الحقوق باعتبارها يجب أن تكون مكفولة للمرأة، نلاحظ أن النسوية أطّرت مفهومي التعليم والعمل في المجالات التي يعمل فيها الرجل غالبا كما ذكرت سابقا، نقلًا عن بيتي فريدان أن المطلوب هو “إشراك المرأة بصورة كاملة بحيث تحصل على كل الامتيازات للمشاركة الكاملة مع الرجل” -علماً أنها أسست المنظمة الوطنية للمرأة كرد فعل مباشرعلى فشل اللجنة الأمريكية لتكافؤ الفرص في التوظيف على حل مشكلة التمييز على أساس الجنس في الوظائف-. (النسوية وما بعد النسوية، ص58).

وهذا التأطير للمفهوم وجّه المرأة بطريقة أو بأخرى لاتخاذ مسار التعليم والعمل الذي سُلط عليه الضوء إعلامياً وتم التركيز عليه في الخطاب النسوي، كتصوير حرية المرأة التي تبدأ حال دخولها عالم الأعمال وأنها التي تلبس البدلة وتخرج صباحاً لتعود في المساء ومحفظتها ملأى بالنقود وقد “حققت ذاتها ووضعت بصمة في المجتمع”، فاتجهت كثيرات منهن تحت الضغط المجتمعي لدراسة تخصصات لا تناسبهن ولا تراعي أوضاعهن النفسية والاجتماعية فقط لتأمين المستقبل لاحقا ولتحقيق ذاتها كما قيل لها، دون أن يكون لديهن أدنى اطلاع على التوجهات التي تفرضها مصالح السوق على المجتمع، والاختيارات الإجبارية التي يطرحها، ولا وعيٍ ذاتي بإمكانياتهن الحقيقية وقدراتهن التي تؤهلهن لاختيار طريق الحياة الأنسب.

وبنظرة أكثر تدقيقاً نرى أن النسوية لا تقدّر العمل إلا لأجره و قيمته المادية الذي يحقق الاستقلالية للمرأة ويجعلها غير معتمدة على الأب أو الزوج، وليست المعضلة بالاستقلال المادي بحدّ ذاته، وإنما في تكريس الحياة الندّية بين الرجل والمرأة، وفي عدم اعتبار التربية والحفاظ على أسرة مستقرة عملاً مهماً يستحق التقدير، بل وفي اختزال كافة الأعمال بالأعمال المأجورة التي تقابَل بقيمة مادية.

وبعد الاطلاع على واقع العمل والنظام الرأسمالي الذي يتعامل مع الموظفين على أنهم عبيد، لا نرى المرأة العاملة أحسن حالاً بالوظائف التي تشغلها والضغوط التي تتعرض لها بحجة تحقيق الذات، بل إن سوق العمل استغل المرأة أكثر من الرجل وفرض عليها معايير الجمال والأناقة كمقياس للكفاءة وهذا ما يجعلنا نعيد النظر حول مفهومهم لتحرير المرأة، خصوصا بعد أن نعلم أن النسوية أُحبطت لعدم حدوث تغير حقيقي في مجال العمل إذ أن دخل المرأة ما يزال في حدود ثلثيّ دخل الرجل في المملكة المتحدة. [النسوية وما بعد النسوية،74].

الزواج والأمومة
إن أول مؤتمر وطني عقد حول تحرير المرأة في بريطانيا 1970م، خرج بأربعة مطالب أساسية وكانت: المساواة في الأجور والمساواة في التعليم والفرص وإنشاء حضانات تعمل على مدار اليوم والحرية في استخدام وسائل منع الحمل والإجهاض (الحرية الجنسية). ومن خلال الربط بين هذه المطالب الأربعة تتضح ازدواجية المعايير لدى النسويات ففي حين أنهن يطالبن بحقوق أساسية كالعمل والتعليم، يرتبط ذلك لديهن بإنشاء الحضانات على مدار اليوم واستخدام وسائل منع الحمل وتكشف هذه المطالب عن الاهتمام بجسد الأنثى واحتياجه للاستقلال الذاتي الجنسي.

فالنظرة النسوية للزواج والأمومة كقيد أزاحت كل قيمة مرتبطة بهما، ولم يعد الحفاظ على أسرة مستقرة من أولويات الحياة بل لم يعد الأمر يستحق التوقف والتفكير لدى كثيرات، وباتت التربية مرتبطة بتوفير الماديات لا أكثر والحضانات من الأساسيات التي يجب توفيرها للطفل لتحقق الأم ذاتها، وأصبح البقاء في المنزل للعناية بطفل وتربيته يدل على قلّة الطموح والإنجاز في حياة المرأة، وأنها إن ارتضت البقاء في المنزل فهي بالضرورة مقيدة مجبرة لا حيلة لها سوى ذاك “التركيز على صورة المرأة كضحية”.

ولو أن الأمر لدينا لم يتطور بعد إلى الاستقلال الذاتي الجنسي بشكل ملحوظ إلا أن فكرة الزواج كقيد هي ما رسخ في أذهان كلا الجنسين. فالمسؤولية التي يجب أن يشعر بها كلا الأبوين تجاه الأبناء خفتت في عصر التمركز حول الذات ودور الأم أعظم في ذلك وأكثر تأثيراً.

ربما كان من الأكثر رشداً وعقلانية كما يقول الدكتور المسيري “ألا نحاول تحرير المرأة وألا نحاول القذف بها هي الأخرى في عالم السوق والحركية الاستهلاكية وأن نطالب بدلاً من ذلك بتقييد الرجل وأن يعاد تعليمه بحيث يكتسب بعض خبرات الأبوة والعيش داخل الأسرة والجماعة” [قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى،39]، وهي الخبرات التي تم هضمها في العصر الاستهلاكي الحديث.

مفهوم التحرر عند النسوية
تدعي النسوية منذ بروزها أن من أهم أهدافها التحرر من القيود التي فرضها الرجل على المرأة منذ الأزل، مستنداتٍ على عدة إنجازات كاكتساح سوق العمل الذي كان محظورًا عليهن وغيره من الميادين التي كانت حكرًا على الرجل، لكن التحرر الذي تدعيه النسوية ما يزال مقيدا بنظرة الرجل واكتساح الميادين التي يبرز هو فيها، أي ما يزال الرجل هو المقياس الحقيقي للتحرر الذي تدعيه النسويات، فأي عمل آخر تبرع فيه النساء في غير تلك الميادين التي يبرز فيها الرجل لا تجد لها حيزًا لديهن ولا اعترافًا. وما فتئن يعلنّ رفضهن تسليع جسد المرأة ومسابقات ملكات الجمال في العالم بحجة أنها تكريس لفكرة الأنثى التي لا يتجاوز اهتمامها جذب الرجل الذي يتحكم بها، بينما يندر أن تجد منهن من تتقبل اللباس المحتشم -الإسلامي منه خصوصًا-، بحجة أن فرضه أيضًا استغلال ذكوري لسلطة الدين والتشريع، ويخرجن بادعاءات لا يستطعن إثباتها كذكورية الفقه الإسلامي وغيره، رغم أن فرضه يلغي محاولات تسليع جسد المرأة ويساعدها على تحييد أنوثتها لتستطيع المشاركة في المجتمع دون مضايقات.

تنتقد بيتي فريدان النساء في الموجة النسوية الأولى وترى أن مشكلتهن أنهن يحسدن الرجل وحاولن أن يكنّ مثله بدلًا من أن يتقبلن ذواتهن والموجة النسوية الثانية أتت لتحريرهن من كل ذلك،(النسوية وما بعد النسوية،65). ويبدو أن النسوية في موجتها الأولى والثانية وما بعدها رجعت بخفي حنين، وقد صدقت جيرمين جرير حينما وصفتهن فقالت: “المرأة في تيار النسوية لها شعر طويل وترتدي زيّاً خشنًا وأقراطًا مدلاة، أما المرأة في ما بعد النسوية فترتدي حلة عالم الأعمال، وترفع شعرها وتستخدم قلم أحمر الشفاه، أما المرحلة التالية لما بعد النسوية فتتسم بطبيعة داعرة بصورة استعراضية وبسلوك غير منضبط” [النسوية وما بعد النسوية،87].

يتعدى التأثير النسوي هذه المجالات لكن هذين المجالين هما أكثر المجالات المتأثرة وضوحًا في تغيير صورة مجتمعاتنا التي تتشوه كلما استغرقت في التغريب.

إن الاستعانة بأدبيات النسوية لتفسير واقع قائم يبدو نظرياً أكثر مما ينبغي، فكثير من النساء ليس لديهن اهتمام أو اطّلاع على النظريات النسوية المطروحة هنا وهناك والصراع النسوي فيما بينه وتهافت النسوية إلى ما بعد النسوية، إلا أن الإعلام وما يشمله من إعلانات وأفلام وروايات وأدب هو الذي يوجه هذه الأفكار للمرأة بغض النظر عن سياقها الذي يبقى حكراً على الكتب والدراسات العلمية والاتفاقيات الدولية.

ربما يكون الحل الأمثل بأن تتخذ الأنثى خطوات جادة لصناعة وعيها لتستطيع مواجهة كل هذا المد، إن الأمر لا يعطي انطباعًا حول مؤامرة ما بقدر ما يقول الشيخ محمد الغزالي “مؤامراتهم تمتد في فراغنا”.


أهم المراجع

  • سارة جامبل، النسوية وما بعد النسوية، ترجمة أحمد الشامي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002م، ط 1.
  • ملاك الجهني، قضايا المرأة في الخطاب النسوي المعاصر(الحجاب أنموذجاً)، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2015، ط 1.
  • عبد الوهاب المسيري، قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، 2010، ط 2.

اللاإنجاب.. الدعوة إلى الانقراض الطوعي

تزايدَت في الآونة الأخيرة –على سبيل المثال- أنشطة حركة “VHEMT” والتي تختصر جملة: (حركة الانقراض الطوعي للبشر)[1] الداعية إلى إيقاف ما سمَّوه “جريمة الإنجاب”، وامتدَّ التأثُّر بها إلى شباب بعض الدول العربية تحت عناوين متعددة اشتهرت على مواقع التواصل الاجتماعي، كحملة “شباب ضد الإنجاب” ومجموعة “مغاربة لا إنجابيون” ومجموعات أخرى تحمل نفس الفكرة، لتجتمع هذه المبادرات في صفحة واحدة سُمِّيت “ضدّ التناسل”[2] على موقع “فيسبوك”، حيث أصبح لها حضور واضح بين متابعيها المؤمنين بالظلم في إنجاب الأطفال في هذا العالم.

يذكر أحد مديري الصفحة “أن إعلان إطلاق الحملة كان اختباراً لوقع الفلسفة اللاّ إنجابيّة على وعي المتلقي العربي. وأن المتابعة الكبيرة لصفحتهم كانت على عكس توقعاتهم”، مرجعًا ذلك إلى “ما يمر به العالم من حروب وأزمات وكوارث طبيعية فجعل اليأس يتسرّب لشباب المنطقة”، واصفاً دعوتهم والجهود التي يبذلونها بـ”الدعوة الأخلاقيّة بعيداً عن أي تصنيفات أخرى”[3].

بدايات فلسفة اللاتناسل
أولى إشارات هذه الدعوة تأتينا من اليونان القديمة في صورة مسرحيات أو أشعار ناقمة على الحياة، وربما ضمن شذرات ألقاها بعض الفلاسفة كأرسطو، وقد كان لبعض الفلاسفة في التاريخ الإسلامي آراء تميل إلى نصرة هذه الفلسفة كالشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري (363 هـ – 449 هـ) بدعواه لعدم الإنجاب، ولعل بيته الشعري الشهير:

هذا ما جناه أبي عليَّ *** وما جنيتُ على أحد

يوضِّح ذلك، ليؤيدها فلاسفة العصور الحديثة كالفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، والروائي الروماني إميل سيوران كما في كتابه “مثالب الولادة”، وديفيد بينتار صاحب كتاب “الأفضل أن لا تكون” وآخرون كثيرون.

الإعلام والدعوة لعدم الإنجاب
إنه من المثير حقًّا أن النقاش حول هذه الأفكار كان –إلى مدة ليست ببعيدة- محصوراً بين الأكاديميين في أروقة الجامعات ومراكز البحث، إلا أن الإعلام تكفَّل بإخراج هذه الأفكار من حيز الدوائر الفلسفية والأكاديمية وأدخلها في صميم التأثير في التجمعات الشعبية والجماهيرية، فأنتِجَت في أزمنة متفاوتةٍ العديد من المسلسلات والأفلام والأغاني العالمية، كفيلم “ليون lion” عام 2016، وفيلم “التوت البري” عام 1975 ومسلسل (True Detective) أو (محقق فَذ) والتي تدور حول هذه القضية وتؤيدها وتدعو لها.

إن الفكرة الأهم التي سعى المسلسل آنف الذكر لإثباتها وتبنّاها في كل حلقاته ضرورة “إيقاف الإنجاب” ضمن إطار دراميٍّ مشوِّق، فيكشف توالي الأحداث في المسلسل تناقض شخصيتي “رستن” وزميله في التحقيق “هارت”، فتصرفات “رستن” متطرفة في نظر المجتمع، على خلاف “هارت” الذي يقف على الناحية الأخرى تماماً، وبعد التعمُّق في المتابعة نجد أن المحرك الحقيقي الذي لتشاؤم (روستن) تجاه ذاته والعالم فَقدُه لطفلته الصغيرة في حادث مأساوي أنهى زواجه وغيَّر حياته وفكره، لتتحوَّل رغبته في الانتقام لموت ابنته إلى هوَس فكري في إثبات أنه يجب على البشرية أن تكف عن الإنجاب وأن تسعى إلى الانقراض الطوعي قبل أن تكون النهاية كارثية بالأسلحة النووية أو الكوارث الطبيعية.

حجج فلسفة “اللاإنجاب”
تتنوَّع الحجج التي تسوقها الفلسفة اللاتناسليّة، فثمة أسباب مادية مباشرة، كالحروب مثلاً، فمن الذي يرغب يوماً في أن يستخرَجَ ولده مُهشّما من تحتُ الرّكام كما هو الحال في حلب أو غزّة، أو أن يراه قد أسقطَ العلاج الكيماويّ شعرَه وأنحلَ جسمَه وما زال ينتظرُ موتَه المحتّم، أو أن يراه متشوِّه الجثة في انفجارٍ لا يُعرَف مدبّرُه؟[4].

ومن الحجج أيضا الفقر وعدم كفاية الموارد الطبيعية، فالاستمرار في الإنجاب سيسبب ازدحامًا سكانيًّا هائلًا، وبحسب التقديرات إذا استمر ارتفاع في المواليد في قارة إفريقيا على ذات الوتيرة الحالية فإن عدد سكانها سيقترب من ملياري إنسان تقريباً في عام 2050م، إلا أن القارّة السمراء لن تنتج من الطعام في عام 2025 ما يزيد عن حاجة 25% من عدد سكانها[5].

ومن الحجج أن “اللاإنجاب” أفضل للبيئة، فتقليل عدد البشر يخفف من انبعاثات سياراتهم وآلاتهم واحتياجاتهم التي تؤثر في الغلاف الجوي، كما يحتجُّ ديفيد بينتار -رئيس قسم الفلسفة بجامعة كيب تاون في جنوب إفريقيا- بأن “الإنجاب في ذاته قرار لا واعٍ وأنه نتيجة تابعة لممارسة الجنس، ولذا فإنه من العبَثِ الإتيان بأفراد جدد لهذا الوجود، وإن أخذ بعض الأشخاص هذا القرار بشكل واعٍ، فإنهم يفعلون ذلك لأسباب ليس من ضمنها مصلحة الطفل نفسه، وأن إنجابه سيكون شيئًا جيدًا بالنسبة إليه لا بالنسبة للطفل نفسه”[6]، وعليه فإنه يرى أن الإنجاب منحصر في مصلحة أبويه لا مصلحته هو، وعلى ذلك فإن الندم على عدم الإنجاب ليس ندماً على عدم تحقق مصلحة الابن بل لعدم تحقق مصلحة الأبوين.

مغالطات وتوهمات
إن الاستنادات التي يقدمها دعاة “الانقراض الطوعي للبشرية” ليست حقائق مطلقة، بل هي عوارض نسبية ناتجة عن أمور أخرى، فلا الفقر أو الحروب أو الكوارث الطبيعية ذات وجود موضوعي مطلق، ولا هي في حال وجودها مستمرة بذاتها، فالحروب تقوم على التنافس وتهدف إلى السيطرة والسلطة والتحكم بالموارد المالية والثروات الطبيعية وتعمل في سبيل ذلك على إخضاع الأطراف الأخرى بشتى الوسائل.

وكذلك الفقر والأمراض، فهي تابعة لأسباب تتقدم عليها، ومن ثمَّ، فإن الأجدر –برأيي- البحث عن حلول لإصلاح الأحوال الاقتصادية والسياسية إيقاف السيطرة على ثروات الآخرين والتعاون معهم لإنشاء عالم خالٍ من الطغيان قوي بالمرحمة التي تسود أركانه، إذ إن الدعوة لإيقاف الإنجاب لن تحل هذه المشكلات البتة.

مغالطة “اللامعنى في الوجود”
لقد بات من القطعيّ أن الفلسفة العدمية تنظرُ إلى الحياة بتشاؤم مفرط وتُلْبِس تأويلاتها السوداوية كل أمر ذي قيمة جوهرية، فليس من الغريب أن نرى العدميين يفكرون في قضية التناسل والإنجاب على نحو تشاؤميٍّ مفرِط، فـ”الحياة بلا معنى” خاصةً وأن الدعاوى التي تُساق لتسويغ الدعوة إلى إيقاف الإنجاب ذات وجاهة عاطفية محرجة!

فلنفترض أن الإنسان تخلَّص من كل الآلام، فإن ألم التفكير في الوجود وتناقضاته يملأ حياة الناس، وهذه دعاية لا بأس بها يشهرها دعاة “اللاتناسل” في الترويج لرؤاهم، فالبحث عن معنى الوجود وحيثياته وغاياته بحد ذاته يولِّد لديهم القهر والعذاب، وليست أحوال الناس ولا الحروب أشدَّ ما يقض مضجعهم، بل محض الوجود وإن كانوا في جنة النعيم.

حسنٌ، فلنفرض أن الحياة وهمٌ لا معنىً لها، ولنسأل: أهذا الذي تدَّعون حقيقة لا تقبل الجدل أم أنها مشاعر مكبوتة يتم التنفيس عنها بتخليطات نثرية وشعرية؟

إن لم تكن مقولتهم هذه –الأساسية في دعوتهم- حقيقةً، فإن الإصرار عليها أحد أكبر الأخطاء التي يتصف به دعاة “اللاتناسل”، وذلك –بطبيعة الحال- تعامل سمِج مع حقيقة المعنى في قضية الوجود الإنساني باعتبارها أمراً ثنويًّا زائفاً لا يستحق إلا المحو كما يمحى الخطأ الإملائي عن بياض الصفحة.

إنهم بذلك يصادرون حقّ من يبحث عن معنى الحياة في الوجود، بل لعلهم إن نجحت دعواهم فإنهم سيجبرون أولئك الذين وجدوا المعنى على أن لا يتكاثروا ويوصلوا ما تعلموه لأولادهم.

مغالطة “ممانعة الانتحار” و”الدعوة الاختيارية للانقراض”
يكرر دعاة “اللاتناسل” أنهم لا يحبذون الانتحار ولا يدعون إليه، وأن جل ما يهمهم إيقاف التكاثر لينقرض الجنس البشري تدريجيًّا.

أليست هذه دعوة للانتحار المقلوب، أو قل أليس هذا انتحارًا بطيئاً!؟

وبطبيعة الحال فإن الاعتراض على هذه المغالطة من قِبَلِ مناهضٍ للتناسل ستثير تشاؤمه، لأنه سيعد الكلام ههنا تقوُّلاً على ما يظن أنها قناعته، ذلك أن اللاتناسليين يطالبون بعدم التكاثر فحسب، وفي سبيل ذلك يسيلون أحبار الطابعات ويُعمِلون عقول المفكرين والمخرجين والمصورين لإنتاج الأفلام والمسلسلات التي تدعم فكرتهم، لتغيير قناعة الناس سلميًّا وذاتيًّا.

حسنٌ، إن هذا كذب لا يمكن الاعتماد عليه.

فلو أن اتحادًا من جماعات “اللاتناسل” استطاع تكوين حكومات في عدة بلدان، وسَلَّمت لهم تلك البلاد بعدم الإنجاب، إلا أن ثلَّة هنا وهناك من النساء والرجال رفضوا ذلك، فماذا سيقول لهم “اللاتناسليون” حينها؟

بطبيعة الحال إنهم أمام خيارين: استخدام القسر والعنف لتنفيذ فلسفتهم، فتصبح دعوتهم إيديولوجيا كريهة تنتهج الوحشية لتستمر، أو السماح للناس بالإنجاب وذلك أيضًا يثبت أن واقع فلسفتهم لا يتوافق مع عموم البشر.

الوهم الأكبر: “لا داعي لاستمرار الحياة”
إنّ الاستمرار في الوجود عبر التكاثر أمرٌ أكثر تعقيداً من الحجج التي يسوقها المتشائمون أو تلك التي يقدمها المدافعون عن فطرة الاستمرار؛ إذ إن دوامَ الحياة قضيّة ذات أبعاد مختلفة لا يمكن اختزالها بالتشاؤم أو التفاؤل، ففي هذا الكوكب عشرات من الأيديولوجيات والدعوات الفكرية التي تمتلك كلٌّ منها مئات الملايين من المؤمنين بها، والذين يسعون لأن يجسِّدوا دعواهم على الوجه الأتم والمثال الأكمل، فكما أن اللا تناسليين يظهرون نموذجهم المثالي بالتوقف عن الإنجاب، فإن العلماء يرون في استمرار الحياة استمرارا للعلم، وكذلك يرى الطيبون في الإنجاب استمراراً للتعامل الحسن مع الناس، وعلى مثل ذلك يمكن التشقيق بمئات الأمثلة، وبالمثل فإن الأشرار يرون في استمرار الحياة استمراراً للقوة والسيطرة… إلخ بحسب المواقع التي يشغلونها

“العدم خير من الوجود”
يقدم لنا اللاتناسليون هذا الكلام باعتباره حقيقة مطلقة، على أيِّ حال، كيف يمكن لنا أن نعرف أن العدم خير من الوجود؟

إن المشكلة في هذه المغالطة أن القائل نفسه لا يعرف العدم، ولا يدركه أصلاً، ولا يمكن لامرئ أن يصفه أو يظهر حقيقته بشكل محسوس، فالعدم هو العدم، اللا وجود.

إن المطلوب مني ومن كل إنسان موجود أن يتمثل أفضل الطموحات وأن يحدد لنفسه أسمى الأخلاق والتعاملات الإنسانية وأن يعيش عليها ولها، وحينها سيتحقق له ولكل إنسان أن (الوجود خير من العدم) فعند ذلك يتحقق المعنى مقابل تلاشي اللامعنى.


الهوامش:

[1] ينبغي التنبه إلى أن الفلسفة اللاإنجابية تنقسم إلى قسمين رئيسين، أولهما: الدعوة إلى الاكتفاء بإنجاب طفل واحد لدواع أمنية واقتصادية وإحصائية، وثانيهما: الدعوة إلى التوقف عن الإنجاب مطلقاً، وهذه الأخيرة التي يهدف المقال التوقف عندها.

[2] https://www.facebook.com/AntinatalismInArabic

يذكر أن محمود ماهر عبد الهادي مدير لهذه الصفحة ولغيرها من الفعاليات التي تدعو إلى التوقف عن الإنجاب، وله لقاءات عديدة على وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة يدعو فيها لدعم حملة (ضد التناسل)

[3] ينظر المقال المنشور على شبكة رصيف 22، بعنوان “ضد التناسل”حملة عربية تهدف لانقراض البشرية، على الرابط الآتي: https://raseef22.com/life/2017/08/22/%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D8%A7%D8%B3%D9%84-%D8%AD%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%87%D8%AF%D9%81-%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B6-%D8%A7%D9%84/

[4] ينظر مقال: “عن الإتيان بطفل إلى العالم”، د. همام يحيى، على مدونات الجزيرة عبر الرابط الآتي:

http://blogs.aljazeera.net/blogs/2016/10/24/%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AA%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D8%B7%D9%81%D9%84-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85

[5] ينظر مقال عمار منلا حسن، على موقع حبر، بعنوان هل تجد الفلسفة اللاإنجابية فرصة في مجتمعاتنا، على الرابط الآتي: https://www.7iber.com/society/about-antinatalism/

وفيه ذكر الكثير من احتجاجات اللا تناسليين

[6] نقلاً عن مقال الفلسفة اللاإنجابية، لماذا لم يعد العالم بحاجة إلى مزيد من الأولاد، عبد الرحمن أبو الفتوح، منشور على موقع ساسة بوست

https://www.sasapost.com/antinatalists/

مشكلة الشر ووجود الإله (2 من 2)

بعد تبيين الأصل التاريخي وأساس الاستشكال الذي بنيت عليه “معضلة الشر” في المقال السابق؛ فإن اللازم الآن تبيين جوانب الشبهة وما يقدمه الإيمان من حلول في سبيل فهمها.

مفهوم الشر فلسفيًّا
هل يعد وجود الشر  ذاتيًّا محضاً أم أن وجوده ظرفيٌّ بحسب الواقع المحيط به؟

ينبغي الإشارة إلى أن هذه التقسيمات تعود في أصلها إلى مسألة تحديد مفهوم الشر من حيث كونه ذاتيًّا محضًا أو نسبيًّا يتحقق بتبعيته لطرف آخر سابق عليه.

لايبنتز

بالعودة إلى فهم الفيلسوف الألماني لايبنتز (ت 1716م)  للشر نرى أنه قد صنَّفه ضمن أنواع ثلاثة، أولها: الشر  الميتافيزيقي (المجرَّد) ويقصد به النقص التام في وجود المخلوقات بسبب تناهيها إضافة لكونها ناقصة بالمقارنة مع وجود الله، ثم الشر الطبيعي وتدخل فيه الآلام الجسمانية والكوارث الطبيعية، وثالثها: الشر الأخلاقي الكامن في الخطيئة[1]، وحين ينظر في مسألة الشرين الطبيعي والأخلاقي فإنهما بالضرورة يدخلان تحت الشر المجرد أي النقص المتحقق فيهما، ويشار إلى أن الليبراليين وسعوا من إطار الشر الأخلاقي ليتضمَّن أي أذية للآخرين في حريتهم أو منعهم من تحقيق رغباتهم شرًّا أخلاقيًّا[2].

يرى ابن قيم الجوزية (ت751ه) أن أحوال الموجودات بأسرها لا تخرج عن حالات أربع هي: حالة الخير المطلق، أو الشر المطلق، أو حالة التنازع بين الخير والشر فيكون الخير إما مستوياً مع الشر أو راجحًا عليه أو العكس، أو حالة عدم القيمة، فلا يكون فيه خير أو شر، ويتحقق القسم الأوّل بوجود الخالق فقط والذي هو خير محض، ولا يوجد من بقيّة الأقسام في وجودنا إلّا ما كانت المصلحة والحكمة والخير في إيجاده أكثر من المفسدة، أي ما كان “خيره راجحًا على شرّه”، وأمّا الشر المحض الذي لا خير فيه فلا حقيقة له لأنه عدم محض[3].

وجود الله ووجود الشر
أبدأ هذه الفقرة بالسؤال المعهود: هل يتعارض وجود الشر مع وجود الإله؟

يؤكد الإلحاد –كما تقدَّم في الجزء الأوَّل- على عدم إمكانية اجتماع وجود إله قادر رحيم مع وجود الشرور –كالتي نراها على الأقل-.

بينما يؤكد علماء الدين الإسلامي ورجال اللاهوت من الأديان الأخرى على عدم التعارض أصلاً، ويقدمون في سبيل ذلك حججًا عديدةً لتبيين ضعف المنطق الإلحادي وتناقضه، سواء من حيث أساس اعتراضه، أو في تفسير حقيقة الإشكال وتأويله.

ثمة سؤال يمكن تقديمه في هذا المعرض مفاده: هل يجب على الإله الخيِّر القادر أن يمنع الشر[4]؟

ويمكن الاعتراض على هذه الصيغة “الله قادرٌ على كل شيء” بالعديد من المغالطات المنطقية والمناقشات التي لا تتعدى باب اللعب باللفظ، فأسئلة من قبيل: هل يسَعُ اللهَ خلق صخرة يعجز عن حملها، أو هل يقدر الله على أن يخلق إلهًا مثله، أو هل بإمكانه رسم مربعٍ مستديرٍ ، هي أسئلة تناقض ماهية الشيء في ذاته، “فالصخرة مهما بلغ حجمها متناهية، وقدرة الله غير متناهية، والإله ليس مخلوقًا بالضرورة، فلا يصحّ منطقيًا افتراض إله مخلوق، والمربَّع لا يكون دائرة بالضرورة، فلا يصحّ افتراض اجتماعهما”[5].

وبالمحصِّلة فإن كمال القدرة الإلهية إما أن يعني: القدرة على فعل كل شيء وإن كان ضمن دائرة الاستحالة المنطقية أو فعل الأشياء الممكنة منطقيًّا فقط، وبما أنَّ تصوُّر المستحيل ممكن لأنه عمل ذهني غير واقعي إلا أن وقوعه في الوجود أمر غير ممكن لتناقضه مع شروط الوجود أوَّلاً، ولأن القدرة الإلهية -حسب ما يقرره علماء العقائد- لا تتعلَّق بغير الممكن منطقيًّا، فتكون اعتراضات الإلحاد في جوهرها عن تناقض وجود الشر مع وجود الإله “مخادعات لفظيّة لا يمكن أن يكون لها وجود في غير عالم اللغة”[6]؛ لأنَّ سماح الله بوجود الشرّ في ملكه لا يلزم منه الانتقاص من قدرته، فالشر البشري ناتج عن حريَّة الاختيار  بين فعل الخير والشرّ؛ والقول بوجوب زواله يحتوي على تناقض منطقي، لأن الله قد وهب البشر حريّة الإرادة لامتحان إلهي أفعالهم، ولا تتعلّق قدرة الإله -على كمالها- بإزالة هذا الشرّ لأنه من غير المنطقي أن يمتحن الله عباده بالخير والشرّ ثم يجبرهم على فعل الخير دون الشر أو العكس [7]، وهو ما أشار الله إليه في قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} [الروم:41] فجعل الفساد (أي الشرور الأخلاقية) عائدة إلى اختيارات الناس وأفعالهم، ولعله من المفيد الإشارة إلى أن التعلل بالشر الأخلاقي في نفي الإله غير مجدٍ.

بلانتينغا

في هذا المعرض يجدر الإشارة إلى رأي الفيلسوف الأمريكي اللاهوتي ألفن بلانتينغا (وُلد عام 1932) القائل: إنّ حريّة الإرادة عند الإنسان من أهم المسوّغات العقلية لنفي التناقض المدّعى بين وجود الإله الكامل مع وجود الشر؛ إذ إنّ الشر الأخلاقي نتيجة لممارسة الإنسان لاختيارات إرادته الحرّة، فالشر هنا ضريبة لازمة ومنطقيّة ومرضيّة لنعمة الإرادة الحرّة؛ وبذلك ينتقض الاعتراض على عدل الله أنّه يسمح للشر بالوجود، فلا معنى لوجود كائن حر يملك إرادة الاختيار ضمن الطبيعة البشريّة المحضة، ثم هو لا يفعل إلّا نوعًا واحدًا من الأفعال، فالمخلوقات الحرّة تزلّ أحيانًا وتفعل الخير أحيانًا، ولا يمكن أن تكون هذه الاختيارات ضد وجود قدرة الله الكليّة ولا ضد خيريّته؛ لأنّه ليس بالإمكان أن يُمنع وقوع الشر الأخلاقي إلّا بمنع إمكانية الخير الأخلاقي[8].

الشر المادِّي والمجَّاني؟
ينقل د. حسن المرسي عن ريتشارد دوكينز قوله في أن الشر  لا يمكن أن ينفي أو يثبت وجود الإله[9]،  ولذلك مال العديد من رموز الإلحاد إلى تكثيف الاسشتهاد بما سمّوه (الشر المجاني) أي الألم الذي لا فائدة خلفه، وله مثالان شهيران هما: “الموت البطيء لغزالة في حريق داخل غابة، واغتصاب طفلة ثم قتْلها على يد عشيق أمّها”[10] إذ إن على “الإله العليم، كامل الخيريّة أن يمنع وقوع كلّ معاناة شديدة إلّا أن يؤدّي المنع إلى تفويت خير أعظم من هذه المعاناة أو السماح لشر يوازيها أو يربو عليه، وبالنتيجة فإن ذلك واقع فلا يوجد –إذن- إله قدير، عليم، كامل الخيريّةِ”[11].

ثمة عدة مسالك يمكن التصدي بها لمشكلة الشر بأنواعها إجمالاً وتفصيلاً، “كالدفاع الإيماني الذي يفسر الشر على ضوء الحكمة الإلهية والعناية الربانية، أو بيان سبب العجز عن الإجابة على السؤال كليًا أو جزئيًا: للقصور المعرفي للإنسان، أو البحث في السؤال والعمل على تعديله[12]“.

وعلى ضوء التكامل بين هذه المناهج يشير عدد من الباحثين في نقد الإلحاد إلى أهمية السؤال عن الشر المجاني بصيغة: هل هناك شر مجاني فعلاً؟

إنّ مقتضى البحث العقلي أن يصار أولاً إلى البحث عن البناء المنطقي للحجة المقدَّمة لنقض وجود الإله وهي (الشر المجاني موجود، وعليه  ينفي وجوده وجودَ الإله)؛ وبما أنه لا يمكن لأحد إثبات قطعية (الشر المجاني) في الظواهر المضروبة لذلك، وبعبارة أخرى، نسأل: هل يعجز الإله أن يجعل وراء كلّ ما يبدو شرًا مجانيًا، حكمةً وتعويضًا؟

قول الإلحاد هنا منحصر بمنع وجود الحكمة أو إثباتها التي نفترضها للإله، فإنّ العقل لا يمنع من وجود هذه الحكمة وهذا التعويض للمبتلى؛ فيسقط اعتراضه، وإذا قال إنّ هذا الأمر ممتنع عقلًا؛ طولب بالدليل العقلي، ولا دليل؛ فيظهر بذلك قُصور فهمه لكمال الألوهيّة. فتنقلب المعادلة من:

الترتيب الآتي: 1. وجودُ الشرّ المجاني أمر يقينيٌّ، 2. وجود الإله فرضية بحاجة إلى بحث، 3. وجود الشرّ المجاني حجّة على نفي وجود إله؛ 4. إذن لا وجود لإله.

إلى: 1. الأدلّة المادية والعقلية تثبت وجود الإله، 2. وجود الشرّ المجاني فرضية بحاجة إلى بحث، 3. الإيمان بالإله يقتضي الإيمان بكماله وعدله وحكمته فيكون قادراً على جعل ما يبدو شرًا مجانيًا حكمةً وخيرًا، 4. إذن لا وجود لشرّ مجانيّ[13].

فرويد

وقفة أخيرة
في خضم المناقشات المنطقيَّة في مسألة الشر قلّما يتنبّه الباحثون إلى البحث عن مصدر الاستشكال، فبما أن العقل البشري قاصر في إدراك خصائص المحيط الخاص به فإنه بالقفز إلى القطع في إحدى أهمِّ المسائل الوجودية يختزل ظاهرة الشر دون الفهم الكامل لكل جزئياتها. فما مردُّ هذا الاستعجال؟

يشير مقال ما بعد الحداثة في موسوعة السبيل إلى تطوُّر الآراء والظروف التي مرت بها الذهنية الغربيَّة، ولعل من أبرز ما يُستشهد به هنا قول الفيلسوف روجيه غارودي في كتابه “البنيوية فلسفة موت الإنسان” نقلاً عن فرويد بأن نظريته في التحليل النفسي ألحقت بكبرياء البشرية ثالث إذلال كبير لها، وذلك بعد الثورات العلمية على يد كوبرنيكوس التي أنهت كون النص الديني المركز الذي تقاس إليه الأمور، ثم رؤية داروين التي حوَّلت الإنسان إلى حيوان بيولوجي يصارع من أجل البقاء[14].

وهكذا ظهرت العدمية التي أفرزت مظاهر اللامعنى وغياب الثبات ورفض معنى الإله الخالق وتأطير القيمة، فالوجود خالٍ في خاتمة المطاف من المعنى، ولعل هذا التصوُّر هو ما نراه في اللامبالاة والظلم البشري وعدم المسؤولية في أحداث عظيمة كالأحداث المستمرة في سورية منذ سبع سنوات.

إن حالة “غياب المعنى” التي يعيشها الملحد تدفع للتساؤل: لمَ يبحث الملحد عن المعنى وراء الشر أو الخير؟ فالإيمان بـألا قيمة للوجود تدفع حتماً لتفسير أحداث الوجود بذات الرؤية التي فُسِّرت به بدايته، أي “العشوائية والمادية”، فتفسير الشر الذي يحدث في العالم -ضمن هذه الرؤية- يجب ألا يعدو تحليلاً كتحليل رؤيتنا للوحة الموناليزا مثلاً، وك��لك الحروب والأعاصير والكوارث المادية، لأن التفاعل مع الألم الطاغي في هذه الظواهر لا يستند إلى قيمة أخلاقية وإنَّما إلى رؤية عدمية، وهذا بحد ذاته تناقض صارخ.

ومن هنا فإن التعامل مع مشكلة الشر بحسب الرؤى المختلفة في تفسيرها عائد إلى رؤيتين، أولهما: عدّه جزءًا من النظام الكوني المتصف بالنقص في ذاته لكونه حادثاً والإله وحده الكامل. والثاني: النظر الديني إلى الشر على أنه ابتلاء واختبار في هذه الظواهر ويستلزم منا البحث عن الحكمة التي يقتضيها فعل الله وعدله، وفي الحالتين ليس ثمة ما يُتَوجّه به لنفي وجود الله أصلاً.

إذن فالسؤال المهم حقًّا هو: لمَ كان الوجود أصلاً؟ والبحث في أصل هذا السؤال سيقود الملحد إلى الانهيار حتمًا.[15]


الهوامش

[1] ينظر تاريخ الفلسفة، فريدريك كوبلستون، المركز القوم للترجمة، ترجمة سعيد توفيق، ط1، 2013، ج4 ص437.

[2] ينظر ملف مشكلة (الشر) على شبكة (معابر) الفلسفية، من مقال ندى الحاج، تأمُّلٌ في الشر الإنساني، http://www.maaber.org/issue_october03/perenial_ethics1.htm

[3] ينظر شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد بدر الدين، دار الفكر، ط1، 1978، ص 181-182، ويقارن بـ مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص 98، 99.

[4] ينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص 112.

[5] ينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص115.

[6] ينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص 114.

[7] ينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص115.

[8] ينظر محاورة جاري كينتغ مع ألفن بلانتينغا بعنوان: هل الإلحاد لا عقلاني، ترجمة: د. عبد الله الشهري، نشر مركز براهين، ص5، وينظر مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري، ص120، نقلاً عن كتابي ألفن بلانتنجا: الله، الحرية والشر، وكتابه: The nature of necessity

[9] ينظر الكتاب الإلكتروني الجواب عن مشكلة الشر، مقال د. حسن المرسي، انفكاك الجهة بين وجود الخالق ومسائل الحكمة والخير والشر، 131، 132

[10] نقلاً عن ويليام رو، ينظر د. سامي عامري، مشكلة الشر ووجود الله، ص 146.

[11] ينظر المصدر السابق ص146-147.

[12] ينظر المصدر السابق 147.

[13] ينظر المصدر السابق، ص 151، 152.

[14] البنيوية فلسفة موت الإنسان، روجيه غارودي، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة، ط3، 1979، ص12-14.

[15] استفدت الخاتمة الأخيرة: من مدونة (أنا مسلم، أنا أفكر) وسقت ملخِّصًا بعضًا من نقدها لمسألة الشر على الرابط: https://iammuslimiamagainstatheism.blogspot.com.tr/2013/10/blog-post_20.html

الأكوان المتعددة: علم أم خيال؟ (2 من 3)

هيو إيفريت

فبعد فرضية هيو إيفريت، جاء ديفيد دويتش الفيزيائي البريطاني صاحب كتاب نسيج الواقع أو الحقيقة (the fabric of reality)، وبناء على فرضية إيفريت طرح دويتش فرضية تقول إن الأكوان المتعددة نشأت دفعة واحدة مع بعضها، ويُشبّه دويتش هذا الأمر بوجود مكتبات لانهائية العدد مليئة بنسخ من الكتب التي تشترك مع بعضها بنفس محتوى الصفحة الأولى ولكن تختلف في بقية المحتويات.[1]

ويقول دويتش إن “افتراض أن الديناصورات لم تنقرض، وأنها أسست حياة ذكية وحضارات، ليس مجرد خيال. بل هذا بلا شك موجود؛ حيث تقوم الديناصورات بتطوير المدن وبناء المسابر الفضائية والكمبيوترات المبنية على الرقائق المصنعة من السيليكون لأن هذا الأمر تخبرنا به قوانين الفيزياء…. وهذا الأمر يحصل في كون تكون فيه الذرات بحجم القطط”.[2]

الفارق بين فرضيتي إيفريت ودويتش أن الثاني لم يقل بالتشعب أو الانشقاق الذي قال به إيفريت، واعتمد على ما يسمى فكرة التواريخ البديلة (alternative histories)، حيث يشرح دويتش الفرق بافتراض وجود كتابين يتحدث كل منهما عن قصة بطل يريد اجتياز أحد الأنهار، فهو في أحد الكتابين يجتازه سباحة، وفي الآخر يجتاز النهر من فوق أحد الجسور، فلكل كتاب طريقة مختلفة، أي تكون النهاية متطابقة بينما تختلف التفاصيل، وعند إعادة دمج التفاصيل مع بعضها نعود إلى نفس البداية المتطابقة أيضاً، أما إيفريت فتختلف عنده النهاية مع التفاصيل ولا يمكن العودة إلى بداية أولى متطابقة.

وهناك فرضية أخرى تعود إلى نظرية التضخم الكوني (Cosmic inflation) التي طرحها العالم  الأمريكي آلان غوث، والتي جاءت بدورها كمحاولة للتغلب على المشاكل الموجودة في نظرية الانفجار العظيم (Standard big bang theory)، مثل مشكلة الأفق والتسطح وعدم وجود أقطاب مغناطيسية مفردة وغيرها من المشاكل. ويجدر بالذكر أن نظرية التضخم الكوني بنيت بدورها على نظرية أخرى لم يتم إثباتها علمياً حتى الآن وهناك اعتراضات عليها.

في البداية تفترض نظرية التضخم الكوني أنه بعيد بداية الانفجار العظيم وعند  ثانية من زمن بداية هذا الانفجار، مر الكون بمرحلة تضخم هائل وبسرعة أكبر من سرعة الضوء نفسها -سرعة الضوء تساوي حوالي 300000 كم في الثانية- واستمر هذا الأمر حتى مدة   من زمن البداية، وبعد هذه المدة تابع الكون توسعه ولكن بنسب أقل.

طورت النظرية من عدد من العلماء الذين افترضوا أنه في المراحل الأولى من فترة التضخم البالغة السرعة وُلدت أكوان عدة [3]، وسُمي هذا النموذج بالتضخم الأبدي (Eternal inflation).

المصدر: Yinweichenl/wikipedia

وبناء على نظرية التضخم الكوني اقترح الفيزيائي الروسي الأصل أندريه ليندا نموذج التضخم العشوائي، حيث يكون فيه الكون ذاتي التولد مكونا من أجزاء مختلفة، كل جزء منها يبدو ككون صغير ومستقل عما يحدث في بقية الأجزاء.

ومن الفرضيات الأخرى للأكوان المتوازية الفرضية المعتمدة على نظرية الأوتار (String theory)، حيث تفترض الأخيرة أن الجسيمات الذرية وتحت الذرية ليست جسيمات نقطية عديمة الأبعاد (أي نقاط صغيرة ذات بنية داخلية)، وإنما هي حلقات صغيرة مصنوعة من أوتار تتحرك وتهتز، وهذه الأوتار لها 10 أبعاد أو 11 بعدا حسب النموذج المستخدم من نظرية الأوتار، وهذه الأبعاد تنتج لنا عدد كبيراً من الأكوان قد يصل إلى ، وفقا لحسابات البريطاني ستيفن هوكنغ، وبعض هذه الأكوان مشابه جداً لكوننا الحالي.[4]

ووصل الأمر أخيرا بعالم الكونيات ماكس تيغمارك ليقول إن أي افتراض رياضي لوجود كون يعني أن هذا الكون موجود بالفعل في مكان ما؛ فالوجود الرياضي لشيء ما حسب رأيه معادل لوجوده الفيزيائي!

لي سمولين

بل وصل الأمر بآخرين -كالفيزيائي الأمريكي لي سمولين- إلى تطبيق بعض مبادئ نظرية التطور الداروينية على الأكوان المتوازية، فأدخل مفاهيم الانتقاء الطبيعي والصراع من أجل البقاء على الأكوان التي تتكيف لتبقى![5] ويعدّ سمولين وغوث من العلماء الذين يرون إمكانية نشأة كون جديد داخل ثقب أسود ويتوسع إلى نطاق جديد في “الزمكان” لا يمكننا الوصول إليه.

هنا نصل الى استعراض أهم الفرضيات حول الأكوان المتعددة، وفي المقال القادم إن شاء الله أتحدث عن أعم الاعتراضات والردود على هذه الفرضيات.


الهوامش

[1] John Gribbin ,In search of the multiverse, John Wiley&SonsLInc,Hoboken,New Jersey,2009 p.63

[2] Ibid p.62

[3] Rupert Sheldrake, The science delusion,Hodder&Stoughton.,Uk company,2013 p.94

[4] John Gribbin ,In search of the multiverse, John Wiley&SonsLInc.,Hoboken, New Jersey,2009 p.167

[5] Ibid pp.189-190

لماذا نكتب في الإلحاد؟

الإلحاد ليس حالة طارئة في العصر الحديث، بل هو حالة صاحبت الإنسان منذ القدم. لكن، بعد ثورة وسائل الاتصال بمختلف أشكالها، وفي إطار أجندات مختلفة، وبسبب عوامل متشابكة، انفجرت موجة الإلحاد في الشرق والغرب، ولم يكن العالم الإسلامي بمنأى عن هذا الانفجار!

ولقد كتب كثيرون حول الإلحاد بأساليب شتّى ومن زوايا مختلفة، ما بين مُسهب ومختصر، ومُكثر ومُقل. غير أن المتابع يدرك أن هناك حاجة مهمة لتقديم مزيد من البحوث والتحليلات لمنظومة الإلحاد بشتى جوانبها ولوازمها، ولمختلف آثارها المعرفية والنفسية والسلوكية!

في هذه المقالة سأذكر -بشكل مختصر- أربعة مبررات أراها كافية للنهوض بهذه المهمة بشكل متواصل واجتهاد دائم. هذه المبررات يمكن تلخيصها في التالي:

أولاً- تبليغ الرسالة
المسلم إنسان رسالي، بمعنى أنّه بمقتضى عهد الإيمان يجد نفسَه مدفوعاً للقيام بمهمة التبليغ والبيان للرسالة الخالدة التي يتضمنها الوحي الرباني. ولا شك أنّه حين ينصرف عن هذه المهمة المقدسة لأي مبرر يمكن أن يقدمه، فإنّه يكون مقصّراً تقصيراً بالغاً في التزام متطلّبات الإيمان!

ينبثق حس المسلم بضرورة تبليغ الرسالة عن اعتقاده أنّ الله سبحانه لم يخلق الإنسان عبثاً ولم يتركه سدى، بل بالحري أنه خلقه لغاية مقدسة: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون/15]. ولهذا، فالمسلم يعتقد أن الإنسان يستحق أن يعرف الحقيقة.. حقيقة الخالق والإنسان والحياة والمصير بعد الموت.

كما أن المسلم يعتقد -انطلاقاً من مرجعيّته الإسلاميّة- أن العقل يتضمن منظومة قواعد دلالية، تساعده على الاهتداء إلى الحق واستيعابه بشكل مجمل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم/30]. وهنا فإن دور المسلم تجاه الآخر ينحصر في التبليغ والبيان.

لكن، بالرغم من أنّ جوهر الفطرة هو محبة الحق والانجذاب إليه، إلا أنّ الإنسان لديه قابليّة موازية تتمثل في السقوط في مستنقع الانحراف والضلال، بفعل عوامل مختلفة. كما جاء في الحديث القدسي: {إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم} (صحيح مسلم)، أي أتتهم الشياطين فصرفتهم عن فطرتهم وأغرقتهم في الأباطيل.

في هذا الإطار، يمكننا أن نفهم بأنّ مهمة الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم هي استنقاذ الإنسان من أوحال الضلال والانحراف، ومساعدته على العودة إلى أصول فطرته الربانية: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية/21]، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت/18]. فإن شعلة الفطرة قد تخبو لكنها لا تنطفئ أبداً!

إذن، إن القيام للمساهمة في كشف الإلحاد وبيان أباطيل الملحدين يأتي في سياق عقيدة المسلم التي توجب عليه بيان الحق ليعرفه الناس وكشف الباطل ليجتنبوه، وهو ما يُعبّر عنه بشعيرة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. وإلا فإن التزام الصمتَ هو في الواقع مساهمة للترويج للإلحاد وإشاعة للمنكر ومحاصرة الحق وتغطية على براهين التوحيد وحقائق الإيمان!

ثانياً- معركة الأفكار
المعركة بين الحق الذي يمثل التوحيد و الإيمان و الإسلام، وبين الباطل الذي يمثل الشرك والكفر والجاهلية، قديمة جدّاً ترجع إلى لحظة إعلان الله سبحانه خلقه لآدم عليه السلام، وأمره تعالى للجميع بالسجود له تشريفاً وتكريماً، فأطاعت الملائكة عليهم السلام أمر ربهم، وعصى إبليس حسداً من عند نفسه واستكباراً: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة/34].

ورغم التاريخ الطويل للبشرية والموغل في القدم، ورغم ما شهده من أحداث، فلم يكن يعكس في الواقع سوى أبعاد تلك المعركة الكبرى، ولم يكن سوى مسرح لمختلف مظاهرها وتجلّياتها! إذ ما كان لإبليس اللعين -وقد عرف مآل استكباره وطغيانه وإعجابه بعقله- أن يستسلم ويترك الساحة خالية لهذا المخلوق البشري الذي تسبّب له في اللعنة الأبدية: {قالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر/39،40].

لقد خاض الأنبياء عليهم السلام هذه المعركة بكل قوة وحزم، ورسموا لأتباعهم ضد أتباع الباطل والشر والاستكبار إطار المعركة وأساليبها وبراهينها وحدودها وغاياتها، وبذل هؤلاء العظماء العرق والدم، كما ضحوا بالراحة والمتعة، نعم وصبروا على المشاق والضغوط، كل ذلك في سبيل الانتصار للحق الأزلي، للتوحيد والإيمان، للخير والصلاح والجمال، رغم الجهود الهائلة التي بذلها أتباع إبليس المفسدين في الأرض لصد الناس عن معرفة الحقيقة!

واليوم، ها نحن أولاء نشهد فصولاً جديدة من هذه المعركة الخالدة.. معركة الإيمان والإلحاد! وهي جديدة لا لأن المضامين تغيّرت، ولا لأن الغايات تبدّلت عما كان عليه الحال خلال التاريخ الطويل، بل لأن حجم الكيد والمكر، وعنف الشدة والضغط الذي يمارسه أتباع الباطل بسبب الامكانيات الهائلة التي يتمتعون بها، ليس له مثيل من قبل، خصوصاً القدرة الكبيرة على نشر المعلومة المزيفة عبر وسائل مختلفة: الجرائد والمجلات، والبرامج والأفلام، والمواقع والمدونات والفيديوهات!

ونحن في المرجعية الإسلامية لا تهولنا هذه المعركة رغم شراستها وضغوطها وامتدادها، كما لا يهولنا حجم المكر الذي يمارسه المفسدون في الأرض لمحاصرة الإيمان وإشاعة الإلحاد بشكل مباشر وغير مباشر. لا يهولنا كل هذا، لأننا نعلم أنّ هذه المعركة تتضمن الكثير جدّاً من أسرار الحكمة الإلهية في حياة الإنسان، في الدنيا والآخرة. ومن هنا، فهي سنة من السنن التي نحن مأمورون إسلاميّاً أن نتعامل معها بأسلوب الإيمان، إذ كان ذلك جزءاً أصيلاً من عقيدتنا المقدسة.

إن صناع القرار اليوم في الغرب والشرق لا يترددون في التصريح المباشر بأنهم يخوضون معركة تغيير القناعات وصراع الأفكار، ويمارسون هذه المعركة بشكل عملي بمختلف الوسائل الممكنة لهم، ماديّاً ومعنويّاً، ومن هنا، لا جرم أنه يجب علينا نحن حملة الرسالة المقدسة وأتباع التوحيد والحق الأزلي أن نقوم بدورنا في هذه المعركة بكل ما نستطيع، فهذا فرض الله سبحانه علينا: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة/251].

ثالثاً- شيوع الظاهرة
لا يمكننا إنكار حقيقة أن الإلحاد المعاصر لم يعد كما كان في الأزمنة الماضية، بل هناك اختلافات واضحة بين الإلحاد القديم والإلحاد المعاصر يمكن رصدها في التالي:

(أولاً) قديماً كان الإلحاد مجرد حالات شاذة هنا وهناك بين مختلف الأمم والحضارات بنِسب متفاوتة، أما اليوم في عصرنا الحاضر فهو أشبه بالظاهرة الاجتماعية والعالمية. ونقول بأن الإلحاد صار ظاهرة باعتبار الماضي، وإلا فالإحصائيات بل والواقع يؤكدان على أن نسبة الملحدين ضئيلة جدّاً مقارنة بنسبة المؤمنين.

(ثانياً) قديماً لم يكن للإلحاد الكثير من الآليات التي تساعده على الانتشار والذيوع، أما في عصرنا الحاضر فالإلحاد يعيش فترته الذهبية بفعل الامكانيات المادية الهائلة والوسائل المتعددة كالإنترنت والمجلات والكتب التي أتاحت له الانتشار والشيوع. ولهذا لم يعد الوصول إلى الجمهور بمختلف شرائحه مشكلة بالنسبة للإلحاد.

(ثالثاً) قديماً كان الإلحاد أقرب إلى قناعة شخصية يعيشها صاحبها ولا يعنيه كثيراً مشاركة الآخرين له فيها، أما في عصرنا الحاضر فالإلحاد صار يُقدم عبر خطط وآليات مدروسة على أنّه البديل الأفضل عقليّاً وأخلاقيّاً للأديان، أي إنّ الإلحاد اليوم يتبنى فكرة الصدام المباشر والمتعمَّد مع الإيمان لتحقيق أهداف معيّنة!

(رابعاً) قديماً كان الإلحاد في لحظة الدفاع والتبرير يعتمد على الجدل العقلي الفلسفي وعلى البُعد النفسي الأخلاقي، أما في عصرنا فالإلحاد لا يعتمد على هذين بقدر ما يستغل الهوس بالعلم الطبيعي لدى جمهور الناس لينال طابع المصادقة على صحته، خصوصاً وأنه يغطي قناعاته الإلحادية بالعلم على أساس أنها حقائق علميّة!

(خامساً) قديماً كان الإلحاد محصوراً بنسبة أكبر في دائرة ضيّقة جدّاً، هي دائرة المتعاطين للجدل والفلسفة، أما في عصرنا الحاضر بفعل عوامل متعددة كالحداثة والرأسمالية وتسطيح العقول وتنميط الرؤى والتخلف المادي الناتج عن طغيان الغرب على البلدان المتخلفة، فقد اتسعت الدائرة لتشمل حتى المراهقين والأميين وأشباههم!

(سادساً) قديماً كان الإلحاد ينطلق من دوافع شخصية منفصلاً عن أية سياقات اجتماعية وحضارية، أما في عصرنا الحاضر فلا يمكننا فصل الإلحاد في الفضاء العربي والإسلامي عن سياق معركة الأفكار وحرب تغيير القناعات التي يمارسها الغرب كجزء من استراتيجية الهيمنة ومحاصرة الإسلام، وهذا باعتراف صناع القرار الغربي ومراكز البحوث!

كانت تلك أهم معالم الاختلافات الجوهريّة بين الإلحاد القديم والمعاصر. وهي مبررات كافية لتقديم مزيد من البحوث حول الإلحاد، وتجديد أساليب العرض والبيان، لتكون محيطة بأوسع جوانب الظاهرة.

رابعاً- تفشي الأمية الشرعية
من السمات الواضحة في شبابنا المعاصر، ما يمكننا تسميته بالأمية الشرعية! والمقصود بها أن شريحة كبيرة من الشباب المسلم لا يعرفون من الإسلام سوى القشور ونُتف عابرة تلقفوها من هنا وهناك!

هذه الجهالة بحقائق الإسلام في الواقع لم تنشأ من فراغ وبدون أسباب، بل بالحري أن لها عوامل ساهمت في نشأتها وشيوعها ورسوخها، يمكننا تحديدها في التالي:

*حالة التخلف التي مرّ بها العالم الإسلامي في القرون الأخيرة قبل السقوط.

*الاحتلال الغربي لبلدان العالم الإسلامي وحرصه على فصل المسلم عن إسلامه.

*استمرار تنفيذ خطة الاحتلال الغربي من خلال وكلائه العلمانيين من خلال الإعلام والمقرر الدراسي.

*الانغماس في فضاءات الانترنت واللهاث المحموم وراء الأخبار والمنشورات وهو ما يستنفذ الوقت.

كل هذه العوامل أنشأت في الشباب المسلم قابلية كبيرة للتأث�� بالخطاب المنحرف، سواء تمثل في نسخته العلمانية أم في نسخته الإلحادية. فلا جرم أن يكون الواجب مضاعفاً على العلماء والدعاة والمفكرين تجاه هؤلاء الشباب، فهم مستقبل الإسلام، وإهمالهم وتركهم فرائس سائغة للخطاب الإلحادي وغيره، لا شك أنه ستكون له أضرار عظيمة فضلاً عن الخطيئة الكبرى في ميزان الله سبحانه.