مقالات

باربي: غرسة خبيثة في نفوسٍ طيبة

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، من غزوةِ تبوكٍ – أو خيبر – وفي سهوتِها سترٌ، فهَبَّتْ ريحٌ فكَشَفَتْ ناحيةَ السِّتْرِ عن بناتٍ أي -لُعَب- لعائشةَ فقال: ما هذا يا عائشةُ؟ قالت: بناتي! ورأى بينَهُنَّ فرسًا له جَناحانٍ مِن رِقاعٍ، فقال: ما هذا الذي أرى وَسَطَهُنَّ؟ قالت: فَرَسٌ. قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جَناحان. قال: فرسٌ له جَناحانِ؟ قالت: أما سَمِعْتَ أنّ لسليمانَ خيلًا لها أجنحةً؟ قالت: فضَحِكَ حتى رَأَيْتُ نواجذَه.[رواه أبو داود في السنن] لنُعِد قراءة الحديث ونحن نتخيل أن الرسول الكريم رأى عند السيدة عائشة باربي بدل عرائسها، تُرى كيف كان سيتغير الموقف؟ هل كان ليضحك؟ أم أن وجهه كان سيحمر غضباً وهو يشيح عنها عليه الصلاة والسلام؟

في اجتماعٍ لي مع صديقاتي لاحظت أن الفتيات يقضين وقتهنّ في تزيين لعب باربي والتنافس على إلباسهنّ أجمل الثياب الصغيرة، وفي طريقي إلى المنزل دارت أسئلةٌ كثيرةٌ في نفسي: ما مقدار قسوة القلب التي تسربت إلى قلوب فتياتنا بسبب التنافس على من يلبس قطعة البلاستيك هذه لتبدو بقشرة ظاهريّة أجمل؟ ما الأفكار التي تدور في رؤوس بناتنا وهنّ يلعبن بها؟ ماذا لو كانت باربي الصغيرة أكثر من مجرد لعبة؟ كيف يمكن للمربّين أن يحموا بناتهم من عواقبها؟ وما الذي يقوله الوحي والعلم الموثوق عن هذا النوع من الدمى؟

باربي أرقام ومخاطر!

في هذا العالم المتسارع، يصعب على المربين أن يتوقفوا ويتفكّروا في لعبة مثل باربي، تماماً كالسمكة إن سألتها كيف حال الماء اليوم؟ سترد مستغربه: أي ماء[1]؟ ولذا نحتاج لبذل الجهد في الغوص في أصول هذه اللعبة، فباربي لم تكن دوماً لعبة أطفال، إنما بدأت كنسخةٍ عن دميةٍ ألمانيةٍ تسمى (ليلي) كانت تباع للرجال البالغين في محلات الدخان والخمارات، وفي عام ١٩٥٠سافرت روث هاندلر -واحدة من  مؤسسي شركة ماتيل الأمريكية المصنعة للألعاب- إلى أوربا واشترت مجموعة من هذه اللعب، ورأت أنها مكونٌ ضروري الوجود بين دمى الفتيات اللواتي يحلمن دوماً باليوم الذي سيكبرن فيه على حد قول روث!

في مقابلةٍ لزوج روث هاندلر قال: “عندما طُرِحت فكرة خروج باربي إلى الأسواق، لم أعتقد أن أحداً سيشتريها لطفلته الصغيرة”، إلا أنه في التاسع من آذار عام ١٩٥٨ بيع 300 ألف دمية من النسخة الأولى[2]، أما في الولايات المتحدة فقد بيع في كل دقيقة ما يقارب 100 دمية منها، أي بمعدل ٥٨ مليون لعبة بالسنة [3]، وبحسب موقع Statistic فأرباح هذه الشركة بلغت  1.35 بليون دولار بين عامي ٢٠١٢ و ٢٠٢٠.[4]

باربي

إن من المشاكل المرتبطة باللعب بهذه اللعبة انخفاض تقدير النفس -الثقة بالنفس- وعدم الرضا عن شكل الجسم، وفي أيلول عام  2016 نشرت مجلة  (body image) دراسة أجريت على١١١٢  فتاة تتراوح أعمارهنّ بين السابعة والثامنة، وكان مفادها أن البنات اللاتي  لعبن بباربي أبدين استياءً من أشكال أجسادهنّ مقارنة بالفتيات اللواتي لعبن بلُعب أشكال أجسامهنّ أكثر واقعية منها[5]. وكذلك نشر موقع Pubmed دراسة أجريت على فتيات بين عمري الخامسة والثامنة تم تعريضهنّ إما لصور باربي أو لصور لعب ذات ملامح واقعية، فكان تقدير الفتيات اللواتي تعرضن لصور باربي لأنفسهن منخفضاً مقارنة بالأخريات اللواتي لم يتعرّضن لها، كما أن المجموعة الأولى كانت غير راضية عن صورة جسدها وتملك رغبة أكبر بفقدان الوزن.[6] فالقلق الذي تتعرض له هؤلاء الفتيات بسبب خوفهن من زيادة الوزن لا يسببه مجرّد التعرض لأجهزة الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والتقاليد والأعراف التي تركز على شكل الفتاة، بل أيضاً نوع الدمى التي يلعبن بها.

إضافةً لما سبق، فمن المحتمل أن اللعب بباربي قد يسبب عدداً من اضطرابات تناول الطعام، ففي نفس الدراسة التي نشرت في مجلة Body Image قالت الدكتورة كاثلين كلير المتخصصة في علم التغذية في جامعة بنسلفانيا أن البنات في الدراسة كن يرغبنّ في الحصول على أجسام تشبه اللعب التي يلعب بها، وأنّ التعارض بين جسدهنّ والشكل الذي يردن أن يكنّ عليه قد يكون سبباً في اضطرابات تناول الطعام في المستقبل[7].

وأقرت مستشفى جولسينو للأطفال أن ٩٠٪ من اضطرابات الطعام والأمراض تأتي للإناث اللواتي تتراوح أعمارهن بين الخامسة عشر والعشرين[8]، كما نشرت مجلة نيويورك تايمز دراسة مفادها أن 42% من الفتيات بين الصف الأول والثالث يتمنين لو كنّ أكثر نحولة، بينما نصف الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن  بين التاسعة والعاشرة يشعرن أنهن أفضل أثناء خضوعهنّ لحمية خاصة لإنقاص الوزن[9].

ورغم أننا لا نستطيع أن نقول أن باربي هي السبب الأساسي لهذه الظاهرة لكن لها دوراً كبيراً في إشاعتها بكل تأكيد، تحديداً حين نعلم أن هناك إصداراً من باربي يأتي مع كتاب صغير بعنوان “كيف تنقصين وزنك؟” ويحتوي جملة “لا تأكلي” فقط[10].

باربي ونزعة الاستهلاك

أما آخر المشاكل التي أريد أن ألقي الضوء عليها فهي قضية الاستهلاك المتمثّل بكثرة الشراء لتلبية متطلبات باربي، فقد كتب المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه ‫الثقافة والمنهج أن “باربي، اللعبة البلاستيكية ذات الصفات الجسدية الجنسية الجذابة، ليست فقط لعبة، بل هي مؤامرة ضد أطفال العالم بهدف أن يكونوا مستهلكين منزوعي البراءة و عديمي الهوية”[11]، ولقد سمعته مرة في محاضرة مسجّلة يقول إنه قرأ دراسة مفادها أنه لو جمعنا عدد أحذية باربي التي قام الأطفال بشرائها فإنها ستلف  الكرة الأرض خمس مرات! وتأكيداً لكلام الدكتور المسيري فإن شركة ماتيل للألعاب أعلنت أن ٩٠٪ من الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن بين ٣-١٠ يملكن بمعدل ١٢ لعبة باربي[12]، هذا بصرف النظر عن دمى باربي التي يمتلكها الصبيان، فحديثاً وسّعت شركة ماتيل سوقها ليشمل الجنسين.

وفي هذه الأيام بات لدينا باربي ببيت أحلام ذي صفات خيالية كأنها تعطي الفتيات فكرة أنكنّ إذا أردتنّ أن تعتنوا بذواتكنّ فاشتروا المزيد والمزيد فقط، وكونوا عبيداً للمادة والأشياء والمزيد من منتجات البلاستيك، ولنقارن هذه النماذج بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذ قال: نام رسول الله ﷺ على حصير فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وِطاءً؟ فقال: ما لي وللدنيا؟، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها [أخرجه الترمذي في السنن وقال: حسن صحيح]. فالزمن الذي سنقضيه في هذه الدنيا مقارنة بالآخرة كمسافر استظل تحت شجرة، لكننا وكما يقول الدكتور عبد الرحمن ذاكر سكنا الشجرة، لقد نسينا أن الدنيا ممرٌ وليست بمستقر، ولنذكر هنا قول الألبيري رحمه الله لابنه: “لم تخلق لتعمرها ولكن لتعبرها فجد لما خُلِقتَ”[الألبيري، القصيدة التائية، البيت رقم٥٢]

ماذا علينا أن نفعل؟

بعد هذا العرض للمشاكل التي تسببها باربي، فالسؤال المهم ما الذي يمكننا فعله؟  في البداية دعونا ندعو الله أن يرزقنا السداد في تربيتنا لأنفسنا وأولادنا، ويمنحنا القوة في الحق والثبات عليه. وبعد هذا فإن أول ما يمكن فعله هو أن نرمي هذه القطعة البلاستيكية في قمامة إعادة التدوير، -مع التنبيه على ألا نتبرع بها لأحد فنتسبب له بما نخشى على بناتنا منه-، ورغم أن الخطوة تبدو صعبةً ومؤلمة، إلا أنني أقول مما رأيت وخبرت أن بناتنا أقوى مما نتصوّر وأكثر مناعةً نفسياً مما نظن، تحديداً ونحن نتحدث عن أطفال مرنين سنشرح لهم الأسباب وسنقوم بتلك الخطوة في إطار المحبة والإرشاد والعطف، وقد علمت أن اثنتين من صديقاتي قامتا بتلك الخطوة بسلاسة أكبر مما توقعتا.

من المفيد كذلك أن ننتبه لئلا نكون مدخلات سالبة لبناتنا، فنظرة عيوننا وملامح وجوهنا وكلماتنا كلها مدخلات متكررة لأولادنا، ونظرات الإعجاب والتقدير التي نعطيها لجميلات الشكل تُقرأ من قبل أولادنا وإن لم نقل أي كلمة، وكذلك تسخيرنا الأوقات الطويلة للعناية بشكلنا الخارجي وتمركز الكثير من أحاديثنا مع العائلة والأصدقاء حول اللباس ومساحيق التجميل والموضة والجمال. كل ذلك يعطي رسائل لأبنائنا مفادها أن أشكالنا وتقييمها مركزية الأهمية، مما يقف عائقاً عن فهم أن الشكل فتنة وامتحان لصاحبها -شكر أم تكبر- وللآخرين حسدوا أم رضوا-، واستحضار معاني الحديث الشريف الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلی صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) [رواه مسلم].

وهذا بالطبع لا يعني الامتناع عن الثناء على أشكال أولادنا، إلا أن التوسط هو المطلوب، فلنثن على جهود الأبناء وإنجازاتهم، ولندعهم يكتشفوا بأنفسهم أنهم أغلى من المظهر الخارجي بأن نملأ جدولهم اليومي بأعمال مفيدة كالسباحة، وتعلم المهن المنتجة كالخياطة، وأعمال الصوف، والخروج في مخيمات الطبيعة لكسر رتابة العادة، وأن يتعلموا أن يكونوا نظيفين ومرتبي الشكل دائما، إلى جانب تنمية التطوع لديهم كالعمل في المزارع، وحضور الدورات التعليمية، والفروسية،…الخ وبذلك نوسع أفق اهتماماتهم ولا نتركهم فريسة للفراغ.

تقول warhaft-Nadler المستشارة الرياضية والنفسية متحدثةً عن نفسها: عندما كنت أعاني من فقدان الشهية العصبي كنت أقول لنفسي: أنا لست ذكية كفاية ولا مرحة كفاية ولا أفعل أي شيء مميز وكافٍ ولست جميلة كما يجب، لذلك قررت أنه من الممكن أن أكون نحيلة كما ينبغي[13].

من المفيد أيضاً أن نحيط بناتنا بصحبة صالحة سعيدة ذات تصور صحي معتدل مدرك لحقيقة الإنسان المكون من جسد وروح، وكذلك القراءة الفردية أو الجماعية في كتب تعطي الشكل الخارجي مكانه الصحيح، ولله الحمد أن السنة النبوية مليئة بهذه النماذج، كقصة الرسول الكريم عندما أوقف الصحابة عليهم رضوان الله عن الضحك على ساقي ابن مسعود النحيلتين رضي الله عنه موجّهاً تفكيرهم لما هو أكثر أهمية، حيث أشار إلى أن هاتين الساقين أثقل من جبل أحد في ميزان الله، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مم تضحكون؟  قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد ) [أخرجه أحمد]. فتوجيه أولادنا لأن الميزان المهم هو عند الله وليس في أعين الناس وتعليق قلوبهم بذلك أساسيّ ومهم.

إضافةً لما مضى، نحتاج لتدريب أبنائنا على أن يفكروا بشكلٍ ناقدٍ بما يشترون ليلاحظوا أن شركات الألعاب لا تكترث مراحلهم العمرية وما يلزمهم في كل سن، فنقول لهم على سبيل المثال: لا تتخيلوا أن صانعي الألعاب وبائعيها يهتمون بنموكم النفسي، ما يهمهم هو أن تمتلئ جيوبهم بالمال، وإن كان على حساب صحتكم النفسية ونموكم العاطفي. ونعلمهم قول سيدنا عمر )أو كلما اشتهيت اشتريت)، كما أن هناك أيضاً برامج وكتب تتحدث عن الرأسمالية والمادية توضح للأطفال الخداع الموجود في الإعلانات بأساليب مبسطة.

وهنا ينبغي أن أنوه إلى أنه من المهم جداً حظر الإعلانات عن كل الأجهزة الإلكترونية لأنها تخلق لدى الكبار والصغار رغبات لم يفكروا فيها من قبل وتشعرهم مع التكرار أنها حاجات وضرورات، وأخيراً أدعو القراء ونفسي إلى التقليل من زيارات الأسواق وتذكّر أنها أبغض البلاد إلى الله.

في الختام وبعد إلقاء الضوء على التأثيرات السالبة لهذه الدمية، أرى أن نعمم ما مر في هذا المقال على كل منتجات الأميرات وأفلام ديزني وكل ماله أن يؤثر سلبياً على تقدير بناتنا لنفوسهنّ وصورتهن الذاتية، قال ابن القيم رحمه الله في كتابه تحفة المولود: “وكم ممن أشقى ولده وفَلَذَةِ كَبِدِهِ في الدنيا والآخرة بإهماله، وترك تأديبه، وإعانتِه له على شهواته، ويزعم أنه يكرِمه وقد أهانه، وأنَّه يرحمه وقد ظلمه وحرَمَه، ففاته انتفاعُه بولده، وفوَّت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرْتَ الفساد في الأولاد، رأيتَ عامَّته من قِبَل الآباء [14]“لنبدأ كمربين بأنفسنا بأن نعرفها ونقدرها ونعلم أننا أعظم من مجرد قشرة خارجية.

وفي طريق العودة إلى المنزل كانت آية من سورة التكوير تتردد في قلبي {وإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ} [التكوير:٨] فسألت نفسي هل نحن ندفن بناتنا بحسن نية؟ هل نحيطهنّ بمدخلات من ألعاب وقصص ومسلسلات وأغاني تركز على قشرتهنّ الخارجية فندفن بذلك أرواحهن الطيبة ومواهبهنّ وقدراتهنّ؟

 أخافتني هذه التساؤلات ولذلك قمت بكتابة هذه المقالة سائلةً ربنا الكريم أن تكون غرسة طيبة في نفوس طيبة.


المصادر:

  1. Age Differences in Body Size Stereotyping in a Sample of Preschool Girls. (n.d.). Taylor & Francis. Retrieved June 12, 2021, from https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/10640266.2014.964610
  2. Anorexia Nervosa – Child and Adolescent Eating Disorder Program – Adolescent Medicine – Golisano Children’s Hospital – University of Rochester Medical Center. (n.d.). Golisano Children’s Hospital. Retrieved June 12, 2021, from https://www.urmc.rochester.edu/childrens-hospital/adolescent/eating-disorders/teens/anorexia-nervosa.aspx
  3. Barbie’s Secret Sister Was a Sexy German Novelty Doll. (n.d.). HISTORY. Retrieved June 12, 2021, from https://www.history.com/news/barbie-inspiration-bild-lilli
  4. Collins, E. M. (1991, March 1). Body figure perceptions and preferences among preadolescent children. Wiley Online Library. https://onlinelibrary.wiley.com/doi/abs/10.1002/1098-108X(199103)10:2%3C199::AID-EAT2260100209%3E3.0.CO;2-D
  5. Dying to be Barbie | Eating Disorders in Pursuit of the Impossible. (n.d.). Com. from https://www.rehabs.com/explore/dying-to-be-barbie/
  6. Elisabeth Eaves. (n.d.). Why Does The Barbie Obsession Live On? Https://Www.Forbes.Com/2009/01/29/Barbie-Handler-Doll-Opinions-Columnists_0130_elisabeth_eaves.Html?Sh=22e6a21216bc.
  7. Hains, R. (2014). The Princess Problem: Guiding Our Girls through the Princess-Obsessed Years.
  8. Hanes, S. (2011, September 24). Little girls or little women? The Disney princess effect. The Christian Science Monitor. https://www.csmonitor.com/USA/Society/2011/0924/Little-girls-or-little-women-The-Disney-princess-effect
  9. Holland,Brynn,2006 .Barbie Through the Ages, https://www.history.com/news/barbie-through-the-ages .
  10. Jellinek, Myers, Keller. (September 2016).The impact of doll style of dress and familiarity on body dissatisfaction in 6- to 8-year-old girls. https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S174014451630208X
  11. Orenstein, P. (2011). Cinderella Ate My daughter: Dispatches from the Front Lines of the New Girlie-Girl Culture (1ST ed.). Harper.
  12. (2021, March 5). Revenue of Mattel’s Barbie brand worldwide from 2012 to 2020. https://www.statista.com/statistics/370361/gross-sales-of-mattel-s-barbie-brand/
  13. Dittmar,Halliwel,Ive, (2006,April).Does Barbie Make Girls Want to Be Thin? The Effect of Experimental Exposure to Images of Dolls on the Body Image of 5- to 8-Year-Old Girls. https://www.researchgate.net/publication/7210496_Does_Barbie_Make_Girls_Want_to_Be_Thin_The_Effect_of_Experimental_Exposure_to_Images_of_Dolls_on_the_Body_Image_of_5-_to_8-Year-Old_Girls
  14. Al-Masieri,2008, Culture and the approach.
  15. الشمس الدين محمد بن قيم الجوزية – تحفة المولود- دمشق – دار البيان -١٩٧١- الصفحه ٣٥١.
  16. 16. الألبيري، إبراهيم، القصيدة التائية. “تفت فؤادك الأيام فتا” .صيد الفوائد. http://www.saaid.net/wahat/q7.htm

[1]( Orenstein,2011)

[2] (Forbes,2009)

[3] (Holland،2006)

[4] (Statista،2021)

[5] (Jellinek, Myers, Keller،2016)

[6] (Dittmar 1,Halliwell,ive,2006)

[7] (Jellinek, Myers, Keller،2016)

[8] (Anorexia Nervosa,Golisano children hospital).

[9] (Kelley ،2004)

[10] (dying to be barbie)

[11] (المسيري،٢٠٠٩)

[12](Barbi fast fact,2009,2019)

[13] ( Hains،٢٠١٤)

[14]  (​​ابن القيم،١٩٧١)

اقتصادنا المأمول بين المبادئ والغايات

يُعتبر ضعف الاقتصاد وتراجعه من أكبر المشاكل التي تُعاني منها مُجتمعاتنا العربيّة المُسلمة، ولقد أصبحت ثقافة الاستهلاك والجمود والرّكود عنوانًا للعالم العربي بصفة عامّة، ولو أردنا أن نبحث عن المصنوعات التي تصنع بأيدينا، وعن الأشياء التي نُنتجُ للعالم، أو عن مُساهماتنا في تطوير الاقتصاد العالمي، لعُدنا –للآسف- صِفْر الأيدي.

في ظلّ هذا الواقع الذّي نعيشه، تعالَتْ أصوات الإصلاح منذ زمنٍ طويل، إلا أنها جميعها لم تثمِر الحلول اللازمة لمشاكلنا، ولنا أن نتساءل لماذا؟ 

ويبدو لنا أن مُختلف البرامج الإصلاحيّة كانت وما تزال ذات قوالب غربيّة جاهزة مُستوردة، لا تتماشى إلاّ مع واقع المُجتمعات الغربيّة، ولا تُقدّم حُلولاً إلا لمشاكلهم الاقتصاديّة المُرتبطة بهم، وليست لها أيّ صلة بمشاكل المُجتمعات العربيّة، فهي بعيدة عن واقعهم، ولأنّها أيضًا برامج لا تتماشى إلاّ مع القيم الغربيّة الماديّة، على عكس حاجة مُجتمعاتنا المُسلمة التي لها ثوابت وركائز أساسيّة قائمة على مفهوم الحلال والحرام، ممّا أسفر ذلك على بقاء هذه البرامج في خانة الأعمال النّظريّة غير القابلة للنّجاح.

ومن الغريب اليوم بعد كلّ هذه التّجارب الفاشلة، أن يُصرّ البعض من بني جلدتنا على التّرويج بأنّ نجاحنا الاقتصادي لن يكون إلاّ بتطبيق الأنظمة الاقتصاديّة الغربيّة الرّأسماليّة، وفي المُقابل يتمّ إهمال المنهج الاقتصادي -المنضبط بتعاليم الإسلام- ورفض العودة إليه أو دراسته بدعوى أنّ الإسلام ليس له منهج اقتصادي واضح المعالم، وأنه لم يعد يصلح لهذا الزّمان بسبب التغيّرات التي حصلت في حياة النّاس. فما ما مدى صحّة هذا الادعاء؟

منهج الاقتصاد الإسلامي
يقول الدكتور يوسف القرضاوي :”إن كان المقصود بالنهج أو النظام: الصورة التّفصيليّة التّي تشمل الفروع والجزئيّات والتّطبيقات المُتنوّعة، فالإجابة عندي بالنفي، وإن كان المقصود: الصورة الكلية التي تتضمن الأسس الهادية والقواعد الحاكمة والتوجهات الأساسية الضابطة، وبعض الفروع ذات الأهميّة الخاصّة، فالإجابة عندى بالإيجاب. ذلك أنّ منهج الإسلام الذّي عرف بالاستقراء: أنه يُجمل في الأمور التي تتغيّر كثيرًا بتغير البيئات والأزمان، ويُفصّل في الأمور التي لا تتغيّر كثيرًا.  ولا ريب أنّ الاقتصاد والسياسة من الأمور كثيرة التغيير، فلهذا اكتفَت فيها النصوص بوضع المبادئ والقواعد الكليّة والتوجيهات الأساسية، وهذا ما نقصده إذا قلنا: نهج أو نظام إسلاميّ، فإن كان هذا هو المراد، فهو ما أؤمن به، وأدعو إليه”(1).

ونستنتج من ذلك أنّ للاقتصاد الإسلامي مبادئ كُبرى ثابتة، لا تتغيّر صالحة لكلّ زمان ومكان، ولكن قد تختلف وسائل تطبيقها على حسب ما يُناسب تطوّرات العصر وبما يتناسب مع مصالح المُجتمع.

ومن هذه المبادئ مفهوم الملكيّة التّي تنقسم إلى أربعة أقسام:

أوّلها: الملكيّة الفرديّة الخاصة حيث لكلّ إنسان أن يَملك الثروات وله حرّية التصرّف فيها ما لم يُصبح هنالك ترف أو إسراف أو فساد وضرر بالمجتمع، على أن يكون هدف هذه الملكيّة زيادة الإنتاج وتوليد الثروات ودفع الفرد للمشاركة الفاعلة في النّشاط الاقتصاد، بدون كسل أو جمود أو ركود عملاً بقوله تعالى:” لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ” [النساء: 32].

ثانيها: الملكية العامة كأرض الخراج وأرض البياض التّي تتعلّق بأجيال المجتمع الحالية والمستقبلية، فعندما فتح الخليفة عمر ابن الخطاب أرض سواد العراق رأى أن تبقي هذه الأرض الشاسعة حقًّا لكلّ المُسلمين إلى يوم يُبعثون غير مُقتصرة على الجنود ومن كان موجودًا في العراق، وكثروات الأرض من معادن وغاز ونفط وطاقات طبيعية متجددة، وكمصادر الطاقة العامة كحجارة البناء، وهذه الملكيّة تديرها الدولة نيابة عن المجتمع ولا تُفرّط فيها للملكيّة الفردية الخاصّة، والهدف منها تمكين الأفراد من الإنتاج وتيسير نشاطهم الاقتصادي.

ثالثها: الملكية المجتمعية حيث تبقى في حيازة الدّولة نيابة عن المجتمع مع ضمان حُسن إدارتها من أجل تحقيق مصالح المجتمع، والهدف منها التوزيع العادل للجميع  ولكلّ حقّ فيها غنيَّا كان أو فقيرًا عملاً بقوله صلى الله عليه وسلّم:” الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ : فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأ وَالنَّارِ”(2).

رابعُها: الملكية الوقفيّة التّي يُقرّر صاحبها تحويل ما يملك إلى المصالح الاجتماعية العامة ليَنتفع بها النّاس، فهي عبارة عن ملكية تطوّعية غير ربحية تغطية لنقائص المجتمع في القطاع الخّاص والحُكومي في مُختلف المجالات.

مبادئ في الاقتصاد الإسلامي
من مبادئ الاقتصاد الإسلامي المكوّنة لمنهجه أيضًا المبادلة والمعاوضة حيث هنالك تفاوت في القدرات والطّاقات البشريّة وكلّ قادر على الإنتاج في مجاله، ومن ثمّ يتمّ التبادل والمعاوضة بين الجميع لنفع بعضهم البعض مقابل مبلغ مالي إزاء ما تمّ إنتاجه في حالة البيع والشّراء، وهذا المبدأ  قائم على تعظيم المنافع  إذْ يسعى كلّ واحد إلى تعظيم ما ينتجه عن طريق الإتقان والإبداع فيه، ولا تُبرَم العقود إلاّ برضاء الطّرفين بدون ظُلم أو فساد، كما هو الحال في العقود الربوية المحرمة شرعًا، والتّي تقوم عليها الأنظمة الاقتصاديّة الغربيّة.

يُبيّن لنا الأستاذ سيّد قطب خطورة هذه المعاملات فيقول: “وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة دكتور شاخت الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقا. وقد كان مما قاله في محاضرة له بدمشق عام 1953 أنه بعملية رياضية “غير متناهية” يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدًّا من المرابين. ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية، بينما المدين معرض للربح والخسارة.”(3)، فالمُرابي سيسعى إلى رَفع سعر الفائدة لصالحه، ويُوهم أهل التجارة والصّناعة حاجتهم لماله، ومن ثمّ يجدون أنفسهم عاجزين عن السّداد مع تواصل ارتفاع الفوائد، وبالتّالي ينكمشُ حجم المال المُستخدم في هذه المجالات ممّا يعود بالضّرر على العاملين فيها، ويتراجع حجم الإنتاج وينعكس ذلك سلبًا على المقدرة الشّرائيّة للأفراد، وفي هذه الحالة يقوم المرابون بخفض الفوائد من أجل إعادة تشجيع النّاس للتّعامل معهم من جديد، ويقوم أصحاب الصّناعات والتّجار بدفع الفوائد عن طريق جيوب المُستهلكين، برفع أسعار المواد الاستهلاكيّة ممّا يُصبح عبئًا على مُختلف شرائح المُجتمع.  وأمّا الدّيون الرّبويّة التي تقترضها الحكومات من المؤسّسات الدّوليّة لتقوم بالإصلاحات والمشروعات التّنمويّة فإنّها ستقوم بتسديدها عن طريق الزيادة في الضّرائب وإن عجزت فإنّها ستقع في قبضة الاستعمار الاقتصادي.

ومنها أيضًا الحرية الاقتصادية حيث كُلّ له حرّية مطلقة في أمواله وثرواته، إلا أن هذه الحرية تنتهي عند إحداث الضرر بالنّفس أو بالمجتمع أو بالمحيط الذي نعيش داخله، أو بتسخير الثروات في مسالك الانحراف والفساد والمحرمات والتّرويج لها. ولا ننسى أيضًا مبدأ السّوق الحر القائم على حريّة التعامل، فبعدما أنشأ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم السّوق في المدينة بدأ يُوجّه النّاس فيقول:” لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ، يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ”(4).

ومن المبادئ التّي يجب مُراعاتها أيضًا مفهوم المال والثروة والدّخل، فالمال أصله يكون من الطيّبات في الإنتاج والتّعامل، وليس من المعقول عندنا إنتاج ما هو خبيث وفيه إثم وضرر، من سجائر وخمور وغيرها من المنتوجات، ويشمل المال الثروة والدّخل، وما نُلاحظه في مجتمعاتنا هنالك ضرائب على الدّخل وليس هنالك ضرائب على الثروات، بينما الزكاة ضُربت على الدّخل والثروات، مثل الإنتاج الزّراعي الذي يُعتبر دخلًا وتجب فيه الزكاة التّي يجب إنفاقها على مُستحقّيها.

الزكاة من ركائز الاقتصاد الإسلامي

ولعل وجود القانون الاقتصادي المستمدّ من الشرع الحنيف إلى جانب ضرورة الخضوع له بالعدل من أهمّ المبادئ في الاقتصاد الإسلامي، فأن يُوجد القانون في الدولة يعني أن تسير على نهجه وبيانه، وأن يخضع الجميع لهذا القانون بالعدل، وإن حصل العكس وأصبح الحاكم ذا حريّة مطلقة، وبدأ أصحاب النّفوذ في السّلطة باستغلال مناصبهم لصالحهم المادّي، فسوف ينتشر الفساد الذي يقتُل روح الإنتاج، وتضيع الثّروات، وسيعيش الفرد تحت الخوف والاستبداد، غير قادر على أخذ المُبادرة للإنتاج، خوفًا من أنْ تذهب جهوده ومشاريعه سُدىً بسبب الفساد الطّاغي داخل المُجتمع -كما هو واقعنا اليوم-.

ومن تلك الأسس أيضًا إلى جانب الإلزام القانوني الالتزام بالرقابة الأخلاقية من خلال الصّدق والعفاف والأمانة ومُقاطعة الكذب والغشّ والجشع والأنانيّة والظّلم والاحتيال، أي عن طريق قانوني تنفيذي وذاتيّ يحفظ الأخلاق الاقتصاديّة، ويُعاقب الباغين بدون مُحاباة، ولا ننسى هنا أيضًا ضرورة التّناصح على الالتزام بهذه الأخلاق، والذّي يدخل في باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بين أفراد المُجتمع، إلى جانب الرّحمة والعناية بالآخر عن طريق الأوقاف الخيريّة المُوجّهة لدعم الاستثمار والتّنمية وسداد الدّيون للمعسرين ، وعن طريق الزّكاة والصدقات وإعطائها لأهلها من المُحتاجين.

 وهنا لنا أن نتساءل: ما دورنا لبناء اقتصادنا؟

البناء الاقتصادي
إنّ الغاية المُشتركة من الأنظمة الاقتصاديّة في العالم هي ضمان الكفاءة الإنتاجية وحُسن توزيع الثروات، ومن أجل ذلك نُلاحظ اليوم أنّ الدّول الكبرى تسعى لفرض نفوذها واستغلال الدّول الضّعيفة ونهب ثرواتها والمواد الأوّليّة التي تمتلكها، ومن ثمّ جعلها سوقًا استهلاكيّة لترويج منتوجاتها، لضمان استقرارها الاقتصادي، وتواصل تسويق إنتاجها، واستمرار الهيمنة الاقتصاديّة بيدها.

في المُقابل فإن ما يُميّز النّظام الإسلامي الاقتصادي هو احترام كرامة الإنسان وتحقيق العدالة الاقتصاديّة بلا ظلم أو انحراف، ولا يُمكن للمُسلمين اليوم أن يخدموا دينهم وينشروا رسالته في الأرض وأن يحقّقوا رسالة الاستخلاف فيها، والدفاع عن مُقدّساتنا وعن المظلومين، إلا في حال الخروج من حالة التخلّف والتبعيّة الاقتصاديّة لغيرنا.

فنحن بحاجة اليوم إلى كسر قيود التخلّف والجهل والجمود والظّلم، عن طريق بناء شخصيّة مُسلمة مُتوازنة، تحمل ثقافة العمل والإنتاج والتّغيير والإقبال على الحياة، بنور الإيمان وبقوّة العقيدة وقادرة على تطبيق المبادئ التّي ذكرناها وجعلها قوانين يُلتزمُ بها، فعلينا اليوم أن نسعى لإنشاء جيل جديد يحمل داخله هذه الشخصيّة، وهذا دور الأسرة في بيتها، والمُعلّم في مدرسته، والإعلام في منابره، والمسجد والمُجتمع كُلّه إذ إنه على كلّ إنسان أن يسعى للإصلاح والتّغيير، كما علينا توحيد الجهود ووضع الاستراتيجيّات المناسبة لذلك، فإن وُجد هذا الجيل فإن ذلك سيُحدث نُقلة داخل المُجتمع، وسيقودنا لبناء دول حديثة عادلة رايتها الإسلام وأخلاقه.


الهوامش:

(1): دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهيبة للنشر، الطبعة الأولى 1995، ص:15.

    (2): نيل الأوطار، كتاب إحياء الموات، باب الناس شركاء في ثلاث وشرب الأرض العليا قبل السفلى إذا قل الماء أو اختلفوا فيه ، الجزء 5، الحديث: 2405، ص: 653.

    (3): في ظلال القرآن، تفسير سورة البقرة، تفسير قوله تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، الجزء 1، ص: 318.

    (4): نيل الأوطار، كتاب البيوع، أبواب ما يجوز بيعه وما لا يجوز، باب النهي أن يبيع حاضر لباد، الجزء 5، الحديث: 2202، ص: 195.

عرض الأزياء.. كيف تحول البشر إلى علّاقات ثيابٍ متحركة؟

من واجهات المحلات، إلى عروض الأزياء مروراً بإعلانات الملابس والحليّ ومستحضرات التجميل وصفحات المجلات، عارضو الأزياء مُستخدَمون في قطاعات كثيرة في عالم اليوم، وعن طريقهم يتم إقناع الزبائن بملاءمة البضائع لهم وحاجتهم لشرائها، فهذه الصناعات بعدما قامت لترِيح الإنسان وتؤدي له حاجاته، باتت متعاظمة بنفسها تُذِل كثيرين في خدمتها، وتملي عليهم نمط حياتهم كاملاً، ابتداءً بما يأكلون ويشربون، وانتهاءً بكيف يمشون ومتى يقفون وكيف يتكلمون أو يتبسّمون.

ومع أن الشركات توجهنا لأن نتجاهل الأفراد الذين يتم التسويق من خلالهم، وألّا نفكّر إلا في المنتج المقصود، إلا أننا نتساءل في هذا المقال:

ماهي هذه المهنة التي يحترفها العارضون؟ وكيف نجحت بتحويل بشرٍ كرّمهم الله إلى أدوات لا تُرى إلا لأجل الأشياء التي يستعرضونها؟ وبعد كل هذا، كيف دخلت هذه المهنة بيوتنا واستهوت فتياتنا وحوّلت كثيراً منهنّ إلى عاملات فيها بكل يسرٍ وسهولة؟

متطلبات وأهداف
ورد في موقع CollegeGrad الموجه للباحثين عن وظائف؛ تحت عنوان “متطلبات مهنة عرض الأزياء”: لا يشترط أي تحصيل علمي أو أكاديمي لمهنة عرض الأزياء، وكذا الخبرة المهنية فهي غير مهمة لمعظم الوكلاء، ولا يلزم التدريب أو الحصول على أي ترخيص رسمي كذلك.

إن المهم الذي يَسأل عنه الموظِّفون هو: العمر والوزن والطول وقياسات الجسم بشكل رئيسي[1].

وفي شرح أدقّ لهذه المحددات ورد في مصدرٍ آخر أن أقل طول مقبول لدخول الفتاة إلى هذه المهنة هو 176 سم، أما وزنها فينبغي أن يكون أقل من الوزن الوسطي لأقرانها على الأقل[2]!

هكذا بكل بساطة يقال إن هناك مهنة تهمّش العقل، ولا تتطلب إلا معايير شكليّة دقيقة لممارستها، ثم لا يعتبر ذلك تسليعاً للجسد أو انتقاصاً من الكرامة.

إن العجيب ليس وجود هذه المعايير، وإنما نجاح المهنة في استقطاب الفتيات وإقناعهن بأن المنافسة على المقدمة فيها أمر شرفي يستحق السعي والجهد. فنرى مواقع كثيرة تقدم مقالات مفصلة ترشد الفتيات إلى الطريق الأكثر فعالية لكسب الصدارة لدى المصممين المشهورين.

تقول واحدة من هذه الإرشادات الموجهة لليافعات (فوق سن الثانية عشرة) حرفياً: “شكلك الخارجي يجب أن يكون جذاباً وملفتاً. الوكلاء والمصممون يبحثون عن الكمال الجسدي في تجارب الأداء، لذلك تجنبي المبالغة باستخدام المكياج أو ارتداء الألوان الفاقعة، واحرصي على المشي بانسيابية أمام الحكام ليتم اختيارك للوظيفة”[3] وتقول أخرى: “إن أول شيء تحتاج العارضة الطموحة إلى معرفته هو مميزاتها الجمالية، وكيفية إبرازها بأفضل طريقة ممكنة، ما الذي يجعل وجهك مثيراً للاهتمام أو مختلفاً على الأقل؟ هل هو الفراغ بين أسنانك؟ أم عينيك الناعستين؟ كل هذه قد تكون ميزات تجعل عملاء التوظيف يذكرونك في تجارب الأداء[4]!”

وقد نتساءل هنا: ما الذي يجذب الفتيات لهذا الوسط غير الطبيعي؟ ما الذي قد يستهوي مراهقة بعمر الثالثة عشرة لتترك مدرستها ثم تأخذ 50 صورة لنفسها، ترسلها لوكيل عارضين من أجل تجربة أداء ستدخلها بين آلاف الفتيات الأخريات اللواتي يشابهنها في الوزن والطول، ليطلب منها هناك أن تصمت، أو تبتسم، أو تعبس، أو تمشي بكبر وخيلاء، ثم يتم الحكم عليها بناءً على ذلك لا غير؟!

كان هذا سؤالاً يلح عليّ أثناء بحثي في موضوع عرض الأزياء، فهذه مهنة مهينة فعلاً، وهذا يقرّ به بعض الداعين إليها حتى، فهذه إحداهن تقول في ختام كلام طويل عن طرق النجاح كعارضة: “يبدو الحديث في هذا الأمر سطحياً، صحيح؟ هذا لأنه كذلك فعلاً، ففي النهاية عارضات الأزياء هن علّاقات ملابس فاخرة لا أكثر، ودورهن في صناعة الموضة هو جعل الملابس تبدو جميلة لكي تُباع. لا يمكننا اللف والدوران حول حقيقة أن هذه صناعة يقودها الشكل الخارجي وحده[5]!” وليت الكاتبة اكتفت بهذا الكلام في مقالها، بدل أن تغرر بكثيرات وترشدهن درب الغواية والريادة فيها أيضاً.

وهنا يتكرر السؤال: لماذا تطلب فتاة عملاً كهذا؟

والجواب –كما وجدت- في أمرين:

أولهما: المال الوفير الذي تظن الفتاة أنها ستحصّله بمجرد عبورها على ممشى العرض أو وقوفها أمام كاميرا لبضع دائق، وثانيهما حلم الشهرة والنجومية الذي يستهوي كثيراً من اليافعات فيجعلنه هدفاً وشرطاً للسعادة، خصوصاً مع تقديس المشاهير في الإعلام وجعلهم قدوات للأجيال الجديدة، وكذلك تندفع الفتاة لهذا العمل المهين لأجل أوهام، ولا تفكّر في واقعية ذلك كله أو المقابل الذي ستدفعه لتحصيله.

تقول عارضة سابقة: كنت في الرابعة عشرة حين أرسلت لي وكيلتي أول فرصة لي كعارضة، كان إعلاناً طرقياً لمحطة راديو تظهر صورتي عملاقةً عليه، ظننته سيبدو بريئاً، لكنهم كتبوا تحت الصورة: “لا يوجد موعدٌ سيءٌ لا تصلحه الأغنية المناسبة”، كيف ألمحوا إلى أنني في موعد وأنا طفلةٌ في الرابعة عشرة من عمري![6]

وتقول أخرى: “كان الظهور على أغلفة المجلات مؤلماً، الجميع يحكم على شكلك ووزنك وموافقتك لمعاييرهم، وهذا لم يكن يعطيني أي قوة في وقتها، كنت في السابعة عشرة وأريد الاختباء، شعرت أنني لا أملك أي سلطة على نفسي[7]“، وبالرغم من أن العارضة لا تقدم جهداً ذهنياً أو عضلياً كبيرين في مهنتها، إلا أنها تفقد نفسها، ولا تملك أي سيطرة على هويتها التي تستخدمها الشركات للربح المادي فقط.

ومن جهة أخرى فإنّ الإحصاءات تظهر أنّ نسبة أقل من 10% فقط من العارضات هن من يحقق ثروة حقيقية عبر هذه المهنة، أما البقية فهنّ يعملن بأجر يتراوح بين 8-11$ في الساعة في الولايات المتحدة الأمريكية -أي أجر قريب من الحدّ الأدنى قانونياً-، وتكون الوظائف غير ثابتة أو متوقعة[8]. ومع ذلك كله فإن مهنةً العرض تجذب الفتيات الحالمات بالاستقلالية وامتلاك دخلهن الخاص، ففي ظل التفكك الأسري وارتفاع قيمة المال الذي تشهده المجتمعات الغربية، كان لازماً أن تصير مهنٌ تعطي دخلاً “سهلاً” للصغيرات مطلوبةً وإن كانت ستجعلهنّ رقيقات مستعبدات في الطريق.

جديرٌ بالذكر أن هذه المجتمعات التي تسمح لفتاة في سن الرابعة عشرة أن تترك بيتها، تسافر إلى مدينة بعيدة، وتوقع عقداً مع وكالة لا ترى فيها إلا قياسات جسدها، لترتدي ما تأمرها به، وتنشر صورها التي تختار في الطرقات وعلى أغلفة المجلات[9]، وتعرضها خلال ذلك لكثير من الاستغلال المادي والجنسي، هي نفسها التي ترفض زواج الفتاة ما لم تنهِ تعليمها الجامعي، وتعتبره حرماناً لها من طفولتها!

آثار مدمرة
عام 2006 بدأت النسبة العالية للمريضات باضطرابات تناول الطعام وبالأخص فقدان الشهية العصبي (ِAnorexia Nervosa) والشره العصبي Bulimia Nervosa)) في مهنة عرض الأزياء تتلقى انتباهاً إعلامياً كبيراً، تحديداً بعد وفاة العارضة آنا كارولينا بفقدان الشهية العصبي عن عمر 21 سنة، حيث لم يتجاوز وزنها عند الوفاة 40 كغ.[10] وبعد جدل كبير ووفاة عدد من العارضات بنفس المرض؛ أُقِرَّ في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا عام 2015 قانون يحدد أقل وزن يسمح به قانونياً لعارضة الأزياء وتُعاقب الشركة إن وظفت عارضات بوزن أقل منه.[11]  أما في الولايات المتحدة الأمريكية حيث لا توجد قوانين مشابهة، فمتوسط وزن العارضات يساوي ذلك الذي تسميه الأمم المتحدة بـ”المجاعة” (starvation)[12].

في الصورة: ايزابيل كارو، عارضة أزياء سابقة، طالبت بسن قوانين تحدد وزن عارضات الأزياء في الولايات المتحدة، توفيت بمرض Anorexia Nervosa عام 2010 عن عمر 28 سنة. المصدر:

Is It Time To Set Weight Minimums For The Fashion Industry? : Shots – Health News : NPR

وقد لوحظ أن العارضات يتبعن ممارسات مرضية خطرة ليكْبِتْنَ الإحساس بالجوع ويحققن النحافة المطلوبة كتناول كرات القطن والمناديل الورقية والتقيؤ العمد بعد كل وجبة.[13] تقول العارضة السابقة Zuzanna Buchwald: “كنت رياضيّة حين دخلت هذا العالم. طلبت مني وكالتي أن أتوقف عن ممارسة الرياضة وأمتنع عن تناول الطعام ريثما أفقد بعض العضل. تبعت توجيهاتهم حتى أصبت بفقدان الشهية العصبي ومن ثم الشره العصبي. كنت ضعيفة ومنهكة دوماً، انقطعت دورتي الشهرية لثلاث سنين وتحول لون أسناني إلى الرمادي، جفت بشرتي جداً، بدأ شعري بالتساقط، كانت تجربة مريرة. كنت أفعل كل ما يقال لي لأنني أريد الحفاظ على وظيفتي، لكنني لم أشعر يوماً أنني قوية أو جميلة”[14].

وقد أظهرت دراسة مسحية منهجية عام2015 أن اهتمام العارضات بالشكل الخارجي والنحافة الذي هو أعلى بكثير منه في غيرهن يجعل نسبة إصابتهن بمتلازمة اضطراب الأكل الجزئية مرتفعاً شكل ملحوظ.[15] والمشكلة لن تحل بتحديد وزن أدنى للعارضات، فالصناعة نفسها قائمة على كون الجمال في النحافة، والعارضة إنما يتم اختيارها لأنها تحقّق معايير الجمال تلك، فرفع الحد الأدنى للنحافة لن يحل المشكلة في كونها معياراً للجمال.

وعلى صعيد آخر بيّنت دراسة محكمة أن نسبة العارضات المدمنات على الكحول والمخدّرات أكثر من ضعفها في أقرانهن[16].

ولنا أن نفكّر هنا: كيف صار الإنسان خادماً لأقمشة مقطّعة مستعداً لفعل أي شيء في سبيلها لمجرد أن الذي جمعها معاً مصمم مشهور؟ كيف تحولت الثياب من وسيلة لستر العورة إلى قاضٍ على الوزن والجمال والحياة؟ وكيف يُسمح لشخص مريض أن يقول لفتاة إنها تحتاج لخسارة عدة سنتيمترات من محيط خصرها وإلا كانت غير صالحة للاستخدام![17]

وقد صدق ابن تيمية -رحمه الله- حين قال: ومن لم يكن خالصاً لله، عبداً له وحده، لا شريك له بحيث يكون الله أحب إليه مما سواه، استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه.[18]

من عارضة إلى فاشنيستا إسلامية
إننا اليوم نرى الذي وصفه ابن تيمية -رحمه الله- في أوضح صوره، عبوديةٌ للبشر والأضواء والأقمشة، والعجب أننا نرى كثيرًا من الفتيات المسلمات ينافسن على تقليده، فبالرغم من كل الذي ذكرناه في عرض الأزياء من مهانة وظلم وتسليع للإنسان إلا أن بريقه الخادع جذب كثيراً من فتيات المسلمين، فصرن ينافسن على النسخة الملطّفة منه تحت مسمى الـ “فاشنيستا”، وهي كلمة تترجم حرفياً إلى “تابعة الموضة”، أو الأنثى التي تكرس جزءاً من وقتها لاستعراض ملابس أوحلي أو ذوق في تنسيقها معاً أو مهارة في استخدام المكياج، ثم نشر صور ذلك كله في منصات التواصل الاجتماعي إما لغرض مادي (حين يكثر متابعوها وتتواصل معها الشركات لتستعرض منتجاتها، فتصير عارضة حقيقية) أو لغرض نفسي (من حيث أعداد المتابعات والإعجابات).

ومع أن ذلك لا يتّسق مع الحجاب الشرعي وأمر الله تبارك وتعالى بعدم إبداء الزينة، إلا أننا بتنا نرى فاشنيستات “إسلاميات” أخذن على عاتقهن عرض الملابس الموافقة للموضة مع بضع إضافات تغطي الشعر والجسد (غالباً)، ثم تقديم ذلك لمن تشعر بالحرمان لعدم القدرة على مواكبة الموضة باللباس الشرعي، فلا تختلف فاشنيستا إسلامية عن غيرها حقيقةً إلا بقليل من القماش، أما التبرّج والتجمّل والتركيز على صورة الجسد والجمال الخارجي فهو نفسه الذي لدى غيرها.

وكذلك نشأت شريحة كبيرة من المسلمات اللواتي يعرضن الأزياء لعدد غير محدود من الناظرين دون مغادرة بيوتهن، وكل ذلك عبر صفحات الإنستغرام والفيس بوك، حيث يطلبن الإعجاب، ويسعين لنيل رضا الجمهور من أجل مزيد من الشهرة و”التأثير”، ويعتقدن أنّهن خير مثال للمرأة المسلمة العصرية التي لم يمنعها حجابها من اتباع الموضة.

عسى الله أن يهدينا وشباب وشابات الإسلام سبل الرشاد، وينير بصائرنا ويوجهنا لما فيه خير دنيانا وآخرتنا، إنه على كل شيءٍ قدير.


الهوامش والمصادر:

[1] Models: jobs, career, salary and Education Information, CollegeGrad.

Models: Jobs, Career, Salary and Education Information (collegegrad.com)

[2] Tina Kells, Modeling For Girls, Liveabout dotcom. 2018.

Do You Have What It Takes to Be a Model? (liveabout.com)

[3] Kristine Tucker, Tips on Getting Discovered as a Model. Chron.

 Tips on Getting Discovered as a Model (chron.com)

[4] Format Team, How to Become a Model: A Beginner’s Guide, Format. 2020.

How to Become a Model: A Beginner’s Guide (format.com)

[5] Tina Kells, Modeling For Girls, Liveabout dotcom. 2018.

Do You Have What It Takes to Be a Model? (liveabout.com)

[6] Former Model Shares Dark Side of Glamorous Life, The 700 Club. 2015.

https://www.youtube.com/watch?v=QPbYM_lYgaU

[7] 9 Models on the Pressure to Lose Weight and Body Image | The Models | Vogue, 2019

https://www.youtube.com/watch?v=MKd38G338Qw

[8] Catie Watson, How Much Does a Model Make an Hour? Chron. 2019.

https://work.chron.com/much-model-make-hour-21379.html

[9] للمزيد: اقرأ قصة العارضة السابقة نيكول ويدر

Nicole Weider, Project Inspired: Tips and Tricks for Staying True to Who You Are. 2015. Zondervan.

[10] 21-Year-Old Anorexic Model Dies in Brazil.  Fox News. 2006.

21-Year-Old Anorexic Model Dies in Brazil | Fox News

[11] (المصدر السابق)

[12] Vanessa Rancano, Is It Time To Set Weight Minimums For The Fashion Industry?  NPR. 2015

https://www.npr.org/sections/health-shots/2015/12/22/460682633/is-it-time-to-set-weight-minimums-for-the-fashion-industry

[13] (المصدر السابق)

[14] Model Zuzanna Buchwald Reveals Her Agent Told Her To Stop Eating, 2016.

https://www.youtube.com/watch?v=6rdzoXWOAHc

[15] Zancu, S.A., Enea, V. Eating disorders among fashion models: a systematic review of the literature. Eat Weight Disord 22, 395–405 (2017). https://doi.org/10.1007/s40519-016-0293-5

[16] Santonastaso, P., Mondini, S., & Favaro, A. (2002). Are fashion models a group at risk for eating disorders and substance abuse?. Psychotherapy and Psychosomatics, 71(3), 168-172.

[17] 9 Models on the Pressure to Lose Weight and Body Image | The Models | Vogue, 2019

https://www.youtube.com/watch?v=MKd38G338Qw

[18] ابن تيمية، العبودية. ص 140

حين تتحول الرياضة إلى عبودية.. الباليه نموذجا

“مع مرور الوقت، يصير الألم الدائم في عموم الجسد أمراً اعتيادياً”[1]. هكذا تحدثت راقصة الباليه المحترفة نيكولا فولكر بكل بساطة عن الآلام المتعلقة بالرياضة التي اتخذتها نمطاً لحياتها. أما أحد الراقصين المحترفين فقال إنه لم يعد يفكر بآلام الممارسة إلا كجزء من الحياة اليومية، فتحضير أكياس الثلج لوضعها على أماكن الانتفاخ والتشنج والتقرح عمل روتيني قبل النوم يعين على الاستيقاظ في اليوم التالي لمعاودة التدريبات.[2]

أتحدث هنا عن الباليه، تلك الرياضة المعروفة بانسيابية حركاتها ورشاقة راقصاتها (وراقصيها حديثاً) بشكلٍ يلفت الأنظار ويثير الإعجاب، حتى يتخيل المشاهد أن هؤلاء المستعرضون يطيرون على المسرح متجاوزين لقوانين الجاذبية وممتلكين قوىً خارقة لحدود الطبيعة البشرية. لكن ما يظهر لنا ليس إلا جزءاً صغيراً من الحقيقة السوداء لهذه الرياضات القاسية (extreme sports) التي تفرض على لاعبيها نمطاً حياتياً كاملاً خاصاً بها، ابتداءً بأوقات النوم والاستيقاظ وانتهاءاً بقوانين الطعام والشراب. فما وراء كواليس رقصات الباليه من إصابات وآلام وأمراض نفسية واضطرابات طعام ونقص تغذية وتحرش جنسي يدوس على أبسط حقوق الإنسان، ناهيك عن كون هذه المنظومات منحيَّة للأديان عموماً عن أي مرجعية أو أولوية. وإن كان المقال يركز على الباليه، فإن معظم الكلام ينطبق على غيرها من الرياضات التي تسلِّع الجسد وتحول الإنسان إلى أداة متعة للجماهير المصفقة.

بالدراسات والإحصاءات
أشارت دراسة أجريت في البرازيل عام 2016 إلى أن حوالي 6 من كل 10 راقصي باليه يعاينون آلاماً بدنية مزمنة بسبب ساعات التدريب الطويلة والحركات المتطرفة التي يجبرون أجسادهم عليها.[3] ووجدت إحصاءات عام 2012 أن واحداً من كل ثلاث طلاب باليه يتعرضون لإصابة رياضية على الأقل في العام، ورغم ارتفاع النسبة إلا أن الباحثين أشاروا إلى أنها غير محصيةٍ للأرقام الحقيقية لأن كثيراً من اللاعبين يخفون إصاباتهم ويستمرون بالتدريبات رغم آلامها خوفاً على مستقبلهم المهني ومكانتهم في النوادي.[4]

وأشارت لجنة طب الرياضة واللياقة في الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال إلى أن البداية المبكرة لراقصي الباليه، الذين غالباً ما يبلغون الاحتراف في سن الـ15، تجعل الإصابات البدنية الكثيرة التي يتعرضون لها تصادف عمراً مهماً للنمو وتطور الجهاز العضلي الهيكلي مما يجعل هذه الإصابات خطرةً على التطور والنمو الصحي، وقد تنتج مشاكل طويلة الأمد وأمراضاً عضلية هيكلية مزمنة[5].  

ومن حيث الصحة النفسية، وجدت عدة دراساتٍ أن سمات اضطرابات الطعام شائعة جداً بين راقصي الباليه، ومن أهمها: عدم الرضا عن الجسد وهوس النحافة والرشاقة، والتحكم بالوزن، واستخدام الملينات المعوية والتقيؤ بعد الوجبات.[6] أما عدد إصابات الراقصين بفقدان الشهية العصبي (anorexia nervosa) المشخصة عيادياً فهو يجاوز ثلاثة إلى ستة أضعاف العدد في من سواهم.[7]

وفسر الباحثون هذه النتائج بكون الرياضة نفسها تصنع بيئة من تعظيم النحافة والرشاقة القصوى ولا تقبل أي خلل فيها،[8] إلى جانب كون المتدربين يمضون قرابة ثمانِ ساعات في اليوم أمام مرايا ضخمة تعظم صورة الجسد في نفوسهم.[9]

ولا شك أن اضطرابات الطعام هذه ذات آثار عضوية خطيرة، تتراوح بحسب شدتها بين نقص التغذية وفقر الدم واضطراب وظائف الكلى ونقص الشوارد وبطء القلب وغيرها الكثير.[10]

أما من الناحية الأخلاقية (بمفهومها العلماني)، فيشير البروفيسور روبن ليك من جامعة North Texas إلى أن هناك إشكالاً في طريقة تدريب الراقصين، الذين يدخلون المجال في سن صغيرة ويتعلمون أن عليهم قبول كل ما يقوله أو يفعله المدرب دون نقاش أو تساؤل. فتفاضلية القوى المتطرفة هذه تأخذ من الراقص كل قوة إرادة وتضعها في يد المشرف، متيحة المجال له ليقوم بالتصرفات غير المقبولة دون مساءلة أو مراجعة.[11] وخلال عام 2018 وبعد انطلاقة حركة MeToo في أمريكا فقد تم التبلغيغ عن ما يزيد على 11 حالة اعتداء جنسي على راقصات باليه سواء من مدربيهم أو زملائهم.[12]

لكنهم سعداء!
من الطبيعي تماماً أن تكون النفس المشغولة في حالة من الاستقرار الموهم بالسعادة، فهي تشعر أنها تملأ الناحية الغائية فيها، وتعيش لهدف مهم. ورغم أن هذا الانشغال يغطي الأسئلة الوجودية في النفس ويخدعها إلى أنها تحقق هدفها، إلا أنه يبقى مجرد مشتت سرعان مايزول، ولك أن تسأل ما حال هذه النفوس إن تعرضت لحادث أعاق حركتها، أو إصابةٍ منعتها من التمرين ولولفترة وجيزة، إلى أين ستهرب من ذاتها إذا رفض دينها المبتدع استقبالها؟

تتحدث الراقصة المتقاعدة ويندي والان عن التجربة الصعبة التي مرت بها حين أخبرها رئيس ناديها وهي في سن الخامسة والأربعين أن رشاقتها لم تعد بالمستوى المناسب للأداء. تقول إنها صُدِمت، وقضت أياماً كثيرة تبكي بلا توقف.

في لقاء مع إذاعة NPR الأمريكية، تصف ويندي حالة الفراغ التي شعرت بها لما أخذَت منها هويتها التي قضت عقوداً تبنيها، فهي لم تكن تعرف إلا هذا النادي وجدول التدريبات الذي يصلها منه، تأتيه في الصباح ثم تغادره في المساء.[13]  لم تستطع الفتاة التي باعت كل عمرها لمهنة وجمهور وأضواء أن تقبل أن هؤلاء كلهم يشيحون وجوههم عنها لأنه لم تعد قادرة على إمتاعهم كالشابات الصغيرات. لقد صارت ممنوعة من الأداء الذي قدمت لأجله أيامها وحياتها لمّا مر الزمان بها وتركها وحيدةً لم تستفق من الصدمة.

المال والمتعة
عجيبٌ فعلاً كيف تلاعب الغرب بالمصطلحات وحوّلوا حركات غير بشرية ورشاقة مرضية إلى صناعةٍ مادية مربحةٍ تستعبد النفوس وتبيعها مقابل أوهام شهرةٍ ونجومية فارغة، وكل ذلك تحت مسمى “الرياضة”.

رياضةٌ تحول الجسد الإنساني إلى سلعة رخيصة مهيأة لأن تفعل أي شيء يبهر الجمهور وينهضهم على أقدامهم بالتصفيق والتشجيع. رياضةٌ تجبر المشاركين على التعري وأرتداء الملابس غير المريحة أو المناسبة للحركات، فيغدو الراقص المسكين عبداً للاحترافية والشهرة ومفاهيم النجاح الفاسدة، ولا يزال يغرق في دوامة مبهمةٍ من حميات وتمارين وآلام.

ولنا أن نسأل هنا: كيف يمكن لممارسةٍ تحوي من الخطر البدني والنفسي ماذكرنا أن تكون مشجّعةً اجتماعياً؟ أليس حرياً بالمشاهد أن يتفكر بما يجري وراء الكواليس؟ كم سنةً أضاع هذا المستعرض من عمره ليقدم عرضاً لا يتجاوز الساعة؟ أين احترام هذه النفس البشرية؟

لقد ضاعت قيمتها وصارت مطلوبة للمتعة والمال لا أكثر، فعالم الرأسمالية المادية يريد تشغيل المسارح وجني الربح وتحريك الاقتصاد، ولتذهب حقوق الإنسان وكرامته التي أمضى المؤتمرات والمحاضرات الطوال يعلم الشعوب المتأخرة عنها حيث تذهب.

ولا حول ولا قوة إلا بالله.


الهوامش

[1] نيكولا فولكر، مدرّسة باليه في Twinkle Dance،هونغ كونغ، https://www.scmp.com/lifestyle/arts-culture/article/2166222/ballet-dancers-life-strength-training-strict-diet-ice-packs

[2]  شيا جون، راقص باليه محترف، هونغ كونغ، https://www.scmp.com/lifestyle/arts-culture/article/2166222/ballet-dancers-life-strength-training-strict-diet-ice-packs

[3] Thomas, J.J., Keel, P.K. & Heatherton, T.F. Disordered eating and injuries among adolescent ballet dancers. Eat Weight Disord 16, e216–e222 (2011). https://doi.org/10.1007/BF03325136

[4] Wanke, E. M., H. Mill, and D. A. Groneberg. “Ballet as high-performance activity: health risks exemplified by acute injuries in dance students.” Sportverletzung Sportschaden: Organ der Gesellschaft fur Orthopadisch-Traumatologische Sportmedizin 26, no. 3 2012: 164-170.

[5]  American Academy of Pediatrics Committee of Sports Medicine and Fitness, 2000، https://pediatrics.aappublications.org/content/106/1/154.short

[6] Becker, A.E., Grinspoon, S.K., Klibanski, A. and Herzog, D.B. 1999. Eating disorders. The New England Journal of Medicine, 340(14), 1092-1098.

Ringham,  R.,  Klump,  K.,  Stone,  D.,  Steven,  L.,  Stowe,  S.  and  Marcus,  M.  2006.  Eating  disorder  sympthomology  among  ballet  dancers. International Journal of Eating Disorders, 39, 503-508

NICE 2004. Eating disorders: Core interventions in the treatment and management of anorexia nervosa, bulimia nervosa and related eating disorders. The British Psychological Society, Leicester and The Royal College of Psychiatrics, London. Retrieved on November 29, 2008 from www.nice.org.uk

Thomas, J.J., Keel, P.K. & Heatherton, T.F. Disordered eating and injuries among adolescent ballet dancers. Eat Weight Disord 16, e216–e222 (2011). https://doi.org/10.1007/BF03325136

[7]  المصدر السابق

[8] Thomas, J.J., Keel, P.K. & Heatherton, T.F. Disordered eating and injuries among adolescent ballet dancers. Eat Weight Disord 16, e216–e222 (2011). https://doi.org/10.1007/BF03325136

[9] Benson, J., Gillien, D. M., Bourdet, K., & Loosli, A. R. (1985). Inadequate nutrition and chronic calorie restriction in adolescent ballerinas. The Physician and sportsmedicine13(10), 79-90.

[10] Palla, B., & Litt, I. F. (1988). Medical complications of eating disorders in adolescents. Pediatrics81(5), 613-623.

[11] Robin Lakes, university of north Texas, 2018

 https://www.dancemagazine.com/metoo-dance-2569127206.html

[12] Riley Griffin, Hannah Recht and Jeff Green October 5, 2018

 https://www.bloomberg.com/graphics/2018-me-too-anniversary/

[13]  Terry Gross, 2017, NPR, From Injury To Recovery, A Ballerina Fought To Retire On Her Own Terms  

الوجه الآخر لألعاب الفيديو

هناك تداخل كبير بين عالم التلفاز والسينما وعالم ألعاب الفيديو، حيث تبنى الكثير من ألعاب الفيديو على مسلسلات وأفلام كما في لعبتي (The Godfather) و(The Walking Dead)، وقد يحدث العكس كما في سلسلة (Assassin’s Creed) والتي تم تحويلها عام 2016 لفيلم سينمائي.

وهناك أيضا ألعاب وأفلام ذات أصل مشترك، كما في الألعاب والأفلام المبنية على شخصيات القصص المصورة، كشخصيات عالم (Marvel)، مثل (Spider-Man) و(Iron Man)، وشخصيات عالم (DC) مثل (Superman) و(Batman)، وكذلك روايات (Harry Potter) والتي بنيت عليها العديد من الأفلام وألعاب الفيديو.

وتقدر إيرادات ألعاب الفيديو لعام 2017 بأكثر من 115 مليار دولار، وفي الولايات المتحدة وحدها تجاوزت الإيرادات 23 مليار دولار، أي أكثر من ضعف إيرادات شباك التذاكر (Box Office) البالغة 11 مليار دولار تقريبًا.

والفئة المستهدفة في ألعاب الفيديو ليست الأطفال فحسب، حيث تتراوح أعمار 35% من اللاعبين حول العالم بين 21 و35 عامًا.

لذا فألعاب الفيديو تستحق تسليط الضوء، فأثرها قد يوازي –أو يفوق- الأفلام السينمائية في خطورته، لما فيها من تفاعل أكبر مع المحتوى. فعلى سبيل المثال، يمكن من خلال ألعاب مثل (Call of Duty) أو (Medal of Honor) -وغيرهما الكثير- عرض الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة من وجهة نظر أمريكية صرفة تزيف التاريخ، وتظهر الجنود الأمريكيين كحماة للسلام، والتطبيع مع هذه الأفكار في أذهان الأطفال منذ صغرهم.

ألعاب الفيديو والمؤسسات العسكرية
تم إنشاء أول حاسوب للأغراض العامة (ENIAC) عام 1946، وبعدها بعامين فقط ظهرت أولى ألعاب الفيديو الحربية وكانت من إنشاء مكتب أبحاث عمليات الجيش، ومنذ ذلك الحين والعلاقة بين ألعاب الفيديو والمؤسسة العسكرية آخذة بالتعمق.

ديف أنتوني (Dave Anthony) مصمم لعبة (Call of Duty) عام 2004، ضليع في وضع سيناريوهات لنهاية العالم مع تصورات شاملة للحروب، وهو حاصل على مرتبة الشرف في علوم الحاسوب، ويتضمن ذلك الذكاء الاصطناعي ومعالجة اللغات الطبيعية. يعمل الآن في المقر الرئيس للمجلس الأطلسي في واشنطن، وهو مؤسسة بحثية (Think tank) مؤثرة في مجال الشؤون الدولية، وذلك لمساعدة الولايات المتحدة للاستعداد للأسوأ. ويتمثل دوره في تحديد التهديدات غير التقليدية لأمريكا، من خلال تخيل مستقبل البلاد كما في ألعاب الفيديو، وتصور النهايات غير المتوقعة.

ويستخدم الجيش الأمريكي الألعاب لتدريب جنوده، ففي عام 1997 كانت لعبة (Doom) تستخدم لتدريب مشاة البحرية (Marines)، ويتدرب الجنود الآن باستخدام أنظمة الواقع المعزز التكتيكية. ويعزو العديد من النقاد قسوة الحرب الحديثة إلى كونها تشبه إلى حد كبير ألعاب الفيديو.

ومن هنا طرأ التساؤل: ماذا لو أصبحت الحروب تحاكي ألعاب الفيديو بدلا من العكس؟

أتت الفكرة من ويليام روبر (William Roper) مدير مكتب القدرات الاستراتيجية بوزارة الدفاع، منذ تأسيسه عام 2012، ومهمته دراسة أين تتجه الحرب، ومن ثم تطوير الأدوات التكنولوجية التي تساعد الولايات المتحدة على الانتصار.

وما يدلل على نجاح المكتب وتزايد أهميته هو زيادة موازنته 18 ضعفًا منذ تأسيسه قبل أقل من ست سنوات، فالخدمات العسكرية تفكر بواقع اليوم، ووكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية DARPA تفكر بالمستقبل البعيد، أما روبر فيفكر بالغد المباشر.

ويقول روبر إنه في عصر إنترنت الأشياء (Internet of Things -IoT) لم تعد حواسنا تحدد حدود تصورنا، حيث سيعيش الجنود في المستقبل القريب في عالم يتوفر فيه كمّ لا محدود من المعلومات لمساعدتهم، كخريطة لجميع الجنود القريبين وصور حرارية وخرائط متغيرة باستمرار وإشعار عند انخفاض مستوى الذخيرة، مع خوارزميات التعلم العميق لتوقع خطوة العدو القادمة واقتراح خيارات لمواجهته، وكذلك مشورة استراتيجية تبنى على أساس خطة أولية للمعركة وتعدل مع استمرار المعركة.

وإذا كان يمكن من الناحية النظرية للجيش الاكتفاء بإرسال الآلات بدلا من البشر، لكن ذلك سيؤدي –حسب روبر- لمشكلة أخلاقية تتمثل بتفويض قرار قتل شخص ما لآلة، وأخرى تقنية تتمثل في أن الآلات حاليًا يمكنها اتخاذ قرارات جيدة فيما يخص أشياء رأتها من قبل فقط.

لذا فالتحدي قريبًا سيكون في حصول الجنود على أكبر قدر ممكن من المعلومات، مع قدر مماثل من التعلم بأبسط وأوضح الطرق، وفعل ذلك بمفردهم في البنتاغون هو –برأي روبر- “أصعب تحدٍ” لكن صناعة ألعاب الفيديو قد حققت ذلك بالفعل. فصناعة الألعاب، هي التي وضعت أفضل الطرق للاعبين للتعاون عبر البلدان كما لو كانوا يجلسون في نفس الغرفة، كما بنت واجهات سهلة للمستخدمين، لدرجة أن الألعاب الجديدة المعقدة لا تحتاج حتى للتدريب.

وقد لا ترغب بعض شركات ألعاب الفيديو في المشاركة بأمور عسكرية حربية، لكن هذا –على حد تعبير روبر- هو “نداء الواجب الحقيقي”.

وتتمثل المشاركة بأن تبني شركات الألعاب للبنتاغون الأنظمة التي يريدها مع إعطائه وصولًا حصريًا لمدة معينة، ثم كل شيء يمكن أن يعود إلى اللعبة. فيقول روبر: “نحن لا نملك المنتج، نحن نملك الوقت”.

وهكذا سيحصل الجيش الأمريكي على أفضل ما توصلت إليه شركات الألعاب، ويستقطب الموظفين ذوي الخبرة، أو يعطيهم صورة أشمل لتوسيع نطاق عملهم وضمان اتساق عملهم مع الأهداف المرجو تحقيقها، دون حاجتهم إلى الاجتماع بأعضاء آخرين. ولترغيب الموظفين بالتعاون، قد يتم تمكينهم من مرافقة فرق العمليات الخاصة لمكاتب وزارة الدفاع.

نشر القيم المنحلة
تعد قنوات ألعاب الفيديو من أكثر القنوات متابعة على يوتيوب، فالقناة الشخصية الأكثر متابعة على الموقع هي قناة (PewDiePie) التي يتابعها أكثر من 59 مليون شخص، وهي للاعب ألعاب فيديو، وقد تجاوز مجموع المشاهدات في الثلاثين يومًا الماضية 300 مليون مشاهدة على هذه القناة وحدها، أي لو كانت مدة كل مشاهدة دقيقة واحدة فقط، فإن عدد ساعات المشاهدة يتجاوز 570 سنة، مع العلم بأن مدة الفيديوهات على القناة تتجاوز العشر دقائق، وتصل مدة بعض الفيديوهات إلى بضعة ساعات.

والكثير من الألعاب التي يتم عرضها (لعبها) في هذه القنوات تساهم بنشر القيم والأفكار المنحلة. ففي لعبة (Night in the Woods) مثلًا يجب على اللاعب في إحدى مهمات اللعبة حل خلاف بين اثنين من الشواذ، بتذكير كل واحد بمفاتن الآخر، والأمر لا يختلف كثيرًا في لعبة (South Park: The Fractured but Whole).

وفي الجزء الخامس من لعبة Lakeview Cabin يجب القيام بطقوس شيطانية تتضمن قيام اللاعب بالسفاح، وذلك أمام الكاميرا مباشرة، لكن الصورة لا تكون واضحة بسبب شكل اللعبة الكلاسيكي القديم، رغم أنها لعبة جديدة صدر آخر أجزائها مؤخرًا.

وأما شركة (Rockstar games) فمعروفة بسلسلة GTA التي يتخذ اللاعب فيها دور رجل عصابات، بكل ما في الأمر من انحطاط يتضمن القتل والسرقة والزنا والذهاب إلى الملاهي الليلية… إلخ. ومن ألعاب الشركة ذاتها لعبة (Bully scholarship edition) وهي مشابهة للسلسلة السابقة لكن داخل نطاق مدرسة، وفيها إمكانية إهداء الزهور والحلوى لطلاب المدرسة الذكور وتقبيلهم.

ويزداد الأمر سوءًا في ألعاب من نوع (Interactive Story Games)، ففيها يتخذ اللاعب بملء إرادته القرارات التي تحدد مصير القصة، ومن الأمثلة على هذا النوع لعبة Life is Strange: Before The Storm التي يأخذ اللاعب فيها دور فتاة تكسر القوانين، وتعطي اللعبة الخيارات التي تسمح للشخصية بالتلفظ بأبشع الألفاظ وتعاطي المخدرات عدا تخريب الممتلكات العامة. ويتقاطع طريق هذه الفتاة مع فتاة طيبة مجتهدة، وبالتدريج تبدأ اللعبة بوضع بذور الحب الشاذ بين الشخصيتين، من خلال مواقف وظروف مشتركة مرسومة بطريقة سينمائية مغرية ومدروسة، فيتدرج الأمر من إعطاء اللاعب الخيار بقول عبارات المديح الزائد إلى مداعبة خصلات الشعر وصولًا إلى تقبيل الفتاة بمشهد درامي في ليلة ثلجية.

وأخيرًا لعبة (Dream Daddy: A Dad Dating Simulator)، والتي يأخذ فيها اللاعب دور أب وحيد يأتي مع ابنته إلى حي جديد، والهدف من اللعبة هو “مواعدة” كافة الآباء في الحي.

وغني عن الذكر أن على أصحاب قنوات الألعاب اللعب بالطريقة الأكثر جذبًا للمتابعين والتي تضمن أعلى قدر من المشاهدات. وقد يتصرف اللاعبون بالكثير من التصرفات الشاذة من باب الفضول أو التجربة.

وتتفاقم المشكلة مع تطور الرسوميات وتسارع التقدم التقني في مجالي الواقع الافتراضي والواقع المعزز، فضلا عن استخدام مثل هذه التقنيات في الألعاب ذات المحتوى الإباحي.

لذا فإن ألعاب الفيديو شأنها شأن جميع أدوات الإعلام، يجب عدم الاستهانة بمحتواها، والتعامل معها بانتباه ووعي.


المصادر والمراجع:

http://independent.co.uk/life-style/gadgets-and-tech/features/call-of-duty-designer-dave-anthony-is-advising-america-on-the-threats-that-could-cause-the-end-of-a6703471.html

https://newzoo.com/insights/rankings/top-100-countries-by-game-revenues/

https://selectusa.gov/media-entertainment-industry-united-states

https://socialblade.com/youtube/user/pewdiepie

https://statista.com/statistics/722259/world-gamers-by-age-and-gender/

https://wired.com/story/will-roper-pentagon-video-games/

العدو الشرير (6)

دل النجاح اللافت للجنة كريل –المذكورة في المقال السابق- على فاعلية استخدام “العدو” في توجيه الرأي العام وكسب تأييد الجمهور، ومن هنا نشأ ما سمي بـ”الذعر الأحمر”، حيث كانت الشيوعية هي العدو هذه المرة.

وشهد عام 1954 أحد أشهر استخدامات “الذعر الأحمر”، حيث كانت شركة “الفواكه المتحدة” أحد أبرز عملاء إدوارد بيرنيز، إذ كانت تمتلك مزارع موز شاسعة في غواتيمالا وأمريكا الوسطى.

إعلان لشركة الفواكه المتحدة يعود إلى عام 1916

وعلى مدى عقود، كانت الشركة تسيطر على غواتيمالا من خلال الدكتاتوريين الموالين لأمريكا، ولكن في عام 1950 تم انتخاب العقيد الشاب جاكوبو أربينز رئيسًا، والذي وعد بإزالة سيطرة شركة الفواكه عن البلاد، وفي عام 1953 أعلن أن الحكومة ستتولي أمر معظم أراضي الشركة. وكانت هذه كارثة للشركة، فلجأت إلى بيرنيز.

ومع أنّ الرئيس المنتخب وحكومته لم تربطهما أي علاقة بموسكو، إلا أن بيرنيز استغل اندلاع الحرب الباردة وقلق الشعب مما قد تفعله الشيوعية؛ وعمل على تغيير مظهر حكومة غواتيمالا -إعلاميًا- من حكومة منتخبة شعبيًا تعمل لصالح البلاد، إلى ذلك الكيان الشيوعي القريب جدًا من الشاطئ الأمريكي، والمهدِّد للقيم الأمريكية.

تضمنت خطة بيرنيز دعوة صحفيين أمريكيين مؤثرين للقيام بجولة في غواتيمالا، فقلة منهم فقط كانوا يعرفون شيئا عن البلاد وسياساتها، حيث رتب لهم بيرنيز لقاءات مع سياسيين غواتيماليين مختارين ليخبروهم أن أربنز كان شيوعيا تتحكم به موسكو. كما كانت هناك خلال الرحلة مظاهرات عنيفة ضد الولايات المتحدة في العاصمة، ويرجح موظفو شركة الفواكه المتحدة أن بيرنيز هو من عمل على تنظيم المظاهرات.

أربينز

أنشأ بيرنيز أيضا وكالة إخبارية وهمية في أمريكا تدعى “مكتب معلومات أمريكا الوسطى”، وأمطرت هذه الوكالة وسائل الإعلام الامريكية بوابل من نشرات صحفية تدعي أن موسكو تعتزم استخدام غواتيمالا كشاطئ لشن هجوم على الولايات المتحدة.

وفي الوقت ذاته، أقر الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور بأنه يتعين على الولايات المتحدة الإطاحة -سرًا- بحكومة غواتيمالا. فصدرت التعليمات إلى وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) لتنظيم انقلاب.

وبالتعاون مع شركة الفواكه المتحدة، قامت وكالة الاستخبارات المركزية بتدريب وتسليح مليشيات متمردة، وعثرت على زعيم جديد للبلاد هو العقيد كارلوس كاستيلو أرماس.

وفي الوقت الذي كان فيه الطيّارون التابعون لوكالة الاستخبارات المركزية يلقون القنابل على عاصمة غواتيمالا، قام بيرنيز بحملته الدعائية في الصحافة الأمريكية ليعيد تشكيل الواقع، ويعيد توجيه الرأي العام لرؤية ما يحدث على أنه ثورة يقودها “مقاتلو الحرية” لتحرير غواتيمالا.

من نتائج الحرب في غواتيمالا

وفي عام 1954 فرّ العقيد أربينز من البلاد ووصل الزعيم الجديد أرماس، وفي غضون أشهر زار ريتشارد نيكسون غواتيمالا، وكان حينها نائب رئيس الولايات المتحدة. وأُقيم هذا الحدث تحت إشراف دائرة العلاقات العامة لشركة الفواكه المتحدة، والتي ظهرت -بعد كل هذا- على أنّها مجرد شركة تجارية.

عُرضت على نيكسون أكوام من كتب الأدب الماركسي، وقيل إنهم عثروا عليها في القصر الرئاسي. ثم قدم أرماس ونيكسون خطابهما الجماهيري وخلفهما تلك الأكوام من الكتب؛ وقدما بذلك مثالًا صارخًا على الكلمات الجوفاء التي تملأ الخطاب السياسي لكسب تأييد الجمهور، والتي تم التطرق لها في المقال السابق.

مما قاله نيكسون في خطابه: “هذه هي المرة الأولى في تاريخ العالم التي تتم فيها الإطاحة بالحكومة الشيوعية من قبل الشعب. ولهذا نهنئكم وشعب غواتيمالا على الدعم الذي قدمتموه. ونحن على ثقة بأنّه تحت قيادتكم المدعومة من الشعب -الذي التقيت بالمئات منه في زيارتي- ستدخل غواتيمالا حقبة جديدة يكون فيها الرخاء للشعب والحرية للشعب”.

ما بعد “الذعر الأحمر”

ريغان

بعد أن تراجع التهديد الشيوعي تحتم إيجاد عدو جديد، حيث أوجد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في الثمانينات العدو المناسب، والذي كان “الإرهاب”، فبدأ ريغان “الحرب على الإرهاب” والتي ما زالت مستمرة حتى الآن.

كانت الحرب على الإرهاب هي الحجة الإعلامية الأولى لجميع الفظائع والمجازر التي اقترفتها الولايات المتحدة منذ ثمانينات القرن الماضي حتى الآن، وتبعتها في ذلك كثير من الدول العربية والإسلامية.

وبحجة مواجهة هذا “العدو الشرير”، تم تبرير انتهاكات فظيعة كالتعذيب والاختفاء القسري وسفك الدماء وارتكاب المجازر؛ فضلا عن تردي الوضع الاقتصادي والتعليمي والصحي، فعلى الشعب أن يضحي في سبيل القضاء على “العدو الشرير”.

وقد يأخذ “العدو الشرير” أشكالًا عدة؛ فالإرهاب هو عدو عالمي، لكن هذا لا يمنع وجود “الأعداء” على المستوى الإقليمي، كـ”العدو المجوسي” في الشرق الأوسط (إيران)، و”العدو المجنون صاحب السلاح النووي” في شرق آسيا (كوريا الشمالية).

وبذلك يتم ضمان السيطرة الدائمة على الجماهير، بما يحقق مصالح المنظومة السياسية والاقتصادية، ويبرر الإنفاق الهائل على التسلح، والذي بدوره يضاعف مبيعات الشركات المصنعة للأسلحة.

ختامًا … من هو العدو الشرير حقًا؟
إن هذه السلسلة هي محاولة لإزالة الغشاوة عن عيون اللاهثين وراء غرائزهم ومصالحهم ونزواتهم، من لا يحتكمون لوحيٍ أو دين، فباتوا كالقطيع الضال. هي محاولة لتوضيح من هو “العدو الشرير” حقًا، وهم أولئك الذين لا يُمانعون بأن يتسببوا باندلاع الحروب وإبادة الشعوب في سبيل تحقيق مصالحهم. والذين يملكون الآلة الإعلامية الديمقراطية، ويصنِّعون الأسلحة الدموية الاستبدادية.

هم أولئك الذين يعاملوننا على أننا “قطيع ضال” تجب السيطرة عليه، هم المتوارون في الظلال ويعيثون في الأرض فسادًا. هم شياطين الإنس التي تسعى لأن تُفقَد البوصلة، ويضيع السبيل.


أهم المصادر والمراجع
السيطرة على الإعلام، نعوم تشومسكي، ترجمة أميمة عبد اللطيف، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط2، 2005.

The Century of the Self, Adam Curtis, BBC, 2002.

وهم الديمقراطية (5)

تحدثنا في المقال الأول من هذه السلسلة عن إدوارد بيرنيز الذي لعب دورا محوريا في السيطرة على الجماهير والتلاعب بهم لأسباب اقتصادية، إلا أنّ التجربة الأولى لبيرنيز مع الجماهير هي تجربة سياسية.

أعضاء لجنة كريل عند تأسيسها عام 1916

فقد كان بيرنيز أحد أعضاء لجنة “كريل” للدعاية السياسية، والتي أنشأتها إدارة الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون” لإقناع المواطنين بضرورة دخول الحرب العالمية الأولى، فالمواطنون كانوا مسالمين للغاية، ولا يرون سببًا للتورط في حرب أوروبية طاحنة؛ وكان ذلك يتعارض مع مصالح الإدارة الأمريكية.

لذا وفي غضون ستة شهور نجح بيرنيز وزملاؤه في لجنة كريل بتحويل المواطنين المسالمين، إلى أشخاص متعطشين للحرب وتدمير كل ما هو ألماني، لإنقاذ العالم.

كانت تجربة بيرنيز مع لجنة كريل هي ما دعته لقراءة كتب خاله سيغموند فرويد، حتى يبدأ بالتلاعب بالجماهير بما يخدم مصالح الإمبراطوريات الاقتصادية والنُخب السياسية.

كان فرويد يرى الإنسان حيوانًا خطِرًا شرسًا يصعب ترويضه، خصوصًا بعد ما شهده من دموية الحرب العالمية الأولى. وقد أيقن بضرورة التحكم بالجماهير بعد رؤيته لتطبيق نظريات بيرنيز وكيف يمكن أن تؤثر النزعات الدفينة في اللاشعور على تصرفات الناس.

ولأن بيرنيز روج لكتابات خاله في المجتمع الأمريكي، فقد أصبح لآراء فرويد وقع خاص على المجتمع، ما دعا والتر ليبمان عميد الصحفيين الأمريكيين، وأكثر الكُتّاب السياسيين تأثيرًا آنذاك، إلى القول بضرورة إعادة التفكير بالديمقراطية.

ومن الأفكار التي جاء بها ليبمان ما عُرف بـ”تصنيع الإجماع”، بمعنى استخدام الأساليب الدعائية لحمل الجمهور على الموافقة على أشياء لم يكونوا يتقبلونها، والتحكم بنتائج التصويت وعدم تركها للميول التلقائية للجمهور. وذلك من خلال إبقاء الأكثرية مجرد جماهير متلقية للمادة الإعلامية دون المشاركة فيها.

في ثلاثينيات القرن الماضي، سارت “الديمقراطية” على غير ما هو مرسوم لها، وحققت الحركات العمالية أول وآخر انتصار تشريعي لها، فقد تم سن ما سمي بقانون واجنر، والذي سمح للعمال بتشكيل النقابات والمطالبة بحقوقهم. وجاء رد أقطاب الاقتصاد والإعلام عندما حاول بعض عمال الحديد القيام بإضراب عام، فتم تصويرهم إعلاميًا على أنهم مخربون يضرون بـ”المصلحة العامة” وبـ”تناغم المجتمع الأمريكي”، وينقضون “الهوية الأمريكية”.

وقد حقق هذا الأسلوب نجاحًا باهرًا، فتكرر استخدامه فيما سمي “صيغة وادي موهوك”.وهذه العبارات الفارغة (كالهوية الأمريكية) تستخدم كثيرًا لأغراض سياسية، فتُستخدم في منطقتنا العربية العديد من العبارات الشبيهة، مثل “لأجل الوطن”، عدا عن أسطوانات مشروخة تخص كل دولة على حدة، وعادة ما يتم تعزيز هذه الكلمات بصورة تلك الخرقة التي تكرس الحدود التي رسمها المستعمر، مع بعض الموسيقا المؤثرة.

شبّه ليبمان الناس بالقطيع الجائر الذي يجب التحكم فيه من خلال النخبة التي بإمكانها فهم وإدراك ماهية المصالح العامة للمجتمع، ومن ثم تقرير الأمور التي من شأنها أن تهم المجتمع.

وبالتالي حسب تصور ليبمان، فإن المجتمع الديمقراطي يتكون من طبقتين: الأولى هي الطبقة المتخصصة، وهي التي تفكر وتخطط وتحدد المصالح العامة. والثانية هي القطيع الجائر، ووظيفته المشاهدة فحسب، كما ويمكن لهذا القطيع من وقت لآخر من أن يؤيد أحد أفراد الطبقة المتخصصة، وهذا ما يُطلق عليه “انتخابات” بشرط أن يعودوا بعد ذلك لوظيفتهم الأساسية، مشاهدون فقط.

بطبيعة الحال فإنّ هناك طبقة أخرى لا تظهر للعلن، هي التي تحدد الطبقة المتخصصة، وهذه الطبقة هي التي وصفها الفيلسوف والناقد والناشط السياسي الأمريكي نعوم تشومسكي بـ”الأفراد الذين يملكون القوة الحقيقية، ويملكون المجتمع”.

يتسم نظام الانتخابات الرئاسية الأمريكية بالتعقيد، فهي انتخابات غير مباشرة تقوم على ما يُسمى بـ”المندوبين” و”المجمع الانتخابي”، حيث يصوت الشعب لمندوبين يتعهدون بالتصويت لمرشح معين. وتُجرى أولًا الانتخابات الأولية لتحديد مرُشح كل حزب، ومن ثم تجري الانتخابات الرئاسية العامة بين مرشحي الأحزاب المتنافسة (بشكل أساسي الحزب الجمهوري، والحزب الديمقراطي). وحيث أنه لا مجال للخوض في تفاصيل الانتخابات الأمريكية وقوانينها، يكفي لفت النظر لبعض النقاط:

– في بعض الولايات يمكن لمنتسبي حزب معين المشاركة بانتخابات تحديد المرشح للحزب المنافس فيما يُسمى بـ”الانتخابات الأولية المفتوحة” (open primary).

– في الانتخابات الأولية هناك مندوبون (Unbound Delegates/ superdelegates) غير مُلزَمين بإخبار الجمهور بهوية المرشح الذين سيصوتون له.

– في الانتخابات الرئاسية العامة، في كل الولايات باستثناء ولايتي “مين” و”نبراسكا”، من يفوز بولاية ما يأخذ أصوات جميع المندوبين فيها، والحصول على أصوات أكبر عدد المندوبين هو من يحدد هوية الرئيس الأمريكي الجديد. لذا يمكن بالمحصلة أن يكون الفائز بالانتخابات ليس هو من حصل على أكبر عدد من الأصوات، وقد حصل هذا خمس مرات على مدى التاريخ الأمريكي القصير، كان آخرها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز بها “دونالد ترمب” رغم حصول منافسته “هيلاري كلنتون” على عدد أصوات أكبر.

أي أنه في النظام الديمقراطي السليم، يجب على “الجمهور الديمقراطي” أن يسير وراء ممثليه الذين يعرفون المصالح العامة للمجتمع، حيث ينتخب الجمهور ما أفرزته النخبة من أفراد يُعفون الجمهور من الاهتمام بالأمور السياسية التي يصعب عليه فهم مصطلحاتها. فعلى الجمهور أن يبقى مُنشغلًا بأحدث صرعات الموضة، وبالمباريات الرياضية، وأحدث الأجهزة الالكترونية. والانتخابات الأمريكية هي بالفعل خير مثالٍ لذلك.

وحيث بينّا في هذا المقال كيف يُنظر إلى الانتخابات وإلى “الديمقراطية”، وكيف يتم توجيه الرأي العام منذ قرن من الزمان؛ فسنبيّن في المقال القادم -والأخير في هذه السلسلة- كيف تُستخدم نفس الاستراتيجية التي اتُبعت في لجنة كريل حتى يومنا هذا، بغرض توجيه الرأي العام والتحكم بالجماهير في “المجتمع الديمقراطي”.

 


أهم المصادر والمراجع

السيطرة على الإعلام، نعوم تشومسكي، ترجمة أميمة عبد اللطيف، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط2، 2005.

صناعة الواقع، محمد علي، مركز تفكر للبحوث والدراسات، القاهرة، 2014.

The Century of the Self, Adam Curtis, BBC, 2002.

The Electoral College: How It Works in Contemporary Presidential Elections, Thomas H. Neale, Congressional Research Service, 2017.

The Presidential Nominating Process and the National Party Conventions, 201 6: Frequently Asked Questions, Kevin J. Coleman, Congressional Research Service, 2015.

Five presidential nominees who won popular vote but lost the election, Rachael Revesz, The Independent, 2016.

http://www.ncsl.org/research/elections-and-campaigns/primary-types.aspx

استمرار السيطرة (4)

بعد طغيان القيم الفردية التحررية، وُجد شكل جديد للجمهور لم يعد فيه المستهلك يتصرف كما هو متوقع منه. فقد استعانت الشركات بمحللي النفس وخبراء السوق، وتبين أن أصحاب هذه القيم هم مستهلكون أيضًا، لكنهم يبحثون عن منتجات تعبر عن تفردهم، وتحررهم. وهذا تطلب تغييرًا جذريًا في نمط الإنتاج، والتحوّل من الإنتاج الضخم للسلع المتماثلة إلى التنوع في المنتجات، وتقسيم السوق وتقييم المستهلكين على أساس فردي.

لذا لجأت الشركات في نهاية سبعينيات القرن العشرين إلى أحد أفضل مراكز الأبحاث عالميًا؛ مركز ستانفورد للأبحاث (Stanford Research Institute- SRI)، والذي عاد إلى دراسات أبراهام ماسلو –أحد رواد حركة الإمكانات البشرية (HPM)– لإيجاد أداة دقيقة لقياس رغبات المستهلكين الجدد ومن ثم تلبيتها.

وكان ماسلو قد ابتكر نظاما للتصنيف النفسي أطلق عليه “التسلسل الهرمي للاحتياجات”، والذي يعد نقطة البداية لتصنيف جديد للمجتمع بناءً على رغبات الأفراد ودوافعهم، لا طبقاتهم. وبالتالي أمكن لمعهد ستانفورد تعريف الناس من خلال أنماط السلوك المختلفة التي اختاروا من خلالها التعبير عن أنفسهم، فالتعبير عن الذات يقبع ضمن أنواع محددة.

ومن هنا ابتكر فريق معهد ستانفورد مصطلح “أنماط الحياة” (lifestyles)، فتم تصنيف الفردية الجديدة، وأطلقوا على نظامهم هذا اسم: “القيم وأنماط الحياة” (Values and Lifestyles- VALs).

أتاح هذا للشركات معرفة فئات المستهلكين الواجب استهدافها، وبالتالي تحديد الطريقة التي يمكن بها تسويق السلع إليهم، وذلك بتحديد الدوافع والقيم الحقيقية الكامنة وراء قرارات الشراء التي يتخذونها. وكانت هذه بداية التسويق القائم على نمط الحياة (lifestyle marketing).

 

تعود قوة نظام “القيم وأنماط الحياة” إلى قدرته على التنبؤ بالمنتجات الجديدة التي سيختارها المستهلكون. فإذا عبّر منتج جديد عن قيم مجموعة معينة فإنّها ستشتريه، وتم تطبيق هذه المبادئ على المنتجات والمرشحين السياسيين معاً، وبدأ هذا بالرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون في حملته للانتخابات الرئاسية عام 1996، حيث بنى حملته الانتخابية على أسس تسويقية، ما ساعده على الفوز بالانتخابات. 


وهكذا فإن الجيل الذي أراد إنشاء هويته الخاصة وكان يندد بالنزعة الاستهلاكية، اعتنقها بعد أن ساعدته في التعبير عن ذاته، فأمكنه شراء الهوية بدل إنشائها.

ومن هنا قامت الشركات بتعزيز شعور الأفراد بالتميز والاختلاف، بحيث تقدم لهم خيارات لا تحصى للطرق التي يمكنهم من خلالها أن يعبروا عن تفردهم، وما زال هذا الأسلوب مُلاحظًا في الكثير من شعارات الشركات وإعلاناتها التي تعمل على تكريس النزعة الفردية، مثل إعلان لشركة بيبسي يتضمن شعارات من قبيل “عبّر مين قدك؟”، “أنت الفكرة، أنت الجديد، أنت الوحيد”.

الرأسمالية والتفاوت الطبقي
استمر النظام الرأسمالي بالتلاعب بالجماهير عبر التعظيم من شأن الاستهلاك وتكريس النزعة الاستهلاكية، وبما يضمن زيادة تدفق الأرباح.

وهذا يُعطي لمحة عن سبب التفاوت الطبقي الهائل الذي سبّبه النظام الرأسمالي، مستخدمًا الصورة الإعلامية المبنية على أسس نفسية. ففي مطلع عام 2017، أصدرت منظمة “أوكسفام” تقريرًا مفاده أن ما يملكه النصف الأفقر من سكان العالم مجتمعين، يعادل ما يملكه أغنى ثمانية أفراد لوحدهم، وأن عدد هؤلاء الأفراد في تناقص مستمر، فقد كان 43 فردًا عام 2010.

وقد وجد أخصائي الأوبئة الاجتماعية ريتشارد ويلكينسون أن ما تشترك به المجتمعات الأكثر صحة ليس في كونها أعلى دخلًا أو أفضل تعليمًا، بل في ما تتمتع به من المساواة في التوزيع والتفاوت الطبقي الأقل.

كما فصَّل ويلكينسون الآثار الخبيثة للتفاوت الطبقي على المجتمعات من تآكل الثقة وزيادة القلق والمرض، فهناك فروق ضخمة بين المجتمعات ذات التفاوت الطبقي ونقيضاتها، لا سيما في نتائج الإحصاءات المتعلقة بكل من متوسط العمر المتوقع، والمرض العقلي، ومعدلات الولادة في سن المراهقة، والعنف، وتعاطي المخدرات، ونسبة السكان القابعين في السجون. وكلها أسوأ بكثير في البلدان الأكثر تفاوتًا طبقيًا؛ ففيها ثمانية أضعاف عدد الولادات في سن المراهقة، وعشرة أضعاف معدل جرائم القتل، وثلاثة أضعاف معدل المرض العقلي.

وفيما يتعلق بالاستهلاك، فإنّ ويلكينسون يُرجع سبب النزعة الاستهلاكية المستشرية، ليس إلى الاهتمام بالذات، بل إلى التفاوت بين طبقات المجتمع، والهوة بين الأغنياء والفقراء؛ فالإنسان مخلوق اجتماعي بطبعه، ولديه قلقٌ دائم حيال كيفية نظر الناس إليه، فيشتري السلع الأثمن وذات العلامات التجارية الاشهر، ليُنظر إليه على أنّه من “طبقة أفضل”، حتى إن أدى ذلك إلى قلة الادخار أو حتى زيادة الديون. وهذه من الأشياء المشاهدة بكثرة، والتي عززها بيرنيز كما بينّا في المقال الأول من هذه السلسلة. وسواء كان الاستهلاك بغرض التحرر أو التعبير عن الذات أو الانتماء لطبقة أفضل، فبكل الأحوال تبقى الامبراطوريات الاقتصادية هي المستفيد الأول.

النظام السياسي والرأسمالية والمجتمع
تبنّت كل من إدارة رونالد ريغان الأميركية وحكومة مارغريت تاتشر البريطانية في ثمانينيات القرن الماضي للفكر النيوليبرالي، الذي يجعل الرضا الشخصي للفرد وسعادته ورفاهيته هي المعيار؛ ما أدى إلى تراجع دور الدولة وأفسح المجال لرجال الأعمال للسيطرة على الاقتصاد من جديد، فتضخمت الشركات العابرة للقارات وتغوّلت ظاهرة العولمة.

وكان من أسوأ ما فعله ريغان بالمجتمع الأمريكي أنّه برر انعدام الرحمة، وجعله أمرًا محمودًا. فكان يقول إن من عمل بجد وجمع أمواله يجب ألا يشعر بالذنب إزاء رفض رميها بعيدًا للناس الذين يختارون عدم العمل وأن يكونوا بلا مأوى. وهذه أسوء صور الفكر الليبرالي الذي ما زال مهيمنًا على المجتمع الغربي عمومًا، والأمريكي خصوصًا.

وإن ظهر النظر لكل الأمور –حتى الأخلاقي منها- بعين الرضا الذاتي، كانتصار للذات. فإنّه في الواقع إلغاء للمجتمع، فبهذا المنطق لا يعدو المجتمع كونه مجموعة من الأفراد يتخذون خيارات فردية بشأن رفاهيتهم الشخصية!

ويُلاحظ انتشار هذا المنطق بين الشباب مؤخرًا، فبات “الاختلاف” و”التفرد” هدفًا لا سبيل لتحقيقه إلا بالتمرد على كافة الضوابط والقيم والأعراف والسلطات، من سلطة الأسرة أو الدين، وذلك كله بحجة “التعبير عن الذات” و”الحرية الشخصية”.

ومع انتشار هذه الثقافة، وبوجود وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح لأي شخص بأن ينشر فضلاته الفكرية، فلا عجب بأن يُغيّب الدين وتنحّى الأخلاق، وأن تعلو الأصوات المدافعة عن أشياء كالشذوذ الجنسي أو الإلحاد.

وحيث أن كل هذا التلاعب بالجماهير يتم تحت حكم نظام “ديمقراطي”، ولأن الأساليب المتبعة لإقناع أكبر كم من الناس بأن يضعوا اسم مرشح في صندوق بغض النظر عن أهليته، لا تختلف كثيرًا عن إقناعهم بشراء سلعة ما بغض النظر عن مدى فائدتها أو حاجتهم إليها. وقد أثبت بيل كلنتون ذلك فعليًا؛ لذا فإن المقال القادم سيسلط الضوء أكثر على النظام الديمقراطي، وكيفية توجيه الرأي العام بما يخدم أقطاب السياسة والاقتصاد، في النظام المسمى بالديمقراطي.


أهم المصادر والمراجع:

صناعة الواقع، محمد علي، مركز تفكر للبحوث والدراسات، 2014.

The Century of the Self, Adam Curtis, BBC, 2002.

Why Everyone Suffers in Unequal Societies, Richard Wilkinson, YES! Magazine, 2010.

VALs Definition by SRI

هل تنفجر فقاعة الدولار بيد ترامب؟

يلعب الرئيس الأميركي ترامب لعبة خطيرة وغير مسبوقة بتهديده دول العالم بالحرمان من المساعدات الأميركية إن هي صوتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح مشروع قرار يبطل قراره اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني.

ترامب يخرق قاعدة غير مكتوبة تقول إن العالم يقبل بالدولار عملة دولية وبالترتيبات الاقتصادية والمالية لاتفاقية (بريتون وودز) الموقعة في أميركا سنة 1944، وبما فيها من تحكم للولايات المتحدة في قواعد الاقتصاد الدولي مقابل السخاء الأميركي بالمساعدات وأن لا تحاول أميركا الانفراد بكل الغنائم وحدها.

معظم الوفود التي شاركت في مناقشات الاتفاقية المؤسسة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وقعت نصا ينحاز لمصالح أميركا بسبب حاجة الدول لقروض أميركية بعد ما مسها من دمار الحرب العالمية الثانية.

وتم تحديد مقرّي المنظمتين الماليتين الأهم في العالم معا في واشنطن، وكانت الخطة تقتضي أن يرأسهما معا أميركيان لولا ما وقع للرئيس هاري ترومان من حرج حين أخبرته الإف بي آي بأن المرشح الذي أرسل ملفه لمجلس الشيوخ لرئاسة صندوق النقد الدولي (هنري ديكستر وايت) جاسوس للسوفيات، وأنه لا يمكن بأي حال أن يحصل على الموافقة الأمنية المطلوبة للمنصب السامي.

للتخلص من الورطة، اتصل ترومان بالأوربيين وأخبرهم أن التوازن يقتضي أن يكون منصب رئاسة إحدى المؤسستين لهم وأنه يقترح عليهم صندوق النقد الدولي. وهي القاعدة الماضية حتى الآن إذا لم يراجعها ترامب.

صدمة نيكسون
في (بريتون وودز) وافقت الدول الأربعة والأربعون المشاركة على أن يتم ربط العملات جميعا بالدولار وربط الدولار بالذهب على أساس أن تكون كل أوقية ذهب معادلة لخمسة وثلاثين دولارا. لم تلتزم الولايات المتحدة بإصدار الدولار في حدود ما تتوفر عليه من مخزون من الذهب، وزاد طلب تحويل الدولار من دول أوربا إلى ذهب، مما دفع الرئيس نيكسون إلى إلقاء خطاب (صدمة نيكسون) سنة 1971 وإعلان تعليق ربط الدولار بالذهب بشكل مؤقت. وهو قرار ما يزال ساريا حتى اليوم بعد 46 سنة من صدوره.

لم يضر قرار نيكسون كثيرا بقبول الدولار في العالم. فقد ظلت دول العالم مؤمنة به. بل تحول إلى وسيلة احتياط أساسية في بنوك العالم المركزية إلى جانب الذهب وكبديل عنه.

وبالتدريج تزايدت كمية الدولار الذي يعود من بلدان العالم للولايات المتحدة لشراء سندات الخزينة، وأصبح من اليسير تمويل عجز الميزانية الأميركية المزمن عن طريق بيع السندات لعالم متعطش لكسبها باعتبارها ملاذا آمنا للقيمة.

وجاء الرئيس دونالد ريغان سنة 1981 بزيادة الانفاق والدين العام والاستخفاف بعجز الميزانية وسيلة لربح الحرب الباردة، وخلال عهده وحده تمت زيادة سقف الديون من طرف الكونغرس 18 مرة.

تسلم ريغان الحكم والدين العام أقل من ترليون دولار، ومع ذلك كان النواب والشيوخ والاقتصاديون يتحدثون عن خطورة ذلك المبلغ وعن “أميركا المنهارة بسبب الديون” ويفيضون في خطبهم في الحديث عن أثر الدين العام على الثقة في الدولار وقيمته وعلى التزام الأجيال القادمة بأداء ما استهلكته أجيال سابقة، وانتهى حكم ريغان وقد تضاعفت الديون 3 مرات ووصلت 2.7 ترليون دولار تقريبا.

ظل أعضاء الكونغرس يرددون نفس الخطاب. فيما استمروا في التصويت على ميزانيات مؤقتة وعامة تسمح بالإنفاق فوق ما توفره المداخيل لتمويل صناديق التقاعد والضمان الصحي والاجتماعي وحروب أميركا الكثيرة.

“الريغانوميكس” أو اقتصاديات ريغان المبنية على التوسع في الإنفاق الحكومي لتحريك الاقتصاد وتنشيط النمو فرضت نفسها، فهي قضت على الاتحاد السوفياتي من خلال برامج تسلح لم يتمكن الشيوعيون من مواكبتها لكثرة ما تتطلبه من نفقات ومن خلال برامج المساعدات الأجنبية السخية التي كانت توزع على الدول بالشمال ما أخذته منها باليمين، من خلال التحكم في النظام المالي والاقتصادي، ومن خلال شراء كل أنواع السلع والخدمات بدولار لا يكلف الولايات المتحدة شيئا.

واليوم تجاوز الدين الأميركي العام 20.6 تريليون دولار، أي أكثر من ديون سنة 1981 بعشرين مرة. وتعتمد الولايات المتحدة على تمويل كل العالم لنفقاتها الباهظة أكثر من أي وقت مضى، ويعتبر تدفق الدولار من الخارج لشراء السندات الأميركية شرطا أساسيا لتمكن الخزينة من دفع نفقات لا تكف عن التزايد.

انفجار الفقاعة
يتجاهل ترامب كل ما سبق ويتحدث عن المساعدات الأميركية للخارج باعتبارها عبئا غير مقبول. ويقول إن نفقات الجيش الأميركي في قواعده عبر العالم يجب أن تسترد من الدول التي تستفيد من حماية أميركا لها.

وهو في هذا يعد نفسه أذكى من كل من سبقه من الرؤساء، وأنه اكتشف فجأة مدى سفه الرؤساء السابقين الذين وزعوا المساعدات الأميركية ونشروا الجيش الأميركي بلا مقابل!

في الوقت نفسه عمد ترامب إلى تخفيض الضرائب وزيادة الإنفاق العام مما يعني المزيد من حاجة أميركا للديون الخارجية ومزيد من إيمان العالم بالدولار إيمانا يصل درجة اليقين. فالديون القديمة تسدد بديون جديدة والترليونات تتراكم بلا توقف!

وبالعودة لتهديدات ترامب بمعاقبة من يصوت في الأمم المتحدة لصالح إدانة قراره اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، نجد أنفسنا أمام أول حالة لرئيس أميركي يهدد بعقوبات اقتصادية قد تشمل عشرات من دول العالم. بينما كان العقوبات الاقتصادية الأميركية دائما وسيلة ردع وتخويف يتم من خلالها استهداف دولة لتخاف الدول الأخرى وتدخل بيت الطاعة.

كان في سلوك الرؤساء الأميركيين السابقين شيء من المنطق الناتج عن استماعهم لأعضاء دواوينهم ولمستشاريهم وفهمهم حقيقة التوازنات الاقتصادية “المؤقتة” لما بعد الحرب العالمية الثانية، ويبدو أن طبيعة ترامب وثقته بأنه يفهم أفضل من الجميع، وبأن أميركا يمكن أن تدار كما يدير شركاته من خلال القروض والصفقات المتعسفة على الآخرين.

إنه عهد رئاسة رجل يحب أن يلقب بـ “ملك الديون”، فهل يكون هو الرئيس الذي تنفجر في عهده فقاعة الدين الأميركي وما يرتبط به من اقتصاد عالمي قائم على العجز المالي والتمادي في الاقتراض بغير نهاية؟

نشوء النزعة الاستهلاكية (1)

هادي صلاحات

بعد نجاح الثورة الفرنسية، ظهر تأثير الجماهير جليًا، مما دعا علماء النفس لدراستها؛ وكان من أهم من جعل الجماهير موضوعًا لدراساته هو عالم النفس غوستاف لوبون، من خلال كتابه “سيكولوجية الجماهير”.

وقد نظر لوبون إلى الجمهور بأنهم قطيع لا يستطيع أن يستغني عن سيد، فالجماهير لا تستطيع أن تقود نفسها بل تنقاد خلف من يقودها، سواء كان هذا القائد إنسانًا، أم وسيلة إعلام توفر للجماهير عبارات جاهزة تعفيهم من التفكير.

وأحد أهم من شاطر لوبون نظرته للجماهير، هو عالم النفس مؤسس المدرسة التحليلية في علم النفس سيغموند فرويد، والذي استكمل دراسات لوبون من خلال دراسته للجماهير الدائمة، وليس فقط الجماهير الثورية “العارضة”.

إدوارد بيرنيز

إلا أن إدوارد بيرنيز -أحد مؤسسي علم العلاقات العامة وابن أخت فرويد- هو من أعطى لدراسات فرويد بُعدًا آخر. حيث يذكر بيرنيز في مستهل الفصل الرابع من كتابه “البروباغاندا” أن دوافع وعواطف الجموع تختلف عنها لدى الأفراد متفرقين، وبالتالي فإنّ فهم هذه الدوافع سيؤدي إلى التحكم بالجماهير والتلاعب بهم دون حتى أن يدركوا ذلك.

وبالفعل تمكن بيرنيز من التلاعب بعقول الجماهير وتغيير قيم المجتمع الأمريكي بأسره، وذلك بما يخدم الجهات المتنفذة اقتصاديًا وسياسيًا.

وأمثلة ذلك كثيرة، ومنها حين أخبر “جورج هيل” مدير مؤسسة التبغ الأمريكية بيرنيز أن مُصنّعي السجائر يفقدون ما يقارب نصف زبائنهم المحتملين لأن تدخين المرأة لم يكن مقبولاً في المجتمع الأمريكي حينها (عشرينيات القرن الماضي).

فقام بيرنيز باستغلال موكب عيد الفصح الذي يُقام سنويًا في نيويورك وما يصاحبه من تغطية إعلامية، وأوعز لمجموعة كبيرة من النساء بأن يقمن بإشعال السجائر، ومن ثم أخبر الصحافة بأن مجموعة من المُطالبات بحق المرأة في التصويت قمن بالاحتجاج من خلال إشعال “مشاعل الحرية”.

وبهذا ضمن بيرنيز ليس فقط تقبّل المجتمع لتدخين المرأة، بل تأييده لذلك أيضًا. ففي النهاية المرأة الحاملة لمشعل الحرية (تمثال الحرية) هي رمز نيويورك خاصة والولايات المتحدة الأمريكية عامة. وإلى الآن ما زالت توصف النساء المدخنات بأنّهن “متحررات”.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ فقد لجأ مدير مؤسسة التبغ الأمريكية لبيرنيز مرة أخرى، وذلك حين لاحظ قلة إقبال النساء على سجائر “lucky strike” بسبب لون العلبة الأخضر المتعارض مع “الموضة” في حينه. كما أوضح له أنّ تغيير لون العلبة يعني خسارة ملايين الدولارات المنفقة على الحملات الإعلانية المرتبطة باللون الأخضر.

فما كان من بيرنيز إلا أن قام بتغيير “الموضة” برمتها؛ حيث طلب من إحدى نساء المجتمع المخملي إقامة حفلة مرتدية اللون الأخضر، كما وتواصل مع زبائنه وعملائه من دور أزياء فرنسية، فأصبح اللون الأخضر هو آخر صيحات الموضة.

مثال آخر على تلاعب بيرنيز بعادات المجتمع، كان عندما واجهت شركة “Beechnut Packing Co” انخفاضًا في مبيعات لحم الخنزير المقدد “bacon”، حيث وجد بيرنيز أنّ الشعب الأمريكي يتناول وجبة إفطار خفيفة.
لجأ إلى أحد الأطباء الذي وجد بدوره أنّ الإفطار يجب أن يكون غنيًا بالسعرات الحرارية، لاحتياج الجسم للطاقة لبقية اليوم.ومن ثم طلب الطبيب من 5000 طبيب آخر بأن يؤكدوا على ما توصل إليه، فوافق 4500 منهم على ذلك. وانتشر الخبر في الصحف بأنّ 4500 طبيبًا يحثون على تناول إفطار غني بالسعرات الحرارية “حفاظًا على صحة الشعب الأمريكي”.
وأضافت العديد من الصحف بأنه يجب تضمين لحم الخنزير المقدد والبيض ضمن وجبة الإفطار. والآن يعتبر طبق البيض واللحم المقدد ضمن وجبة الإفطار جزءًا من “الثقافة الأمريكية”.وهكذا تضافرت الأبحاث “العلمية” مع الآلة الإعلامية، ورسمت عادات المجتمع، فيما يخدم الامبراطوريات الاقتصادية.

هذا وكان بيرنيز أحد أوائل الذين استخدموا الممثلين والنجوم كإحدى أدوات التسويق، من خلال صورهم على أغلفة المجلات، وما يرتدونه في الأفلام. وقد دفع بيرنيز لكثير من المشاهير المال كي ينقلوا رسالة مفادها أنّك تشتري هذه الثياب ليس من منطلق الحاجة، بل لتُعبر عن نظرتك لذاتك، والذي أُطلق عليه “علم نفس الأزياء”.

كان الرئيس الأمريكي “كالفين كوليدج” رجلًا هادئًا قليل الكلام؛ فصورته الصحافة على أنه شخص ممل عبوس، فكان حل بيرنيز هو أن يفعل بالضبط ما فعله مع المنتجات، حيث أقنع 34 من أشهر نجوم السينما بزيارة البيت الأبيض. وفي اليوم التالي، تناولت كل الصحف الخبر في صفحاتها الأولى، وكيف استضاف الرئيس الممثلين بحفاوة وبهجة.

وهكذا أصبح التركيز ليس على جودة السلعة أو منفعتها الفعلية بل على القيمة المعنوية التي تعِد السلعة بإضافتها، وذلك فقط باقترانها بصورة المجتمع الراقي أو الممثل الوسيم أو النجمة الجذابة، فقد أدرك بيرنيز أنّه من الممكن حمل الناس على القيام بتصرفات لاعقلانية، فقط بربط المنتجات برغباتهم العاطفية ومشاعرهم.وبهذا نقل بيرنيز الجماهير من البحث عن “الحاجات” إلى السعي نحو “الرغبات”. وشكّل لديهم ما تسمى بالنزعة الاستهلاكية، وذلك بجعل الاستهلاك غاية بحد ذاته، فكانت النزعة الاستهلاكية إحدى الأدوات التي استخدمها بيرنيز للتلاعب بالجماهير.

الكثير من الإعلانات فيها استخفاف صارخ بعقل المشاهد، كربط إحدى أكثر السلع ضررًا على الصحة واللياقة، بأحد أكثر اللاعبين سرعة. وكأنّ هناك حالة من التأكد بأنّ اللاعقلانية تنتصر على العقلانية

وقد أدركت الشركات أهمية ذلك في مواجهة خطر “الإفراط في الإنتاج”، والمتمثل في اكتفاء الناس وتوقفهم عن الشراء والاستهلاك.

وحيث أن البنوك في تلك الفترة أصبحت بذاتها مؤسسات احتكارية قوية دخلت في عملية الإنتاج ونفذت إلى الصناعة؛ فقد صرّح “بول م. مازر” أحد الشركاء الرئيسيين في بنك “ليمان براذرز” (Lehman Brothers) بأنّه “يجب نقل أمريكا من ثقافة الاحتياجات إلى ثقافة الرغبات، فتكون هناك رغبة بشراء سلع جديدة رغم عدم تلف القديمة، ويجب تشكيل عقلية جديدة للرجل الأمريكي تطغى فيها رغباته على احتياجاته”.

وتحقق ذلك بشكل رسمي بتولي هربرت هوفر رئاسة الولايات المتحدة عام 1929، والذي صرّح بوضوح بأنّ الاستهلاك سيكون المحرك الرئيس للحياة الأمريكية.

وفي المقال القادم سنرى أثر النزعة الاستهلاكية حين تكون سمة من سمات المجتمع.


المصادر والمراجع

صناعة الواقع، محمد علي فرح، مركز تفكر للبحوث والدراسات، 2014.

قوة الصورة، أحمد دعدوش، ناشري للنشر الالكتروني، 2014.

Propaganda, Edward L. Bernays, Liveright Publishing Corporation, New York, 1928.

The Century of the Self, Adam Curtis, BBC, 2002.

http://www.prmuseum.org/video-and-audio/