اقتصادنا المأمول بين المبادئ والغايات

image_print

يُعتبر ضعف الاقتصاد وتراجعه من أكبر المشاكل التي تُعاني منها مُجتمعاتنا العربيّة المُسلمة، ولقد أصبحت ثقافة الاستهلاك والجمود والرّكود عنوانًا للعالم العربي بصفة عامّة، ولو أردنا أن نبحث عن المصنوعات التي تصنع بأيدينا، وعن الأشياء التي نُنتجُ للعالم، أو عن مُساهماتنا في تطوير الاقتصاد العالمي، لعُدنا –للآسف- صِفْر الأيدي.

في ظلّ هذا الواقع الذّي نعيشه، تعالَتْ أصوات الإصلاح منذ زمنٍ طويل، إلا أنها جميعها لم تثمِر الحلول اللازمة لمشاكلنا، ولنا أن نتساءل لماذا؟ 

ويبدو لنا أن مُختلف البرامج الإصلاحيّة كانت وما تزال ذات قوالب غربيّة جاهزة مُستوردة، لا تتماشى إلاّ مع واقع المُجتمعات الغربيّة، ولا تُقدّم حُلولاً إلا لمشاكلهم الاقتصاديّة المُرتبطة بهم، وليست لها أيّ صلة بمشاكل المُجتمعات العربيّة، فهي بعيدة عن واقعهم، ولأنّها أيضًا برامج لا تتماشى إلاّ مع القيم الغربيّة الماديّة، على عكس حاجة مُجتمعاتنا المُسلمة التي لها ثوابت وركائز أساسيّة قائمة على مفهوم الحلال والحرام، ممّا أسفر ذلك على بقاء هذه البرامج في خانة الأعمال النّظريّة غير القابلة للنّجاح.

ومن الغريب اليوم بعد كلّ هذه التّجارب الفاشلة، أن يُصرّ البعض من بني جلدتنا على التّرويج بأنّ نجاحنا الاقتصادي لن يكون إلاّ بتطبيق الأنظمة الاقتصاديّة الغربيّة الرّأسماليّة، وفي المُقابل يتمّ إهمال المنهج الاقتصادي -المنضبط بتعاليم الإسلام- ورفض العودة إليه أو دراسته بدعوى أنّ الإسلام ليس له منهج اقتصادي واضح المعالم، وأنه لم يعد يصلح لهذا الزّمان بسبب التغيّرات التي حصلت في حياة النّاس. فما ما مدى صحّة هذا الادعاء؟

منهج الاقتصاد الإسلامي
يقول الدكتور يوسف القرضاوي :”إن كان المقصود بالنهج أو النظام: الصورة التّفصيليّة التّي تشمل الفروع والجزئيّات والتّطبيقات المُتنوّعة، فالإجابة عندي بالنفي، وإن كان المقصود: الصورة الكلية التي تتضمن الأسس الهادية والقواعد الحاكمة والتوجهات الأساسية الضابطة، وبعض الفروع ذات الأهميّة الخاصّة، فالإجابة عندى بالإيجاب. ذلك أنّ منهج الإسلام الذّي عرف بالاستقراء: أنه يُجمل في الأمور التي تتغيّر كثيرًا بتغير البيئات والأزمان، ويُفصّل في الأمور التي لا تتغيّر كثيرًا.  ولا ريب أنّ الاقتصاد والسياسة من الأمور كثيرة التغيير، فلهذا اكتفَت فيها النصوص بوضع المبادئ والقواعد الكليّة والتوجيهات الأساسية، وهذا ما نقصده إذا قلنا: نهج أو نظام إسلاميّ، فإن كان هذا هو المراد، فهو ما أؤمن به، وأدعو إليه”(1).

ونستنتج من ذلك أنّ للاقتصاد الإسلامي مبادئ كُبرى ثابتة، لا تتغيّر صالحة لكلّ زمان ومكان، ولكن قد تختلف وسائل تطبيقها على حسب ما يُناسب تطوّرات العصر وبما يتناسب مع مصالح المُجتمع.

ومن هذه المبادئ مفهوم الملكيّة التّي تنقسم إلى أربعة أقسام:

أوّلها: الملكيّة الفرديّة الخاصة حيث لكلّ إنسان أن يَملك الثروات وله حرّية التصرّف فيها ما لم يُصبح هنالك ترف أو إسراف أو فساد وضرر بالمجتمع، على أن يكون هدف هذه الملكيّة زيادة الإنتاج وتوليد الثروات ودفع الفرد للمشاركة الفاعلة في النّشاط الاقتصاد، بدون كسل أو جمود أو ركود عملاً بقوله تعالى:” لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ” [النساء: 32].

ثانيها: الملكية العامة كأرض الخراج وأرض البياض التّي تتعلّق بأجيال المجتمع الحالية والمستقبلية، فعندما فتح الخليفة عمر ابن الخطاب أرض سواد العراق رأى أن تبقي هذه الأرض الشاسعة حقًّا لكلّ المُسلمين إلى يوم يُبعثون غير مُقتصرة على الجنود ومن كان موجودًا في العراق، وكثروات الأرض من معادن وغاز ونفط وطاقات طبيعية متجددة، وكمصادر الطاقة العامة كحجارة البناء، وهذه الملكيّة تديرها الدولة نيابة عن المجتمع ولا تُفرّط فيها للملكيّة الفردية الخاصّة، والهدف منها تمكين الأفراد من الإنتاج وتيسير نشاطهم الاقتصادي.

ثالثها: الملكية المجتمعية حيث تبقى في حيازة الدّولة نيابة عن المجتمع مع ضمان حُسن إدارتها من أجل تحقيق مصالح المجتمع، والهدف منها التوزيع العادل للجميع  ولكلّ حقّ فيها غنيَّا كان أو فقيرًا عملاً بقوله صلى الله عليه وسلّم:” الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ : فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأ وَالنَّارِ”(2).

رابعُها: الملكية الوقفيّة التّي يُقرّر صاحبها تحويل ما يملك إلى المصالح الاجتماعية العامة ليَنتفع بها النّاس، فهي عبارة عن ملكية تطوّعية غير ربحية تغطية لنقائص المجتمع في القطاع الخّاص والحُكومي في مُختلف المجالات.

مبادئ في الاقتصاد الإسلامي
من مبادئ الاقتصاد الإسلامي المكوّنة لمنهجه أيضًا المبادلة والمعاوضة حيث هنالك تفاوت في القدرات والطّاقات البشريّة وكلّ قادر على الإنتاج في مجاله، ومن ثمّ يتمّ التبادل والمعاوضة بين الجميع لنفع بعضهم البعض مقابل مبلغ مالي إزاء ما تمّ إنتاجه في حالة البيع والشّراء، وهذا المبدأ  قائم على تعظيم المنافع  إذْ يسعى كلّ واحد إلى تعظيم ما ينتجه عن طريق الإتقان والإبداع فيه، ولا تُبرَم العقود إلاّ برضاء الطّرفين بدون ظُلم أو فساد، كما هو الحال في العقود الربوية المحرمة شرعًا، والتّي تقوم عليها الأنظمة الاقتصاديّة الغربيّة.

يُبيّن لنا الأستاذ سيّد قطب خطورة هذه المعاملات فيقول: “وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة دكتور شاخت الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقا. وقد كان مما قاله في محاضرة له بدمشق عام 1953 أنه بعملية رياضية “غير متناهية” يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدًّا من المرابين. ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية، بينما المدين معرض للربح والخسارة.”(3)، فالمُرابي سيسعى إلى رَفع سعر الفائدة لصالحه، ويُوهم أهل التجارة والصّناعة حاجتهم لماله، ومن ثمّ يجدون أنفسهم عاجزين عن السّداد مع تواصل ارتفاع الفوائد، وبالتّالي ينكمشُ حجم المال المُستخدم في هذه المجالات ممّا يعود بالضّرر على العاملين فيها، ويتراجع حجم الإنتاج وينعكس ذلك سلبًا على المقدرة الشّرائيّة للأفراد، وفي هذه الحالة يقوم المرابون بخفض الفوائد من أجل إعادة تشجيع النّاس للتّعامل معهم من جديد، ويقوم أصحاب الصّناعات والتّجار بدفع الفوائد عن طريق جيوب المُستهلكين، برفع أسعار المواد الاستهلاكيّة ممّا يُصبح عبئًا على مُختلف شرائح المُجتمع.  وأمّا الدّيون الرّبويّة التي تقترضها الحكومات من المؤسّسات الدّوليّة لتقوم بالإصلاحات والمشروعات التّنمويّة فإنّها ستقوم بتسديدها عن طريق الزيادة في الضّرائب وإن عجزت فإنّها ستقع في قبضة الاستعمار الاقتصادي.

ومنها أيضًا الحرية الاقتصادية حيث كُلّ له حرّية مطلقة في أمواله وثرواته، إلا أن هذه الحرية تنتهي عند إحداث الضرر بالنّفس أو بالمجتمع أو بالمحيط الذي نعيش داخله، أو بتسخير الثروات في مسالك الانحراف والفساد والمحرمات والتّرويج لها. ولا ننسى أيضًا مبدأ السّوق الحر القائم على حريّة التعامل، فبعدما أنشأ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم السّوق في المدينة بدأ يُوجّه النّاس فيقول:” لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ، يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ”(4).

ومن المبادئ التّي يجب مُراعاتها أيضًا مفهوم المال والثروة والدّخل، فالمال أصله يكون من الطيّبات في الإنتاج والتّعامل، وليس من المعقول عندنا إنتاج ما هو خبيث وفيه إثم وضرر، من سجائر وخمور وغيرها من المنتوجات، ويشمل المال الثروة والدّخل، وما نُلاحظه في مجتمعاتنا هنالك ضرائب على الدّخل وليس هنالك ضرائب على الثروات، بينما الزكاة ضُربت على الدّخل والثروات، مثل الإنتاج الزّراعي الذي يُعتبر دخلًا وتجب فيه الزكاة التّي يجب إنفاقها على مُستحقّيها.

الزكاة من ركائز الاقتصاد الإسلامي

ولعل وجود القانون الاقتصادي المستمدّ من الشرع الحنيف إلى جانب ضرورة الخضوع له بالعدل من أهمّ المبادئ في الاقتصاد الإسلامي، فأن يُوجد القانون في الدولة يعني أن تسير على نهجه وبيانه، وأن يخضع الجميع لهذا القانون بالعدل، وإن حصل العكس وأصبح الحاكم ذا حريّة مطلقة، وبدأ أصحاب النّفوذ في السّلطة باستغلال مناصبهم لصالحهم المادّي، فسوف ينتشر الفساد الذي يقتُل روح الإنتاج، وتضيع الثّروات، وسيعيش الفرد تحت الخوف والاستبداد، غير قادر على أخذ المُبادرة للإنتاج، خوفًا من أنْ تذهب جهوده ومشاريعه سُدىً بسبب الفساد الطّاغي داخل المُجتمع -كما هو واقعنا اليوم-.

ومن تلك الأسس أيضًا إلى جانب الإلزام القانوني الالتزام بالرقابة الأخلاقية من خلال الصّدق والعفاف والأمانة ومُقاطعة الكذب والغشّ والجشع والأنانيّة والظّلم والاحتيال، أي عن طريق قانوني تنفيذي وذاتيّ يحفظ الأخلاق الاقتصاديّة، ويُعاقب الباغين بدون مُحاباة، ولا ننسى هنا أيضًا ضرورة التّناصح على الالتزام بهذه الأخلاق، والذّي يدخل في باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بين أفراد المُجتمع، إلى جانب الرّحمة والعناية بالآخر عن طريق الأوقاف الخيريّة المُوجّهة لدعم الاستثمار والتّنمية وسداد الدّيون للمعسرين ، وعن طريق الزّكاة والصدقات وإعطائها لأهلها من المُحتاجين.

 وهنا لنا أن نتساءل: ما دورنا لبناء اقتصادنا؟

البناء الاقتصادي
إنّ الغاية المُشتركة من الأنظمة الاقتصاديّة في العالم هي ضمان الكفاءة الإنتاجية وحُسن توزيع الثروات، ومن أجل ذلك نُلاحظ اليوم أنّ الدّول الكبرى تسعى لفرض نفوذها واستغلال الدّول الضّعيفة ونهب ثرواتها والمواد الأوّليّة التي تمتلكها، ومن ثمّ جعلها سوقًا استهلاكيّة لترويج منتوجاتها، لضمان استقرارها الاقتصادي، وتواصل تسويق إنتاجها، واستمرار الهيمنة الاقتصاديّة بيدها.

في المُقابل فإن ما يُميّز النّظام الإسلامي الاقتصادي هو احترام كرامة الإنسان وتحقيق العدالة الاقتصاديّة بلا ظلم أو انحراف، ولا يُمكن للمُسلمين اليوم أن يخدموا دينهم وينشروا رسالته في الأرض وأن يحقّقوا رسالة الاستخلاف فيها، والدفاع عن مُقدّساتنا وعن المظلومين، إلا في حال الخروج من حالة التخلّف والتبعيّة الاقتصاديّة لغيرنا.

فنحن بحاجة اليوم إلى كسر قيود التخلّف والجهل والجمود والظّلم، عن طريق بناء شخصيّة مُسلمة مُتوازنة، تحمل ثقافة العمل والإنتاج والتّغيير والإقبال على الحياة، بنور الإيمان وبقوّة العقيدة وقادرة على تطبيق المبادئ التّي ذكرناها وجعلها قوانين يُلتزمُ بها، فعلينا اليوم أن نسعى لإنشاء جيل جديد يحمل داخله هذه الشخصيّة، وهذا دور الأسرة في بيتها، والمُعلّم في مدرسته، والإعلام في منابره، والمسجد والمُجتمع كُلّه إذ إنه على كلّ إنسان أن يسعى للإصلاح والتّغيير، كما علينا توحيد الجهود ووضع الاستراتيجيّات المناسبة لذلك، فإن وُجد هذا الجيل فإن ذلك سيُحدث نُقلة داخل المُجتمع، وسيقودنا لبناء دول حديثة عادلة رايتها الإسلام وأخلاقه.


الهوامش:

(1): دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهيبة للنشر، الطبعة الأولى 1995، ص:15.

    (2): نيل الأوطار، كتاب إحياء الموات، باب الناس شركاء في ثلاث وشرب الأرض العليا قبل السفلى إذا قل الماء أو اختلفوا فيه ، الجزء 5، الحديث: 2405، ص: 653.

    (3): في ظلال القرآن، تفسير سورة البقرة، تفسير قوله تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، الجزء 1، ص: 318.

    (4): نيل الأوطار، كتاب البيوع، أبواب ما يجوز بيعه وما لا يجوز، باب النهي أن يبيع حاضر لباد، الجزء 5، الحديث: 2202، ص: 195.

Author

  • حمزة بلقروية

    خريج الكلية الوطنية للهندسة تخصص الهندسة الميكانيكية، ومدرس لمادة القرآن الكريم في المدرسة القرآنية بالقيروان، ومهتم بالفكر الإسلامي وقضاياه المعاصرة.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد