مقالات

رحلةٌ في سحر العاديات

هناك بين ثنايا حروف راحت تُنسج بإتقان لتنبثق منها تلك السطور، تحت مزيجٍ من المشاعر والمعاني التي ما لبثت أن غُلّفت بها تلك الكلمات وجُمعت تباعاً لترسم قصائداً وأشعاراً راح الشعراء يحملونها ذخيرة فيخوضون بها تلك الملحمة الأدبية التي سرعان ما لقيت الاهتمام و أصبحت محط الأنظار، وإذ بنا بهذا الاهتمام وهذا الشغف نسهو عن كلمات أرقى ومعانٍ أنقى، وإذ بها لحظات عمرنا تنزلق منا تباعاً دون أن نحظى بارتشاف لذة سحرها واغتنام عمق معانيها وما تضمره سطورها من إعجاز وبلاغة، كلمات ربي جل وعلا التي حُملت بين سطور قرآنه العظيم فجعلت منه كنزاً يحمل بين طياته ما عجز عنه لسان العرب بطلاقته وبلاغته أن يأتي بمثله في خضمّ ملحمتهم الأدبية، فما يسعنا تجاه هذا الإعجاز وهذه العظمة إلا أن نلوذ ببعض ما يخفى بين جدران ذلك الكنز من مجوهرات ونرسو على شرفات محطة من محطات هذا العالم الواسع الذي ينبض بجزيل الكلمات وعميق المعاني، ألا وهي سورة العاديات تلك السورة التي لامست واقع الإنسان ومشاعره بما تضمر بين طياتها من تجسيدٍ لحاله وقد أُترع في حياته البلاء والمحن ليكون قلبه الأساس في صلاحه، وذلك عندما شبه سبحانه الخيل المجاهدة في سبيل الله بجهاد المسلم وماقد يعتريه في ذلك من حزن و قتل وإصابة .

 هذا هو سبب اهتمامي بها وتعمّقي بمعانيها وبأسلوبها البلاغي المتميز، حيث أنني اجتهدت في تحصيل المعلومات من كتب ومقالات عده منها (تفسير ابن كثير _تفسير النسفي _تفسر الزمخشري-اختصاره للبيضاوي- تفسير الظلال-تفسير الجلالين-التصوير الفني في القرآن لسيد قطب-روح المعاني للآلوسي-السعدي-تفسير كلام المنان-بحث جامعي لمحمد يورداني-ومقال للأستاذ جمال عبد العزيز أحمد….) لأعرضها عليكم آيةً تلو الأخرى .. نبدأها بقوله تعالى:

(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحَاً):
إن الإقسام لا يكون إلا بما هو عظيم الشأن، فلا يجوز لبشرٍ الإقسام بما سواه تعالى، ولكن عند تلاوة آياته جل وعلا توجل القلوب عند استشعار عظمة قسمه عز وجل بمخلوقاته التي قد خفي علينا عظيم أمرها ألا وهي الخيل الجارية العادية في سبيل خالقها، ولقد عرّف الله تعالى كلمة (العاديات) تعظيماً لشأن المذكور ولو أن الله تعالى نكّر الكلمة لم يكن القارئ والسامع للآية ليفهم المعنى المقصود بالخيل، ولذلك عرّفها الله ليضيق دائرة المعنى فيقصد بالخيل العاديات خيلَ الجهاد التي لها قدسيه عند الله، وهذا ما نلاحظه في حديث  رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال :{الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة}. نرى في هذه الآية أيضاً استعاره مكنيه حيث شبه الخيل بأبطال أقوياء يعدون فيسرعون و تخرج منهم أصوات الأنفاس عند عدوهم (ضبحاً: صوت الفرس حين يعدو وهي دليل على اشتداد العدو)، وفيها أيضاً إيحاء بالسرعة والعدو الشديد ..

الخيل مثل خَيالِنا أشعار            يُورَى الجمال بعَدْوها ويُثار

خُيَلاؤها عنوانها في ضَبْحها      وإذا تُسالِم فالصَّهيل شِعار

لو لم يكن من شأنها إلا الذي      ذكر القرآن فإنه لفَخَار

“والعاديات” إذا رمت يتحَمحَم     كبِدُ العدو فيَعتَريه دُوار

(فَالمُورِيَاتِ قَدْحَاً):
كلمة الموريات كنايه عن موصوف وهو الخيل أو ما يقوم مقامه في عصرنا الحاضر، أما كلمة (قدحا) هي كنايه عن صفه سرعتها وشدة ضربها بالحجارة فتُحدث لهيباً خلفها ويوحي ذلك بسرعه جريها ومُرَاسِها وذُربَتِها في ميادين القتال، كما تبرز لنا هذه الكناية مدى فهم هذه الخيول المجاهدة لطبيعةِ الدور الذي نِيْطَ بها ودُرِّبت سلفاً عليه .. ولقد عطفت (فَالمُورِيات) على (العَادِيَات) بالفاء وفيها ملحظ السببية لأن الإيراء أثر للعَدْوِ الشديد ينقدحُ به الشرر من حوافر الخيل

” فالمُورِياتُ “القَدْحَ تحت سَنَابِكِ      إنّ البَهاء إذا يُزمجرُ نارُ   

(فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحَاً):
كلمة المغيرات كنايه عن الخيل التي تعدو لتهجم على العَدُوّ وقت الصباح[1]، ولم يَفُتِ  المفسرين إدراكُ ما ذُكِرَ في الآية من تخصيص لوقت الصباح وما في ذلك من توضيحً لموقف المباغتة والإنذار[2]  في حال الغزو، ولقد عطفت (الْمُغِيرَاتُ) بالفاء ليُرسَم لنا ترتيب الأحداث دون تراخ ما بين عدوها ضبحاً وإغارتها صُبحاً، ونجد في الآية استعاره مكنية حيث شبه الله الخيل بعدوّ يُغِيْرُ، ولديه القدرة على تحقيق النصر، وفيها كنايه عن حسن الإعداد ودقة التنفيذ وكمال الخطة العسكرية، ونجد أن في كل من كلمة (ضَبْحَاً – صُبْحَاً) جناس ناقص، وفي (ضَبْحَاً وصُبْحَاً و قَدْحَاً) سجع.

وهي” المُغِيْرَاتُ “التي من حسنها     يَثِبُ الصَّباحُ وينجلي ويَغارُ

(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعَاً):
نجد أن الآية هي كنايه عن شدة الخيل وكثرتها وسرعتها وسيطرتها على ميدان المعركة، ولقد عُطفت كلمة (فَأَثَرْنَ) على اسم الفاعل (العاديات و الموريات والمغيرات )ليصبح معناه: اللاتي عَدَوْن فَأَوْرَين فأَغَرْن فأَثَرْن[3]، وقوله (به)عائدة على ميدان المعركة أو على وقت الإغارة في الصباح[4]، وكلمة (نَقْعَاً) بمعنى التراب أُنكرت لبيان مدى علوّه وابتلاء الجو به وانتشاره فيُحِيلُ نهارَه ليلاً أسوداً دامساً، ونجد أن كلمة (أَثَرْن) تناسب كلمة (نَقْعَاً) حيث لم يختر الله كلمة هَيَجْنَ مع أن المعنى واحد ولكن في كلمة (أثرن) جمال وقوه كأنها تولد ثورة في قلب هذا الغبار.

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعَاً):
توسطن برُكبَانِهِنّ جموع الأعداء وفيها كنايهة عن قوة الجيوش وامتلاكِ ناصية الحرب والسيطرة على الميدان كرّاً وفرّاً وتكتيكاً ونصراً، ونجد في كلمتي (نَقْعَاً و جَمْعَاً) سجعاً .

(إِنّ الإِنْسَانَ لِرَبّه لَكَنُود):
فيها جمله من المؤكدات (إن-لام المزحلقة-استعمال الجملة الإسمية)وهو ما يسمى عند البلاغيين بالخبر الإنكاري، ويقصد بـ (كَنُود: كفور) كأن الإنسان ينكر ذلك ويداهن فتأتي المؤكدات لتأكد له شدة جحوده وكفرانه، وأن تكذيبه بنعم الله لا محل له ولامعنى، ولكن الإنسان ينسى النعم ويتذكر الابتلاءات فلا يشكر ولا يُثني بل يكفر بربه وينثني عنه ويبتعد.

(وَإِنّه على ذلِكَ لَشَهِيد):
لهذه الآية معنيان فإما أن يكون الله شاهد على كفر جحود الإنسان أو أن يكون الإنسان شهيدا بلسان حاله على كنوده [5]، ولذلك استخدم كلمة (شَهِيْد)، وهي صفه مشبه أي هو شهيدٌ على ذلك شهادة دائمة، وفي الآية أسلوب قصر بتقديم ماحقه التأخير حيث قدم الله شبه الجملة (عَلَى ذَلِك) على متعلقة (لَشَهِيد)وكرر التوكيد (إن ولام) إمعاناً في ذكر جحوده وإبرازاً لخطورة مسلكه .

(وَإِنّهُ لِحُبَّ الخَيْرِ لَشَدِيْد):
عبر الله بضمير الغائب الذي تتناسب مع سلوكه، وفي الآية أسلوب قصر حيث قصر بخل الإنسان وحب المال على نفسه وكذا إنفاقه على ذاته في وجوه الخير، و(أل) التعريف في كلمة (الْخَير) إما أن تكون عهديه أي الخير المعهود عند الإنسان وهو المال وإما أن تكون جنسيه أي جنس الخير فهو يبخل به، وكلمة (شَدِيْد) صفه مشبه بمعنى بخيل، ونجد في كل من كلمة (لشَهِيد) و(لشَدِيد) جناس ناقص وفي كل من (كَنُود-شَهِيد-شَدِيد) سجعاً .

(أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِر مَا فِي القُبُور):
هنا إيجاز بالحث في جملة وقعت بين الهمزة والفاء (أفلا) أي أفعمي فلم يعلم؟! أو أَجَهِل فلم يدرك ؟!، واستعمال الهمزة هنا يفيد التقرير والتقريع،  والفعل (يَعْلَم)من أفعال القلوب أي يجب أن يعلم ويدرك ويوقن، و(بُعثِرَ)مبني لما لم يسمى فاعله لتركيز الاهتمام على الحدث بصرف النظر عن محدثه، و(ما) لغير العاقل مع أن المبعوث عاقل وهو إما لقيام (ما) مقام (من) لكثرة من يبعث من إنسان وحيوان، وإما جاءت (ما) على أصلها احتقاراً  لشأن الإنسان، و(أل) في كلمة (القُبُور) جنسيةٌ: أي جنس قبور الأرض ستلفظ ما فيها حياً يمضي إلى عرصات يوم القيامة.

(وَحُصّلَ ما فِي  الصُّدُور):
بُني الفعل لما لم يُسمى فاعله كنايه عن الموصوف وهو الله القادر على تحصيل وجمع ما في الصدور[6]، وكلمته (الصُّدور) مجاز مرسل علاقته محليه ،حيث أطلق المحل وأراد الحال فيه وهو القلب فالمقصود حُصّل ما في القلوب التي هي وعاء الأحداث، و(أل) فيها جنسيّةٌ: أي جنس صدور البشر، وفيها كنايه على طلاقة القدرة الإلهية والهيمنة الكاملة على مجريات الكون، ونجد في كل من (قُبُور-صدُور) جناس ناقص .

 (إِنَّ رَبّهُم بِهِم يَوْمَئِذٍ لخَبِير):
في هذه الآية نجد أسلوب توكيد وذلك لانتشال الشك من قلوب الشاكّين ولبيان عظمة الله في كل شيء، وفيها أيضاً أسلوب قصر بتقديم ماحقه التأخير حيث تعلق شبه الجملة (بهم) بقوله (خبير)، وفيها إيجازٌ بالحذف حيث حُذفت جمله كامله أي (إن ربهم بهم يوم إذ يُبعثَر ما في القبور ويُحصل ما في الصدور لخبير)، وكلمة (لخبير) صفه مشبهه  تثبت أن علم الله أزلي شامل وجزاءه محيط كامل.

في الآية (١-٥) أواخرها نجد الصوائت الطويله، وهي حرف (أ) مقرونه بالصوامت المختلفة، منها بالصوامت الاحتكاكية وهي حرف الحاء (ح)، وحرف العين (ع)  حتى تصير الأصوات مختلفة وهي (حا) و(ع)[7].

وفي الآية (٦-١١) نجد الصوائت الطويلة وهي حرف الياء (ي) وحرف الواو (و) مقرونه بالصوامت المختلفة وهي (نون -هاء – دال باء) ومنتهيه بالصوامت الانفجارية وهي حرف الدال (د) والصوامت المكررة وهي حرف الراء (ر) حتى تصير الأصوات مختلفة وهي (نود- هيد-ديد- بيد) وهذا التناسق مقرونة بالصوائت المتنوعة كأن فيها انحراف من النغم الموجود[8]، وتناسق الأصوات دفع إلى تناسق الكلمة والجملة كلها، والوتيرة التي ارتداها القرآن يبقى انطباعها بطيئة وسريعة، والوتيرة السريعة تأتي تصير التعذيب والعجيب، والوتيرة البطيئة تأتي المواعظ والمعارف عادة [9]، والعاديات توجد الوتيرة البطيئة التي تدل على المواعظ وهي المواعظ بتصوير عن أهوال القيامة وشدائدها ومن ناحيه أخرى تدفع إلى اللفظ المحسن والسجع لأن كثيراً من فواصلها متوافقة في الأحرف الأخيرة، ونجد في فواصل سورة العاديات من بدائع السجع وأفضل السجع ما تساوت فقره كما في الآية الكريمة (وإنه على ذلك لشهيد-وإنه لحب الخير لشديد).

ونجد في هذه الآيات التي تصف العدوْ والهجوم وتوسط مرابع العدو جاءت خاطفه سريعة تستثير الخيال وتسرع في الانتقال من مشهد إلى مشهد، أو انقل من عنصر من عناصر الصورة إلى عنصر آخر بينما ما جاء بعدها من آيات كلها تحوي المد لأنها موضع تأمل فتقرأها على مهل لتحس بها.

تم بعون الله وحمده بحثي المتواضع الذي زرع في حياتي بذرة ستنمو معي طيلة حياتي وستزهر لتنشر عبقها في أرجاء الكون، فسارع أيها القارئ لتحصل على مثل هذه البذرة فتزرعها في نفسك لتغدو سعيداً هنيئاً في حياتك مُسعِداً ومبهجاً لقلب غيرك، فمجردُ بذرةٍ تزرعها وتنساها على دَربكَ، تُورِد خيراً وتجمعها ثمراً يكبر على رسمك ..


[1] وهبة الزحيلي، التفسير المنير صفحة ٣٦٩

[2] روح المعاني، تفسير القرآن صفحة ١٠٧

[3] تفسير النسفي صفحه ٦٧١ و ٦٧٢

[4] تفسير الجلالين صفحة ٦٠

[5] ابن كثير صفحة ٦٦٩

[6] شهاب الدين القيلوبي صفحة ١٨٢

[7] شهاب الدين القيلوبي صفحة ١٧٥

[8] شهاب الدين القيلوبي صفحة ١٧٥

[9] السيد الهاشمي، جوهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع صفحة ٣٥١

الحوار القرآني

لقد تعددت وتنوعت أشكال الحوار في القرآن الكريم، واختلفت مواضيعها وحملت عبراً كثيرة، فمنذ بدء الخليقة يحاور الله ملائكته الكرام عليهم السلام، ويحاور إبليس الذي كان يتوعد بإضلال البشرية، وكذلك نجد الأنبياء يحاورون أقوامهم ويقدمون أحكم الحجج المنطقية والعقلية في سبيل إقناعهم برسالتهم وصدق دعوتهم.

والقرآن الكريم كتاب رباني لهداية البشر من الضلال إلى النور ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ويعتمد على الحوار بشكل أساسي للإقناع، ولوضع الحجة على الرقاب، ثم يُحاسب البشر عما فرطوا فيه وأنكروا، وهذا أكبر دليل على حرية التفكير البشري.

 وبالإضافة إلى ذلك فإنه يحاور قارئه أيضاً فيسأله التأمل والتمعن في عظمة خلق الله في الكون كما في قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ(20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(21)} [الذاريات:20]، وفي حين آخر يستفزه ويثيره بالأسئلة عن حقيقة وجوده وكيانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ(35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ(36)} [الطور:34-35]، وينكر على أهل الضلال أقوالهم ودعاويهم الباطلة فيقول: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].

بطريقة ما هذا القرآن الذي كتبه [المؤلف حيث يتحدث عن مرحلة ما قبل إسلامه] فيه أسلوب من نوع مختلف يجرك لحوار مع النص.   جيفري لانغ

منهج الحوار القرآني
1.الاستناد إلى العلم
العلم في المصطلح القرآني والفلسفة الإسلامية هو ما يعرفه العلماء بأنه “إدراك الشيء على ما هو عليه بدليل منضبط بقواعد المنطق وأصوله”[1]. والاستناد إلى العلم يعني اعتماد المنهج التوثيقي المنبثق من كل واقع مصحوبا بأدلته الدامغة المسكتة أو “المخرسة” أحياناً.

ويتجلى هذا المعنى في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، و”إن” هنا شرطية، أي إن تحقق الافتراض الأول يتحقق الثاني، ولكن الافتراض الأول وهو أن يكون لله ولد محال، أي أنني كنت قد اتفقت معك بالإيمان بالشرك لو توافرت الأدلة العلمية على ذلك، ولكن الأمر أنه لا ولد له ولا بنت ولا ملاك ولا شيء، واحد أحد فرد صمد يقيناً لا ظناً، وفي هذا السبك بلاغة عظيمة، لأنه لا يلجم الخصم فقط بل يعلمه أسس التفكير الصحيح وعدم الانحياز لجهة معينة فقط بسبب انتمائه إليها.

وقد كثرت الشواهد على هذا المعنى في القرآن الكريم، فنلحظ أن الله دائماً يطلب من المخالفين إظهار البراهين العلمية وعدم الركون إلى الأمور الظنية: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148]، ويردد دائماً على كل من يزعم ويدعي معتقدات باطلة {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.

2.إيجاد نقاط الاتفاق
يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. يقول الزحيلي في تفسير هذه الآية: “قل يا محمد: يا أهل الكتاب -وهم اليهود والنصارى جميعاً- أقبلوا وهلموا إلى كلمةٍ عادلة وسطى سواء بين الفريقين اتفقت عليها جميع الشرائع والرسل والكتب التي أنزلت إليهم، فأمرت بها الصحف والكتب الأربعة: التوراة والزبور والإنجيل والقرآن وهي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) وعبادة الله وتفويض سلطة التشريع والتحليل والتحريم إليه، وعدم الشرك به شيئاً، وعدم اتخاذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ، كالوثن والصليب والصنم والطاغوت والنار”[2].

فالبحث عن نقاط الاتفاق يسهل لنا الحوار ويمكِّننا من تحديد نقاط الاختلاف، فعند النقاش مثلاً في مسألة العلمانية، يفيد جداً معرفة ما إذا كنت تؤمن بالله أم لا، وما إن كانت للقرآن حجية عندك، وهذا يجعل من الحوار أكثر دقة وأغزر فائدة.

3.الابتعاد عن مجاملة الخصوم
حيث نذكر هذا هنا في محاولة لوصف ما اعترى أسلوب التفكير الإسلامي الحديث بسبب الشعور العارم بالهزيمة أمام الحضارة الغربية، فأي إعجاز علمي -بغض النظر عن صحته- صار مقبولاً، أي عالم غربي أو حتى مغنية يؤمن، يصبح من كبريات الحجج الإسلامية، بل صار البعض يخجل حتى من ذكر أسماء علماء السلف ويحاول ليَّ عنق النصوص لتناسب أهواءه، وأيضاً هناك الحالة النفسية التي تصيب البعض عندما لا يستطيع هداية أحدهم، من حزن وتحسر أو حتى خوف على خلوده في جهنم، وهذا غالباً ما يحدث مع الآباء عندما يرتد أبناؤهم فيصيبهم الاكتئاب وفقدان الثقة بالنفس وأحياناً التخلي عن العمل الدعوي، وقد كثرت الآيات التي تنبه على عدم نحو هذا السلوك، لأنه لا يورث في صدر الآخرين إلا الشعور بضعف وانهزامية هذا الدين وحتى استحقاراً لمن يدعو إليه، فيقول تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء} [القصص:56]، وفي موضع آخر: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، و”باخع نفسك” تعني قاتلها ومهلكها أو مجهدها”[3]، والآثار جمع أثر أي على إثر توليهم وإعراضهم[4]. فالجميع يمتلك حرية الاختيار التي مهما تأثرت بالمؤثرات الخارجية لا تنعدم، فنبوة نوح عليه السلام لم تمنع كفر ابنه ولا ادعاء فرعون الألوهية منع إيمان امرأته.

ومن هنا يجب علينا عدم دخول الحوار بنفس خائرة فاقدة الثقة بتاريخها وحضارتها وثقافتها، وأن لا نجامل أحداً في ديننا بل نكون واضحين وصادقين معه، ونظل حريصين مع ذلك على هدايته وإخراجه من الظلمات إلى النور، ولكن يبقى شعارنا في هذا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105].   

نماذج من الحوار القرآني
1.مناظرة إبراهيم الخليل عليه السلام مع الملك:

قال تعالى: {ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].

يذكر الله تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد الذي ادعى لنفسه الربوبية، فأبطل الخليل عليه دليله، وبين كثرة جهله وقلة عقله، وألجمه الحجة، وأوضح له طريق المحاججة[5].

ولربما يكون هذا الحوار الأكثر ملاءمة لما نعيشه نحن أبناء القرن الواحد والعشرين، فقد صار باب طرح الأفكار مفتوحاً على مصراعيه لمن هو مؤهل ولمن ليس بأهل، بل صار إنكار البديهيات والمسلمات من أهم شعارات ما بعد الحداثة، التي ما هي إلا انتكاسة الفطرة إلى السفسطة.

فهنا يبدأ الحوار بقول إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، متحدثاً عما أجمعت عليه البشرية بتفرد الله وحده بقدرة الإحياء والإماتة، فيرد عليه الملك بكل عجب ووقاحة: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، يعني إذا أتي بالرجلين قد تحتم قتلهما، فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر فكأنه قد أحيا أحدهما وعفا عن الآخر[6].

وهذه قمة السفسطة وانعدام المنطق، فمن الواضح أن الإحياء والإماتة ليس بهذا الشكل، وردُّ إبراهيم عليه السلام لم يكن بإعادة شرح معنى الحياة والموت والدخول في تفاصيل كلامية ستجعل النقاش ضبابياً غير واضح، بل انتقل إلى دليل هو أكثر سطوعاً وقوة، حيث قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، فقدرة الله واسعة لا تنحصر بالإحياء والإماتة، والظالم لنفسه وللآخرين، لن يكون منه إلا الكفر والضلال والتكبر على الحق ورفضه، ومثل هذا لا ينال الهداية بحال من الأحوال.

2.حوار قابيل وهابيل:
قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)} [المائدة:27-29].

وفي هذا الحوار بين قابيل وأخيه هابيل نتعلم معاني التريث والهدوء، فرغم مصارحة قابيل أخاه بالقتل، لم يهتج لهذا وسارع مباشرة لتهديده بالمثل، بل أجابه بأن الله يتقبل لمن يتقيه ويخشاه، ونجد أن هابيل عوضاً عن أن يغضب ويتوعد، يحاول أن يحذر أخاه وينبهه ويرشده بطريقة غير مباشرة، وإن كان يتحدث بضمير المتكلم لا المخاطب، فالكلمات التي قالها له فيها استثارة لعواطف قابيل وفطرته، ودعوة له للتفكر جيداً قبل الإقدام على هذه الخطوة، التي ستكلفه دخول جهنم والخسارة في الدنيا والآخرة.

يقول الله تعالى بعد ذلك: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:30]، فلربما تشير هذه الآية إلى أن قابيل قد حادث نفسه بالفعل جراء ما سمع، ولكنها مع ذلك  سوغت له فعلته وطاوعته على قتل أخيه، وبهذا فإنه سن سنة القتل وصار ذنب كل من قتل من بعده في عنقه، ويا لعظم هذا من خسارة.

يوم الفصل
لقد تعددت الآراء و المذاهب والأفكار والمعتقدات التي آمن بها البشر، وتنوعت طبائعها وخصائصها، وكلهم يرون أنهم أهل الحق وأصحابه والباقي أهل الضلال، ولهذا كان الحوار وسيلة من وسائل الوصول للحقيقة، ولا يعني هذا أن الناس سيصبحون على ملة واحدة بذلك، فالله سيفصل بيننا بالحق بعد كل هذا النقاش والجدال، وأن هذا ما هو إلا بلاء منه، فهو القائل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة:48]، ونجد في موضع آخر أن الله سيسأل الناس عن البراهين التي سوغت شركهم بالله عز وجل فيقول: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، فهناك كما يبدو نوع من الحوار النهائي يوم القيامة، وبعد ذلك لن يعذب الله  كل من لم تقم عليه الحجة أو تبلغه الرسالة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].


الهوامش

[1] البوطي، محمد سعيد رمضان(سنة النشر غير معروفة).أدب الحوار في كتاب الله عز وجل. (مكان النشر غير معروف): نحو القمة للطباعة والنشر.

[2] الزحيلي، وهبة(2009). التفسير المنير ج2 ط10 ص275. دمشق، سوريا: دار الفكر.

[3] مخلوف، حسنين محمد (سنة النشر غير معروفة). وتفسير وبيان كلمات القرآن ص127. دمشق، سوريا: مكتبة دار الإحسان.

[4] الزحيلي، وهبة(2009). التفسير المنير ج 8 ط10 ص222. دمشق، سوريا: دار الفكر.

[5] ابن كثير، إسماعيل (2001)، قصص الأنبياء ط1 ص146. دمشق، سوريا: دار الفيحاء.

[6] ابن كثير. قصص الأنبياء ص147. مرجع سابق.

المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
وهبة الزحيلي، التفسير المنير، دار الفكر:2009.
ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار الكتب العلمية: 1998.
معن محمود عثمان ضمرة، الحوار في القرآن الكريم، جامعة النجاح الوطنية: 2005.
محمد متولي الشعراوي، قصص الأنبياء، دار القدس: 2006.
عبد الرحمن حبنكة، فقه الدعوة إلى الله، دار القلم:1996.
عبد الرحمن حبنكة، ضوابط المعرفة، دار القلم: 1993.
محمد سعيد رمضان البوطي، أدب الحوار في كتاب الله عز وجل، نحو القمة للطباعة والنشر.
ابن كثير، قصص الأنبياء، دار الفيحاء: 2001.
حسنين محمد مخلوف، تفسير وبيان كلمات القرآن، مكتبة دار الإحسان.

الكوثر من سورة الكوثر

لا يخفى أن القرآن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الباقية إلى يوم القيامة، وأن الله تحدى به أهل الفصاحة والبيان، فحول العرب الأقحاح، فتحداهم أن يأتوا بمثله ثم بعشر سور، ثم بسورة مثله، فما استطاعوا له، ولما علموا عجزهم وأصروا على كفرهم اتهموا النبي بالسحر والجنون!

واليوم يأتي أحدهم فيدعي المطاعن في القرآن، ويكأنه تبين له ما لم يتبين لأفذاذ اللغة قبله، ولإن سألته مسألة في الآجرومية ربما لم يجد جوابا.

وروى الخطابي قال: سمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج قال: سأل رجل بعض العلماء عن قول الله عز وجل: {لا أقسم بهذا البلد} فأخبر أنه لا يقسم ثم أقسم به في قوله: {والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا} فقال له ابن سريج: أي الأمرين أحب إليك؛ أجيبك ثم أقطعك، أو أقطعك ثم أجيبك؟ قال: لا بل اقطعني ثم أجبني. فقال له: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة رجال وبين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزًا، وعليه مطعنًا فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به وأسرعوا بالرد عليه، ولكن القوم علموا وجهلت، فلم ينكروا ما أنكرت، ثم قال له: إن العرب قد تُدخل “لا” في أثناء كلامها وتلغي معناها، كقول الشاعر: في بئر لا حور سرى وما شعر. يريد في بئر حور سرى وما شعر(1).

فكانت هذه المقالة المقتصدة في العبارة، لتفتح للقارئ نافذة على بعض بلاغة القرآن فلا يغتر بكل ناعق، ولأن الوقوف على بلاغة القرآن هو وقوف على موطن الإعجاز فيه، ولا يخفى ما في هذا من رسوخ الإيمان في القلوب، وهو ما نحتاجه في قلوبنا وقلوب أبنائنا اليوم في ظل انتشار الشبهات وتسلط الشهوات.

وسنتناول في هذه المقالة أقصر سور القرآن آيًا وكلمات، ألا وهي سورة الكوثر، فهي على قلة ألفاظها وقصر جملها كاسمها كوثر في المعاني، كوثر في البلاغة.

أولا: في سبب نزولها:
قيل نزلت في العاص بن وائل وقيل في غيره(2)، ذلك أنهم وصفوا النبي ﷺ بالأبتر حين مات ولده عبد الله -أي أنه إذا مات انقطع ذكره- فأنزل الله هذه السورة.(3)

ثانيا: في معاني مفرداتها:
الكوثر: “فَوْعَل من الكثرة وهو المفرط في الكثرة، قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر.”(4)، وفسر الكوثر في السورة بتفاسير عديدة لعل أعمها وأقربها أنه الخير الكثير كما روي عن ابن عباس.(5)

النحر: طريقة الذبح الخاصة بالإبل، “ونحر البعير ينحره نحرا: طعنه في منحَرِه حيث يبدو الحلقوم من أعلى الصدر”(6)

الشانئ: المبغض، قال ابن فارس: “الشِّينُ وَالنُّونُ وَالْهَمْزَةُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْبِغْضَةِ وَالتَّجَنُّبِ لِلشَّيْءِ.”(7)

الأبتر: “البَتْرُ: قَطعُ الذَّنَب ونحوه إذا استأصَلْتَه”(8) ثم “قيل لمن لا عقب له أبتر، على الاستعارة، حيث شبه الولد والأثر الباقي بالذنب”(9)

ثالثا: مختصر تفسير السورة:
إنا آتيناك -أيها الرسول- الخير الكثير، ومنه نهر الكوثر في الجنّة. فأدّ شكر الله على هذه النعمة، فصل له وحده واذبح. إن مبغِضك هو المنقطع أثره، المقطوع من كل خير.

رابعا: في أساليب البلاغة فيها:
1- ذكر فخر الدين الرازي رحمه الله في تفسيره أن هذه السورة بمثابة المقابلة للسورة التي قبلها سورة الماعون، لأن سورة الماعون وصف الله تعالى فيها المنافق بأربعة أمور: البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة، فذكر الله تعالى في هذه السورة في مقابلة البخل “إنا أعطيناك الكوثر” أي الخير الكثير، وفي مقابلة ترك الصلاة “فصل” أي فدم على الصلاة، وفي مقابلة الرياء “لربك” أي لرضاه لا للناس، وفي مقابلة منع الماعون “وانحر” وأراد به سبحانه التصدق بلحوم الأضاحي.(10)

2- استعمال ضمير الجمع الدال على العظمة في قوله “إنا”: ففيه تعظيم الواهب سبحانه والإشعار بالامتنان بعطاء عظيم وتشريف بذلك للموهوب له وهو النبي ﷺ.(11)

3- تصدير السورة بحرف التوكيد الجاري مجرى القسم “إن” وذلك لتحقيق الخبر الآتي والاهتمام به.(12)

4- مجيء الفعل بصيغة الماضي الدالة على تحقق الوقوع وفي ذلك مزيد تأكيد وفيه دلالة على أن المتوقع من عطاء الكريم في حكم الواقع.(13)

5- قوله: (أعطيناك) “لم يقل أعطينا الرسول أو النبي أو العالم أو المطيع، لأنه لو قال ذلك لأشعر أن تلك العطية وقعت معللة بذلك الوصف فلما قال (أعطيناك) علم أن تلك العطية غير معللة بعلة أصلا بل هي محض الاختيار والمشيئة.”(14)

ويدل على ذلك أيضا تقديمه الإعطاء على الأمر بالعبادة، فيدل ذلك كله على تشريف النبي ﷺ وأن الاختيار والعطاء إنما هو بمجرد الفضل والإحسان من الله تعالى من غير موجب.

6- إسناد الفعل إلى المبتدأ “إنا” وفي تبيين هذا يقول الرازي: “أنه بنى الفعل على المبتدأ وذلك يفيد التأكيد والدليل عليه أنه لما ذكرت الاسم المحدث عنه عرف العقل أنه يخبر عنه بأمر فيصير مشتاقا إلى معرفه أنه بماذا يخبر عنه، فإذا ذكر ذلك الخبر قبله قبول العاشق لمعشوقه، فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفي الشبهة..
وذلك كقول الملك العظيم لمن يعده ويضمن له -ولله المثل الأعلى- :أنا أعطيك، أنا أكفيك
وذلك لكون الموعود به عظيما -وهو الكوثر- فعظمه يورث الشك في الوفاء به، فكان إسناده إلى متكفل عظيم يزيل هذا الشك ويدحضه”.(15)

7- حذف موصوف الكوثر وهو أبلغ في العموم لما فيه من عدم التعيين، وفرط الإيهام والشياع والتناول على طريق الاتساع.(16)

8- الإتيان بالصفة التي تدل على المبالغة “الكوثر” وهي كما سبق المفرط في الكثرة، وهي كما فسرها ابن عباس الخير الكثير، ونقل الرازي في معناها 15 قولا(17) منها قول ابن عباس وذكر القرطبي فيها 16 قولا(18) منها ما يختلف مع ما عدده الرازي فيكون مجموعها 23 قولا، وقال صاحب البحر المحيط أن ابن النقيب ذكر في تفسيره 26 قولا(19) ولم أستطع الوقوف عليها، وكلها ترجع إلى معنى الخير الكثير كالنهر في الجنة والحوض وكثرة علماء الأمة وكثرة الاتباع والأشياع والنبوة والمقام المحمود والقرآن والإسلام.

9- تعريف الكوثر بالألف واللام “المعروف بالاستغراق لتكون لما يوصف بها شاملة ولإعطاء معنى الكثرة كاملة”.(20) وفي كل هذا التأكيد وهذه المبالغة تشريف للنبي ولأمته بهذا العطاء الجزيل، وتسلية لقلب النبي ﷺ في ظل ما أصابه من أذى المشركين.

10- استخدام الفاء في قوله: (فصل) التي تفيد التعقيب وعدم التراخي ففيه “التنبيه على أن شكر النعمة يجب على الفور لا على التراخي”.(21)

11- الفاء التي تفيد السببية من جهتين:”أحدهما: جعل الأنعام الكثيرة سببا للقيام بشكر المنعم وعبادته”(22)، “والثاني: سببية ترك المبالاة كأنهم لما قالوا له إنك أبتر فقيل له كما أنعمنا عليك بهذه النعم الكثيرة، فاشتغل أنت بطاعتك ولا تبال بقولهم وهذيانهم”.(23)

12- فن المذهب الكلامي، أو كما ذكره ابن النقيب باسم الاحتجاج النظري، “وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدل عليه بضرب من المعقول”(24)، تستنتج فيه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة، ففي هاتين الآيتين مقدمتان ونتيجة، فلما كان الشكر على مقادير النعم، ولما أمر الله تعالى نبيه بشكر هذه النعمة بالصلاة التي هي قوام الأعمال البدنية، نحر الإبل التي هي سنام الأعمال المالية -وإنما خص الإبل لأنها أعز أموال العرب، وفيه إشارة إلى الانقطاع عن الدنيا ولذاتها-، دل ذلك أن عطية الكوثر تعدل جميع العطيات(25)

13- التعريض بحال المشركين ممن كانت عبادته ونحره لغير الله تعالى، في قوله: (لربك)، أي مخلصا له في صلاتك وذبحك.(26)

14- وضع المظهر موضع المضمر: فلم يقل: فصل لنا وانحر، وإنما أظهر بلفظ الرب وهو نوع من الإطناب في الكلام، “ذلك أن صرف الكلام من المضمر إلى المظهر يوجب نوع عظمة ومهابة، ومنه قول الخلفاء لمن يخاطبونهم: يأمرك أمير المؤمنين، وينهاك أمير المؤمنين.”(27) “فأغنى هذا المعنى عن استعمال صيغة من صيغ الحصر، للدلالة على وجوب إفراد الله عز وجل بالصلاة والنسك.”(28)

15- الالتفات: من ضمير المتكلم في (إنا أعطيناك) إلى ضمير المخاطب في (لربك)، وهي من أمهات أبواب البلاغة، “فلما أتى بمظهر العظمة لتكثير العطاء فتسبب عنه الأمر بما للملك من علو، فوقع الالتفات إلى صفة الإحسان المقتضي للترغيب، والإقبال لما يفيد من تحبيب”(29)، وفي إضافة رب لضمير المخاطب تشريف للنبي وتسلية له بأن الله يرأف به ويربيه.

16- إيجاز الحذف: ذلك أن تقدير الكلام فصل لربك وانحر له “فحذف اللام الأخرى لدلالته عليها بالأولى.”(30)

17- التوكيد الجاري مجرى القسم في قوله: (إن شانئك هو الأبتر).

18- الاستئناف الذي يفيد التعليل: فقوله: (إن شانئك…) استئناف معلل لقوله: (فصل…)، ففيه حث للنبي ودعوة له بالإقبال على الطاعة وعدم الاكتراث لأمر شانئه فهو الأبتر.

19- عدم ذكر اسم الشانئ: وإنما ذلك ليتناول كل من كان في مثل حاله(31)، وفيه تحقير له أيضا.

20- ترك التوجه له بالخطاب، وإنما ذكره بصيغة الغائب، فلم يقل: يا شانئ النبي أنت الأبتر أو ما شابهه، وفي ذلك امتهان له وتحقير لشأنه أيضا.

21- “أن الكفار لما شتموه، فهو تعالى أجاب عنه من غير واسطة، فقال: (إن شانئك هو الأبتر) وهكذا سنة الأحباب، فإن الحبيب إذا سمع من يشتم حبيبه تولى بنفسه جوابه، فههنا تولى الحق سبحانه جوابهم”.(32)

22- قصر القلب المستفاد من ضمير الفصل “هو”: لأن ضمير الفصل أفاد حصر صفة الأبتر في الموصوف شانئ النبي واختصاصه بها، فكأنه يقول: هو الأبتر لا أنت.(33)

23- تعريف الخبر بالألف واللام: “الدالة على حصول هذا الموصوف له بتمامه”.(34)

24- الإتيان بالصفة على أفعل التفضيل بدلا من اسم المفعول(35): فلم يقل مبتور ولكن قال أبتر، ويدل ذلك على مبالغة استحقاق الموصوف لهذه الصفة.

25- أسلوب الحكيم: “وهو تلقي السامع بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أن الأحق غير ما عناه بكلامه… وذلك بصرف مراد القائل عن الأبتر الذي هو عديم الابن الذكر إلى ما هو أجدر بالاعتبار وهو الناقص حظ الخير”(36)

26- الاستعارة: في قوله: (الأبتر) كما سبق، فشبه الذكر الحسن والخير بالعقب.

27- الطباق: في (الكوثر) و(الأبتر) “لأن الكوثر الخير الكثير والأبتر المنقطع عن كل خير”.(37)

28- إيجاز القصر: فعلى قصرها احتوت معاني جمة غزيرة، كما ذكرنا في تفسير الكوثر.

29- السجع(38): في خاتمة الآيات (الكوثر، انحر، الأبتر).

30- عدم التصنع والتكلف: فـ”مع كونها مشحونة بالنكت الجلائل، مكتنزة بالمحاسن غير القلائل” فهي “خالية من تصنع من يتناول التنكيت، وتعمل من يتعاطى بمحاجته التبكيت”.(39)


[إعجاز القرآن](48):1

[تفسير الطبري](697-701/24):2

[أسباب النزول للواحدي](494-495):3

[الكشاف](806/4):4

[البخاري:4966]:5

[لسان العرب](195/5):6

[مقاييس اللغة](217/3):7

[العين](117/8):8

[روح المعاني](247/30):9

[تفسير الرازي](117/32):10

[تفسير الرازي](121/32):11

[تفسير الرازي](122/32):12

[إعجاز سورة الكوثر للزمخشري](57):13

[المرجع12]:14

[الرازي](121-122/32)بتصرف،وانظر[المرجع13]:15

[المرجع13]،وانظر[دقائق التفسير،ابن تيمية](312/5):16

[الرازي](124-128/32):17

[تفسير القرطبي](520-522/22):18

[البحر المحيط](556/10):19

[المرجع13]:20

[الرازي](129/32):21

[مقدمة تفسير ابن النقيب](254)”مطبوع باسم الفوائد المشوق لابن القيم”:22

[الرازي](131/32):23

[مقدمة تفسير ابن النقيب](136):24

[إعراب القرآن،للدرويش](598/10):25

[المرجع22]:26

[المرجع23]:27

[معارج التفكر](658/1):28

[نظم الدرر](290/22):29

[إعجاز سورة الكوثر](58):30

[المرجع22]:31

[الرازي](134/32):32

[التحرير والتنوير](576/30):33

[دقائق التفسير](314/5):34

[المرجع34]:35

[التحرير والتنوير](577/30):36

[التفسير المنير](831/15):37

[المرجع30]:38

[إعجاز سورة الكوثر](60):39

خُذها ولا تخف

كتاب الله عز وجل المنزل على نبيه لا تنفدُ معانيه ولا كنوزه، وإنما يفيض دائماً على من تدبّره وقرأه وألزم نفسه فهم آياته، ولذا قال حبرُ الأمّة رضي الله عنه ابنُ عباس: “إنَّ القرآنَ ذو شُجون وفنون لا تَنقضِي عجائبُه ولا تُبلَغُ غايتُه”.[1]

إلّا أنَّ كتابَ العزيزِ عزيزٌ كمُنزلِه سبحانه وتعالى. {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} ]فصلت: 41[، فما كلُّ من يقرأُ القرآن يُفتَحُ له بابُ الفهمِ والعطاء، وما كلُّ من أراد فهم مرادِ الله عزَّوجل من كتابه أُعطِيَ سُؤلَه، إذ إنَّ العزيزَ لا يرضى إلّا بأعزِّ أوقاتك ورغباتِك حتّى يعطيَك من عزِّه وأنوارِه.

يقول الحقُّ سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ]محمد: 24] كيفَ إذاً بتدبُّر قصص الأنبياء وأحوالهم وما طرأ لهم في دعواتهم من عقباتٍ وامتحانات، فليست قصصُهم وقائع تاريخية كتبها أحدُ المؤرِّخين في مرجعٍ من مراجعِ التاريخ القديم للتسلية، إنّما هي عِبَرٌ ساقها الله لنا في كتابه الحكيم كي نسقطَها على واقعِنا الحيّ ونعملَ بمضمونِها.

ولذا قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}] يوسف: 111[.

وقال تعالى: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120[.

ثمّ ما أحسنَ حديثنا عن أولي العزم من الرسل[2] عليهم السلام الذين جدُّوا في سبيل إعلاء كلمة الله وإنجاح دعوتهم المباركة، ولعلّ سيدنا موسى عليه السلام أحد أكثر الرّسل الذين طرق ذكرُهم وخبرُهم سمْعَنا، فمن قصة قذفه في اليمّ إلى تكليم الخالق سبحانه له، إلى قصة موعده مع السحرة وهزيمته لهم وما جرى له في “مدين”[3]، وإلى ما يقرؤه المسلمون في كل يوم جمعة عن قصته عليه السلام مع سيدنا الخضر وما حوته هذه القصة وهذه السورة المباركة من دروس جمّة.

إلا أنّ صدى قصة بدء “التكليف” بالرسالة يبقى متردِّداً في أذهان المسلمين على اختلاف أعمارهم وأحوالهم، فما منّا أحدٌ إلا قد سمع بقصته عليه السلام وما أراه ربُّه سبحانه من الآيات الكبرى والمعجزات المبهرة في اللقاء الأول.

عصا موسى
يقول سبحانه وتعالى في ذكر قصة سيدنا موسى عليه السلام: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى{17} قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى{18} قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى{19} فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى{20} قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى{21} وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى{22} لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى{23}}] طه: 17-23.[

وعلاوة على ما تحويه هذه الآيات من إخبارٍ بقصة سيدنا موسى عليه السلام وما أيده به اللهُ عزّ وجل من آيات كبرى لنصرته في دعوتِه، فهي تضم بين سطورها دروساً تربويّة عظيمة أدّب اللهُ بها نبيه عليه السلام وعلّمه بها حقيقة الدنيا ومتاعها، تهييئاً له لمهمته الدعوية التي وُجِّهَت لرأس الإفساد في الأرض وقتَها (فرعون).

فبعد هولِ اللقاء بين موسى (الإنسان) والرب سبحانه وتعالى، خاطب اللهُ عزّ وجل نبيَّه بخطابٍ وُديّ لتخفيف هول الموقف على سيدنا موسى فقال له {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} فما كان من سيدنا موسى إلا أن أجاب ربَّه {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}.

فما هذه العصا إلا (دنيا) موسى النبي عليه السلام، فهي تعينه في سيره وفي عمله وفي حاجاته المختلفة، فأراد الحقُّ سبحانه أن يبينَ لمصطفاه حقيقة هذه “الدنيا” التي بين يديه فأتاه الأمرُ مباشرةً: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى}، فما كان من العبد إلّا أن يطيعَ ربَّه: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} وهنا أدرك سيدنا موسى  عليه السلام مراد ربِّه في تعريفه حقيقة الدنيا ومتاعها فما هي إلا {حَيَّةٌ تَسْعَى}.

وحقيقةً، كلُّ ما سوى الله فالالتفات إليه والانشغال به عن اللهِ كالحيّة المهلكة لك، فهو ما أراد الله أن يريَه عبدَه الذي هو بصدد الاصطفاء لتبليغ رسالة الفطرة والتوحيد، وانت خبيرٌ أنَّ الدعوة إلى الله لا تتمّ إلا باصطفاءٍ من الله وإذن. قال تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}  ]الأحزاب: 46[.

الفهم الخاطئ لمعنى الزُّهد
فهل أمر اللهَ عزّ وجل رسوله عليه السلام بأن يتجرد من الدنيا كلها بمتاعها وبما فيها وأن يملأ وقته بذكر الله وعبادته فقط بعيداً عن الدنيا؟

إنّه لمعيبٌ أن يفهمَ القارئُ القصةَ على هذا النحو، ولذا تابع الله كلامه مبيّناً: {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى}، فما إنْ عرِف النبيُّ الكريم حقيقة الدنيا وأنها حيّةٌ مهلكة تنفث السم فيمن تعلّق بها وكانت في قلبه حتّى أمره الله عزّ وجل أن يأخذ دنياه مرةً أخرى، لكنْ هذه المرّة {وَلا تَخَفْ}.

فإنّ الإنسان لا يُخشى عليه من الدُّنيا إذا عرف حقيقتَها الخبيثة المخبّأة خلف زينتها، وبذا تغدو الدنيا في يدِ الإنسان لا في قلبِه فما الدنيا ومتاعها محرمة على الإنسان المسلم، على العكس تماماً إنما الدنيا قد جُعِلَتْ للإنسان المسلم، ألم تسمعْ قولَه تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ]الأعراف: 32[.

الجمع بين الدِّين والدُّنيا
إذن، ما يضرُّ الشاب المسلم أن يكون متعلّماً من علوم الدنيا (الرياضيات والفيزياء والجغرافيا والطب)؟ ألم يأمر النبيُّ الكريم السيدةَ الشفاءَ –رضي الله عنها- أن تعلمَ زوجَه حفصة من علوم الطب والكتابة؟[4]

وما يضرُّه أن يكون ذا مالٍ كثير وقد علم أن ثروة عبد الرحمن بن عوف –رضي الله عنه- قد بلغت ما يساوي 1088 مليون دولار، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة؟[5]

أو ما يعيبُ الشاب المسلم أن يتعلم اللغات والثقافات وقد سمع أمر النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود فتعلمها في نصف شهر؟ [6]

وما يعيبه أن يروِّحَ عن نفسه ساعة من النهار، وقد قرأ عن نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أنه كان يسابق زوجه عائشة ويلاعبها ضاحكاً؟ [7]

ففي حين تقرأ قوله سبحانه وتعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور} ]الحديد: 20[، تسمع أمرَه لعباده بأخذ الأسباب الدنيوية من علوم ومال وقوة عسكرية: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} ]الأنفال: 60[.

وأنت خبيرٌ أن القوة اليوم في عصرنا هي: المال والعلوم على اختلاف أنواعها (اقتصادية، طبيعية، عسكرية).

الدُّنيا سبيلٌ لنصرةِ المسلم
ثم إن قصة عصا موسى لم تقِفْ هنا، فما إن جُمِعَ السحرةُ لميقاتِ يومٍ معلوم ووقعت المعركة التاريخية بين السحرة وبين النبي الكريم حتى عادت “عصا” موسى إلى واجهة القصة!

فجاء الأمرُ من البارئ عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُون} ]الأعراف: 117[

إنَّ اللهَ عزّ وجل أمر نبيه في الموقفين بإلقاء عصاه، فحينما كان غير مدرك لحقيقة دنياه التي بين يديه خشي منها وولى هارباً، {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} ]النمل: 10[، ثمّ ما إن فهم حقيقة دنياه وأخرجها من قلبه وسخرها في سبيل دعوته إلى الله عزوجل حتى صارت “عصاه” سبباً لفوزه وهزيمتِه لسحرةِ فرعون.

{قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ، وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ} ]طه: 68-69[، فالدنيا (العصا) هي ذاتُها لكنَّ موقف القلب منها مختلف.

إنَّ هذه المعاني العميقة والدروس المنيرة قد علّمها البارئُ سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم، كيف لا وقد نزلت هذه الآيات الكريمات على قلبه الشريف!

ثم ما لبث نبيُّنا الكريم أن علّمها لأصحابه -رضوان الله عليهم- فما كان صحابة نبينا بعيدين عن الدنيا، جهلاء بعلومها أو فقراء رثةً ثيابهم فارغة عقولهم إلا من العبادة ورعي الأغنام كما يُصوَّرُ لنا اليوم، بل على العكس تماماً، فها هو “القارئ المُقرِئ” سيدنا عبد الله بن مسعود كان أنيقا يُعرَف بريحة طيبه وعطره بين الصحابة [8]، وها هو سيدنا خالد بن الوليد الذي كان سيفا للإسلام وقائداً عسكريّاً لا يُبارَى بشهادةِ العدوِّ والصّديق[9]، ومعلومٌ لديك أنّ صحابة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كانوا زعماء الإعلام أو (الميديا) وقتَها [10].

أما عن المال والتجارة، فحدِّث ولا حرج، فحدِّث مثلاً عن الصحابة المبشرين بالجنة الذين كان معظمهم ذوو ثرواتٍ هائلة تقدَّر بملايين ومليارات الدولارات كعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم.

ربانيَّة لا رهبانيَّة
فما إسلامُنا دينُ فقرٍ وبُعدٍ عن الدنيا وأهلها أو عزوفٍ عن الزواج ولزومٍ لمحراب المسجد، إنما هو ترشيدٌ لهذه الدنيا التي بين أيدينا وسعيٌ لتسخيرِها خدمةً للبشرية وفي سبيل إعلاء كلمة الله عزوجل ودعوة الناس إلى سبيل الحق ودين الفطرة وعندها تسعد البشرية جمعاء بدين الله في الدنيا والآخرة، فهذا النوع من الرهبنة غير مقبول في دينِنا الربانيّ.

عَنْ أنَس بِنْ مالِك رضي الله عنه قال: “إنَّ رهطًا من الصحابَةِ ذهبوا إلى بيوتِ النَّبِيِّ يسألونَ أزواجَهُ عن عبادتِهِ فلمَّا أُخبِرُوا بها كأنَّهُم تقالُّوها أي : اعتبروها قليلةً ثُمَّ قالوا : أينَ نحنُ مِن رسولِ اللَّهِ و قد غَفرَ اللَّهُ له ما تقدَّمَ من ذنبِهِ و ما تأخَّرَ ؟ فقال أحدُهُم : أما أنا فأصومُ الدَّهرَ فلا أفطرُ و قال الثَّاني : و أنا أقومُ اللَّيلِ فلا أنامُ و قال الثَّالثُ : و أنا أعتَزِلُ النِّساءَ فلمَّا بلغ ذلك النَّبيَّ بيَّنَ لهم خطأَهم و عِوَجَ طريقِهِم و قال لهم : إنَّما أنا أعلمُكُم باللَّهِ و أخشاكم له و لكنِّي أقومُ و أنامُ وأصومُ و أفطِرُ و أتزوَّجُ النِّساءَ فمَن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ منِّي”[11].

 واللهُ تعالى أعلم.
هذا المقال هو الفائز بالجائزة الرابعة في مسابقة “باحثو المستقبل”


الهوامش

[1]  أخرجه الطبري في مقدمة تفسيره {70،67} عن ابن مسعود بنحوه

[2]  هم خمسةٌ، وهم أكثر الأنبياء معاناةً مع أقوامهم وصبراً على أذاهم، وما تبوّؤا تلك الدّرجة وما استحقوا تلك الصّفة إلا بسبب ما قدّموه وما بذلوه وما تحمّلوه من أقوامهم من الأذى والتعذيب والصدِّ عن دين الله، ومنعهم من إيصال دعوتهم للناس، وتبليغها كما أمرهم الله سبحانه وتعالى، وقد ذكرهم العلماء بالتّفصيل، وبيّنوا مراتبهم وهم: خاتم النّبيين سيّدنا محمّد عليه الصّلاة والسّلام، وأنبياء الله نوح، وموسى، وإبراهيم، وعيسى عليهم أفضل الصّلاة والتّسليم.

[3]  ]القصص: )22-28[ (

  [4]  سنن أبي داود {ج4/342}

[5]      قال الحافظ ابن حجر في {الفتح}: {حميع تركة عبدالرحمن بن عوف ثلاثة آلاف ألف ومئتي ألف {3،200،000} }، وهو ما يعادل 1088  مليون دولار.

  [6]   انظر الإصابة في تمييز الصحابة {ج1/561}

 [7] انظر كتاب السنن الكبرى للنسائي حديث {7711}

  8 نجوم في فلك النبوة ص 82

[9]  انظر كتاب {الفتوح العربية الكبرى} للمستشرق والمؤرخ البريطاني هيو كينيدي

[10]  نقصد تزعمهم الشعر العربي وبراعتهم فيه والذي كان الوسيلة الإعلامية وقتها، ومن شعراء الصحابة البارزين: حسان بن ثابت- كعب بن مالك-      عبد الله بن رواحة رضوان الله عليهم 

[11]  انظر البخاري {1975}، ومسلم {1159}

تدبّر آيات الدّعاء في الفاتحة

يعاتب الله تعالى عباده عتاباً يرتعد له الجنان على تولّيهم عن تدبّر هدي البيان الّذي فيه صلاحهم ونجاتهم، فيقول في محكم تنزيله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[1]. وممّا لا شكّ فيه أنّ قراءة سورة كسورة الفاتحة سُمّيت بأمّ القرآن[2] سبعة عشر مرّة في اليوم واللّيلة دليل على أهمّيتها البالغة بما فيها من فيض لا ينضب، وكنوز لا تفنى، وأنّ فيها صلاح الدّنيا والآخرة.

يقول د. ناصر العمر في فضل سورة الفاتحة: “وفيها تحقيقُ التَّوجُّه إلى اللهِ تعالى بكمال العبوديَّة له وحده؛ بإثبات استحقاقِه لها؛ لتفرُّده بالرُّبوبيَّة؛ والإقرار له بالألوهيَّة، وسؤاله الهدايةَ إلى طريق المُنعَم عليهم، القائمينَ له بالعبوديَّة التَّامَّة، ومجانبة طريق المغضوب عليهم والضَّالِّين”[3].

فالأولى بنا أن نجاهد أنفسنا على تدبّر ما جاءت به هذه الآيات العظيمة الّتي اختُصّت بها أمّة خير البشر سيّدنا محمد ﷺ من مقاصد وآداب فيها صلاح أمرنا، وشفاء صدورنا، وتحقيق كمال عبوديّتنا لله تعالى[4].

معنى التّدبّر

التّدبّر في لسان العرب: هو التّأمّل والتّفكّر على مهل، والنّظر في العاقبة[5]، والمراد بتدبّر آيات الدّعاء هو ما أورده الشيخ عبد الرّحمن حبنّكة: “والتّدبّر هو التفكّر الشّامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة”[6]. وأساس التّدبّر هو الإخلاص والسّعي وراء الصّواب، وقد يطلق التّدبّر على العمل كما أورد د. خالد اللّاحم: “قد يطلق التّدبّر على العمل لأنّه ثمرته، وللتلازم القويّ بينهما كما في قول عليّ بن أبي طالب: “يا حملة القرآن، أو يا حملة العلم؛ اعملوا به فإنما العالم من عمل بما عَلِم”[7]. وقال الحسن البصريّ: “وما تدبّر آياته إلّا باتّباعه”[8].

قواعد التدبّر

لتدبّر آيات الدّعاء في سورة الفاتحة علينا أن ننظر إلى السّورة بشكل كامل، وأن نتفكر في أوجه العبر والمقاصد التي ترمي إليها في بدايتها، وجوهرها ونهايتها، ويجب علينا مراجعة ما ذكره أئمة الإسلام من تفاسير مختلفة ومفاتح وقواعد تعيننا على تدبّر هذه الآيات العظيمة.

قسّم علماء القرآن قواعد التّدبّر إلى قواعد تدبّر قلبي، وقواعد تدبّر عقليّ.

التّدبّر القلبي

من قواعد التّدبّر القلبيّ لآيات الدّعاء في سورة الفاتحة التّفاعل مع الآيات وتحريك القلب والمشاعر، وسؤال الله سبحانه أن يجعلنا من القوم المهتدين عند ذكرهم والاستعاذة به عند ذكر أحوال القوم الضّالّين[9].

روي عن سيّدنا محمّد ﷺ في حديث حذيفة بن اليمان أنّه: “كان يقرأ القرآن مترسّلاً: إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ”[10]. قال د. اللّاحم في التّدبّر القلبيّ لآيات الدعاء في سورة الفاتحة: “وهو التّفاعل مع آيات الهداية إلى الصّراط المستقيم، وهو صراط الّذين أنعم الله عليهم أن فتح لهم أبواب كتابه، ويسّر لهم العيش في رحابه، فعندما تقرأ الفاتحة فأنت تدعو الله تعالى أن يرزقك حبّ كتابه العظيم ليحصل لك بذلك الغوص في أعماقه والنّجاة به في الحياة الدّنيا والآخرة”[11].

وقال إبراهيم السّكران: “فإذا نطقت بجملة {إِيَّاْكَ نَعْبُدُ} تهاوت أمام ناظريك كلّ المألوهات من دون الله.. {إِيَّاْكَ نَعْبُدُ} هي جوهر مشروع صلاحك وقاعدة نهضتك ومعيار تقدّمك، وخطة تنميتك”[12].

وتدبّر آيات الهداية في الفاتحة فيه استذكار لواحد من أهداف قراءة القرآن الكريم وهو مناجاة الله سبحانه، والاستعانة به على أن يرشدنا الطّريق السّويّ[13]، وفيها تفكّر في حال أولئك القوم الصّالحين الّذين ضرب الله مثلهم في أمّ الكتاب، والاستعاذة بالله تعالى ممن سَلك مسلك من سمعوا القول فلم يعملوا به فغضب الله عليهم، ومن تنكّبوا عن السّير على صراطه المرشد فكانوا من القوم الضّالّين.

التّدبر العقلي

من قواعد التّدبّر العقلي: النّظر فيما ورد من أسباب نزول[14]، والتفكّر في التّفاسير المختلفة[15]، واستخلاص رسائل القرآن الكريم[16].

النّظر فيما ورد من أسباب نزول:
أورد السّيوطيّ أنّ: “الأكثرون ذهبوا على أنّ سورة الفاتحة مكّيّة، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}[17][18]. واستدلّ من قال إنّها نزلت بالمدينة بما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف، وأبو سعيد بن الأعرابي في معجمه، والطّبراني في الأوسط من طريق مجاهد بن أبي هريرة: “رنّ إبليس حين أنزلت فاتحة الكتاب، وأنزلت بالمدينة”.

وذهب بعضهم إلى أنّها نزلت مرّتين مرّة بمكّة، ومرّة بالمدينة، مبالغةً في تشريفها[19]، وأنّها نزلت من تحت كنز العرش[20].

وعلى القول الأول، فإن سبب نزول سورة الفاتحة يعود إلى حادثة وقعت بين رسول ﷺ وورقة بن نوفل، فيقول أبو ميسرة إن “رسول الله ﷺ كان إذا برز سمع منادياً يناديه: يا محمّد، فإذا سمع الصّوت انطلق هارباً، فقال له ورقة بن نوفل: إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك، قال: فلما برز سمع النّداء: يا محمّد، فقال: لبّيك، قال: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ثمّ قال: قل: الحمد لله ربّ العالمين، الرّحمن الرّحيم، مالك يوم الدّين، حتّى فرغ من فاتحة الكتاب”[21].

جاءت سورة الفاتحة على الهيئة المتعارف عليها في السّور المكية، إذ ذكرت أهمّ الأسس في العقيدة الإسلامية وطرق تأسيسها في نفوس المسلمين، وفيها دعوة إلى توحيد الله، والاستعانة به على الثّبات في خوض رحلة الصّراط المستقيم، وأنّها ضمّت عنصرين أساسيّين من عناصر الرّؤيا القرآنية، وهي إثبات أنّك مكلّف بالخلافة، وأنّ لديك تخويلاً منه عزّ وجلّ للعمل، ومهما كان ومهما حصل ستظلّ تثني عليه، لأنّك تعلم أنّه أعطاك كلّ مقوّمات الاستخلاف في الأرض والتّغيير وأسبابهما[22].

التفكّر في التّفاسير المختلفة
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}:
ذكر ابن كثير أنّ العبادة في اللّغة مأخوذة من الذّلّة. وفي الشّرع هي ما يجمع كمال المحبّة والخضوع والخوف. وقُدّم المفعول وكُرّر للاهتمام والحصر، أي لا نعبد إلّا إيّاك، ولا نتوكل إلّا عليك، وهذا هو كمال الطّاعة[23].

ويقول ابن عاشور في تفسير آيات الدّعاء في سورة الفاتحة: “نبّه الله تعالى قراء كتابه وفاتحي مصحفه إلى أصول التّزكيّة النفسيّة بما لقّنهم أن يبتدئوا بالمناجاة التي تضمّنتها سورة الفاتحة من قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلى آخر السّورة. فإنّها تضمّنت أصولاً عظيمة: أوّلها التّخلية عن التّعطيل والشّرك بما تضمّنته {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، الثّاني: التّخلّي عن خواطر الاستغناء عنه بالتّبرّؤ من الحول والقوّة تجاه عظمته بما تضمّنته {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، الثّالث: الرّغبة في التّحلّي بالرّشد والاهتداء بما تضمّنته {اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، الرّابع: الرّغبة في التّحلّي بالأسوة الحسنة بما تضمّنته {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، الخامس: التّهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموّه بصورة الحق، وهو المسمّى بالضّلال، لأنّ الضّلال خطأ الطّريق المقصود بما تضمّنته {وَلاَ الضَّالِّينَ}. وقد فسّر الصّوفيّة العبادة بأنّها فعل ما يرضي الرّب، والعبوديّة بالرّضا بما يفعل الرّب”[24].

وذكر ابن القيم في الاستعانة: “والاستعانة تجمع أصلين: الثّقة بالله والاعتماد عليه”[25]. وقال ابن تيمية: “تأمّلت أنفع الدّعاء فإذا هو في سؤال الله العون على مرضاة الله، ثمّ رأيته في الفاتحة، في {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}”.

{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
وهو الدّعاء الذي اختاره الله لنا، أن نسأله الإرشاد والتوفيق في متابعة نهجه ونهج رسوله –وهو الصّراط المستقيم– الّذي لا اعوجاج فيه، وهو دين الله الّذي لا يقبل من العباد غيره. وبكلمة المستقيم إيماءة إلى أنّ الإسلام واضح الحجّة، قويم المحجة، لا يهوى أهله إلى هوة الضّلالة[26].

وللهداية أنواع منها: توفيق الله. وهي على نوعين: هداية عامّة: وهي هداية الخلق لما ينفعهم ويصلح شؤونهم. وهداية خاصّة: وهي الهداية إلى الحقّ، إلى الإسلام والإيمان[27]. ومن الصّفات التي تقودك إلى الهداية: الاعتصام بحبل الله، وطاعة الله ورسوله واتّباع سنّته وهديه، والصّبر واليقين [28].

وإنّ المرء بحاجة إلى هذه الهداية في جميع شؤونه كلّها، حتّى في الدّوام على ماهو متلبّس به من الخير للوقاية من التّقصير فيه أو الزّيغ عنه[29].

{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}:
هدي الّذين أفيضت عليهم النّعم كاملة، وهم خيار الأمم السابقة من الرّسل والأنبياء[30] والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين[31]، لا طريق من علموا الحقّ ولم يعملوا به وجحدوه، فغضب الله عليهم، وهم اليهود، ومن سار على منهاجهم وطريقهم. ولا طريق الضّالين الذين لا علم عندهم، يعملون بلا علم، يعبدون الله على جهل، وهم النّصارى، ومن سار على شاكلتهم[32].

وهناك قوم حرمهم الله تعالى من الهداية والعياذ بالله، فهم من اتّصفوا بصفات منها: الكفر، الظّلم، الفسق، الخيانة، الكذب، والإسراف[33]. وهناك بعض الأمور والعبادات التي تعين على تجاوز الصّراط نذكر منها: ملازمة بيوت الله تعالى، مسامحة النّادم، قضاء حوائج المسلمين، والشّفاعة لهم[34].

استخلاص الرسائل
الفاتحة تعني: الفتح، وهو إزالة حاجز عن مكان مقصودٌ وُلُوجُه[35]، فكانت استفتاحيّة للغوص في كنوز كتاب الله. واستهلال الفاتحة بحمد الله سبحانه والثناء عليه كما أورد الزّركشي رحمه الله هو سرّ من أسرار الألوهيّة[36]، ويمثّل الكلّية الأولى في التّصور الإسلاميّ، ويقرّر حقيقة العلاقة بين العبد وربّه[37].

يعلّمنا الله سبحانه في سورة الفاتحة آداب الدّعاء وأصول مخاطبة العظماء بمدحه بداية والثّناء عليه، وذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، ثمّ إقرار مقام عبوديّتنا له وهو أشرف مقامات كمال المحبة والخضوع والخوف، ثم سؤاله التّوفيق والإلهام إلى طريق الحقّ والثّبات عليه، لأنّنا دائماً في حاجة واضطرار إلى مقصود هذا الدّعاء، وهو جاء بعد تمجيد الله سبحانه والتوسّل إليه بعبوديتنا له، فالدّاعي به حقيق بالإجابة[38].

وفي آيات الدّعاء في سورة الفاتحة معانٍ جليلة، فيها إقرار بإخلاص العبادة لله تعالى، ورفض الاستعانة إلّا به، وسؤاله مجانبة طريق المغضوب عليهم والضّالّين.

وبعد ذكر فضائل ودلالات آيات الدّعاء في سورة الفاتحة، حريّ بنا أن نجتهد في تدبّر مقاصدها خير اجتهاد، وبأن ننتهج منهج من أنعم الله عليهم بالفوز بخيريّ الدّنيا والآخرة.

قال رسول الله ﷺ: “اقرَؤوا، يقولُ العبدُ {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: حمدني عبدي. يقولُ العبدُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: أثنى عليَّ عبدي. يقولُ العبدُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: مجَّدني عبدي. يقولُ العبدُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَهذِهِ الآيةُ بيني وبينَ عبدي ولعبدي ما سأل. يقولُ العبدُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَهؤلاءِ لعبدي ولعبدي ما سألَ”[39].

هذا المقال هو الفائز بالجائزة الثالثة في مسابقة “باحثو المستقبل


الهوامش

[1] سورة محمد، 24.

[2] كتاب أحكام القرآن، الإمام الشّافعي، ص74.

[3] كتاب تدبّر سورة الفاتحة، ناصر العمر، ص 14.

[4] كتاب تدبّر سورة الفاتحة، مرجع سابق، ص21.

[5] معجم المعاني الجامع.

[6] كتاب قواعد التّدبّر الأمثل لكتاب الله، عبد الرّحمن حسن حبنّكة الميدانيّ، ص10.

[7] كتاب مفاتح تدبّر القرآن والنّجاح في الحياة، خالد اللّاحم، ص21.

[8] مصنف عبد الرزاق: (5984).

[9] مفاتح التّدبّر، مرجع سابق، محاضرة 1.

[10] رواه مسلم.

[11] كتاب مفاتح تدبّر القرآن والنجاح في الحياة، مرجع سابق، ص30.

[12] كتاب الطّريق إلى القرآن، إبراهيم السّكران، ص61.

[13] كتاب مفاتح تدبّر القرآن والّنجاح في الحياة، مرجع سابق، ص48.

[14] كتاب قواعد التّدبّر الأمثل لكتاب الله، مرجع سابق، ص96.

[15] مفاتح التّدبّر، فاضل سليمان، محاضرة 2.

[16] مفاتح التّدبّر، مرجع سابق، محاضرة 4.

[17] سورة الحجر، 87، مكّيّة.

[18] كتاب الإتقان في علوم القرآن، الإمام السّيوطيّ، ص60.

[19] كتاب تنبيه الغافلين، أبو اللّيث السّمرقندي، ص318.

[20] كتاب الإتقان في علوم القرآن، مرجع سابق، ص60.

[21] كتاب العجاب في بيان الأسباب، ابن حجر، ص224.

[22] سلسلة كيمياء الصّلاة، عالم جديد ممكن، أحمد خيري العمري، ص39.

[23] مختصر تفسير ابن كثير، ص23.

[24] تفسير التّحرير والتّنوير، الطّاهر بن عاشور، ص152.

[25] كتاب مدارج السالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، ابن القيّم، ص13.

[26] تفسير التحرير والتّنوير، مرجع سابق، ص200.

[27] كتاب تأمّلات في سورة الفاتحة، عبد الله بصفر، ص91.

[28] كتاب تأمّلات في سورة الفاتحة، مرجع سابق، ص 98.

[29] تفسير التّحرير والتّنوير، مرجع سابق، ص191.

[30] تفسير التّحرير والتّنوير، مرجع سابق، ص199.

[31] مختصر تفسير ابن كثير، مرجع سابق، ص24.

[32] كتاب تدبّر سورة الفاتحة، مرجع سابق، ص59.

[33] كتاب تأمّلات في سورة الفاتحة، مرجع سابق، ص96.

[34] كتاب تأمّلات في سورة الفاتحة، مرجع سابق، ص109.

[35] تفسير التّحرير والتّنوير، مرجع سابق، ص130.

[36] كتاب البرهان في علوم القرآن، الإمام الزّركشيّ، ص118.

[37] كتاب في ظلال القرآن، سيّد قطب، ص16.

[38] كتاب تقريب مدارج السالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، مرجع سابق، ص25.

[39] صحيح النّسائي.

فضل الداعية وآدابه في القرآن

الحمد لله الذي خصَّنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة والسلام على صاحب الوجه الأزهر، سيدنا محمد الزَّكِيِّ الأطهر.

نَعَمْ، نِعَمُ الـمُقَفَّى ليس تُحصى        وتلخيص المقالة فيه أجدرْ

لأن الأُفْــق مهما قُلــتُ فيـه       من الزهر الدراري، فهي أكثَرْ

وفضلُ البحر لم يُدرِكهُ وصف         وَعَدُّ الموجِ مِنْهُ ليس يُحصَرْ[1]

وبعد، فإن الله سبحانه وتعالى خَصَّ هذه الأمة بخصائص تميزها عن سائر الأمم، فخَصَّنا تعالى بما شرَّف الله به المرسلين، وبما هو سبب رئيس لحفظ الدين، ألا وهو الدعوة إلى الله رب العالمين، وهي -بعد الأنبياء- وظيفة العلماء والمصلحين، وأحسن الأقوال إلى السميع العليم، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

أولا: تعريف الدعوة إلى الله

عرَّفها الشيخ محمد أبو الفتح البَيَانُوني بأنها: “تبليغ الإسلام للناس، وتعليمه إياهم، وتطبيقه في واقع الحياة”[2].

وجمع الشيخ في كتابه “المدخل إلى علم الدعوة” مجموعةً من التعاريف، اختار بعدها هذا التعريف ودلَّل على رجاحته وأَسْهَب، فأُحِيلُكم عليه خشية الإطالة[3].

ثانيًا: حكم الدعوة إلى الله

أ-في حق الأنبياء: فرض عين؛ لقوله تعالى: )يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ( [المائدة: 67].

ب-في حق غيرهم: فرض كفاية؛ لقوله تعالى: )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ( [آل عمران: 104]، “فقَد حَوَتْ هَذِهِ الْآيةُ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: وجوب الْأمْرِ بالمعروف والنهي عَن الْمُنْكَرِ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ إذَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ”[4].

وهي آكد في الوجوب الكفائي في حق العلماء لقوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ( [البقرة: 159، 160]، “وهذه الآيةُ وإن كانت نازلةً في أهل الكتاب، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله”[5]، ولكن إن ترتَّبَ على العالِم ضرر لا يستطيع تحمله، فعندئذ يجوز له أن يترك الدعوة لقوله تعالى: )لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا( [البقرة: 286].

ثالثًا: مكانة وفضل الداعية

أ-الداعي في أعلى المراتب عند الله، لقوله تعالى: )وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ( [فصلت: 33].

ب-الدعوة وظيفةُ أشرف الخلق وأنبلهم، الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: )يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا( [الأحزاب: 45، 46].

ج-القيام بالدعوة علامة على الإيمان، بل هي الفارق بين الإيمان والنفاق، قال تعالى: )الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ( [التوبة: 67] ثم قال بعد ذلك: )وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ( [التوبة: 71] قال القُرطُبي رحمه الله: “فَجَعَلَ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَخَصَّ أَوْصَافِ الْمُؤْمِنِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ”[6]

د-الداعي من خِيار الناس، لقوله تعالى: )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ( [آل عمران: 110] “فهذه الآية الكريمة أفادت معنيين: الأول: خَيرِيَّةُ هذه الأمة، والثاني: أنها حازت هذه الخيريَّة لقيامها بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”[7]، وفي الأثر: “قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ r وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الناس خير؟ قال: «خَيْرُ النَّاسِ أَقْرَؤُهُمْ وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ، وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ»”[8].

رابعًا: شروط وأخلاق وآداب الداعية

أ-الإخلاص لله
وهو أن تجعل دعوتك لله، لا لأمر من أمور الدنيا، فهكذا كانت دعوةُ الأنبياءِ عليهم السلام، يقول تعالى على لسان سيدنا هود عليه السلام: )يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ( [هود: 51]، وقال تعالى على لسان ذلك الرجل الصالح: )اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ( [يس: 21]، “فهم ليسوا يَدْعُون الخَلق طَمَعًا فيما يُصِيبُهم منهم من الأموال، وإنما يَدْعُون نصحا لهم، وتحصيلا لمصالحهم”[9]، ولسانُ حالِ كلِّ واحدٍ منهم: )إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ( [هود: 88].

ب-العلم
لقوله تعالى: )قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي( [يوسف: 108]؛ “أي: على علم ويقين”[10].

“وقد أمر الله به وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: )فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ( [محمد: 19]، فدل ذلك على أن مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وأن العلم شرطٌ في صحة القول والعمل”[11].

قال ابن تيمية رحمه الله: “فَلَا بُدَّ من هَذِه الثَّلَاثَة: العلمُ، والرِّفقُ، وَالصَّبْرُ؛ العلمُ قبل الْأَمر وَالنَّهْي، والرِّفقُ مَعَه، وَالصَّبْرُ بعده، وإن كَانَ كلٌ من الثَّلَاثَة لَا بُدَّ أن يكون مُسْتَصْحَبًا فِي هَذِه الأحوال”[12].

وهنا يجب التنويه على أن “مَنْ عَلِمَ مسألةً وجَهِلَ أخرى فهو عالمٌ بالأولى جاهلٌ بالثانية، وبالتالي يتوفر فيه شرط وجوب الدعوة إلى ما عَلِم دون ما جَهِل، ولا خلاف أن من جَهِل شيئاً أو جَهِل حكمه أنه لا يدعو إليه، لأن العلم بصحة ما يدعو إليه الداعي شرط لصحة الدعوة. وعلى هذا فكل مسلم يدعو إلى الله بالقَدْر الذي يعلمه”[13].

ج-العمل بما يدعو إليه
قال تعالى على لسان سيدنا شعيب عليه السلام: )وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ( [هود: 88]، “أي: ما أريد أن أنهاكم عن شيء ثم أرتَكِبه”[14]

وقال تعالى: )وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ( [فصلت: 33]، “أي: هو فِي نَفْسِهِ مُهْتَدٍ بِمَا يَقُولُهُ، فَنَفْعُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وليس هو مِنَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَأْتُونَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَأْتُونَهُ، بَلْ يَأْتَمِرُ بِالْخَيْرِ وَيَتْرُكُ الشَّرَّ وَيَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى”[15].

وهذا الشرطُ ضروريٌ؛ لأن الناس تقتدي بالأعمال أكثر من الأقوال “ومما يدل على ذلك أن البخاري بوَّب بابًا قال فيه: (باب الاقتداء بأفعال النبي r)، ثم ساقَ الحديث: اتَّخَذَ النَّبِيُّ r خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ r: «إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ»، فَنَبَذَهُ، وَقَالَ: «إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا»، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ.

قال ابن بطال: (فدَلَّ ذلك على أن الفعل أبلغ من القول)”[16]

وقد وبَّخ الله تعالى بني إسرائيل لأنهم يأمُرون بالبر ولا يفعلونه، وذلك في قوله تعالى: )أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ( [البقرة: 44]، يقول السعدي رحمه الله: “وهذه الآية وإن كانت نزلت في سببِ بني إسرائيل، فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى: )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ(، وليس في الآية أنَّ الإنسان إذا لم يَقُم بما أُمِرَ به أنه يَتْرُكُ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمرُ غيرِه ونهيُه، وأمرُ نفسِه ونهيُها، فَـتَرْكُ أَحَدِهِما، لا يكون رخصةً في ترك الآخر”[17].

“وَقَالَ سَعِيدُ بْنَ جُبَيْرٍ: لَوْ كَانَ الْمَرْءُ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ. قَالَ مَالِكٌ: وَصَدَقَ، مَنْ ذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شيء!”[18]

د-الصبر
لقوله تعالى: )يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ( [لقمان: 17]، قال ابن كثير رحمه الله: “عَلِمَ أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ مِنَ النَّاسِ أَذًى، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ. وَقَوْلُهُ تعالى: )إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ( أَيْ: إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى أَذَى النَّاسِ لَمِنْ عَزَمِ الْأُمُورِ”[19]

“إن الصبر للداعي أشد ضرورة له من غيره، لأنه يعمل في مَيْدَانَين؛ ميدانُ نفسه، يجاهدها ويحمِلُها على الطاعة ويمنعها من المعصية، وميدانُ خارج نفسه، وهو ميدان الدعوة إلى الله، ومخاطبةِ الناس، فيحتاج إلى قدْرٍ كبير من الصبر في الميدانَيْن، حتى يستطيع تجاوز العقبات وتحمل الأذى، فإن فَقَدَ الصبر قَعَدَ أو انسحب من الميدان وحَقَّ عليه الحساب وفاته الثواب”[20]

ه-و-الحكمة والموعظة الحسنة
لقوله تعالى: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( [النحل: 125]، “جعل الله سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخَلق؛ فالمستجيبُ القابلُ الذكيُّ الذي لا يعاند الحق ولا يَأبَاه: يُدعى بطريق الحكمة؛ “يعني بالدلائل القطعية اليقينية حتى يعلم الأشياء بحقائقها”[21].

والقابلُ الذي عنده نوع غفلة وتأخر: يدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.

والمعاندُ الجاحد: يُجَادَل بالتي هي أحسن”[22].

ومن مظاهر الحكمة، التدرج في الدعوة، “ففِيمَا يُحْكَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ ابْنَهُ عَبْد الْمَلِكِ قَالَ لَهُ: مَا لَكَ لَا تُنَفِّذُ الْأُمُورَ؟ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي لَوْ أَنَّ الْقُدُورَ غَلَتْ بِي وَبِكَ فِي الْحَقِّ. قَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا تَعْجَلْ يَا بُنَيَّ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْخَمْرَ فِي الْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ، وَحَرَّمَهَا فِي الثَّالِثَةِ، وَإِنَّي أَخَافُ أَنْ أَحْمِلَ الْحَقَّ عَلَى النَّاسِ جُمْلَةً، فَيَدْفَعُوهُ جملةً، ويكون من ذا فتنة”[23].

ز-اللين والرفق
قال تعالى: )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ( [آل عمران: 159]، “أي: لو كنت سيء الْكَلَامِ، قَاسِيَ الْقَلْبِ عَلَيْهِمْ لَانْفَضُّوا عَنْكَ وَتَرَكُوكَ”[24].

وقال تعالى: )وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ( [العنكبوت: 46] “فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حِينَ بَعَثَهُمَا إِلَى فرعون في قوله: )فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى( [طه: 44]”[25].

وذكر القرطبي رحمه الله قولاً في سبب وصف ملكة سبأ كتابَ سيدنا سليمان عليه السلام بــ)كَرِيمٌ( كما في قوله تعالى: )قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ( [النمل: 29]: “وَقِيلَ: وَصَفَتْهُ بِذَلِكَ، لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ لِينِ الْقَوْلِ وَالْمَوْعِظَةِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحُسْنِ الِاسْتِعْطَافِ وَالِاسْتِلْطَافِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَضَمَّنَ سَبًّا وَلَا لَعْنًا، وَلَا مَا يُغَيِّرُ النَّفْسَ، وَمِنْ غَيرِ كَلَامٍ نازلٍ وَلَا مُسْتَغْلَقٍ، عَلَى عَادَةِ الرُّسُلِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”[26].
هذا المقال هو الفائز بالجائزة الثانية في مسابقة “باحثو المستقبل”


فهرس المصادر والمراجع

  • أحكام القرآن للجصاص، ط دار الكتب العلمية 1994م.
  • الاستقامة، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط جامعة الإمام محمد بن سعود 1403ه.
  • أصول الدعوة، د. عبدالكريم زيدان. ط مؤسسة الرسالة ناشرون 2002م.
  • تفسير ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، ط دار الكتب العلمية 1419ه.
  • تفسير البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، ط دار طيبة 1997م
  • تفسير الخازن = لباب التأويل في معاني التنزيل، علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي المعروف بالخازن، ط دار الكتب العلمية 1415ه.
  • تفسير السعدي، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي، ط مؤسسة الرسالة 2000م.
  • التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، ط دار ومكتبة الهلال 1410ه.
  • الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، ط دار الكتب المصرية 1964م.
  • ديوان الإمام المؤرخ الأديب ابن حبيب الحلبي، ط دار الكتب العلمية 2017.
  • المدخل إلى علم الدعوة، محمد أبو الفتح البيانوني، ط مؤسسة الرسالة 2014م.
  • مسند أحمد، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، ط عالم الكتب 1998م.
  • مقومات الداعية الناجح في ضوء الكتاب والسنة، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، 1994م.
  • الموافقات، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، ط دار ابن عفان 1997م.

الهوامش

[1] الأبيات من ديوان الإمام المؤرخ الأديب ابن حبيب الحلبي صـ110، ط دار الكتب العلمية 2017.

[2] “المدخل إلى علم الدعوة” للشيخ محمد أبو الفتح البيانوني صـ 17.

[3] انظر المصدر السابق صـ 14-19.

[4] انظر أحكام القرآن للجصاص، ط العلمية (2/ 37).

[5] انظر تفسير السعدي (ص: 77).

[6] تفسير القرطبي (4/ 47).

[7] أصول الدعوة د. عبدالكريم زيدان (ص: 348).

[8] مسند أحمد (6/ 432).

[9] تفسير السعدي (ص: 556).

[10] تفسير السعدي (ص: 406).

[11]انظر مقومات الداعية الناجح، سعيد القحطاني، صـ15.

[12] الاستقامة (2/ 233) لشيخ الإسلام ابن تيمية.

[13] انظر أصول الدعوة د. عبدالكريم زيدان (ص: 353).

[14] تفسير البغوي (4/ 196).

[15] انظر تفسير ابن كثير (7/ 164).

[16] مقومات الداعية الناجح، سعيد القحطاني، صـ323.

[17] انظر تفسير السعدي (ص: 51).

[18] انظر تفسير القرطبي (1/367-368).

[19] تفسير ابن كثير  (6/ 302).

[20] انظر أصول الدعوة، د. عبدالكريم زيدان (ص: 397).

[21] انظر تفسير الخازن = لباب التأويل في معاني التنزيل (3/ 107).

[22] انظر التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم (ص: 359).

[23] الموافقات (2/ 148).

[24] تفسير ابن كثير ط العلمية (2/ 130).

[25] تفسير ابن كثير ط العلمية (4/ 526).

[26] تفسير القرطبي (13/ 191).

الترغيب والترهيب في القرآن الكريم

من أساليب خطاب الدعوة إلى الله تعالى في كتابه: الترغيب والترهيب ، ولهما آثار مختلفة في نفس المدعوّ. وقد شغل ذلك فكري فترة غير قصيرة، لاهتمامي بتحليل الخطاب الدعوي السائد، فهناك مَن يُركِّز على الترغيب برحمة الله وصولاً إلى تقبُّل التفريط بالواجبات، وهناك مَن يُركِّز على الترهيب من غضب الله، فيُقنِّط من رحمته ويُعرِّض مستمعيه لقلق نفسي. فوجدت أن عليَّ أن أُؤصِّل الموضوع من القرآن، ورأيت في مسابقة “باحثو المستقبل” منصَّة ملائمة لعرض بحثي، عسى أن ينفعنا الله به ويجعله خالصًا لوجهه الكريم.

أولاً: الترغيب

لغةً: رَغِبَ ورغَّب في الشيء إذا جَعَله يحرص عليه(1).

واصطلاحًا: ما يُشوِّق إلى الاستجابة وقَبول الحق والثبات عليه(2)، فهو وعد يصحبه إغراء بمتعة آجلة مؤكَّدة مقابل القيام بعمل صالح ابتغاء مرضاة الله(3).

والمتدبِّر للقرآن يجد الحثَّ على مختلف الأعمال الصالحة، فالله يعِد المحسنين من عباده بالتوفيق في الدنيا، وبالنعيم في الآخرة. وأهم ما رغَّب به القرآن: عبادة الله تعالى، وطاعة النبي r، واتباع القرآن، والصلاة والزكاة، والإيمان باليوم الآخر، والجهاد في سبيل الله، والتوبة، والحِسبة، وتقوى الله، والجنة، والصبر(4).

  1. الترغيب بعبادة الله تعالى:
    إن جوهر دعوة الأنبياء عليهم السلام هو توحيد الله تعالى وتنزيهه ودعوة الناس لعبادة ربهم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].

 قال السعدي(5): “وهذا أمر عام بالعبادة الجامعة، لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه وتصديق خبره، فأمرهم بما خلقهم له، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]”(6).

  1. الترغيب بالصلاة والزكاة:
    لهذَين الركنَين أهمية بالغة في حياة المسلم، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} [البقرة: 110]. والصلاة أقوى أسباب الاتصال بين العبد وربه، وإيتاء الزكاة تُوثِّق الصلة بين الأغنياء والفقراء ثم بينهم وبين الله تعالى.
  2. الترغيب بالإيمان باليوم الآخر:
    لا تتحقَّق حقيقة الإيمان بالله إلا بالإيمان باليوم الآخر لتلازم المبدأ والمعاد. قال تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
  3. الترغيب بالتوبة:
    أخبر تعالى عباده بسعة كرمه وحثَّهم على الإنابة والتضرُّع إليه، ونهاهم عن اليأس من رحمته، فيدفعون وساوس الشيطان التي ترد على فكرهم لتُبعدهم عن طاعة الله تعالى وتُهلكهم. قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. لذلك نجد أن روح الدعوة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كي لا ينزلق الناس إلى الإسراف في المعاصي والذنوب.
  4. الترغيب بالجنة:
    يُرغِّب الله تعالى عباده بجنات الخلد ويُعزِّز في نفوسهم حبَّها، فشَوْقُهم إليها يدفعهم للتفاني والتضحية بما يملكون للحصول على وعد الله لهم، فتسهل عليهم الصعاب وتهون أمامهم المشقات، في سبيل الجزاء الموعود من ربهم. قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72].

قال الصابوني(7):”جناتٍ وارفة الظلال، تجري من تحت أشجارها الأنهار لابثين فيها أبدًا، لا يزول عنهم نعيمها، ولهم فيها منازل يطيب العيش فيها في جنات الخلد، قصور من اللؤلؤ والياقوت، ورضوان الله أكبر من ذلك كله”(8).

ثمرة الترغيب: الرجاء برحمة الله
هي النتيجة المرجوّة من تكرار أسلوب الترغيب برحمة الله في القرآن الكريم، وتفاعل القلب مع هذه المؤثرات فيمتلئ أملاً بتوبة الله ومغفرته رغم كل ما يقترفه العبد من تقصير وجرأة على المعصية، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].

والرجاء عبادة قلبية تظهر آثارُها على إيمان المسلم وسلوكه، فأعمال القلوب كما يقول ابن القيم(9): “أفْرَضُ على العبد من أعمال الجوارح، وعبوديَّةُ القلب أعظَمُ من عبوديَّة الجوارح”(10).

وتظهر آثار الرجاء على إيمان المسلم وسلوكه:

فمِن آثارِه الإيمانية: إظهار العبودية والحاجة إلى ما يرجوه من ربه ويستشرفه من إحسانه، وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفةَ عين. والرجاء يبعث المؤمن على مقام الشكر، فكلما اشتد رجاؤه وحصَل له ما يرجوه ازداد حُبًّا لله تعالى وشكرًا له ورضي به وعنه.

ومن آثاره السلوكية: أن أهله أكثر الناس تأسِّيًا بالنبي ﷺ، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. ومَن رجى الله حسُن ظنه به، وحُسن الظن يرفع درجة العبد عند ربه، قال النبي r: “يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي” متفق عليه.

ثانيًا: الترهيب

لغةً: التخويف، ويُقال: رهب الشيء، أي خافه(11).

واصطلاحًا: ما يُحذِّر من عدم الاستجابة أو رفض الحق أو عدم الثبات عليه بعد قبوله(12)، أو هو تهديد بعقوبة تترتَّب على اجتراح ذنب نهى الله عنه، أو التهاون بأداء فريضة أمر الله بها(13).

والمتأمِّل في القرآن يُلاحظ الترهيب من المعاصي والآثام التي لا يرضاها الله لعباده، فيتوعَّد الله كل ضالٍّ بالخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة. ويُحذِّر الله في كتابه من: الكفر بالله ومعصيته ومعصية رسوله r، وإنكار اليوم الآخر وقيام الساعة، واتباع الشيطان، واتباع الهوى، والظلم، وأكل الربا، والنفاق، ورمي المحصنات، ونار جهنم(14).

  1. الترهيب من الكفر بالله تعالى:
    رهَّب تعالى من الكفر بالله وعدم الإيمان به؛ لأنه من المعاصي التي لا تُغتفر، والكفر بالله أعظم الكفر؛ لأنه كفر بكتبه ورسله وملائكته وآياته ونعمه، وكل ما أراده الله معتمد على إثبات وجوده ووحدانيته. لهذا نجد الوعيد ترهيبًا لكل مَن كفر بالله فيتجنَّب الناس الكفر به. قال تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 6-8].
  2. الترهيب من الظلم:
    قال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة: 270]، وقال النبي r: “اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة” أخرجه مسلم. وقال البغوي(15): “ما للظالمين من أعوان يدفعون عنهم عذاب الله يوم القيامة”(16).
  3. الترهيب من اتباع الهوى:
    ورد النهي عن اتباع هوى النفس لأنه يؤدي إلى غير النهج القويم، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]. قال السعدي: “لا يوجد أحد أضل منه بعمله هذا، فمن اتَّبع هواه كان من أضل الناس وأشقاهم”(17).
  4. الترهيب من قيام الساعة:
    إنه اليوم الذي يشيب فيه الولدان، حين يخرج الناس من قبورهم للحساب، وتتكلَّم الجوارح فاضحة أعمال صاحبها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1-2].
  5. الترهيب من نار جهنم:
    ورد الترهيب من نار جهنم في القرآن بصيغ مختلفة وبألفاظ متعدِّدة منها: النار، السعير، سقر، الحريق وغيرها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. قال الطبري(18): “فالله يُرشدنا إلى حفظ أنفسنا وأهلينا ووقايتها من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ثم يُحذِّرنا من وقودها التي يوقد عليها المـُعرِضون عن شرع الله والحجارة، ثم يصف زبانية جهنم بأوصاف مخيفة: غلاظ شداد لا يخالفون أمر الله فيما يأمرهم به”(19).

ثمرة الترهيب: الخوف من الله
مع رحمة الواسعة فإن الله لا يُرَدّ بأسُه عن المجرمين، قال تعالى: {فإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 147]، وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} [الحجر: 49-50]، قال الشوكاني(20): “لَمَّا أمر رسوله بأن يُخبر عبادَه بهذه البشارة العظيمة أمرَه بأن يذكر لهم شيئًا مما يتضمَّن التخويف حتى يجتمع الرجاء والخوف ويتقابَل التبشيرُ والتحذيرُ ليكونوا راجين خائفين”(21).

والمؤمن كلما رأى آيات الله في الكون، يزداد خوفه من عظمة الله، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، ولا يغترَّ بعمله الصالح مهما زاد، قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]. وقال تعالى: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3]، قال ابن كثير(22): “شَدِيدِ الْعِقَابِ لمـَن طغى وآثَر الحياةَ الدنيا وعتا عن أوامر الله تعالى.. يقرن هذين الوصفين كثيرًا في مواضعَ متعددةٍ من القرآن ليبقى العبدُ بين الرجاء والخوف”(23).

الخاتمة
تبيَّن لنا في البحث مدى التوازن الدقيق بين الترغيب برحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء، والترهيب من غضبه وعذابه الذي يستحقُّه كلّ مَن أعرض عن الهدى. والجدير بالمؤمن العاقل أن يُوازن بين رجائه بعفو الله وغفرانه دون تقصير بالواجبات، وبين الخوف من غضب الله وعقابه دون يأسٍ أو قنوطٍ. وبذلك تقوم العلاقة الروحية المتوازنة بين العبد وربّه جل شأنه.

قال ابن القيم: “لا بدَّ للعبد في سيره إلى الله من الجمع بين ثلاثة أركان، والعبادة كالطائر، فالحُبّ بمنزلة الرأس، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سَلِمَ الرأسُ والجناحانِ فالطائرُ جيد الطيران، ومتى قُطِعَ الرأسُ مات الطائرُ، ومتى فُقِدَ الجناحانِ فهو عرضة لكل صائدٍ وكاسر”(24).

هذا المقال هو الفائز بالجائزة الأولى في مسابقة “باحثو المستقبل”


الهوامش

(1) الجوهري إسماعيل بن حماد، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ، تحقيق، :أحمد عبد الغفور عطار (رغب) :  1/137، دار العلم للملايين، بيروت- لبنان، الطبعة الرابعة 1990 م.

(2) عبدالكريم زيدان، أصول الدعوة، مكتبة الانجلو المصرية القاهرة ، 1395 ه – 1975 ص/ 670.

(3) أحمد علوش، الدعوة الاسلامية اصولها ووسائلها، دار الكتب اللبنان، بيروت، 1987 م، ص/257.

(4) كفايت همداني، الترغيب والترهيب في السياق القرآني، مجلة القسم العربي، جامعة بنجاب، لاهور- باكستان، العدد الثاني والعشرون، 2015 م، ص/ 98.

(5) عبد الرحمن بن ناصر السعدي الناصري التميمي، هو الشيخ العلامة أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر السعدي الناصري التميمي، ويعرف اختصاراً ابن سعدي، ولد في 7 أيلول 1889م وتوفي في 24 كانون الأول 1956م.

(6) ابن السعدي، تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 2002، ص/ 45.

(7) مُحمَّد علي الصَّابُونيّ: أحد أبرز علماء أهل السنة والجماعة في العصر الحديث، ومن المتخصصين في علم تفسير القرآن، وهو مؤلف كتاب صفوة التفاسير، ولد في حلب عام 1930م، وتوفي في 15 شباط 2015م.

(8) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، دار القرآن الكريم بيروت، المجلد الأول، ص/ 548.

(9) ابن القيم: هو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي المشهور باسم “ابن قيّم الجوزية” أو “ابن القيّم”. هو فقيه ومحدّث ومفسَر وعالم مجتهد وواحد من أبرز أئمّة المذهب الحنبلي في النصف الأول من القرن الثامن الهجري. ولد في 7 صفر 691ه وتوفي في 13 رجب 751ه.

(10) ابن قيم الجوزية، بدائع الفوائد، دار علم الفوائد، المجلد الثالث، ص/ 1148.

(11) خليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين (رهب): 4/47.

(12) عبدالكريم زيدان، أصول الدعوة، مكتبة الانجلو المصرية القاهرة ، 1395 ه – 1975 ص/ 670.

(13) زياد العاني، أساليب الدعوة والتربية في السنة النبوية، رسالة ماجستير،كلية العلوم الإسلامية جامعة بغداد، 1995 م: 212.

(14) كفايت همداني، الترغيب والترهيب في السياق القرآني، مجلة القسم العربي، جامعة بنجاب، لاهور- باكستان، العدد الثاني والعشرون، 2015 م، ص/ 104.

(15)  الحافظ البغوي هو إمام حافظ وفقيه ومجتهد، واسمه الكامل “أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد الفراء البغوي”، ويلقب أيضاً بركن الدين ومحي السنة. أحد العلماء الذين خدموا القرآن والسنة النبوية الإسلامية، دراسة وتدريساً، وتأليفاً، توفي سنة 516ه.

(16) الحافظ البغوي، تفسير البغوي، دار طيبة، المجلد الأول، ص/ 335.

(17) ابن السعدي، تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 2002، ص/ 724.

(18) محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام أبو جعفر الطبري، مفسّر ومؤرّخ وفقيه، ولُقِّبَ بإمام المفسرين، ولد بآمُل عاصمة إقليم طبرستان سنة 224ه وتوفي سنة 310ه في بغداد.

(19) الإمام الطبري، تفسير الطبري، مؤسسة الرسالة، المجلد السابع، ص/ 330.

(20) محمد بن علي بن محمد الشوكاني، الملقب بـبدر الدين الشوكاني، أحد أبرز علماء أهل السنة والجماعة وفقهائها، ومن كبار علماء اليمن ولد في هجرة شوكان في اليمن 1173 هـ ونشأ بصنعاء، وولي قضائها سنة 1229 هـ ومات حاكمًا بها في سنة 1250 هـ.

(21) محمد بن علي بن محمد الشوكاني، فتح القدير، دار المعرفة، الطبعة الرابعة 1428ه -2007م، ص/ 763.

(22) هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضَوْ بن درع القرشي الحَصْلي، البُصروي، الشافعي، ثم الدمشقي، مُحدّث ومفسر وفقيه، ولد بمجدل من أعمال دمشق سنة 701 هـ، وتوفي سنة 774ه.

(23) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار ابن حزم، ص/ 1634.

(24) ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين 1 /514.

هل فسر القدماء “الحجارة من سجيل” بأنها ميكروبات الجدري؟

انتصر أحد الدعاة الجدد مؤخرا للرأي القائل بأن الطير الأبابيل التي أرسلها الله إلى جيش أبرهة هي البعوض أو الذباب، وأن الحجارة التي أبادتهم لم تكن سوى ميكروبات الجدري، وعندما حاججه أحدهم بأن هذا التأويل الحداثي لا ضرورة له، رد الداعية بالقول إن هذا التأويل قد سبق إليه القرطبي والفخر الرازي وغيرهما من القدماء وليس من بدع المعاصرين، وظن أنه ألقمه بذلك حجرا.

والعجيب أن أولئك المفسرين القدماء لم يقولوا بما زعمه الداعية، فالقرطبي رحمه الله نقل على عادته ما اجتمع تحت يديه من روايات، وسرد منها عشرات الأقوال المنقولة -كما يُفترض- عن قريش التي شهدت الواقعة والتي تنص على أن الطير كانت ضخمة، حتى قال البعض إن لها رؤوسا كرؤوس السباع، مع إجماعهم على أن الحجارة كانت حقيقية.

ومن بين تلك الأقوال الكثيرة، ذكر القرطبي روايتين عن الجدري، وقد ذكرهما معظم المفسرين أصلا، غير أن كلتيهما لم تخرجا إلى القول بأن الحجارة هي الميكروبات وأن الطير هي الحشرات.

ففي الأولى يقول عكرمة: “كانت ترميهم بحجارة معها فإذا أصاب أحدهم خرج به الجدري. وكان أول يوم رُؤي فيه الجدري. ولم ير قبل ذلك اليوم، ولا بعده.”

وفي الثانية يروى عن ابن عباس قوله “كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده، فكان ذلك أول الجدري”.

فعكرمة وابن عباس لم يأتيا برواية تخالف ظاهر النص، فالطير هي الطير، والحجارة هي الحجارة، غير أنها تصيب من يُقذف بها بالجدري فيموت.

أما الفخر الرازي فنقل في كتابه “التفسير الكبير” رواية عكرمة نفسها عن ابن عباس، وقال “وهو قول سعيد بن جبير”، ثم قال “وكانت تلك الأحجار أصغرها مثل العدسة وأكبرها مثل الحمّصة. واعلم أن من الناس من أنكر ذلك”.

ثم ناقش الرازي رحمه الله مذهب إنكار صغر حجم الحجارة على طريقة أهل الكلام، وهو من أئمتهم، غير أنه اختتم بالقول “واعلم أن ذلك جائز على مذهبنا إلا أن العادة جارية بأنها لا تقع”، أي أنه أجاز عقلا أن يكون حجم الحجر صغيرا وأن يكون قاتلا ولو أنه كان بذلك مخالفا للعادة.

ولعل الرازي كان يقصد بعضا من المعتزلة أو الفلاسفة، وهؤلاء مذهبهم معروف في تقديم العقل، غير أني لم أجد من يقول منهم إن الحجارة هي الجدري وإن الطير هي البعوض ليخرج بذلك عن الخوارق، وإن قالوا هذا فلا يغير ذلك شيئا في مذهب الجمهور، فالجنوح نحو تقديم العقل كان موجودا منذ عصر السلف، إلا أنه لم يكن سوى بدعة من بدع الفرق وليس رأيا معتمدا لدى علماء السنة.

ونضيف إلى ما سبق رواية نقلها الطبري في تفسيره عن ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدّث أن أول ما رُؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رؤي بها مُرار الشجر: الحرمل والحنظل والعُشر ذلك العام.

أي أن الراوي هنا لم يجنح إلى إنكار الحادثة الخارقة للعادة، واكتفى بذكر ما استجد في جزيرة العرب من أمراض ونبات، ولعله لم يربط أصلا بين المرض وحادثة الطير، ولو كان كذلك فما علاقة هذه الحادثة بظهور الشجر المرّ أيضا؟

محمد عبده

التأويل المعاصر
الظاهر إذن أن تأويل الحجارة بالجدري نفسه لم يأت به أحد قبل الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية المتوفى مطلع القرن العشرين، والذي كان أقرب إلى المعتزلة من غيرهم، فاكتشاف الميكروبات أصلا ظهر في عصره، ولعله وجد في ظهور الجدري في عام الفيل -كما مر بنا في الروايات السابقة- مبررا للأخذ بقول المنكرين للخارقة، فقال في تفسيره “فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات. فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه. وأن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وأن هذا الحيوان الصغير -الذي يسمونه الآن بالمكروب- لا يخرج عنها”.

واللافت أنه اعتذر بعد ذلك بالقول “ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها.. فلله جند من كل شيء”. فالشيخ محمد عبده رحمه الله لا ينفي عن قدرة الله ظهور تلك الخارقة، غير أنه يميل -كالمعتزلة قديما والحداثيين حديثا- إلى الأخذ بما جرت عليه العادة من الظواهر والسنن.

سيد قطب

وقد أبدع سيد قطب رحمه الله في الرد على الشيخ محمد عبده، فرجّح أن يكون دافع الشيخ لاقتراح هذا التأويل هو ما كان شائعا في عصره من “الطوفان العلمي الحديث”، حتى اعتاد صرف ما نص عليه القرآن إلى واقع العقلية العلمانية الحديثة.

ونظرا لطول النص الذي سنقتبسه من كتابه “ظلال القرآن”، فسنجتزئ منه أهم السطور، حيث قال قطب “ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الأستاذ الإمام -صورة الجدري أو حصبة من طين ملوث بالجراثيم- أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو “العصف”، لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله، ولا أولى بتفسير الحادث. فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع، ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس، المعهودة المكشوفة لعلمهم، هي التي جرت فأهلكت قوما أراد الله إهلاكهم، أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر، وغير المعهود المكشوف لعلمهم”.

وقال أيضا “ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها -متى صحت الرواية- أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة… وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعا ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف. فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر”.

ثم اعتبر قطب رحمه الله أنه لا حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيرا، والتي تشي بأن عنصر المبالغة مضاف إليها، لكن وقوع الحادثة الخارقة هو الأصح لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب، فقد كان الله سبحانه يريد أن يحفظ البيت الحرام ليكون مثابة للناس وأمنا، وأن يجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال، حتى يمتن بها على قريش بعد بعثة النبي الذي ولد في نفس العام بإنزال سورة الفيل.

ثم يقول بحجة واضحة إن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده، فهذه الأمراض لا تسقط الجسم عضوا عضوا، ولا تشق الصدر عن القلب.

بعد كل هذا، يؤسفني أن يدلس الداعية الجديد على قرائه غير المختصين ليلصق بالمفسرين القدماء ميوله “الاعتزالية” في التأويل بعيدا عن الخوارق، وليس ذلك لتبرير منهجه الذي لا يرى حاجة للالتزام بالقدماء أصلا، بل لتقريع من يقبل بالتراث ويرفض تأويل الشيخ محمد عبده، إذ تبين لنا أن ما فعله الداعية لا يعدو كونه نقلا متسرعا عن تراث المفسرين، وأن الميل إلى رفض الخوارق كان موجودا لدى المعتزلة والفلاسفة قديما ولا حاجة لنا إلى إنكار أقدميته لإثبات تهافته.