مقالات

في الدعوة: آداب وأحكام

قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِۚ﴾ [آل عمران، 104] قال ابن كثير: “والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه” (تفسير القرآن العظيم، ص387)

ولكمال حكمة الله، ورحمته، وعدله فإنه شرع للمؤمنين منهجا متكاملا، وسبيلا واضحا للدعوة إليه، واستنقاذ الناس من براثن الشرك، وأدران المعاصي، وقد تراءت معالم هذا السبيل بإرشادات نيرات، ونفحات عطرات من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، تناثرت كالدر في آي القرآن، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِۚ﴾ [النساء، 165]

الأصل الجامع لكل الأصول في الدعوة:
قَالَ تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل، 125]. وهذه الآية الكريمة منهج رباني متكامل،وأصل جامع لأساليب الخير وسبل الرشاد في الدعوة إلى الله،ومعظم القواعد الأخرى الواردة في القرآن الكريم إنما تعود إليها وتنبثق عنها،وللسعدي كلام نفيس في تفسير هذه الآية،يقول: “أي ليكن دعاؤك للخلق مسلمهم وكافرهم إلى سبيل ربك المستقيم المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح “بالحكمة” أي: كل أحد على حسب حاله وفهمه وقوله وانقياده.

من الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل، والبداءة بالأهم فالأهم وبالأقرب إلى الأذهان والفهم،وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين فإن انقاد بالحكمة، وإلا فينتقل معه بالدعوة بالموعظة الحسنة: وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب. إما بما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها، والنواهي من المضار وتعدادها، وإما بذكر إكرام من قام بدين الله، وإهانة من لم يقم به، وإما بذكر ما أعد الله للطائعين من الثواب العاجل والآجل، وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل، فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق، أو كان داعيه إلى الباطل فيجادل بالتي هي أحسن: وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا. ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها فإنه أقرب إلى حصول المقصود،وألا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها،بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق،لا المغالبة ونحوها (تفسير السعدي، ص452).

******

وتفصيلا لما سبق، وتتبعا لآيات القرآن الذي لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي حكمه، نجد من الأساليب الدعوية ما يلي:

استنطاق الفطرة:
فلما كانت النفوس مجبولة على توحيد الله تعالى والإيمان به، وجهنا الله لمخاطبة هذه الفطرة، وندائها، ومسح غبار الشرك المتراكم عليها، حتى تستيقظ من غفوتها، وتعود بصاحبها إلى بر الأمان، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًاۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَاۚ﴾ [الرّوم،30]

وفي قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف،39] نرى عفوية الخطاب، وفطريته، ومباشرته، وكأنه من المسلمات وهو كذلك.

استنطاق العقل:
فللعقل السليم مبادئ ضرورية لا يستطيع تجاوزها أو الفرار منها، لذلك وجه الله سبحانه النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة البراهين العقلية الحتمية على المجادلين، إشهادا لعقولهم عليهم بالحق، ففي قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍۖ﴾ [يس،78-79]

دحض الله إنكار المشركين للمعاد، بأنه هو الذي خلقهم أول مرة بعد أن كانوا عدما، وهذا قياس بالأولى، وهو مسلك عقلي سليم. وكذلك قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور،35] وفي هذا تقسيم وسبر، يشهد العقل بعده بفساد كل تصور إلا الإيمان بالله.

و يدخل في هذا الأسلوب: الاستدلال على العباد بالآيات الكونية، ومظاهر الربوبية، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصّلت،53] وما أكثر الآيات التي تعدد عجائب صنع الله في هذا الكون، وتبين بديع خلقه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران،190]

إظهار تناقضات المخالف وبهتان حجته:
قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُۗ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران،183] فبين الله كذب أهل الكتاب، وكفرهم بتناقض دعواهم مع ما فعلوه بأنبيائهم لما أتوهم بالحجج والبراهين وبالذي قالوا.

الترغيب والترهيب:
قَالَ تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَۖ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأنعام،48-49] فالله سبحانه أمر مرسليه أن يبشروا عباده الذين استجابوا له وأطاعوه بالجنان ونعميها، وأن ينذروا من كفر وعصى من النار وسعيرها، والآيات التي تفصل في وصف الجنان وسكانها، والنار، وأهلها كثيرة في كتاب الله.

 ومما يدخل في هذا الباب، ترغيب أهل الإيمان بما يحصل لهم من نور وطمأنينة في دنياهم، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد،28] وترهيب أهل الشرك والمعاصي بما يحصل لهم من التخبط في الضلالات، والغرق في الظلمات، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِۗ﴾ [الأنعام،39]

الإنذار والوعيد بعد الحجة والبيان:
وذلك بعد أن يبين الله لعباده الحق بالحجة، ينذرهم من عذاب شديد إن هم كفروا، وأعرضوا عن الحق إلى الباطل، قَالَ تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصّلت،13]

الدعوة للاعتبار من حال الأمم السابقة:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: ﴿۞أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْۚ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ [غافر،21] فالإنسان قد يغشاه من الكبر ما يغشاه، فإذا سار في الأرض، ورأى ما حل بالأمم السابقة من عذاب وهلاك لما عصوا الله، فقد يعرف قدر نفسه فتنزاح غمامة الغرور عن بصيرته، فيبصر الحق، فيؤمن به. وقد قص الله في القرآن من أنباء الأقوام الظالمة كعاد وثمود وغيرهم ما فيه عبرة للبشر.

التذكير بنعم الله سبحانه على العباد:
وهذا ينفع في دعوة المسلمين خاصة، فالمسلم حين يتذكر ما أنعم الله عليه من نعم غزيرة، ويرى كيف هو يكفر هذه النعم بمعصية الله، وعدم استخدامها في طاعته، ويتخيل ما سيؤول إليه حاله لو حرم من هذه النعم، لربما يرق قلبه حينها، ويرعوي عما هو عليه من معصية الله، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَۖ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الملك،23].

******

ومن القواعد الواجب اتباعها، واللازم توافرها في الدعوة حتى تؤتي ثمارها:

الالتزام بمنهج النبي ﷺ:
فمن حاول أن يلتمس سبيلا غير سبيله، أو ينهل من غير معينه لأي سبب وفي أي زمان ومكان، فلا أحسبه إلا أخرق ترك أنهار الجنة ليغرق في مستنقعات الدنيا، قَالَ تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِۚ﴾ [الأنعام،153]

الوضوح واليقين:
أي أن يكون منهج الدعوة واضحا مستبينا مبنيا على العلم واليقين، وكذلك الهدف وهو إدخال الناس تحت مظلة التوحيد، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِيۖ﴾ [يوسف،108] 

عدم الرضوخ للأهواء:
قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَۖ﴾ [المائدة،49]

يقول الشيخ إبراهيم السكران: “ولا أشد على العامل للإسلام من تلك الفتنة التي حذر منها نبيه صلى الله عليه وسلم وهي فتنة استمالة المدعوين، والرضوخ لهوى المكلفين، والانصياع لضغوط مألوفاتهم، وتوجيه التعاليم الإلهية بالشكل الذي يرتاحون به، ويميلون إليه” (مآلات الخطاب المدني278)

التجرد لله تعالى:
وذلك بأن يعتقد الإنسان اعتقادا جازما أن الدعوة التي يقوم بها ليست لذاته، ولا لمصلحته، ويتحرك في جميع أحوال دعوته وهو يعتقد أنه يأوي إلى ركن شديد قادر على تأييده. قَالَ تعالى: ﴿۞يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِۗ﴾[المائدة،67] ويظهر التجرد لله في الآيات التي تذكر النبي ﷺ أنه مبلغ ومنذر وليس له من الأمر شيء، قَالَ تَعَالَىٰ:﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِۗ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد، 7]

ومن التجرد لله عدم الحزن، أو الشعور بالمشقة إن أعرض الناس عن دعوة الله بعد أن تقوم عليهم الحجة، فالداعية ليس حفيظا على الناس،وإنما هو مجرد مبلغ للرسالة، وأما الهدى فعلى الله وحده، قال تَعَالَىٰ: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأنعام،35]

ومن التجرد ألا يكره الداعية الناس على الإسلام، لأن الحق بين، والهداية بيد الله وحده، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًاۚ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس،99]

الدعوة للجميع:
فلا ينشغل المسلم بدعاء القوي ويترك دعاء الضعيف، فالغرض من الدعوة هداية البشر إلى الحق، واستنقاذهم من النار أيا كانوا، والدين لم يأت ليستقوي بأصحاب النفوذ أو يعتز بهم، بل الدين هو الذي يبث العزة في قلوب حامليه، فيرفع بالاستقامة من وضعتهم قوانين البشر، ويذل من رفعتهم أعرافهم، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام،52].

المشورة والرفق واللين في الدعوة:
قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِۖ﴾ [آل عمران،159] قال السعدي: أي برحمة الله لك و لأصحابك، من الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك، وأحبوك، وامتثلوا أمرك. ﴿ولو كنت فظا﴾ أي: سيء الخلق، ﴿غليظ القلب﴾ أي: قاسيه، ﴿لانفضوا من حولك﴾ لأن هذا ينفرهم، ثم أمره الله تعالى أن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلم، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله، فيجمع بين العفو والإحسان. ﴿وشاورهم في الأمر﴾ أي الأمور التي تحتاج إلى استشارة، ونظر، وفكر، فإن في الاستشارة فوائد، منها: أن فيها تسميحا لخواطرهم، فإن من له الأمر على الناس–إذا جمع أهل الرأي والفضل، وشاورهم في حادثة من الحوادث–اطمأنت نفوسهم، وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم، فبذلوا جهدهم في طاعته لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك. (تفسير السعدي، باختصار ص154)

التنويع في أساليب الدعوة:
فإن الناس قد تختلف أحوالهم وأفكارهم، فمن الحكمة أن ينوع المسلم في الأساليب المشروعة في الدعوة إلى الله، فها هو نبيُّ الله نوح عليه السلام يدعو قومه بالسر والعلن، يرغبهم بمغفرة الله، ويحذرهم من عذابه، ويذكرهم بنعمه، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح، 8-9].

******

ومن الآداب التي يجب على الداعية أن يلتزمها في نفسه:

الإخلاص لله تعالى:
أي أن يكون الإنسان محتسبا أجره عند الله، هدفه أن يرضى الله عنه، وأن يبلغ رسالة الهداية، لا الشهرة بين الناس وثناءهم، أو جني الأموال، وغير ذلك من حطام الدنيا، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًاۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِيۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [هود،51]

الإكثار من العبادة:
قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ*قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا*نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا*أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا*إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزّمّل،1-5]. فانظر كيف أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعبادة الليل وقراءة القرآن ثم علل ذلك بأنه سيلقي عليه قولا ثقيلا العمل به، وفي مقدمة ذلك الدعوة إلى الله، فلا بد للعامل للإسلام من تهيئة نفسه وتربية، روحه في مدرسة العبادة قبل البدء بهذا الجهاد العظيم وخلاله.

الصدق:
قَالَ تَعَالَىٰ:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة،119] فالداعي إلى الحق لا يليق به أن يكذب في سبيل دعوته، فهذا يصد الناس عنها، بل هي ليست بحاجة لكذبه، كيف وهي تنادي بالحق وعلى الحق قامت؟!

ويجب على الداعية أن يتحرى الصدق ويتمثله في أخلاقه ومعاملاته، وليس في مجال الدعوة فحسب بل في كل مجال، حتى يكون ثقة عند الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم عاش عمرا في قريش لم يشهدوا عليه كذبا قط، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس،16]

الصبر:
فطريق الدعوة طريق محفوف بالمكاره، مفروش بالأشواك فلا بد للداعية إلى الله من الصبر على أذى الناس، وإعراضهم، وقد أرشدنا سبحانه إلى وسائل تعين على الصبر، منها:

تذكّر حفظ الله لعباده، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَاۖ ﴾ [الطور،4]

الاقتداء بسير الأنبياء-خير دعاة إلى الله، قَالَ تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ…﴾ [الأحقاف،35]

الذكر والاستغفار، قَالَ تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ [غافر،55]

التوكل على الله:
قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود،88]، فالداعي إلى الله يتوكل عليه في كل شأنه ويسأله أن يهديه ويهدي به، فلا هادي إلا الله، ولا موفق إلا هو.

التواضع:
قرآنقَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًاۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان، 18-19] فالنفس البشرية لا تقبل التكبر عليها، ولا تستجيب لمن أهانها ولو علمت أن ما يدعو إليه حق، ومن صور التواضع :القصد في المشي، وخفض الصوت في الحديث؛ تأدبا مع الله، ثم مع الناس، ومن التواضع: ألا يسخر الداعي إلى الله من عامة المسلمين لتقصيرهم، بل عليه الاجتهاد في دعوتهم، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ [الحجرات،11].

ومن التواضع: ألا يزكي الإنسان نفسه فالله أعلم بالمتقين، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [النساء،49]

الهمة والنشاط:
فانظر إلى سيدنا نوح عليه السلام كم قام في قومه يدعوهم إلى الله دون كلل أو ملل مع إعراضهم، وتكبرهم، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ [العنكبوت، 14]

الصمت إلا عن الخير:
فلا يكثر من الكلام، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، ولا يكون حديثه إلا مثمرا ينير دربا، ويقوّم فعلا، قَالَ سُبْحَانَهُ:﴿۞لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِۚ) [النساء،114]

الأدب في الحديث:
فلا يليق بمن يدعو إلى الله العظيم الحكيم: أن يتلفظ بما ساء وخبث من القول، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿۞لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَۚ﴾ [النساء،148]

التمثل بما يدعو الناس إليه:
فحري بمن يدعو الناس إلى الخير أن يبتدئ بنفسه، ثم كيف يستجيب الناس له إن رأوا من أقواله وأفعاله ما يناقض دعوته، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿۞أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة،44]

الحذر من الغيبة:
فقد يزين الشيطان للعامل للإسلام ذلك الذنب العظيم، ويلونه بصبغة شرعية، وهذا منزلق عظيم يجب على المسلم الحذر منه، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًاۚ﴾ [الحجرات،12]

ولنا في قصصهم عبرة

      يمتلئ كتاب الله العزيز بالكثير من القصص والحوارات مثل قصص وحوارات الأنبياء المتعددة والمختلفة والتي إذا تدبرتها عزيزي القارئ; لأدركت مدى ما تحمله من حكم ومواعظ لا تخضع للعامل الزمني بل أنها ذكرت كي يستفيد منها الناس على مر الزمان وليست حكرا على مكان أو زمان بعينه. وأّلَلَهِ -عز وجل- لم يذكر تلك القصص والحوارات عبثا، بل إنها بمثابة المعين الذي لا ينضب؛ كي ينهل منه الناس ليرشدهم في دربهم.

      ذكر الله-عز وجل- في كتابه العزيز حوارات متعددة ومختلفة لسيدنا إبراهيم -عليه السلام- منها حواره مع نفسه، وحواره مع الملك، ومع قومه، وأيضا حواره مع أبيه آزر والذي هو محور هذا الحديث، هذا الحوار الذي يتجلى فيه اسلوب سيدنا إبراهيم-عليه السلام- الدعوي الرائع، ولنتأمل معا الآيات التالية ولنتدبر ونتفكر كيف حاور إبراهيم عليه السلام أباه  ،يقول الله –عز وجل-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً (41)إِذْ قَالَ لأبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً(42) يا أَبَتِ إِنّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً(43) يا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً(44) يا أَبَتِ إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً(45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً (46)قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً(47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا(48)} [مريم: 41- 48].

     بدأ إبراهيم عليه السلام دعوته لأبيه باستخدام البرهان العقلي وبأسلوب منطقي مقنع فيقول لأبيه ” يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً(42) “، أي “يا أبت من صفات الإله أن يسمع ويبصر ويضر وينفع، وهذا ليس من صفات الأصنام التي تعبدها”[2]، ثم يقول إبراهيم عليه السلام لأبيه “أنه قد اعطاه الله من العلم النافع ما لم يعطه”[1]، ويدعوه باللين إلى أن “يتبعه في إخلاص العبادة لله كي يهد له طريقا مستقيما”[1]” يا أَبَتِ إِنّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً(43)”، ثم ينتقل سيدنا إبراهيم إلى تحذير أبيه من عاقبة اتباع الشيطان، وعبادته التي تؤدي إلى الهلاك والهاوية، ثم يختم سيدنا إبراهيم دعوته لأبيه بنفس النبرة اللينة قائلا له” يا أَبَتِ إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً(45)” وهنا يستمر سيدنا إبراهيم بنفس النبرة اللينة المتأدبة مع أبيه ذاكرا له المقدمات والنتائج مما يدل على براعة إبراهيم عليه السلام في المحاورة والمجادلة بأسلوب علمي، وباستخدام البرهان العقلي في اقناع أبيه.

      لنتأمل عزيزي القارئ براعة سيدنا إبراهيم عليه السلام في اسلوبه الدعوي من محورين، أولا: مهارته في انتقاء الألفاظ وصياغة الجمل، فتجده يكرر لفظة “يا أبت” أربع مرات في حواره مع أبيه، والتي لها تأثير نفسي كبير في استمالة أبيه وحنوه على ابنه وتحريك قلبه، ولنتأمل تلك الآية” يا أَبَتِ إِنّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ ” فلم يشر صراحة إلى جهل أبيه؛ تأدبا واحتراما له، ويستخدم سيدنا إبراهيم لفظة ” يمسك” بدلا من ” يهلكك” أو ” يشقيك” مراعاة لمشاعر أبيه وتلطفا به،” يا أَبَتِ إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً(45) “.

      المحور الثاني في اسلوب سيدنا إبراهيم الدعوي، وأخلاقه التي يجب أن يقتدي بها كل داع إلى توحيد عبادة الله، ومقابلته الغلظة باللين والصبر واللطف في المعاملة؛ لأنه داع إلى سبيل الله ويجب أن يكون قدوة ومثالا يحتذى به، وتتجلى هذه الأخلاق في حوار سيدنا إبراهيم مع أبيه آزر، فنجده يتدرج مع أبيه في الدعوة من مرتبة إلى أخرى بصبر وثبات وشفقة ورحمة على أبيه، ولكن هذا الشقي لم ينفع معه شيئا؛ فنجده بعد كل هذا يجيب سيدنا إبراهيم قائلا: ” قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً (46) ”  “أي إن لم تنته عن سباب آلهتي لأرجمنك ” والمرجح بالحجارة وليس السباب” واهجرني قال الحسن البصري ’زمانا طويلا‘ “[3]، فخاطب سيدنا إبراهيم عليه السلام باسمه ولم يقل “يا بني” فضلا عن رجمه وطرده، ومع ذلك نجد إبراهيم عليه السلام مع تلك الغلظة والقسوة في رد أبيه، بقول لين ولطيف ممتلئ بالرحمة والشفقة والصبر يرد على أبيه قائلا  ” سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً(47) ” أي سأستغفر لك يا أبي، “إن ربي كان ومازال بارا بي وكريما معي”(1)، فكان سيدنا إبراهيم لينا في قوله بداية ونهاية، وفي الوسط.

      فليقتد به الدعاة في زمننا هذا، وليأخذوه مثالا لهم في التحلي بالصبر والتحمل والقول اللين في الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأيضا دعوة الأقارب أولا؛ فهم أولى بالدعوة، ولتأخذ عزيزي القارئ هذا الحوار نموذج رائع للحوار والجدال والدعوة إلى سبيل الله بالبرهان العقلي، والمنطق مع الصبر، والتلطف في القول والفعل. 

      ولنتوقف عند قصة وحوار آخر في القرآن الكريم، لا يقل حكمة وجمالا عن حوار سيدنا إبراهيم، ألا وهي قصة يوسف الصديق عليه السلام، فيقص الله-عز وجل- علينا عجائب من خبره، ومعروف أن قصة يوسف عليه السلام تعد من أطول القصص التي ذكرها الله في كتابه الكريم، إذ يقصها -عز جلاله- علينا في سلاسة، فهي تتميز بجمال معانيها، وتحتوي على الكثير من الحكم، والمواعظ، والمعاني العظيمة التي علينا أن نقتدي بها، ونطبقها في حياتنا، ومن أحداث هذه القصة، قصة دخول سيدنا يوسف -عليه السلام- السجن ظلما وعدوانا، وهذا ما سنسلط عليه الضوء في هذا الجزء، ولنتأمل معاً الآيات التالية، يقول الله -عز وجل- في ذكر هذه القصة: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ(42) ﴾ [يوسف: 35 – 42].

      ما يهمنا من هذه الآيات عزيزي القارئ، هو اسلوب سيدنا يوسف الدعوي، فبعد أن رأى فيه الفتيان حسن الخلق، وعلامات الإحسان على محياه، وأفعاله، “والبراهين الدالة على براءته”(1)؛ فقصوا عليه رؤياهم وطلبوا منه تأويلها، ولكن قبل أن يبدأ يوسف الصديق في تأويل الرؤى، سيستغل رغبة هذان الفتيان في سماع التأويل، واستعدادهما النفسي لذلك، ويبدأ في دعوتهما إلى توحيد الله تعالى، وترك عبادة الأوثان التي لا تنفع ولا تضر، “وهو يخاطبهم مستخدما كلمة ” يا صاحبي السجن” فيوضح لهم صحبتهم له في السجن، ولكن الصحبة هنا مكانية لا عقائدية؛ لأنه قال لهم “يا صاحبي السجن” وليس “يا صاحبي” فقط”، ويستمر يوسف الصديق في دعوة الفتيان، “وتبيان فضل الله عليهم وعلى قومه؛ بأن الله يرسل إليهم الرسل ولكن قومه لا يشكرون”[4] ” وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)”.

      ثم يؤول سيدنا يوسف الرؤى للفتيان بدون تحديد أسمائهم حتى لا يشقى ذلك الذي سيقتل ويصلب فيقول لهما” يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)”، وهذا من لطف يوسف الصديق وذكاءه، وفطنته، وشفقته على الذي سيقتل.

      ونستقي من هذا الحوار الكثير من الحكم، والمعاني العظيمة من اسلوب يوسف الصديق الدعوي المتميز بانتقائه لألفاظه، فكان في نصحه مستخدما لطيف الألفاظ، وأيضا تدرج في دعوته من الدعوة إلى توحيد الله، والإيمان بالدار الآخرة إلى النصح، والموعظة، والتحذير.

     فعلينا أن نقتدي بسيدنا يوسف -عليه السلام-، وبخاصة اسلوبه الدعوي، وصفاته، وخصاله التي يجب أن تكون مثالا لنا نضعه أمام أعيننا حتى يرشدنا إلى الطريق الصواب.

     في الختام، علينا يا إخواني وأخواتي تدبر كتاب الله -عز وجل- ، وقراءته بعقل مفكر في كل سورة وأية، بل في كل لفظة مستخدمة في كتابه العزيز؛ كي ننهل من هذا المعين الذي لا ينضب، ما ينير لنا دربنا في هذه الدنيا، وأيضا علينا تدبر قصص، وحوارات الأنبياء -صلوات الله عليهم جميعا وسلامه- فهم خير من تأخذ منهم الحكمة، والمواعظ ؛ فتكون بمثابة نبراس يرشدنا في طريقنا.

     والحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على المصطفى الصادق الأمين خير خلق الله أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم.


 المصادر:

  • القرآن الكريم والتفسير الميسر، لفضيلة الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الأسبق.
  • من لطائف التعبير القرآني حول سير الأنبياء والمرسلين، للدكتور\فؤاد بن محمود بن محمد سندي. ص121-122
  • أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي.
  • تفسير ابن كثير.

 

 

    

مفاتيح القلوب من القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، يبقى موضوع العقيدة موضوعا محوريا ليس فقط في الدين الإسلامي، بل في جميع مناحي الحياة، فالمرء بطبعه يحتاج حججا -بغض النظر عن صحتها- يستعملها لتبرير اعتناقه فكرة ما. وفي سبيل ذلك يوظف أساليب متعددة ويعتمد مناهج مختلفة سواء في التعرف عليها، أو اعتناقها، أو الدفاع عنها والدعوة لها.

ومادة الدعوة إلى الله ليست بالبعيدة عن هذا النسق الاستدلالي، فهي أيضا تعطي للإنسان أدلة  على ما تدعو له، وهو عبادة الله وحده، وعدم إشراك أحد أو أي شيء في عبادته، مستندة على مصادر كثيرة واستنباطات منطقية وشهادات تاريخية وغيرها من أمثلة الحجج، مخاطبة في ذلك عقله وقلبه على حد سواء. قال الله تعالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف، الآية 108]. وفي هذا المقال، سنتفرغ لطرح بعض من أساليب الدعوة إلى الله من القرآن الكريم وتبيان المنهج المعتمد في ذلك.

بادئ ذي بدء، تجب الإشارة إلى أن هذا الموضوع كغيره من اشتقاقات النقاش، يرتكز على ثلاث عناصر أساسية:

أولها هو الجهة المرسلة، ما يعني في هذه الحالة الأنبياء والرسل أو من يخلفهم من الوعاظ والدعاة إلى طريق الله. وهذا يستدعي منهم حكمة وعلو خلق، تأسيا في ذاك بالرسول صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم، الآية 4]، وقال أيضا: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام، الآية 48].

ثانيها: الجهة المستقبلة، أي كل من حاد عن طريق الله، من الشرائع المحرفة كاليهودية والنصرانية، ومن الاعتقادات المبطلة لبعض الدين الإسلامي أو كله كاللاأدرية والإلحاد. وتحتاج هذه الفئة تحضيرا من قبل الجهة المرسلة لتلقي الرسالة لما قد يطالهم من جهل وجحود أو كبر أو غيرها من معوقات التواصل السليم، كما أنه يجب عليهم الإذعان للحق حين معرفته. قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ، الآية 24].

ثالثها: الرسالة أو مضمون النقاش، فهي يجب أن تكون مفهومة، سهلة الاستيعاب، خالية من المغالطات المنطقية، متماشية مع السياق الزمكاني الذي تتواجد به، ومن أمثلة ذلك كون المعجزات تأتي من جنس ما تداوله الناس واحترفوه، فتغير العادة وتعجز المعاندين الجاحدين. ولنا في قصة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون والسحرة خير دليل على هذا وكيف برهن على صدقه فيما يحكي عن ربه بأن ابتلعت حيته المعجزة ما جاءوا به من سحر، فأذعنوا لله رغم ما طالهم من التعذيب فيما بعد لعلمهم التام بخرق ما جاء به النبيء لعادتهم. فقال الله عز وجل: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ. (48)} [الشعراء، الآيات 30-48].

وحتى يتسنى للمرسل إيصال دعوته للمرسل إليه على الوجه الذي يصح، سطر القرآن منهجا واضحا لذلك يتبع قاعدة رئيسة، وهي عمل ما يتوجبه الوقت، وذلك بأن يحترم ما يحيط به من سياق زماني ومكاني، عرفي وتاريخي، وهذا ما يتم تفصيله في القرآن بإيجاز، فهو يراعي الحالة العامة التي تربط بين طرفي النقاش، فيفصل بين معاملة المسالمين من الجاحدين وبين معاملة المقاتلين والمعترضين منهم. يقول الله سبحانه وتعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8)  إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة، الآيتان 8-9]. كما أنه أكد على اختيار الطريقة الأصوب في النقاش والبحث عن إيصال الرسالة على أحسن وجه ممكن. وفي هذا الصدد، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل، الآية 125]. ويعقب الغزالي على هذه الآية، فيقول: “إنَّ المدعوَّ إلى الله تعالى بالحِكمة قومٌ، وبالموعظة قومٌ، وبالمجادلة قومٌ؛ فإنَّ الحكمة إن غُذِّي بها أهلُ الموعظة أضرَّت بهم كما تضرُّ بالطِّفل الرضيع التغذيةُ بلحم الطَّير، وإنَّ المجادلة إنِ استُعملتْ مع أهل الحكمة اشمأزُّوا منها كما يشمئزُّ طبع الرجل القوي من الارتضاع بلبن الآدمي.” [1]

وعلى العموم، يتماشى القرآن والواقع، وكمثال على ذلك، نذكر الفرق بين الخطاب القرآني في الفترة السرية وفي الفترة الجهرية من الدعوة في مكة، وبين مرحلة الضعف ومرحلة القوة. ولكن هذا لا يكفي لإيصال الرسالة، فما تم ذكره سلفا هو نظري، ويحتاج إلى ما هو عملي لزيادة فعاليتها ووقعها على المتلقي. وهذا ما يتطلب التعرف على أساليب الدعوة، وتوظيف أصلها للمكان والزمان الواقعين.

ونجد أن القرآن يتأرجح بين الترغيب والترهيب، وبين الماضي والحاضر والمستقبل، فهو مرة يخاطب العقل، ومرة يخاطب القلب، ومرات يخاطبهما معا. وهذا ما يفهم من سرد قصص الأقوام التي خلت، والتهويل من ما طالهم من عذاب. قال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء، الآية 59]. ولكنه لا يقتصر على قصص العذاب، بل يطرح قصة يونس عليه السلام، كمثال على أقوام آمنوا فأكرمهم الله بذلك في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ} [يونس، الآية 98]. وهذا حتى ينبئ المحاوَر بما يصير إليه كل خيار من خياري الإيمان أو الإنكار.

ويرجع الأسلوب القرآني أيضا في دعوته إلى الله إلى سرد نعمه على الناس وإلى منه عليهم بما حباهم به، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [غافر، الآية 61].

كما أنه قد يلجأ لاستدلالات منطقية، كأن يسأل الجاحدين عن سر خلقهم، أو عن منبت ما يزرعون، فذكر سبحانه في هذا: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة، الآيات 57-74].

أو أن يريهم ما خلق لهم في أنفسهم وفي الكون فيهتدوا بها إليه. قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت، الآية 53].

وخلاصة القول، أن القرآن ينوع من الأساليب في الدعوة إلى الله موظفا الأسلوب الأنسب لكل زمان ومكان بعينه، ومخاطبا جميع الناس باللغة التي تخترق قلوبهم حتى يسهل اقتناعهم بهذه الرسالة. ويبقى التنويه في الأخير إلى أن الهداية بيد الله وحده، وما هذه الأساليب والمناهج إلا حجج يقيمها الله على الظالمين من عباده وموعظة للمتقين. قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص، الآية 56] وقال أيضا سبحانه: {هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران، الآية 138].

فاللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما. والحمد لله رب العالمين.


[1] تفسير الإمام الغزالي، جمع وتوثيق وتقديم الدكتور محمد الريحاني، نشر دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة، ومؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) بفاس، الطبعة الأولى 2010، ص202- 203).

الحوار القرآني

لقد تعددت وتنوعت أشكال الحوار في القرآن الكريم، واختلفت مواضيعها وحملت عبراً كثيرة، فمنذ بدء الخليقة يحاور الله ملائكته الكرام عليهم السلام، ويحاور إبليس الذي كان يتوعد بإضلال البشرية، وكذلك نجد الأنبياء يحاورون أقوامهم ويقدمون أحكم الحجج المنطقية والعقلية في سبيل إقناعهم برسالتهم وصدق دعوتهم.

والقرآن الكريم كتاب رباني لهداية البشر من الضلال إلى النور ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ويعتمد على الحوار بشكل أساسي للإقناع، ولوضع الحجة على الرقاب، ثم يُحاسب البشر عما فرطوا فيه وأنكروا، وهذا أكبر دليل على حرية التفكير البشري.

 وبالإضافة إلى ذلك فإنه يحاور قارئه أيضاً فيسأله التأمل والتمعن في عظمة خلق الله في الكون كما في قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ(20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(21)} [الذاريات:20]، وفي حين آخر يستفزه ويثيره بالأسئلة عن حقيقة وجوده وكيانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ(35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ(36)} [الطور:34-35]، وينكر على أهل الضلال أقوالهم ودعاويهم الباطلة فيقول: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].

بطريقة ما هذا القرآن الذي كتبه [المؤلف حيث يتحدث عن مرحلة ما قبل إسلامه] فيه أسلوب من نوع مختلف يجرك لحوار مع النص.   جيفري لانغ

منهج الحوار القرآني
1.الاستناد إلى العلم
العلم في المصطلح القرآني والفلسفة الإسلامية هو ما يعرفه العلماء بأنه “إدراك الشيء على ما هو عليه بدليل منضبط بقواعد المنطق وأصوله”[1]. والاستناد إلى العلم يعني اعتماد المنهج التوثيقي المنبثق من كل واقع مصحوبا بأدلته الدامغة المسكتة أو “المخرسة” أحياناً.

ويتجلى هذا المعنى في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، و”إن” هنا شرطية، أي إن تحقق الافتراض الأول يتحقق الثاني، ولكن الافتراض الأول وهو أن يكون لله ولد محال، أي أنني كنت قد اتفقت معك بالإيمان بالشرك لو توافرت الأدلة العلمية على ذلك، ولكن الأمر أنه لا ولد له ولا بنت ولا ملاك ولا شيء، واحد أحد فرد صمد يقيناً لا ظناً، وفي هذا السبك بلاغة عظيمة، لأنه لا يلجم الخصم فقط بل يعلمه أسس التفكير الصحيح وعدم الانحياز لجهة معينة فقط بسبب انتمائه إليها.

وقد كثرت الشواهد على هذا المعنى في القرآن الكريم، فنلحظ أن الله دائماً يطلب من المخالفين إظهار البراهين العلمية وعدم الركون إلى الأمور الظنية: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148]، ويردد دائماً على كل من يزعم ويدعي معتقدات باطلة {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.

2.إيجاد نقاط الاتفاق
يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. يقول الزحيلي في تفسير هذه الآية: “قل يا محمد: يا أهل الكتاب -وهم اليهود والنصارى جميعاً- أقبلوا وهلموا إلى كلمةٍ عادلة وسطى سواء بين الفريقين اتفقت عليها جميع الشرائع والرسل والكتب التي أنزلت إليهم، فأمرت بها الصحف والكتب الأربعة: التوراة والزبور والإنجيل والقرآن وهي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) وعبادة الله وتفويض سلطة التشريع والتحليل والتحريم إليه، وعدم الشرك به شيئاً، وعدم اتخاذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ، كالوثن والصليب والصنم والطاغوت والنار”[2].

فالبحث عن نقاط الاتفاق يسهل لنا الحوار ويمكِّننا من تحديد نقاط الاختلاف، فعند النقاش مثلاً في مسألة العلمانية، يفيد جداً معرفة ما إذا كنت تؤمن بالله أم لا، وما إن كانت للقرآن حجية عندك، وهذا يجعل من الحوار أكثر دقة وأغزر فائدة.

3.الابتعاد عن مجاملة الخصوم
حيث نذكر هذا هنا في محاولة لوصف ما اعترى أسلوب التفكير الإسلامي الحديث بسبب الشعور العارم بالهزيمة أمام الحضارة الغربية، فأي إعجاز علمي -بغض النظر عن صحته- صار مقبولاً، أي عالم غربي أو حتى مغنية يؤمن، يصبح من كبريات الحجج الإسلامية، بل صار البعض يخجل حتى من ذكر أسماء علماء السلف ويحاول ليَّ عنق النصوص لتناسب أهواءه، وأيضاً هناك الحالة النفسية التي تصيب البعض عندما لا يستطيع هداية أحدهم، من حزن وتحسر أو حتى خوف على خلوده في جهنم، وهذا غالباً ما يحدث مع الآباء عندما يرتد أبناؤهم فيصيبهم الاكتئاب وفقدان الثقة بالنفس وأحياناً التخلي عن العمل الدعوي، وقد كثرت الآيات التي تنبه على عدم نحو هذا السلوك، لأنه لا يورث في صدر الآخرين إلا الشعور بضعف وانهزامية هذا الدين وحتى استحقاراً لمن يدعو إليه، فيقول تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء} [القصص:56]، وفي موضع آخر: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، و”باخع نفسك” تعني قاتلها ومهلكها أو مجهدها”[3]، والآثار جمع أثر أي على إثر توليهم وإعراضهم[4]. فالجميع يمتلك حرية الاختيار التي مهما تأثرت بالمؤثرات الخارجية لا تنعدم، فنبوة نوح عليه السلام لم تمنع كفر ابنه ولا ادعاء فرعون الألوهية منع إيمان امرأته.

ومن هنا يجب علينا عدم دخول الحوار بنفس خائرة فاقدة الثقة بتاريخها وحضارتها وثقافتها، وأن لا نجامل أحداً في ديننا بل نكون واضحين وصادقين معه، ونظل حريصين مع ذلك على هدايته وإخراجه من الظلمات إلى النور، ولكن يبقى شعارنا في هذا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105].   

نماذج من الحوار القرآني
1.مناظرة إبراهيم الخليل عليه السلام مع الملك:

قال تعالى: {ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].

يذكر الله تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد الذي ادعى لنفسه الربوبية، فأبطل الخليل عليه دليله، وبين كثرة جهله وقلة عقله، وألجمه الحجة، وأوضح له طريق المحاججة[5].

ولربما يكون هذا الحوار الأكثر ملاءمة لما نعيشه نحن أبناء القرن الواحد والعشرين، فقد صار باب طرح الأفكار مفتوحاً على مصراعيه لمن هو مؤهل ولمن ليس بأهل، بل صار إنكار البديهيات والمسلمات من أهم شعارات ما بعد الحداثة، التي ما هي إلا انتكاسة الفطرة إلى السفسطة.

فهنا يبدأ الحوار بقول إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، متحدثاً عما أجمعت عليه البشرية بتفرد الله وحده بقدرة الإحياء والإماتة، فيرد عليه الملك بكل عجب ووقاحة: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، يعني إذا أتي بالرجلين قد تحتم قتلهما، فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر فكأنه قد أحيا أحدهما وعفا عن الآخر[6].

وهذه قمة السفسطة وانعدام المنطق، فمن الواضح أن الإحياء والإماتة ليس بهذا الشكل، وردُّ إبراهيم عليه السلام لم يكن بإعادة شرح معنى الحياة والموت والدخول في تفاصيل كلامية ستجعل النقاش ضبابياً غير واضح، بل انتقل إلى دليل هو أكثر سطوعاً وقوة، حيث قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، فقدرة الله واسعة لا تنحصر بالإحياء والإماتة، والظالم لنفسه وللآخرين، لن يكون منه إلا الكفر والضلال والتكبر على الحق ورفضه، ومثل هذا لا ينال الهداية بحال من الأحوال.

2.حوار قابيل وهابيل:
قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)} [المائدة:27-29].

وفي هذا الحوار بين قابيل وأخيه هابيل نتعلم معاني التريث والهدوء، فرغم مصارحة قابيل أخاه بالقتل، لم يهتج لهذا وسارع مباشرة لتهديده بالمثل، بل أجابه بأن الله يتقبل لمن يتقيه ويخشاه، ونجد أن هابيل عوضاً عن أن يغضب ويتوعد، يحاول أن يحذر أخاه وينبهه ويرشده بطريقة غير مباشرة، وإن كان يتحدث بضمير المتكلم لا المخاطب، فالكلمات التي قالها له فيها استثارة لعواطف قابيل وفطرته، ودعوة له للتفكر جيداً قبل الإقدام على هذه الخطوة، التي ستكلفه دخول جهنم والخسارة في الدنيا والآخرة.

يقول الله تعالى بعد ذلك: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:30]، فلربما تشير هذه الآية إلى أن قابيل قد حادث نفسه بالفعل جراء ما سمع، ولكنها مع ذلك  سوغت له فعلته وطاوعته على قتل أخيه، وبهذا فإنه سن سنة القتل وصار ذنب كل من قتل من بعده في عنقه، ويا لعظم هذا من خسارة.

يوم الفصل
لقد تعددت الآراء و المذاهب والأفكار والمعتقدات التي آمن بها البشر، وتنوعت طبائعها وخصائصها، وكلهم يرون أنهم أهل الحق وأصحابه والباقي أهل الضلال، ولهذا كان الحوار وسيلة من وسائل الوصول للحقيقة، ولا يعني هذا أن الناس سيصبحون على ملة واحدة بذلك، فالله سيفصل بيننا بالحق بعد كل هذا النقاش والجدال، وأن هذا ما هو إلا بلاء منه، فهو القائل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة:48]، ونجد في موضع آخر أن الله سيسأل الناس عن البراهين التي سوغت شركهم بالله عز وجل فيقول: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، فهناك كما يبدو نوع من الحوار النهائي يوم القيامة، وبعد ذلك لن يعذب الله  كل من لم تقم عليه الحجة أو تبلغه الرسالة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].


الهوامش

[1] البوطي، محمد سعيد رمضان(سنة النشر غير معروفة).أدب الحوار في كتاب الله عز وجل. (مكان النشر غير معروف): نحو القمة للطباعة والنشر.

[2] الزحيلي، وهبة(2009). التفسير المنير ج2 ط10 ص275. دمشق، سوريا: دار الفكر.

[3] مخلوف، حسنين محمد (سنة النشر غير معروفة). وتفسير وبيان كلمات القرآن ص127. دمشق، سوريا: مكتبة دار الإحسان.

[4] الزحيلي، وهبة(2009). التفسير المنير ج 8 ط10 ص222. دمشق، سوريا: دار الفكر.

[5] ابن كثير، إسماعيل (2001)، قصص الأنبياء ط1 ص146. دمشق، سوريا: دار الفيحاء.

[6] ابن كثير. قصص الأنبياء ص147. مرجع سابق.

المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
وهبة الزحيلي، التفسير المنير، دار الفكر:2009.
ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار الكتب العلمية: 1998.
معن محمود عثمان ضمرة، الحوار في القرآن الكريم، جامعة النجاح الوطنية: 2005.
محمد متولي الشعراوي، قصص الأنبياء، دار القدس: 2006.
عبد الرحمن حبنكة، فقه الدعوة إلى الله، دار القلم:1996.
عبد الرحمن حبنكة، ضوابط المعرفة، دار القلم: 1993.
محمد سعيد رمضان البوطي، أدب الحوار في كتاب الله عز وجل، نحو القمة للطباعة والنشر.
ابن كثير، قصص الأنبياء، دار الفيحاء: 2001.
حسنين محمد مخلوف، تفسير وبيان كلمات القرآن، مكتبة دار الإحسان.

بلاغة الحوار في قصة إبراهيم عليه السلام

تتعانق الكلمات في قصيدة وتجلس بود في قطعة نثرية وتصطف بتجهم في رسالة أكاديمية، وتتسامى وتتخاصم، وما بين أسمال الزور وكساء الحق تظهر عوراتها أو تسدد لحاجاتها، فإن ارتقت مرتقى الرأي الحكيم والحوار السديد، سبقت حد الظباة، وأسنة الرماح، فبالكلمة انتصر ابن عباس رضي الله عنه على فئة الحرورية التي إن قوتلت استبسلت، ففصاحة العربي وقوة حجته ورجاحة عقله لا بد أن تستقي من نبع عظيم: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}[1].

القرآن الكريم الذي تصغر أمامه كل الكلمات وتتماهى في حضرته جميع الحوارات، الفصاحة والصرامة، اللين والشدة، القول الذي يعقبه الفعل، وللرافعي إحساس عظيم بمكنونات كتاب كريم حيث قال واصفاً القرآن الكريم: “ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكر الدنيا فمنها عمادها ونظامها، وتصف الآخرة فمنها جنتها وضرامها”[2].

فما بين الوصف اللغوي، والبنية المتناسقة تتجلى الحوارات القرآنية التي اختصت بالبلاغة والوضوح، وسلامة السبك ودقة التعبير، وعمق الفكرة، وحلاوة الإقناع لمن كان له لب حكيم، حيث أن الباطل يزهو وهو صغير، والحق يعلو وهو كبير، ومابين هذا وذاك تكون الحكمة والعقل الرشيد، ومن أوتي الرشد فقد أوتي الخير الكثير: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيم رُشْده مِنْ قَبْل}[3].

خليل الله وأبو الأنبياء عليه السلام، الذي أمسك جمرة فؤاده واطمأن أنها على هدى ولم يبالِ بعدها بشيء! {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}[4]، إثارة الشك وطرح التساؤل وبيان الاستنكار، منهج النبي الكريم في قلب ميزان الكافرين على ذواتهم المختبأة تحت ظل تمثال! وفيء حجارة! بأسُ الروح الخاوية وجلدُ الباطل الواهي! وانطفاء البصيرة وتحسس آثار من سبق حتى ولو كانوا يمضون إلى الهاوية، لجأ سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى استنزاف الحجة وربط المنطق بواقع الحال واستفزاز صحوة القلوب، وصوت العقول.

وللإمام ابن كثير تفسير واضح وتأويل جميل، فيقول في معنى الآية الكريمة “إن الرشد الذي أوتي لسيدنا إبراهيم تمثل جلياً بالإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عز وجل، حيث أنهم اعتكفوا لعبادتها واجتمعوا على حجارة لا تضر ولا تنفع”[5].

{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}[6]، الحجة السقيمة، التي تلعب على أوتار الزمن بلا تعب، كلما آن لها أن تموت لبى نداءها طائفة من ضعاف العقول فنصروها بقولهم هكذا كان آباؤنا وأجدادنا فاعلين، يعز عليهم كسر صنم الاعتياد، بفأس الحقيقة وساعد الإيمان، عبودية الطين للحجارة أي خواء هذا! بل أي عبادة تلك؟

{قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، يقول الإمام السعدي رحمه في تفسير الآية الكريمة “من المعلوم أن فعل أحد من الخلق سوى الرسل، ليس بحجة، ولا تجوز به القدوة، خصوصاً في أصل الدين، وتوحيد رب العالمين، ولهذا قال لهم إبراهيم مضللاً الجميع، أي ضلال بين واضح وأي ضلال أبلغ من ضلالهم في الشرك وترك التوحيد وللتوضيح اللفظي أن ليس ما قلتم يصلح للتمسك به وقد اشتركتم مع من سبقكم في الضلال البين”[7].

 {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ}[8]، هكذا قال قوم إبراهيم -لما دعاهم إلى التوحيد- فهم يدركون أن الدين الحق لا يجتمع مع اللعب والباطل؛ وهذا ما يريده بعض المنهزمين أن تعيش الأمة بدين ملفق يجمع أنواعًا من اللعب والباطل مع شيء من الحق، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}[9]، الحق أبلج والباطل لجلج، وهيهات أن يصبغوا حقنا بباطلهم وأن يدنسوا توحيدنا بشركهم، أراد قوم إبراهيم المفاصلة، فإما توكيد لدعوة الإيمان أو عودة لأهل الأوثان، ولم يعلموا بأن تلك المفاصلة لن تنجب سوى النصر.

{قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمٰوٰتِ وَالْأَرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ وَأَنَا۠ عَلٰى ذٰلِكُم مِّنَ الشّٰهِدِينَ}[10]، العقيدة التي انتصر لها سعد ففداه النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم “ارم سعد، فداك أبي وأمي”، التوحيد الذي ذاق حلاوته عمر بصدق الولاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم “الآن يا عمر”، الإسلام الذي أحبته سمية فنالت لقبا ناضل دونه الرجال، هذه الومضات تعلمنا أن خالق السماوات والأرض يهب الإيمان لقلوب حية، لأفئدة تنبض بعزة التوحيد والإسلام، ألقى خليل الله بحقيقة التوحيد أمام أعين المشركين وشهد لهم بذلك، فهل تعشى الأبصار ؟

{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنٰمَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذٰذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}[11]، بفأس الحق وساعد الإيمان، بهمة أمة، حُطمت الأصنام واساقطت حجارة الضلال، وتهاوى الباطل في ضعف، وبقي الفأس رمز الحرية من براثن الطغاة، أيقونة المؤمن القوي، الذي اهتدى فآمن فغيّر الفأس الذي ما كان لولا {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}[12].

أبقى خليل الله برهان حجته، كي يعلم من في قلبه حبة خردل من نور أن لا إله إلا الله، وأن لا حول ولا قوة بحجارة لا تدفع عن نفسها ولا عن أمثالها نفعا أوأذى.

{قَالُوا مَن فَعَلَ هٰذَا بِـَٔالِهَتِنَآ إِنَّهُۥ لَمِنَ الظّٰلِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُۥٓ إِبْرٰهِيمُ (60)}[13]، يقول الإمام السعدي في تفسير الآيات “فحين رأوا ما حل بأصنامهم من الإهانة والخزي {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ْ} فرموا إبراهيم بالظلم الذي هم أولى به حيث كسرها ولم يدروا أن تكسيره لها من أفضل مناقبه ومن عدله وتوحيده، وإنما الظالم من اتخذها آلهة، وقد رأى ما يفعل بها )[14]، الفتى بعين قومه كان أمة كاملة، المقياس هُنَا أهمية الفرد وإمكانية تغييره لمعادلة الواقع وتبديل المعطيات المحسوسة بإدراك المرء ضرورة إحداث التغيير، بدءاً من هدم طواغيت الذات التي جُعلت أرباباً تُعبد من دون الله بالباطل، فمن غلب هوى نفسه وأمسك جمرة فؤاده يقلبها في كفه كيفما شاء، جُعلت الدنيا أمامه يُغالبها فيغلبُها، فتطوعُ له سيداً عليها قد كفر بأصنامها فأمسى حُراً يُمسك فأس حقه بيمناه، وفسيلة مجده بيسراه، لتطيح أوثان العبودية على وقع هُتاف فردٍ أصبح أُمَّة، وأما من عبدَ وركع وسجد لوحش ذاته الذي اقتات على بقية إنسانيته المتمثلة بحريته ونال من بصيص روحه الذي بهت وخفت فاختفى لأن النور لا يليق بالعبيد، هذا العبد لن تسوؤه عبوديته فهومن ينصب صنماً ويزينه لنفسه ومن ثم يبدأ بعبادته.

{قالوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هٰذَا بِـَٔالِهَتِنَا يٰٓإِبْرٰهِيمُ}[15]، أراد القوم التيقن والتثبت من الأمر، فسألوا النبي الكريم، وهنا كانت حلاوة الإجابة وبرهان الحق إذ قال: {بَلْ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمْ هٰذَا فَسْـَٔلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}[16].

المؤمن القوي الذي جمع الحجة والعمل، وضحى بروحه، في سبيل أن يهتدوا، أن يعلموا أن لا إله إلا الله، ما أثمن هذا الكلمات التي تراق على جنباتها الدماء الزكية التي تعبق إيمانا وتنفح توحيداً، أقام الحجة الواضحة، وألقى بالبرهان الجلي ولكنها تعمى القلوب التي في الصدور.

{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوٓا ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فٰعِلِينَ}[17]، ما كل مجادل يبحث عن الحق أويقبله، فإن إبراهيم أقام لقومه أقوى الحجج والبراهين على بطلان أصنامهم، ومع ذلك اتفقوا عناداً “حرقوه وانصروا آلهتكم”.

{قُلْنَا يٰنَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلٰمًا عَلٰىٓ إِبْرٰهِيمَ}[18]، النداء الإلهي، الذي ربت على روح إبراهيم، حتى النار بشدتها وقسوة ملامحها غدت برداً عليه وسلاماً على روحه المنهكة من مقارعة أهل الباطل والجدال، الطمأنينة التي تنساب من ثنايا الآية الكريمة تجعل كل الخيبات والشتات في محراب المناجاة تضيء منها بواعث الاهتداء، يقول المفكر الشهيد سيد قطب “أنتم الأعلون اعتقادا وتصورا للحياة وأنتم الأعلون ارتباطا وصلة بالعلي الأعلى، وأنتم الأعلون منهجا وهدفا وغاية، وأنتم الأعلون قدوة ومكانا ونصرا”[19].

إن حقيقة التوحيد تكمن في كونه درب لا يعبّد إلا بالتضحيات، ففي كل مرة تغرقنا البلايا، وتتصرم من حولنا حبال الخلق السرابية، لن ينتشلنا سوى حبل الحق الممتد للسماء، لنعلم ونوقن أن الله يعلو ولا يعلى عليه.


الهوامش

[1] سورة غافر الآية 28

[2] تاريخ آداب العرب الصفحة 281

[3] سورة الأنبياء الآية 51

[4] سورة الأنبياء الآية 52

[5] تفسير ابن كثير الصفحة 326

[6] سورة الأنبياء الاية 53

[7] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان الصفحة 326

[8] سورة الأنبياء الاية 55

[9] سورة يونس الاية 32

[10] سورة الأنبياء الاية 56

[11] سورة الأنبياء الاية 57 والاية 58

[12] سورة النحل الاية 121

[13] سورة الأنبياء الاية 59 والاية 60

[14] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للامام السعدي الصفحة 327

[15] سورة الأنبياء الاية 62

[16] سورة الأنبياء الاية 63

[17] سورة الأنبياء الاية 68

[18] سورة الأنبياء الاية 69

[19] ظلال القرآن للأستاذ الشهيد سيد قطب في تفسير آية  ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون)

الكوثر من سورة الكوثر

لا يخفى أن القرآن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الباقية إلى يوم القيامة، وأن الله تحدى به أهل الفصاحة والبيان، فحول العرب الأقحاح، فتحداهم أن يأتوا بمثله ثم بعشر سور، ثم بسورة مثله، فما استطاعوا له، ولما علموا عجزهم وأصروا على كفرهم اتهموا النبي بالسحر والجنون!

واليوم يأتي أحدهم فيدعي المطاعن في القرآن، ويكأنه تبين له ما لم يتبين لأفذاذ اللغة قبله، ولإن سألته مسألة في الآجرومية ربما لم يجد جوابا.

وروى الخطابي قال: سمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج قال: سأل رجل بعض العلماء عن قول الله عز وجل: {لا أقسم بهذا البلد} فأخبر أنه لا يقسم ثم أقسم به في قوله: {والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا} فقال له ابن سريج: أي الأمرين أحب إليك؛ أجيبك ثم أقطعك، أو أقطعك ثم أجيبك؟ قال: لا بل اقطعني ثم أجبني. فقال له: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة رجال وبين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزًا، وعليه مطعنًا فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به وأسرعوا بالرد عليه، ولكن القوم علموا وجهلت، فلم ينكروا ما أنكرت، ثم قال له: إن العرب قد تُدخل “لا” في أثناء كلامها وتلغي معناها، كقول الشاعر: في بئر لا حور سرى وما شعر. يريد في بئر حور سرى وما شعر(1).

فكانت هذه المقالة المقتصدة في العبارة، لتفتح للقارئ نافذة على بعض بلاغة القرآن فلا يغتر بكل ناعق، ولأن الوقوف على بلاغة القرآن هو وقوف على موطن الإعجاز فيه، ولا يخفى ما في هذا من رسوخ الإيمان في القلوب، وهو ما نحتاجه في قلوبنا وقلوب أبنائنا اليوم في ظل انتشار الشبهات وتسلط الشهوات.

وسنتناول في هذه المقالة أقصر سور القرآن آيًا وكلمات، ألا وهي سورة الكوثر، فهي على قلة ألفاظها وقصر جملها كاسمها كوثر في المعاني، كوثر في البلاغة.

أولا: في سبب نزولها:
قيل نزلت في العاص بن وائل وقيل في غيره(2)، ذلك أنهم وصفوا النبي ﷺ بالأبتر حين مات ولده عبد الله -أي أنه إذا مات انقطع ذكره- فأنزل الله هذه السورة.(3)

ثانيا: في معاني مفرداتها:
الكوثر: “فَوْعَل من الكثرة وهو المفرط في الكثرة، قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر.”(4)، وفسر الكوثر في السورة بتفاسير عديدة لعل أعمها وأقربها أنه الخير الكثير كما روي عن ابن عباس.(5)

النحر: طريقة الذبح الخاصة بالإبل، “ونحر البعير ينحره نحرا: طعنه في منحَرِه حيث يبدو الحلقوم من أعلى الصدر”(6)

الشانئ: المبغض، قال ابن فارس: “الشِّينُ وَالنُّونُ وَالْهَمْزَةُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْبِغْضَةِ وَالتَّجَنُّبِ لِلشَّيْءِ.”(7)

الأبتر: “البَتْرُ: قَطعُ الذَّنَب ونحوه إذا استأصَلْتَه”(8) ثم “قيل لمن لا عقب له أبتر، على الاستعارة، حيث شبه الولد والأثر الباقي بالذنب”(9)

ثالثا: مختصر تفسير السورة:
إنا آتيناك -أيها الرسول- الخير الكثير، ومنه نهر الكوثر في الجنّة. فأدّ شكر الله على هذه النعمة، فصل له وحده واذبح. إن مبغِضك هو المنقطع أثره، المقطوع من كل خير.

رابعا: في أساليب البلاغة فيها:
1- ذكر فخر الدين الرازي رحمه الله في تفسيره أن هذه السورة بمثابة المقابلة للسورة التي قبلها سورة الماعون، لأن سورة الماعون وصف الله تعالى فيها المنافق بأربعة أمور: البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة، فذكر الله تعالى في هذه السورة في مقابلة البخل “إنا أعطيناك الكوثر” أي الخير الكثير، وفي مقابلة ترك الصلاة “فصل” أي فدم على الصلاة، وفي مقابلة الرياء “لربك” أي لرضاه لا للناس، وفي مقابلة منع الماعون “وانحر” وأراد به سبحانه التصدق بلحوم الأضاحي.(10)

2- استعمال ضمير الجمع الدال على العظمة في قوله “إنا”: ففيه تعظيم الواهب سبحانه والإشعار بالامتنان بعطاء عظيم وتشريف بذلك للموهوب له وهو النبي ﷺ.(11)

3- تصدير السورة بحرف التوكيد الجاري مجرى القسم “إن” وذلك لتحقيق الخبر الآتي والاهتمام به.(12)

4- مجيء الفعل بصيغة الماضي الدالة على تحقق الوقوع وفي ذلك مزيد تأكيد وفيه دلالة على أن المتوقع من عطاء الكريم في حكم الواقع.(13)

5- قوله: (أعطيناك) “لم يقل أعطينا الرسول أو النبي أو العالم أو المطيع، لأنه لو قال ذلك لأشعر أن تلك العطية وقعت معللة بذلك الوصف فلما قال (أعطيناك) علم أن تلك العطية غير معللة بعلة أصلا بل هي محض الاختيار والمشيئة.”(14)

ويدل على ذلك أيضا تقديمه الإعطاء على الأمر بالعبادة، فيدل ذلك كله على تشريف النبي ﷺ وأن الاختيار والعطاء إنما هو بمجرد الفضل والإحسان من الله تعالى من غير موجب.

6- إسناد الفعل إلى المبتدأ “إنا” وفي تبيين هذا يقول الرازي: “أنه بنى الفعل على المبتدأ وذلك يفيد التأكيد والدليل عليه أنه لما ذكرت الاسم المحدث عنه عرف العقل أنه يخبر عنه بأمر فيصير مشتاقا إلى معرفه أنه بماذا يخبر عنه، فإذا ذكر ذلك الخبر قبله قبول العاشق لمعشوقه، فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفي الشبهة..
وذلك كقول الملك العظيم لمن يعده ويضمن له -ولله المثل الأعلى- :أنا أعطيك، أنا أكفيك
وذلك لكون الموعود به عظيما -وهو الكوثر- فعظمه يورث الشك في الوفاء به، فكان إسناده إلى متكفل عظيم يزيل هذا الشك ويدحضه”.(15)

7- حذف موصوف الكوثر وهو أبلغ في العموم لما فيه من عدم التعيين، وفرط الإيهام والشياع والتناول على طريق الاتساع.(16)

8- الإتيان بالصفة التي تدل على المبالغة “الكوثر” وهي كما سبق المفرط في الكثرة، وهي كما فسرها ابن عباس الخير الكثير، ونقل الرازي في معناها 15 قولا(17) منها قول ابن عباس وذكر القرطبي فيها 16 قولا(18) منها ما يختلف مع ما عدده الرازي فيكون مجموعها 23 قولا، وقال صاحب البحر المحيط أن ابن النقيب ذكر في تفسيره 26 قولا(19) ولم أستطع الوقوف عليها، وكلها ترجع إلى معنى الخير الكثير كالنهر في الجنة والحوض وكثرة علماء الأمة وكثرة الاتباع والأشياع والنبوة والمقام المحمود والقرآن والإسلام.

9- تعريف الكوثر بالألف واللام “المعروف بالاستغراق لتكون لما يوصف بها شاملة ولإعطاء معنى الكثرة كاملة”.(20) وفي كل هذا التأكيد وهذه المبالغة تشريف للنبي ولأمته بهذا العطاء الجزيل، وتسلية لقلب النبي ﷺ في ظل ما أصابه من أذى المشركين.

10- استخدام الفاء في قوله: (فصل) التي تفيد التعقيب وعدم التراخي ففيه “التنبيه على أن شكر النعمة يجب على الفور لا على التراخي”.(21)

11- الفاء التي تفيد السببية من جهتين:”أحدهما: جعل الأنعام الكثيرة سببا للقيام بشكر المنعم وعبادته”(22)، “والثاني: سببية ترك المبالاة كأنهم لما قالوا له إنك أبتر فقيل له كما أنعمنا عليك بهذه النعم الكثيرة، فاشتغل أنت بطاعتك ولا تبال بقولهم وهذيانهم”.(23)

12- فن المذهب الكلامي، أو كما ذكره ابن النقيب باسم الاحتجاج النظري، “وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدل عليه بضرب من المعقول”(24)، تستنتج فيه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة، ففي هاتين الآيتين مقدمتان ونتيجة، فلما كان الشكر على مقادير النعم، ولما أمر الله تعالى نبيه بشكر هذه النعمة بالصلاة التي هي قوام الأعمال البدنية، نحر الإبل التي هي سنام الأعمال المالية -وإنما خص الإبل لأنها أعز أموال العرب، وفيه إشارة إلى الانقطاع عن الدنيا ولذاتها-، دل ذلك أن عطية الكوثر تعدل جميع العطيات(25)

13- التعريض بحال المشركين ممن كانت عبادته ونحره لغير الله تعالى، في قوله: (لربك)، أي مخلصا له في صلاتك وذبحك.(26)

14- وضع المظهر موضع المضمر: فلم يقل: فصل لنا وانحر، وإنما أظهر بلفظ الرب وهو نوع من الإطناب في الكلام، “ذلك أن صرف الكلام من المضمر إلى المظهر يوجب نوع عظمة ومهابة، ومنه قول الخلفاء لمن يخاطبونهم: يأمرك أمير المؤمنين، وينهاك أمير المؤمنين.”(27) “فأغنى هذا المعنى عن استعمال صيغة من صيغ الحصر، للدلالة على وجوب إفراد الله عز وجل بالصلاة والنسك.”(28)

15- الالتفات: من ضمير المتكلم في (إنا أعطيناك) إلى ضمير المخاطب في (لربك)، وهي من أمهات أبواب البلاغة، “فلما أتى بمظهر العظمة لتكثير العطاء فتسبب عنه الأمر بما للملك من علو، فوقع الالتفات إلى صفة الإحسان المقتضي للترغيب، والإقبال لما يفيد من تحبيب”(29)، وفي إضافة رب لضمير المخاطب تشريف للنبي وتسلية له بأن الله يرأف به ويربيه.

16- إيجاز الحذف: ذلك أن تقدير الكلام فصل لربك وانحر له “فحذف اللام الأخرى لدلالته عليها بالأولى.”(30)

17- التوكيد الجاري مجرى القسم في قوله: (إن شانئك هو الأبتر).

18- الاستئناف الذي يفيد التعليل: فقوله: (إن شانئك…) استئناف معلل لقوله: (فصل…)، ففيه حث للنبي ودعوة له بالإقبال على الطاعة وعدم الاكتراث لأمر شانئه فهو الأبتر.

19- عدم ذكر اسم الشانئ: وإنما ذلك ليتناول كل من كان في مثل حاله(31)، وفيه تحقير له أيضا.

20- ترك التوجه له بالخطاب، وإنما ذكره بصيغة الغائب، فلم يقل: يا شانئ النبي أنت الأبتر أو ما شابهه، وفي ذلك امتهان له وتحقير لشأنه أيضا.

21- “أن الكفار لما شتموه، فهو تعالى أجاب عنه من غير واسطة، فقال: (إن شانئك هو الأبتر) وهكذا سنة الأحباب، فإن الحبيب إذا سمع من يشتم حبيبه تولى بنفسه جوابه، فههنا تولى الحق سبحانه جوابهم”.(32)

22- قصر القلب المستفاد من ضمير الفصل “هو”: لأن ضمير الفصل أفاد حصر صفة الأبتر في الموصوف شانئ النبي واختصاصه بها، فكأنه يقول: هو الأبتر لا أنت.(33)

23- تعريف الخبر بالألف واللام: “الدالة على حصول هذا الموصوف له بتمامه”.(34)

24- الإتيان بالصفة على أفعل التفضيل بدلا من اسم المفعول(35): فلم يقل مبتور ولكن قال أبتر، ويدل ذلك على مبالغة استحقاق الموصوف لهذه الصفة.

25- أسلوب الحكيم: “وهو تلقي السامع بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أن الأحق غير ما عناه بكلامه… وذلك بصرف مراد القائل عن الأبتر الذي هو عديم الابن الذكر إلى ما هو أجدر بالاعتبار وهو الناقص حظ الخير”(36)

26- الاستعارة: في قوله: (الأبتر) كما سبق، فشبه الذكر الحسن والخير بالعقب.

27- الطباق: في (الكوثر) و(الأبتر) “لأن الكوثر الخير الكثير والأبتر المنقطع عن كل خير”.(37)

28- إيجاز القصر: فعلى قصرها احتوت معاني جمة غزيرة، كما ذكرنا في تفسير الكوثر.

29- السجع(38): في خاتمة الآيات (الكوثر، انحر، الأبتر).

30- عدم التصنع والتكلف: فـ”مع كونها مشحونة بالنكت الجلائل، مكتنزة بالمحاسن غير القلائل” فهي “خالية من تصنع من يتناول التنكيت، وتعمل من يتعاطى بمحاجته التبكيت”.(39)


[إعجاز القرآن](48):1

[تفسير الطبري](697-701/24):2

[أسباب النزول للواحدي](494-495):3

[الكشاف](806/4):4

[البخاري:4966]:5

[لسان العرب](195/5):6

[مقاييس اللغة](217/3):7

[العين](117/8):8

[روح المعاني](247/30):9

[تفسير الرازي](117/32):10

[تفسير الرازي](121/32):11

[تفسير الرازي](122/32):12

[إعجاز سورة الكوثر للزمخشري](57):13

[المرجع12]:14

[الرازي](121-122/32)بتصرف،وانظر[المرجع13]:15

[المرجع13]،وانظر[دقائق التفسير،ابن تيمية](312/5):16

[الرازي](124-128/32):17

[تفسير القرطبي](520-522/22):18

[البحر المحيط](556/10):19

[المرجع13]:20

[الرازي](129/32):21

[مقدمة تفسير ابن النقيب](254)”مطبوع باسم الفوائد المشوق لابن القيم”:22

[الرازي](131/32):23

[مقدمة تفسير ابن النقيب](136):24

[إعراب القرآن،للدرويش](598/10):25

[المرجع22]:26

[المرجع23]:27

[معارج التفكر](658/1):28

[نظم الدرر](290/22):29

[إعجاز سورة الكوثر](58):30

[المرجع22]:31

[الرازي](134/32):32

[التحرير والتنوير](576/30):33

[دقائق التفسير](314/5):34

[المرجع34]:35

[التحرير والتنوير](577/30):36

[التفسير المنير](831/15):37

[المرجع30]:38

[إعجاز سورة الكوثر](60):39

أم على قلوب أقفالُها؟

تعددت القوانين والأنظمة ويبقى دستور الحياة واحد، دستور إلهيٌ قائم على أساس تربوي وأخلاقي يرمي بالأساس إلى توجيه الخَلق للصراط المستقيم  وإشراق غسق الانحلال عن العقيدة والدعوة السمحة واللينة المليئة بالبراهين الشافية لأسئلة النفوس البشرية إلى الاستمساك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، فكان من رحمة الإله وحكمته أن أنزل آيات القرآن الكريم التي تُنزل السكينة على الصدور، المُضمدة للجراح  والحاملة بين أحضانها: أصول الفقه، الإعجاز (العلمي، البياني، الغيبي، والتشريعي)، والعظة والعبرة من الأقوام السالفة[1].

حيث تعددت أساليب الدعوة في القرآن الكريم فمنها ما يخاطب الألباب ومنها ما يخاطب الأفئدة، فكان من أهمها أسلوب الترغيب والترهيب، الذي أكده المفسرون، فهذا الزمخشري ينص على أن “من عادته عز وجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع البشارة بالإنذار”، ويذكر ابن كثير أنه “كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الترغيب والترهيب في القرآن…فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة، وصفة الجنة والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة، وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها، وتارة بهذا وبهذا؛ لينجع في كل بحسبه”[2]، فتمّثل هذا الأسلوب بآيات الوعد التي تُحفز في  نفس المؤمن الحماسة للشروع بفعل الأوامر المُكَلَّف بها ليحوز على الثواب الدنيوي والآخروي كما عَهِد له سبحانه في قرآنه العظيم فقال تعالى في سورة الدخان: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ(53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ(54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ(55)لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيم(56) فَضْلا مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(57)}.

كما أنّ هذه الآيات المباركة تُوثِّق رباط الوداد بين العبد وربه لإنها تبعث في خافقه الشعور بالرضا الُمنطلق من طبيعة العلاقة الرابطة بين الله والمؤمن المبنية على عماد العطاء الرباني المعنوي والمادي للعبد الأوَّاب كثير الطاعات، بالإضافة إلى جعلها المسلم حليمًا على حاله أياً كان وزاهداً في ترف الدنيا ومتاعها لأنه مُتيّقن بالفوز العظيم من اللطيف الكريم وأنّه لا يُضيع أجر المحسنين، فكان هناك الكثير من الأمثلة على آيات الوعد لأشخاص صبروا وأطاعوا الله فبشرهم بأنّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا وما سيتمتعوا به من شراب وطعام لا مثيل له في الحياة الدنيا، فهذا جزاء العمل الصالح المُصَدّق باليقين (ومَن أحسنُ منَ اللهِ حُكماً لِقَومٍ يوقنون (المائدة(50)}.[3].

وهكذا يجب أن يكون ظن العبد بربه أنه الرحيم المعطاء مع عدم تعتيمه على الجانب الآخر الذي صرف الله تعالى الأنظار إليه بآيات الوعيد المُلاصقة لآيات التبشير لردع استمالة أهواء بني آدم للشهوات ولاستقامة  زيغ قلوبهم عن الحق، مثلما جاء بسورة الدخان التي تحدثنا عنها مُسبقا فهي لم تقتصر فقط على ذكر البُشريَات فقال تعالى عز وجل: ( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ(47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48))، فهذه الآيات العظيمة لها وَقعٌ خاص في الروح فهي تُثير الوجل والرعب فيها عندما تصدح و تتردد في المسامع مما يجعل الإنسان الحائد عن الطاعات المُنغمس بالمعاصي والذنوب يُفكر بالرجوع والإنابة إلى الله والعزم على التوبة النصوحة التي ستُنجيه من هذه الأهوال العظيمة الواصفة  لعذاب أهل النار وشرابهم ودركاتهم وكيفية نمط حياة الخلود في جهنم وبئس المصير، فهذا المضمون الخطير والمخيف الذي أنذرت به الآيات ليستدرك كلٌ منا نفسه ويَهُم بتصحيح ذاته سواء أكان ملتزما فيزداد التزاما وطاعةً واتقاناً للعبادات ليلوذ بالفرار من الدنو من هذا العقاب  إلى الفردوس الأعلى بإذن الله ورحمته، فإن لم يكن كذلك أي كان مُنقاداً وراء الشهوات ومُنحلاً عن الطاعات فيستذكر عاقبته الوخيمة والعياذ بالله، لذا يجب على الإنسان التفكر بآيات الوعد والوعيد والسعي لأخذ كل الدروس  المُستفادة منها والناصحة له مع الإطلاع على القصص القرآني الذي رافق العديد والعديد من آيات التبشير والتنبيه  لتعلم البشرية جمعاء أن وعد الله حق وأن ما أرسله مع أنبيائه عليهم الصلاة والسلام لم يكن سدى أوعبثا. [4]

فنرى نماذجا جما لمن أعموا أعينهم وصموا آذانهم عن الآيات ولم يأخذوا بالحكمة والدرس الذي تشير إليه،  فمنهم من نال وعيده  لأنه لم يذعن لها  ولم يؤمن بها كمن استهزؤوا بالبعث ومآل من لا يصدق به؛ لذا على الإنسان المسلم القويم  الحرص على عدم تجاهل آيات الوعيد وعليه أن يستنهض الهمة للأعمال الصالحة كي لا يكون من النادمين الذين كانوا  يمترون بوعيد الله الحق يوم لا ينفع فيه بيع ولا خُلّة ، وليكن حاله كحال الصحابة  رضيَ الله عنهم عندما  أنصتوا إلى الآيات القرآنية التي تتحدث عن العذاب  حيث وَجِلَت قلوبهم منها وزادتهم إيمانا كما قال تعالى : {إِنَّما المُؤمِنون الّذينَ إذا ذُكِرَ اللّه وَجِلَت قُلُوبُهُم وإذا تُلِيَت عليهم آياتُهُ زادَتهُم إيماناٌ}[5].

وبالحديث عن أهمية آيات الوعد والوعيد والدروس المُستفادة منها يتوجب على الإنسان الموازنة بينها فلا يجوز أن يكتفي بالقليل من الطاعات التي يظن بها أنه ضمن الفوز الأعظم بل يجب عليه المواظبة والإكثار من الأعمال الصالحة ما دام به نبض، محبةً لله و إقبالاً عليه وبالمقابل لا يجعل علاقته بالله علاقة خوف ورهبة شديدة تجعله  ينظر إلى الله بأنه شديد العقاب فقط، بل عليه أن يكون وسطاً بين رغبته برحمة الله وكرمه وجناته العُلا وبين رهبته من العزيز الجبار ذي البطش الشديد،  فروى الترمذي من حديث أنس: إني النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: «كيف تجدك؟» قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف». (الترمذي)[6]، فنسأل الله دائماً الثبات والطاعة، فقال عز وجل: (يُثّبتُ اللهُ الذين آمنوا بالقَول ِالثّابت في الحياةِ الدّنيا و فِي الآخِرةِ و يُضِلُ اللهُ الظّالمينَ ويَفعلُ اللهُ ما يشاء ( (سورة ابراهيم (27))[7].

وبعد هذه الكلمات المُطَولة والحروف التي حاولت جاهدة إصابة المُرام  الذي كان مفاده  أن ” لا مندوحة من التسليم بأن الكفار والمشركين والمنافقين والظالمين والمكذبين لا تلحق بهم شفاعة، ولا يكون لهم عفو، لما أكّده القرآن من وعد ووعيد. ولن يخلف الله وعده، سواء في الجنة أم في النار” (فرد، 2014م) [8] ، ولا جرم أنّ الكلمات حملت بين طياتها مدى أهمية هذه الآيات الكريمة وغايتها العظيمة التي أتضح  لنا من خلالها كم هي كبيرة  محبة الله لنا و رحمته الواسعة  بنا  حيث ولّى وجوهنا شَطرَ كل ما هو صالح لحياتنا في الدنيا والآخرة عن طريق سوره وكلماته التي تُرّتل في كل بيت مسلم مؤمن بالله تعالى مع أنه هو الغني عنا ونحن الفقراء إليه، فإن أراد الفرد منا أن يكتشف مطالب القرآن و مُراده عليه أن  ينفض النقع عنه الذي كساه بسبب طول الهجران ثم يتلوه حق تلاوته حتى يكون من الفائزين  (الُّذين آتيناهُمُ الكتابَ يتلونَهُ حقَّ تلاوتِهِ أولئكَ يؤمنون به ومن يكفر بهِ فأولئك هم الخاسرون (البقرة (121))[9].

 وقال عليه الصلاة والسلام: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ, وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ؛ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ, وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرّ…) (البخاري) [10]،  فلا يقرأه كلمحٍ بالبصر دون أن يفقه جماله الكامن  وإعجازه النادر على مر العصور والأزمان  كي لا يكون من الخاسرين.

لذا فلتحرص أخي المسلم على التفكر بالقرآن وفهم وتطبيق أوامر الله عز وجل التي وردت فيه، كما قال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (سورة محمد (24))[11]، واضعاً نُصب عينيك السعي وراء رضا الله  لأن التجارة مع الله لم ولن تبور لأنه لا يخلف الميعاد ، ولتكن مخافة الله تاجاً على رأسك فلا تتبع الشهوات ولا تلتفت إلى تشريعات البشر التابعة لهواهم (والله يريد أن يتوبَ عليكم ويريدُ الذين يتبعون َ الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً (سورة النساء آية (27))[12].


  د.فضل حسن عباس. (1991). إعجاز القرآن الكريم [1]

 دراسات قرآنية . (22 4, 2012). تم الاسترداد من اسلام ويب: https://www.islamweb.net/ar/article/174203 [2]

  أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي،. (1999). الكتاب الحاوي في تفسر القرآن الكريم. لبنان: دار الكتب العلمية [3]

أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي،. (1999). الكتاب الحاوي في تفسر القرآن الكريم. لبنان: دار الكتب العلمية [4].

سورة الأنفال آية رقم(2) [5]

محمد بن عيسى الترمذي، سنن الترمذي [6].

سورة ابراهيم آية (27) [7]

 الشيخ عارف هنديجاني فرد. (2014م). الوعدُ والوعيدُ في القرآن الكريم. لبنان: جمعية القرآن الكريم [8].

سورة البقرة (121) [9]

 محمد بن اسماعيل البخاري. (بلا تاريخ). صحيح البخاري برقم  5427.[10]

  1. سورة محمد اية (24)

  [12]  سورة النساء آية رقم (27)

إعجاز حتى في الوعد والوعيد

إنَّ أكثر ما ميز القرآن على مر العصور والدهور هو إعجازه وإتقانه، فكل كلمة فيه لم توضع سدىً، بل كل ناظر فيه سليم القلب والمنهج لا يغلق الدفة إلا وقد عجب من التنزيل الرباني المحكم و خر مقرًا بتنزه القرآن عن كل عائبة وشائبة الصقها به جاحد مغتر.

وها نحن الآن أمام خبر السماء الصادق نتدارس جزئية فيه وفصلا من فصوله نرى معها فصولا من عظمة ربٍ خلق كل شيء فقدره، وسنأخذ آيات الوعد والوعيد نموذجا.

هَلُم نلتقط طرف الخيط من قول ابن تيمية: “كلما كان الناس للشيء أحوج كان الرب به أجود”، وتمثل ذلك في كثرة البراهين التي تجيب حاجتنا للإيمان بربانية القرآن، بل أقصد لتطمئن قلوبنا![1]

سنتطرق إن شاء الله لآيات الوعد والوعيد بالتركيز على عدة نقاط مختصرة تجمع المستفاد منها، وإيلاء أهمية أكبر لآيات الوعيد لأنها هي من قد يُظن بها السوء. فاستمتع وتدبر فإنه قول ثقيل[2]. ولخصنا ذلك في المحاور الآتية:

التربية الأخلاقية للفرد
ميزان العدالة والقانون ومطرقة القاضيلم تقُم أمة أو دولة أو حتى بيت قط إلا على قانون يُؤَطرها و ينظمها، فإن افتتنوا بصنيع حمورابي فديننا هو الآخر أتى بهيكل تشريعي على هيئة خطاب إلهي لعباده مستعملا الوعد والوعيد للترهيب وللترغيب عملا بثقافة المكافأة والتهديد، التي دائما ما اسْتُعملت لزجر وخلق الحافز لنيل المراد، هذا لطبيعة الخطاب القرآني الموجه لكافة الأفهام فالبعض بإقناع عقله يفهم والآخر باستعطاف قلبه يعلم، أيضا ترفع هذه الآيات شأن كل من تحلى بالأخلاق الحسنة، نفع بها نفسه ومحيطه والأهم أنه اكتسب محبة ربه عز وجل فقارن ما ارتضينا لأنفسنا بهذا المقياس السماوي فالرافع الخافض فيه هو الخلق، وبه تُشَيد شخصية المؤمن المتعفف فهو يدرك أنه من العادون إن لم يحفظ فرجه فأمِنا شره وحُفظت الأعراض، وقلبه معلق بجنات المكرمون وذلك إن صان الأمانة وأقام الشهادة[3]، والأكثر أنه متصدق فيُطعم المسكين من الجوع، فيُبطل الله بوعده وتوعده وعدَ الشيطان[4].

انظر وتأمل ماذا يُؤمل من الوعظ بالوعد ومما يُنذر الوعيد فآياته تعالى لم تنزل إلا رسمًا للحدود ودرءًا للفساد والإفساد فقد قال سبحانه: “وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ”[5]، وقال تعالى:”مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا”[6]ـ فالهدف ليس الخلود في النار بل تنظيم دين الناس ودنياهم.[7]

جعل الرهبة لمن يستحقها
يدور معظم الخطاب القرآني حول توحيد الله ورد الفضل له في كل شيء فحتى آيات الوعيد قد نزلت لإنذار الناس ممن يستحق اتقاء عذابه و الحذر من غضبه، ولا نجادل في كونه رحيمًا وهو القائل: “وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ”[8] لكن هذا الترهيب يبخس العدو قيمته ويقلب الرعب بردًا وسلامًا على قلوبنا، فقد صدق من نطق قائلا: “الله ابعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد[9]“، فلا خوف إلا منه سبحانه”فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي”[10].

ومما لفت نظري أن لهذا أثر جلل على سلوك الأفراد فقد جاء في قوله تعالى: “قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ”[11]. فهذا أدل الدليل على أن خشيته تنزع من المؤمن هيبة الأعداء والخوف منهم وهذا نتاج لآيات الوعيد في سلوكهم وطمعهم في ما حملت آيات الوعد لهم[12].

السمو في الوعد والوعيد
عند استرسالنا في إثبات ربانية مصدر القرآن فإننا عادةً ما نستحضر الإعجاز البلاغي و العلمي وغيرها وهذا إن دل على شيء فلن يدل إلا على قوة الحجة وتعدد البراهين “قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَٰلِغَةُ[13]، لكن ما نغفله هو اللغة القرآنية المتعالية عن خطابنا رغم أنها موجهة لنا نحن، فالقرآن راقٍ حتى في وعده ووعيده فتدبر قوله :”لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ”[14]، هاهو التوعد والوعيد بالعذاب ثم بعدها مباشرة رحمة :” أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”، تهديد يخلع القلوب ثم يليه خطاب فيه استئناس وإرشاد كلام رب منتقم لكنه رحيم، عزيز لكنه حليم، فهذا ملخص ما ذكره د. إياد قنيبي في مقطع له بعنوان “علوية الخطاب القرآني”. فالقرآن يتعالى على النفس البشرية الانفعالية في التهديد والتوعد وتعاقب الكلام على نفس المنوال[15]. حقا إن لله طرائق بعدد أنفس الخلائق.

الوعد والوعيد في بعض الكتب “المقدسة”
والآن دعنا نعقد مقارنة سريعة في أصغر تفاصيل القرآن والكتب الأخرى (كالكتاب المقدس) لندرك عمق الاعتراف بنعمة الإسلام. فما هدف الوعد والوعيد فيها؟

الكتاب المقدسفي الكتاب المقدس: أحببت هنا الاستشهاد بقول ألبير بايه بعد دراسته المتقنة في هذا الشأن :”لنوجز حصيلة ما تقدم من دراستنا. إنها حصيلة بسيطة، لا أخلاق إنجيلية. فمن جهة أولى، توجد في الإنجيل أفكار متناقضة تتصل بما ندعوه اليوم الأخلاق النظرية. ومن جهة أخرى يوجد مذهب أخلاق عملية”[16]، فأين إذن وعد الإنجيل وتوعده من بث الأخلاق في النصراني وتربيته؟ وتجد في الإنجيل” فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً, طِفْلاً وَرَضِيعاً, بَقَراً وَغَنَماً, جَمَلاً وَحِمَاراً[17]، ونظائر مثل هذا في الإنجيل أكثر من أن تحصى، لكن حسبنا ما سبق مثالا بارزًا فليست كل الأديان يهدف وعدها ووعيدها إلى الإحسان والعدل والصدق وبناء شخصية مؤمنين يوصَفون بما وُصف به الأنصار-رضي الله عنهم- يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع[18]. فلهذا أضْحت (نصوص الجزاء في المسيحية) مُثلا لم ولن يكن لها أي رصيد واقعي في معاملات النصارى لمخالفتها الحس الطبيعي للإنسان.[19]

فكل لبيب جمع بين العلم والعدل حتما سيتبصر نور القرآن في ظلام الإنجيل لكن “وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ”[20].

المخاطب بالوعد والوعيد
مما لا ريب فيه أن الوعد والوعيد موجه لعامة الناس للشاب الصغير والشائب الكبير، لكننا نجد في القرآن تلك الصبغة الإلهية المفقودة في أغلب الكتب “المقدسة”، فالوعيد في القرآن يشمل حتى النبي صلى الله عليه وسلم مؤكدا أن الحديث عن الله هو محور القرآن ومن الشواهد المعضدة لهذا قوله جل ثناؤه: “وَلَا تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَىٰ فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا”[21]والخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم فكرامته عند الله إذن مشروطة بعبادته وتوحيده، وقد قال تعالى”قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ”[22]، وفي الآية المخيفة “وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً[23].

 فحتى النبي صلى الله عليه وسلم لم يسلم من الوعيد وهذا لا يُبخس من كرامته شيئا فيَكفيه أنه رسول رب العزة جميعا، لكن قد نسأل أين وجه الإعجاز في أن يخاطب الرسول هكذا؟ الإجابة هي أن هذا الدين يتمحور حول تعظيم الله المستحق لا لشخص محمد صلى الله عليه وسلم، بشكل حصري عند الإسلام[24].

فهذا أبسط الدليل وكفاية لمن أراد الهداية لحقيقة ربانية القرآن، تنزيل العزيز الرحيم، فالمركزية له والولاء له لا لأحد من عباده، عكس ما يأتي به مدعو النبوات الكاذبة وأصحاب السير الذاتية.

فقارن هذا بذاك لتستشعر حجم الهوة واستمع لقول ابن تيمية رحمه الله:”فالإعجاز في المعنى أكبر وأعظم من الإعجاز في اللفظ وجميع عقلاء الأمم عاجزون عن الإتيان بمثل معانيه أعظم من عجز العرب عن الإتيان بمثل لفظه”[25]. حين يجتمع جمال المبنى بسداد وجلال المعنى!

تكرار الوعد والوعيد
عند قراءتك القرآن فلن تخطئ عينك التكرار فيه وخاصة للوعد والوعيد. فهل سيحمل لنا القرآن حِكما أخرى كما عودنا؟ فدعنا، تحريا للإجابة، نتمعن في آياته فربما[26] يعود علينا التفكير بالربح.  

  • بلاغيا: القرآن حتى وإن كرر وعده ووعيده ففي كل مرة أسلوب، وكل تارة إبهار، وكل كرة إعجاز يُفْحَم به المتحدي، يقول ابن تيمية “وليس في القرآن تكرار محض بل فوائد في كل خطاب”[27]، بل ويُستعصى على الكاتب الإبداع فيما قد سبق الكتابة فيه.

وعلق د. سامي عامري على هذا بقوله “فالمحافظة على أعلى درجات البلاغة عند تناول نفس الموضوع مرات متتالية ليس مألوف صناعة الأدب فإن التكرار فاضح لعجز الشاعر عن المحافظة على ما أصاب من الفصاحة”[28]، لكن القرآن استثناء في كل المحاسن.   

  • تربويا: لا يجب أن نغفل عن طبيعة القرآن فهو كتاب هداية وإرشاد فالتكرار ملمح من ملامح التربية الربانية للنفوس، عملا بالقاعدة ما تكرر تقرر، وأيضا لإقامة الحجة على من سفه نفسه. والتذكير لازم في كل صفحات القرآن “ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[29]. فما عدنا نعلم أيجب استغراب فن التكرار في القرآن أو استغراب من يَسْتغربها؟

متى نزل الوعد والوعيد ومتى غاب؟
القرآن الكريملا يُنزل الله حكما أو ينسخه أو يفعل ما شاء هو أن يفعل إلا وتعتريه حكمة عظيمة، كطريقة التنفيذ أو موعده مثلا، أخفاها عز وجل وفتح لها باب الاجتهاد أو أبانها إن شاء، فحتى إفشاء أو التستر على الحكمة حكمة !كيف لا “وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ”[30]، ولنا في توقيت حضور آيات الوعد والوعيد وفي توقيت غيابها عبرة، فقد تأخر الوحي عدة مرات، عند حادثة الإفك لم تنزل أية واحدة، إبان شهر كامل تتوعد بالعقاب لمن افترى على السيدة عائشة -رضي الله عنها- فلو كان القرآن من عند الرسول لكتب مسرعا تقديسا لنفسه ودفع السوء عنها مستعجلا!وذرني أزيدك من الشعر بيتا، لم تنزل آية واحدة لينتقم -النبي- لنفسه ويشمت ويشتم ويتوعد للكفار عند فتح مكة فقد أمِن مكرهم ويقول د. قنيبي”كان مُتوقعا لو كان من تأليفه أن يهجوهم ويسبهم هو الآن سلم من أداهم ومع ذلك..”[31] فقد همش القرآن الموضوع واستفاض في الحديث عن المنافقين وأهل الكتاب بعد اقتضاب في الحديث عن الكفار. فهنا غاب الوعيد حين كان متوقعا (لو كان القرآن بشريا) وحضر للتوعد للكفار فيما يتعلق بحق الله قال تعالى: “ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَٰتِهِۦ تَسْتَكْبِرُونَ”[32]، ولا تتفاجأ إن عَلمت أن مثل هذا الوعيد نزل والصحابة بسببه يُعذبون. فمما سبق يتضح أن القرآن يسمو عن الانفعال البشري وأن حق الله مقدَم على كل شيء. وبهذا يقطع القرآن الشك ودعوى بشرية القرآن بيقين أنه فرقان الحق[33]وأنه حبل الله[34]الممدود من السماء. فهل من متسلق[35]؟

وبهذا نختم رحلة التعلم من الوعد والوعيد وأحسب أن ما تقدم ولو قل لكنه كفى[36]. هاهو القرآن يرُد كيد الكائد في نحره فكل من استفهم الوعد والوعيد أتاه الرد البليغ “تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ”[37]. لهذا سيجد القرآن دائما صدى له في نفوس من ماثلوه لصريح العقل ولو أن هناك من آمن بدون نظم أي دليل أو ترتيب كلام، فأي مجد أبلغ من هذا نبتغي؟ !فإنزال الوعيد إذن هو عين العدل[38] لمن تعلق بقشة ظنها ستحجب نور الشمس.


[1]  اقتباس غير مباشر من حوار القرآن.

[2] اقتباس غير مباشر من سورة  المزمل الآية الخامسة.

[3] اقتباس غير مباشر من سورة المعارج الآيات:29-35.

[4] يقصد به الفقر كما جاء في القرآن.

[5] النساء 14 .

[6] النساء 147.

[7] من متعة التدبر ص:137

[8] الاعراف 156

[9] من خطاب ربعي بن عامر أمام رستم والقصة وجدتها في كتاب أولويات الحركة الإسلامية ص:135.

[10]  البقرة 150.

[11]المائدة 23.

[12]  من متعة التدبر ص:145.

[13]  الأنعام. 149

[14] المائدة . 73 

[15] من فيديو علوية الخطاب القرآني.

[16] مقتطف من براهين النبوة  ص:485 .

[17] صموئيل الأول  15 :3.

[18] مقتطف من كتاب أولويات الحركة الإسلامية  ص:74

[19] مقتطف من براهين النبوة ص:490 بتصرف يسير.  

[20] يونس 101.

[21] الإسراء 39.

[22] الزمر 13.

[23] الإسراء 75.

 [24] من فيديو علوية الخطاب  القرآني.

[25] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح الجزء الخامس ص:435.

[26] يُقصد بهذا الظن اليقين !

[27]  مجموع الفتاوى  408 /140.

[28]  براهين النبوة ص:227 .

[29]  الذاريات 55.

[30] الجاثية 37.

[31]  في مقطع له بعنوان علوية الخطاب القرآني بتصرف يسير .

[32]  الأنعام 93 .

[33]  ارتأينا إدراج هذا الاسم للسخرية من تلك المحاولة البائسة ونقصد محاولة تحدي القرآن.

[34] انظر قائمة أسماء القرآن لابن تيمية في كتاب أسماء القرآن وأسماء سوره ص:30 .

[35]  أسلوب اقتبسناه من مقال لإبراهيم السكران في كتاب شموع النهار الصفحة الأخيرة.

[36]  مستَلهم من حديث الرسول الصحيح:”ما قل وكفى خير مما كثر وألهى”.

[37] يوسف  111.

[38] من براهين النبوة  ص:35.