مقالات

كيف أصبح ازدراء الهوية وسيلة للترفيه؟

خلال العقود الأخيرة من الزمن، خاصة بعد تحسن الظروف الاقتصادية والاجتماعية في الدول الغربية، كأمريكا وكندا ودول أخرى أوروبية، صارت شعوب تلك الدول متعطشة لكل ترفيه وتسلية، فسطع نجم البرامج الكوميدية، على غرار برامج “الستاند-آب كوميدي”، حيث يقف الفكاهي أمام جمهور غفير ويقوم بإلقاء النكت، وسرد الحكايات الهزلية والطرائف، بالإضافة إلى برامج “التوك-شو الهزلية”. وللمفارقة، فإن الكوميديين الذين فازوا أكثر بضحكات الجماهير لم يكونوا من أبناء تلك الدول الغربية، فمَن هم؟ وما هي الأداة (الخبيثة) التي استغلوها لتحقيق ذلك النجاح.

الترويج لتفوق العرق الأبيض

كان تحسن ظروف المعيشة في الدول الغربية إلى جانب انتشار الحريات السياسية والفكرية فيها، من أهم الأسباب التي جعلتها قبلة لمختلف الأجناس، كالعرب والهنود والأفارقة وأعراق أخرى، منهم من هاجر بحثا عن رغد العيش أو هربا من الفقر والحروب والمآسي الإنسانية، ومنهم من هاجر مغرما بنمط الحياة في الغرب، ومنهم من لم تكن الهجرة خياره لكونه مولودًا فيها هناك لوالدين مهاجرين.

أن تعيش وسط مجتمع ليبرالي غربي، فإن انسلاخك عن مبادئك وثقافتك ودينك، واعتناقك لنمط حياتهم، سيزيدان من فرص تقبل ذلك المجتمع لك، وسيقال عنك إنه “ناجح في الاندماج مع المجتمع على الرغم من أنه صيني”، أو “استطاع في تكوين صداقات في المدرسة على الرغم من أنه عربي”، وغيرها من العبارات التي تستبطن العنجهية المتعالية ضد كل ما هو غير غربي، حيث يلمَّح إلى تفوق العرق الأبيض الغربي، ونظرتهم العنصرية تجاه الشعوب الأخرى واعتبارهم كبشر من الدرجة الثانية، أما إذا ما قمت بازدراء أصولك ومهاجمتها، فإن ذلك سيجعلك محبوبا في أعينهم أو ربما بطلا يكسر القيود ويحطم الصناديق المغلقة.

ذلك ما فهمه بعض الكوميديين من المهاجرين في بلاد الغرب، فجعلوا السخرية من شعوبهم أداة خبيثة للظهور والنجاح في أعين الغربيين.

كيف استغلوا تلك الأداة؟

اكتسح بعض المهاجرين البرامج الكوميدية بقوة[1]، وما ميزهم عن الكوميديين الغربيون، هو أنهم دوما ما يجلبون الجديد المضحك للجماهير الغربية من وراء البحار، وغالبًا ما تكون القصص والنكت والفيديوهات من أوطانهم الأصلية. فتجدهم في أغلب عروضهم يتناولون بسخرية واستهزاء، الدين والثقافة والتقاليد واللغة والسمات العرقية والخلقية لشعوبهم كمادة أساسية في عروضهم لصناعة الضحك، وكمحاولة إثباث للجماهير الغربية بأنهم النخبة التي لم تحمل تلك الصفات من شعوبها. داعمين بذلك عجرفة الغربي وقناعته القائمة على أن شكله ولونه وثقافته ولغته وتاريخه هو الأسمى، وكل ما غير ذلك فهو متخلف ورجعي وبشع.

ركز الإعلام الغربي المتطرف ليبراليا -على مر العقود الأخيرة- على تفكيك وطمس كل ما له علاقة بالدين والفطرة الإنسانية السليمة، وعلى توحيد كل شعوب العالم تحت غطاء الليبرالية. ولتحقيق ذلك، انتهج لعبة تزوير الحقائق وتشويه الواقع، وطريقة تناوله للإسلام والمسلمين خير مثال عن ذلك، حيث صورهم للمشاهد الغربي على أنهم همج وأغبياء ومتخلفون وإرهابيون. إلى جانب الإعلام الغربي، لعب أولئك الكوميديون المهاجرون دور الجسر بين الغرب وشعوبهم، حيث ساهموا في تعريف المجتمعات الغربية بشعوبهم وثقافاتهم، ولكن بطريقة مشوهة أيضا، فدعموا بذلك ما يروج له الإعلام الغربي من تشويه وازدراء واحتقار للشعوب غير الغربية.

نمر أبو نصار، كوميدي لبناني مقيم بأمريكا

هل هم حقّا موهوبون في الكوميديا؟

لا يشترط –في الغالب- لمن يركب موجة الاستهزاء أن يكون ذا خبرة طويلة، يمكنه اكتساب مهارة الإضحاك من دورات معينة وتدريبات مستمرة، ومن الاستفادة من عدد كبير من المعدّين في هذا المجال، إلى جانب أنه من السهل أن تجعل الغربي المتعجرف يقهقه، يكفيك أن تذكر له بعض سمات أو ممارسات الشعوب التي يتعالى عليها ويحتقرها لترى فاه ينفتح ضاحكا حتى وإن لم يكن ما قلته مضحك، خاصة إذا كان سياق كلامك نكتة أو تسلية أو ما شابه ذلك. حتى إن الكوميديين من أبناء الغرب فهموا ذلك، فأخذوا أيضا يتناولون الشعوب الأخرى بازدراء في عروضهم الكوميدية، لحصد ضحكات الجماهير الغربية.

وهنا لا بد من التأكيد إلى أن في المجال العلمي مثلا، قد لا يمر يوم إلا وتظهر شخصية عربية ومسلمة تقدم إنجازًا أو إضافة علميّة للبشرية مما يسهم في حل مشكل أو تجنب آخر، وهكذا هناك الكثير من الشخصيات المتفوقة على علماء الغرب على الرغم من أنها شخصية “غير غربية”، وأقول ذلك ليس لتفوق الغير على العرب ذهنيا، ولكن للتأكيد على أنهم متفوقون ماديا وأداتيًّا، كما أن سياساتهم وقوانينهم تشجع على الابتكار والإبداع على عكس الوطن العربي.

بناء على ذلك، فإن المواطن العربي يستحق من الثناء والتقدير على إنجازه، أكثر مما يستحقه من توفرت له الموارد والظروف لتحقيق نفس الإنجاز. وهنا يتبين أن العمل الكادح والمنافسة هما أساس التفوق على الغير، وبطريقة أخلاقية.

لكن في بعض المجالات، مثل الفن والإعلام والسنيما، فإذا أردت أن تظهر وتكبر في أعين مجتمع يبرمج الفرد منذ نعومة أظافره، على أن عرقه وثقافته ولغته ونمط حياته هو الأسمى، وأن سائر الأعراق الأخرى بشر من الدرجة الثانية، ومن دون أي مجهود يذكر، فما عليك إلا أن تنسلخ عن أصلك ومبادئك، وأن تنتقدها وتسخر منها وتنكل بها. وأن تظهر الولاء والتعظيم لذلك المجتمع ومقوماته.

كوميديا التفاهة وخطرها على الأمة؟

قد يقول كثيرون: إن هؤلاء الكوميديون “لا يمثلون إلا أنفسهم”، وقد يقول آخرون: إن عملهم مهنة كوميدية لجلب الرزق لا أكثر، وغير ذلك من الاختزالات التي تسودها براءة مفرطة، فهؤلاء الكوميديون يمثلون خطرًا على شعوبهم والشعوب الغربية ذاتها.

أما خطرهم فكريًّا: فإن الكوميديين المشهورين في بلاد الغرب خاصة المنحدرين من دول مسلمة، يلقون قبولًا واسعًا في مجتمعاتنا المسلمة خاصة بين شرائح الشباب، وربما تكون جماهيرهم بالملايين، وككل شي يتعوّده الناس تدريجًا، فإن تعود الناس على سخرية الكوميديين من أمتهم وتتفيهم لمقومات حضارتها، وتحقيرهم مبادئ العزة فيها، فإن ذلك سيؤثر –ولو بالتدريج- في نظرة كثير من الشباب لأنفسهم، وسينتج عندنا أجيالًا تجد من نفسها الحرج في الانتماء لأمة الإسلام.

تثبت الدراسات والتجارب في علم النفس أن الطفل –مثلاً- إن نشأ في منزله وهو ينادى بـ “الغبي”، فإنه سيعتاد على ذلك بمرور الوقت إلى أن يصل إلى الإيمان بأنه غبي حقًّا، مما سيؤثر على آلية تفكيره وطريقته في حل ما يعترضه بالرغم من أنه قادر على ذلك، لإيمانه المسبق بأن محاولته لن تجدي نفعًا، ومن هنا فإن لأولئك الكوميديين أثر مباشر في نشر العطالة الفكرية والحقد على تاريخ الأمة بين شبابها.

من ناحية أخرى فإن دعم أولئك الفكاهيين للصورة المغلوطة التي يروج لها الإعلام الغربي حول بقية شعوب العالم دليل صريح إضافيٌّ على صحة تلك الأكاذيب في نظر الجماهير الغربية، وهذا مسلك يمكن اتباعه لتسويغ الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية من قبل القوى الغربية في حق الشعوب المستضعفة، والحجة هنا “إنهم شعوب همجية والإرهاب يجري في دمائهم بالفطرة، وسيهاجموننا حينما تكون لهم القدرة على ذلك، فيجب مهاجمتهم واستنزاف ثرواتهم مسبقا قبل أن يخربوا العالم”.

نماذج من الصور النمطية للعرب والمسلمين في الإعلام الغربي

إن صورة الإسلام المشوهة في الإعلام تمنع الكثير من الناس من اعتناقه، وهذا ما يسهم فيه هؤلاء، حيث يدعمون الصورة النمطية للإسلام في الغرب، مما يجعل الكثيرين من البسطاء يتأخرون عن اعتناق الإسلام أو يحرمونهم من دخوله.

بكل تأكيد فإن تحقير الشعوب الأخرى يزيد من نزعة العنصرية والسخرية والكراهية تجاه الأقليات التي تعيش في المجتمعات الغربية سيمنح العنصريين منهم المسوغات للشقاق الاجتماعي الذي قد يصل إلى حد العنف والتطرف.

ختامًا فإني أظن أنك تتفق معي الآن في أن الكوميديين المشهورين في بلاد الغرب، خاصة أولئك الذين يمتهنون السخرية والافتراء على شعوبهم بهدف الإضحاك المتصنّع، فإنهم ليسوا مجرد “كوميديين”، بل هي آلات تخريب يمتد أثرها على المستوى الفكري والاجتماعي والديني، بقصد منهم أم عن غير قصد.

 


[1]  يمكن التمثيل لذلك بالآتي:

نمر أبو نصار، كوميدي لبناني مقيم بأمريكا، https://youtu.be/hPdViA7kOgg

راسل بيترز، كوميدي من أصول هندية مقيم بكندا ، https://youtu.be/oSzgCDIUzq0

فلاق، كوميدي جزائري مقيم بفرنسا، https://youtu.be/SsIsL2d27Kk

 

حياة المهجر.. بين الثبات وضياع الهوية!

قدّر الله لآدم أن يهبط إلى الأرض بعد أن خلقه من ترابها، ليستخلفه في الأرض وذريّته من بعده، ويقوم على إعمارها لحكمةٍ هو يعلمها سبحانه وتعالى {وإذْ قال ربّك للْملائكة إنّي جاعلٌ في الْأرْض خليفةً ۖ قالوا أتجْعل فيها من يفْسد فيها ويسْفك الدّماء ونحْن نسبّح بحمْدك ونقدّس لك ۖ قال إنّي أعْلم ما لا تعْلمون} [البقرة: 30]، وفي الحديث النبوي يقول صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيّب والسهل والحزن وبين ذلك). [رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، وصححه الألباني]

فكان من ذريّة آدم الأنبياء والرسل والصّالحين كما المتجبّرين والمتكبّرين، وجميعهم غطّت أجسادهم التراب ودفنوا فيها، فهم بشرٌ خُلقوا بأمر الله وانتقلوا إلى عالم البرزخ بأمره، ثمّ تعود الرّوح إلى الأجساد بأمره، ومرجعها يوم الحساب لتسأل كلّ نفسٍ عن صنيعها في أرض الله، فكلّ شيء في هذا العالم يشيخ ويكبر ويهيّئ نفسه للزّوال إلّا الحيّ القيّوم.

خلق البشر من تراب، يولدون ويموتون، إلا أن نزعة الكبر تغزوهم، فيتكبّر الإنسان على أخيه الإنسان، فصارت الألوان والأعراق والأنساب والأموال والشهادات واللّباس المعايير التي تحدّد مقام الإنسان وعلوّه لا التقوى والأخلاق والمبادئ والقيم.

يتعالى الناس بعضهم على بعض، ويحاربون من يسمّوه مختلفاً عنهم لدرجة البغض، فيعطون الحقّ لأنفسهم بإهانته وإذلاله وتشريده واستحالة أمواله ودياره وحتّى قتله، قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ] الحجرات:13[، وجهلوا آخر ما وصّى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خطبة الوداع، فقد قال: (أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربيٍ على عجميٍ فضلٌ إلّا بالتقوى)

الهوية الهجينة والمسلم المعاصر

لعل أكبر مصابٍ مني به العالم الإسلامي كان بانهيار وحدة المسلمين، وتفرّقهم وضعفهم، فقد فتك الاستعمار بهم فتكاً، وغرق العالم من بعدهم بالحروب والعنصريّة والانحلال، وأصبحوا غرباء حتّى في أوطانهم، وتشتّت الكثير منهم في أقطار الأرض.

لقد كان لانتهاء الحرب العالميّة الثانية أثر كبير في استقطاب فقراء المسلمين وأثريائهم –على حد سواء- إلى أوروبا، بهدف إعادة الإعمار وتدوير عجلة الصناعة، فاحتاجوا للعمالة رخيصة اليد من بلاد المسلمين والدول الفقيرة، مستغلّين معاناتهم من مراحل الاستعمار، كما أنهم لم يلقوا بالاً لدينهم، فإذ بهم يتفاجؤون بالإسلام ينتشر بينهم، وتقام المساجد والمنظمات الإسلاميّة على أراضيهم، فبدأ الخوف ينتشر بينهم من أسلمة أوروبا والعالم، ليكتشفوا أنّ هناك فجوة بينهم وبين المسلمين الذين يعيشون ويتربّون بينهم.

أظهر مشروع أبحاث لجامعة برلين سميّ Heymat -أي نماذج الهوية الأوروبية الإسلامية الهجينة-، والذي أقيم لدراسة حال شبان وفتيات الجيل الثاني والثالث للمهاجرين المسلمين إلى ألمانيا، وجودَ مشكلةٍ في اندماج الكثير منهم، فهم لا يشعرون بانتمائهم لألمانيا ولا لموطن آبائهم، ممّا أدّى ببعضهم إلى رفض الاندماج في المجتمع الذي تربوا فيه تماماً، فلجأ بعضهم للعنف والتطرّف أو المخدّرات كطريقةٍ للتّنفيس عن معاناتهم وانكسارهم النفسي.

صنّف البحث هويات المهاجرين ضمن هويّتين واضحتين بين الشباب، فأكثرها ظهوراً هي الهويات الهجينة (Hybrid identity) * وتعني شخصاً يحمل ثقافتين أو أكثر، يظهر كصورةٍ جديدة مهجّنة، تشكّلت من تلاصق قطعٍ من أوراق أصليّة مختلفة، لتضيع ملامحها، فلا يميّز أيّهما هو الأصل وأيّهما الفرع.

أما الإسلام الحداثي (Neo islam) وهي الهويّة الثانيّة، فقد كانت محاولةً لصنعِ هويّةٍ خاصّة بالفرد من أصول مهاجرة، عن طريق المحافظة على بعضٍ من هوية الدين الإسلامي التي ورثها كعادة وعرف عن أهله، إلى جانب خضوعه لسياسة الأغلبيّة في ألمانيا حتّى يتمّ قبوله في مجتمعه ومحيطه، ولا يوجد سمات موحّدة لهكذا هويّة، فكلّ فردٍ يجد هويته الخاصّة به، لنجد منهم مثلاً المسلم (الكيوت) والمسلم (المغنّي) إلى المسلمة (الفيمينست) والمسلم الذي يدعو للتطبيع مع أفعال قوم لوط.

مسبّبات ضياع الهويّات

استنتج البحث العديد من الأسباب التي تفرض ضياع الهوية، أهمها:

عدم اهتمام الحكومة بدمج الجيل الأوّل وآبائهم بالمجتمع الجديد، حيث اعتبرتهم آنذاك مجرّد عمالةٍ أتوا لأداء مهمّة معينة وسيعودون، إضافة إلى معاملة هذه الأجيال الألمانية من أصولٍ مهاجرة كحال الغرباء، فيغيب عنهم التساوي بفرص العمل والدّراسة مع الفرص التي يحصّلها نظراؤهم من الألمان الأصليّين، فالمهاجرون وخاصة المسلمين منهم هم عرضة لعدم الحصول على عمل بسبب أصولهم العرقية أو حتّى أسمائهم.

كانت أغلب الأسباب متعلّقة بازدياد ظاهرة “الخوف من الإسلام” -إسلاموفوبيا- في أوروبا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث يصبح الخوف من كلّ مسلم –ولو كان مسلمًا بالاسم فحسب- أمراً طبيعيّاً يعزّزه الإعلام والسياسيّون، وسياساتهم ضدّ الدّول المسلمة، وبالذات تركيّا التي لم يسمح لها بالانضمام لدول الاتحاد الأوروبيّ بعد.

لذا يؤكّد باحثو المشروع على أنّ الإسلام وأجياله من الأصول المهاجرة ينتمون لأوروبّا وليسوا مجرّد غرباء، كما أن لديهم من المزايا ما يجعلهم فاعلين بشكلٍ إيجابيٍّ في مجتمعهم، بحيث يمكن لهم أن يشكّلوا جسوراً تسهّل التّواصل بين ثقافات أوطانهم وبين ثقافات البلاد التي لجأوا إليها.

أبناء المسلمين بين وطنٍ يرفضهم ومهجر ينكرهم

“لا أنا لا أشعر بأنّي ألمانيّة ولا عربيّة، ولكنّي واثقة بأنّي مسلمة، أنا مثلك تماماً يا أمّي أقف في الوسط بين الثّقافتين، فهنا في ألمانيا لديّ أيضاً مشاكلي لأنّي محجّبة، لست بيضاء، إنني مختلفةٌ عنهم، وعندما أزور مسقط رأسك لا أفهم ثقافتكم جيّداً وكأني غريبة عن وطنكم أيضاً، فأشعر بأنّي خليطٌ غريبٌ من الثّقافتين، لديّ 10% من كلّ منهما، فهناك شيءٌ ينقصني”.

صورة تعبر عن ضياع الهوية

هكذا أجابت فتاةٌ من أصول مهاجرة عربيّة أمّها عند سؤالها “ماذا يربطك بالوطن والعائلة؟” في حوار مرئيٍّ بينهنّ، نشر على منصّة ألمانيّة إعلاميّة، وربّما سمع البعض عن ردّ اللّاعب الألمانيّ من أصل تركيّ مسعود أوزيلMesut Özil على انتقادات طالته بسبب التقاطه صورة مع الرّئيس رجب طيّب أردوغان فقد قال ” لقد التزمت الصّمت لوقت طويل، أشعر أحياناً بأنّي غير مرغوبٍ به، لم يحاول أحدٌ من زملاء النّادي الّذي أنا عضوٌ فيه أن يدافعوا عني، فعندما أقوم بعمل مشرّف أنا ألماني، وعندما أخطئ أنا مهاجر”

وعلى الرغم من أنّ هذه الأجيال من أصول مهاجرة لا يعرفون وطناً غير هذا الوطن الذي ولدوا ونشأوا فيه وربما لا يتكلّمون سوى لغته، إلّا أنّهم يعاملون فيه في كثير من الأحيان كالغرباء، وهذا حال الكثير ممّن يولد وينشأ في دول الغرب وربّما في بلاد العالم أجمع، فمن الغريب بالنّسبة للأوروبيّين أن تقول لهم أنا منكم بعينين بنيّتين وشعرٍ أسود لتتهافت عليك الأسئلة مستفسرة عن أصلك الحقيقيّ.

ويبدو السّؤال عن الأصل سؤالاً عادياً فضوليّاً فقط، إلا أنّه مع مرور الوقت يتحوّل لسؤالٍ مزعج يثير المشاعر المتضاربة في نفس من يُسأل، ويولّد صراعاً في تحديد الانتماء، فيوجب عليه تحديد انتمائه لجماعة ما، “فكيف لي أن أنتمي لوطن يرفضني لأنّي مختلف اللّون والعرق عنهم مع أنّي نشأت بينهم؟، وما هو الوطن الآخر الّذي يحدّثني عنه والديّ؟، فأنا لا أعرفه جيّداً وأشعر بأنّي غريبٌ بينهم أيضاً ” .. هكذا يقال.. وهذا -لا ريب- شكلٌ من أشكال الصّراع الدّائم الذي يعايشونه منذ الطّفولة ملازماً لهم، ينشأ ويكبر معهم؛ فهذه التّساؤلات لم تكن لتوجد، لو لم يرفَض اختلافهم، أو لو لم يكن هناك تفرقةٌ وتمييزٌ عرقيٌّ وتعصّب للقوميّة.

إن أشدّ رفضٍ نشهده الآن هو رفض من يتّبع دين الله، فالقوانين العالميّة التي وضعت لحماية حقوق الإنسان وحريّته التّامة بالمقام الأوّل تستثني أحياناً الكثير من الفئات، ومن أهمها المسلمون، فنراها تتغيّر عندما يشعرون بالتّهديد، ولعلّ ما نشهده الآن في فرنسا من محاربة للمسلمين مع أنّ الكثير منهم من الأوروبيّين الأصليّين هو أكبر مثال، فبعضهم مازال يحمل شيئاً من جنون نابليون، وصدق قول الله تعالى }ولن ترْضىٰ عنك الْيهود ولا النّصارىٰ حتّىٰ تتّبع ملّتهمْ ۗ قلْ إنّ هدى اللّه هو الْهدىٰ ۗ ولئن اتّبعْت أهْواءهم بعْد الّذي جاءك من الْعلْم ۙ ما لك من اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ] { البقرة: 120[